الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جناية التأويل على الإسلام
نموذج للانحراف المنهجي وآثاره
لما كان منهج الوحي فذًّا في تكامله، فريدًا في تناسقه، جامعًا لكل صواب، خاليًا من كل خطأ، أمكن لأصحابه أن يقفوا في وجه كل فكر بشري دون أن يخسروا موقعًا واحدًا من مواقعهم، بل إنه كلما هجم الخصم على جانب منه أظهر الله سبحانه وتعالى على أيدي أتباعه من البراهين والحجج ما يظهر به من الحِكَم والمحاسن ما كان خافيًا قبل الهجوم، فالقادح فيه إنما يقدح في صخرة نورانية عاتية، لا يرتد عليه قدحه إلا نورًا يُعشِي بصره، وينير الطريق للمدافع.
أما المناهج البدعية فإنها بتطبيقها لا تحاول تحقيق مصلحة للدين إلا وتجلب ما قد يكون أضعافها من المفاسد، وهي لفساد المنهج تفتح على دينها من الإلزامات ما يضطرها للتراجع والتمحل، فيحسب أعداء الإسلام أن الإسلام هو المتراجع المهزوم، وكفى ذلك شرًّا وشؤمًا.
وهذا ما حصل بعينه من الأشاعرة والتأويل.
ومن أراد التأكد من هذه الحقيقة فلينظر إلى ما تعرضت له الأمة في عصر ضعف الخلافة العباسية المركزية من تمزق ودمار، حيث سقطت هيبة المسلمين، واستشرت الأدواء الفكرية الخبيثة، والحركات السرية الهدامة، وتعرض سلاطين المسلمين للاغتيال وهم في أسرَّتهم
…
إلى غير ذلك من الظواهر المفجعة التي تمتلئ بها كتب
التاريخ قاطبة
…
والتي كانت أكبر عوامل نجاح الحملات الصليبية والمغولية.
فإن قيل: وما علاقة ذلك بالأشاعرة والتأويل؟.
فالجواب:
إن هذه الفترة التي شهدت تلك الأحداث الفظيعة هي نفسها التي شهدت نشأة المذهب الأشعري وانتشاره واعتناق بعض السلاطين له.
وليست القضية قضية اقتران تاريخي فحسب، ولكن في هذه الفترة نفسها - أعني فترة ظهور المذهب الأشعري وسيطرته على الساحة الكلامية - كانت الباطنية بفروعها المختلفة - فضلًا عن الرافضة الذين اجتمعت فيهم هذه الشرور جميعها - تصنع تلك الفظائع الإجرامية في الأمة الإسلامية، ليس في الأطراف والمقاطعات فحسب؛ بل كانت بغداد نفسها ميدانًا لهذه الفتن والفظائع على النحو الذي تشهد به كتب التاريخ كلها.
وغني عن البيان أن (التأويل) هو العمود الفقري للفكر الباطني كله، فقد أوصلهم تخطيطهم التآمري الشيطاني، وتجاربهم المريرة في الأخذ بثأرات (مزدك) و (ماني) و (قريظة) و (النضير) إلى استحالة التصريح بتكذيب القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وإبطال الإسلام جملة علانية، فلجأوا إلى هذه الوسيلة الماكرة (التأويل).
فأوَّلوا الأحكام - كالزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات - بهدف إسقاط الفرائض كلها، وأولوا الغيبيات كالجنة والنار والملائكة والحشر
…
فلم يبق من حقيقة الإسلام شيء، وأخذوا ينشرون هذه
السموم الفتاكة في صفوف الأمة.
وكان في الإمكان التصدي بيسرٍ وسهولةٍ لهذا الفكر الخبيث لو أن الأمة مجتمعة على منهج الوحي - أي عقيدة السلف الصالح - تؤمن بكل ما جاء عن الله ورسوله، وترفض منهج التأويل بإطلاق، ولكن كثيرًا من تلك الدويلات كانت تعتنق رسميًّا المذهب الأشعري، وكان علماء هذا المذهب يمثلون زعامة الدفاع عن الإسلام.
فلما واجهوا الباطنية بسلاح مفلول، وصفّ مخذول؛ استشرت الباطنية، وتفاقم خطرها حتى اقتنصت الملوك في أسرَّتِهم (1)، واقتحمت على العلماء بيوتهم وتلامذتهم.
ذلك أن الباطنية حاربت الأشاعرة بالسلاح الذي حاربت به الأشاعرة مذهب السلف وهو (التأويل)، فألزموهم وهزموهم (2).
بل لا يبعد أن يقال: إن الباطنية تعلمت كثيرًا من فنون التأويل من
(1) منهم نظام المُلك نفسه الذي ساند الأشاعرة، ومكَّنهم من المدرسة النظامية.
(2)
من الثابت أن الغزالي في مرحلة الشك اعتنق مذهب الباطنية، كما صرح في (المنقذ من الضلال) وغيره، ومن الثابت أنه أدرك شؤم التأويل، كما صرح في الإحياء بأن التأويل منعته الحنابلة، وتوسعت فيه الباطنية، وتوسط فيه أصحابه، أما هو فقد أحال على الكشف النور الإلهي بزعمه كما سيأتي.
