المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السيرة النبوية عند ابن كثير: - منهجية التأليف في السيرة عند ابن كثير

[عبد الرحمن السنيدي]

الفصل: ‌السيرة النبوية عند ابن كثير:

‌السيرة النبوية عند ابن كثير:

تعد السيرة النبوية من الفنون الأساسية التي لا يستغني عن دراستها عالم أو فقيه، وفي نظر ابن كثير فإن الأيام النبوية مشتملة على علوم جمة، وفائدة مهمة، لا يستغني عنها عالم (1) .

وما ذاك إلا لأن موضوع السيرة الجوهري هو تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراحل دعوته وجهاده، وتعاليمه وهديه، ومعلوم أن الفقيه أو العالم يتعامل مع النصوص والأحكام التشريعية التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه ووظائفه، فهم الشريعة، وشرحها للناس، وإنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والمتغيرة، ومن الوسائل والأدوات المعينة على ذلك، فهم السيرة وواقعها التاريخي ومراحلها التي تزامنت مع نزول الأحكام والتشريعات.

فإذن لا غرابة أن يؤلف ابن كثير في السيرة النبوية، السيرة المطولة في "البداية والنهاية" والسيرة الموجزة وهي كتاب "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم".

ومسألة أخرى حدت بابن كثير إلى الاهتمام بالسيرة والتوسع فيها وتقصي رواياتها في كتابه الضخم "البداية والنهاية" فالمؤلف يرى في

(1) الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمد الخطراوي، ومحيي الدين مستو، دمشق، دار الكلم الطيب، ط9، 1420هـ، ص:79.

ص: 19

تاريخ السيرة واسطة عقد تاريخ الأمة المؤمنة التي يبدأ تاريخها منذ عهد آدم عليه السلام.

يضم كتاب ابن كثير "البداية والنهاية" سيرة مطولة، تضم السيرة بسياقها التاريخي المعروف ثم الشمائل والدلائل والفضائل والخصائص.

وقبل أن نبدأ في استعراض أهم عناصر هذه السيرة لا بد من الإشارة إلى أن "البداية والنهاية" هو عبارة عن موسوعة تاريخية شاملة تؤرخ لبدايات الخلق، ثم الأنبياء، ثم السيرة التي استغرقت نحواً من ستة أجزاء من الكتاب حسب طبعة مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر (1) ، التي تضم (21) جزءاً بما فيها جزء الفهارس والجزآن (19،20) وقد خُصِّصَا "للفتن والملاحم وأشراط الساعة".

وقد جاء الكتاب ثمرة عوامل أثرت في مكوناته واتجاهه الموسوعي وطابعه العام ومنهجه التاريخي والنقدي. ومن تلك العوامل:

(1) وهذه الطبعة هي التي سوف نعتمد عليها في دراستنا هذه وقد حققها عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، القاهرة، ط1، 1417هـ، وفي تقدير الباحث فإن هذه الطبعة قد عنيت بالكتاب خاصة قسم السيرة تحقيقاً وتخريجاً على نحو لم يتوافر في سابقاتها، ومن طبعات الكتاب السابقة طبعة دار السعادة بالقاهرة، 1348هـ، في (14) جزءاً، كما ظهرت طبعات أخرى للكتاب في بيروت، ومنها طبعة دار المعرفة بتحقيق، عبد الرحمن اللاذقي ومحمد غازي بيضون، ط1، 1416هـ، وطبعة المكتبة العصرية، بتحقيق عبد الحميد هنداوي، ط1، 1421هـ، للمزيد انظر: طبعات كتاب البداية والنهاية، في مقدمة تحقيق البداية والنهاية بدار هجر، ص:34-39.

ص: 20

ـ سعة اطلاع مؤلفه (ابن كثير) على كثير من المصادر، ومنها دواوين السنة وكتب السير والمغازي وكتب الدلائل وكتب التاريخ العام.

ـ تأثر ابن كثير بمنهج مؤرخي الإسلام الذين كتبوا في التاريخ العام كابن جرير وابن الأثير وابن الجوزي.

