الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله جل جلاله
الرب الأعلى عند المسلمين (*)
(*) ورد فى التعريف أنه علم على الإله المعبود بحق، الجامع لكل صفات الكمال، تفرد سبحانه وتعالى بهذا الاسم لا يشركه فيه غيره. واختلف اللغويون فى لفظه فقيل: إنه علم غير مشتق، فهو اسم موضوع هكذا لله عز وجل وليس أصله "إلاه" ولا "لاه"، وليس من الأسماء التى يجوز فيها اشتقاق فعل، كما يجوز فى الرحمن والرحيم.
وقيل إنه مشتق وأصله "إلاه" ، ثم دخلت عليه الألف واللام، فقيل "الإلاه"، ثم حذفت همزته تخفيفا لكثرة الاستعمال وأدغم اللامان مع التفخيم.
وبين لفظى: الله والإله فروق فى الاستعمال.
قالوا؛ ويجوز أن ينادى اسم الله وفيه لام التعريف وتقطع همزته تفخيما فيقال: يا الله، وقد توصل فيقال يالله، ولا يجوز يا الإله على وجه من الوجوه مقطوعة همزته أو موصولة.
ولام لفظ الجلالة مفخمة إلا أن يكون ما قبله مكسورًا، فترفق، مثل: بالله.
وقد تحذف مدَّة اللام، قال أبو الهيثم: قالت العرب باسم الله. بغير مدة اللام وفى اللسان:
أقبل سيل جاء من أمر الله
…
يحرد حرد الجنة المغله
[يحرد: يقصد]
ويقال فى التعجب: لاه أبوه، أى لله أبوه بحذف لام التعجب وأل، قال ذو الإصبع العدوانى:
لاه ابن عمك لا أفضلت فى حسب
…
عنى ولا أنت ديّانى فتخزونى
[تخزونى: تقهرنى]
وحكى أبو زيد: الحمد لاه رب العالمين.
وقال الأزهرى: لا يجوز فى القرآن إلا (الحمد لله رب العالمين) بمدة اللام، وإنما يقرأ ما حكاه أبو زيد الأعراب، ومن لا يعرف سنة القرآن.
وقد نحتوا من لفظ الجلالة مع غيره من الكلمات، فقالوا البسملة، والحمدلة والحوقلة، فى باسم الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقالوا فى المدح والتعجب: لله درك، ولله أبوك، ومعناها ولله أنت! !
أما "اللهم": ترد: للدعاء: ومعناها يا الله، وفى القرآن الكريم:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} ، "آل عمران: 26"، وفى الحديث: "
…
اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون."،
وقال أبو خراش الهذلى:
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأى عبد لك لا ألما؟
قال الخليل، وسيبويه، وكثير من النحاة: إن الميم المشددة عوض عن "ياء" النداء، ولذلك لا يجتمعان، فلا يقال: يا اللهم، وذلك من خصائص هذا الاسم، وريما اجتمعا فى ضرورة الشعر.
[المعجم الكبير - مادة الله]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد ورد فى الموسوعة العربية الميسرة:
الله: اسم للألوهية التى تعترف بها الديانات الثلاث الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام، والله فى الإسلام لفظ قرآنى عربى، يرجح أنه لا يرجع إلى أصل آرامى، وقد وصف الله جل وعلا فى الإسلام بالصفات التى تعرف بالأسماء الحسنى. ومنها: الملك، القدوس، السلام ، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، الغفار، القهار، السميع، البصير، الخبير، الصمد، القادر، الرزاق، الظاهر، إلى آخر صفات الكمال، وهى أسماء مختلفة لحقيقة واحدة، ثابتة فى القرآن الكريم. وقد استعملت التوراة أسماء مختلفة للدلالة على الذات الإلهية، أشهرها كلمة "يهواه" التى عدل عنها تعظيما وإجلالا واستبدل بها كلمة "أدوناى" بمعنى "مولاى". وأعظم الأسماء الحسنى التى وردت فى التوراة كلمة "الوهيم" ومعناها "الوه" .. وكذلك وردت كلمة "ال" فى العهد القديم اسما للذات الإلهية. وهى فى الأعم الأغلب مركبة مع كلمة أخرى مثل "اليشع". وتدل فكرة الألوهية بوجه عام على الموجود اللامتناهى، الخير المطلق، الخالق، العليم القدير. والعقل البشرى بقواه الذاتية يستطيع أن يثبت وجود الله عن طريق الاستدلال المنطقى من ناحية، وتأمل مخلوقات الله من ناحية أخرى، وقد أقام فلاسفة الدين، وخاصة توما الأكوينى، عدة براهين لإثبات وجود الله تتلخص فى خمسة، وهذه البراهين لها أصول عند أرسطو، ولكن القصد عندهما يختلف اختلافا جوهريا، ويسمى، الدليل الأول "دليل الحركة" وينتهى إلى ضرورة وجود محرك أول لا يتحرك، هذا المحرك الذى لا يتحرك هو الله، ويقوم الدليل الثانى على أن الموجود المتحرك يحتاج إلى علة فاعل، وينتهى إلى أن الله هو العلة الأولى، ويعتمد الدليل الثالث على فكرة الواجب والممكن والممتنع ويخلص إلى أن الله واجب الوجود. أما الدليل الرابع فيعتمد على فكرة الغائية، وأن نظام الطبيعة يقتضى موجودا عاقلا يوجه الأشياء إلى غايتها، وكذلك يؤدى العقل إلى وصف الذات الإلهية بعدة صفات، سلبية تنفى عنه مالا يليق به من ناحية الكمال المطلق وثبوتية تعتبر من مظاهر هذا الكمال، فهو ليس بجسم ولا هو مركب، بل وجوده عن ذاته، وبذا تسقط فكرة وحدة الوجود، وصفاته الثبوتية ضربان، أحدهما يعبر عن الذات من حيث هى مثل الكمال المطلق والخير المحصن والوجود اللامتناهى، وأنه واحد، لا شريك له، والآخر يعبر عن صلة الله بمخلوقاته كالعلم والقدرة والعدل، وهى تختلف عن صفات المخلوقات المماثلة أشد الإختلاف، أى أن الله ليس مصدر النظام وكفى، ولا مصدر الحركة الأولى وكفى، ولكن الله خالق كل شيء، و "هو بكل خلق عليم" ليس له مثيل فى الحسن ولا فى الضمير، بل له "المثل الأعلى" و "ليس كمثله شيء".
[الموسوعة العربية الميسرة الطبعة الأولى. القاهرة. مادة الله]
[د. خلف عبد العظيم الميرى]
أ - عقيدة الجاهليين فى الله:
مما لا شك فيه أن العرب قبل محمد [صلى الله عليه وسلم] قالوا بوجود إله على نحو ما، سموه "الله" أو "الإله"، وعبدوه نوعًا من العبادة. وهذه الكلمة إما أن تكون من أصل عربى صحيح، وإما أن تكون آرامية الأصل مشتقة من كلمة "ألاها" ومعناها الله. وليس يعنينا الآن أن نفحص عما إذا كان "الإله" فى نظرهم يمثل فكرة مجردة، أم أنه كان يمثل تدرجهم فى تصور إله معين مثل هُبَل. (انظر ما كتبه فى هذا الموضوع Reste arabischen Heident-: Wellhausen ums، الطبعة الثانية، ص 117 وما بعدها، وكذلك ما كتبه نولدكه عن العرب فى الجاهلية فى Dic-: Hasting tionary of religion and ethics . جـ 1، ص 662).
أما فى هذا المقام فيكفينا أن نستشهد على تصور أهل مكة لله بما ورد فى القرآن. فقد جاء فيه أنهم كانوا يقولون أن الله هو الخالق الرازق (سورة الرعد الآية 16 *؛ سورة العنكبوت، الآية 61 ،63؛ سورة لقمان، الآية 25 *؛ سورة الزمر، الآية 38؛ سورة الز خرف، الآية 9 * والآ ية 87. وجاء فى الآية 17 من سورة الرعد) والآية 63 من سورة العنكبوت حكاية عن أهل مكة أنهم كانوا يؤكدون أن الله هو الذى ينزل من السماء ماء) وكانوا يجأرون إلى الله إذا مسهم الضر (سورة يونس الآية 22؛ سورة النحل الآية 53؛ سورة العنكبوت، الآية 65؛ سورة لقمان، الآية 32) وهذه الآيات تؤلف كلا لا ينفصل ولا يكاد يكون لكل واحدة منها وزن وهى منفردة (1).
وكانوا يعترفون بالله ويقسمون به جهد أيمانهم (سورة الأنعام، الآية
(1) هذه الآيات التى استشهد بها الكاتب متصلة المعنى مطردة السياق فى مكانها من سورتها، ويظهر أنه حين ارتأى هذا الرأى لم يكن قد استوعب معانى الآيات وأدرك دلالاتها، ولعله اعتمد على الفهارس التى ضمت المعانى المتحدة فى القرآن الكريم وعنى بجمعها بعض المستشرقين.
جاد المولى
إيضاح الآيات التى بجوارها (*) فى هذه الصفحة تم ضبطها على المصحف الشريف طبعة الأزهر وكانت أرقامها فى الطبعة الأصلية 17 ، 24 ،137 وأثبتنا ما نراه صوابا.
[المحرر]
109؛ سورة النحل، الآية 38؛ سورة فاطر، الآية 42) ويجعلون له نصيبا من الحرث والأنعام مميزًا عن أنصبة الآلهة الأخرى (سورة الأنعام، الآية 138،139 *) وكانوا يقولون إن الله لم يحرم عليهم قط أن يشركوا به، (سورة الأنعام، الآية 148؛ سورة النحل، الآية 35)(1)، وكانوا يقولون أيضًا بوجود آلهة أخرى تخضع لله انصرفوا إلى عبادتها فى حمية وحماسة.
وليس (2) من السهل دائمًا أن نميز بين آرائهم وبين تفسير محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الآراء، وبخاصة بين الألفاظ التى استعملوها هم، والألفاظ التى استعملها هو. ومما لا شك فيه أنهم اعتبروا بعض الآلهة بنات لله (3)(سورة الأنعام، الآية 100؛ سورة النحل، الآية 57؛ سورة الصافات الآية 149؛ سورة النجم، الآية 21)؛ مثل اللات والعزى ومناة أو منات. (انظر سورة النجم، الآية 19، 20). وذهب البعض إلى أن اللات (4) تحريف لكلمة "اللهَ". وجعلوا لله بنين أيضًا (سورة الأنعام، الآية 100)، على أننا لا نستطيع أن نقول أكان أهل مكة قد أطلقوا على هؤلاء الآلهة لفظ "شركاء"(5)، وربما كانت تسميتهم لهم "بالملائكة"
(1) ورد فى الأصل أنها سورة الصافات الآية 168 وهو خطأ صوابه ما أثبتناه لأنه لا يوجد فى سورة الصافات آية بهذا المعنى وهو موجود فى سورة النحل آية 35.
المحرر
(2)
لا يخفى على القارئ أن الكاتب جرى على أن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الأساس تقوم بحوثه، ويعوزها التثبت والإنصاف.
جاد المولى
(3)
لم يرد أن العرب جعلوا آلهتهم بنات الله، وما جاء فى القرآن إنما هو عن زعمهم أن الملائكة بنات لله. وأما الرد على من جعل لله البنين فإن المقصود به النصارى وبعض فرق اليهود.
(4)
هذه الدعوى خاطئة من جهة النقل. فإن الذى فى كتب التفسير عند قوله تعالى {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
…
} أنهم اشتقوا "اللات" من "الله". وفى تفسير سورة النجم: "اللات" مؤنث "الله". على أن هذه الأقوال ضعيفة. والذى رواه البخارى عن ابن عباس " أن اللات كان رجلا يلت السويق للحاج".
محمد حامد الفقى
(5)
القرآن صريح فى أن المشركين أطلقوا على الأصنام اسم الشركاء لله تعالى فقد جاء فى سورة الأنعام الآية 136" {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ومن هذا يتجلى أن الكاتب لم يقف على ما جاء فى القرآن فدراسته ناقصة.
جاد المولى
أقل احتمالا. وكان أهل مكة فى جميع الأحوال العادية يعبدون هذه الآلهة دون الله، كما كانوا يؤثرونها بالقرابين دونه ويرجحونها عليه (سورة الأنعام، الآية 138 * وما بعدها)، وكانوا يقولون إنها على الأقل كانت تشفع لهم عنده. (سورة النجم، الآية 26) على أنهم لم يكونوا على يقين من أن هذه الآلهة كانت قادرة على الخلق (سورة الرعد، الآية 16 *. ولهذا كانوا يرجعون إلى الله إذا مسهم الضر لأنهم كانوا لا يشكون فى قدرته على الخلق.
كما أنه من المحقق أن أهل مكة جعلوا بينه وبين الجنّة نسبا (سورة الصافات، الآية 158؛ انظر استعمال كلمة نسب فى سورة الفرقان الآية 54 *، وسورة "المؤمنون"، الآية 101 *)، وجعلو هم شركاء لله (سورة الأنعام، الآية 100)، وقدموا لهم القرابين، (سورة الأنعام، الآية 128) ، وكانوا يعوذون بهم (سورة الجن، الآية 6).
ولسنا نعلم علم اليقين هل كانت قد وجدت لديهم فكرة عن الملائكة، أو أنهم جعلوهم شركاء لله، وربما كان هذا تفسيرًا من عند محمد صلى الله عليه وسلم (1)(سورة الأنعام، الآية 100؛ سورة الطور، الآية 39 *). أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن رأيه واضح فى هذه الأمور: فإنه إلى جانب قوله بوجود الله يقول بوجود الملائكة ووجود الجن مع الشيطان، وأن الشياطين كانت على صلة بالجن والملائكة، وهذه (2) الكائنات هى التى كان أهل مكة يجأرون إليها فى الواقع، ولكنها لم تكن تملك لهم نفعا ولا ضرًا (سورة الإسراء، الآية 56 *). أما اعتبارهم هذه الكائنات إناثًا وتسميتهم لها بأسماء، فهو إفك ظاهر البطلان. ويبدو من هذا أنه مهما يكن الأمر بمكة فى عهدها الأول، ومهما يكن الأمر فى بقية بلاد العرب، ومهما يكن أصل الأسماء التى أطلقوها على هذه الكائنات
(*) وردت فى الأصل 137.
(*) الآيات التى بجوارها * كانت فى الأصل 17، 56، 103 ، 28 وأثبتنا ما نراه صوابا على المصحف الشريف طبعة الأزهر.
المحرر
(1)
إنا نعجب من صنيع هذا الكاتب فبينما يعتمد على نصوص القرآن الكريم ويطمئن إليها فى بحوثه إذا به يخلط ويعد بعض الآيات تفسيرا من عند النبى صلى الله عليه وسلم ولا يستند فى دعواه إلى دليل.
جاد المولى
(2)
لم يعرف عن العرب أنهم عبدوا الشياطين، إنما كان بعضهم يعبد الجن، وبعضهم يعبد الملائكة. ثم إن الآية التى أشار إليها الكاتب فى الأصل 58 لا علاقة لها بما أشار إليه. وصوابها ما أثبتناه.
محمد حامد الفقى
- فإن الدين فى مكة أيام محمد لم يكن وثنية ساذجة، بل كان أشبه بالعقيدة المسيحية التى جعلت للقديسين والملائكة مقامًا بين الله وعباده. وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يرى أنه جاء مصلحًا يدعو إلى عقيدة أكثر بساطة وقدمًا ويعيد الملائكة والجن إلى مكانهم الصحيح.
ب - عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم فى الله:
تبدو عقيدة محمد بسيطة واضحة فى الركن الأول من أركان الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. ومعنى هذا عند محمد صلى الله عليه وسلم وعند أهل مكة هو أن الله وحده هو الإله الحق دون سائر الآلهة التى كان يعبدها أهل مكة. وشهادة أن لا إله إلا الله لم تتعرض لماهية الله، وإنما تعرضت فقط لبيان مقامه. وعلى هذا فكلمة "الله" كانت ولا تزال اسم العلم الذى يطلق على الخالق عند المسلمين. وهى تقابل كلمة "يهوه" Yahwe عند اليهود، لا كلمة "إلوهيم" Elohim . وليس لكلمة "الله" جمع، وإذا أراد المسلمون الكلام عن الآلهة بالجمع فإنهم يلجئون إلى جمع كلمة "إله". وهى اسم جنس يرجح أن كلمة "الله" اشتقت منه. وكان محمد صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الجمع عند كلامه عن الآلهة الأخرى، التى كان أهل مكة يشركونها مع الله، (سورة الأنعام، الآية 19)، وقد حذا حذوه المسلمون فى ذلك، ولو أنهم آثروا أن يطلقوا على تلك الآلهة اسم الأصنام أو الأوثان تمييزًا لها: (انظر مادة "الله" فى - Hast Dictionary of religion and ethics: ing .
على أنه وإن كان اسم "الله" واحدًا عند أهل مكة وعند محمد صلى الله عليه وسلم فإن تصورهم لحقيقة الله لابد أن يكون مختلفا اختلافًا بينًا. ومن الواضح أن أهل مكة على وجه عام لم يكونوا يخافون الله، وإنما خوفه كان من أركان عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أهل مكة يظنون الله بعيدًا عنهم بعدًا عظيمًا، فى حين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يقول إن الله قريب جدًا فى كل لحظة، بل هو أقرب إلى الناس من حبل الوريد، (سورة ق، الآية 16). ولم يتردد أهل مكة فى عصيان الله وعبادة آلهة أقل شأناً.
وقد عرّف محمد صلى الله عليه وسلم الله بأنه الملك، المنتقم الغيور وأنه سيحاسب الناس
من غير شك ويعاقبهم فى اليوم الآخر. وبذا تحولت تلك الفكرة عن الله إلى ذات لها خطر عظيم.
وينبغى لنا الآن أن نتبسط فى الكلام على هذه الذات، ومن حسن التوفيق أن لوازم السجع (1) فى وصف الله بعدة صفات يتردد ذكرها كثيرًا فى القرآن الكريم (سورة الأعر اف، الَا ية 180 *؛ سورة الإسراء، الآ ية 110؛ سورة طه، الآية 8 *؛ سورة الحشر، الآية 24) وتبيَّن شغف محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات وشدة تمسكه بها. وكانت الفطرة السليمة هى التى دفعت المسلمين بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى جمع هذه الصفات وتقديسها. وهذه الصفات تعبر عن حقيقة الله عند محمد أحسن مما تعبر عنها الصفات التى ذكرها علماء الكلام فى القرون الوسطى
…
(انظر عن أسماء الله الحسنى المقال الذى كتبه Redhouse فى. Jour. of the Roy. As. Soc سنة 1880، جـ 12، ص 1 - 69).
جـ - الله فى ذاته:
تبدو أسماء الله الحسنى لأول وهلة مجموعة من الألفاظ الدالة على التجسيم والعبارات الميتافيزيقية، ومع ذلك فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم عندما يتحدث عن يدى الله (سورة المائدة، الآية 64 *؛ سورة ص، الآية 75)، أو عن قبضته (سورة الزمر، الآية 67)، أو عن أعينه (سورة القمر الآية 14)، أو عن وجهه (سورة البقرة، الآيتان 115 و 272 *؛ سورة الأنعام، الآية 52؛ سورة الكهف، الآية 28 * إلخ .. )، أو عندما يصفه بالاستواء على العرش (سورة طه، الآية 5 * وغيرها) فإنه ينبغى ألا نرد ذلك إلى العقيدة القائلة بالتجسيم،
(1) كان يجمل بالكاتب قبل أن يلقى الكلام جزافا عن القرآن أن يدرس اللسان العربى وأطواره التاريخية وتطبيق ما جاء من الفواصل فى القرآن على قواعد السجع وأنواعها، وتكفى شهادة قريش فى سجع القرآن وفواصله، وأنه فى أعلى طبقات البلاغة. ويظهر أن الكاتب قرأ أن كُتّاب اللسان العربى فى العصور المتأخرة كانوا يفسدون المعانى فى سبيل الألفاظ ويتكلفون السجع فأجرى حكمه على عصور البيان العربى وأدرج فيها القرآن.
جاد المولى
(*) الآيات التى بجوارها * كانت فى الأصل 179 ، 7، 69، 109، و 274، 27، 4 وتم ضبطها فيما أثبتناه تصويبا.
المحرر
لأن الصفات فى هذا الوضع أقرب إلى مجازات. وإذا راعينا المصطلحات الفنية فإنا لا نجد فى هذه الأوصاف سوى المجاز. أما التجسيم والتشبيه فكان ظهورهما عند المفسرين المتأخرين. وهذا هو الحال فى العبارات الميتافيزيقية.
وقد استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يصف الله بصفات واضحة معينة، مثل الأول والآخر والظاهر والباطن (سورة الحديد، الآية 3) وأنه القيُّوم (سورة البقرة، الآية 255 *؛ سورة آل عمران، الآية 2 *).
أما صفة "واجب الوجود" فقد نشأت عند علماء الكلام المتأخرين، فالله إذًا هو الواحد الحى (سورة البقرة، الآية 255 *؛ سورة آل عمران، الآية الثانية *، إلخ
…
)، المتعال (سورة الرعد، الآية 9 *)، العليم الواسع (سورة البقرة، الآية 247 *، الخ
…
)، القادر (سورة البقرة، الآية. 20 *، إلخ .. ) الغنى (سورة البقرة، الآية 267 وغير ها)، البديع (سورة البقرة، الآية 117 *؛ سورة الأنعام، الآية 101)، الباقى (لم ترد هذه الصفة فى القرآن، ولكن الفعل المشتق منه كثيرًا ما يرد فى القرآن مسندا إلى الله)، الصمد (سورة الإخلاص، الآية الثانية) ويقابلها فى اليونانية "أباكس ليكومينون "، ولم يكن المفسرون المتقدمون يعرفون أصل هذه الكلمة ومعناها الصحيح على وجه التحقيق؛ انظر الطبرى، جـ 30، ص 196، س 7).
ومن صفاته أيضًا العزيز والعظيم والقهار (سورة يوسف، الآية 39، وغيرها)، والمتكبر (سورة الحشر، الآية 23؛ وهى صفة نقص إذا أسندت إلى غير الله) والكبير والحميد، والمجيد، (سورة هود، الآية 73 *؛ سورة البروج، الآية 15، وهى صفة يوصف بها القرآن، أما صفة "الماجد" فلم يرد ذكرها فى القرآن) والكريم، وذو الجلال والإكرام، (سورة الرحمن، الآية 78)، والجليل (هذه الصفة لم يرد ذكرها فى القرآن، ولكن كثيرًا ما
(*) الآيات التى بجوارها (*) فى هذه الصفحة كانت 256 ،1 ،256 ، الآية الأولى، 10 ،248 ، 19 ، 265 ، 3 ،76 وأثبتنا ما نراه صوابا.
المحرر
يرد معناها فى ألفاظ أخرى)، والقوى والمتين (سورة الذاريات، الآية 58)، والعليم واللطيف (سورة الأنعام، الآية 103 وغيرها)، والخبير (ترد فى القرآن كثيرًا)، والحكيم والسميع والبصير والملك القدّوس، (سورة الحشر، الآية 23، سورة الجمعة، الآية الأولى). وصفة القدّوس وحدها من أسماء الله الحسنى ولكنها لا ترد إلا مع كلمة ملك، ولسنا نعرف على وجه التحقيق المعنى الذى يريده محمد [صلى الله عليه وسلم] من كلمة قدّوس، ولعلها من صفات التنزيه، ويستعمل مصدر هذه الكلمة بمفرده للدلالة عى روح القدس "جبريل" وعلى الأرض المقدسة والوادى المقدس الذى لقى فيه موسى [عليه السلام] ربه والملائكة الذين يسبحون الله. ويذهب المفسرون إلى أنها من صفات "التنزيه".
ومن أسمائه أيضًا السلام (سورة الحشر، الآية 23). وهذه الصفة لم ترد إلا فى الآية 23 من سورة الحشر. ويرى المفسرون أن معناها "السلامة" أى البراءة من النقائص والعيوب، وهو تفسير محتمل.
ومن صفاته أيضًا "العدل". وهذه الصفة لم ترد إلا فى الحديث. ولكنها جديرة بأن تعد من الصفات، لأنه لا يوجد من أسماء الله الحسنى ما يؤد معناها. وأقرب الصفات إليها صفة "خير الحاكمين" (سورة الأعراف الآية 87 *؛ سورة يونس، الآية 109؛ سورة يوسف، الآية 80.
ومن صفاته كذلك "البر"(سورة الطور الآية 28)، ونور السموات والأرض (سورة النور، الآية 35).
ومن صفاته أيضاً "الحق"، وترد كثيرًا فى القرآن الكريم عند الكلام على كنه رسالة محمدًا [صلى الله عليه وسلم]"الحق من ربك" كما أنها ترد مقرونة باسم الله (سورة طه، الآية 114 *؛ سورة الحج، الآية 6، 62.؛ سورة النور، الآية 25 سورة لقمان، الآية 30، وجاء فى هذه الآيات أنه "الملك الحق" و "هو الحق").
(*) الآيات التى بجوارها (*) كانت فى الأصل 85، 113، 61 وأثبتنا ما نراه صوابا.
المحرر
هذه الصفات تصور الله كائنًا غنيًا بنفسه، أبديًا واسع القدرة والمعرفة، محيطًا بكل شيء وأنه الحق وحده.
د - صلة الخالق بخلقه:
يأتى بعد ذلك الكلام عن صلة الخالق بخلقه، لأنه لا موجود سوى الله وما خلق. فالله هو الخالق (سورة الحشر، الآية 24 وما بعدها)؛ البارئ سورة البقرة، الآية 54 *)، والمصور (سورة الحشر *، الآية 24)، والمبدئ والمعيد، وهذان الاسمان ليسا من الصفات التى فى القرآن ولكن معناهما كثيرًا، ما يرد فيه (سورة العنكبوت، الآية 19 *؛ سورة البروج، الآية 13)؛ والمحيى (سورة فصِّلت، الآية 39، وكثيرًا، ما يرد هذا المعنى فى القرآن)، والمميت (لم يستعمل هذا الاسم صفة فى القرآن ولكن معناه كثير الورود فيه، سورة الحجر، الآية 23)، والوارث، (سورة ألحجر، الآية 23 *)، والمحصى (لم يستعمل هذا الاسم صفة فى القرآن الكريم ولكن معناه كثير الورود فيه، انظر سورة يس، الآية 12 *؛ سورة النبأ، الآية 29)، والباعث (لم يستعمل هذا الاسم صفة فى القرآن ولكن معناه كثير الورود فيه)، والجامع (سورة آل عمران، الآية 9 *؛ سورة النساء، الآية 140 *)، والمقيت (سورة النساء، الآية 85 *)، والحافظ (سورة الطارق، الآية 4)، والملك (كثيرًا ما ترد هذه الصفة فى القرآن الكريم)، ومالك الملك (سورة آل عمران، الآية 26 *)، والوالى (سورة الرعد، الآية 45 *)، والمقتدر (سورة الكهف، الآية 45 *) وغيرها)، والجبَار (سورة الحشر، الآية 23) واستعملت هذه الكلمة فى تسعة مواضع أخرى صفة لذم بعض الرجال مقرونة بهذه الكلمات: عنيد، شقىً، عصىً، متكبر (انظر الصفة الأخيرة عند إطلاقها على الله).
يتبين لنا من تلك الصفات أن الله هو الخالق المطلق المدبر الحاكم المهلك المعيد المحصى، وأنه لا قوة إلا قوته، ولا سلطان غير سلطانه. وهناك بعض
(*) الآيات التى بجوارها (*) فى هذه الصفحة كانت أرقامها: 51، سورة النجم، 18، الثالثة 11، 7، 129، 87، 25، 43 وأثبتنا ما نراه صوابا.
المحرر
العبارات التى تطلق على ذات الله المنزهة ولكنها تدل على الذم إذا أطلقت على الأفراد، إذ هم لا يشاطرونه صفة التنزه. والفه هو الرافع المعز المذل المانع النافع المؤخر المقدم القابض الباسط الضار. ومن الواضح أن هذه الأسماء الأخيرة لم ترد صفات فى القرآن ولكن مصادرها كثيرًا ما تقرن باسم الله.
هـ - صلة الله بالإنسان:
يأتى بعد ذلك الكلام عن الله وصلته بالإنسان. فالله هو الرحمن الرحيم، وهاتان الصفتان أكثر الصفات شيوعًا، وتردان فى بداية كل السور إلا واحدة. وكان محمدًا صلى الله عليه وسلم فى وقت ما يستعمل صفة "الرحمن" اسم علم مرادف لكلمة "الله". واعتبر أهل مكة ذلك من مبتكراته (انظر خبر صلح الحديبية وما جاء فيه من أن أهل مكة رفضوا الصيغة التى تضمنت الرحمن الرحيم، وتمسكوا بالصيغة المكية القديمة "باسمك اللهم"؛ انظر تفسير البيضاوى لسورة الفتح الآية 26؛ ابن هشام، طبعة فستنفلد، ج 1. ص 747).
ويظهر أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] قد أخذ هذه الصيغة عن جنوبى بلاد العرب (1)(انظر بحث مورتمان وميلرَ Mordtmann Weiner Zeitschr. F. die فى & d. Muller Kunde d Morgeni ، ج 10، ص 285 وما بعدها). على أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] لم يكن يريد من هذه العبارة صيغتها فحسب، بل كان يريد منها الإفصاح عن تلك الفكرة التى كانت من بين الأفكار التى شغلت باله أكثر من غيرها، والتى تمثل الإنسان بين يدى الله باديًا
(1) الذى يفهم من كلام الكاتب أنه يريد أن البسملة كلها اقتبست فى ظنه من جنوبى الجزيرة، يعنى اليمن، وهذا خطأ ظاهر، ولا دليل عليه أصلا، وإنما الذى اوجب عنده شيئًا من الشبهة أنه رأى فى بعض النقول أن أهل اليمامة أطلقوا لفظ "رحمان" على المتنبى الكاذب مسيلمة، فقالوا "رحمان اليمامة" كما فى أول تفسير الكشاف وغيره من الكتب، ولكن هذه الشبهة ضعيفة جدًا، لأن مسيلمة إنما ادعى النبوة فى أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم، فاراد أتباعه أن يعظموه بهذا الوصف غلوا فى الكفر، وقد أخذوا هم هذا الوصف عن القرآن، ولم يثبت سماع هذه الكلمة قبل ورودها فى القرآن.
محمد حامد الفقى
فى حقيقته، مقرا بخطاياه، مجردا من كل حول وقوة. وهذه الفكرة تتمثل فى صفتى "الرحمن الرحيم" أكثر من غيرهما من الصفات.
واشتق من الغفران ثلاث صفات تزداد الواحدة منها قوة على الأخرى هى الغافر، (سورة الأعراف، الآية 155 *؛ سورة غافر، الآية الثالثة) *، والغفور (وترد كثيرًا فى القرآن)، والغفار (سورة طه، الآية 82 * وغيرها).
