الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصادر ومعايير أخرى
التلقي المباشر
قد لا يصعب على العقل أن يتصور فرقة إسلامية - كالأشاعرة - تتخذ من العقل أو الذوق مصدرًا للتلقي، ومعيارًا للحكم.
نعم إن الأمر جد صعب، ولكن ما العمل إذا كان هذا مبلغهم من العلم، وغاية وقارهم لله ورسوله!.
أما الذي يصعب على العقل تصوره أو تصديقه، فهو أن يتخذ أحد من الناس كلام اليهود والمشركين مصدرًا للتلقي، ومعيارًا للحكم، يتلقى منه أخطر قضايا العقيدة، ويحكّم كلامه في كلام الله ورسوله. ولا يفعل ذلك بطريق العقل الباطن، أو لمجرد توافق الأدلة، ولكن يستدل به موثقًا نسبته لقائله، واعيًا ما يصنع، عارفًا لما يقول (1).
والأشاعرة يأتون في هذا بما يعجب له المرء أيما عجب، ويثير تساؤلات شتى: أهذا انبهارٌ شديدٌ بما عند الكفار؟ أم أن القوم فيهم مغرضون منافقون أسسوا لهم ذلك، ثم تابعهم غيرهم بلا بصيرة؟ أم ماذا؟.
ليس في الإمكان هنا الإجابة على هذه الأسئلة، ولا تفسير هذه الظاهرة، وحسبنا عرضها للقارئ! ولقد حاولت في بداية كتابتي عن
(1) ولهذا لم نعقد مقارنات بين أصول الأشاعرة والأفكار الأصلية لها، لنرى مدى انحدارها وعلاقتها، وإنما اكتفينا بالنقل الصريح من كتبهم.
الأشاعرة ومصدر التلقي عندهم أن أحصر المواضع التي يستمد الأشاعرة فيها من الفلاسفة ونحوهم استمدادًا نصيًّا صريحًا، وأخذت في تجميعها، وما كدت أمضي قليلًا حتى تبينت أن عملي هذا شبيهٌ بحصر موج البحر، أو ذرات الرمل، فإن هذا مما تتكرر في كل مبحث، وفي كل كتاب، وعلى لسان كل مؤلف.
ولهذا ضربت صفحًا عن الحصر والإحصاء، مكتفيًا بأمثلةٍ يسيرة، تاركًا لمن شاء الاستزادة أن يمد يده لأي مؤلَّفٍ أشعريٍّ في العقيدة، فيرى بأمِّ عينه النقول والاستمدادات عن مشركي اليونان، الذين أفسدوا أديان الأمم جميعها، وعن الصابئة عبدة الكواكب، بل عن اليهود، وما أدراك ما اليهود؟
على أنني أنبه من أراد ذلك إلى أنه لن يجدهم موصوفين بما ذكرت، بل بكونهم (الحكماء)، (الإلهيين)، (أساطين الفلسفة)، (الجهابذة)، (المعلم الأول). وأمثالها مما لا ذم فيه، بل فيه التقدير والتمجيد حتى في المواضع التي يخالفونهم فيها، بخلاف معاملتهم لعلماء أهل السنة، فإنهم غالبًا لا يذكرونهم بخير حتى في المواضع المتفق عليها بين الفريقين!!.
ولنبدأ بمسألة (التوحيد) لأهميتها:
يقول الآمدي: «فمما ذهب إليه (المعلم الأول)، ومن تابعه من الحكماء المتقدمين، وقفا آثره من فلاسفة الإسلاميين: أن الباري تعالى
واحدٌ من كل جهة، وأنه لا يلحقه الانقسام والكم بوجه ما» (1).
وغني عن البيان أن هذا القدر من كلام معلّم الوثنية الأول، هو توحيد الأشاعرة المنصوص عليه في كتبهم قاطبة كما سترى.
فعلى هذا المعنى للتوحيد سار أبو المعالي الجويني في (كتاب التوحيد)، وهو جزءٌ ضخمٌ من كتاب (الشامل) له (2).
وقال في (الإرشاد): «باب العلم بالوحدانية: الباري سبحانه وتعالى واحدٌ، والواحد في اصطلاح الأصوليين: الشيء الذي لا ينقسم
…
والرب سبحانه وتعالى موجودٌ فردٌ متقدسٌ عن قبول التبعيض والانقسام، وقد يراد بتسميته واحدًا أنه لا مثل له ولا نظير، ويرتب على اعتقاد حقيقة الوحدانية إيضاح الدليل على أن الإله ليس بمؤلّف؛ إذ لو كان كذلك - تعالى الله عنه وتقدس - لكان كل بعض قائمًا بنفسه، عالمًا حيًّا قادرًا، وذلك تصريحٌ بإثبات إلهين» (3).
ثم سار الشهرستاني حيث يقول في الموضوع نفسه: «قال أصحابنا: الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه؛ إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجهٍ من الوجوه، ولا تقبل الشركة بوجه، فالباري تعالى واحدٌ. في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شبيه له، وواحدٌ في أفعاله لا شريك له» (4).
(1) غاية المرام (ص233).
(2)
الشامل (ص345 - 486).
(3)
الإرشاد (ص52).
(4)
نهاية الإقدام (ص90).
ثم سار الآمدي حيث اقتصر على هذا المفهوم للتوحيد في الفصل الذي عقده بعنوان: «القانون الثالث في وحدانية الله تعالى» (1).