ـ انتماؤه إلى عصر ساد فيه النمط الموسوعي في التأليف.

ـ إيمان ابن كثير بوحدة الأمة الإسلامية وإدراكه لأثر الرسالة المحمدية في الحركة التاريخية لهذه الأمة.

ـ انتماء المؤلف إلى مدرسة الحديث والأثر، حيث يتضح أثر خلفية المؤلف في الحديث وعلومه في جانب من أقسام الكتاب ومنها السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، وتراجم العلماء والأئمة وآرائه في الرجال والآراء والمذاهب.

افتتح ابن كثير، قسم السيرة في البداية والنهاية بهذا العنوان:"كتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه، وشمائله وفضائله ودلائله الدالة عليه"(1) .

فبدأ بالنسب النبوي، وقد سرد ابن كثير مروياته ومقتبساته من مصادره المختلفة وفق نظام عرض تاريخي متدرج فانتقل من المولد ومتعلقاته إلى المبعث الذي عنون له هكذا:

(1) 3/353.

ص: 21

(كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من البشارات بذلك)(1) ، ومما تناوله هنا أبواب بدء الوحي ومجادلة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، وهجرة من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (3) ، كما تناول بدء إسلام الأنصار (4) ثم الهجرة من مكة إلى المدينة (5) ووقائع السنة الأولى الهجرية (6) .

وبعد ذلك انتقل إلى كتاب المغازي (7) في الأجزاء (5، 6، 7) وتلا ذلك كتاب الوفود (8) ، ثم كتاب حجة الوداع (9) ، وأخيراً تناول الآيات المنذرة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم (10) ، واحتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام، وأعقب ذلك أبواباً في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم (11) ، وخدامه وكتابه (12) ، وأبواباً في آثار النبي صلى الله عليه وسلم وما اختص به من ثياب وسلاح (13) ، وهكذا سار ابن

(1) 3/495.

(2)

4/5.

(3)

4/165.

(4)

4/371.

(5)

4/443.

(6)

4/510.

(7)

5/5.

(8)

7/232.

(9)

7/404.

(10)

8/61.

(11)

8/201.

(12)

8/301-321.

(13)

8/361.

ص: 22

كثير في ترتيبه للموضوعات التاريخية من السيرة إلى نمط من سبقه كابن إسحاق والواقدي والطبري وابن الأثير، واستفاد من البيهقي في تنظيم الأبواب (1) ، علاوة على استفادته من مواده ونصوصه.

وفي الوقت الذي حافظ فيه على الوحدة الموضوعية لكل حادثة فإنه يُذَكِّر بالسنة التي تندرج فيها الأحداث التي يسوقها، وذلك في الأحداث التي وقعت بعد الهجرة (2) .

وبعد أن استعرض الموضوعات التاريخية والجوانب الأسرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تناول ابن كثير ما سماه بـ (متعلقات السيرة) وهي في مفهومه (الشمائل، والدلائل، والفضائل، والخصائص)(3) ، ثم ساق رواياتها وأبوابها.

وقد أشار في مفتتح كتاب الشمائل إلى أنَّ أهمَّ المصادر المصنفة في هذا الجانب، كتاب الشمائل للترمذي (4) ، وعندما تناول الدلائل قسمها إلى دلائل معنوية ودلائل حسية.

فأما الدلائل المعنوية:

فتتمثل في القرآن الكريم (5) ، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه (6) .

(1) البيهقي: دلائل النبوة، 2/56، ابن كثير، البداية والنهاية 3/466، مثلاً.

(2)

انظر مثلاً: 6/495.

(3)

8/534.

(4)

8/385.

(5)

8/539.

(6)

8/549.

ص: 23

وهنا أحال على ما ذكره ابن تيمية في الجواب الصحيح من أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته أي من دلائل نبوته، ونقل منه ثمان صفحات حول هذا الموضوع (1) .