والله هو العَفُوُّ (سورة النساء، الآية 43 * وغيرها) " والحليم (ترد كثيرًا فى القرآن الكريم). والتَّواب (سورة البقرة، الآية 37 * وغيرها، وهذه الصفة تطلق على الانسان أيضًا)، والشكور (سورة الفرقان، الآية 62 * وغيرها، وتطلق هذه الصفة على الإنسان كذلك، ويقول المفسرون إنها عند ما يوصف بها الله يكون معناها أنه يجازى الناس على حمدهم له)؛ والصبور (وهذه الصفة لم ترد فى القرآن ولكن معناها ورد فيه كثيرًا).
وهناك صفتان من صفات الأفعال أيضًا هما الرءوف (سورة البقرة، الآية 143 * وغيرها)، والودود (سورة هود، الآية 90 *؛ سورة البروج، الآية 14). ومن صفاته أيضًا الرقيب (سورة النساء، الآية الأولى وغيرها)، والحسيب (سورة النساء، الآية 86 *؛ سورة الأحزاب، الآية 39). والشهيد (ترد كثيرًا فى القرآن).
ويتصف الله كذلك باعتبار صلته بالانسان بأنه المؤمن. (وعند ما تطلق على الانسان يكون معناها "المصدق") والمهيمن (سورة الحشر، الآية 23)، والهادى (ترد كثيرًا فى القرآن الكريم) والوكيل (ترد كثيرًا فى القرآن الكريم)، والولى (ترد كثيرًا فى القرآن الكريم). وهذه الصفة الأخيرة تطلق كذلك على الانسان، وهى أساس الاعتقاد فى الأولياء فى الإسلام. وهذا الاسم الأخير معناه الحرفى: القريب أو الرفيق أو الصاحب وعلى ذلك يكون معناه السيد أو المولى.
(*) الآيات التى بجوارها (*) كانت أرقامها فى الأصل 154، الثانية، 84، 46، 35، 27، 138، 92، 88 وأثبتنا ما نراه صوابا.
المحرر
ومن الأولياء تتألف طبقة خاصة كما يستدل على ذلك من الآية 10 سورة يونس وفى الآية 62 * * {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . فالله هو المنتقم، (/ ترد هذه الكلمة صفة فى القرآن؛ انظر سورة المائدة، الآية 95 *)، والفتّاح (سورة سبأ، الآية 26 *، ويرد معناها فى صيغ أخرى) ومعناها الحاكم بين الخلق، المميز بين الحق والباطل، ويقصد بها أيضًا الذى يفتح باب الرزق والظفر.
وكل ما يصيب الناس إنما يصيبهم من الله لأن كل شيء فى قبضته، فهو الوهّاب (سورة آل عمران، الآية 8 *) الرزاق (سورة "الذاريات، الآية 58، وكلمة الرزّاق / ترد إلا فى هذه الآية فقط، ولكن فكرة افتقار العباد فى الرزق إلى الله ترد كثيرًا فى القرآن الكريم)؛ والمجيب (سورة هود، الآية 61 *) وفكرة الضراعة والدعاء ترد كثيرًا فى القرآن الكريم؛ والمعطى، والمغنى (وقد فسرت تفسيرًا متأخرًا بمعنى الذى يبسط الرزق)، ولسنا نجد هاتين الصفتين فى القرآن، ولكن معناهما يرد واضحًا فيه (انظر سورة طه، الآية 50 *؛ وسورة النساء الآية 130 *).
و- صلة الإنسان بالله:
يبدو مما تقدم أن صلة العبد بالله صلة افتقار، فهو محتاج إلى عفوه وحلمه. والله هو الرقيب على العبد، الحسيب عليه. ولكنه أيضًا هو المهيمن على العباد يعينهم ويهديهم. فهو مصدر الرزق بأوسع معانيه، وهو يفعل كل شيء دون واسطة ولهذا وصف بهذه الصفات.
وإرادة الله علة كل ما فى الوجود، "يضل من يشاء ويهدى من يشاء" سورة النحل، الآية 93 *؛ سورة فاطر الآية 8، سورة المدثر، الآية 31 *). وكل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرجو الله أن يهديه سواء السبيل، وأن يخافه، ويسلم أمره إليه، ويسأله) لا يجعله من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وكانوا فى الآخرة من الخاسرين (سورة الحشر، الآية 19.).
(*) الآيات التى بجوارها (*) 96، 25، 6، 64، 52، 129، 95، 34 وتم ضبطها فيما تراه صوابًا.
(* *). أضيف رقم الآية لاقترانها بالنص.
المحرر
وكان محمد [صلى الله عليه وسلم] يعبّر عن كل أمر كما كان يراه فى وقته، وكما كان يقتضيه الحال. فالله تارة رءوف ودود صبور (انظر ما سبق). وتارة يقول:"وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"(سورة الذاريات، الآيات 56 - 58). والله هو المتكبر الجبار وهو النافع الضار: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، (سورة الأعراف، الآية 178 *).
وربما لا تكون الصفات التى ذكرناها متناقضة، ولكن ورود كل منها على حدة وتوكيد فكرة الطبع كان له أثر كبير فى تطور العقيدة الإسلامية فيما بعد.
كان محمدًا [صلى الله عليه وسلم] إذن يؤمن بالله إلى درجة بعيدة. وكان هذا الإيمان محور الدين الذى يدعو إليه. على أنه ربما كان من الأصوب أن نقول إنه كان يفنى فى الله. وقال دون تردد أن الله كان ولم يكن شيء قبله وسيوجد وقت لا يوجد فيه أيضًا غير الله.
واذا كانت هذه الفكرة قد وضعت فى أسلوب مبين، فمن الراجح أنه كان يقبلها لأنها تعلى الله فوق خليقته. وفى الحق أن بعض أقوال محمد قد عبرت فى قوة عن وجود الله وجودًا مطلقًا، حتى إنها كانت كافية لتحديد وتفسير التطور الذى أخذ به المسلمون القائلون بوحدة الوجود فيما بعد. وهذا يبدو لنا بصفة خاصة فى عبارة "وجه الله"، التى أثرت فيه تأثيرًا، عميقًا. وكلمة "وجه" التى يرد ذكرها كثيرًا فى القرآن الكريم معناها "نفس، أو ذات" إذا أطلقت على الإنسان (انظر سورة
البقرة، الآية 115 *؛ سورة آل عمران، الآية. 20 * سورة النساء، الآية 125 *؛ سورة الأنعام، الآية 79؛ سورة يونس، الآية 105؛ سورة الروم، الآيتين 30 * و 43 *؛ سورة لقمان، الآية 22 *؛ سورة الزمر، الآية 24 *؛ وربما كان هذا هو أصل استعمال هذه الكلمة فى هذا المعنى). أما إذا أطلق لفظ "الوجه: على الله فإن الاستعارة الأصلية تزداد قوة ووقعًا، ولو أن معناها هو من غير شك، "ذات الله".
(*) الآيات التى بجوارها (*) كانت أرقامها فى الأصل 177، 106، 18، 124، 76، 29، 42، 21، 25، وتم ضبطها فيما أثبتناه.
المحرر
والناس يعملون مدفوعين بإرادة وجه الله، (انظر سورة البقرة، الآية 272 *؛ سورة الرعد، الآية 22؛ سورة الليل، الآية 20) فهم يريدون وجهه (سورة الأنعام، الآية 52 *؛ سورة الكهف، الآية 28 *، سورة الروم، الآيتين 38 * و 39 *؛ ويعملون له (سورة الإنسان، الآية 9)؛ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، (سورة البقرة، الآية 115 *)؛ و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (سورة القصص، الآية 88). و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، (سورة الرحمن، الآية 26 و 27 * (ولو أبدلنا فى هذه الآيات كلها كلمة "وجه" بكلمة "ذات" ما تغير المعنى. ولكن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] كان يدرك من غير شك ما فى عبارة "وجه الله" من قوة وجمال. وقد أقام الصوفية فيما بعد أساس نظرياتهم على هذه العبارة.
أما المفسرون فقسموا الموجود إلى ممكن وواجب، وقالوا إن الكائنات كلها ممكنة الوجود، أما الله فهو وحده "واجب الوجود"؛ وعلى هذا يمكن أن تطلق صفة العدم على الكائنات، لأن قبولها للفساد يجعل مصيرها إليه.
ترك محمد [صلى الله عليه وسلم] إذن حل هذه المسألة للمسلمين من بعده. وكان عليهم أن يوفقوا بين ذات الله العظيمة ووجوده المنفصل عن الكون انفصالا متميزًا، وبين صنعه المباشر الذى فسروه تفسيرًا يقرب كثيرًا من نظرية الصدور. وزاد المسألة تعقيدًا بعض آيات القرآن الكريم التى جعلتهم يعتقدون أن ما سوى الله عدم بالضرورة. ويمكننا أن نقول هنا اجمالًا إن علماء الكلام فى القرون الوسطى أخذوا بفكرة "الذات" وميزوا الله عن مخلوقاته إلى حد أنه أصبح من العسير عليهم أن يفسروا كيف يمكن الله أن يؤثر فى الكون. وبعملهم هذا ارتقوا بعقيدتى "التنزيه" و"المخالفة" أى أنهم نزهوا الله عن جميع الصفات القابلة للتغير، وأثبتوا لصفاته أنها تخالف بالضرورة نفس هذه الصفات إذا أطلقت على البشر. وعلى عكس هذا
(*) الآيات التى بجوارها (*) تم ضبطها فيما نراه صوابا وكانت فى الأصل 274، 27، 27، 38، 109، 26.
المحرر
نجد أن تاريخ التصوف عبارة عن فناء الكون تدريجًا فى الله، حتى يمكن القول بأن الله هو الكل
…
وقد ورد فى القرآن الكريم رأيين متقابلين عن فعل الله أوردهما فى بساطة عظيمة: أحدهما يجعل إرادة الله متصرفة فى أفعال العباد، والآخر يجعل للإنسان قسطًا من الاختيار.
ثم جعلت الأحاديث صفات الله أكثر وضوحًا، وفصلت الكلام فى صلته بالملائكة والجن، نجد هذا كثيرًا فى صحيح البخارى وبخاصة فى كتاب التوحيد وبدء الخلق. ونجد فيه كذلك الكلام عن وجه الله وعن عرشه وعن خلق السموات والأرض. وجاء فيه أيضًا أن الله يتنزل إلى السماء الدنيا فيقول:"من يدعونى فاستجيب له؛ من يستغفرنى فاغفر له؟ (1) "(كتاب التوحيد: صحيح البخارى، طبعة القاهرة ، 1312 هـ، ج 4، ص 179). وترد كذلك قصة آخر من يدخل الجنّة من أهل النار، إنفس المصدر، ج 4، ص 172، 173) (2) وفى الآخرة، يمسك الله الأرض على إصبع، والسموات على إصبع، ثم يقول:"أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " إنفس المصدر، ج 4، 167 و 181 (3). ثم يضع قدمه فى النار ليفسح فيها مكانًا. إنفس المصدر، ج 4، ص 167 - 175) (4). وورد الكلام عن عينه فى القرآن الكريم تارة بالمفرد وتارة بالجمع (سورة هود الآية 37، سورة طه الآية 39، سورة
(1) حديث النزول: عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين ييقى ثلث الليل الآخر فيقول: "من يدعونى فأستجيب له؛ من يسألنى لأعطيه؟ : من يستغفرنى فأغفر له؟ ".
(2)
عن أبى هريرة: أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؛ ..... ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، هو آخر أهل النار دخولًا الجنّة، فيقول: أى ربى، أصرف وجهى عن النار
…
فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له أدخل الجنّة.
(3)
عن عبد الله: أن يهوديًّا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
وعن أبي هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ".
اللجنة
(4)
عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال يلقى فيها تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوى بعضها إلى بعض ثم تقول: قد قد لعزتك وكرمك".
المؤمنون الآية 27، سورة الطور الآية 48، سورة القمر الآية 14) *. وجاء فى الحديث أنه ليس باعور كالمسيح الدجال (1).
ز - مذاهب المسلمين فى ذات الله:
كان لمذهج "التوحيد" المكان الأكبر فى النظر الكلامى عند المسلمين، وقد نشأ هذا من أن الذات الإلهية كانت محور الدين الذى جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم]، كما نشأ أيضًا من المؤثرات التى أثرت فى تطور هذا الدين من بعد، ولا سيما المباحث الإلهية عند اليونان بما فيها من عناية بذات الله، على الخلاف من الكنيسة اللاتينية التى كانت مسألة الخطيئة أكبر مسائلها، وعلى الخلاف من مذاهب المصلحين واتجاهها إلى البحث فى الكتب المقدسة. وكذلك أقوال محمد [صلى الله عليه وسلم] كان لها أثر فى تكييف المناظرات التى جاءت فيما بعد. ونظرا لضعف التمكن فى النظر العقلى، والاقتصار فيه على جانب واحد لم يستطع المتكلمون أن يستخلصوا من ذلك إلا مذهبًا فى ذات الله يقوم على التشبيه الخالص، أو على وحدة الوجود الحقيقية، أو على العقل الصرف الذى لا يجعل لغيره مجالًا.
وبيّن أنه يستحيل علينا تتبع هذا التطور فى ذاته فى مقال كهذا، وكل ما نستطيع هو أن نذكر مختلف المذاهب والمؤثرات التى تأثرت بها، والنتائج التى وصلت إليها. وإنى أشير على من أراد الأسهاب والوقوف فى دقة أكبر على العلاقات التاريخية أن يرجع إلى كتابى Development of Moslem Theolc . etc ص 119 - 287.
ويظهر أن الفتن التى حدثت فى الإسلام كانت أول ما حفز الناس إلى رفع التعارض البيّن. فقد اضطروا إلى أن يسألوا أنفسهم: من هو المسلم على الحقيقة؛ وما هو الإيمان؛ وما هو الاعتقاد الذى ينبغى أن يعتقد فى الله؛ وتسأءلوا أيضًا عن مسئولية الإنسان [عن أفعاله] وعن إرادة الله التى هى
(*) كان فى الأصل سورة الفرقان الآية 40 وتم ضبط السياق فيما أثبتناه بين القوسين من المصحف الشريف طبعة الأزهر.
المحرر
(1)
عن عبد الله، قال: ذكر الدجال عند النبى صلى الله عليه وسلم فقال "إن الله لا يخفى عليكم، أن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه، وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كان عينه عنبة صافية".
اللجنة
فوق كل شئ؟ وطبيعى، أن قومًا ذهبوا إلى البراءة من كل من يخالفهم حتى فى أقل الفروع. على حين أن الظروف السياسية حدت بغيرهم إلى الاكتفاء بالظاهر، تاركين ما وراء ذلك لله الذى يعلم وحده ما تخفى القلوب، وكذلك نشأت المرجئة تقول بإرجاء مثل ذلك المسائل إلى اليوم الآخر. أما فى مسألة الاختيار فقد ظهر المتطرفون إلى جانب من أرادوا التوسط والقصد فى الأمر، وكانت الأحزاب السياسية المتخاصمة يتسع صدرها لما يقولون أو يضيق به، فنشأت القدرية والجبرية.
وكان إلى جانب هذا أيضًا، ينشأ اعتقاد - وإن لم يسمّ باسم - بأن الكلام صفة واجبة لله. على أنه ينبغى ألا نخلط بين صفة الكلام والقول بالتجسد فى الكلمة، وعلى كل حال فإن الأمر يحتاج إلى تحديد دقيق.
ومؤثر آخر هو الفلسفة اليونانية: كان المشتغلون بها من المسلمين يريدون الوصول إلى العلل الأولى للأشياء، وقد نهجوا طريق الفلسفة ووصلوا إلى الكلام فى ذات الله. وكان يتحتم عليهم أن يحافظوا على التوحيد من الوجهتين الفلسفية والدينية، ولكن فى سبيل الإبقاء عليه آلت الذات الإلهية شيئًا فشيئًا إلى، مر مجرد، لا يمكن حده، فمثلا كان محمد [صلى الله عليه وسلم] يقول إن الله "عالم"، فيجب أن تكون له صفة العلم، ولكن بم يتعلق العلم؟ أبشئ فى ذات الله، أم بشئ غير ذاته؟ إن كانت الأولى ففى ذاته تعدد، وإن كانت الثانية فعلمه متعلق بشئ غير ذاته، فلا يكون علما واجبًا، فلا يكون مالك الصفة واجب الوجود. وبيّن أن إثبات الوحدانية لله، وقيامه بذاته ينافى وصفه بصفات الإيجاب.
وفى هذا التطور تظهر ثلاثة اتجاهات وتبقى دائمًا، فهناك النقل: أى قبول العقائد لأنها اتبعت ثم لقنت من قبل، وأصحاب النقل يسمون "أهل الحديث" فهم يأخذون بالأدلة السمعية المستمدة من الكتاب والسنة والإجماع. وعندهم أن العقل لا يجوز أن يرجع إليه لا فى النقد ولا فى التأويل. بل أوجبوا الإيمان بما بلغهم كما هو، فمثلًا يقرءون فى القرآن الكريم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} (سورة طه، آية 5 *) فيقولون إن الإيمان بذلك واجب كما هو من غير خوض فى معناه، ولا سؤال عن كيفيته، ولا تشبيه لاستواء الله باستواء الإنسان. وقد نشأ من هذا عبارتهم المشهورة "بلا كيف ولا تشبيه".
وقد ظهر اتجاهان: أحدهما لجمهور المسلمين، والثانى لجماعة أكثر منهم تشددًا فى الأخذ بالمنهج المنطقى، وهنا ظهر القول "بالمخالفة": كل ما هو لله فهو مخالف لما للإنسان، ولا يجوز أن نظنه مثله، ويسمى هذا أيضًا "بالتنزيه" أى تنزيه الله عن صفات المخلوقين.، وقد وقفت هذه الفكرة عند حد كان يمكن بعده أن تصبح فكرة تامة عن الله. هو مخالف للمخلوقات. نعم. ولكن الله يجب أن يكون بحيث نستطيع أن نعقله. وليس ما نعقله عن ذاته من هذه الأسماء والعبارات خطأ بالضرورة. لا نعرف من صفاته ما هو، بل شيئًا قريبًا من ذلك. غير أن آخرين ذهبوا إلى أبعد من هذا فقالوا: بل لا نستطيع من هذه العبارات أن نحصّل فكرة عن ذات الله، فذاته سرّ لا يعرف أبدًا، ولا نظن أن الأسماء تعطينا شيئًا عنه.
يقول القرآن الكريم إن الله {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (سورة الأعراف الآية 151 *: سورة يوسف الآية 64، 92؛ سورة الأنبياء الآية 83). ولكن هذا لا يدل على أن صفة الرحمة التى يتصف بها الله، تشبه صفة الرحمة التى يتصف بها الإنسان بأى وجه من الوجوه. وما نراه فى الكون يبطل هذا التشابه. سمى الله نفسه بهذا الاسم، أما ما يدل عليه الاسم فهو أمر لا نقدر على معرفته، ولا يسوغ لنا الخوض فيه.
على أنه كانت توجد خلافات كثيرة أقل من ذلك شأنًا تتراوح بين مجرد الحث على التمسك بعقيدة السلف دون غلو فى البحث فى ذات الله، وبين رأى القائلين بأن واجب الوجود لا يمكن أن يعرف. غير أن هذا المنزع الأخير لم يؤد عند المسلمين إلى موقف اللاأدريين، بل أدى إلى الاعتماد على حجية رأى السلف.
(*) جاء رقم الآيتين اللتين بجوار كل منهما 4، 150.
المحرر
ويظهر أن المسلمين فى هذا العصر يغلب عليهم الميل إلى الرأى الأخير.
على أنه إذا كانت أراء المتكلمين الأولين تُقيل لقدمها وإلف الناس لها فإن علم الكلام النظرى يميل اليوم إلى التنزيه شيئًا فشيئًا.
أما النزعة الثانية فهى النزعة العقلية: يسلم المتكلمون جميعًا بضرورة الرجوع إلى العقل، غير أنهم يختلفون فى كونه حجة صحيحة فيما يتعلق بأحكام العقائد.
وقال المعتزلة صراحة بتحكيم العقل فى النظر المدينى، وأنشأوا مذهبهم الكلامى مستندين إلى العقل، وقد رأينا أنهم فى كلامهم عن ذات الله تغالوا فى نفى الصفات لأنها تفضى إلى نفى التوحيد، وأقل ما ذهبوا إليه فى نفيها هو أن الصفات هى نفس الذات لا أنها فى الذات، غير أنهم كانوا أميل إلى إنكارها جملة، وإلى القول بأن الله ذات مجردة يصعب تعقلها.
هذا إلى أنهم أنكروا القضاء السابق لأنه مناف للعدل. وكان إنكارهم لرؤية الله فى دار القرار من آثار غيرتهم على تنزيهه. فالأصول الثلاثة: العدل والتوحيد والتنزيه هى أصول مذهبهم بالإجمال، أسسوها ودافعوا عنها بالطريقة الكلامية، وكان اصطناعهم لهذه الطريقة مما دفع أهل الحديث فيما بعد إلى اتخاذ نفس وسائلهم. على أن مذهبهم الكلامى كان مجرد دفاع عن العقائد لأنها كانت قد وضعت وسلم بها الناس. ولكن هذا لم يمنع من محاولتهم بناء العقائد من جديد، غير أنهم لم يفلحوا إلا فى صوغها فى صورة جديدة.
ولم يقبل أهل السنّة طريقة المتكلمين قبولًا تامًّا إلا فى أوائل القرن الرابع الهجرى، وخصوصًا على يد الأشعرى. وبعد ذلك وضع علم الكلام الذى يوفق بين الدين والعقل، ولم ينكره إلا المتطرفون من أهل الحديث. ومذهب الأشعرى فى صورته النهائية لم يحد قيد شعرة عن مذهب أهل السُّنة، فلم يخرج عن العبارة المشهورة "بلا كيف ولا تشبيه". والشطر الأول من هذه العبارة موجه ضد المعتزلة، والثانى
ضد مذهب التجسيم، أما فى مسألة الاختيار، فإنه نهج طريقًا وسطًا، وقال بمذهب لا يزال مشكلة إلى اليوم، ويقوم هذا المذهب على أن للمخلوق قدرة على اكتساب أفعاله بحيث تجعلها له، وإن كان الذى يخلقها فى الحقيقة هو الله.
واتّبع أصحاب الأشعرى مذهبه فى العقيدة من غير أن يحيدوا عنه أنملة، ولكنهم فصَلوا آراءه فى المسائل الإلهية حتى جعلوها مذهبًا كاملًا أخذ صيغته الأخيرة على يد الباقلانى المتوفى عام 403 هـ (1012 - 1013 م)، فيما يتعلق بذات الله وبالعالم وعلاقة أحدهما بالآخر. ويمكن تصورها على هذا النحو (انظر Develop-: Macdonald ment of Muslim Theology ص 201 وما بعدها). عرّف الباقلانى العلم بأنه معرفة الشيء على ما هو عليه فى ذاته
…
وأكد الإسلام عجز العقل عن إدراك ذات الله، لأن الإنسان عاجز عن معرفتها بما أوتى من قدرة، فيجب علينا أن نقبل ما جاءنا من عند الله ونؤمن به.
نصل الآن إلى النزعة الثالثة وهى طريق الكشف أو التصوف: لا تكون معرفتنا لله يقينية كاملة إلا إذا كان أساسها الروح، لذلك ذهب المسلمون إلى أن روح الإنسان تستطيع أن تصل إلى الله وتعرفه من غير واسطة، وهذه القدرة فى الروح أمر مكمل لما جاء للناس على ألسنة الأنبياء.
ظهرت نزعة التصوف عند المسلمين من أول أيام الإسلام، ولا تزال باقية إلى اليوم، وكانت تظهر بدرجات وصور تتفاوت من مجرد التعبد إلى أعلى مرتبة فى الغيبة عن الخلق، والفناء فى الله، وإلى القول بوحدة الوجود. وكانت هذه النزعة الصوفية فى القرون الأولى للإسلام عامة بين المسلمين يذهب إليها كل منهم على حدة، ويجاهر بتأييدها كثيرون من فحول المتكلمين، وتؤدى بين حين وآخر إلى آراء تغلو فى القول بوحدة الوجود، حتى لقد أنكرها بعض كبار
العلماء بسبب مثل هذه الزلات، ولكنها ظلت هن غيرأن تندمج فى جملة العقائد الإسلامية، وكانت تختلف فى مظهرها بين الزهد والنظر العقلى. وكانت غايتها معرفة الله بطريق العبادات أو اتباع أهل التصوف مستعينة على ذلك بالتأثير فى نفس المريد أو بالايحاء الذاتى أو غيرهما.
وكانت المهمة التى نهض لها الغزالى (المتوفي عام 505 - هـ (1111 - 1112) أن أقام بناء مذهب صوفى لطف فيه هن القول بوحدة الوجود أو هو قضى عليه قضاء تامًّا. وجعل كشف أهل التصوف مصدرًا من مصادر علم الكلام الإسلامى إلى جانب النقل والعقل. استخدم الغزالى العقل فى نقد العقل، وفى البرهنة على أن الانسان لا يستطيع أن يصل بالعقل إلى صريح الحق، واستخدم النقل فى تهذيب خيال أهل التصوف وفى القبض على عنانه، وبنى مذهبه الكلامى على مشاهدات المؤمن لنفسه بعد تهذيب هذه المشاهدات وإصلاحها على هذا النحو الذى بيناه.
غير أنه فيما يتعلق بذات الله اتبع رأى محمدًا [صلى الله عليه وسلم] ولم يحد عنه شيئًا. والله عند الغزالى إرادة، وكان يشاهد فعل الله ويلمسه فى كل ما حوله من أشياء.
وقد يكون الغزالى صاحب مذهب فى علم النفس أساسه: أنا أريد فأنا موجود.
نفخ الله فى الانسان من روحه (سورة الحجر، آية 29؛ سورة ص، آية 72) والنفس الإنسانية تخالف كل شئ فى هذا الكون لأنها جوهر روحانى؛ هى مخلوقة، ولكنها ليس لها صورة وليس لها حجم ولا مكان، وهى فى هذه القطيعة على الأرض تصبو إلى العالم الإلهى، ولذلك تشتاق نفوسنا إلى الله.
ورغم ما فى هذه الآراء من نفى المخالفة بين الخالق والمخلوق، فلا شك أنها قريبة جدًّا من رأى محمدًا [صلى الله عليه وسلم] ولذلك صار الغزالى عند جمهور المسلمين، ولا يزال إلى اليوم أعظم الفقهاء، ومقامه عند المسلمين مثل مقام القديس أوغسطين أو القديس توماس
الأكوينى عند المسيحيين، وإذا ما خالفه أحد متكلمى الإسلام اليوم، فإنه يؤثر أن يصف الرأى الذى يرفضه بأنه فهم خافى لرأى الغزالى الحقيقى، ولذلك يدرس المسلمون كتابه "إحياء علوم الدين" بشغف عظيم إلى جانب مذاهب أهل الحديث الراسخة.
ولما كانت النزعات الثلاث تتمثل جميعًا فى مذهب الغزالى، ولما كان جميع المسلمين اليوم -ما عدا المتطرفين- يأخذون بما يقوله الغزالى فى أمر العقائد الإسلامية ويقدرونه تقديرًا كبيرًا، فيحسن أن نرجع إلى الرسالة القدسية التى كتبها فى بيت المقدس وأدمجت فى كتاب الإحياء بعد ذلك (ج 2، ص 86 وما بعدها من طبعة القاهرة): تبيّن هذه الرسالة مذهب جمهور المسلمين فى ذات الله بيانًا حسنا ومن أسف أنها لم تترجم وأن المقام لا يسمح بذكر ترجمتها. وكل ما نستطيعه هو أن نشير إلى تحليل واف لها فى Algayel: Asin Palacios سرقسطه، سنة 1901، ج 1، ص 233 - 283 وإلى تحليل قصير لها فى كتاب الأستاذ كارًا دى فو Carra de Vaux عن الغزالى، باريس، 1902 ص 97 وما بعدها، وأشير أيضًا -فيما يتعلق بترجمة كثير من عقائد المسلمين الأخرى- إلى كتابى Development of Muslim Theology ص 293 - 351.
والعقائد الإسلامية -كما تقررها الرسالة القدسية - تصطبغ بصبغ ثلاث خاصة، غير أن الماتريدى المتوفى 333 هـ (935 م) وهو معاصر قريب للأشعرى أسس فرقة لا تزال تعاليمها موجودة، وهم يعدون من أهل السنة، اتبعوا رأى أبي حذيفة (المتوفى 150 هـ = 767 م). ولذلك يسمون الحنفية غالبًا، ومعظمهم من الترك.
وتجد فى كتابنا المتقدم الذكر ص 308 وما بعدها عقيدة أصحاب الماتريدى بتمامها كما تجدها فى العقائد النسفية. ونستطيع أن نلخص ما جاء فيها خاصًا بذات الله كما يلى:
1 -
أضاف الماتريدى إلى صفات الله الأزلية صفة "التكوين". ومن الصفات الدالة عليها الخلق والإحياء والرزق والإماتة، وتسمى هذه الصفات
الأفعال، وهى حادثة عند الأشعرية ولكنها قديمة عند الماتريدى لأنها مثل صفة التكوين. وفى هذا محاولة ظاهرة لإيجاد علاقة بين الله الذى لا يتغير وبين العالم المتغير.
1 -
كان الأشعرى يقول بالاكتساب وهو لا يعدو شرحا لكيفية الاختيار فى الإنسان، أعنى أن الله يخلق فى الإنسان شعورًا بأنه مختار، ولكن الماتريدى أبدل الاكتساب بالاختيار، وقال إن الإنسان يثاب ويعاقب على أفعاله الاختيارية ثم هو يترك المسألة عند هذا الحد.
3 -
ولكن الأفعال كلها رغم هذا تكون بإدارة الله، غير أن الله إنما يرضى عن الخير دون الشر.
4 -
إذا كلف الله عباده شيئًا أعطاهم القدرة عليه، وهذا هو أساس التكليف.
5 -
صفات الله ثابتة لا تتغير، والتغير إنما يحصل فى المخلوقات فتنعم وتشقى والعكس. وهذا التغير هو فى نعيم المخلوقات وشقائها وليس تغيرًا فى إرادة الله. وهذا يتضمن القول بأن الله لا يتغير وأن العالم يتغير.
6 -
وقد لاحظ أحد أصحاب الماتريدى أنه ليس فى مذهب الأشاعرة ما يمنع عقلا من خلود المؤمنين فى النار أو خلود الكافرين فى الجنّة، وهو خلاف ما يروى عن الأشاعرة. فعلى حين أن المعتزلة أوجبوا على الله أن يثيب العباد ويعاقبهم بالعدل، فإن أصحاب الماتريدى قالوا فقط إن الله يتنزه عن الجور لأن الجور لا يليق بحكمته.
ولا نجد ما يدعونا إلى أن نذكر من الفروق بين رأى الغزالى وبين آراء المعتزلة فوق ما ذكرنا، والغزالى فى رسالته يهاجمهم بنوع خاص، ويدحض قولهم بنفى الصفات وما أوجبوا على الله من فعل الأصلح لعباده، ومن نفى الكلام عنه، ونفى رؤيته فى دار القرار. أما أدلة الغزالى على أن العالم مخلوق فهى موجهة للفلاسفة الأرسططاليسيين الأفلاطونيين الذين قالوا بقدم العالم، على أن الغزالى نفسه لم يكن يذهب إلى أن هذه الأدلة كافية، لأنه إنما عرف أن العالم مخلوق لأنه أدرك الخالق من طريق الذوق إدراكًا روحيًا من غير
واسطة، وليرجع القارئ إلى وصف الغزالى لأطوار حياته الدينية وما أحس به فى كل طور فى كتابه "المنقذ من الضلال".