على أن المواضع التي ذكر فيها أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا تفوق الحصر في الإحياء، وانظر كتابه الأربعين في أصول الدين (ص (48))، ط (2)، سنة (1344هـ). ولا تريد الباطنية أكثر من هذا، أما رده على الباطنية فكل توفيق أحرزه فيه فمرجعه إلى السير على منهج الوحي ونبذ منهج التأويل، وعلى كل حال فالأمة التي لم تعرف التأويل أصلًا ترفض الفكر الباطني بداهة دون حاجة لردود.
الأشاعرة، واستخدمته من منطلق الأولى والأحرى، إذْ رأت - أو أوهمت - أن ما أولته هي أحق وأولى بالتأويل مما أولته الأشاعرة.
ولم يكن لضجيج الأشاعرة عليهم أي معنى!.
إذ كيف يحق لابن فورك أن يأتي على أحاديث الصفات واحدًا واحدًا، ويحق للجويني والرازي الإتيان على آياتها آية آية، ويعتبرون ذلك تقديمًا للقواطع العقلية اليقينية على الظواهر النصية الظنية، ويتقربون به إلى الله تنزيهًا وتعظيمًا، ويكون هذا الفعل نفسه حرامًا، بل كفرًا من الباطنية؟.
الباطنية تقول: إن قواطعنا العقلية قائمة على أن البعث لا يمكن أن يكون حسيًّا، وإنما هو روحاني، وأولوا نصوص الوحي وقالوا:«إنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات» . فتصدى لهم الأشاعرة تكفيرًا وتشنيعًا، فدافعوا عن أنفسهم قائلين: على رِسْلِكم! فأنتم أولى منا بما قلتم، فإن ما يتعلق بالله أعظم شأنًا مما يتعلق بالمعاد، والنصوص في صفاته أظهر وأكثر، والدلائل عليها من المعقول والفطر أبين وأشهر، وقد حكمت قواطعكم العقلية بتأويلها، ولم تروا في ذلك كفرًا ولا ضلالًا، بل جعلتموه توحيدًا وتنزيهًا، فلماذا يا ترى تجعلون قواطعكم حقًّا وقواطعنا باطلًا، وعملنا كفرًا وعملكم توحيدًا؟!.
نعم .. قد جاء ملاحدة الباطنية فذكروهم بقانونهم الكلي قائلين: قد اتفقنا نحن وأنتم على تقديم العقل على النقل، وعليه نقول: بيننا وبينكم حاكم العقل، فإن القرآن، بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر
الفوقية، وعلو الله على عرشه (1)
…
إلى غير ذلك من نصوص آيات الصفات وأخبارها، التي إذا قيس إليها نصوص حشر هذه الأجساد، وخراب هذا العالم وإعدامه، وإنشاء عالم آخر؛ وجدت نصوص الصفات أضعاف أضعافها، حتى قيل: إن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه تقارب الألوف (2)، وقد أجمعت عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، فما الذي سوَّغ لكم تأويلها، وحرم علينا تأويل نصوص حشر الأجساد وخراب العالم؟!.
فإن قلتم: الرسل أجمعوا على المجيء به (أي الحشر الجسدي) فلا يمكن تأويله!.
قيل: وقد أجمعوا على علوه فوق خلقه
…
فإن منع إجماعهم هناك من التأويل وجب أن يمنع هنا.
فإن قلتم: العقل أوجب تأويل نصوص آيات الصفات، ولم يوجب تأويل نصوص المعاد؟.
قلنا: هاتوا أدلة المعقول التي تأولتم بها الصفات، ونحضر أدلة المعقول التي تأولنا بها المعاد وحشر الأجساد، ونوازن بينها ليتبيّن أيها أقوى.
فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيبٌ لما عُلِمَ من الإسلام بالضرورة.
(1) اقتصرنا على هذه الصفة من الأصل؛ لأنها أشهر الصفات التي تنكرها الأشاعرة، أما الكلام ونحوه فلهم فيه تفصيلات لم نرد إقحامها هنا.
(2)
انظر كتاب مختصر العلو للذهبي، تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني.
قلنا: وأيضًا إنكار صفات الرب، وأنه فوق سماواته
…
تكذيبٌ لما علم أنهم جاءوا به ضرورة.
فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها لا يستلزم تكذيبهم.
قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها في المعاد يستلزم تكذيبهم دون تأويلكم إلَّا مُجَرَّد التشهي؟.
فقال الأشاعرة: إنكم لم تقتصروا على تأويل السمعيات، بل أولتم الأحكام من حلال وحرام؟.
فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية، وقالوا: ما الذي سوَّغ لكم تأويل الأخبار، وحرَّم علينا تأويل الأمر والنهي، والتحريم والإيجاب، ومورد الجميع من مشكاة واحدة؟.
قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر؟.
قالوا: وكثير منكم فتحوا باب التأويل في الأمر، فأولوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة، أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يخرجها عن حقائقها، فَهلُمَّ نضعها في كفة، ونضع تأويلنا في كفة ونوازن بينها.