ثم انتقل إلى دلائل النبوة الحسية وقد قسمها إلى قسمين سماوية وأرضية، فمن الدلائل السماوية وأعظمها انشقاق القمر فرقتين (2) .

كذلك ذكر من آياته السماوية استسقاءه عليه الصلاة والسلام ربه لأمته (3) ، ثم تناول الدلائل الأرضية سواءً ما يتعلق بالجمادات أو الحيوانات (4) .

ثم تناول ابن كثير ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواءً بسواء (5) ، وقد أورد أولاً ما جاء من هذا القبيل في القرآن، ثم انتقل إلى الأحاديث والآثار، ثم تناول الأخبار بالغيوب المستقبلة مورداً أخباراً كثيرة أيضاً تندرج تحت هذا الموضوع، ثم عقد ابن كثير باباً طويلاً عنوانه:

(1) 8/549-557.

(2)

8/558.

(3)

8/589.

(4)

8/604.

(5)

9/144.

ص: 24

(التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله أو أعلى منها خارجاً عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم تكن لأحدٍ قبله منهم عليهم السلام .

ويقوم هذا الكتاب على الموازنة بين معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم ويعكس ذلك تأثره بكُتَّاب الدلائل النبوية كأبي نعيم الأصبهاني (1) وابن حامد: أبي محمد عبد الله بن حامد الفقيه صاحب كتاب "دلائل النبوة"(2) .

وأخيراً يختم ابن كثير سيرته بقصيدة لجمال الدين يحيى بن زكريا الصرصري (ت:656هـ) في الموازنة (3) بين معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي ثنايا سيرة ابن كثير تلك ثمة مظاهر تكشف لنا عن طبيعة هذه السيرة وسماتها العامة ومن ذلك جمع الروايات من مصادر مختلفة وتقصي ما ورد في كل موضوع من موضوعات السيرة، وشمولية هيكل السيرة عنده، وعدم اقتصاره على الموضوعات التي شكلت الهيكل الأساس للسيرة عند كُتَّاب السير الأوائل.

(1) انظر: دلائل النبوة: لأبي نعيم الأصبهاني، فصل ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات، ج2، ص:587،وابن كثير: البداية والنهاية (باب التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله) 9/305.

(2)

يصفه ابن كثير بأنه كتاب جليل حافل مشتمل على فوائد نفيسة اقتبس منه ابن كثير في أبواب الدلائل في عدة مواضع منها على سبيل المثال: 9/20-309-321-338-340-355.

(3)

9/411.

ص: 25

كما يظهر في سيرة ابن كثير نقد الأسانيد والمتون كأحد المظاهر المميزة لهذه السيرة (وسوف نتناول ذلك لاحقاً) .

لا يقتصر التأليف في السيرة عن ابن كثير على السيرة في "البداية والنهاية"، فهناك كتاب "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" وهو كتاب مختصر موجز قياساً إلى السيرة الواردة في "البداية والنهاية"، وقد صنفه لشعوره بحاجة أهل العلم لمعرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية، كما يبدو أن هذه السيرة جزءٌ من مشروع لعرض التاريخ الإسلامي بصورة موجزة، هذا ما يبدو لنا من قول ابن كثير: إنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عنها عال ولا يعذر في العُرُوِّ منها، وقد أحببت أن أعلق تذكرة في ذلك لتكون مدخلاً إليه وأنموذجاً وعوناً له وعليه، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته وأعلامه، وذِكر أعلام الإسلام بعده إلى يومنا هذا (1) .

لقد طبعت هذه السيرة في القاهرة سنة 1357هـ تحت عنوان (الفصول في اختصار سيرة الرسول) دون تحقيق، ثم طبع الكتاب بتحقيق الدكتور محمد العيد الخطراوي، ومحيي الدين مستو، بيروت، 1399هـ، ثم توالت طبعات هذا الكتاب.

(1) الفصول في سيرة الرسول، ص: 79-80.