وبنحوه قال أيضًا في (أم البراهين) حيث شرحها الدسوقي قائلًا: «اعلم أن المولى منفيٌّ عنه الكم المتصل في الذات، وهو تركب ذاته من أجزاء، والكم المنفصل في الذات، وهو أن يكون هناك ذاتٌ مماثلةٌ لذاته تعالى، والكم المتصل في الصفات، وهو تعدد كل صفة من صفاته، كأن يكون له علمان وقدرتان
…
إلخ، والكم المنفصل في الصفات، وهو أن يكون هناك لغيره من الحوادث صفات كصفاته، كأن يكون لغيره قدرة مثل قدرته تعالى
…
» (3).
وقال البيجوري في رسالته في علم التوحيد: «ويجب في حقه
(1) غاية المرام (ص149 - 155).
(2)
السنوسية مع الحواشي (ص304).
(3)
حاشية الدسوقي على أم البراهين، طبع المكتبة التجارية (ص (89)).
تعالى الوحدانية في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال، ومعنى الوحدانية في الذات أنها ليست مركبة من أجزاء متعددة، ومعنى الوحدانية في الصفات أنه تعالى ليس صفتين فأكثر من جنس واحد كقدرتين
…
وهكذا، وليس لغيره صفة تشابه صفته تعالى، ومعنى الوحدانية في الأفعال أنه ليس لغيره فعل من الأفعال».
قال: «ووضدها (أي الوحدانية) المتعدد، والدليل على ذلك أنه لو كان متعددًا لم يوجد شيء من هذه المخلوقات» (1).
ثم ننتقل للمعاصرين فنجدهم يقتصرون في معنى التوحيد على هذه المعاني نفسها، أو على بعضها، فالبوطي يقول ضمن الصفات السلبية (2):«الوحدانية: ومعناها سلب تصور الكمية في ذاته وصفاته سبحانه وتعالى، سواء الكمية المتصلة والكمية المنفصلة، أي فهو سبحانه وتعالى ليس مركبًا من أجزاء، ولا مكونًا من جزيئات، وكذلك صفاته» .
ثم استرسل في شرح الجزء والجزئي وقال: «فالمقصود بوحدانية الله أن تعلم بأنه سبحانه وتعالى ليس كلًّا مركبًا من أجزاء، ولا كليًّا مكونًا من جزئيات» (3).
ويقول وهبي غاوجي: «الوحدانية: معناها سلب تصور الكمية فيه
(1) مجموع مهمات المتون (ص40 - 41).
(2)
تقسيم الصفات إلى سلبية ووجودية هو أيضًا منقول عن الفلاسفة، ولا بد أن القارئ سيأخذه العجب من الذين يجعلون غاية التوحيد هي سلب التعدد الكمي والكيفي عن الله!!.
(3)
كبرى اليقينيات الكونية (ص92 - 93).
سبحانه، فهو ليس مركبًا من أجزاء،: بحيث لا يصدق اسم الذات عليه حتى تتكامل أجزاؤه، ولا من جزيئات حتى يندرج تحت الجنس الذي يصدق على كثيرين متفقين في الحقيقة مختلفين في النوع كالحيوان» (1).
ثم استمر في كلام قريب من كلام البوطي والسنوسي.
أما سعيد حوى فيعقد فصلًا خاصًّا بعنوان (التوحيد) يبحث كله في نفي التثنية كما قرر في أوله قائلًا: «القول بالتعدد يمكننا أن نختصره بالتثنية، فإن ثبتت التثنية صح التعدد من غير حصر، وإن بطلت بطل التعدد أصلًا ولزم التوحيد» (2).
وفي مبحث الصفات وافق صاحبيه على أن الوحدانية صفة سلبية (3) قائلا: «اعمران بالصفة سلبية بالنسبة للذات الإلهية الصفات التي تدل على سلب ما لا يليق به سبحانه وتعالى؛ كالوحدانية» (4).
فهذه نقولٌ متصلةٌ عن قدماء المذهب ومعاصريه، تتفق كلها في استمداد أعظم حقيقة من حقائق هذا الدين الرباني المحفوظ - وهي التوحيد - وتلقيّها من معلم الوثنية الأول أرسطو (5)!.
(1) أركان الإيمان (ص30)، وتأثره بمنطق المعلم الأول واضح.
(2)
الله جل جلاله (ص131)، والفصل يمتد من (ص130 - 139).
(3)
هذا مع أنهم نقلوا عن بعض قدمائهم كالباقلاني والجويني أنها صفة نفسية. فانظر كيف يختارون المرذول ليس من كلام الفلاسفة فحسب، بل ومن كلام أئمتهم. انظر السنوسية (ص300).
(4)
المصدر السابق (ص142).
(5)
وبهذا اعترف الغزالي في مقاصد الفلاسفة، وتلميذه أبو بكر بن العربي. انظر آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، عمار طالبي (1/ 266).
وليس الخوض الباطل الذي خاضته الأشاعرة في باب الصفات جميعها إلا نماذج وفروعًا لهذا الاستمداد والتلقي.
فهذا الذي رأيناه هنا من تصريحهم بنفي الجزء والجزيئية، والتركيب والتبعيض، والانقسام والتَّأَلُّف
…
إلى آخر هذه الألفاظ البدعية؛ هو أساس نفيهم للصفات التي توهم - بزعمهم - أن الله تعالى يشابه الحوادث في التركيب من أجزاء وأبعاض، نحو الوجه، واليد، والعين، والساق، ونحوها.
فتوحيد الله تعالى عند هؤلاء القوم هو نفي هذه الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، أي أنهم جعلوا التوحيد هو (التعطيل).
أما التوحيد الحقيقي الذي يعلمه المؤمنون بالضرورة، والذي تطابقت عليه كتب الله ورسله، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، والتوجه بأنواعها جميعًا له وحده دون سواه، وعدم صرف شيءٍ منها لغيره، فهذا لا تجده في كتب عقيدتهم إطلاقًا، لا في مبحث التوحيد، ولا في غيره (1).