وهو فى رده على المشبهة أكثر هوادة، ولكنه يعجب من حكمة الله الخفية فى ترك بعض مخلوقاته فى حجب الجهالة، بحيث لا يستطيعون أن يدركوا الفرق بين التقدم النسبى والمطلق (فصل فى كلام الله). وهو كثيرًا ما يوجه إليهم النقد المر لإصرارهم على الخطأ فى استعمال الألفاظ، وإن كانت عقائدهم سليمة من الخطأ، فمثلًا يستعمل الكّرامية لفظ جوهر بالإضافة إلى الله ظانين أن الجوهر "موجود لا فى مكان" ولكنه "موجود فى ذاته"، والحنابلة والكرامية جميعًا استعملوا لفظ الجسم بالإضافة إلى الله بمعنى شئ "موجود" أو "موجود فى ذاته"، وعامة المجسَّمة ذهبوا إلى القول بأن لله جهة، وهو تفسيرهم لمعنى استوائه على العرش، غير أن الغزالى يقرر أخيرًا (أصل 1 أصل 6) تقريرًا لا يحتمل الشك أن الخالق منزه عن صفات المخلوقين. ويصعب أن نوفق بين هذا وبين الأجزاء الأخيرة من كتابه، عند بيانه للأساس الصوفى الذى تقوم عليه العقائد، ثم بينه وبين تفسير الغزالى للآية التى تنص على أن الله نفخ فى الإنسان من روحه (سورة الحجر، آية 29 وسورة ص، آية 72)، وتفسيره لحديث إن الله خلق آدم على صورته (انظر الإشارة المتقدمة لكتاب المضنون الصغير ص 2 وما بعدها). غير أن الغزالى فى الكتاب نفسه يثير هذه المسألة: قد يقول قائل: أليست مثل هذه الآراء فى نفس الإنسان مما ينفى مخالفة الله للحوادث ويؤدى إلى التشبيه؛ يجيب الغزالى عن هذا إنفس المصدر، ص 9) بأن التشبيه إنما يتعلق بأخص وصف الله، مثل كونه قيومًا فهذه صفة ذاتية له، أما ما عدا هذا فهو لله ولكنه ليس صفة ذاتية، وليس هذا فحسب، بل إن الأشياء ليس لها من ذاتها إلا العدم، أما وجودها فمكتسب من غيرها.
أما وجود الله فهو واجب غير مستفاد، والقيومية لله وحده. وهذا
هو المعنى الباطن للنهى عن التشبيه، هو ينهى عن التشبيه المادى ولكنه أفسح مجالًا للتأويلات الصوفية. والغزالى فى كتاب آخر له (إلجام العوام عن علم الكلام، ص 47 وما بعدها) يبين ما للتنزيه فى وصف الله من خطر يؤدى بالعامة إلى الإلحاد، وما فى استعمال الألفاظ المشتركة وضروب التمثيل من خطر يجرهم إلى التشبيه. وخطر التنزيه عنده أكبر، وهو يوصى أن يخاطب الناس بلغة وبأمثلة يستطيعون أن يفهموها. فلابد من الاقتصاد فى التعليم، وليس معنى هذا أنه يجب أن يعلموا شيئًا على غير حقيقته، بل توجد مسائل لا يحسن الخوض فيها معهم.
ولم يكن للغزالى -كمتصوف- بدّ من أن يكمل هذا المذهب، فوضع له ما يحتاج من أسس فى الفصول التالية من كتابه، وخصوصًا فى كلامه عن أسرار القلب، هو يبين كيف يرى الله ويعرفه بالقلب. جاء فى الحديث أن من عرف نفسه فقد عرف ربه، وهذا هو الأساس الذى تقوم عليه حياة التصوف؛ ولكنا هنا ننتقل من علم الكلام إلى الدين ومن القول فى ذات الله إلى التحليل النفسى للعقائد، وأشير على القاريء بأن يرجع إلى محاضراتى عن ; The religious attitude and life in Islam ما العقيدة ذاتها فنستطيع أن نقول بالإجمال إنها لم تتغير حتى الآن. بيان عقيدة كل مسلم اليوم تجمع مختلف المذاهب من تنزيه وتشبيه وفناء صوفى على نسب متفاوتة.
المصادر:
انظر إلى جانب المصادر المذكورة فى صلب المقال:
(1)
Gesch. d. Herrsch.: A.V. Kremer Jdeen des Islams لييسك سنة 1868.
(2)
De strijd. over het: M.Th. Houtsma al-Aseir Dogma in den Islam tot op al، ليدن سنة 1875 م.
(3)
Muhammedanische Stud-: Goldziher ien، هال سنة 1889 - 1890.
(4)
Zahiriten Die لييسك سنة 1884 م.
(5)
- Materialien zur Kenntniss der Al mohadenbewegung in Nordafri . ca - Deutsch. Morgent. Ge Zeitchr، d، sellsch. ج 41 ص 30 وما بعدها).
(6)
haden (Zeitcher - Die Bekenntniess formeln der Alm -Deutsch. Morgnl. Ge .f sellsch جـ 44، ص 168 وما بعدها).
(7)
d'Ibn Toumert le livre" الجزائر سنة 1903 م.
(8)
Beitrage zur mu-: Krehl -hammedanischen Dogmatik sit d.KS.Ges.d Wiss zungsberichte ،hist-Classe. ج 37 ليبسك سنة 1885 م).
(9)
Beitrage zur Charakteristik der Leh- re vom Glauben im Islam. لييسك سنة 1877 م.
(10)
Kitab al-Qadr: A.de Vlieger، ليدن سنة 1903 م.
(11)
The Faith of Islam: Edward Sell . لندن سنة 1896.
(12)
Haarbrucker. Asch- TH
Schahrastani's Religionspartheien and -Philosphen-Schulen unberstzt Und erk، Lart، هال سنة 1850 - 1851 م.
(3)
Mutaziliten: H.Steiner، ليبسك سنة 1865 م.
(14)
Th Mutazil: T.W.Arnold . لييسك سنة 1902 م.
(15)
Muhammad Iqbal The: Shaikh Development of Metaphysics in Persia، لندن سنة 1908 م.
(16)
Irdja: G.van Vloten(Zeitschr Morgenl Gesellsck ج 45، ص 181 وما بعدها
(17)
Zur Geschichte Abu-l'-: W.Spitta Masan al - Ashari's لييسك سنة.
(18)
- Zur Geschichte des: M.Schreiner Asharitenthuns (Actes du VIII Congr. In tern. d. Oriental ج 1، ص 77 وما بعدها، ليدن سنة 1891 م).
(19)
- Beitrage zur Geschichte der theo logischen Bewegungen `im Islam Gesellsch ، . Deutsch Morgenl d Zeitschr ج 52، ص 463 وما بعدها: 513 وما بعدها، ج 53، ص 51 وما بعدها.
(20)
Grimme: - Teil Ein Mohammed،ll، in den Koran leitung مونستر سنة 1895.
(21)
Avicenne: de vaux .. وباريس سنة 19
…
(22)
Moslem Doc-: S.M. Zweemer The trine of God إدنبرة سنة 1905.
[ماكدونالد D.B.Macdonald]
تعليق على مادة "الله" جل جلاله
(1)
التحقيق، أن لفظ الجلالة جرى فى الدلالة على معناه مجرى الأعلام وكل ما ذكر فى اشتقاقه وتصريفه لا وجه له.
(2)
لقد تورط الكاتب فى هذا المقام تورطًا ألجأ إليه عدم وقوفه على مذاهب العرب ودياناتها فى الجاهلية واعتقاده أن أهل مكة خاصة كانوا على عقيدة واحدة عبر عنها بقوله "إنها أشبه بالعقيدة المسيحية التى جعلت للقديسين والملائكة مقامًا بين الله وعباده، وحقيقة الواقع أن أهل مكة -كبقية العرب- كانوا مختلفين فى الدين والعقدة، وقد تكفل القرآن الكريم ببيان عقائدهم المختلفة فى آيات متفرقة فتراءى للكاتب أن القرآن الكريم يعبر عن عقيدة واحدة، ومن ثم أخذ ينسب -بغير حق- لبعض الآيات التناقض والاضطراب.
تتميمًا للفائدة نورد للقراء مذاهب العرب فى الجاهلية وبيان القرآن الكريم فيها: فطائفة منهم أنكروا الخالق -وهم الدهريون- وإليهم يشير قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ
…
}، وطائفة ثانية قالوا بالخالق وأنكروا البعث والنشور، وإليهم يشير قوله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} إلى آخر الآية
…
وطائفة ثالثة قالوا بالخالق وبالدار الآخرة وأنكروا الرسل وبعث الأجسام وإليهم يشير قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} ، "أبشر يهدوننا؛ " وقوله جل شأنه:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . وهذه الطائفة تنقسم قسمين: ففريق منهم -وهم الذين يعتقدون بوجود الملائكة- يقولون: "لولا أنزل عليه ملك" الآية
…
وفريق آخر -وهم الذين لا يعتقدون بوجود الملائكة - كانوا يعتقدون بالأصنام يعبدونها على أنها وسائل وشفعاء عند الله، وهم دهماء العرب. ولكل قبيلة أو بضع قبائل صنم خاص هو معبودهم الذى يلجئون إليه، وإليك بيان كل قبيلة والصنم الخاص بها:
كان (ود) لقبيلة كلب وهو بدومة الجندل، وكان (سواع) لقبيلة هذيل، وكان (يغوث) لقبيلة مذحج ولقبائل من اليمن، وكان (يعوق) لقبيلة همدان، وكان إنسر) لذى الكلاع بأرض حمير، وكانت (اللات) لثقيف بالطائف، وكانت (العزى) لقريش وجميع بنى كنانة وقوم من بنى سليم، وكانت (مناة) للأوس والخزرج وغسان، وكان لهم جميعا صنم هو أعظم أصنامهم يسمونه (هُبَل) وضعوه على ظهر الكعبة، وكان لبنى ملكان من كنانة صنم يقال له (سعد) وهو الذى قال فيه قائلهم:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا
…
فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفه
…
من الأرض لا يدعو لغى ولا رشد
هذا وقد كان من أهل مكة فى الجاهلية من يؤمن بالله واليوم الآخر وينتظر أن يبعث الله رسولًا للعباد، ومن هؤلاء عبد المطلب، كان يقول: والله أن وراء هذا الدار دارًا يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسئ يعاقب بإساءته. ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل؛ كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: أيها الناس هلموا إلىّ فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيرى.
ومنهم قس بن ساعدة؛ كان يقول: كلا ورب الكعبة ليعودن ماباد، ولئن ذهب ليعودن يومًا. ومنهم عامر بن الظرب؛ كان يقول: إنى أرى أمورًا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيًا ويعود اللاشئ شيئًا. ولذلك خلقت السموات والأرض.
ثم إن من العرب من كان يهوديًّا، ومنهم من كان نصرانيًا، ومنهم من كان يصبو إلى الصابئين ويعتقد فى الأنواء.
(3)
يحوم الكاتب من بعيد حول عقيدة الإسلام فى التنزيه والتوحيد التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فبعد أن يكاد يصل إلى كنه هذه العقيدة التى تبدو فيما ورد من الآيات القرآنية الكريمة إذا هو يرجع فلا يقوى على إدراكها تمام الإدراك لبعده عن
اللسان العربى، وحقيقة الواقع أن القرآن الكريم قد شرح هذه العقيدة وحللها بما لم يسبقه دين من الأديان، فهو يقرر أن الله ذات لا كالذوات التى ينالها الحس ويدركها العقل، فهو ليس بمادة ولا متصل بالمادة إلا اتصال الإيجاد والتدبير. فمحال أن يدرك العقل كنهه لأن العقل لا يدرك إلا ما هو مادة أو متصل بها ولابد من صلة بين المدرك والشئ الذى يدركه حتى يمكن أن تتحقق بينهما نسبة الإدراك. وكل ما أمكن العقل أن يدركه هو آثار هذه الذات التى أرشدت إلى وجودها وهذه الآثار هى التى حددت معانى الأسماء والصفات، وأقرب مثل لهذا "الكهرباء" فإنه لا يشك أحد فى وجودها ولم يمكن معرفة حقيقتها إلى اليوم، وكل ما أمكن معرفته هو آثارها من نور وتحريك وغير ذلك. على أن هذه الصفات ليست كالصفات التى تراها قائمة بالبشر لأنه ما دام الموصوف متغايرًا بالكنه فلا يمكن أن تكون الصفات متفقة فى حقيقتها. وغاية الأمر أن ضرورة الدعوة إلى معرفة الله وإرشاد الخلق إلى وجوده هى التى جعلت الدين يخاطب الناس بما يعرفونه بينهم من الصفات.
(4)
تبين لك مما أسلفنا أن اتصاف الله بهذه الصفات ليس كاتصاف البشر بها وأن هذه الصفات نفسها ليست كنظائرها من صفات البشر. فإذا صح الحكم على وصفك إنسانًا بأنه ظاهر وباطن معًا بأن هذا تناقض فإنه لا يصح هذا الحكم على وصف الله بهاتين الصفتين.
(5)
القدوس هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضى به تفكير. وكما يقال قدس العبد فى علمه وإراداته بمعنى ارتقى علمه عن الحسيات وارتقت إرادته عن الشهوات فصار لا يشابه الحيوان فى إدراكه ولا يماثله فى شهواته فكذلك معنى القدوس بالنسبة لله فقد تنزه عن أن يشاركه أحدٌ فى صفة من صفاته.
(6)
السلام هو الذى تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن
الشر فليس فى الوجود سلامة إلا وهى منتسبة إليه، والمراد من سلامة أفعاله عن الشر يعنى الشر المطلق المقصود لذاته لا لخير حاصل فى ضمنه أعظم منه وليس فى الوجود مطلق بهذا المعنى.
(7)
نور السموات والأرض يعنى مظهر الكون العام ومخرجه من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهذا شئ معنوى محض ليس من جنس صورة المذبح المضاء ولا ما يوقده النصارى فى كنائسهم وأديرتهم كما تخيله الكاتب.
(8)
علمت مما ذكرناه فى صفة القدوس والسلام والنور أن لا غموض فى شئ منها، وعجز الكاتب عن الوصول لهذه المعانى لا يخليه من المسئولية فى تهجمه على دعواه الغموض فيها بالباطل.
(9)
البارى هو الذى خلق الخلق وقدره تقديرًا. وهذا المعنى يساعد عليه الاشتقاق فى اللغة العربية، فزعم الكاتب أنه مأخوذ من اللغة العبرية، مستعمل دون أن يقصد منه معنى خاص، زعم فاسد. وخلاصة القول أن دراسة الكاتب للدين الإسلامى دراسة ناقصة مهوشة وكل ما ذكره من التناقض والاضطراب فمنشؤه عدم قدرته على فهم مرامى القرآن الكريم والأحاديث فى تصوير عقيدة التوحيد والتنزيه وشرح الأسماء والصفات. ولا أزال أكرر أن المدلولات اللغوية لما ورد من أسماء الله الحسنى وصفاته ليست متصورة إلا لتقريب المعنى إلى أفهام الناس وتصويره لهم.
محمد عاشور الصدفى
* * *
يبدو لمن قرأ مقال هذا المستشرق أنه لم يطلع على الآيات القرآنية الكريمة التى فيها أسماء الله وصفاته، وإنما أخذ أرقامها من الفهارس فقط، أو لعله قرأها ولم يتدبرها ولم يفقه معانيها. وقد يكون له فى هذا شئ من العذر، فإنه يقرأ فى لغة لم يتقنها ولم يمرن عليها لسانه ولا تفكيره، فلا يصل إلى شئ من أسرار معانيها وبلاغتها، أضف إلى ذلك سمو القرآن الكريم فى
عبارته إلى أعلى درجات البلاغة والإعجاز، مما كان سببًا فى اختلاف كثير من علماء الإسلام، أهل اللغة وأبناء العربية.
وبقى مما هاجم به الكاتب الشريعة الإسلامية، أن عمد إلى أساس من أقوى دعائمها -وهو الأحاديث النبوية- يحاول هدمه بالتشكيك فيه.
لم يأت الكاتب بأى دليل يؤيد طعنه على صحة الأحاديث وثبوتها إلا رأيه ورأى أخ له هو المستشرق (كولد سيهر) ثم إثارة الشكوك بكلمات جوفاء لا طائل تحتها، كادعائه أن من الواضح أن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون صدرت عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأن محاولة وجود شئ فى الحديث يمكن القطع بصحة نسبته إليه تاريخيًا - محاولة فاشلة، وأن الفرق الإسلامية لما اختلفت فى الآراء أخذ كل فريق منها يضع لم أحاديث يؤيد بها رأيه، وأن الأحاديث التى فيها مشابهة لما ورد فى القرآن الكريم مشكوك فيها أيضًا. وكدعوى كولدسيهر "أن الأحاديث ليست فى الواقع إلا سجلا للجدل المدينى فى القرون الأولى، ومن ثم كانت قيمتها التاريخية، ولكن هذا السجل مضطرب، كثير الأغلاط التاريخية، وفيه معلومات مضللة لم تؤخذ من مصادرها الأولى"، إلى آخر ما ألقاه من دعاوى، وما أثاره من شكوك.
وقد عنى المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا القرآن الكريم، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترًا، آية آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا فى الصدور، وإثباتًا بالكتابة فى المصاحف حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل ورووا طرق رسمه فى الصحف، وألفوا فى ذلك كتبًا مطولة وافية. وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه، والمأمور بإقامة دينه. وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن الكريم، وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة. قال تعالى فى
صفته: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (سورة النجم الآية: 3 و 4) وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} سورة النحل، الآية 44 وقال أيضًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
…
} سورة الأحزاب، الآية 21. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شئ يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول [صلى الله عليه وسلم] فقال: "اكتب فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق" ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شئ، وقد فعلوا، وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه، بعضها متواتر إما لفظًا ومعنى، واما معنى فقط، وبعضها بالأحاديث الصحيحة الثابتة، مما يسمى الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا فى دينهم بغير هذه الأنواع، التى لا يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر.
ومعنى "المتواتر" عند علماء المصطلح والأصول وغيرهم أنه خبر يرويه جمع من الناس يمتنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب، عن جمع كثير مثلهم، وهكذا طبقة بعد أخرى، حتى يصل إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمكن أحدًا أن يشك فى صحته وثبوته، اللهم إلا أمثال الكاتب من المستشرقين وأتباعهم، وهذا النوع من التواتر كثير جدًّا فى السُّنة، والقليل منه متواتر بلفظه ومعناه، وأكثره متواتر بالمعنى، كعدد الصلوات الخمس، وعدد الركعات فى كل صلاة، ومثل كثير من معجزات النبى صلى الله عليه وسلم، وإن حاول بعض الناس فى هذا العصر إنكار المعجزات المادية.
ومعنى "المشهور" أنه حديث يرويه رواة ثقات صادقون، طبقة عن طبقة حتى يصل إلى النبى صلى الله عليه وسلم، على أن لا يقل عدد الرواة فى كل طبقة عن ثلاثة، وهذا أيضًا كثير جدًّا فى السُّنة، باللفظ وبالمعنى، وفى الحقيقة إن المتواتر قسم من هذا النوع - المشهور -ولكنه أعلى أقسامه فى الثبوت-، فجعل نوعًا على حدة.
وباقى الأحاديث الصحيحة بعد ذلك يسمى "آحادًا"، فى اصطلاحهم، وهو الحديث الذى رواه الراوى الثقة
الصادق عن مثله طبقة بعد طبقة، حتى يصل إلى النبىى صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد من هؤلاء الرواة باسم الذى أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان ليس فى أحد منهم مغمز فى دينه، ولا مطعن فى صدقه وأمانته، مع التحرى والضبط لما رووه كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وإن كان مروياً بالمعنى، ثم وصلت هذه الأحاديث الصحيحة، المعروف نَقَلتها، الموثوق برواتها، وإلى أئمة هذا الفن الذين تفرغوا لدرسها ونقدها، فنقدوا أحوال الرواة وتراجمهم واحداً واحداً، ونفوا رواية كل من كانت روايته موضع شك، ومن كان صدقه وأمانته موضع ريبة، مهما ضؤلت. وجمعوا هذه الأحاديث فى الكتب، ورواها الناس عنه رواية مستفيضة منتشرة، تبلغ حد التواتر إليهم، وأكثر هذه الأحاديث منقول بنقل الكافة من الناس عن مثلهم إلى أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو داخل فى المتواتر أو فى المشهور، وإما إلى أحد الصحابة، وإما إلى أحد التابعين، وإما أحد الأئمة الأعلام الذين أخذوا عن التابعين أو الذين أخذوا عن أتباع التابعين، وكلهم موضع الصدق والثقة، لا مغمز فى واحد منهم، وكما قال الإمام أبو محمد بن حزم: "هذا نقل خص الله تعالى به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غضاً جديداً على قديم الدهور
…
فلا تفوتهم زلة فى كلمة فما فوقها فى شئ من النقل، إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقاً أن يقحم فيه كلمة موضوعة، ولله تعالى الشكر" وقد كتب فى (الملل والنحل) فصلا بديعاً طريفاً فى هذا البحث، أفاض فيه القول كعادته (ج 2 ص 81 - 84)، وقارن فيه بين طرق الإثبات التاريخى لأسانيد الشريعة الإسلامية وبين طرق الإثبات لأسانيد غيرها، ولو أردنا الدفاع عن شريعتنا بالهجوم على غيرها لنلقنا كلامه كله، ولكننا لا نرضى أن نسير فى هذا الطريق. إن أئمة هذا الفن -فى الحديث- احتاطوا أشد الاحتياط فى النقل، فكانوا يحكمون بضعف الحديث لأقل
شبهة فى سيرة الناقل الشخصية، أما إذا اشتبهوا فى صدقه، وعلموا أنه كذب فى شئ من كلامه فقد رفضوا روايته وسموا حديثه "موضوعاً". أو "مكذوبا" وإن لم يعرف عنه الكذب فى رواية الحديث، مع علمهم بأنه قد يصدق الكذوب.
وكذلك توثقوا من حفظ كل راو، وقارنوا رواياته بعضها ببعض، وبروايات غيره، فإن وجدوا منه خطأ كثيراً، وحفظاً غير جيد ضعفوا روايته وإن كان لا مطعن عليه فى شخصه ولا فى صدقه خشية أن تكون روايته مما خانه فيه الحفظ.
وقد حرروا القواعد التى وضعوها لقبول الحديث، وحققوها بأقصى ما فى الوسع الإنسانى، احتياطاً لدينهم، ونفياً للخطأ عن سنة نبيهم، فكانت قواعدهم التى ساروا عليها أصح القواعد للإثبات التاريخى وأعلاها وأدقها، وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها بغير علم منهم ولا بينة.
ثمَّ جمعوا هم ومن جاء بعدهم كل ما وصل إليهم من روايات فى الحديث، صحيحة أو ضعيفة، مع بيان قوتها أو ضعفها فى أكثر الأحوال، وبعضهم جمع فى كتابه أحاديث صحيحة واقتصر عليها كالبخارى ومسلم، رضي الله عنهما، وكتاباهما أصح الكتب ثبوتاً بعد القرآن الكريم، وأحاديثهما لا شك فى صحة شئ منها عند العلماء بهذا الشأن، وبعض العلماء عنى بجمع الأحاديث التى ثبت أنها مكذوبة على النبى صلى الله عليه وسلم ليحذر الناس منها. وجمعوا أيضاً كل ما وصل إلى علمهم من أسماء الرواة وأنسابهم وأحوالهم وتفاصيل تراجمهم، ليكون الباحث على بينة من بحثه فى صحة الحديث، وألفوا فى كل هذا الدواوين الكبار فى مئات من المجلدات بل آلاف، مما لا نجد النزر اليسير منه عند آية أمة من سائر الأمم.
أفبعد هذا العمل الضخم، والإنتاج الهائل العظيم يأتى أولئك المستشرقون ليسحروا أعين الناس، ويستهووا
عقولهم، ويضعوا الغشاء على أبصارهم.
إن المطَّلع على أقوال هؤلاء الناس يراهم يقبلون من الأحاديث أضعفها سنداً وأوهاها رواية، إذا وافق رأيهم وهواهم، وإن كان فى كتاب من كتب التاريخ أو السير أو غيرها بدون إسناد، ويحكمون بالكذب والوضع على أكثر الأحاديث الصحاح، مما أجمع المسلمون على صحته وثبوته، ولن تجد لهم قاعدة أو خطة يسيرون عليها فى قبول الأحاديث أو رفضها وكما ترى كاتب هذه المادة: يزعم أن الأحاديث التى تجد فيها مشابهة لما ورد فى القرآن مشكوك فيها! ! وهذا أقبح ألوان الافتراء، وأسقط أنواع الاستدلال، فإن المعقول الواضح أن الحديث الذى يوافق معنى القرآن، ويؤيده القرآن الكريم يكون معناه ثابتاً عن النبى صلى الله عليه وسلم وإن لم يثبت لفظه ولم يقم إسناده، ولكن القوم لا يرمون إلى التحقيق العلمى، والبحث العقلى وإنما يرمون إلى التشكيك، ثم إلى الشك.
أحمد محمد شاكر
الأسماء الحسنى: وهى الأسماء القدسية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (سورة الأعراف الآية: 180). {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (سورة طه، الآية: 8؛ سورة الحشر، الآية 24، وغيرها). والورعون من المسلمين يعظمون دوما سر الاسم الذى هو فى الوقت نفسه يفصح عن المسمى ويحجب الإسم.
المطلب الكلامى: وثمة باب فى علم التوحيد أفرد للأسماء الحسنى. والمشكلة القائمة هل يمكن لأحد أن يسمى الخالق؟ ثم عن الإله، ماذا تعنى الأسماء التى له؟ أوليات: ما هو الاسم؟ هل هو مطابق للمسمى وللاسمية؟
استعمال الأسماء القدسية: جواب رواة الحديث المأثور عن متزمتى الأشاعرة هو أن الأسماء القدسية لا يمكن أن يسمى بها الله إلا عن توقيف به ندرك أن الله ذاته قد صرح به فى القرآن، ثم وردت به السنة.
ووروده فى هذه الأخيرة على هذا النحو يجب أن يكون محدداً بحديث
صحيح أو حسن. ويجيز بعضهم الحكم الممكن المستنبط من إجماع. أما عند المعتزلة والكرّامية فإن العقل إذا أثبت صفة (سواء أكانت من صفات الوجود أو السلب أو الفعل) تصح للرب جاز أن يطلق عليه اسم يدل عى اتصافه بها، وردت به النصوص أم لم ترد. وهذه حال من تخصيص الاسم عن طريق العقل الإنسانى. ويجيز الغزالى هذا التخريج لتلك الصفات التى يقول إنها تعين دلالة زائدة على الذات ولا يجيزها فى الأسماء الدالة على الذات المقدسة نفسها. وللباقلانى الأشعرى تخريج بين بين تبعه عليه كثير من الأشاعرة المتأخرين، وهو: إذا كان النص أو الأثر يعطى صفة للرب، أو يخبرنا عن فعل له (ولكن فى هذه الأحوال فحسب) لوفق قواعد اللغة، فمن الممكن للمرء تسميته بالاسم المناظر، حتى ولو لم تنص عليه النصوص. ويلزم المرء أن يستثنى خاصة الأسماء غير المنزّلة التى تستدعى تصوراً منافياً للكمال الإلهى المطلق (فلا يجب أن يسمى الرب عارفاً، إذ المعرفة تعنى أن ثمة سهواً غلب، كما يجب ألا يسمى فقيهاً ولا عاقلا. . . إلخ) وبوفق هذه المقولات التى أصبحت شائعة فإن الأسماء لهذا يجب أن تكون إما منزلة، أو على الأقل ترجع إلى جذم منزل.
مسألتان واردتان: أ) الأسماء سرمدية فى قول الأشاعرة، وهذا على الضد من قول المعتزلة الذين يعدونها محدثة. ب) منحى الماتريدية من الأحناف أنها -أى الأسماء- سواءٌ شأنا وفضلا (انظر: الفقه الأكبر، جـ 2، ص 26)؛ منحى الأشاعرة: أن بينها درجات فى الأثر الإلهى، والاسم: الله له الأسبقية (أو كما يميل الصوفية إلى القول بأن بعض أسماء أخرى لها الأسبقية، لا تدرك إلا بتجربة جديدة معروفة للداخلين فى الطريقة، ويصدق هذا أيضاً على الاسم نفسه الذى لا يحاط به).
الأسماء التسعة والتسعون: يذكر حديث مروى عن أبى هريرة: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحداً. إنه وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل
الجنة". وتلاوة هذه الأسماء فى تدبر أصبحت فى الإِسلام من عظمى العبادات الكادة. والمسلم الورع يكررها متدبراً إياها مستعيناً عادة بحبات السُبْحة التسع والتسعين، عدا الوهابيين الذين يخالفون هذه العادة على أنها بدعة مذمومة. ويظهر أن ثمة عادة سريانية (مسيحية) استخدمت السبحة لعد مسردة من الأسماء القدسية التى كانت أقصر كثيراً من المسردة الإسلامية.
والمسلمون يجعلون لهذه الأسماء التسعة والتسعين مكانة ملحوظة، فهى تفصح فى وضوح كاف عن إيمان المسلم الورع بربه، وماذا يعنى له الاسم الأعلى "الله" الذى هو فى ذاته يطوى الأسماء الأخرى جميعها. وسوف نستنبط ثانية المسرد الأكثر قبولاً عادة بالاستناد إلى الحديث مع تفسير وشرح مختصر، وبما أن الفسحة لا تتيح لنا أن نتتبع استعماله تاريخياً فسوف نتناوله فى صورته الأخيرة، كما ورد فى أكثر تفاسير القرآن (سورة الإسراء، الآية 110)
وكما يتردد لفظ الجلالة "الله" على حدة فإنَّه يكون الاسم المتم المائة إذا أريد هذا (وعلى هذا تفسير الجلالين) ولكنه يعد أحياناً أول المسرد. وفى هذه الحال فإن الاسم السابع والستين "الواحد" يعدل عنه ويدمج فى الاسم الثامن والستين "الأحد". (المراجع الرئيسية: المقصد الأسنى للغزالى، طبعة القاهرة من غير تاريخ، وخاصة الصفحات 23 - 72؛ المواقف لعضد الدين الإيجى بشرح الجرجانى: "شرح المواقف" طبعة القاهرة 1325 هـ = 1907، مجلد 8، ص 211 - 217، الذى هو نفسه يشير إلى الغزالى وإلى سيف الدين الآمدى).
والترتيب المألوف يمكن إقراره على النحو الآتى: الأسماء الثلاثة عشر الأولى (أو من الاسم الثانى إلى الاسم الرابع عشر حين يبدأ المسرد بالله) ترجع إلى الإحصاء القرآنى للآيات (سورة الحشر الآيات 22 - 24)، والترتيب التالى يبدو أنه غالباً لتقوية الذاكرة، وهو مقيد بتقفيات وروابط فعلية.