ص: 26

وأخرج عدد من الباحثين موضوعات الأنبياء بما فيها الشمائل من "البداية والنهاية" في كتب مستقلة.

فقد عمد مصطفى عبد الواحد إلى "البداية والنهاية" وحقق قسم السيرة في أربعة أجزاء، ويذكر أنه اتجه إلى نشر السيرة النبوية لابن كثير، وهي ذلك القسم الذي أفرده ابن كثير لأخبار العرب في الجاهلية، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتاريخ دعوته حتى وفاته. على اعتبار أن هذا القسم هو السيرة النبوية (المطولة) التي أشار إليها ابن كثير في تفسيره (1) .

وفي رأي (إسماعيل عبد العال) فإن هذا الكتاب المحقق ليس هو الذي أفرده ابن كثير في السيرة، وعبارته واضحة حين قال:(أفردناه موجزاً وبسيطاً، وإذا كان الموجز منهما مستقلاً عن "البداية والنهاية" فإن البسيط يكون كذلك)(2) .

ونميل إلى القول بأن كتاب ابن كثير المفرد في السيرة والذي من سماته الإيجاز والتبسيط كما يقول ابن كثير (3) هو "الفصول في سيرة الرسول" ولعل مما يقوي ذلك أنه أورد في بعض طبعات التفسير المحققة قول ابن كثير: (الذي أفردناه موجزاً ومقتصاً)(4) ، والإيجاز والاقتصاص إنما ينطبقان فقط على كتاب الفصول وقد راجعت ثلاث طبعات

(1) مقدمة تحقيق السيرة النبوية لابن كثير، ص:12-13.

(2)

ابن كثير ومنهجه في التفسير، ص:52.

(3)

تفسير القرآن العظيم، القاهرة، دار الحديث، 1415هـ، جزء 3، ص:460.

(4)

تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد السلامة، الرياض، دار طيبة، 1420هـ، 6/398.

ص: 27

للتفسير (1) إلا أنها لم تورد عبارة مطولة في وصف كتابه المفرد في السيرة وفي ثنايا كتاب "البداية والنهاية" وعندما يحيل ابن كثير إلى السيرة فمرادُه ذلك القسم من "البداية والنهاية"، ومن صور إحالاته عليه قوله:(كما سيأتي في بيان ذلك في السيرة) و (كما ذكرنا في السيرة وذكرنا بأسانيده في أول السيرة) و (تقدم بسطه وبيانه في أول السيرة)(2) .

كذلك نرجح أن يكون كتاب السيرة الذي خضع للإيجاز والاقتصاص هو كتاب السيرة الوارد في "البداية والنهاية" المتسم بطوله وجامعيته وشموله لجوانب السيرة كافة والمستوعب للروايات والآراء في مجال السيرة الجامع بين هيكل السيرة التاريخي وهيكلها عند كُتَّاب الشمائل والدلائل.

كذلك أخرج مصطفى عبد الواحد شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه في كتاب مستقل (3) ، وكذلك فعل عبد القادر الأرناؤوط (4) ، وهناك باحثون ومحققون آخرون (5) ، أخرجوا أقساماً من

(1) بالإضافة إلى الطبعتين المشار إليهما في الهامشين السابقين، طبعة بتحقيق محمد أنس الخن، بيروت، 1421هـ، مؤسسة الرسالة، ص:1053.

(2)

3/298، 9/329-385-405.

(3)

طبع في القاهرة، 1967م.

(4)

طبع في الرياض نشرته مكتبة العبيكان، ط1، 1422هـ.

(5)

من هؤلاء: كنعان: محمد بن أحمد: السيرة النبوية والمعجزات والمغازي النبوية، بيروت، مؤسسة المعارف، 1417هـ، الهلاوي: محمد عبد العزيز: معجزات النبي للحافظ ابن كثير، القاهرة، 1419هـ، عبد الشافي: أحمد: السيرة النبوية، بيروت، دار الكتب العلمية (د، ت) هذا بالإضافة إلى مستخرجات أخرى من كتاب البداية والنهاية.

ص: 28