الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيمان
هذا مثال آخر لتوسعهم في العقل المزعوم، وإلا فلَيْتَهم تركوا حقيقة الإيمان من (السمعيات)، فهي ليست قضية عقلية؛ لأن موضوعها نقلي بحت.
ألا ترى أن الشرع لو علق الكفر بارتكاب الزنا، لكان ذلك كفرًا، ولو تعبّد الناس بالسجود لغير الله لكان ذلك إيمانًا، ومع هذا فقد أقحموها في مجال البحث العقلي، وخاضوا فيها خوضًا فلسفيًّا، مع أن الفلاسفة أنفسهم لا يبحثونها.
يحسب بعض الخاصة - فضلًا عن العامة - أن الأشاعرة موافقون لأهل السنة والجماعة في الإيمان والعقائد، ولكن الذي يطّلع على أي كتاب من كتب الأشاعرة، أو كتب أهل السنة والجماعة؛ يتبين له حقيقة مذهبهم بجلاء.
فالأشاعرة في الإيمان مرجئة جهمية (1)، هذا هو صريح مذهبهم في مصنفاتهم، وعليه نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية في معظم كتبه، لا سيما كتاب (الإيمان) الذي أطال فيه في الرد عليهم، حتى أن حوالي
(1) مذهب جهم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، ومذهب الأشاعرة أن الإيمان هو التصديق المجرد بالقلب، فحقيقة المذهبين واحدة، وهي الاكتفاء بقول القلب دون عمله، ولا فرق بين أن يسمى معرفة أو تصديقًا. والكرامية جعلوه قول اللسان وحده، أما السلف فهو عندهم قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح، لكنه يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه.
ثلثي الكتاب إنما هو مناقشة لهم وحْدَهم.
وكونهم على رأي جهم في أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، يجعلهم في مرتبة أشد بدعة من مرجئة الحنفية الذين يطلق عليهم (مرجئة أهل السنة)، أو (مرجئة الفقهاء).
بل نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنهم أبعدُ قولًا من الكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط (1).
فهم في هذه المسألة على أسوأ الأقوال، وأكثرها بدعة وضلالًا، وهو قول جهم (2).
يقول القاضي الباقلاني فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به: «واعلم أن حقيقة الإيمان هو التصديق، واعلم أن محل التصديق هو القلب» (3).
وقال أبو المعالي الجويني بعد أن نكر مذاهب الناس في الإيمان، ومنها مذهب السلف:«والمَرضيُّ عندنا: أن حقيقته التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله مَن صدّقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس» (4).
فهم لا يُدخِلون الأعمال في الإيمان، لا أعمال القلوب، ولا أعمال الجوارح.
(1) انظر الإيمان (ص134 - 135).
(2)
انظر المصدر السابق (ص138).
(3)
الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق الكوثري (ص (55))، وهو المعروف بـ (رسالة الحرة).
(4)
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد (ص (397)).
بل إن الآمدي الأصولي المعروف، وزعيم الأشاعرة في جيل ما بعد الرازي يقول: «
…
وبهذا أيضًا يتبين فساد قول الحشوية: إن الإيمان هو التصديق بالجَنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان» (1).
وبعد إجماعهم على هذا، اختلفوا في النطق باللسان، أهو واجبٌ، أم يكفي مجرد حصول التصديق القلبي الذي هو مجرد كلام النفس!!.
قال في (الجوهرة):
وفسِّر الإيمان بالتصديق والنطق فيه الخلف بالتحقيق
وبناءً على هذا؛ أنكروا مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ولهم في النصوص الواردة في ذلك مسلكان:
الأول: ردها، والتصريح بنقيضها، وعليه كلام الجويني (2).
الثاني: تأويلها، ولهم في التأويل وجهان، نص عليها الباقلاني:
(1)
- قال: «إما أن يكون ذلك راجعًا إلى القول والعمل دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان» . أي: أن حقيقة الإيمان التي هي التصديق لا يعتريها شيءٌ من ذلك، وإنما يكون في المكملات الزائدة عن الحقيقة.
(2)
- قال: «أو يتصور ذلك من حيث الحكم، لا من حيث الصورة، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعًا إلى الجزاء
(1) غاية المرام في علم الكلام (ص311).
(2)
المصدر السابق (ص (399)).
والثواب، والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في التصديق» (1).