مسرد الأسماء الحسنى التسعة والتسعين:
1) الله: اسم يختص به الرب، يدل على الرب نفسه وقد لا يستعمل فى شئ آخر. 2 و 3) الرحمن الرحيم: يعتمدان على صفة الإرادة، وكلاهما يتضمن المعنى نفسه. وعلى آية حال فعند الغزالى: الرحمن غير الرحيم فى أنه يستعمل للرب وحده (إذ الرحيم تذكر بالرحمن، والذى هو من الأسماء الحسنى). 4) الملك: يدل على استغناء (صفة سلب) عن كل الأشياء، وتبعية كل شئ للرب (صفة إيجاب) وكمال القدرة القدسية (من صفات القدرة). 5) القدوس: فى معنى الانفصال (من صفات السلب) وهى تشير إلى: أ) الخلو من كل عيب. ب) أنه لا بالحدس ولا بالرؤية يدرك غيب الرب. 6) السلام: أ) مالك السلام الذى لا شية فيه (من صفات السلب. ب) واهب السلام والخلاص عند بدء الخلق وفى وقت البعث (من صفات الوجود). جـ) سيظهر بركة السلام على خلقه (من صفات الكلام). 7) المؤمن: أ) بالنظر إلى هذا الاسم فإن أئمة الكلام تكلموا عن إيمان الله "غير المخلوق" فى ذاته، وعقب الإيجى أن الله مؤمن بمقدار ما يضع من إيمان فى ذاته ويعدل ما يكون من إيمان فى ذاته ما يضفيه على رسوله، يعنى أنه يوثق نفسه ويوثق رسله بيقينه الأسمى؛ أى يكمل إما بتوثيق ذاته ورسوله (من صفات الكلام) وإما بالفعل بخلق البرهان الخارق. ب) وقد يسمى الرب أيضاً مؤمناً عند حوارييه أصلاً من أصول الأمان. 8) المهيمن: أ) الشاهد دوماً، الذى يحيط بكل شئ (من صفات المعرفة). ب) مشاركة لأمين، تجعل بمعنى مخلص، صادق فى كلامه (من صفات الكلام). 9) العزيز: أ) صفة سلب تعنى عند الغزالى نادر ثمين جداً صعب المنال، وهكذا الرب لا وجود لمثله حتى إنه لا نظير له مطلقاً، ضرورى حتى إنه لا شئ يوجد إلا به، غير ممكن إدراكه فهو وحده يعرف نفسه. وعند الإيجى لا أب له ولا أم ولا مكان يحتويه ولا شئ يشبهه. ب) من صفات الفعل؛ يعاقب من يشاء؛ وهو الذى يملك أن يجازى على الأفعال. 10) الجبار: فلا يمكن أن يصمد له شئ أو إرادة. وفى معنى آخر للأصل
جبر: الذى يعمد إلى الحق. الذى يعيد ما يخص خلقه حسبما يشاء، وعلى وفق الأحوال؛ وهى من صفات الفعل أو السلب والإيجاب معاً، وترادف عظيماً فى المعنى. وعلى هذا فهو منزه من كل نقص. 11) المتكبر: كل شئ يبدو حقيراً قياسا إلى ذاته؛ وعند الإيجى والجرجانى: معناه قريب جداً من عظيم. 12) الخالق و 13) البارى: عند الإيجى والجرجانى معنى واحد: المنشئ. خالق الأشياء. 14) المصور: المدبر. الذى ينظم صور الأشياء. وهذه الأسماء الثلاثة الأخيرة تعتمد على صفات الفعل. والغزالى يحللها أكثر دقة، والثلاثة كلها تتضمن السلوك من العدم إلى الوجود، الأولى للعزم وفقاً للقدر، والثانية للوجود لذا ناسب تسميتها وجوداً، والثالثة لتنسيق الأشكال وفقاً لخير السُّنن.
والأسماء من الثانى إلى الرابع عشر جاءت على نفس الترتيب فى القرآن الكريم (سورة الحشر، الآيات: 22 - 24) ثم الأسماء التالية مصنفة أفضلية حسب تنغيم الصوت.
15) الغفَّار: الذى يعلم كيف يتجاوز عن الحكم بالعقاب والغفار من صفات الإرادة. 16) القهار (من صفات الأفعال السلبية). 17) الوهاب: (صفة وجود). 18) الرزاق: يُعنى بدءاً بالحاجات الطبيعية لكل إنسان (الجرجانى) وكذلك أيضاً الحاجات الروحانية للمخلوقات المفكرة (الغزالى)، من صفات الفعل، 19) الفتّاح:(ثلاثة ألوان من المعانى تبعاً لاختلاف ما يتضمنه الجذم): أ) الظافر الذى يقهر المصاعب ويجلب النصر (من صفات الوجود). ب) الحَكَم، سواء أصدر حكمه (من صفات الكلام) أو جعل الحكم معلوماً (من صفات الإرادة) جـ) الكاشف الذى يكشف للناس ما يظل مغيباً عنهم (الغزالى). 20) العليم: اسم مرتبط ارتباطاً تاماً بصفة العلم التى هى من صفات الماهية (ذاتى)؛ صفة حقيقية مشاركة فى قول الجرجانى.
والأسماء الستة الآتية على حين ترجع إلى أصول قرآنية فهى لم ترد فى القرآن الكريم بنصها، وهى لهذا تعد تواترية (نقلية) وهى مسوقة أزواجاً
على التضاد والترابط معا، وتوضح عطاياه سبحانه التى لا مقابل لها على الإطلاق.
21) القابض. و 22) الباسط و 23) الخافض. و 24) الرافع و 25) المعز و 26) المذل و 27) السميع 28) البصير: الله يسمع ويرى كل الأشياء وفقاً لصفتين من صفات الذات أكدهما القرآن الكريم. 29) الحَكَم: فى وضعه حكم ملكوته صورة من الحكمة والتدبر (الغزالى) متصلة بصفات المعرفة والكلام والفعل. 30) العدل: لا قبيح يصدر عنه (من صفات السلب. 31) اللطيف: الذى يخلق فى عباده نعمة اللطف ليكونوا فى عون بعضهم (من صفات الفعل). 32) الخبير: أ) الحكيم، وهى قريبة جداً من العليم، فى معنى العلم بأسرار قلوب الخلق (من صفات المعرفة). ب) الذى يختار، والذى يقضى مختاراً (من صفات الكلام). 33) الحليم: الذى يمهل العقاب (من صفات السلب). 34) العظيم: (انظر المعنى الوارد مع الجبار)؛ عند الغزالى: الذى وراء حدود إدراك الإنسان تماماً كالأرض والسماء اللتين لا يحاط بهما بلمحة واحدة.
35) الغفور: أ) عند الإيجى والجرجانى: مشابهة فى المعنى للغفار تماماً مثل الرحمن الرحيم فهما متشابهان فى المعنى. ب) عند الغزالى: الغفار يؤكد أن الرب يعفو حتى عن الخطايا المتكررة مع أن الغفور تحمل على الإطلاق ودون قيد عفو الرب السرمدى. 36) الشكور. وفى المعنى الاستعارى مأخوذة من شُكر. أ) الذى يعطى كثيراً لقاء قليل (من صفات الفعل). ب) ويثنى على كل من يطيعه (من صفات الكلام).
37) العلى: عند الإيجى: مرادفة للمتكبر، وعند الغزالى: الذى رتبته فوق رتبة المخلوقات. 38) الكبير: عند الإيجى: مرادفة للمتكبر وللعلى وعند الغزالى: مرادفة للعظيم. 39) الحفيظ: معنى قريب من عليم عند الإيجى، فإن الحفظ نقيض الإهمال والسهو، ولهذا كان لها أصل فى العلم: أ) الرب حافظ، متصل الفعل، وبهذا يرقب الكون أجمع، دون أن تكون رعايته للأشياء واحداً
بعد الآخر (من صفات السلب). ب) يؤكد دوام المخلوقات بحفظ يحميها من العاديات (من صفات العمل). 40) المقيت: أربعة ألوان من المعانى: أ) منبع القوة، لأنه يخلق الغذاء (المادى والروحى)، وهى مرادفة للرزاق (الغزالى). ب) الفاصل الذى يقضى ولا يرد قضاؤه (من صفات القدرة). جـ) الشاهد الذى يعلم الغيب (من صفات المعرفة) د) الحاضر. 41) الحسيب: أ) الذى يعطى ما يكفى لأنه يخلق لعباده ما هو كاف لهم (من صفات الوجود). ب) الذى يسأل بكلماته من يتبع الشرع الحساب عما عمل من حسنات وسيئات (من صفات الكلام). 42) الجليل: أ) عند الغزالى: إظهار جلال الصفات الإلهية الذى يميز هذا الاسم عن الكبير والعظيم، بمعانيهما المتقاربة. ب) وعند الإيجى: مرادف للمتكبر. جـ) وعند الجرجانى: موصوف بصفات الجلال والجمال.
43) الكريم: أربعة ألوان من المعانى: أ) ذو الجود (من صفات الفعل). ب) الذى يقدر قدر الجود (من صفات القوة). جـ) منه يفيض جميع السمو (من الصفات الإضافية). د) الذى يغفر الذنوب. 44) الرقيب: قريب فى المعنى من حفيظ (ومن ثم فهو مشتق من معنى عليم) ويؤكد الغزالى أن ملاحظته للأشياء لازمة دائمة لا يغفل عنها. 45) المجيب: الذى يجيب دعوات الضارعين؛ وعند الغزالى: الذى يعجل فيكفى الخلق ما يحتاجون؛ الذى يسعفهم. 46) الواسع: الذى يشمل بكرمه كل الأشياء، ويبسط جوده إلى كل موجود. علمه بكل معلوم. قدرته على كل شئ يمكن أن يعزم عليه، على الإطلاق ودون حاجة إلى الالتفات على التوالى للأشياء (الجرجانى)، 47) الحكيم: مرادف للعليم (الإيجى) ذو الحكمة، ذو العلم بالأشياء كما تقع منه وبنتائج الأفعال على ما هو ملائم. ب) الحازم فى حكمه، الذى يطابق بين السلامة التامة فى رعايته لهداية العالم وبين المنفعة فى تنفيذ شرائعه. 48) الودود: أ) الذى يحب الحسن من خلقه ويدبره لهم دون عوض. ب) ترجع إلى الصفة التى منها يتوجه الثناء الذى يثنى به على المؤمن والجزاء الذى يعطيه إياه. 49) المجيد: أ) الجميل
الأفعال، الوافر الإحسان. ب) الثناء الذى يستحقه يختص به وحده 50) الباعث: الذى يحيى كل مخلوق يوم النشور (هذا الاسم وحده له أصل تواترى) 51) الشهيد: أ) الذى يعلم الغيب ب) الذى هو حاضر (انظر المعنى الثالث للمُقيت). 52) الحق: تدل على العدل (من الصفة ذاتها). أ) ضرورى بجوهره. ب) صادق حقاً فى كلامه. جـ) إليه يرجع الصدق، الجلى. 53) الوكيل: الذى يوكل إليه كل شئ: الذى يرعى حاجات الخلق كلها. 54) القوى: الذى يملك القوة على الأشياء جميعها. 55) المتين: الذى لا حد لقوته. 56) الولى: فى معنى المعين. الحامى، وأيضاً القابض على زمام الملكوت. 57) الحميد: المستحق للحمد (من صفات الإضافة) 58) المحصى: الذى يدرك الأشياء المعدودة ويعرفها معرفة شاملة (العليم) وله القدرة عليها (القادر). 59) المبدئ: الخالق المطلق للكائنات الذى منته للخير البحت. 60) المعيد: الذى يهيئ الخلق للعودة بعد فنائهم: 61) المحيى. 62) المميت: الذى يسبب الحياة والموت. 63) الحى: إحدى صفات الذات فى المعنى الظاهر (الإيجى)؛ الرب فاعل ورقيب فلا أحد يؤثر فيه على أية حال، ولا أحد يمكنه أن يراه دون أن يموت، فهو حى فى أعلى درجات الحياة وأعظمها كمالا، بسبب كماله المطلق فى تأثيره وعلمه (الغزالى). 64) القيوم: الباقى فى ذاته وبذاته دون أى سبب آخر للوجود غير ذاته (من صفات السلب). ب) الذى يسوس المخلوقات ويسويها، ولا أحد يوجد دونه. 65) الواجد: الذى لا يعوزه شئ ولا يحتاج إلى شئ (من صفات السلب). 66) الماجد (من صفات الإضافة) إليه السلطة والقوة (ملاحظة: أكثر العادين يزيدون هنا. الواحد، الفرد. والغزالى والإيجى اللذان يحذفانه يذكران المعنى مرتبطاً بشروح الأسماء الآتية): 67) الأحد، من صفات الذات العليا، الصفة ذاتها التى للكمال القدسى تختلف عن الواحد كما يأتى: الأحد الفرد بذاته، تجرد مطلق للذات، الغلبة وانقطاع النظير للصفات القدسية؛ الواحد، الرب الفرد؛ لا رب آخر. 68) الصمد: أ) الحاكم الذى يحكم
(من صفات الإضافة). ب) معنى قريب من الحليم، الذى لا تعنيه ولا تغضبه أعمال خصومه (من صفات النفى)، جـ) السامى المقام جداً. د) الذى يتضرع إليه الإنسان ويتوسل (من صفات الإضافة). هـ) المصمت الذى لا جوف له ولا أجزاء يمكن أن ينقسم إليها. 69) القادر. 70) المقتدر. 71) المقدم. 72) المؤخر: الذى يقرب ويبعد؛ الذى يدنى إليه كل من يريد ويطلعه على قربه ويبعد ويهمل كل من أراد. 73) الأوَّل. 74) الآخِر. هو قبل كل شئ ولا شئ قبله، هو بعد كل شئ ولا شئ بعده (السبب الأول. فعال بات - عند الغزالى - من صفات السلب) 75) الظاهر، 76) الباطن: أ) عرف بالبرهان القاطع (من صفات الإضافة). ب) الذى تتجلى سيطرته على كل الأشياء (من صفات الفعل)؛ خفى. أ) محجوب عن الحواس (من صفات السلب)، ب) الذى يعلم الأشياء الخفية (من صفات العلم)، 77) الوالى، الحاكم (الإيجى). 78) المتعالى: مرادف للعلى ولكن مع إضافة معنى النصر، 79) البَر: الذى يحدث البر ليعمل عمله فى القلب ويكون منبع المنافع. 80) التواب: 81) المنتقم. 82) العَفُو. 83) الرؤوف (معنى قريب من رحيم، عند الغزالى). 84) مالك الملك، 85) ذو الجلال والإكرام: معنى قريب من الجليل فى رأى الإيجى والآمدى. 86) المقسط. ويخص ذلك الغزالى بيوم الحساب 87) الجامع أ) المؤلف بين الكائنات على حسب تماثلها وتباينها وتضادها (الغزالى). ب) الذى يجمع بين الغرماء يوم الحساب (الإيجى - الجرجانى). 88) الغنى. 89) المغنى. 90) المانع (اسم تواترى فحسب) الدافع الواقى، متصل بالحافظ الحارس اليقظ، والحافظ تبرز فكرة الحراسة والحماية؛ والمانع فكرة منع المصائب وصدها. 91) الضار، 92) النافع: اسمان تواتريان فقط، فهما يفصحان عن أن السيئة والحسنة، والخسران والربح، والضر والنفع، تعزى إلى الله وحده. 93) النور: أ) له فى ذاته برهان جلى تام. ب) هو الذى يجعل الأشياء كلها جلية واضحة، بإخراجه إياها من العدم إلى الوجود. 94) الهادى: الذى يخلق
الهدى فى قلوب المؤمنين، ويهدى كل كائن عاقلاً أو غير عاقل، إلى غايته. 95) البديع: أ) الذى خلق وأبدع دون مثال سبق ب) الذى هو ذاته أول على الإطلاق ولا شئ يشبهه. 96) الباقى: 97) الوارث: الذى يستمر وجوده بعد فناء الخلق، وإليه يرجع كل ما تملكه مخلوقاته. 98) الرشيد: 99) الصبور، معنى قريب من الحليم (اسم تواترى فحسب).
هذا هو مسود الأسماء الحسنى التسعة والتسعين؛ وثمة مسارد أخرى تزيد أحياناً على هذا العدد. فبعضها يعد: الرب، والمنعم، والمعطى، والصادق، والستار
…
إلخ.
وصفوة القول أن ثمة دراسات عدة للأسماء القدسية التى تذهب فى تصنيفها حسب الصفات (وعلى هذا الغزالى، المقصد، ص: 72) مع ميل مقصود إلى إسباغ لون من التأمل الروحى على هذا الغرض. وثمة أمثلة كثيرة لهذا فى التصوف، ومن ثم فلم يعد هذا الأمر مسألة إيراد شرح لهذه الأسماء الحسنى التسعة والتسعين بمقدار ما هو تطبيق لجميع قواعد التوقيف واللغة لتبجيل هذا السر القدس.
المصادر.
(1)
علاوة على الكتاب العرب الذين ورد ذكرهم فى صلب المادة فإنَّه ينبغى الرجوع إلى تفاسير القرآن الكريم الكبرى، والرسائل الكثيرة جداً عن الكلام، الفصل الخاص بالأسماء الحسنى.
(2)
ونسوق مثالاً من كثير عن تأمل صوفى من الصوفية فنحيل القاريء إلى: ابن عطاء الله السكندرى: القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد، القاهرة، طبعة الأزهر، سنة 1348 هـ = 1930 م.
(3)
مراجع باللغات الأوربية Muslim Creed: A.J.Wensinck كمبردج سنة 1932، ص 196، 239.
(4)
وثمة مسردة لا تمثل الأسماء الحسنى خير تمثيل فى J. Windrow Islam and Christian Theology: Sweetman مجلد 1، ج 1، مطبعة لاتّرويرث، سنة 1945، ص 215 - 16.
(5)
El justo medio en: Asin Palacios - la Crencia، compendio de teologia dog
matica de Algazel (وهى ترجمة كتاب الاقتصاد تعقبها ترجمة أجزاء من المقصد مع التعليق عليها) مدريد سنة 1929، ص 435 - 471.
(6)
Les Noms، titres: Y. Moubarac et attributs de Dieu dans le Coran et leurs -correspondants et epigraphie sud semitique فى Museon، سنة 1955، ص 86 وما بعدها.
الأبيارى [كارديه L.Gardet]
تعقيب على "مادة الأسماء الحسنى"
فى المادة -مع إلمامها بأطراف الموضوع- إيجاز مسرف طوى فى طياته التفسير المشبع الذى يجب أن يتصل بكل اسم من الأسماء الحسنى. والمادة فى إيجازها هذا - تكاد لا تعد مرجعاً مجزئاً، إذ هى ليست غير نظرة فى هذه الأسماء مجموعة مع موازنة عابرة بين بعضها البعض، كما أنه ثمة شروح أوردت وأهمل غيرها، وفى هذا الذى ترك تتمة وجلاء، وثمة إحالات إلى مواد هى تمهيد لهذا المقال، وكان لا بد من أن توجز هنا إيجازاً، إذ هى المدخل إليه والمقال عليها ينبنى، وهى إلى هذا لم توف فى أمكنتها التوفية كلها. لهذا كان لابد لهذا التعقيب من تمهيد يشمل الكلام عن الاسم والمسمى والتسمية فى إيجاز غير مخل، يكون مدخلا إلى الكلام عن الأسماء الحسنى. وإذ كنت أرى أنه لابد من أن يستوى مع هذا المقال شرح واف للأسماء الحسنى نقى من الشوائب، لكى يغنى به القاريء، ولا يجتزيء بهذه النظرة التى هى أقرب للرأى منها إلى العرض الأمين، لهذا وذاك رأيت أن أعقب ممهداً لهذا التعقيب بما ذكرت حتى أغنى القاريء بحاجته عن الأسماء الحسنى، ولا أعنيه الرجوع إلى مرجع آخر، إلا فيما ندر وكان فوق حاجة المستفيد عامة، فأقول:
قال التفتازانى: الاسم، هو اللفظ المفرد الموضوع لمعنى، وهو يعم جميع أنواع الكلمة. والمسمى، هو المعنى الذى وضع الاسم بإزائه. والتسمية، هى وضع الاسم للمعنى. وقد يراد بها ذكر الشئ باسمه، فيقال: سمى زيدا، ولم يسم عمراً.
وفى "جامع الرموز"، عند الكلام على جواز اليمين باسم الله تعالى: الاسم عرفاً لفظ دال على الذات والصفة معاً، كالرحمن والرحيم؛ والله اسم دال على ذات الواجب، فهو اسم للذات.
وقال الأشعرى: قد يكون الاسم عين المسمى، أى ذاته من حيث هى، نحو "الله"، فإنَّه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه، وقد يكون غيره، نحو "الخالق" و"الرازق"، مما يدل على نسبة إلى غيره، ولا شك أن تلك النسبة غيره، وقد يكون لا هو ولا غيره، مثل "العليم" و"القدير"، مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته، فإن تلك الصفة لا هو ولا غيره، فهكذا الذات المأخوذة منها.
وقال الآمدى: اتفق العقلاء على المغايرة بين التسمية والمسمى، وذهب أكثر أصحابنا إلى أن التسمية هى نفس الأقوال الدالة، وأن الاسم هو نفس المدلول.
وذهب ابن فورك إلى أن كل اسم هو المسمى بعينه، فقولك الله، دال على اسم هو المسمى، وكذلك قولك عالم وخالق، فإنَّه يدل على ذات الرب الموصوف بكونه عالماً وخالقاً.
وقال بعضهم: من الأسماء ما هو عين كالوجود والذات؛ ومنها ما هو غير كالخالق، فإن المسمى ذاته والاسم هو نفس الخلق، وخلقه غير ذاته؛ ومنها ما ليس عيناً ولا غيراً، كالعالم، فإن المسمى ذاته والاسم علمه الذى ليس عين ذاته ولا غيرها، فهو لم يُرد بالتسمية اللفظ وبالاسم مدلوله، كما أريد بالوصف قول الواصف وبالصفة مدلولها.
وقد اعتبر ابن فورك ومن وافقه المدلول المطابقى، وأرادوا بالمسمى ما وضع الاسم بإزائه، فقالوا: إن الاسم نفس المسمى.
وأراد بعضهم بالمسمى ما يطلق عليه الاسم، وجعل المدلول أعم من المطابق، وعد فى أسماء الصفات المعانى المقصودة، وزعم أن مدلول الخالق الخلق، وأنه غير ذات الخالق، وذلك لأن صفات الأفعال غير الموصوف، وأن الصفات التى لا عينه ولا غيره هى التى يمتنع انفكاكها عن موصوفها.
وأراد الأشعرى بالمسمى ما يطلق عليه الاسم، أعنى الذات، واعتبر المدلول المطابقى، وحكم بغيرية هذا المدلول، أو بكونه لا هو ولا غير، باعتبار المدلول التضمنى.
وذهب المعتزلة إلى أن الاسم هو التسمية.
وذهب أبو نصر بن أيوب إلى أن لفظ الاسم مشترك بين التسمية والمسمى، فيطلق على كل منهما، ويفهم المقصود بحسب القرائن.
وذهب الرازى إلى أن الاسم هو المسمى.
وعن الغزالى أنه مغاير لهما، لأن التسمية وطرفيها مغايرة قطعاً:(من شرح المواقف).
وقال أبو البقاء: كل كلمة تدل على معنى فى نفسها ولا تتعرض لزمان فهى الاسم
…
والاسم مسماه ما سواه، أو هو مسماه، أو مسماه لا هو ولا ما سواه.
ثم قال: والاسم لغة ما وضع لشئ من الأشياء ودل على معنى من المعانى، جوهراً كان أو عرضاً، فيشمل الفعل والحرف أيضاً، ومنه قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أى أسماء الجواهر والأعراض كلها؛ واشتقاقاً هو ما يكون علامة للشئ ودليلا يرفعه إلى الذهن، من الألفاظ والصفات والأفعال؛ وعرفاً هو اللفظ الموضوع لمعنى، سواء كان مركباً أو مفرداً، مخبراً عنه أو خبراً أو رابطة بينهما.
ثم قال: والاسم أيضاً ذات الشئ قال ابن عطية: ذات ومسمى وعين واسم بمعنى.
وقال: الاسم أيضاً الصفة، يقال: الحق والخالق والعليم أسماء الله تعالى، وهو رأى الأشعرى، والمسمى هو المعنى الذى وضع الاسم بإزائه، والتسمية هى وضع الاسم للمعنى. وقد يراد بالاسم نفس مدلوله، وبالمسمى الذات من حيث هى هى؛ وبالتسمية نفس الأقوال؛ وقد يراد ذكر الشئ باسمه، كما يقال: سمى زيداً ولم يسم عمراً.
وقال: والاسم إن دل على معنى يقوم بذاته فهو اسم عين، كالرجل والحجر؛ وإلا فاسم معنى، سواء كان
معناه وجودياً كالعلم، أو عدمياً كالجهل.
ومثل زيد وعمرو، هو اسم علم، ومثل رجل وامرأة، هو اسم لازم، أى لا ينقلب ولا يفارق، ومثل صغير وكبير، هو اسم مفارق؛ ومثل كاتب وخياط، اسم مشتق، ومثل غلام جعفر، وثوب زيد، هو اسم مضاف، ومثل فلان أسد، هو اسم مشبه؛
ومثل أب وأم، هو اسم منسوب يثبت بنفسه ويثبت غيره؛ ومثل حيوان وناس، اسم جنس.
والاسم -باعتبار معناه- على ستة أقسام، فنحو: زيد، جزئى حقيقى؛ ونحو: الإنسان، كلى متواطئ؛ ونحو: الوجود، كلى مشكك؛ ونحو: العين، مشترك؛ ونحو: الصلاة، منقول متروك؛ ونحو: الأسد: حقيقى ومجاز.
ووقوع الاسم على الشئ باعتبار ذاته كالأعلام، وباعتبار صفة حقيقية قائمة بذاته، كالأسود والأبيض والحار والبادر، وباعتبار جزء من أجزاء ذاته، كقولنا للحيوان: إنه جوهر وجسيم، وباعتبار صفة إضافية فقط، كقولنا للشئ: : إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك، وباعتبار صفة سلبية كالأعمى والفقير، وباعتبار صفة حقيقية مع صفة إضافية، كقولنا للشئ: إنه عالم وقادر، فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات، وكذا القدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات؛ وباعتبار صفتين: حقيقية وسلبية، كشجاع وهى الملكة وعدم البخل؛ وباعتبار صفتين: إضافية وسلبية، كالأول، لأنه سابق لغيره ولم يسبقه غيره؛ وقيُّوم، لأنه غير محتاج إلى غيره ومقوَّم لغيره؛ وباعتبار الصفات الثلاث كالإله، لأنه دال على وجوبه لذاته وعلى إيجاده لغيره وعلى تنزيهه عما لا يليق به.
والاسم الواقع فى الكلام قد يراد به نفس لفظه كما يقال: زيد معرب، وضرب فعل ماض، ومن حرف جر؛ وقد يراد به نفس ماهية المسمى، مثل: الإنسان نوع، والحيوان جنس؛ وقد يراد به فرد، نحو: جاءنى إنسان، ورأيت حيواناً، وقد يراد جزؤها، كالناطق؛ أو عارض لها كالضاحك.
ولا يبعد أن يقع اختلاف واشتباه فى أن اسم الشئ نفس مسماه أو غيره، وفى مثل كتبت زيداً، يراد به اللفظ، ومثل: كتب زيد، يراد به المسمى؛ وإذا أطلق بلا قرينة ترجح اللفظ أو المسمى، كما فى قولك: زيد حسن، فإنه يحتملهما بلا رجحان، فالقائل بالغيرية يحمله على اللفظ، وبالعينية على المسمى.
وعند النحويين غير المسمى، إذ لو كان إياه لما جازت إضافته إليه، إذ الشئ لا يضاف إلى نفسه. والاسم هو اللفظ المعلق على الحقيقة، عيناً كانت تلك الحقيقة أو معنى، تمييزاً لها باللقب ممن يشاركها فى النوع. والمسمى هى تلك الحقيقة، وهى ذات ذلك اللقب، أى صاحبه؛ فمن ذلك: لقيته ذات مرة، والمراد الزمن المسمى بهذا الاسم، الذى هو مرة. والدليل على التغاير بينهما أيضاً ثبوت كل منهما. حال عدم الآخر، كالحقائق التى ما وضعوا لها اسما بعينه، وكألفاظ المعدوم والمنفى، وكالأسماء المترادفة المشتركة، فإن كثرة المسميات ووحدة الاسم فى المشترك، وبالعكس فى المترادف، توجب المغايرة، لا سيما أن الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات، وتلك الأصوات أعراض غير باقية.
والمسمى قد يكون باقياً، بل قد يكون واجب الوجود لذاته.
وإطلاق الاسم بمعنى الصفة على ما مدلوله مجرد الذات، بلا معنى زائد، محل نظر، فإن قيل: لو كان الاسم هو المسمى لاستقام أن يقال: إن الله اسم، كما يستقيم القول بأن الله مسمى، واستقام أن يقال بأنه عبد اسم الله، كما يستقيم القول بأنه عبد الله.
قال صاحب "الكافى": السبيل فى مثله التوقيف، ولم يرد التوقيف بأن اسم الله هو الله، ولا بأن عبد اسم الله عبد الله.
والمحكى عن المعتزلة أن الاسم غير المسمى. ولفظ الاسم فى قوله تعالى (سبح اسم ربك) و (تبارك اسم ربك) مقحم.
قال أبو البقاء: ولنا أن تلكما الآيتين دليل على أنهما واحد، إذ لو كان الاسم
غير المسمى لكان أمراً بالتسبيح لغير الله، وعلى هذا إذا قال: زينب طالق، واسم امرأته زينب، يقع على ذات المرأة لا على اسمها. وإذا استعمل بمعنى التسمية يكون غير المسمى لا محالة، فجواب: ما اسمك؟ زيد، لأن ما لغير العقلاء، وجواب: من زيد؟ أنا، بالإضافة إلى الذات.
فالاسم هو مدلول اللفظ لا اللفظ، يقال: زيد هذا الشخص، وزيد جاء، ولو كان هو اللفظ لما صح الإسناد، نعلم أنه غير المسمى خارجاً لا مفهوماً.
وأما اللفظ الحاصل بالتكلم، وهو الحروف المركبة تركيباً مخصوصاً، فيسمى بالتسمية.
ثم إن الاسم إما أن يوضع لذات معينة من غير ملاحظة معنى من المعانى معها، مثل الإبل والفرس، وإما أن يوضع لذات معينة باعتبار صدق معنى ما عليها، فيلاحظ الواضع تلك الذات باعتبار صدق ذلك المعنى عليها، ثم يوضع الاسم بإزاء تلك الذات فقط، خارجاً عنها ذلك المعنى، أو بإزاء الذات المتصفة بذلك المعنى، داخلا ذلك المعنى فى الموضوع له، فيكون المعنى سبباً باعثاً للوضع فى هاتين الصورتين، مع أنه خارج فى الصورة الأولى داخل فى الثانية.