وإنما ذَكَر الألوهية منهم من ذكرها ليفسرها بأنها نفي تأثير غيره
(1) وليتهم وقفوا عند هذا، لكنهم صنفوا الكتب في الرد على شيخي الإسلام: ابن تيمية، وابن عبد الوهاب في هذه المسائل، كمسألة الاستغائة، والتوسل، والزيارة الشركية للقبور، ونحوها في كتاب (براءة الأشعريين)، ومن سبقه كالبكري، والكوثري، والدحلان، بل إن بعضهم صنف في الشرك نفسه، مثل كتاب الرازي (السر المكتوم). انظر الميزان (3/ 340)، والاستقامة ((1) / (45)). وقد طبعوه في الهند كما ذكر المحقق، وقد أشار إليه شيخ الإسلام في معظم كتبه، على أن توبة الرازي آخر عمره ثابتة لا شك فيها.
تعالى في الممكنات، وهي ضلالة أخرى تابعوا فيها الفلاسفة القائلين بأنه تعالى علة تامة مؤثرة فيما سواها تمام التأثير، فلا إرادة له، ولا كلام، ولا غيرها من الأفعال الاختيارية، وعن هذا نشأ مذهبهم في أفعال العباد، حيث نفوا نسبتها إليهم، وجعلوها فعلًا لله، وكسبًا للعبد، وتلك نظرية الكسب التي هي جبر مغلف بالغموض.
وأفضل تفسير لنفي التأثير عندهم ما فسره به بعضهم، وهو أن معناه أنه وحده الخالق المبدع، وهذا لا يعدو أن يكون توحيد الربوبية الذي لا خلاف فيه بن أتباع الملل، بل بين كل من يعتد بعقله من بني آدم، والآيات في إقرار مشركي العرب به أشهر من أن تذكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (التسعينية)(1) بعد أن أورد هذه المعاني الثلاثة لاسم الواحد، أو صفة الوحدانية:«فهذه المعاني الثلاثة هي التي يقولون: إنها معنى اسم الله الواحد، وهي التوحيد، وفيها من البدع التي خولف بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ما قد نبهنا على بعضه» (2).
(1) هو كتاب عظيم، نقض فيه شيخ الإسلام مذهب الأشاعرة في الكلام وغيره من تسعين وجهًا، وهي من آخر ما كتبه رحمه الله، وهي الرسالة الأولى من المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى، الطبعة الطويلة، أما الطبعة القصيرة فهي تشمل الجزء الخامس منها كاملًا، على أن الوجوه الموجودة في المطبوعتين لم تصل إلى التسعين.
(2)
التسعينية (ص210)، وانظر (ص203 - 210) من الطبعة الطويلة.
ومن أراد تفصيل ذلك فليراجعها في كلامه رحمه الله (1).
والحاصل أن توحيد الأشاعرة على ما فيه من خلل وابتداع هو كما رأينا آنفًا محصورٌ كله في قضايا التصور والاعتقاد مجردة، دون الأمور العملية التي هي توحيد الله تعالى بأفعال العباد الذي جاءت به رسل الله جميعًا، وهو يشمل أعمال القلوب؛ كالمحبة، والإنابة، والتعظيم، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء.
وأعمال الجوارح؛ كالصلاة، والذبح، والنذر، والطواف، ونحوها.
كما أن من أهم أنواع هذا التوحيد إفراده سبحانه بالتحاكم إليه وحده، أي رد الأمر كله إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الموالاة في الله والمعاداة فيه، وهاتان القضيتان الخطيرتان أعني (التحاكم والموالاة) لا ذكر لهما في كتب عقائد الأشاعرة على الإطلاق، لا ضمن أصول العقيدة، ولا ضمن لوازمها.
وبهذا النقص الواضح في التوحيد عندهم كثر في المنتسبين لهذا المذهب من الخرافيين، والقبوريين، والطرقيين، والمتحاكمين إلى الطواغيت، والموالين للكفار والفجار ما لا يحصيه إلا الله. فترى الواحد منهم يرتكب هذه الشركيات، أو البدع دون أن يرى فيها أدنى معارضة للتوحيد؛ لأن التوحيد الذي تعلَّمه وتربى عليه هو - في أكمل صوره - تلك المعاني الثلاثة فقط.
هذه الحقيقة التي نشاهدها اليوم في طول العالم الإسلامي
(1) الموضع السابق، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 224 - 228).
وعرضه، قد قررها شيخ الإسلام أوضح تقرير.
فقال رحمه الله بعد أن ذكر المعاني الثلاثة، وبين نقصها عن حقيقة التوحيد -: «إن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتى يشهد ألا إله إلا الله، فيقرَّ بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له.
والإله بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن الأشعري، وأتباعه ممن لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرِّين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
ثم ذكر الآيات في ذلك
…
وقال: فليس كل من أقرَّ أن الله ربّ كل شيء وخالقه، يكون عابدًا له دون ما سواه، داعيًا له دون سواه، راجيًا له، خائفًا منه دون سواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويطيع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، وقد قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] ....
وذكر آيات في شرك المشركين ثم قال: ولهذا كان من أتباع هؤلاء
من يسجد للشمس والقمر والكواكب (1)، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببًا وواسطة لم أكن مشركًا.
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شركٌ.
فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه، وأدخلوا في ذلك نفي صفاته
…
» (2).