ونحن لا ننكر أنا أكثر تأويلًا منهم، ولكنا وجدنا بابًا مفتوحًا فدخلناه (1).
فهذا مثالٌ بارزٌ للنتائج المترتبة على الانحراف المنهجي الذي وقع فيه الأشاعرة بسبب موقفهم من النصوص، فإنهم فتحوا الباب لأعداء
(1) مختصر الصواعق المرسلة (ص (42)) طبعة زكريا يوسف، وانظر: التسعينية (ص258).
الإسلام لينخروا بنيانه بمثل ما نخره به هؤلاء، وما كان للأشاعرة في ذلك غاية ولا تعمدوه، وإنما كان همهم الرد على المعطلة النفاة، ولكن التأويل مع كونه جرَّ إلى الوقوع في هذا البلاء ليس بأفضل من التعطيل، بل هو شرٌّ منه.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فصلٌ في بيان أن التأويل شرٌّ من التعطيل:
فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص، إساءة الظن بها، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص إساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال (1)، فجمعوا بين أربعة محاذير:
(1)
- اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله محالٌ باطل، ففهموا التشبيه أولًا، ثم انتقلوا منه إلى:
(2)
- المحذور الثاني: وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بها (2)، ولا يليق بالرب سبحانه.
(3)
- المحذور الثالث: نسبة المتكلم الكامل العلم، الكامل البيان، التامّ النصح إلى ضد البيان، والهدى، والإرشاد، وأن المتحيرين
(1) ستأتي النقول المصرحة بأن ظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر عندهم. نسأل الله العافية.
(2)
في الأصل: بهم.
المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبّروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص (1)، ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه، أو أنصح للناس.
4 -
المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، ونادى عليها في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويل ما يريد، فلو رأيتها وقد عزلت عن سلطة اليقين، وجعلت تحت حكم تأويل الجاهلين.
هذا وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع المصدور والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين (2)، وأنتِ أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين، فَسَنَدُكِ آحادٌ، وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منها موقوفٌ على انتفاء عشرة أشياء (3) لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند
(1) انظر إلى قول صاحب الجوهرة المشهور:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
…
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا!!
(2)
يصرّ الأشاعرة دائمًا على أن كل قضاياهم مبرهنة. وقد سمى السنوسي عقيدته: أم البراهين!!.
(3)
راجع ما سبق نقله من المواقف، وهي: الاشتراك، والنقل، والمجاز، والعلم بالوضع، والتخصيص .. . إلخ.
الناظرين والباحثين (1).
والحق أن جناية هذا الانحراف لم تقتصر على فتح الثغرات للباطنية وحدها، بل شاركهم غيرهم، فإن الرافضة - على سقم أدلتهم وسخف مذهبهم الذين قال فيهم الشعبي:«لو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، ولو كانوا من الدواب لكانوا حُمُرًا» (2) - هم أيضًا قد أغراهم تهافت مذهب الأشاعرة في بعض القضايا، فتطاول شيخهم ابن المطهر الحلي صاحب (منهاج الكرامة)، فنقد أهل السنة والجماعة وعاب
(1) مختصر الصواعق: (ص (33)).
فانظر إلى هذا الأصل ما أجله وأعظمه، وقارنه بأقوال الأشاعرة المتقدمة.
(2)
السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 549).
مذهبهم بما في مذهب الأشاعرة من أصولٍ لا يصدقها عاقل مثل (الكسب)، ونفي الحكمة والتعليل في أفعال الله، ونفي القوى المؤثرة، والحسن والقبح، واجتماع الضدين، ونحوها مما هو معروفٌ في مذهبهم، مما دفع شيخ الإسلام رحمه الله إلى بيان أن أقوال الأشاعرة في هذه القضايا لا يصح أن تحسب على مذهب السلف؛ لأنهم خالفوا فيها السلف وهم مخطئون منتَقدون فيها (1).
فالعجب من قوم يُجَرِّئون على الإسلام من لا عقل له ولا نقل، وهم مع ذلك يحسبون أنهم يدافعون عن الإسلام ضد الباطنية والرافضة خير دفاع، ولا شك أن في مذاهب أولئك من الطوام ما هو أضعاف ما في مذهب الأشاعرة مما طعنوا به في الإسلام عامة، ولكن ليس العتب على العدو الماكر، بل على المدافع الجاهل (2).
(1) انظر: منهاج السنة (1/ 126/127)(الطبعة القديمة المصورة).
(2)
ومن غرائب تأويلات الأشاعرة قول الفخر الرازي - وهو تطبيقٌ لمذهب الأشاعرة في عصمة الأنبياء -: «إن الله تعالى لما قال لآدم وحواء: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، ونهاهما معًا، فظن آدم عليه السلام أنه يحوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة، وأن يتناول منها؛ لأن قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد» . التفسير الكبير ((3) /15). فالرازي يحسب أن الأنبياء يعاملون النصوص كما يعاملها هو وأصحابه، وحاشا أنبياء الله تعالى من عجمة القلوب. انظر مختصر الصواعق (ص (44)).