وكل من هذه الأقسام الثلاثة اسم يوصف ولا يوصف به، إذ مدلوله الذات المعينة القائمة بنفسها، ممتنعة القيام بغيرها، حتى يوصف بها الغير. وإما أن يوضع لذات مبهمة يقوم بها معنى معين، على أن يكون قيام ذلك المعنى بأية ذات كانت من الذوات مصححاً للإطلاق. فهذا القسم هو الصفة، إذ مدلوله قائم بغيره لا بنفسه، لأنه مركب من مفهوم الذات المبهمة والمعنى. . وقيام المعنى بغيره ظاهر، وكذا الذات المبهمة معنى من المعانى، إذ لا استقلال له بنفسه فيقوم بغيره. والضابط فيه هو أن كل ذات قامت بها صفات زائدة عليها فالذات غير الصفات، وكذا كل واحد من الصفات غير الآخر إن اختلفت بالذوات، بمعنى أن حقيقة كل واحد والمفهوم منه، عند انفراده، غير مفهوم الآخر لا محالة. وإن كانت الصفات غير ما قامت به من الذات فالقول بأنها غير مدلول الاسم المشتق منها أو ما وضع لها وللذات من
غير اشتقاق، وذلك مثل صفة العلم بالنسبة إلى مسمى العالم أو مسمى الإله. فعلى هذا، وإن صح القول بأن علم الله غير ما قام به من الذات لا يصح أن يقال إن علم الله غير مدلول اسم الله أو عينه، إذ ليس هو عين مجموع الذات مع الصفات، ولعل هذا هو المراد بقول بعضهم إن الصفات النفسية لا هى ولا هى غيره.
وعلى هذا فالإله اسم لا وصف، مع أنه صالح للوصفية أيضاً لاشتمال معناه على الذات المبهمة القائمة بها معنى وعيناً. والدليل على ذلك جريان الأوصاف عليه وعدم جريانه على موصوف، والسبب فى ذلك كونه فى أصل وضعه لذات معينة بإعتبار وصف الألوهية، ومعلوم أن الذات المعينة قائمة بنفسها لا يحتمل قيامها بغيرها حتى يصح إجراء اللفظ الدال عليها على موصوف ما. وهذا هو الفرق بين الاسم والصفة.
ويقول الجرجانى فى شرح المواقف: الاسم الذى يطلق على الشئ إما أن يؤخذ من الذات، بأن يكون المسمى به ذات الشئ وحقيقته من حيث هى، أو من جزئها، أو من وصفها الخارجى أو من الفعل الصادر عنه، فالمأخوذ من الوصف الخارجى الداخل فى مفهوم الاسم فجائز فى حقه تعالى، سواء كان الوصف حقيقياً كالعليم، أو إضافياً كالماجد بمعنى العالى، أو سلبياً كالقدوس، وكذا المأخوذ من الفعل كالخالق. وأما المأخوذ من الجزء كالجسم للإنسان فمحال، لانتفاء التركيب فى ذاته، فلا يتصور له جزء حتى يطلق عليه اسمه.
أما المأخوذ من الذات، فمن ذهب إلى جواز تعقل ذاته جوّز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة، ومن ذهب إلى امتناع تعقلها لم يجوز، لأن وضع الاسم لمعنى نوع من تعقله ووسيلة إلى تفهيمه، فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم، فإنه لا يتصور اسم بإزائه. وفيه بحث، لأن الخلاف فى تعقل كنه ذاته ووضع الاسم لا يتوقف عليه، إذ يجوز أن يعقل ذات ما بوجه ما. ويوضع الاسم لخصوصية يقصد تفهيمها باعتبار ما لا بكنهها، ويكون
ذلك الوجه مصححاً للوضع وخارجاً عن مفهوم الاسم، كما فى لفظ الله، فإنه اسم علم له، موضوع لذاته من غير اعتبار معنى فيه.
وفى شرح القصيدة الفارضية فى علم التصوف: الأسماء تنقسم باعتبار الذات والصفات والأفعال إلى: الذاتية كالله، والصفاتية كالعليم، والأفعالية كالخالق. وتنحصر باعتبار الأنس والهيبة عند مطالعتها فى الجمالية كاللطيف، والجلالية كالقهار.
والصفات تنقسم باعتبار استقلال الذات بها إلى: ذاتية، وهى سبعة: العلم والحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام؛ وباعتبار تعلقها بالخلق إلى: أفعالية، وهى ما عدا السبعة.
ولكل مخلوق سوى الإنسان حظ من بعض الأسماء دون الكل، كحظ الملائكة من اسم السبوح والقدوس. ولذا قالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك. وحظ الشيطان من اسم الجبار والمتكبر، ولذلك عصى واستكبر، واختص الإنسان بالحظ من جميعها، ولذلك أطاع تارة وعصى أخرى، وقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أى ركب فى فطرته من كل اسم من أسمائه لطيفة وهيأه بتلك اللطائف للتحقق بكل الأسماء الجلالية والجمالية، وعبر عنهما بيديه، فقال لإبليس {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وكل ما سواه مخلوق بيد واحدة لأنه إما مظهر صفة الجمال كملائكة الرحمة، أو الجلال كملائكة العذاب. وعلامة التحقق باسم من أسماء الله أن يجد معناه فى نفسه، كالمتحقق باسم الحق، علامته ألا يتغير بشئ، كما لم يتغير الحلاج عند قتله تصديقاً لتحققه بهذا الاسم.
وفى الإنسان الكامل: أسماء الله تعالى على قسمين، القسم الأول هى الذاتية كالأحد والواحد والفرد والصمد والعظيم والحى والعزيز والكبير والمتعال وأشباه ذلك. والقسم الثانى هى الصفاتية، كالعليم والقادر، ولو كانت من الأسماء النفسية، وكالمعطى والخلاق، ولو كانت من الأفعالية.
ويقول التهانوى: اعلم أن تسميته تعالى بالأسماء توقيفية، أى يتوقف إطلاقها على الإذن فيه وليس الكلام فى أسماء الأعلام الموضوعة فى اللغات إنما
النزاع فى الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال.
وقال القاضى أبو بكر: كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه به بلا توقيف، إذا لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه، ولذا لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف، لأن المعرفة قد يراد بها علم تسبقه غفلة، وكذا لفظ الفقيه والعاقل والفطن والطبيب ونحو ذلك.
وقد يقال: لابد مع نفى ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقيف.
وقال القاضى أبو بكر: لابد من التوقيف، وهو المختار، وذلك للاحتياط، فلا يجوز الاكتفاء فى عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا، بل لابد من الاستناد إلى إذن الشرع. فإن قلت: من الأوصاف ما يمتنع إطلاقه عليه تعالى مع ورود الشرع بها، كالماكر، أجيب بأنه لا يكفى فى الإذن مجرد وقوعها فى الكتاب أو السنة بحسب اقتضاء المقام ورعاية أدب. وسياق الكلام، بل يجب أن يخلو عن نوع تعظيم.
وقال الغزالى: الحق أن الاسم غير التسمية وغير المسمى، وأن هذه ثلاثة أسماء متباينة غير مترادفة ولا سبيل إلى كشف الحق فيه إلا ببيان معنى كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة مفرداً، ثم بيان معنى قول: هو هو، ومعنى قولنا: هو غيره. وكل علم تصديقى، أعنى علم ما يتطرق إليه التصديق أو التكذيب، فإنه لا محالة لفظه قضية تشتمل على موصوف وصفة ونسبة لتلك الصفة إلى الموصوف، فلابد وأن تتقدم عليه المعرفة بالموصوف وحده على سبيل التصور لحدها وحقيقتها، ثم المعرفة بالصفة وحدها على سبيل التصور لحدها وحقيقتها، ثم النظر فى نسبة الصفة إلى الموصوف، أنها موجودة له أو منفية عنه، فمن أراد مثلا أن يعلم أن الملك قديم أو حادث، فلابد وأن يعرف أولاً معنى لفظ الملك، ثم معنى القديم والحادث، ثم ينظر فى إثبات أحد الوصفين للملك أو نفيه عنه، فلذلك لابد من معرفته معنى الاسم ومعنى المسمى، ومعنى التسمية، ومعرفة معنى هو هو، والهوية والغيرية حتى يتصور أن يعرف بعد ذلك أنه هو أو غيره.
وحد الاسم وحقيقته أن للأشياء وجوداً فى الأعيان ووجوداً فى الأذهان ووجوداً فى اللسان. أما الوجود فى الأعيان فهو الوجود الأصلى الحقيقى، والوجود فى الأذهان هو الوجود العلمى الصورى، والوجود فى اللسان هو الوجود اللفظى الدليلى؛ فإن السماء مثلا لها وجود فى عينها ونفسها، ثم لها وجود فى أذهاننا ونفوسنا، لأن صورة السماء تنطبع فى أبصارنا ثم فى خيالنا حتى لو عدمت السماء مثلا وبقينا لكانت صورة السماء حاضرة فى خيالنا. وهذه الصورة هى التى يعبر عنها بالعلم، وهو مثال المعلوم، فإنه محاكٍ للمعلوم وموازٍ له، وهو كالصورة المنطبعة فى المرآة فإنها محاكية للصورة الخارجة المقابلة لها. فالعلم إذن مثال الذهن فى المعلوم.
وأما الوجود فى اللسان فهو اللفظ المركب من أصوات قطعت أربع تقطيعات، يعبر عن القطعة الأولى بالسين، وعن الثانية بالميم، وعن الثالثة بالألف، وعن الرابعة بالهمزة، وهو قولنا: سماء. فالقول دليل على ما هو فى الذهن، وما فى الذهن صورة لما فى الوجود مطابقة له. ولو لم يكن وجود فى الأعيان لم تنطبع صورة فى الأذهان. ولو لم تنطبع صورة فى الأذهان لم يشعر بها إنسان، ولو لم يشعر بها الإنسان لم يعبر عنها باللسان.
فإذن اللفظ والعلم والمعلوم ثلاثة أمور متباينة لكنها متطابقة متوازية. والإنسان مثلا من حيث إنه موجود فى الأعيان يلحقه أنه نائم ويقظان وحى وميت وماشٍ وقاعد وغير ذلك، ومن حيث إنه موجود فى الأذهان يلحقه أنه مبتدأ وخبر وعام وخاص وجزئى وكلى وقضية وغير ذلك؛ ومن حيث إنه موجود فى اللسان يلحقه أنه عربى وعجمى وتركى وزنجى وكثير الحروف وقليلها، وإنه اسم وفعل وحرف وغير ذلك.
وهذا الوجود يجوز أن يختلف بالأعصار ويتفاوت فى عادة أهل الأمصار. فأما الوجود الذى فى الأعيان والأذهان فلا يختلف بالأعصار والأمم البتة.
والمراد بالاسم هنا الذى فى اللسان دون الذى فى الأعيان والأذهان. وإذا عرفت أن الاسم إنما يعنى به اللفظ الموضوع للدلالة، فاعلم أن كل موضوع للدلالة فله واضع ووضع وموضوع له. ويقال للموضوع له: المسمى، وهو المدلول عليه، من حيث إنه يدل عليه، ويقال للواضع: المسمى؛ ويقال للوضع: التسمية. وقد يطلق لفظ التسمية على ذكر الاسم الموضوع، كالذى ينادى شخصاً يقول: يا زيد، فيقال: سماه، وإن قال: أبا بكر، يقال: كنّاه.
وكان لفظ التسمية مشتركاً بين وضع الاسم وبين ذكر الاسم، وإن كان الأشبه أنه أحق بالوضع منه بالذكر.
ويجرى الاسم والتسمية والمسمى مجرى الحركة والتحريك والمتحرك والمحرك. وهذه أربعة أسام متباينة تدل على معان مختلفة، فالحركة تدل على النقلة من مكان إلى مكان، والتحريك يدل على إيجاد هذه الحركة، والمحرك يدل على فاعل الحركة، والتحرك يدل على الشئ الذى فيه الحركة، مع كونه صادراً من فاعل كالمتحرك الذى لا يدل إلا على المحل الذى فيه الحركة ولا يدل على الفاعل.
ثم قال: ومن ظن أن الاسم هو المسمى، على قياس الأسماء المترادفة، كما يقال: الخمر هى العقار، فقد أخطأ، لأن مفهوم المسمى غير مفهوم الاسم، إذ الاسم لفظ دال والمسمى مدلول، وقد يكون غير لفظ، ولأن الاسم عجمى وتركى وعربى، أى موضوع العجم والترك والعرب، والمسمى قد لا يكون كذلك. والاسم إذا سئل عنه قيل: ما هو؟ والمسمى إذا سئل عنه قيل: من هو؟ وإذا سمى الجميل باسم قبيح، قيل اسم قبيح ومسمى حسن، وإذا سمى باسم كثير الحروف ثقيل المخارج، قيل اسم ثقيل ومسمى خفيف. والاسم قد يكون مجازاً والمسمى لا يكون مجازاً. والاسم قد يتبدل على سبيل التفاؤل والمسمى لا يتبدل، فهذا كله يعرفك أن الاسم غير المسمى.
وقد يقال: إن الاسم هو المسمى، على معنى أن المسمى مشتق من الاسم،
فيدخل فيه كما يدخل السيف فى مفهوم الصارم. وهذا إن قيل به فيلزم عليه أن يكون التسمية والمسمَّى والاسم كله واحداً، لأن الكل مشتق من الاسم ويدل عليه. وهذا مجازفة من الكلام، إذ الاسم دلالة، وله مدلول هو المسمى، ووضعه فعل فاعل مختار، وهو التسمية، ثم إن المسمى ليس اسما بصفة، ولا التسمية اسما بصفة، فيصح هذا التأويل.
فالاسم والتسمية والمسمى ألفاظ متباينة المفهوم مختلفة المقصود، يصح على الواحد منها أن يقال له: هو غير الثانى لا أنه هو، لأن الغير فى مقابلة: الهو هو.
والمذهب القائل بتقسيم الاسم إلى ما هو المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما هو هو ولا هو غيره، فأبعد المذاهب عن السداد، إلا أن يراد به مفهوم الاسم، فيقال: مفهوم الاسم قد يكون ذات المسمى وحقيقته وماهيته، وهى أسماء الأنواع التى ليست مشتقة، كقولك: إنسان وعلم وبياض، وما هو مشتق فلا يدل على حقيقة المسمى بل يترك الحقيقة مبهمة ويدل على صفة له، كقولك: عالم وكاتب.
وقد يقال: إنما اضطر القائلون إلى القول بأن الاسم هو المسمى حذرا من القول بأن الاسم هو اللفظ الدال بالاصطلاح فيلزمهم القول بأن الله تعالى لم يكن له اسم فى الأزل إذ لم يكن لفظ ولا لافظ، فإن اللفظ حادث. ولقد فاتهم أن معانى الأسماء كانت ثابتة فى الأزل ولم تكن الأسماء؛ لأن الأسماء عربية وعجمية حادثة. وقد سبقت الإشارة إلى أن الأشياء لها ثلاث مراتب فى الوجود أحدها فى الأعيان، وهذا الوجود الموصوف بالقدم فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته، والثانى فى الأذهان وهذا الوجود حادث إذ كانت الأذهان حادثة، والثالث فى اللسان وهى الأسماء، وهذا الوجود أيضاً حادث بحدوث اللسان.
وقد يقال: فقد قال تعالى {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} ومعلوم أنهم ما كانوا يعبدون الألفاظ التى هى حروف مقطعة، بل كانوا يعبدون المسميات.
فنقول: إن المستدل بهذا لا يفهم وجه دلالته ما لم يقل إنهم كانوا يعبدون المسميات دون الأسماء فيكون فى كلامه التصريح بأن الأسماء غير المسميات، إذا لو قال قائل: العرب كانت تعبد المسميات دون المسميات لكان متناقضاً، ولو قال: نعبد المسميات دون الأسماء كان غير متناقض، فلو كانت الأسماء هى المسميات لكن القول الأخير كالأول.
ثم يقال أيضاً: إن اسم الآلهة التى أطلقوها على الأصنام كان اسما بلا مسمى؛ لأن المسمى هو المعنى الثابت فى الأعيان من حيث دل عليه اللفظ، ولم تكن للأصنام آلهة ثابتة فى الأعيان ولا معلومة فى الأذهان، بل كانت أساميها موجودة فى اللسان فكانت أسماء بلا معان، ومن سمى باسم الحكيم ولم يكن حكيما وفرح به قيل: فرح بالاسم، إذ ليس وراء الاسم معنى، وهذا هو الدليل على أن الاسم غير المسمى، لأنه أضاف الاسم إلى التسمية وأضاف التسمية إليهم فجعلها فعلا لهم، فقال (أسماء سميتموها) يعنى أسماء حصلت بتسميتهم وفعلهم وأشخاص الأصنام لم تكن هى الحادثة بتسميتهم.
فإن قيل: فقد قال تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} والذات هى المسبحة دون الاسم؛ قلنا. الاسم ها هنا زيادة على سبيل الصفة.
وقد استدل القائلون بأن الاسم غير المسمى بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وبقوله صلى الله عليه وسلم: إن لله سبحانه تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، قالوا: لو كان الاسم هو المسمى لكان مسمى تسعاً وتسعين، وهو محال، لأن المسمى واحد.
وقد يقولون: إن المراد بالاسم هنا التسمية، وهو بعيد أيضاً، إذ أن التسمية ذكر الاسم أو وصفه، ثم إن التسمية تتعدد وتكثر بكثرة المتسمين، وإن كان الاسم واحداً، كما أن الذكر والعلم يكثر بكثرة الذاكرين والعالمين، وإن كان المذكور والمعلوم واحداً، فكثرة التسمية لا تفتقر إلى كثرة الأسماء، لأن ذلك يرجع إلى أفعال المسمين، فما أريد بالأسماء ها هنا التسميات، بل
أريد الأسماء، والأسماء هى الألفاظ الموضوعة الدالة على المعانى المختلفة.
وثمة مسألة أثارها صاحب المقال، وهى ذلك الترادف الذى أشار إليه بين بعض الأسماء الحسنى. ونحن نورد هنا ما رد به الغزالى، قال:
وهذا مما أستبعده غاية الاستبعاد مهما كان الاسمان من جملة التسعة والتسعين، لأن الاسم لا يراد لحروفه بل لمعانيه، والأسامى المترادفة لا تختلف إلا حروفها، وإنما فضيلة هذه الأسامى لما تحتها من المعانى، فإذا خلت عن المعانى لم يبق إلا الألفاظ. والمعنى إذ دل عليه بألف اسم لم يكن له فضل على المعنى الذى يدل عليه باسم واحد، فبعيد أن يكمل هذا العدد المحصور بتكرير الألفاظ على معنى واحد، بل الأشبه أن يكون تحت كل لفظ خصوص معنى، فإذا رأينا لفظين متقاربين فلابد فيه من أحد أمرين.
أحدهما: ألا يبين أن أحدهما خارج عن التسعة والتسعين، مثل الأحد والواحد، فإن الرواية المشهورة عن أبى هريرة ورد فيها الواحد، وفى رواية أخرى ورد فيها الأحد بدل الواحد، فيكون مكمل العدد معنى التوحيد، إما بلفظ الواحد أو بلفظ الأحد، فأما أن يقوما فى تكميل العدد مقام اسمين والمعنى واحد، فهو بعيد جداً.
الثانى: أن نتكلف إظهار مزية لأحد اللفظين على الآخر ببيان اشتماله على دلالة لا يدل عليه الآخر، مثاله لو ورد الغافر والغفور والغفار، لم يكن بعيداً أن تعد هذه ثلاثة أسام، لأن الغافر يدل على أصل المغفرة فقط، والغفور يدل على كثرة المغفرة بالإضافة إلى كثرة الذنوب، حتى إن من لا يغفر إلا نوعاً واحداً من الذنوب فلا يقال له الغفور، والغفار يشير إلى كثرة غفران الذنوب على سبيل التكرار، أى يغفر الذنوب مرة بعد أخرى، حتى إن من يغفر الذنوب جميعاً ولكن أول مرة، ولا يغفر العائد إلى الذنب مرة بعد أخرى لم يستحق اسم الغفار.
ثم قال: وهذا القدر من التفاوت يخرج الأسامى من أن تكون مترادفة وتكون من جنس السيف والمهند والصارم، لا من جنس الليث والأسد. فإن عجزنا فى بعض هذه الأسامى المتقاربة عن هذين المسلكين فينبغى أن
نعتقد تفاوتاً بين معنى اللفظين. فإن عجزنا عن التنصيص على خصوص ما به الافتراق كالعظيم والكبير مثلا فإنه يصعب علينا أن نذكر وجه الفرق بين معنييهما فى حق الله تعالى، ولكنا مع ذلك لا نشك فى أصل الافتراق، ولذلك قال تعالى: الكبرياء ردائى، والعظمة إزارى. فرق بينهما فرقاً يدل على التفاوت، وإن كان كل واحد من الرداء والإزار زينة للإنسان، ولكن الرداء أشرف من الإزار. وكذلك العرب فى استعمالها تفرق بين اللفظين، إذ يستعمل الكبير حيث لا يستعمل العظيم، ولو كانا مترادفين لتواردا فى كل مقام، تقول العرب: فلان أكبر سناً من فلان، ولا تقول: أعظم سناً.
فهذه الأسامى، وإن كانت متقاربة المعانى فليست مترادفة. وعلى الجملة يبعد الترادف المحض فى الأسماء الداخلة فى التسعة والتسعين، لأن الأسماء لا تراد لحروفها ومخارج أصواتها، بل لمفهوماتها ومعانيها.
وكذا أشار صاحب المقال إلى المعانى المختلفة التى يحتملها الاسم الواحد، ونحن نسوق هنا رأى الغزالى فى ذلك، قال: الاسم الواحد الذى له معان مختلفة، وهو مشترك بالإضافة إليها، كالمؤمن مثلا، فإنه قد يراد به التصديق، وقد يشتق من الأمن، ويكون المراد إفادة الأمن والأمان، فهل يجوز أن يحمل على كلا المعنيين حمل العموم على مسمياته، كما يحمل العليم على العلم بالغيب والشهادة والظاهر والباطن وغير ذلك من المعلومات الكثيرة؟
وهذا إذا نظر إليه من حيث اللغة فبعيد أن يحمل الاسم المشترك على جميع المسميات حمل العموم إذ العرب تطلق اسم الرجل وتريد به كل واحد من الرجال، وهذا هو العموم، ولا تطلق اسم العين وتريد به عين الشمس والدينار وعين الميزان والعين المتفجرة من الماء والعين الباصرة من الحيوان، وهذا هو اللفظ المشترك. بل تطلق مثل ذلك لإرادة أحد معانيه، وتميز ذلك بالقرينة.
إلى أن قال: ولا نذكر لكل اسم إلا معنى واحداً نراه أقرب ونضرب عما عداه صفحا إلا إذا تصرف الشرع فيه من الألفاظ، فلا يبعد أن يكون من وضعه وتصرفاته إطلاق اللفظ لإرادة
جميع المعانى، فيكون اسم المؤمن بالشرع محمولا على المصدق، ومفيداً الأمن بوضع الشرع لا بوضع لغوى، كما أن اسم الصلاة والصوم قد اختص بتصرف الشرع ووضعه.
وننتقل بعد هذا إلى الأسماء الحسنى وبيان معانيها فى ظل ما قدمنا، إذ ما جاء فى المقال غير مجزيء، والقاريء به لا يغنى، كما أن فيه تجاوزا كثيراً عما هو شائع متعارف، واكتفاء بشئ من أشياء، فنقول:
الأسماء الحسنى
وهى التى اشتملت عليها رواية أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحداً. إنه وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة. هو الله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكير الخالق الباريء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى المتين الولى المحصى المبديء المعيد المحيى المميت الحي القيوم الواجد الماجد الباطن الوالى المتعال البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنى المانع الضار النافع النور الهادى البديع الباقى الوارث الرشيد الصبور.
الله: اسم للموجود الحق لصفات الإلاهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقى، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته، وأن ما استفاد الوجود منه فهو من حيث ذاته هالك، ومن جهته التى تليه موجود هالك إلا وجهه. والأشبه أنه جاء فى الدلالة على هذا المعنى مجرى الأسماء الأعلام. وهو أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلاهية كلها حتى لا يشذ منها شئ، وسائر الأسماء لا تدل آحادها إلا على أصل المعانى من علم أو قدرة أو فعل
أو غيره، ولأنه أخص الأسماء، إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا، وسائر الأسماء قد يسمى به غيره، كالقادر والعليم والرحيم.
الرحمن الرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعى مرحوما، ولا مرحوم إلا وهو محتاج. والذى تنقضى به حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية بالمحتاج لا يسمى رحيما. والذى يريد قضاء حاجة ولا يقضيها، فإن كان قادرا على قضائها لا يسمى رحيما إذ لو تمت الإرادة لوفى بها، وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما ياعتبار ما اعتاده من الرقة ولكنه ناقص. وإنما الرحمة التامة إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم. والرحمة العامة هى التى تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله تامة عامة.
والرحمن أخص من الرحيم، ولذلك لا يسمى به غير الله، والرحيم قد يطلق على غيره فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله الجارى مجرى العلم، وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا، ولذلك جمع الله بينهما فقال:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فلزم من هذا، ومن حيث إنه لا ترادف فى الأسماء المحصاة أن يفرق بين معنى الاسمين، والمفهوم من الرحمن نوع من الرحمة أبعد من مقدورات العباد. فحظ العبد من اسم الرحمن صرفه إن كان ذا غفلة إلى الله بالوعظ والنصح، والنظر إلى العاصى بعين الرحمة، وحظه من اسم الرحيم إغناؤه وسد حاجته.
الملك: هو الذى يستغنى فى ذاته وصفاته عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود، بل لا يستغنى عنه شئ فى شئ، لا فى ذاته ولا فى صفاته، ولا فى وجوده ولا فى بقائه، بل كل شئ فوجوده منه أو مما هو منه، وكل شئ سواه فهو مملوك فى ذاته وصفاته، وهو مستغن عن كل شئ فهذا هو الملك المطلق.
القدوس: المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضى به تفكير. ولا يقال: منزه عن العيوب
والنقائص، لأن نفى الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفى ذلك الإيهام نقص.
السلام: الذى تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر، فكل سلامة فى الوجود معزوة إليه صادرة منه.
المؤمن: الذى يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه وسده طرق المخاوف. ولا يتصور أمن إلا فى محل الخوف، ولا خوف إلا عند إمكان العدم والنقص والهلاك. والمؤمن المطلق هو الذى لا يتصور أمن وأمان إلا ويكونان مستفادين من جهته، وهو الله تعالى. فلا أمن فى العالم إلا وهو مستفاد بأسباب هو متفرد لخلقها والهداية إلى استعمالها، فهو الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى، فهو المؤمن المطلق حقاً.
المهيمن: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وذلك باطلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرف على كنه الأمر مستول عليه حافظ له فهو مهيمن عليه. والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى العقل، فالجامع بين هذه المعانى اسمه المهيمن ولن يجمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا الله تعالى، ولذلك قيل إنه من أسماء الله تعالى فى الكتب القديمة.
العزيز: الخطير الذى يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، فما لم يجتمع عليه هذه المعانى الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز، فكم من شئ يقل وجوده ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا، وكم من شئ يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره، ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزاً، كالشمس مثلا فإنها لا نظير لها، والأرض كذلك، والنفع عظيم فى كل واحدة منهما والحاجة شديدة إليهما، ولكن لا توصفان بالعزة، لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما. فلابد من اجتماع المعانى الثلاثة. ثم لكل واحد من المعانى الثلاثة كمال ونقصان، فالكمال فى قلة الوجود أن يرجع إلى واحد، إذ لا أقل من الواحد، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله، وليس هو إلا الله تعالى، فإن الشمس وإن كانت
واحدة فى الوجود فليست واحدة فى الإمكان فيمكن وجود مثلها فى الكمال والنفاسة. وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شئ فى كل شئ حتى فى وجوده وبقائه وصفاته، وليس ذلك على الكمال إلا لله تعالى. فلا يعرف الله تعالى إلا الله تعالى، فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه فيه غيره.
الجبار: الذى تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار فى كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد. والذى لا يخرج أحد عن قبضته، وتقصر الأيدى دون حمى حضرته، فالجبار المطلق هو الله تعالى فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد، ولا مثنوية فى حقه فى الطرفين.
المتكبر: لا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه ففإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وكان صاحبها متكبرا حقا، ولا يُتصور ذلك على الإطلاق إلا لله تعالى، فإن كان ذلك التكبر والاستعظام باطلا، ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه كان التكبر باطلا ومذموما. وكل من رأى العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة ونظره باطلا، إلا الله سبحانه وتعالى.
الخالق البارئ المصور: خالق من حيث إنه مقدر؛ وبارئ من حيث إنه مخترع موجد؛ ومصور من حيث إنه مرتب صور ما يخترع أحسن ترتيب؛ فليس ثمة ترادف كما يظن، وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع؛ بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى التقدير أولا، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا، فالله تعالى هو المقدر والموجد والمزين، فهو الخالق البارئ المصور، فهو باعتبار لإيجاد على وفق التقدير خالق، وباعتبار مجرد الإيجاد والإخراج من العدم إلى الوجود بارئ. والإيجاد المجرد شئ والإيجاد على وفق التقدير شئ آخر، وهذا يحتاج إليه من يبعد رد الخلق إلى مجرد التقدير. فأما اسم المصور فهو له من حيث إنه رتب صور الأشياء أحسن ترتيب وصورها أحسن تصوير، وهذا من أوصاف الفعل.
الغفار: الذى أظهر الجميل وستر القبيح. والذنوب من جملة القبائح التى سترها بإرسال الستر عليها فى الدنيا والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة.
والغفر هو الستر.
القهار: الذى لا موجود إلا هو مستمر تحت قهره وقدرته، عاجز فى قبضته.
الوهاب: الذى كثرت عطاياه وهباته مع خلوها عن الأعواض والأغراض. ولن يُتصور الجود والعطاء والهبة إلا من الله تعالى، فإنه هو الذى يعطى كل محتاج ما يحتاج إليه، لا لعوض ولا لغرض عاجل ولا آجل. والجواد الحق هو الذى تفيض منه الفوائد على المستفيد لا لغرض يعود إليه.
الرزاق: الذى خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم، وخلق لهم أسباب التمتع بها. والرزق رزقان: رزق ظاهر، وهو الأقوات والأطعمة، وذلك للظواهر، وهى الأبدان، ورزق باطن، وهى المعارف والمكاشفات، وذلك للقلوب والأسرار، وهذا أشرف الرزقين، فإن ثمرته حياة الأبد، وثمرة الرزق الظاهر قوة الجسد إلى مدة قريبة الأمد. والله المتولى لخلق الرزقين، المتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين، ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
الفتاح: الذى بعنايته ينفتح كل مغلق، وبهدايته ينكشف كل مشكل. فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ويخرجها من أيدى أعدائه، ويقول:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، وتارة يرفع الحجاب من قلوب أوليائه ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه وجمال كبريائه، ويقول:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} . ومن بيده مفاتح الغيب ومفاتيح الرزق فبالحرى أن يكون فتاحا.
العليم: أن يحيط علماً بكل شئ ظاهره وباطنه، دقيقه وجليله، أوله وآخره، عاقبته وما تحته. وهذا من حيث الوضوح والكشف على أتم ما يمكن فيه، بحيث لا يتصور كشف أظهر منه، ثم لا يكون مستفادا من المعلومات بل تكون المعلومات مستفادة منه.