(1) إن الفخر الرازي - وهو أعظم متكلمي الأشاعرة المتأخرين على الإطلاق - قد ألف كتابًا في عبادة النجوم سماه (السر المكتوم في مخاطبة النجوم). انظر الميزان للذهبي (3/ 340). وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع لا تحصى، وقال: إنه قيل: إنه تاب منه. انظر نقض التأسيس (1/ 123). ودافع عنه السبكي الأشعري في طبقاته (1/ 81) بأنه كذبٌ مختلقٌ عليه، وعاب على شيخه الذهبي ذكره له، وقد ذكر ابن حجر بعض ما قيل في الرازي من المصائب. انظر: لسان الميزان (4/ 426). فهذا عالمهم الكبير، صاحب المصنفات الضخمة، والتبحر في العلوم. فما ظنك بمن سواه، لا سيما العوام. هذا في الشرك، أما في الموالاة؛ فإن زوج ابنة الرازي كان من خواص جنكيز خان الملعون، ولما دخلت جيوشه هراة قتلت المسلمين جميعًا فيها إلا أولاد الفخر الرازي، فقد نادوا لهم بالأمان، وحملوهم مكرمين إلى جنكيز خان بسمرقند!!. انظر ترجمة الرازي في مقدمة تفسيره الكبير، الذي طبعته المطبعة البهية المصرية.
(2)
درء تعارض العقل والنقل (1/ 226 - 228).
وبهذا ترى أن الأشاعرة أدخلوا التعطيل ضمن مسمَّى ومفهوم (التوحيد)، في حين أنهم لم يدخلوا فيه أي نوع من أنوع العبادة التي يعتبر صرفها لغير الله شركًا منافيًا للتوحيد، وما ذاك إلا نتيجة فساد منهجهم في التلقي والاستمداد، وتقليدهم منهج الفلاسفة في تناول العقيدة من الزاوية الفلسفية المجردة، واعتبارها تصورات ذهنية محضة، على ما في هذه التصورات من خلل وتناقض.
وإذ لا يخفى على كل مسلم أن توحيد الله تعالى أصل الدين كله، وأن عليه مدار دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفيه وقع النزاع بينهم وبين أممهم، وهو مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين، لا يقبل الله ممن لم يأت به صرفًا ولا عدلًا، فإن أعظم مقاييس صحة عقيدة أي فرد أو طائفة هو موقفه من قضية التوحيد معرفةً وتحقيقًا.
وهكذا ندع للقارئ الكريم الحكم على هذه الطائفة، ومنهجها العقلي المزعوم.
ومن موضوع التوحيد ننتقل إلى موضع آخر له أهميته في التصور الإسلامي، وهو غاية الوجود الإنساني، وحكمة الخلق والكون.
يقول الآمدي: «مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها
…
ووافقهم على ذلك طوائف الإلهيين، وجهابذة الحكماء المتقدمين» (1).
(1) غاية المرام (ص203).
ولن نسأل الآمدي عن الآيات الكثيرة في بيان حكمة الخلق، وغاية الوجود؛ لأن جوابه المعروف هو وأصحابه عنها: أنها ظنيات لا تفيد اليقين، وظواهر نقلية بجب تأويلها لتوافق القطعيات العقلية ..
ولكننا نسأله أيهما الذي وافق الآخر وتبعه، آلحكماء اتبعوا الأشاعرة، أم الأشاعرة اتبعوا الحكماء؟.
ولن نطيل بذكر أمثلة لهذه المسألة، بل نكتفي بنموذج عصري واحد.
يقول البوطي بعد أن قرر القاعدة الأشعرية في نفي الحكمة والغاية: «أما الآيات والأحاديث الموهمة لثبوت العلل والأغراض لله تعالى بسبب استعمال لام التعليل؛ كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: (56)]
…
فليست على ظاهرها الذي نتصوره من التعليل الحقيقي؛ إذ لو كانت كذلك لاقتضى الأمر أن يكون الله جل جلاله مستكملًا ألوهيته بعبادة الناس له، ولذلك احتاج إليها، وخلق الناس من أجلها (؟!)
…
فاللام في مثل هذه الآيات إنما هي تعبير عن العلة الجعلية (؟)، لا عن العلة الحقيقية.
أي: تعلقت إرادة الله بإيجاد الإنسان وبتكليفه بمستلزمات العبودية له
…
برابط من محض مشيئته وقدرته» (1).
فانظر إلى هذه اللوازم المتخيَّلة، وهذا التأويل المتكلف لمسألة واضحة وضوح الشمس، وليس لهذا من داعٍ إلا متابعة أسلاف
(1) كبرى اليقينيات (ص145 - 146).
المذهب، الذين تابعوا قدماء جهابذة الوثنيين - إن صح التعبير -.
على أن الأشاعرة ناقضوا أنفسهم - كالعادة في كثير من أصولهم - عندما جاءوا في مبحث النبوات، وأثبتوا أن الله تعالى يعطي الأنبياء معجزات لكي تكون دلالة على تصديق الله لهم، وموجبًا لتصديق الناس لهم. فعللوا أوضح تعليل.
أما افتعال التعارض بين المشيئة والحكمة، فلا نظير له إلا ما افتعلوه من التعارض بين العقل والنقل.
ولو سألهم سائل: لماذا يكون قولنا: (إن الله خلق الإنسان بمحض المشيئة، وكلفه بعبادته) تنزيهًا لله تعالى وكمالًا. وقولنا: (إن الله خلق الإنسان لحكمة عظيمة) نقصًا في حقه تعالى، فماذا سيكون جوابهم.
نحن لا نقول: إن سبب هذه الأصول الفاسدة هو اللبس، أو سوء الفهم فحسب، بل المشكلة أنهم - باعترافهم هم - استمدوها من الفلاسفة، وهذا هو مصدر الضلال، فهي محكومٌ عليها بالبطلان، حتى لو وافقت الصواب عَرَضًا ومصادفة.