أي: أن الذي يزيد ويَنقُص هو الجزاء والثواب، والمدح والثناء.
وهذا أحد الآثار التعسفية لقولهم: إن الإيمان هو التصديق فقط، والكفر هو التكذيب فقط. بل بلغ الأمر بالجويني إلى أن يتحدث عن إيمان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بكلام غريب هذا نصه: «فإن قيل: أصْلُكم يُلزِمكم أن يكون إيمان منهمكٍ في فسقه كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم؟.
قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم يَفضًل من عداه باستمرار تصديقه، وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك، واختلاج الريب».
إلى أن يقول: «فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعدادٌ من التصديق، لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر» (2).
وهكذا يؤدي التأصيل الفاسد إلى التعسف في تفسير أعظم الحقائق، وليِّ أعناقها؛ لتوافق ما تقررّ مِن أصول، ولذلك لم يثبت لديهم من
(1) الإنصاف (ص57)، وانظر رد الحافظ ابن حجر على ابن العربي الأشعري، وأصحابه في ذلك: فتح الباري ((1) / (46)، (48))، مع أنه رحمه الله أخطأ في قوله: إن الأعمال شرط كمال عند السلف. فهذا مما لم يرد عن أحد منهم قط.
(2)
الإرشاد (ص400).
(3)
غاية المرام (ص313).
الفرق بين مقام النبوة في الإيمان، ومقام المنهمك في الفسق إلا هذا.
ومن الإلزامات التي لا محيد للأشاعرة عنها في هذا الباب: أن قولهم هذا يلزم منه الحكم بإيمان إبليس وفرعون، واليهود والنصارى، الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فضلًا عمن ناصر الدين وأيده كأبي طالب، ونحوه من المشركين؛ لأن هؤلاء جميعًا مصدقون بقلوبهم.
وأمام هذا الإلزام القاطع اضطرت الأشاعرة إلى القول بأن من نفى الشارع عنه الإيمان كهؤلاء، علمنا أنه ليس في قلبه تصديقٌ مطلقًا، وهذا ما حكم عليه شيخ الإسلام وغيره بأنه مكابرة وسفسطة.
ومما بناه الأشاعرة على هذا الأصل الفاسد قولهم: إن السجود للصنم، ولبس الصليب، والزنّار، وقتل النبي، وإهانة المصحف الشريف، أو الكعبة، ونحو ذلك، ليس كفرًا، إنما هو دليلٌ على الكفر الذي هو انتفاء التصديق من قلب فاعله (2).
(1) الإيمان (ص141)، ومثله في (ص142) وما بعدها.
(2)
انظر المصدر السابق (ص143)، وتفسير الفخر الرازي (2/ 42).
يقول الرازي بعد أن ذكر أن حقيقة الإيمان هى التصديق، وحقيقة الكفر هي التكذيب: «فإن قيل: يَبطُل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار، وشد الزنار، وأمثالهما فإنه كفرٌ، مع أن ذلك شيءٌ آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به؟.
قلنا: هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفرًا؛ لأن التصديق وعدمه أمرٌ باطنٌ لا اطلاع للخلق عليه، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى؛ لأنه لا سبيل إلى الاطلاع، بل يجعل لها معرِّفات وعلامات ظاهرة، ويجعل تلك المظان الظاهرة مدارًا للأحكام الشرعية، ولبس الغيار وشد الزنار من هذا الباب.
فإن الظاهر أن من يصدّق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دلّ على عدم التصديق، فلا جَرَم أن الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر» (1).
وواضحٌ من كلامه أنه ليس هناك فعلٌ مكفِّرٌ أصلًا، وهو كما ترى خلط بين حقيقة الكفر الباطنية التي لا يعلمها إلا الله، وبين جريان أحكام الدنيا، فإن موضوع تقرير حقيقة الكفر والإيمان مسألة عقائدية، أما جريان الأحكام الدنيوية فمسألة فقهية، وإن كان موضوعها عقائديًّا.
فلا يصح أن نستدل على أن هذه الأعمال ليست كفرًا بأننا لا نعرف ما في ضمير فاعلها؛ لأن الكفر قد يوجد في الباطن بدون هذه الأعمال، فكيف مع ارتكابها الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن كفر راسخ؛ قد يكون
(1) التفسير الكبير (2/ 42 - 43).
تكذيبًا، وقد يكون جحودًا، وقد يكون عنادًا. . إلى آخر أنوع الكفر التي ليس التكذيب إلا واحدًا منها.