القابض الباسط: الذى يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات،
ويبسط الأرواح فى الأجساد عند الحياة، ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء، ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من تعاليه وجلاله، ويبسطها بما يتقرب إليها من بره ولطفه.
الخافض الرافع: الذى يرفع أولياءه بالتقريب ويخفض أعداءه بالإبعاد، ومن يرفع مشاهدته عن المحسوسات والمتخيلات وإرادته عن ذميم الشهوات، فقد رفعه إلى أفق الملائكة المقربين، ومن قصر مشاهدته على المحسوسات وهمته على ما تشاركه فيه إليها ثم من الشهوات فقد خفضه إلى أسفل السافلين، ولا يفعل ذلك إلا الله تعالى، فهو الخافض الرافع.
المعز المذل: الذى يؤتى الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء. والملك الحقيقى فى الخلاص عن ذل الحاجة وقهر الشهوة ووصم الجهل. فمن رفع الحجاب عن قلبه حتى شاهد جمال حضرته ورزقه القناعة حتى يستغنى بها عن خلقه، وأمده بالقوة والتأييد حتى استولى بها على صفات نفسه، فقد أعزه وأتاه الملك عاجلا، وسيعزه فى الآخرة بالتقرب. ومن مد عينيه إلى الخلق حتى احتاج إليهم، وسلط عليهم الحرص حتى لم يقنع بالكفاية، واستدرجه حتى اغتر بنفسه وبقى فى ظلمة الجهل فقد أذله وسلبه، وذلك صنع الله تعالى كما يشاء حيث يشاء، فهو المعز المذل، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
السميع: الذى لا يغرب عن إدراكه مسموع وإن خفى، يسمع حمد الحامدين فيجازيهم، ودعاء الداعين فيستجيب لهم، والسمع فى حقه عبارة عن صفة تنكشف بها المسموعات.
الَحكَم: الحاكم والقاضى المسلم الذى لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. ومن حكمه فى حق العباد: أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى. وأن الأبرار لفى نعيم وأن الفجار لفى جحيم. ومعنى البر والفاجر بالسعادة والشقاوة أن يجعل البر والفجور سببا يسوق صاحبهما إلى السعادة والشقاوة، كما جعل الأدوية والسموم أسبابا تسوق متناوليها إلى
الشفاء والهلاك. وإذا كان معنى الحكمة ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسميات كان حكماً مطلقا، لأنها مسببة كل الأسباب جملتها وتفصيلها، ومن الحكم يتشعب القضاء والقدر. فالحكم هو التدبير الأول الكلى والأمر الأول الذى هو كلمح البصر. والقضاء هو الوضع الكلى للأسباب الكلية الدائمة. والقدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المحدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولذلك لا يخرج شئ عن قضائه وقدره.
العدل: الذى يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم. ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله.
اللطيف: من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك فى سبيل إيصالها إلى المستحق سبيل الرفق، فإذا اجتمع الرفق فى العقل واللطف فى العلم تم معنى اللطف. ولا يُتصور كمال ذلك فى العلم والعقل إلا لله تعالى. فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فهو أن الخفى مكشوف فى علمه كالجلى من غير فرق. وأما رفقه فى الأفعال ولطفه فيها فمعرفته عن طريق معرفة تفاصيل أفعاله ودقائق الرفق فيها. فهو تعالى من حيث دبر الأمور حكم، ومن حيث أوجدها خالق، ومن حيث رتبها مصور، ومن حيث وضع كل شئ فى موضعه عدل، ومن حيث لم يترك فيها دقائق وجوه الرفق لطيف، ومن لطفه بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة، ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد بسعى خفيف فى مدة قصيرة، وهى العمر، فإنه لا نسبة لها بالإضافة إلى الأبد. الخبير: الذى لا تعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجرى فى الملك والملكوت شئ ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبره. وهو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمى خبرة وسمى صاحبها خبيرا.
الحليم: الذى يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا
تحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة.
العظيم: مالا يتصور أن يحيط العقل بكنه حقيقته، وذلك هو العظيم المطلق الذى جاوز حدود العقول حتى لم تتصور الإحاطة بكنهه؛ وذلك هو الله تعالى.
الغفور: بمعنى الغفار، ولكنه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنها الغفار. فإن الغفار مبالغة فى المغفرة، بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى. فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل. والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله، فهو غفور بمعنى أنه تام الغفران كامله حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة.
الشكور: الذى يجازى بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطى بالعمل فى أيام معدودة نعيما فى الآخرة غير محدود. ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال إنه شكر تلك الحسنة، ومن أثنى على المحسن يقال أيضاً إنه شكره، فإذا نظرنا إلى معنى الزيادة فى المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله تعالى، لأن زيادته فى المجازاة غير محصورة ولا محدودة، فإن نعيم الجنة لا آخر له. وإذا نظرت إلى معنى الثناء فثناء كل مثن على غيره، والرب تعالى إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه، لأن أعمالهم من خلقه، فإن كان الذى أعطى فأثنى شكورا، فالذى أعطى وأثنى على المعطى فهو أحق بأن يكون شكورا، فثناء الله تعالى على عباده كقوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} وكقوله {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وما يجرى مجراه، وكل ذلك عطية منه.
العلى: الذى لا رتبة فوق رتبته، وجميع المراتب منحطة عنه، وذلك لأن العلى مشتق من العلو، والعلو مأخوذ من العلو المقابل للسفل، وذلك إما فى درجات محسوسة كالدرج والمراقى وجميع الأسماء الموضوع بعضها فوق بعض، وإما فى المراتب المعقولة للموجودات المترتبة نوعا من الترتيب العقلى، فكل ماله الفوقية فى المكان فله العلو المكانى، وكل ما له الفوقية من الرتبة فله العلو فى العلو، والدرجات العقلية مفهومة كالدرجات الحسية، ومثال الدرجات العقلية هو التفاوت الذى بين السبب والمسبب، والعلة
والمعلول والفاعل والمفعول والقابل والمقبول والكامل والناقص، فإذا قدرت سببا فهو سبب لشئ ثان، وذلك الثانى سبب لثالث، والثالث لرابع إلى عشر درجات مثلا، فالعاشر واقع فى الرتبة الأخيرة فهو الأسفل الأدنى، والأول واقع فى الدرجة الأولى من السببية فهو الأعلى، ويكون الأول فوق الثانى فوقية بالمعنى لا بالمكان. والعلو عبارة عن الفوقية. والموجودات لا يمكن قسمتها إلى درجات متفاوتة فى العقل إلا ويكون الحق تعالى فى الدرجة العليا من درجات أقسامها حتى لا يتصور أن تكون فوقه درجة، وذلك هو العلى المطلق، وكلها سواه فيكون عليا بالإضافة إلى ما دونه، ويكون دنيا وسافلا بالإضافة إلى ما فوقه. ثم إنه تبعا لقسمة العقل فالموجودات تنقسم إلى ما هو سبب وإلى ما هو مسبب، فالسبب فوق المسبب فوقية بالرتبة. فالفوقية المطلقة ليست إلا لمسبب الأسباب. وكذلك ينقسم الموجود إلى ميت وحى، والحى ينقسم إلى ما ليس له إلا الإدراك الحسى، وهو البهيمة، وإلى ما له مع الإدراك الحسى الإدراك العقلى. والذى له الإدراك العقلى ينقسم إلى ما يعارضه فى معلومات الشهوة والغضب، وهو الإنسان، وإلى ما يسلم إدراكه عن معارضة المكدرات. والذى يسلم ينقسم إلى ما يمكن أن يبتلى به ولكن رزق السلامة كالملائكة، وإلى ما يستحيل ذلك فى حقه وهو الله تعالى، فهو العلى المطلق.
الكبير: ذو الكبرياء، أى كمال الذات، وكمال الذات كمال الوجود، وكمال الوجود يرجع إلى شيئين:
أحدهما دوامه أزلا وأبدا. وكل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده: إنه كبير، أى كبير السنن. طويل مدة البقاء، ولا يقال: عظيم السن. والكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم، فإن كان ما طال مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيرا، فالدائم الأزلى الأبدى الذى يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا.
والثانى أن وجوده هو الوجود الذى يصدر عنه وجود كل موجود، فإن كان الذى تم وجوده فى نفسه كاملا وكبيرا
فالذى حصل منه وجود جميع الموجودات أولى بأن يكون كاملا وكبيرا
الحفيظ: الحافظ جدا. والحفظ على وجهين:
أحدهما إدامة وجود الموجودات وإبقاؤها، يضاده الإعدام. والله تعالى هو الحافظ للسموات والأرض والملائكة، والموجودات التى يطول أمد بقائها، والتى لا يطول أمد بقائها مثل الحيوان والنبات.
والوجه الثانى، وهو أظهر معنى الحفظ. صيانة المتعاديات والمتضادات بعضها عن بعض. والتعادى والتضاد ظاهر بين الحرارة والبرودة، وكذا بين الرطوبة واليبوسة، وسائر الأجسام الأرضية المركبة من هذه الأصول المتعادية، إذ لابد للحيوان من حرارة غريزية لو بطلت لبطلت حياته، ولابد له من رطوبة تكون غذاء لبدنه، ولابد له من برودة تكسر سورة الحرارة حتى تعتدل ولا يحترق. وهذه متعاديات متضادات وقد جمع الله بينها فى إهاب الإنسان وبدن الحيوان والنبات وسائر المركبات، ولولا حفظه إياها لتنافرت وتباعدت وبطل امتزاجها وأضمحل تركيبها وبطل المعنى الذى صار مستعدا لقبوله بالتركيب والمزاج، وحفظ الله إياها بتعديل قواها مرة وبإمداد المغلوب منها.
أما التعديل فهو أن يكون مبلغ قوة البارد مثل مبلغ قوة الحار، فإذا اجتمعا لم يغلب أحدهما الآخر بل يتدافعان، إذ ليس أحدهما بأن يَغلب أولى من أن يُغلب، فيتقاومان ويبقى قوام المركب بتقاومهما وتعادلهما وهو الذى يعبر عنه باعتدال المزاج.
والثانى إمداد المطلوب منهما بما يعيد قوته حتى يقاوم النار.
المقيت: خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان، وهى الأطعمة، وإلى القلوب وهى المعرفة، فيكون بمعنى الرازق إلا أنه أخص منه، إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت. والقوت ما يكتفى به فى قوام البدن. أو المستولى على الشئ القادر عليه. والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم، ويدل عليه قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} أى مطلعا قادرا، فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم. ويكون
بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من صفته بالقادر وحده وبالعالم وحده، لأنه دل على اجتماع المعنيين، وبذلك يخرج الاسم عن الترادف.
الحسيب: الكافى. وهو الذى من كان له كان حسبه. والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه. وهذا وصف لا تتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفى لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده. وليس فى الوجود شئ هو وحده كاف لشئ إلا الله تعالى، فإنه كاف لكل شئ لا لبعض الأشياء، أى هو وحده كاف يتحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل. فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب، والله وحده هو المتفرد بخلقها لأجله. فهو وحده حسب كل أحد وليس فى الوجود شئ وحده هو حسب شئ سواه، بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها يتعلق بقدرة الله تعالى.
الجليل: الموصوف بنعوت الجلال. ونعوت الجلال هى الغنى والملك والتقدس والعلم والقدرة وغيرها من الصفات التى تقدمت. فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق الموصوف ببعضها جلالته بقدر ما نال من هذه النعوت. فالجليل المطلق هو الله تعالى فقط. فالكبير يرجع إلى كمال الذات. والجليل يرجع إلى كمال الصفات. والعظيم يرجع إلى كمال الذات والصفات جميعا منسوبا إلى إدراك البصيرة إذا كان بحيث يستغرق البصيرة ولا تستغرقه البصيرة، ثم صفات الجلالة إذا نسيت إلى البصيرة المدركة لها سميت جمالا وسمى المتصف بها جميلا. واسم الجميل فى الأصل وضع للصورة الظاهرة المدركة بالبصر مهما كانت، بحيث تلائم البصر وتوافقه، ثم نقل إلى الصورة الباطنة التى تدرك بالبصائر، حتى يقال سيرة حسنة جميلة، ويقال خلق جميل، وذلك يدرك بالبصائر لا بالأبصار، فالصورة الباطنة إذا كانت كاملة متناسبة جامعة جميع كمالاتها اللائقة بها كما ينبغى وعلى ما ينبغى فهى جميلة بالإضافة إلى البصيرة الباطنة المدركة لها، وملائمة لها ملاءمة يدرك صاحبها عند مطالعتها من اللذة والبهجة والاهتزاز أكثر مما يدركه الناظر بالبصر الظاهر إلى الصور الجميلة. فالجميل الحق المطلق هو الله
تعالى فقط، لأن كل ما فى العالم من جمال وكمال وبهاء وحسن فهو من أنوار ذاته وآثار صفاته وليس فى الوجود موجود له الكمال المطلق الذى لا شوبة فيه لا وجودا ولا إمكانا سواه، ولذلك يدرك عارفه والناظر إلى جماله من البهجة والسرور واللذة والغبطة ما يستحر معها نعيم الجنة. وجمال الصور المبصرة؛ بل لا مناسبة بين جمال الصورة الظاهرة وبين جمال المعانى الباطنة المدركة بالبصائر. فإذا ثبت أنه جليل وجميل، فكل جميل فهو محبوب ومعشوق عند مدرك جماله، فلذلك كان الله تعالى محبوبا ولكن عند العارفين، كما تكون الصور الجميلة الظاهرة محبوبة عند المبصرين.
الكريم: الذى إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالى كم ولمن أعطى، وإن وقعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفا عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف فهو الكريم المطلق، وذلك هو الله تعالى فقط.
الرقيب: العليم الحفيظ، فمن راعى الشى حتى لم يغفل عنه، ولاحظه ملاحظة دائمة لزوما، لو عرفه الممنوع عنه لما أقدم عليه، سمى رقيبا. وكأنه يرجع إلى العلم والحفظ، ولكن باعتبار كونه لازما دائما، وبالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول.
المجيب: الذى يقابل مسألة السائلين بالإسعاف ودعاء الداعين بالإجابة، وضرورة المضطرين بالكفاية، بل ينعم قبل النداء، ويتفضل قبل الدعاء، وليس ذلك إلا لله تعالى، فإنه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم. وقد علمها فى الأزل. فدبر أسباب كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات، وتيسير الأسباب والآلات، الموصلة إلى جميع المهمات.
الواسع: مشتق من السعة، والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف أخرى إلى الإحسان وبسط النعم، وكيفما قدر، وعلى أى شئ نزل. فالواسع المطلق هو الله تعالى، لأنه إن نظر إلى عمله فلا ساحل لبحر معلوماته، وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته. وكل
سعة وإن عظمت تنتهى إلى طرف، والذى لا يتناهى إلى طرف فهو أحق باسم السعة، والله تعالى هو الواسع المطلق، لأن كل واسع بالإضافة إلى ما هو أوسع منه ضيق. وكل سعة تنتهى إلى طرف فالزيادة عليها متصورة، وما لا نهاية له ولا طرف فلا تُتصور عليه زيادة.
الحكيم: ذو الحكمة. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. وأجل الأشياء هو الله تعالى، فهو لا يعرفه كنه معرفته غيره، فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم، إذ أجل العلوم هو العلم الأزلى الدائم الذى لا يتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء وشبهة، ولا يتصف بذلك إلا علم الله تعالى. والحكيم أيضاً من يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها، وكمال ذلك ليس إلا الله تعالى فهو الحكيم الحق.
الودود: الذى يحب الخير لجميع الخلق فيحسن إليهم ويثنى عليهم، وهو قريب من معنى الرحيم، لكن الرحمة إضافة إلى مرحوم، والمرحوم هو المحتاج والمضطر، وأفعال الرحيم تستدعى مرحوماً ضعيفاً. وأفعال الودود لا تستدعى ذلك. بل الإنعام على سبيل الإبتداء من نتائج الود، فكما أن معنى رحمته تعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له، وهو منزه عن رقة الرحمة، فكذلك إرادته الكرامة والنعمة وإحسانه وإنعامه وهو منزه عن ميل المودة، لكن المودة والرحمة لا تراد فى حق المرحوم والمودود إلا لثمرتها وفائدتها لا للرقة والميل، فالفائدة هى لباب الرحمة والمودة وروحهما وذلك هو المتصور فى حق الله تعالى دون ما هو مقارن لهما وغير مشروط فى الإفادة.
المجيد: الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل عطاؤه ونواله، فكما أنا شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمى مجداًص، وهو الماجد أيضاً، ولكن أحدهما أدل على المبالغة، وكأنه يجمع معنى اسم الجليل والوهاب والكريم.
الباعث: الذى يحيى الخلق يوم النشور، ويبعث من فى القبور ويحصل ما فى الصدور. والبعث هو النشأة الآخرة. ومعرفة هذا الاسم موقوفة على
معرفة حقيقة البعث، فالموت ليس عدماً إذ القبر ليس إلا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنان، والموتى إما سعداء، وأولئك ليسوا أمواتاً، وإما أشقياء، وهم أيضاً أحياء، ولذلك ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر.
والبعث ليس إيجاداً مبتدأ مثل الإيجاد الأول، بل هو إنشاء آخر لا يناسب الإنشاء الأول أصلاً.
الشهيد: يرجع معناه إلى العليم مع خصوص إضافة، فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة. والغيب عبارة عما بطن والشهادة عما ظهر، وهو الذى يشاهد، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.
وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.
الحق: هو فى مقابلة الباطل، والأشياء قد تستبان بأضدادها، وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقاً وإما حق مطلق، وإما حق من وجه وباطل من وجه. فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً، والواجب بذاته هو الحق مطلقاً، والممكن بذاته الواجب بغيره هو حق من وجه وباطل من وجه، فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل. وهو من جهة غيره مستفيد للوجود، فهو من الوجه الذى يلى مفيد الوجود موجود، فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل، ولذلك كل شئ هالك إلا وجهه. وهو كذلك أزلا وأبدا ليس فى حال دون حال لأن كل شئ سواه أزلا وأبداً من حيث ذاته لا يستحق الوجود، ومن جهته يستحق، فهو باطل بذاته حق بغيره. فالحق المطلق هو الموجود الحقيقى بذاته الذى منه يأخذ كل حق حقيقته. وقد يقال أيضاً للمعقول الذى صادف به العقل الموجود حتى طابقه إنه حق، فهو من حيث ذاته يسمى موجوداً، ومن حيث إضافته للعقل الذى أدركه على ما هو عليه يسمى حقاً. فأحق الموجودات بأن يكون حقاً هو الله تعالى، وأحق المعارف بأن يكون حقاً هو معرفة الله تعالى، فإنه حق فى نفسه، أى مطابق للمعلوم أزلا وأبداً، ومطابقته لذاته لا لغيره، لا كالعلم بوجود غيره. فإنه لا
يكون إلا ما دام ذلك الغير موجوداً، فإذا عدم عاد ذلك الاعتقاد باطلاً. وذلك الاعتقاد أيضاً لا يكون حقاً لذات المعتقد لأنه ليس موجودا لذاته بل هو موجود لغيره. ويطلق ذلك على الأقوال فيقال قول حق وقول باطل. وعلى ذلك فأحق الأقوال قول لا إله إلا الله لأنه صادق أبداً وأزلا لذاته لا لغيره، فإذن يطلق الحق على الوجود فى الأعيان وعلى الوجود فى الأذهان، وهو المعرفة، وعلى الوجود وهو المعرفة، وعلى الوجود الذى فى اللسان، وهو النطق، فأحق الأشياء بأن يكون حقاً هو الذى يكون وجوده ثابتاً لذاته أزلا وأبداً، ومعرفته حقاً أزلا وأبداً، والشهادة له حقاً أزلا وأبداً. وكل ذلك لذات الموجود الحقيقى لا لغيره.
الوكيل: الموكول إليه الأمور. والموكول إليه ينقسم إلى من وكل إليه بعض الأمور وذلك ناقص، وإلى من وكل إليه الكل وليس ذلك إلا الله تعالى. والموكول إليه ينقسم إلى من يستحق أن يكون موكولا إليه لا بذاته ولكن بالتوكيل والتفويض، وهذا ناقص لأنه فقير إلى التفويض والتولية، وإلى من يستحق بذاته أن تكون الأمور موكولة إليه والقلوب متوكلة عليه لا بتولية وتفويض من جهة غيره؛ وذلك هو الوكيل المطلق.
والوكيل أيضاً ينقسم إلى من يفى بما يوكل إليه وفاء تاماً من غير قصور، وإلى من لا يفى بالجميع. والوكيل المطلق هو الذى الأمور موكولة إليه، وهو ملىّ بالقيام بها وفىّ بإتمامها، وذلك هو الله تعالى فقط.
القوى المتين: القوة تدل على القدرة التامة. والمتانة تدل على شدة القوة. فالله تعالى من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوى. ومن حيث إنه شديد القوة متين.
الولى: المحب الناصر، فيقمع أعداء الدين وينصر أولياءه.
الحميد: المحمود المثنى عليه، فهو الحميد لنفسه أزلا، ويحمد عباده له أبداً.
المحصى: الذى يحصى المعلومات ويعدها ويحيط بها. والمحصى المطلق هو الذى ينكشف فى علمه حد كل معلوم وعدده ومبلغه. والعبد وإن أمكنه
أن يحصى بعلمه بعض المعلومات فإنه يعجز عن حصر أكثرها.
المبدئ المعيد: الموجد. والإيجاد إذا لم يكن مسبوقاً بمثله سمى إبداء وإذا كان مسبوقاً بمثله سمى إعادة. والله تعالى هو الذى بدأ خلق الناس ثم هو الذى يعيدهم، أى يحشرهم. والأشياء كلها منه بدأت وإليه تعود، وبه بدأت وبه تعود.
المحيى المميت: أى لا خالق للموت والحياة إلا الله تعالى، فلا محيى ولا مميت إلا هو. والإيجاد إذا كان هو الحياة يسمى فعله إحياء، وإذا كان هو الموت سمى فعله إماتة.
الحى: الفعّال الدرّاك. فما لا فعل له أصلاً ولا إدراك فهو ميت. وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه، فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت. فالحى الكامل المطلق الذى هو تندرج جميع المدركات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله، حتى لا يشذ عن علمه مدرَك ولا عن فعله مفعول. وكل ذلك لله تعالى، فهو الحى المطلق، وكل حى سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله. ثم إن الأحياء يتفاوتون فمراتبهم بقدر تفاوتهم.
القيوم: القائم بنفسه مطلقاً، الذى تكتفى ذاته بذاته ولا قوام له بغيره، ولا يشترط فى دوام وجوده وجود غيره، والذى يقوم به كل موجود فلا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به، لأن قوامه بذاته وقوام كل شئ به.
والأشياء تنقسم إلى ما يفتقر إلى محل كالأعراض والأوصاف، فيقال فيها إنها ليست قائمة بأنفسها، وإلى ما لا يحتاج إلى محل فيقال إنه قائم بنفسه كالجواهر. إلا أن الجوهر وإن كان قائماً بنفسه مستغنياً عن محل يقوم به فليس مستغنياً عن أمور لابد منها لوجوده وتكون شرطاً فى وجوده فلا يكون قائماً بنفسه لأنه يحتاج فى قوامه إلى وجود غيره.
الواجد: الذى لا يعوزه شئ. والذى لا يحضره ما لا تعلق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمى واجداً، بل الواجد ما لا يعوزه شئ مما لابد له منه، وكل ما لابد منه فى صفات الإلهية وكمالها فهو
موجود لله تعالى، فهو بهذا الاعتبار واجد، وهو الواجد المطلق، ومن عداه إن كان واجداً لشئ من صفات الكمال وأسبابه فهو فاقد لأشياء، فلا يكون واجداً إلا بالإضافة.
الماجد: بمعنى المجيد، كالعالم بمعنى العليم، لكن الفعيل أكثر مبالغة.
الأحد: الذى لا يتجزأ ولا يتثنى. أما الذى لا يتجزأ فكالجوهر الواحد الذى لا ينقسم، فيقال إنه واحد بمعنى أنه لا جزء له. والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام فى ذاته. وأما الذى لا يتثنى فهو من لا نظير له. فإن كان فى الوجود موجود ينفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه غيره فيه أصلاً فهو الواحد المطلق أزلا وأبداً. والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له نظير فى أبناء جنسه فى خصلة من خصال الخير وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت؛ إذ يمكن أن يظهر مثله فى وقت آخر، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى.
الصمد: الذى يصمد إليه فى الحوائج ويقصد إليه فى الرغائب؛ إذ ينتهى إليه منتهى السؤدد.
وعن الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير: الصمد: المصمَت الذى لا جوف له. وهذا لا يجوز على الله تعالى.
القادر المقتدر: ذو القدرة، لكن المقتدر أكثر مبالغة. والقدرة: المعنى الذى يوجد به الشئ متقدراً بتقدير الإرادة، والعلم واقعاً على وفقهما. والقادر هو الذى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وليس من شرطه أن يشاء لا محالة. والقادر المطلق هو الذى يخترع كل موجود اختراعاً ينفرد به ويستغنى فيه عن معاونة غيره، وهو الله تعالى. وأما العبد فله قدرة على الجملة لكنها ناقصة، إذ لا يتناول إلا بعض الممكنات ولا يصلح للاختراع، بل الله تعالى هو المخترع لمقدورات العبد بقدرته مهما هيّأ جميع أسباب الوجود المقدورة.
المقدم والمؤخر: الذى يقرّب ويُبعد، ومن قربه فقد قدمه ومن أبعده فقد أخره. والقدام تارة يكون فى المكان وتارة يكون فى الرتبة، وهو مضاف لا
محالة إلى متأخر عنه، ولابد فيه من مقصد هو الغاية بالإضافة إليه يتقدم ما يتقدم ويتأخر ما يتأخر. والمقصد هو الله تعالى. والمقدم عند الله هو المقرب. وكل متأخر فهو مؤخر بالإضافة إلى ما قبله مقدم بالإضافة إلى ما بعده. والله تعالى هو المقدم والمؤخر لأنك إن أحلت تقدمهم وتأخرهم على توفيرهم وتقصيرهم وكمالهم فى الصفات ونقصهم، فمن الذى حملهم على التوفير بالعلم والعبادة بإثارة دواعيهم؟ ومن الذى حملهم على التقصير بصرف دواعيهم إلى ضد الصراط المستقيم؟ وذلك كله من الله تعالى. فهو المقدم والمؤخر، والمراد هو التقديم والتأخير فى الرتبة.
الأول والآخر: الأول يكون أولاً بالإضافة إلى شئ والآخر يكون آخراً بالإضافة إلى شئ، وهما متناقضان، فلا يتصور أن يكون الشئ الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شئ واحد أولاً وآخراً جميعاً. والله تعالى أول إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه. وأما هو فموجود بذاته ما استفاد الوجود من غيره. وهو آخر إذ هو آخر ما ترتقى إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهى مرقاة إلى معرفته والمنزل الأقصى معرفة الله تعالى فهو آخر بالإضافة إلى السلوك،
أول بالإضافة إلى الوجود، فمنه المبدأ أولاً وإليه المرجع والمصير آخراً.
الظاهر الباطن: الظاهر يكون ظاهراً لشئ وباطناً لشئ، ولا يكون من وجه واحد ظاهراً وباطناً، بل يكون ظاهراً من وجه واحد بالإضافة إلى إدراك، وباطناً من وجه آخر، فإن الظهور والبطون إنما يكونان بالإضافة إلى الإدراكات. والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال. ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق الاستدلال.
البر: المحسن. والبر المطلق هو الذى منه كل مبرة وإحسان. والعبد إنما يكون براً بقدر ما يتعاطاه من البر.
التواب: الذى يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من تنبيهاته ويطلعهم عليه من تخويفاته وتحذيراته حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف
بتخويفه رجعوا إلى التوبة فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول.
المنتقم: الذى يشدد العقاب على الطغاة وذلك بعد الإعذار والإنذار، وبعد التمكين والإمهال وهو أشد للانتقام من المعاجلة بالعقوبة.
العَفوّ: الذى يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصى. وهو قريب من الغفور، لكن الغفور ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو.
الرؤوف: ذو الرأفة، والرأفة شدة الرحمة.
مالك الملك: الذى تنفذ مشيئته فى مملكته كيف شاء وكما شاء إيجاداً وإعداماً وإبقاءاً وإفناءاً. والملك، ها هنا، بمعنى المملكة. والمالك بمعنى القادر التام
القدر.
ذو الجلال والإكرام: الذى لا جلال ولا كمال إلا وهو له، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهى صادرة منه. فالجلال له فى ذاته، والكرامة فائضة منه على خلقه. وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر وتتناهى.
الوالى: الذى دبر أمور الخلق وتولاها. والولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل وما لم يجتمع جميع ذلك له لم ينطلق اسم الوالى عليه، ولا والى للأمور إلا الله تعالى، فإنه المنفرد بتدبيرها أولاً، والمتكفل والمنفذ للتدبير بالتحقيق ثانياً، والقائم عليها بالإدامة والإبقاء ثالثاً.
المتعالى: بمعنى العلىّ مع نوع من المبالغة.
المقسط: الذى ينتصف للمظلوم من الظالم. وكماله فى أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم، وذلك غاية العدل والإنصاف، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى.
الجامع: المؤلف بين المتماثلات والمتباينات والمتضادات.
المانع: الذى يرد أسباب الهلاك والنقصان فى الأديان والأبدان بما تحملته من الأسباب المعدة للحفظ. وكل حفظ فمن ضرورته منع ودفع. والمنع إضافة إلى السبب المهلك والحفظ إضافة إلى المحروس عن الهلاك، وهو مقصود
المنع وغايته، إذ كان المنع يراد للحفظ والحفظ لا يراد للمنع. فكل حافظ دافع مانع وليس كل مانع حافظاً إلا إذا كان مانعاً مطلقاً لجميع أسباب الهلاك والنقص حتى يحصل الحفظ من ضرورته.
الضار النافع: الذى يصدر منه الخير والشر والنفع والضر، وكل ذلك منسوب إلى الله تعالى.
النور: الظاهر الذى به كل ظهور، فإن الظاهر فى نفسه المظهر لغيره يسمى نوراً ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود، ولا ظلام أظلم من العدم. فالرئ عن ظلمة العدم بل عن إمكان العدم، والمخرج كل الأشياء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود جدير أن يسمى نوراً. والوجود نور فائض على الأشياء كلها من نور ذاته فهو نور السموات والأرض.
الهادى: الذى هدى خواص عباده أولاً إلى معرفة ذاته، وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا بها على ذاته، وهدى كل مخلوق إلى ما لابد منه فى قضاء حاجاته.
البديع: الذى لا عهد بمثله. فإن لم يكن بمثله عهد لا فى ذاته ولا ف صفاته ولا فى أفعاله ولا فى كل أمر راجع إليه فهو البديع المطلق، وإن كان شئ من ذلك معهوداً فليس ببديع مطلق، ولا يليق هذا الاسم مطلقاً إلا بالله تعالى فإنه ليس له قبل فيكون مثله معهوداً قبله. وكل موجود بعده فحاصل بإيجاده وهو غير مناسب لموجده. فهو بديع أزلا وأبداً.