ثم ننتقل إلى مبحث الصفات: حيث نجد الرازي - الذي طعن في أحاديث الصفات - بل في السنة كلها جملةً، وأوَّل آياتها قاطبةً إلا ما شاء في قانونه الكلي، يستدل على مذهبه، بل على فساد مذهب السلف، وأنه أصل لعبادة الأوثان، بكلام المتخرصين المشركين من منجمي الصابئة.
يقول في أساسه، أو تأسيسه: «وذكر أبو معشر المنّجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم، هو أن القوم في
الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة، وكانوا يعتقدون أن إله العالم نورٌ عظيمٌ، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله، وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة، واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة.
قال الرازي: فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع عن مذهب المشبهة» (1).
ولن نقول للرازي: إن الثابت في السنة في أصل الشرك ينافي هذا (2)؛ لأنه سيقول: تلك ظواهر ظنية لا تفيد اليقين، ورواية آحاد لا يثبت بها علم.
ولكننا نقول: لو فرضنا أن بينك وبين هذا المنجم المشرك سندًا صحيحًا (3)، فما سنده هو إلى أجداده المشركين القدامى الذي أسسوا التشبيه والشرك؟ أم أن كلامه - عندك - قطعي الدلالة والثبوت، ولو كان رجمًا بالغيب من مكان بعيد؟. وأين عقلكم الذي حكمتموه في النصوص، لِمَ لا تحكمونه في قول هذا الأفاك، إنهم صوروا النور؟!.
ويأتي صاحب (المواقف) فيستفتح موضوع الإلهيات من كتابه بما
(1) التأسيس (ص15 - 16).
(2)
روى البخاري في كتاب التفسير (4920) أن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن يصوروهم تعظيمًا لهم، ثم جاءت الأجيال التالية فعبدتهم، فهذا هو أصل شرك البشرية، وكذب أبو معشر.
(3)
توفي أبو معشر سنة ((272) هـ) والرازي (606هـ)!! أم أنه روى عنه وجادة؟!.
يتعلق بالذات، أي: ذات الله تعالى الذي يسمونه غالبًا (القديم).
فيقول: «وفيه مقاصد:
المقصد الأول: في إثبات الصانع، وفيه مسالك:
المسلك الأول للمتكلمين: [وتحدث فيه عن حدوث الجواهر والأعراض].
المسلك الثاني للحكماء: [تحدث فيه عن دليل فلاسفة اليونان، ومن تبعهم وهو الوجوب والإمكان]» (1).
ويقول في مبحث العلة والمعلول: «القصد الثالث:
يجوز عندنا استناد آثار متعددة إلى مؤثر واحد بسيط [غير مركب]، وكيف لا ونحن نقول بأن جميع الممكنات مستندة إلى الله تعالى.
ومنعه الحكماء إلا بتعدد آلة، أو شرط، أو قابل، وأما التبسيط الحقيقي الواحد من جميع الجهات فلا».
ثم قال: «المقصد الرابع:
قال الحكماء: البسيط لا يكون قابلًا وفاعلًا، وإلا فهو مصدر للقبول والفعل
…
» (2).
والمواضع أكثر من أن تحصر، والمقصود أنهم يستمدون من كلام هؤلاء الوثنيين، وينقلونه في أهم القضايا، وهي وجود الله تعالى
(1)(ص266).
(2)
(ص86).
وصدور الأفعال عنه.
فإن قيل: ولكنهم يخالفونهم في بعضها؟.
فالجواب: أن المهم ليس هو الموافقة بإطلاق، ولكنه في أصل النقل واعتبار الخلاف، فأي مسلم حقيقي لا يمكن أن يعتد بخلاف هؤلاء، حتى ولو خالفهم في كل شيء؟.
وهل على ظهر الأرض مؤمن حقًّا يعتد بخلاف اليهود والنصارى - الذين هم أفضل حالًا من هؤلاء - في صفات الله تعالى، فيقول مثلًا: إن الله واحدٌ .. وخالف النصارى فقالوا: ثلاثة. ثم يعرض القضية وكأنها خلاف في مسألة فرعية؟.
وهل يعتد المسلم بخلاف الرافضة في عدالة الصحابة، أو خلاف الباطنية في تفسير القرآن؟.
فكيف يعتد بخلاف مشركي اليونان في توحيد الله وصفاته، حتى وإن خالفهم أحيانًا! وهل هذا إلا أثر من آثار العمى الفكري الناشئ عن فساد منهج التلقي.
إن كتب الأشاعرة من حيث المنهج والأصل تبجل (الحكماء) وتعظّمهم، ثم قد توافقهم وقد تخالفهم، وهذا أمرٌ طبيعي مع كل باحث، لكن ليس في المخالفة الجزئية لذاتها، أي غض من قيمة المخالف.
وإنما دلالة الإيمان هو إنزالهم منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فهم وثنيون ضالّون مضلون متبعون لمشركي الصابئة.
وحسبهم أنهم يجعلون كلام الله ورسوله على قدم المساواة مع
كلام المعلّم الأول وتلامذته، أما إذا كانوا - كما هو الواقع - يجعلون كلام الله ورسوله دلائل ظنية لا تفيد اليقين كما سبق، ويجعلون كلام معلم الوثنية الأول قطعي الدلالة والثبوت، فما أدري ما وجه دفاع من قد يدافع عنهم بأنهم يخالفون المعلم الأول أحيانًا!!.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال عن هؤلاء الوثنيين - وكلامه ينطبق على كل عصر ومصر -: «هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين؛ كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس، وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان، إما كفارًا، وإما منافقين، كما نفق منهم من نفق على المنافقين والملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك.
وكذلك إنما ينفقون دائمًا على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين» (1).
ولم يزل متكلمو الأشاعرة مع تسترهم بالاحتكام إلى العقل وحده، يتسولون على أبواب المذاهب حتى وقفوا على باب اليهود!!.