وعلى كلامهم لا يمكن اعتبار أي كافرٍ كافرًا على الحقيقة - أي باطنًا وظاهرًا - إلا إذا صرَّح بلسانه بأنه ليس في قلبه تصديق، وما لم يصرح فمهما عمل من أعمال الكفر لا نعتبرها إلا علامات على التكذيب، نجري بها أحكام الكفر في الدنيا عليه، في حين أنه قد يكون مؤمنًا في الحقيقة، معدودًا عند الله من أصحاب الجنة.
والمطّلع على الكتاب والسنة وأحداث السيرة الصحيحة يعلم أنه ما كان فرعون، ولا أبو لهب، ولا أبو جهل، ولا حُييّ بن أخطب، فضلًا عن أبي طالب وأمثاله، يعتقدون في أنفسهم أن موسى أو محمدًا صلى الله عليه وسلم كاذب، ولا كان كفرهم هو التكذيب بمعناه الذي يقرره هؤلاء المرجئة، بل كان الرد والجحود، وعدم الإذعان والانقياد.
قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: (33)].
والموضوع يحتاج لمزيد بسط، فراجع كتاب (الإرجاء) تجد فيه ذلك، ولعل في هذه الإشارة ما ينير الطريق إن شاء الله.
ومن فروع ذلك: مسألة الاستثناء في الإيمان.
فأما أبو الحسن الأشعري نفسه فقد تناقض؛ فمع أنه على قول جهم في الإيمان، إلا أنه لم يخالف المشهور عن أهل السنة من جواز
الاستثناء، وقد فسّر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التناقض (1).
وأما أصحابه؛ فقد خالفه أكثرهم في ذلك، والذي عليه رأي المتأخرين: عدم جواز الاستثناء.
قال النسفي في العقائد المعروفة بالنسفية: «فإذا وجد من العبد التصديق والإقرار صحَّ له أن يقول: أنا مؤمن حقًّا، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمنٌ إن شاء الله» (2). وبنحوه قال الجويني والباقلاني.
فظهر مما سبق: أن مذهب الأشاعرة مباينٌ لمذهب السلف في أصل هذه المسألة، ولوازمها وفروعها.
أما الآثار العميقة التي تركها هذا الاعتقاد الفاسد في أعمال المنتسبين لهذا المذهب من آثار مذهبهم في الإيمان الخاصة والعامة، فهي مما لا يتسع المجال لعرضه، وحسبنا أن نعلم أن المؤمن الذي يعتقد جزمًا أن عمل القلب والجوارح جزءٌ من الإيمان، وأن إيمانه يزيد وينقص بحسب الطاعة والمعصية، يجد في نفسه من دواعي الغفلة والتفريط الشيء الكثير، فما بالك بمن لا يعتقد هذا من أصله؟! كيف تكون نظرته لنفسه أولًا، ثم كيف يكون منهجه في التعيير والإنكار على
(1) وهو أن أبا الحسن آمن بمذهب السلف إجمالًا - أي آخر عمره - لكنه لم يكن خبيرًا بتفصيلاته ومآخذه، على عكس معرفته بمذهب من عداهم، فقد كانت تفصيلية، كما في كتاب المقالات، فإنه فصَّل مذاهب سائر الفرق، وأجمل مذهب السلف في صفحتين تقريبًا. انظر الإيمان (ص115).
(2)
مجموع مهمات المتون (ص31)، وانظر الإرشاد (ص400)، الإنصاف (ص60).
من خالف أمر الله ثانيًا؟ وما أثر هذا على الحياة الإسلامية كلها؟.
إنها أسئلة ضخمةٌ، والأجوبة عليها ينطق بها واقع تاريخ الأمة الاسلامية منذ فشو هذه الأقوال البدعية إلى يومنا هذا.
وليت الأمر وقف عند تدهور الحياة الواقعية، وانطفاء جذرة الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولكنه تعداها إلى تغيير الحقائق الشرعية نفسها، وانتشار الأصول البدعية المغيِّرة في الطبقة العامة من الناس، حتى أصبحت عقائد راسخة، وأصبح المنادي بحقيقة التوحيد والإيمان شاذًّا منبوذًا، لا يتورعون عن نبزه بألقاب التكفير والخروج، كما جرى للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أكثر معاصريه في الأمة، ثم للعلماء المعاصرين، ولا يزالون.