الباقى: الموجود الواجب وجوده بذاته، ولكنه إذا أضيف فى الذهن إلى الاستقبال سمى باقياً، وإذا أضيف إلى الماضى سمى قديماً، والباقى المطلق هو الذى لا ينتهى تقدير وجوده فى الاستقبال إلى آخر ويعبر عنه بأنه أبدى. والقديم المطلق هو الذى لا ينتهى تمادى وجوده فى الماضى إلى أول، ويعبر عنه بأنه أزلى.
الوارث: الذى ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك، وهو الله سبحانه، إذ هو الباقى بعد فناء خلقه وإليه مرجع كل شئ ومصيره.
الرشيد: الذى تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سنن السداد من غير إشارة
مشير وتسديد مسدد وإرشاد مرشد، وهو الله تعالى.
الصبور: الذى لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه، بل ينزل الأمور بقدر معلوم، ويجريها على سنن محددة لا يؤخرها عن آجالها المقدرة لها، ولا يقدمها على أوقاتها، بل يودع كل شئ فى أوانه على الوجه الذى يجب أن يكون وكما ينبغى.
وهذه الأسامى ترجع إلى ذات وسبع صفات، كما يقول أهل السنة. والصفات وإن كانت سبعاً فالأفعال كثيرة، وبهذا امتنع الترادف، وتضمن كل اسم معنى، فمنها ما يدل على الذات، أو على الذات مع سلب، أو على الذات مع إضافة، أو على الذات مع سلب وإضافة، أو على واحدة من الصفات السبع، أو على صفة وسلب، أو على صفة وإضافة، أو على صفة فعل، أو على صفة فعل وإضافة، أو
سلب، فهذه عشرة أقسام:
1 -
فما يدل على الذات، مثل الله.
2 -
وما يدل على الذات مع سلب، مثل القدوس والسلام والمغنى والأحد.
3 -
وما يرجع إلى الذات مع إضافة، مثل العلىّ والعظيم والأول والآخر.
4 -
وما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة، مثل الملك والعزيز.
5 -
وما يرجع إلى صفة، مثل العليم والقادر والحىّ والسميع والبصير.
6 -
وما يرجع إلى العلم مع إضافة، مثل الخبير والحكيم والشهيد.
7 -
وما يرجع إلى القدرة مع زيادة وإضافة مثل القهار والقوى والمقتدر.
8 -
وما يرجع إلى الإرادة مع إضافة أو مع فعل، مثل الرحمن والرحيم والرؤوف.
9 -
وما يرجع إلى صفات الفعل، مثل الخالق والبارئ والمصور.
10 -
وما يرجع إلى الدلالة على الفعل مع زيادة، مثل المجيد والكريم.
* * *
وأسماء الله تعالى من حيث التوقيف ليست مقصورة على تسعة وتسعين، بل ورد التوقيف بأسام سواها، ففى رواية أخرى عن أبى هريرة إبدال لبعض هذه الأسامى بما يقرب منها،
وإبدال بما لا يقرب. فأما الذى يقرب فالأحد بدل الواحد، والقاهر بدل القهار، والشاكر بدل الشكور.
وأما الذى لا يقرب فالهادى والكافى والدائم والبصير والنور والمبين والجميل والصادق والمحيط والقريب والقديم والوتر والفاطر والعلام والمليك والأكرم والمدبر والرفيع وذو الطول وذو المعارج وذو الفضل والخلاق.
وقد ورد أيضاً فى القرآن الكريم ما ليس متفقاً عليه فى الروايتين جميعاً كالمولى والنصير والغالب والقريب والرب والناصر؛ ومن المضافات كقوله: شديد العقاب، وقابل التوب، وغافر الذنب، ومولج الليل فى النهار، ومولج النهار فى الليل، ومخرج الحى من الميت، ومخرج الميت من الحى.
وقد ورد فى الخبر أيضاً: السيد، إذ قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سيد، فقال: السيد هو الله تعالى.
وقد ورد أيضاً فى الخبر: الديان والحنان والمنان.
ولو جوز اشتقاق الأسامى من الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى فى القرآن بنحو قوله تعالى: يكشف السوء ويقذف بالحق، ويفصل بينهم، فاشتق من ذلك: الكاشف، والقاذف بالحق، والفاصل، لخرج ذلك عن الحصر.
والوقوف عند التسعة والتسعين هو مجاراة للعادة واتباع للرواية المشهورة عن أبى هريرة فى الصحيحين، وإنه ليروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك. وعلى هذا فالحديث الوارد فى الحصر، قد يكون التخصيص فيه لحصول الاستظهار بها لكفايتها.
وقيل إن اختصاص هذه الأسماء التسعة والتسعين بالذكر هو لأنها تجمع من المعانى المنبئة عن الجلال ما لا يجمع من ذلك غيرها، ثم إن فى هذا الإحصاء قصداً إلى جمع ما يعسر على الجماهير جمعه. هذا وأئمة من مثل الإمام أحمد والبيهقى قد ضعّفوا رواية أبى هريرة، إذ عنه روايتان وبينهما تباين ظاهر فى الإبدال والتعبير، ولأن
روايته ليست تشتمل على ذكر حنان ومنان وجملة من الأسماء التى وردت الأخبار بها، ولأن الذى أورد فى الصحيح هذا العدد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وأما ذكر الأسامى فلم يرد فى الصحيح بل وردت به رواية غريبة وفى إسنادها ضعف.
ويقول على بن حزم: صح عندى قريب من ثمانين اسماً يشتمل عليها الكتاب والصحاح من الأخبار، والباقى ينبغى أن يطلب من الأخبار بطريق الاجتهاد.
ولعل ابن حزم على هذا قد استضعف الحديث الذى فيه عدها، أو عدل عنه إلى الأخبار الواردة فى الصحاح وإلى التقاط ذلك منها.
* * *
والصفات والأسامى المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف. ويجبر القاضى أبو بكر أن تكون بطريق العقل إلا ما منع منه الشرع أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى.
وذهب أبو الحسن الأشعرى إلى أن ذلك موقوف على التوقيف فلا يجوز أن يطلق فى حق الله تعالى ما هو موصوف بمعناه إلا إذا أذن فيه.
ويقول الغزالى: كل ما يرجع إلى الاسم فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب، ولا يفهم هذا إلا بعد فهم الفرق بين الاسم والوصف.
ثم يقول الغزالى: فالاسم هو اللفظ الموضوع للدلالة على المسمى، فزيد مثلاً اسمه زيد، وهو فى نفسه أبيض وطويل، فلو قال له قائل: يطويل ويا أبيض فقد دعاه بما هو موصوف به وصدق، ولكنه عدل عن اسمه، إذ اسمه زيد دون الطويل والأبيض. ولذلك لم يكن لنا أن نضع لإنسان اسماً لم يسم به. وإذا لم يكن لنا أن نسمى إنساناً، أى لا نضع له اسماً، فكيف نضع لله اسماً؟
وأما إباحة الوصف، فالوصف خبر عن أمر، والخبر ينقسم إلى صدق وكذب. والشرع قد دل على تحريم
الكذب فى الأصل، والكذب حرام إلا بعارض، ودل على إباحة الصدق فالصدق حلال إلا بعارض. وكما أنه يجوز لنا أن نقول فى زيد: إنه موجود، لأنه موجود، فكذلك فى حق الله تعالى، ورد به الشرع أو لم يرد. وكما أننا لا نقول لزيد: إنه طويل أشقر، لأن ذلك ربما يبلغ زيداً فيكرهه، لأن فيه إيهام نقص، فكذلك لا نقول فى حق الله تعالى ما يوهم نقصاً البتة. فأما مالا يوهم نقصاً فذلك مطلق ومباح بالدليل الذى أباح الصدق مع السلامة عن العوارض المحرمة، ولذلك قد يمنع من إطلاق لفظ فإذا قرنت به قرينة جوزناه. فلا يقال لله تعالى: يا مذلّ، ونقول: يا معزّ يا مذلّ، فإنه إذا جمع بينهما كان وصف مدح، إذ يدل على أن طرفى الأمور بيديه.
وكما أنا إذا نادينا إنساناً فإما أن نناديه باسمه أو بصفة من صفات المدح، وإذا استخبرنا عن صفاته لا نذكر ما يكرهه إذا بلغه وإن كان صدقاً لعارض الكراهية، وإنما يكره ما يقدر فيه نقصاً.
وكذلك إذا استخبرنا عن مجرى الأشياء ومسكنها ومسودها ومبيضها قلنا: هو الله تعالى، ولا نتوقف فى نسبة الأفعال والأوصاف إليه إلى إذن وارد فيه على الخصوص، بل الإذن قد ورد شرعاً فى الصدق، إلا ما يستثنى عنه بعارض. والله تعالى هو الموجود والموجد والمظهر والمخفى والمسعد والمشقى والمبقى والمغنى، وكل ذلك يجوز إطلاقه وإن لم يرد فيه توقيف.
ويقول الغزالى: فإن قيل: فلم لا يجوز أن يقال له العارف والعاقل والفطن والذكى وما يجرى مجراه؟ قلنا: إنما المانع من هذا وأمثاله ما فيه من إيهامات، وما فيه إيهام لا يجوز إلا بالإذن كالصبور والرحيم والحليم، فإن فيه إيهاماً ولكن الإذن قد ورد به، وأما هذا فلم يرد به الإذن، والإيهام فيه أن العاقل هو الذى له معرفة تعقله، أى تمنعه. والفطنة والذكاء يشعران بسرعة الإدراك لما غاب عن المدرك، والمعرفة قد تشعر بسبق فكرة، فلا يمنع عن إطلاق شئ منه إلا شئ مما ذكرنا، فإن حقق لفظ لا يوهم أصلا بين المتفاهمين، ولم
يرد الشرع بالمنع منه جاز إطلاقه قطعاً.
المصادر:
إحياء علوم الدين للغزالى - البحر المحيط لأبى حيان - تهذيب اللغة للأزهرى - الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - شرح البيضاوى على أسماء الله الحسنى - شرح المواقف للجرجانى - فتح القدير للشوكانى - كشاف اصطلحات الفنون للتهانوى - الكشاف للزمخشرى - كشف الأسما فى شرح أسماء الله الحسنى لتقى الدين - لسان العرب لابن منظور - المقصد الأسنى للغزالى - المواقف للإيجى.
إبراهيم الأبيارى
* * *
+ الله، الإله الواحد، الخالق، مالك يوم الحساب: هو محور الفكر الإسلامى، وهو العلة الوحيدة لوجوده.
وقد كان الله معروفاً عند العرب فى الجاهلية؛ كان إلهاً من الآلهة المكِّية، وربما كان الإله الأكبر، ومن المؤكد أنه كان إلهاً خالقاً (سورة الرعد، الآية 16؛ سورة العنكبوت، الآيتان 61، 63؛ سورة لقمان، الآية 25؛ سورة الزمر، الآية 38؛ سورة الزخرف، الآية 87). وكان الله من قبل معروفاً وصفاً بالإله (وهو الاشتقاق المرجح، وثمة قول آخر بأنه مشتق من الكلمة الآرامية "ألاها").
ولكن الفكرة المبهمة عن وجود إله أعلى التى كانت تتضمنها فيما يظهر العقيدة المكِّية قد أصبحت عقيدة يؤمن بها الكافة وديناً متسامياً. وقد حولتها الدعوة القرآنية إلى تأكيد وجود الله الحى الواحد الأعظم.
1 -
الله فى القرآن
وثمة خبر إسلامى بأن سورة العَلَق هى أول سورة نزلت على النبى محمد صلى الله عليه وسلم: ومن ثم كانت الرسالة التى كُلف بها من أول الأمر تبشيراً بكلمة "الله"(سورة العلق، الآيتان 1، 3).
والله - كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم فى هذه السورة الأولى - هو {رَبُّكَ} (سورة العلق، الآية 1) خالق الإنسان، الأكرم:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة
العلق، الآيات 3 - 5)؛ والفاتحة القرآنية العظيمة "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (انظر ترجمة R. Blacher (تفتتح بها الدعوة وتتكرر على رأس كل سورة، وربما كانت تتضمن إشارة إلى الرحمن قبل الإسلام فى جنوبى الجزيرة العربية، وأن الرحمن يجب أن يؤخذ على اعتبار أنه اسم علم مقدس. وتبقى الحقيقة التى مفادها أن أصل الكلمة "ر ح م" أصبح يدل - على مر القرون الإسلامية - على مفهوم "الإحسان والرأفة والرحمة على وجه الدقة، وأن التعبير "رحمة الله أصبح عند الكتّاب الروحانيين أقرب ما يكون إلى التوسل بالأسرار الإلهية فى صلاتها بالإنسان. ومن هنا كانت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم منذ البداية - تأكيداً بأن الله هو المنعم الخالق الكريم يهدى الناس على لسان رسول يرى على نحو خاص أنه الرب.
(أ) المسائل الكبرى
سنتقبل -من الناحية التاريخية- الفروق المسلم عموماً بوجودها بين الفترات الملكية الثلاث والفترة المدينية (مع بعض اختلافات فى التفصيلات؛ انظر نولدكه وكرمه وبلاشير) وهى فروق تتفق إجمالاً مع بعض الأخبار الإسلامية.
والعقيدة الإسلامية قد اعتبرت نص القرآن دائماً أنه كلمة الله يبينها للإنسان، ويقول الله فيها ما يريد هو أن يقوله عن نفسه: فالله هو {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (سورة الرحمن، الآيات 1، 2، 3، 4) خاطب بالقرآن المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. . . .} (سورة البقرة، الآيتان 2، 3). ويظل الله غيباً لا يدركَ (سورة الشورى، الآيتان 51، 52)؛ ويتجلى فى كماله السامى وفى تصريفه لهذا العالم. وأفعاله تعالى تأكيد لسره الذى لا تدركه الأفهام: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ
…
} (سورة الأنعام، الآية 103).
وليس من السهل أن نستخلص الموضوعات الخاصة بالله دون أن نتعرض لخطر إفساد النسق نفسه الذى عليه السور والآيات، وأبعد من ذلك يسراً أن نصنفها. ويبدو أن السائد منها
ثلاثة، وإن كان من الواجب أن نتناولها فى جملتها:
1 -
إله الخلق، والحساب، والعقاب: هو خالق كل شئ (سورة الرعد، الآية 16) وهو البديع، يخلق ما يشاء (سورة الشورى، الآية 49؛ سورة المائدة، الآية 17)، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون (سورة يس، الآية 82؛ سورة هود، الآية 107)، وهو مصدر الخير جميعاً وأحكم الحاكمين (سورة التين، الآية 8).
وتبين أقدم السور ربوبيته على خلقه -وخاصة على بنى الإنسان- كما تبين صفتيه الحكم والملك المطلقين. وتتلقى العقول والقلوب الصدمة الأخيرة بخبر يوم الدين (انظر سورة التحريم كلها)، واقتراب الساعة (سورة النجم، الآيتان 56، 57؛ سورة القمر، الآيات رقم 1 وما بعدها) التى لا يعلمها إلا الله (سورة النازعات، الآيات من 42 - 44؛ سورة الزخرف، الآية 85). وقد تختلف طريقة هذا الوعظ، ولكنها لا تختلف من حيث جوهر مضمونها أبداً ذلك أن اختلاف الموضوعات لا يتصل بالله فى ذاته بمقدار ما يتصل بين الله وجماعة المؤمنين وهى تقوم على ما يواجههم من عقبات وما يبتلون به من طوائف متعاقبة، ومن ثم على سبيل المثال الطائفتان المختلفتان: وهم المصطفون ومن حق عليهم العذاب (انظر سورة البروج) فى نهاية الفترة المكية الأولى، وفكرة "المنافقين"(وهى الفكرة الغالبة فى الفترة المدينية) الذين يستهزيء الله بهم (سورة البقرة، الآية 15). والسور المكية فى الفترتين الأوليين تؤكد النذير بقيام يوم الدين، ويتجلى الله فيها أساساً الحكم الذى لا مُعقب لكلمته قد أوتى الحكم لأنه الخالق الذى لا تملك حياله نفس لنفس شيئاً (سورة الانفطار الآيات من 17 - 19، وهى تلى منطقياً الآيات من 6 - 8 إلخ). ويستأنف موضوع الجزاء مرة ثانية فى السور المدنية (سورة الأحزاب الآية 64؛ سورة النور الآيتان 24، 25 إلخ). وتبدو على المشهد هنا وهناك تغيرات لا شك فيها. ونجد فى مكة دعوة
غليظة فى القول قصد بها إيمان الناس بالغيب الإلهى وأن الله هو الحَكم والخالق مع الاعتماد فى ذلك على تأكيدات تتسم بالترتيل الذى يقرع الأذن؛ وفى المدينة عود إلى هذا الغيب نفسه ينشد ذكر القلب متخذاً إياه شاهداً على ما للحياة اليومية نفسها من شأن فى الحياة الآخرة، وحاثًّا المسلمين على أن يذكروا الساعة دائماً فى كل أفعالهم، وبذلك يحضهم على الإيمان.
ونفس الاختلافات والترديدات لموضوع واحد تحدث فى تصوير تصرف الله فى تاريخ البشرية. فتحكى السور المدينية فى تفصيل دقيق قصة آدم وتمضى إلى قصص الأنبياء من نوح إلى عيسى عليهم السلام وتذكر ما لإرادة الله من شأن بالنسبة للمؤمنين. ولكن هذه الإرادة تظهر فى هذه السور متممة لقدر الله الثابت الذى ينزل بالناس من حين إلى حين، ذلك القدر الذى يحيط بكل شئ داخل الزمن وخارجه كما جاء فى الدعوة الواردة من قبل فى السور المكية؛ فالله هو الذى يحيى ويميت (سورة الليل، الآية 13؛ وهو موضوع يرجع إليه دائماً فيما بعد مثل سورة الحجر، الآية 23؛ سورة البقرة، الآية 258. . . إلخ). ومن السور الأولى نفسها دعى نوح (سورة النجم، الآية 52) وإبراهيم وموسى (سورة النازعات، الآية 15؛ سورة النجم، الآيتان 36، 37) وقبائل ثمود (سورة الشمس، الآيات من 11 - 14؛ سورة النجم، الآية 51. . . إلخ). وفى الفترة المكية الثانية يدبر الله للأمم، ذلك أن ثموداً وعاداً تختلطان بإشارات إلى يوم الحساب (سورة الحاقَّة) وتنتمى إلى الفترتين المكيتين الثانية والثالثة الأخبار المستفيضة عن تاريخ الأنبياء، ويختلط بهذا الموضوع حساب الأمم، ويتردد باستمرار حساب كل فرد على حدة.
2 -
الله الأحد الواحد فى ذاته:
فى جميع السور الأولى، الله: هو ربك، ومن ثم قيل إنه الخالق، المنعم، المعين، الحكم، وهو الأعلى (سورة الأعلى، الآية 1). وقد أطلقت عليه هذه الأسماء بالنظر إلى هذه الصفات لربوبيته التى لها بعض الصلة
بالإنسان. والصفة الخاصة بربوبيته، التى أصبحت محور الإسلام.
وتحتوى سورة الطور (الآيتان 39، 43) على لوم المكيين الذين جروا على أن يجعلوا لله شركاء وبنات، فالله واحد سبحانه:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (سورة الصافات، الآية 4) مخاطباً بذلك المؤمنين. وتؤكد هذه الفكرة فى ثنايا الكتاب كله وتتكرر باستمرار فى العصر المدينى (مثال ذلك سورة البقرة، الآية 163) ، وهى جوهر الدعوة إلى الله، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يردد دائماً:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [سورة فصلت: 6
…
إلخ].
على أنه ورد فى آية من الفترة المكية الأولى توكيد ربما كان أقوى مما تقدم بأن الله واحد فى ذاته، ففى علاقته بالإنسان واحد أحد، (سورة الإخلاص، الآية 1). وواحد وأحد، اسمان يردان معاً فى التوحيد وسموه المطلق. وهذا هو معنى الشهادة فى الإسلام. ومنذ زمن متقدم يرجع إلى سورة المزمِّل -التى كانت السبب على ما تقوله الأخبار فى إسلام عمر- ظهر التوكيد "لا إله إلا هو"(سورة المزمل، الآية 9). وتعلن الفترة المكية الثانية: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (سورة طه، الآية 14) وأن سر هذه "الأنا" هو الحق (سورة طه، الآية 114؛ سورة الكهف، الآية 44). وأخيرا فإن السورة القصيرة (الإخلاص) المشار إليها بسورة التوحيد بمعناه الأمثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} هى تأكيد لوحدة طبيعته المقدسة على هذا النحو وأن سر ذاته لا يدرك كنهه (سورة "المؤمنون"، الآية 91).
3 -
الله قادر على كل شئ ورحيم
وهذا الوجه المزدوج لسر الله فى علاقته بخلقه: وهو كونه رب العالمين (سورة التكوير، الآية 29) فى قدرته التى لا نزاع فيها على كل شئ وإحسانه الذى يتسم بالمغفرة، يتردد فى جميع الفترات التى نزل فيها القرآن
على السواء مع فروق فى ظلال المعنى والتأكيد عليه.
وقدرته على كل شئ هى صفته التى بينت أولاً، فهو {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (سورة المعارج، الآية 40؛ وانظر أيضاً سورة المزمل، الآية 9)، على أن هذه الصفة بالذات هى التى تحض المؤمن على أن يتخذه تعالى وكيلاً (انظر سورة المزمل، الآية 9) وتعظم من شأن تلك القدرة على الرحمة والغفران التى يؤكدها النص تأكيداً. وأسماء الرحمن، والرحيم، والغفور، والغفار هى من الصفات التى يغلب ذكرها فى القرآن الكريم. والذى نلفت إليه النظر هنا أولاً هو من ناحية قدرة الله على كل شئ، ومن ناحية أخرى إسلام الذين نذروا أنفسهم لله بالتهجد وبالتسليم بقدرته على كل شئ. وفى نص من الفترة المدينية (سورة المائدة، الآية 3) يجعل هذا الإسلام للدين نفسه، على أن سور الفترة الأولى التى تتحدث من قبل عن الآخرة جاء فيها حضّ للمؤمن على أن يتحدث بنعمة الله (سورة الضحى، الآية 11). والله هو الملجأ والهادى (سورة الضحى، الآيتان 7، 8). وكل سورة الرحمن (نزلت فى الفترة المكية الثانية فى قول كرمه Grimme. مع آيات أخرى زادت عليها من بعد فى قول بل Bell) تعلن غضب الرحمن ذى الجلال والإكرام على الذين يكذبون بآلاء ربهم.
(ب) آيات الله وأسماؤه
وهكذا يبين الله للإنسان دائماً، عن طريق أنبيائه عليهم السلام، السر المكنون لعظمته التى تفوق الوصف، ويطلب منه أن يؤمن بها ويؤمن بهيمنته الواضحة على الخلق جميعاً، وكماله المطلق اللذين تجلت بهما هذه العظمة، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن (سورة الحديد، الآية 3).
فأولاً: ما دام الإنسان قد تلقى ما أنزل الله عن ذلك فإنه يجب عليه أن يتبين "آيات الكون" التى هى "آيات الله". والحق إن خلق الرحمن للعالم ليس فيه من "تفاوت"(سورة الملك، الآيتان 3، 4) حتى أن الإنسان ليخشى عليه أن يعبد هذا النظام والترتيب
الرائعين لهذا الخلق، على أنه يجب عليه أن يفطن إلى أنه ما من شئ فى هذا النظام وذلك الترتيب إلا ويفنى ويزول. وكما حدث للنبى إبراهيم عليه السلام فإن عقل الإنسان، بهدى من الله، لا مناص من أن يستخلص من الأشياء التى تفنى وتتغير الدليل الدامغ للوجود الواجب والسامى للخالق. لذلك كان التفكر فى آيات الكون واجباً دينياً فرضه الله على عقول الناس (سورة البقرة، الآيتان 118، 164؛ سورة آل عمران الآية 191؛ سورة الأنعام الآية 98؛ سورة الرعد، الآيتان 2، 3؛ سورة النور، الآيات 44 - 55. . . إلخ). ويعلّم القرآن الكريم أيضاً أنه لا يبقى إلا الله؛ {
…
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
…
} (سورة القصص، الآية 88؛ سورة الزمر، الآية 68؛ سورة الرحمن، الآيتان 26، 27. . . إلخ). وعندما تحل الساعة يهلك الله الخالق، ومن ثم المحيى والمميت، كل شئ ثم يعيد خلقه يوم الحشر. (سورة ق، الآيات 42 - 44؛ سورة الحشر، الآية 2).
وقد صور نظام الكون الحالى وترتيبه الرائع تصويراً بحيث يدعو المرء إلى أن يخر ساجداً لقدرة الله الذى يحيى ويميت (سورة السجدة، الآية 15؛ سورة فصّلت، الآية 37). وآيات كمال الله التى تجعل علوّه يتجلى فى نظام العالم هذا هى نفسها التى يكشف عنها الله، وهى فى جوهرها الأسماء التى يجعلها لنفسه {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (سورة الأعراف، الآية 180؛ سورة الإسراء الآية 110؛ سورة طه، الآية 8). ولقد استخرج المتدينون المسلمون -فى عناية- هذه الأسماء من نص القرآن الكريم وأكملوها من الحديث وهى 99 أسماً ولم يكفوا قط عن تذكرها والتفكر فيها. ونحن لا نرغب فى هذا المقام أن نحلل الأسماء الحسنى تحليلاً ضافياً (انظر المسرد الكامل لهذه الأسماء فيما ذكر آنفاً تحت عنوان "الأسماء الحسنى" من هذه المادة) على أننا نستطيع أن نقول أن ما سنذكره بعد هو المباحث الرئيسية التى تنبثق من هذه الأسماء (سنقصر همنا هنا على إشارة
واحدة عن كل اسم، أو قل عن أقدم هذه الأسماء بصفة عامة):
فالله هو الواحد الأحد (انظر ما سبق)، الحى القيوم (سورة طه، الآية 111)، العظيم (سورة الحاقة، الآية 33 وتتردد فى آيات أخرى من القرآن الكريم)، العلى الكبير (سورة لقمان، الآية 30)، النور (نور على نور، سورة النور، الآية 35)، الحكيم (سورة الإنسان، الآية 30، وتتردد فى آيات أخرى من القرآن الكريم)، العزيز (سورة البروج، الآية 8 وتتردد فى آيات أخرى من القرآن)، القدير (سورة الملك، الآية 1 وتتردد فى آيات أخرى)، البديع (سورة الأنعام، الآية 101)، الخالق (سورة غافر، الآية 62)، الخلاّق (سورة يس، الآية 81)، ليس كمثله شئ (سورة الشورى، الآية 11)، السميع البصير العليم (انظر مثلاً سورة الشورى، الآيتان 11، 12 وتتردد هذه الصفات فى آيات أخرى) شهيد (1)(سورة البروج، الآية 9 وتتردد هذه الصفة فى آيات أخرى)، الرزاق (2)(سورة الذاريات، الآية 58)، الرحمن (سورة النبأ، الآية 37 وتتردد هذه الصفة كثيراً فى آيات أخرى)، الولى (سورة الجاثية، الآية 19)، الوكيل (سورة المزمل، الآية 9 وتتردد هذه الصفة فى آيات أخرى)، الكريم (سورة الدخان، الآية 49)، الرحيم (سورة الطور، الآية 28، وتتردد هذه الصفة كثيراً فى القرآن الكريم)، الغفور (سورة المزمل، الآية 20 وتتردد هذه الصفة فى القرآن)، الغفار (سورة طه، الآية 82)، الرؤوف (سورة آل عمران، الآية 30)، الودود (سورة البروج، الآية 14)، خير الحاكمين (سورة يونس، الآية 109).
وتتردد كثيراً أمثال هذه المصطلحات، وقد يجئ التأكيد على واحد أو آخر منها مرة فى الفترة المكية ومرة فى الفترة المدينية، على أنها تتردد كلها تقريباً فى سور كل من الفترتين، وكثيراً ما يبدأ النص القرآنى بتوكيدات خلابة تجبه المؤمن مثل القول بأن الله الصمد (سورة الإخلاص، الآية 2)،
(1) ورد فى الأصل شاهدا وهذا خطأ صوابه فى الآية "شهيد".
(2)
ورد فى الأصل الوهاب وهذا خطأ صوابه فى الآية "الرزاق".
وكثيراً ما يبدأ النص أيضاً بمثل رمزية تؤكد وتثبت بما يحمله أسلوبها الرمزى فى التعبير من صدق واقعى.
مثال واحد: تحيط قدرته السامية بأصغر فعل يأتيه أصغر ما خلق من أشياء وعبارة القرآن الكريم فى ذلك هى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. ويرد فيه أيضاً: {. . وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. .} [فاطر: 11]. وهكذا يهيأ العقل تهيئة قوية للتعرف على الوجود الكامل لله فى كل عمل بشرى وكل ما يصدر عن القلب البشرى، لأنه خلق كل عمل مهما كان (سورة الصافات، الآية 96) ولأنه على نحو خاص قريب من الإنسان الذى خلقه (سورة سبأ الآية 50)، يعلم ما فى الصدور، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد (سورة ق، الآية 16).
(جـ) طائفتان من الآيات
هناك ملاحظات حول طائفتين من الآيات أثارت على مر القرون خلافات عدة:
1 -
العقاب وقضاء الله: قدرة الله على كل شئ تتجلى فيما يريده للعالم، وتتأكد فى "القدرة"؛ والإنسان، مثل جميع المخلوقات، ينتمى إليه تعالى. ولكن فى نفس الوقت تتأكد قدرته على كل شئ قدرة أعدل الحاكمين، والمجازى المنصف، وعلى الإنسان أن يعرف أن كل امرئ سيحمل وزر أفعاله من ثواب على حسناته وعقاب على سيئاته (سورة البقرة، الآية 286).
وما أكثر ما قيل وقرر للبادرة الأولى أن القرآن الكريم يحتوى على مجموعة من الآيات "المتناقضة"، والحقيقة أنه ليس هناك تناقض على الإطلاق، وإنما الموجود هو توكيدات متقابلة متكاملة الغرض منها هداية القلوب إلى الموقف المطلوب الذى يتخذه الإنسان من الله.
والقدرة الإلهية على كل شئ هى فى الحق قدرة واحدة، فالله لا يُحَاسب على ما يفعل" كما جاء فى الخبر الإسلامى، على أننا يجب فى هذا المقام أن نلزم الحذر فيما يتعلق بأسلوب
الدعوة القرآنى. فالقرآن لا يتخذ موقفاً من المشكلة الكلامية الخاصة بالقدر، ولا المشكلة الفلسفية الخاصة بطبيعة الاختيار. فهو يثير سر العلاقات بين المخلوق والخالق. وكذلك فإنه لا يتخذ موقفاً من طبيعة الشر:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وهو تأكيد طبق كثيراً من بعد على كل فعل يصدر عن الإنسان؛ ومع ذلك فإن {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
…
} [النساء: 79]. وليس فى هذا شئ يقتضى التسليم بالطبيعة الإيجابية للشر.