وهذا أمر عجيب، وليس بعجيب!.
عجيب حين نعلم من هم اليهود! وما مبلغ عداوتهم للإسلام
(1) الرد على المنطقيين (ص187). ورحم الله شيخ الإسلام كيف لو رأى الجاهلين في عصرنا هذا، وهم لا ينقلون ويستمدون في أفكارهم وكتاباتهم إلا من فرويد وماركس وسارتر وأمثالهم، أو من المستشرقين الذين هم أخبث وأحقد!!.
والمسلمين، وما هي قيمتهم المعنوية - لا سيما في الماضي - عند أمم الكفر فضلًا عن خير أمة أخرجت للناس!!.
وليس بعجيب حين نعلم أن شهوة التعصب والانتصار للرأي مع شهوة الابتداع الذي أشربته قلوب المبتدعة كثيرًا ما حفزت على ركوب المخاطر والاستنصار على المخالف القريب بالعدو اللدود! على أن أصل المسألة أعمق من هذا.
إنه ببساطة: اتفاق المنهج في مصدر التلقي.
فعندما يتفق المنتسب لليهودية مع المنتسب للإسلام في أصل التلقي من مشركي اليونان، والتدين بالدين الوثني العالمي دين الفلسفة اليونانية، فإنه لا غرابة في وقوفهما - ومن شاركهما في هذا الدين من أي نحلة وجنس - صفًّا واحدًا ضد جبهة الإيمان والتوحيد!.
وإلا فكيف يعيش الرازي، وموسى بن ميمون في عصر واحد (1)، والأول بأقصى المشرق، والآخر بأقصى المغرب، فيؤلف الأول (أساس - أو تأسيس - التقديس)، ويؤلف الآخر (دلالة الحائرين)، وتقرأ هذين الكتابين فتجدهما يخرجان من مشكاة واحدة - بل من بؤرة واحدة - لا أثر فيها لإسلام هذا، ولا يهودية ذاك من حيث المنهج والاستمداد.
فالإسلام - الذي تنتسب إليه الرازي - أجلى من الشمس في رابعة النهار بلا غيم ولا قتر فيما يتعلق بإثبات الصفات.
(1) توفي الرازي (606هـ)، وابن ميمون (605هـ)، وكان الأول في سمرقند، والآخر في الأندلس!!
واليهودية التي ينتسب إليها موسى بن ميمون - في توراتها المحرفة - من الغلو المسرف في الإثبات ما يصل إلى تشبيه يترفع عنه كثير من الوثنيين.
ومع هذا يتفق الاثنان في نفي الصفات، وفي الهجوم على (المجسّمة المشبهة الحشوية) أي أهل السنة والجماعة.
فأما كتاب الرازي فقد تقدمت بعض النقول منه، ولا هجرة بعد الفتح، ولا كلام في التأسيس بعد (بيان التلبيس)(1)!.
وأما كتاب (دلالة الحائرين) الذي استمد منه الأشاعرة، فإليك طرفًا من حكايته:
ألَّفَ موسى بن ميمون اليهودي هذا الكتاب باللغة العربية نطقًا، أما كتابة حروفه فقد جعلها بالخط العبري؛ لأنه خشي أن يثير عليه المسلمين واليهود على السواء، فكانت لغته العربية حائلة دون فهم اليهود له، وخطه العبري مانعًا من قراءة المسلمين له.
وهذا بالطبع بعض آثار المكر اليهودي المتأصل، لكن ما علينا من هذا، فليته بقي كذلك وأراحنا الله منه.
غير أن أحد أعيان الطبقة الثانية من تلاميذ الرازي، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التبريزي، لمس - على ما يبدو - حيرة أصحابه
(1) أي: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي زيف به التأسيس وما بني عليه.
الأشاعرة، ورأى أنه أعظم كتبهم (التأسيس) قائم حقًّا على التلبيس (1)، فما صدَّق أن عثر على كتاب (دلالة الحائرين)، ليجعله دليلًا لحيرة أصحابه، وظهيرًا للتأسيس على الحشوية!!.
فأتى منه على الجزء، أو المقدمات المطابقة لموضوع التأسيس، فشرحها، وعرَّب خطها (2).
ثم طمرت السنون الشرح والكتاب، ودار الزمان دورات حتى قام اليهود في القرن العشرين - ومنهم (إسرائيل ولفنستون) الذي كان مقيمًا بمصر، ومدرسًا في جامعتها - بإحياء تراث أجدادهم، واحتفلوا بذكرى موسى بن ميمون ومؤلفاته.
وعاصرهم أكبر أشاعرة عصره محمد زاهد الكوثري، فرأى وجوب الانتصار للمذهب، والتشفي من أعدائه (الحشوية)، فنشر شرح شيخِه الأشعري (التبريزي) للكتاب اليهودي، ولا ندري عمَّا إذا كان هذا العمل باتفاقٍ مع اليهود، أو إشارة منهم، إلا أن الكوثري قال:«لو كان القائمون بالاحتفاء بموسى بن ميمون قبل سنين ظفروا بهذا الشرح القيم، لقاموا بنشره إذ ذاك بكل اغتباط» (3).
(1) وحسبك مثالًا لذلك أنه يستدل بقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
(2)
وهي المقدمات الخمس والعشرون التي حققها الكوثري، وعنوان الكتاب المحقق كاملًا (المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته، وتنزيهه أن يكون جسمًا، أو قوةً في جسم، من دلالة الحائرين).
(3)
المقدمات الخمس والعشرون (ص (23)).
يريد أن يقول: أن المسألة توافق، وليست عن اتفاق. والله أعلم.
والمهم أن الكوثري أخرج الكتاب في سنة (1369هـ-1948م) وهي السنة التي قامت فيها دولة إسرائيل بفلسطين، ولسان حاله يقول: إذا لم تكن هذه الدولة على مذهب الحشوية، فلتكن ما تكون!.
وحتى لا يحسب أحدٌ أننا نَتَجَنَّى عليه - فضلًا عن شيخه التبريزي صاحب الفضل الأول - ننقل من مقدمته ما أنطق الله به لسانه، فهو يقول ضمن كلامه عن ابن ملكا (1) اليهودي الذي أفسد الإسلام في نظره: «وقد أوتي ذكاءً وحُسن بيان، مع مكرٍ بالغ، وشغب ملبّس، يدس بهما في غضون كلامه ما ورثه من عقيدة التشبيه من نحلته الأصلية، فيروج تلبيسه على من لم يؤت بصيرةً نافذةً تجلو الحقائق، يتظاهر بالرد على الفلاسفة في بعض مباحث المنطق والرياضيات والإلهيات، فيكون بذلك سببًا لرواج شغبه عند بعض محدِّثي الحشوية في تجويز حلول
(1) هو أبو البركات هبة الله بن ملكا، فيلسوف، كان يهوديًّا ثم أسلم، وألف كتبًا، أشهرها (المعتبر) مطبوع. ذكره شيخ الإسلام كثيرًا - لا سيما في درء التعارض، ومنهاج السنة - ناقدًا إياه بالعدل، كعادته، ووصفه بأنه من أمثل الفلاسفة طريقةً، وعلل ذلك بسلوكه طريقة النظر بلا تقليد، وكونه نشأ ببغداد بين علماء السنة والحديث، فاستنار بأنوار النبوات أكثر من صاحبيه: ابن سينا، وابن رشد. (منهاج السنة 1/ 348، 354). فمقياس الشيخ دائمًا هو الاستمداد من نور النبوة، أو عدمه، وصحة النظر العقلي أو فساده، دون النظر لمعايير الجاهلية، توفي ابن ملكا سنة ((547) هـ). انظر عنه الأعلام للزركلي ((8) / (74)).
الحوادث (1) في الله سبحانه
…
مع أن حلول الحوادث في ذات الله محالٌ عند المتكلمين والفلاسفة في آنٍ واحد (2)؛ بل بحلول الحوادث في العالم استدلوا على حدوث العالم! (3) فكيف يستجاز ذلك في مبدع العالم جل جلاله؟.
وإن انخدع بكلام ابن ملكا ابن تيمية في تلبيسه، وتسعينيته، وسبعينيته، ومنهاجه، ومعقوله (4)
…
».
ثم قال في مقام مقارنة كتاب ابن ملكا (المعتبر) بكتاب ابن ميمون (دلالة الحائرين): «فيستغرب من الشيخ الحراني - يعني شيخ الإسلام - إهماله لتلك البراهين المسرودة في (دلالة الحائرين) في تنزيه الباري عن الجسمية، مع اطلاعه عليها، وأخذه بتلك المحاولة الساقطة في معقوله عند رده على السيف الآمدي قوله باستحالة تحديد الله بجهة؛ لاحتياج ذلك إلى مخصص كما هنا، على طِبْقِ ما صنع في أخذه عن ابن ملكا ما انفرد به عن النظار من تجويز حلول الحوادث في الله. تعالى
(1) حلول الحوادث هو الستار الوثني الذي يتخفى به منكرو صفات الله تعالى، كالرضا، والغضب، ونحوها، فينفونها زاعمين أن إثباتها إحلالٌ للحوادث بذاته تعالى.
(2)
لاحظ اتفاق المنهج بين الطائفتين، ثم انظر أيهما الذي نقل عن الآخر؟.
(3)
صدق الكوثري في هذا، وهذا هو أساس البلاء، فإنهم لم يستطيعوا إثبات وجود الله إلا بنفي صفاته؛ لأن هذا هو منهج المعلم الأول!!.
(4)
(ص10)، والكوثري يقصد كتب شيخ الإسلام الخمسة: بيان تلبيس الجهمية، التسعينية، السبعينية، منهاج السنة، موافقة صريح المعقول.
الله عما يقول المجسّمة والمشبهة علوًّا كبيرًا» (1).
فالكوثري يتهم شيخ الإسلام - صراحة - بأن تلك الأسفار التي لم يكتب في بابها مثلها قط - لا في قديم الدهر ولا حديثه - ما هي إلا اقتباسات من فكر رجل يهودي مغمور يدعى ابن ملكا!.
فماذا يريد الكوثري بذلك؟ أهو كما قال المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت)؟.
الحقيقة أن الأمر أعظم من ذلك!.
فإن الكوثري من أعظم الناس تدليسًا وتلبيسًا، ومكرًا ودهاءً، يعرف ذلك من تتبع شيئًا من كلامه ونقولاته، وإليك البيان:
(1)
- أن ابن ملكا اعتنق الإسلام كما نص المترجمون لحياته، ونقل الكوثري نفسه قول الظهير البيهقي عنه أنه (حَسُن إسلامُه)، فلا مقارنة بينه وبين اليهودي الميت على كفره، بل الزنديق الذي ليس بمسلم ولا كتابي (موسى بن ميمون)، وغاية ما في الأمر أن الرجل لما أسلم اعتنق بعض الحق الذي عليه مذهب السلف، فشغب عليه الكوثري لاعتناقه مذهب الحشوية، لا لكونه يهوديًّا، وإلا فلماذا لم يشغب على صاحبه ابن ميمون، وهو الكافر الصريح؟.
(2)
- لم يكتفِ الكوثري بالشغب على ابن ملكا واتهامه في دينه؛ بل اتهم شيخ الإسلام بالأخذ عنه والتلقي منه، فهو إنما طعن في
(1)(ص21).
الرجل توصلًا إلى الطعن في شيخ الإسلام، وافتعل لذلك مناسبة كون ابن ملكا يهودي الأصل، وأقحم ذلك كله في مقدمة كتاب ابن ميمون؛ لأنه كتابُ يهودي أصلًا، أشعري مضمونًا ونصًّا، فبهذا جعل القدر المشترك بين ابن ملكا الذي أسلم ووافق عقيدة السلف، وبين ابن ميمون الموافق للأشاعرة مع بقائه على يهوديته شيئًا واحدًا، فانظر إلى هذا التلبيس والمكر والدهاء.
(3)
- أن الكوثري - على ما ظهر لي - يسرُّه أن يقال عنه: (رمتني بدائها وانسلت)، وتبقى المسألة في هذا الحد، وذلك لكي خفي ما هو أعظم من ذلك، وهي صلته بـ (إسرائيل) و (لفنستون) و (جولدزيهر) وغيرهما من يهود المستشرقين (1)، وكذلك إخراجه لهذا الكتاب في أحرج موقف مر بين المسلمين واليهود، وهو (قيام دولة إسرائيل).
4 -
على كلام الكوثري يكون المسلمون جميعًا مقلدين في دينهم لفلاسفة اليهود! فأتبع السلف عنده - وعلى رأسهم ابن تيمية - هم من مقلدة ابن ملكا، والأشاعرة هم من مقلدة ابن ميمون.
فالأمة الإسلامية إذن - مهتديها وضالُّهَا - سائرة على خطى يهود!!.
وربما يثار سؤالٌ هنا، وهو: إذا كان اليهود بهذه المنزلة عند الكوثري وأساتذته، فمن هو الخطير على الإسلام إذن؟.
(1) انظر مقدمة كتاب العقيدة والشريعة، جولدزهير (ص: ك)، حيث أسهم الكوثري أيضًا هناك.
والجواب: نأخذه من كلام الكوثري نفسه:
إنهم أهل السنة والجماعة!! فهو يقول عن أهل الحديث في الهند: «وبعض طوائف الهنود أصبحوا أضر على الإسلام من اليهود» (1).
وهناك مصدر يهودي له أثره البالغ في تأسيس جذور المذهب الأشعري، ولم نشأ أن نجعله رأس موضوع؛ لأنه يحتمل الجدال، وهو فِكر (بشر المريسي)!.
وقد هدم الإمام الدارمي هذا الفكر، وأورد ما يدل على أن صاحبه تعمد الهدم والإفساد، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في بِشر (2)، وتعمُّد الإفساد أمرٌ متواترٌ في التاريخ اليهودي كله، ونماذجه قبل بِشر - مثل (بولس)، و (عبد الله بن سبأ)، وبعده مثل (القداح)، و (ابن كلس) - لا تخفى على ذوي الشأن.
وتوفي الدارمي رحمه الله ثم ظهرت بعده العقيدة الكُلَّابية الأشعرية، وكأنما هي نسخة من عقيدة بشر في كثير من الأصول؛ في الصفات، والإيمان، وخلق القرآن، وغيرها، خصوصًا في (التأويلات). والتأويل عند اليهود - منذ القدم - أصلٌ من أصول تعاملهم مع نصوص
(1) في تعليق على تبيين كذب المفتري (ص395)، وهو إن كان أدخل معهم غيرهم في هذا الحكم، لكنهم هم المقصودون من السياق، وحسبه أنه أدخلهم مع الطوائف المجمع على كفرها!!.
(2)
انظر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة في ترجمة بشر في الميزان، واللسان، وتاريخ بغداد. وانظر خلق أفعال العباد للإمام البخاري (ص32 - 34).
كتب الله ووحيه، ولونٌ من ألوان المكر اليهودي معها (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات)(2)، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر [الفخر] الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس)
…
هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابًا وسماه:(نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله من التوحيد)، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعدُ بها، وأعلمُ بالمنقول والمعقول من المتأخرين الذين اتصلت إليهم جهته وجهة غيره، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم.
(1) ولهذا استحدثته الماسونية العالمية منهم، ولتفسد به عقائد البشر. انظر الماسونية في العراء (ص250 - 252) محمد علي الزعبي، وانظر همجية التعاليم الصهيونية، رضا بولس، حيث ذكر تأويلات اليهود لكل ما ورد من النهي عن السرقة والزنا والقتل، بأن جعلوه على تقدير مفعول أو موصوف محذوف، أي: لا تقتل أخاك اليهودي، ولا تسرق مال أخيك اليهودي .. إلخ.
ولهذا جاء تلاميذهم من المعطلة المؤولة فجعلوا مثل هذه التقديرات في آيات صفات الله، والإيمان، والقدر، ونحوها.
(2)
هو كتاب (مشكل الحديث وبيانه) الذي سبق الحديث عنه.
ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفَّروهم أو ضلَّلوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي، تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (1).
والجدال الذي سبقت الإشارة إليه هو ادعاء بعض الأشاعرة المعاصرين أن يهودية بشر لا أثر لها في عقيدته، ونحن نستطيع إثبات هذا الأثر بالمقارنة، لولا أن هذا خارجٌ عما التزمناه هنا، وحسبك أن تعلم أن أمَّ بشرٍ أحدُ من شهد عليه بالزندقة، وقالت ذلك للإمام الشافعي (2)، وليست الزندقة إلا إظهار الإسلام وإبطان غيره، وما نحسب بشرًا يبطن شيئًا سوى عقيدة الآباء والأجداد.
(1) الحموية (ص14 - 15) نشر قصي الخطيب.
(2)
انظر تاريخ بغداد (7/ 59)، وخلق أفعال العباد (الموضع السابق).