ولا تنسى آيات القرآن الكريم عن التصريح بأنه لا مهرب لشئ من الله ومن إرادته وقدرته وأن الله أيضاً هو الذى يأتى بالعقاب، بل إن فكرة العقاب نجدها مسيطرة على نحو ما. فهو يثيب الذى اتقى ويعاقب {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16] ويلعن أولئك الذين يمنعون الماعون (سورة الماعون، الآية 7). ويلاحظ الأستاذ بلاشير فى فهرسه (جـ 3، ص 1223) أن هناك ما بين مائتى آية وثلثمائة آية تنذر بالعقاب بالمحاسبة على أفعال الإنسان. وفى يوم القيامة تجزى كل نفس بما كسبت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. فضرورة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هى من الأوامر الأولى، ويجوز للمرء أن يقول إنها هى المبداة على الجميع، ما دام أن الدعوة إلى الخير التى لها الصدارة هى الجهر بالإيمان بالواحد، أى الإسلام الصادق. ولا يوجه هذا الأمر إلى كل إنسان على حدة فحسب، وإنما يوجه على وجه التحديد إلى جماعة المؤمنين بصفتهم هذه (سورة آل عمران، الآيتان 104، 110
…
إلخ)، والإنسان يجازى على الصعيد الدنيوى بمقدار طاعته لأوامر الله على هذه الأرض الفانية.
أما على الصعيد الأبدى لأوامر الله الباقية فإن المشهد يتغير، إذ لا يمكن أن يؤثر شئ على إرادة الله ولا على أمره. والمصطفون هم الذين يختارهم الله: {
…
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
…
} [آل عمران: 73]
سورة المائدة، الآية 54؛ سورة الحديد، الآية 21؛ سورة الجمعة، الآية 4) وهو الذى يعز من يشاء ويذل من يشاء (سورة آل عمران، الآية 26). ثم يجئ فى القرآن مع التوكيد الشديد { .. فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .. } (سورة إبراهيم الآية 4؛ سورة النحل، الآية 93؛ سورة فاطر، الآية 8؛ سورة الأنعام، الآيتان 39، 125)، ومن يضله الله لا يجد من دونه ولياً ولا مرشداً (سورة الإسراء، الآية 97؛ سورة الكهف، الآية 17؛ سورة الزمر، الآيتان 23، 37 سورة الأعراف، الآية 186، سورة الرعد، الآية 33). وترد فى القرآن الكريم مرتين هذه الصورة ذات التركيب السامى القريبة كل القرب من سفر أشياء، الآيتان 9، 10 (1):{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]
وأول هذين النصين (سورة الكهف، الآية 57) يبرز إبرازاً بيناً الفعل الإلهى الذى يختم على السمع والقلب، وخطأ من تولى عن آيات الله، أما الثانى (سورة الجاثية، الآية 23) فإنه يختتم بدعوات إلى الإصلاح، وتقرر الآية 19 من هذه السورة أن الظالمين بعضهم لبعض.
ومسئولية الإنسان وقدره الله على كل شئ وقضاؤه المحتومان، هذان المنحيان من مناحى التفكير يلتقيان فى التوكيد النهائى على الحساب. وهذا الأسلوب فى تناول الغيب هو الذى تجلى للتفكير الإسلامى فى العصور المتأخرة فى أقوى صورة.
2 -
الآيات التى فيها تشبيه بالإنسان: والطائفة الأخرى من الآيات
(1) سبق أن رددنا على مثل هذه الأقوال فى غير موضوع من هذه الدائرة وحسبنا أن نقول أن القرآن مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
ذات أسلوب أخاذ قد يبدو -إذا أخذ بمعناه الحرفى المطلق- أنه ينسب صفات الإنسان وأفعاله إلى الله. وهذه الطائفة هى الآيات "المتشابهة" بخلاف الآيات المحكمة المستقرة المعنى استقراراً بيَّناً؛ ومن ثم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (سورة طه، الآية 5؛ سورة الحديد، الآية 4
…
إلخ) {وَجَاءَ رَبُّكَ} (أى التحرك فى مكان؛ سورة الفجر، الآية 22) ويد الله (سورة الفتح، الآية 10؛ سورة الذاريات، الآية 47) ووجه الله (سورة الرحمن، الآية 27) وأعين الله (سورة هود، الآية 37؛ سورة الطور؛ الآية 48؛ سورة القمر الآية 14). وإنما ذكرنا هذه النصوص لأنها كانت فيما بعد موضوع خلاف فى التفسير وفى الكلام.
(د) خاتمة
ودعوة القرآن الكريم إلى الله تدور كلها على محور واحد هو تأكيد وحدانيته وأحديته وعلوه وبقائه وكماله المطلق. وطبيعة الذات الإلهية التى لا تدرك تؤكد فى يقين جازم؛ فالله القادر على كل شئ، القريب لا يمكن أن يدرك إلا "بكلمته" وأسمائه وصفاته وأفعاله وملكيته المطلقة للملك التى يكشف عنها هو ذاته.
والحق إن الله يتجلى فى هيمنته على كل المخلوقات. وصفتاه الخاصتان بعلمه المحيط وقدرته على كل شئ تعزيان إلى علمه وقدرته الظاهرين، أما القول بوحدانيته فيدخل فى وحدة طبيعة الذات الإلهية، فالله فى ذاته يظل هو "المغيب" المحجوب.
واسم الله فى نظر الإسلام، هو -كما يقول ماكدونالد فى صدر هذه المادة- اسم العلَم الدال على الله، فهو يعبر فى ذلك عن ألوهيته الواحدة التى تعز على المشاركة.
ولكن هل يحق للمرء وصف هذا الرب بأنه إله شخصى؟ هذا السؤال لم يكن له مكان بين المشاكل التى واجهها علماء الكلام عند المسلمين، وإنما الذى أثاره إثارة لها وزنها هم دارسو الإسلام من الغربيين (انظر مقال ماكدونالد فى صدر هذه المادة الذى
يتحدث فيه عن "شخصية الله القاهرة"). ولكن الإسلام لن يقول أبداً إن الله شخصى أو شخص. والمسلمون يشمئزون من هذا القول الذى يقول به الدارسون الغربيون، ولا مراء فى أنهم يتخذون منه موقف الإنكار الإيجابى. ونحن نجد فى هذا المقام لبساً ذا حدين:
(أ) من حيث المفردات: لم يطرأ على كلمة شخص فى الفلسفة العربية التغيير الذى طرأ على الكلمة اليونانية "أوبوستاسيس" أو الكلمة اللاتينية برسونا Persona. فكلمة "شخص" دائماً تدل فيما تدل على الصورة المجملة للفرد، ولا يوجد عندهم مصطلح أحسن لمفهوم هذه الكلمة غير هذا. زد على ذلك أنها تناسب جيداً الشخص المخلوق ولكنها توحى بفردية محدودة.
(ب) الفكرة نفسها من حيث إطلاقها على الله: المسلم يشعر عموماً بعزوف شديد عن أن يدخل فى حدود هذه الكلمة طبيعة الله التى لا تدرك.
ولكن هذا اللبس يتلاشى إذا بيّنا أن مفهوم "الإله الشخصى" فى اللغات الهندية الأوربية يتضمن الكمال المطلق. والله موجود فى ذاته، لا نستطيع معرفة ماهية ألوهيته؛ والله شخصى لأنه كامل ومصدر الكمال، ويتميز تماماً عن باقى المخلوقات ومناط الإيمان والعبادة. وهذا بالضبط هو ما يدعو إليه القرآن. وإذا كان هذا المفهوم يترك ماهية حياة الله مكنونة فى سرها، فإنما يكون ذلك لتأكيد كلمة الله التى يبلغها للناس عن طريق الأنبياء وتأكيد المنزع القلبى المتطلب من المؤمن. فالله الملك الحكم العادل الجبار (سورة الحشر، الآية 23) هو فى نفس الوقت أيضاً الوكيل والمنعم والرءوف. ويطلب القرآن الكريم من المؤمن حين يواجه هذا الغيب الذى لا يدرك أن يلوذ بالتقوى (سورة التوبة، الآية 109) والبر، وهو مماثل للتقوى (سورة البقرة، الآية 189) والشكر (فى صيغة الفعل كما جرى قول القرآن الكريم فى كثير من الأحيان وخاصة فى الفترة المدينية) والتوكل (ويتردد كثيراً فى القرآن الكريم بصيغة الفعل مثل (سورة النساء الآية 81).
ومخافة الله كما وردت فى القرآن الكريم هى السجود أمام قدرته على كل شئ العزيزة على الإدراك؛ {أَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] فإنهم وحدهم هم الذين يصبح خوفهم فزعاً من العقاب (سورة القيامة، الآية 25)، وأما المصطفون فهم:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وهم الذين يبتغون وجه الله {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} ، ويستعمل هذا التعبير الجميل كثيراً [الليل: 20] فإنهم يجدون فى الله وكيلاً وهادياً، ومآبا (سورة آل عمران، الآية 14؛ سورة النبأ، الآية 39).
2 -
التطور فى الحديث والكلام.
سنجمل فى القسم الثالث أبرز مواقف المدارس الإسلامية فى نظرتها إلى الله. وحسبنا الآن أن نصرف غايتنا إلى جملة المشكلات ووزن علم الكلام عند أهل السنة.
والعلم المأثور الذى يتناول المسائل الإلهية هو علم الكلام أو علم التوحيد (انظر ما يلى عن بعض النقدات التى أثيرت فى الإسلام حول شرعية هذا العلم) ولسوف نتناوله فى صورته المقررة مفترضين معرفة أصوله التاريخية والمؤثرات التى مرت به، وتكوين المدارس المختلفة مع تذكرة عن الكلام فى عهد الأمويين: 1) المرجئة، والقدرية، والجبرية؛ 2) المعتزلة، والأصل سياسى (القرن الأول الهجرى = القرن السابع الميلادى) ثم مذهبى (القرنان الثانى والثالث الهجريان = القرنان الثامن والتاسع الميلاديان) وقد انتصروا فى عهد المأمون ثم عدوا من بعد "زنادقة" وظل هذا حالهم عدة قرون؛ 3) منذ القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) نجد الاتجاهين: الأشعرى الرسمى والحنفى الماتريدى، وتختلف النتائج باختلاف المواقف حيال الصلة بين العقل والشرع، أو بين العقل والنقل والتقليد أو بين الأدلة العقلية والأدلة السمعية.
ثم دعم علم الكلام نفسه بعلمين دينيين آخرين:
1) علم الحديث الذى زوده بنصوص أخذت مأخذ البراهين القاطعة وهى تتناول موضوعاً أو آخر من الدعوة التى جاء بها القرآن تناولاً رائعاً أو قل إنه قصصى (انظر كتب الصحاح الستة وخاصة كتاب التوحيد من صحيح البخارى). وتتحدث عدة أحاديث من ناحية عن رحمة الله ومغفرته: "إن رحمتى تغلب غضبى" أو "إن رحمتى سبقت غضبى"(البخارى، التوحيد 169، 175)، ومن الناحية الأخرى عن ملكية الله المطلقة:"أنا الملك أين ملوك الأرض"(المصدر السابق، 167، 181)، وتذكر من ناحية مسئولية الإنسان (نصوص فى البخارى أو مسلم: كتاب القدر) ومن ناحية أخرى يتحدث عن القدر (مثال ذلك الحديثان اللذان يذكران كثيراً وهما: "إن قلوب الناس بين إصبعين من أصابع الرحمن" و"خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالى وهؤلاء للنار ولا أبالى"، وثمة أحاديث كثيرة لها أثر كبير فى تكوين الأفكار الشائعة والنظرة العامة إلى الله.
2) وعلم التفسير كان له شأن رئيسى فى استعمال الآيات القرآنية التى تتكلم عن الله.
وقد أفادت مدارس الكلام بطرق مختلفة من الحديث والتفسير.
وإذا أشرنا إلى مشاكل الكلام (وهى فى أساسها من أصل معتزلى) نجد مبدأين يتعلقان بالله مباشرة: (1) مبدأ التوحيد؛ (2) مبدأ العدل، أى عدل الله فى مجازاته الإنسان على أفعاله. وقد خالف المعتزلة أحرار الفكر فى زمانهم فظهروا بمظهر "أهل التوحيد والعدل". واستمرت هذه المشكلات تؤثر فى المدارس المتأخرة، ولم تختلف عنها إلا فى عناوينها.
وقد أطلقت الرسائل المأثورة العظيمة للأشاعرة والماتريدية (مثل شرح المواقف للجرجانى، والمقاصد للتفتازانى وغيرهما) على المبدأ الأول "وجود الله وصفاته"، وعلى المبدأ الثانى
"أفعاله تعالى". وإليك أهم المسائل التى تثار حول الاثنين:
(أ) التوحيد
1 -
وجود الله
تتفق كل المدارس فى الاستشهاد بالآيات (انظر ما سبق) التى تهيب بالعقل أن يتفكر فى آيات الكون ويرقى من ذلك إلى إثبات وجود الخالق؛ ولكن: (أ) يقول المعتزلة إن ذلك يقتضى التزاماً فطرياً فى طبيعة العقل سابقاً لسنَّ الشريعة. (ب) ويقول الماتريدية إن العقل كان خليقاً بكفايته أن يتوصل إلى معرفة الله، ولكنه توصل إليها فعلاً بسن الشريعة. (جـ) أما الأشاعرة فعندهم أن استخدام العقل والتدليل العقلى فى التوصل إلى معرفة الله هو التزام شرعى (منزل) بحت (انظر
الجرجانى: شرح المواقف، القاهرة سنة 1325 هـ = 1907 م جـ 1، ص 251 وما بعدها). وبعبارة أخرى: أنه لو لم تفرض الشريعة هذا الالتزام لما كان فى مقدور العقل البشرى قط أن يتوصل إلى وجود الله (الغزالى: الاقتصاد، القاهرة، طبعة غير مؤرخة، ص 77 - 78) ومن ثم فإن تأكيد وجود الله عند الأشاعرة عامة هو ثمرة استدلال عقلى يمليه استدلال شرعى.
وعلى آية حال كانت طبيعة هذا الالتزام فإن المدارس تجمع على رأى واحد فى الاستدلال العقلى نفسه. وهذا يتضمن برهاناً على وجود الله -بدء الخلق- يتصل وطبيعة العالم المحدث الفانى، كما يخبر القرآن الكريم، ويمكن للعقل أن يقتنع به. أما فى علم الكلام فالبداية والنهاية الزمنيتان هما حقيقتان ثابتتان. وثمة إذن استدلال ينبثق، دون عبارة وسط مجمع عليها، من القصور المطلق للمخلوق إلى الوجود الواجب للخالق، الذى يوجد وحده منذ الأزل وقائم بنفسه وحده (حقائق علمت من القرآن الكريم، وعقليات). وهذا الاستدلال فى الأيام الأولى لعلم الكلام (المعتزلة والأشاعرة) وضع فى عبارتين على أنه جزء من المحاجّة. وقد أخذ فى الغالب عند المتكلمين المتأخرين الذين تأثروا بمنطق أرسطو، شكلاً من أشكال الاستنتاج القياسى (كلا الشكلين فى الجوينى). ويساق البرهان فى جميع الرسائل على أنه برهان قاطع. ونادراً
ما يأخذ -متأثراً بمؤثرات ناشئة من الفلسفة- شكل البرهان بالوجود منذ أن كان الوجود بالمعنى الدقيق؛ فالعالم محدث، وهذه العبارة فى مقالات علم الكلام تبقى قريبة جداً من معناها الاشتقاقى عن البدء الزمنى (انظر كتب فنسنك، وس. بوركاى - S. de Beaure cueil. المذكورة فى الفهرست، عن البراهين على وجود الله).
2 -
صفات الله
(أ) العلاقات بين الذات والصفات:
وتعد هذه من أشد مباحث الجدل. وقد التزم بعض أهل الحديث القدامى بحرفية النصوص وتصدوا لكل بحث يمكن أن يسمى عقلياً، وسماهم معارضوهم -الذين هوّلوا من جمود من كانوا يهاجمون- بالمجسمة، كما سموهم بالحشوية، تحقيراً. ورموهم بالتشبيه مشبهين الله بالمخلوقين.
وعلى العكس من هذا مسجد المعتزلة -حرصاً منهم على تنزيه فكرة التوحيد- التنزيه الذى طبقوه تطبيقاً صارماً. فعلى الإنسان أن ينكر، كما يأمر القرآن الكريم، أن الله يشبه أى مخلوق. والجهمية - تلامذة جهم بن صفوان - أنكروا فعلاً وجود الصفات، والله يعرف بقدرته الخفية على كل شئ فحسب.
ونجد من ناحية أخرى التنزيه عند المعتزلة، قد أخذ بالنظرة التى تؤمن بإله مهيمن، وسلموا بالصفات القدسية، عن العلم، والقدرة، والكلام
…
إلخ. غير أنهم زعموا أنها هى هى الذات، وهذا بالنسبة لهم كان لا يكاد يزيد عن كونه خلافاً لفظياً.
وكذلك قالت مدارس أهل السنّة بالتنزيه، فهم ينكرون أن يكون لله شبيه ما، فهو لا جسم ولا جوهر (بمعنى أن الجسم محدود) ولا هو عرض، ولا هو يحتويه مكان
…
إلخ (ومما تجب ملاحظته أن الكرّامية قد عرفوا الله بأنه جوهر، وكان مفهومهم بهذا أنه قائم بذاته). والتعديل الذى أدخله الأشاعرة -الذى يطلق عليه اسم الحل السعيد - قد نأى كذلك عن نزعة المعتزلة فى إثبات كل شئ بالعقل، وعن حرفية المجسمة. وكان هذا مذهباً شهر "بلا
كيف ولا تشبيه"، ورمى تنزيه المعتزلة ببلوغه مبلغ التعطيل مجرداً الصفات من كنهها أجمع، وعلى حين يميز الأشاعرة، من قِبلهم، الكنه الحق للصفات، منذ أن أخبرنا بها القرآن الكريم، غير أنهم يجزمون بأن هذا الكنه لا يمكن أن يعرض الوحدانية الإلهية الكاملة للظنون. وقد عارضه المعتزلة والفلاسفة فى آن واحد، واتبعوا الغزالى. ثم انتهوا بآخرة إلى هذه المقاربة. الصفات قائمة بذات الله، وليست هى الله، وليست شيئاً آخر غيره.
وهناك حل من هذا القبيل بسطه بعض الأشاعرة الذين ظلوا ملتزمين لنظرية الأحوال التى قال بها أبو هاشم المعتزلى، مثل الجوينى (القرن الخامس الهجرى = القرن الحادى عشر الميلادى) وقد خالفه فى هذه المسألة من يعرفون بأصحاب المدرسة الحديثة (القرنان السادس - السابع الهجرى = القرنان الثانى عشر والثالث عشر الميلادى) مدرسة فخر الدين الرازى، والجرجانى وغيرهما. و"الحال" قائمة بشئ موجود ولكنها ذاتها لا توصف وجوداً ولا عدماً، وعلى هذا النحو فهمت العلاقة الإلهية بين الذات والصفات.
وهذه المشكلة الكلامية العويصة وطأت لها أداة فلسفية مضت تجاهد لتحسين حالها والتقدم فى سبيلها، وإن كانت تصاب فى بعض الأحيان بالعثرات. ومن ثم فإننا مع مستهل النزعة الحنفية الماتريدية نجد فى كتاب الفقه الأكبر الثانى (ونصه من أيام الأشعرى) أن الله شئ. ومع أن هذا القول كان خليقاً بأن يكون موضع الاستهزاء من بعض المتكلمين المتأثرين بالفكر اليونانى، كما عرفه القدماء، فإن من الواضح أن القول المذكور يجب أن يفهم بمعنى الحقيقة الثابتة. فالله شئ لا كالأشياء ولكنه واجب الوجود (الفقه الأكبر الثانى، مادة؛ Muslim: Wensinck Creed كمبردج 1932، ص 190).
وقد آثر الماتريدية بصفة عامة ألا يفرقوا بين صفات الله وذاته وإنما قالوا: إن الله عالم وله علم قائم به بمعنى أنه باق
…
إلخ وبذلك يؤكدون الأسماء القدسية (العالم، المريد، القدير، المتكلم).
(ب) مسردة الصفات. والمبدأ الهادى فى ذلك هو ألا نثبت لله صفة لم ترد بنصها فى القرآن، والمبدأ التوحيدى هو أن نكل هذا إلى الله، وتبسيط الأمر بالاستعانة بكتابه. على أن معظم فقهاء الكلام يقولون إنه لا يعد خروجاً عن النص الانتقال مثلاً من صيغة اسم الفاعل إلى الاسمية، كما تنص على ذلك قواعد اللغة. ومن ثم نشأت على مر القرون مسردة من الصفات بدأت أولاً بعدم الالتزام فى سردها بترتيب خاص (كما فى الإبانة للأشعرى) ثم فصلت ونسقت فيما بعد منذ أيام الجوينى إلى ما بعد ذلك.
والترتيب الذى اتبع، بل الأسماء نفسها فى الواقع، تختلف باختلاف المدارس.
وإذا أخذ بأحد الآراء الشائعة فإنا نسوق المسردة الآتية:
1 -
صفة الذات: الوجود. وإذا قيل عن الله فإنه ليس غير ذاته.
2 -
صفات ذاتية أو نفسية: وهى تقسم أحياناً إلى:
(أ) صفات نفى تؤكد علوه تعالى: القدم؛ البقاء؛ المخالفة للحوادث؛ القيام بنفسه.
(ب) صفات معان: القدرة؛ الإرادة؛ العلم؛ الحياة؛ الكلام؛ السمع؛ البصر؛ الإدراك؛ وينكر بعضهم أن هذه من صفاته.
3 -
صفات معنوية: وإذا أخذت بظاهر اللفظ فإن معناها: القدير؛ المريد؛ العالم.
4 -
صفات الأفعال: الرؤية، الخلق، أى العالم المحدث (وهو التكوين عند الماتريدية)؛ الأمر، والقدر والقضاء، وصلتهما بالعلم الإلهى والإرادة الإلهية تختلف باختلاف المدارس (رضى، وخاصة عند الماتريدية)
…
إلخ. ويتفق الأشاعرة والماتريدية فى القول بأن صفات المعانى باقية حتى إذا كانت تتعلق بمحدث. وهم يخالفون المعتزلة الذين يقولون مثلاً (مدرسة البصرة) بأن علم الله بأفعال العباد المختارة محدث له بداية. على أن الأشاعرة والماتريدية يتجاوزون فى صفات
الأفعال صفتى البقاء والبدء. والماتريدية بصفة عامة يعدونهما باقيتين.
وجميع هذه الصفات -إلا أربع- تقوم على العقليات. لقد أتى بها القرآن الكريم ولكن العقل البشرى يستطيع إثباتها. أما الصفات الأربع الأخرى، وهى الرؤية والكلام والسمع والبصر (ويدخل الإدراك فى ذلك أحياناً) فتقوم على السمعيات ولا نعلمها إلا من التنزيل.
(جـ) صفتان خلافيتان: الرؤية (صفة الرؤية) والكلام صفتان موضع جدل عنيف. ويفهم من رؤية الله أنها تكون بالأبصار. ويسلم أهل التقى من السلف بذلك تسليماً مطلقاً مفسرين إياها بالمعنى الذى ورد فى القرآن الكريم (سورة القيامة، الآيتان 22، 23) وفى عدة أحاديث. ولم يكن إنكار المعتزلة لها إنكاراً مطلقاً بأقل من تسليم هؤلاء السلفيين بها، ذلك أنهم يلجأون إلى التأويل (انظر ما يلى) فى تفسير النص القرآنى. ويقول الأشاعرة والماتريدية من الحنفية بالرؤية، ولكنهم يؤكدون أنها "بلاكيف". فكل امرئ سوف يرى الله بعينيه يوم الحساب. والمصطفون سوف يرونه رؤية خاطفة فى الجنة. ولكنهم لن يروه رؤية المرء لشئ يقوم فى حيز وله حدود. ومن المستحيل تخصيص طريقة هذه الرؤية (الإبانة، طبعة القاهرة، سنة 1348 هـ، ص 14؛ الفقه الأكبر الثانى، ص 17).
وصفة الكلام، وهى من الصفات السمعية، لها أهمية كبرى، إذ هى الوسيلة التى يتجلى الله بها لعباده. والمعتزلة يجعلون من الكلام صفة محدثة مخلوقة، لا لشئ إلا أنها تتجلى فى زمان (ومن ثم القول بأن القرآن الكريم مخلوق). فالقرآن الكريم كلام الله، ولكن كلام الله محدث. وقد ثبت الأشاعرة عند ذلك الموقف الذى أدى إلى سجن ابن حنبل وتعذيبه، فرأوا فى صفة الكلام أنها نفسية تقوم بذات الله نفسه. ومن ثم كانت نظرية القرآن غير مخلوق (انظر الإبانة ص 20 - 22) ولكن هذه المدرسة فرقت بينه وبين اللفظ به، أى بين الكتاب وتلاوته على
أفواه الناس. وفى القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) تفكر ابن تيمية فى هذا الأمر محييا مذهب السلف الصالح فوجد أن كلاً من المعتزلة والأشاعرة قد فاتتهم أشياء. فأكد ثانية أن ذاتية كلام الله الذى يعبر عنه تعالى هو قائم بذاته. (الفتاوى، القاهرة 1349 هـ، جـ 5، ص 265 - 267).
3 -
الآيات المتشابهة
إن تعظيم النص القرآنى مقترناً بغيب الله الواحد الذى لا يدرك لم يلبث أن واجه الفكر الإسلامى بالمسألة العويصة الخاصة بالآيات المتشابهة التى تشبه الله فى الظاهر بالمخلوقين، ترى هل نسلم بها تسليماً أم أنه ينبغى لنا أن نؤولها؟
(أ) لقد أخذ القدامى من أهل الحديث هذه الآيات بظاهر اللفظ، على أنه من خطل القول، أن نرميهم بتهمة التجسيد فى غير تحديد. فقد قال الأشاعرة أنفسهم بصحة نظرة القدماء الذين انصرفوا عن كل تأويل ولجأوا إلى التوحيد أو التسليم لله. ولكن لا يعلم أحد المفهوم الذى أضفاه الله على هذه المصطلحات. وهذه النظرة نسبت خاصة إلى مالك بن أنس. وقد لا يكون من الواجب أن نضيف إلى ذلك أن نظرة من هذا القبيل قد أصبحت "تجسيدية" لمجرد أنها حاولت أن تقيم من هذه المسألة صورة ذهنية وتبررها تبريراً غير متسلسل. ولكنها لم تصبح كذلك
لأنها لم تدخلها فى صميم العقيدة.
(ب) ولكن مدارس المعتزلة من جانبها أرادت أن تبرر بالجدل فكرة المسلمين عن الله فى مواجهة "إله الفلاسفة" الذى ألهه اليونان، فأكدوا من ناحية وحدانية الله، وأكدوا من ناحيةٍ أخرى إيمانهم بالميزان العقلى، فأدى ذلك بالمعتزلة إلى التوسع فى التأويل. وكان ممثلهم فى التأويل هو الزمخشرى الذى اتخذ فى سبيل تحقيق أغراضه طريقة الطبرى اللغوية. وعلى ذلك أصبحت الآية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] هى فيما ذهب إليه الجبائى: "وجوه جميلة تصبو إلى ربها المنعم. ويمكن إنكار رؤية الله دون مخالفة القرآن. وقد رجع فى ذلك إلى
المجاز، كما رجع إلى فقه اللغة. فرأوا فى الميثاق الذى أخذه الله على بنى آدم منذ الأزل (سورة الأعراف: 169) "مجازاً" كما فعلوا فى جميع الآيات التجسيدية.
(جـ) وقد استنكر الأشاعرة الأولون هذا اللجوء إلى العقل فى التفسير. ففى رأيهم أن هذه المصطلحات التشبيهية -بما فيها الاستواء على العرش والحركة- ليست إلا تعبيرات عن أفعال وصفات تتفق مع جلال الله ولكنا لا نعلم طبيعتها ولا كيفيتها، وليس بينها وبين ما يقابلها من أفعال الإنسان أى شبه. وهذا هو ما اصطلحوا عليه بقولهم "بلاكيف". وكثيراً ما يختلط الموقف بموقف القدماء، وقد قال بهذا إمام المذهب الأشعرى نفسه.
(د) وقد دخلت فى علم الكلام بعد نظرة أخرى التقطت من المعتزلة، وخاصة من معارضة الفلاسفة، وقد عرفت هذه النظرة بنظرة المحدثين، فأبيح التأويل. وهكذا فعل الجوينى وفخر الدين الرازى وغيرهما، ففسرت يد الله بأنها العناية التى يبسطها على البشر، وقالوا إن أعينه تدل على شدة عنايته وحراسته
…
إلخ (الرازى: كتاب أساس التقديس، القاهرة سنة 1327 هـ، ص 149) وثمة تأويل مجازى قد يدخل فيه الرمز إذا دعت الحال، وهو قريب كل القرب مما أثر عن المعتزلة مع الخلافات الآتية:
1 -
اعتبرت نظرة القدماء صحيحة (انظر أساس التقديس، الفصل الأخير).
2 -
عدت آيات التجسيد دون سواها على التخصيص مجازات، حيث إن المعنى الظاهر قد يؤدى إلى استحالة حقيقية. وهذا هو الموقف الذى اتخذه الطبرى من قبل، ولكن رؤية الله، وأزلية الميثاق قد تأكدتا بمعناها الدقيق وفقاً لعقيدة الأشاعرة.
(ب) أفعاله تعالى
مشكلة العدل والجزاء
أتى القرآن بالحقيقتين الكبيرتين، وهما قدرة الله على كل شئ ومسئولية الإنسان، وأن الصالحات يثاب عليها والطالحات تجازى. وقد جاهد المفكرون المسلمون بلا كلل لإيجاد حل لهذا
التناقض الظاهر، وكان ذلك موضوع المناظرات الأولى التى يرتد زمنها إلى دمشق، بين الجبرية والقدرية والمرجئة، وورثت مدارس الكلام الكبرى ذلك عنهم.
1 -
يؤكد المعتزلة حرية الإنسان، وهو يأتى أفعاله بالقدرة التى أودعها الله فيه ابتداء، والله يعلم هذه الأفعال الاختيارية، ولكن الله يثيب الإنسان أو يعاقبه على هذه الأفعال بكل إنصاف فهو الحكم العدل. وهو تعالى لا يأتى فعلاً بلا غرض أو غاية محددة، ففى الكون نظام مدبر. وهو النظام البديع الذى يتحدث عنه القرآن الكريم، نظام له غاية، ولذلك كانت ثمة غايات وسط تخضع لغاية ليس بعدها غاية؛ وثمة أسباب تؤثر تأثيراً فى أغراضها، وثمة حسن وقبيح فى طبيعة الأشياء يسبقان ذلك التبسيط الذى جاءت به الشريعة المنزلة. والله قد أوجب على نفسه أن يفعل الأصلح وهو لا يريد الشر ولا يأمر به. وإرادته وأمره سيان، والشر يخلقه الإنسان كما يخلق المدلولات الخلقية لأفعاله.
وقد افترق معتزلة البصرة ومعتزلة الكوفة حول فكرة "الأصلح" الذى يفعله الله دائماً وحول التوسع فى هذه الفكرة.
2 -
واستنكرت مدرسة الأشاعرة محاولة تبرير أفعال الله. ذلك أن الله تعالى: لا يحيط به عقل، فهو الحكم العدل، لأنه يفعل ما يريد، وهو لا يلتزم بشئ وما يفعله هو الأصلح لا لأنه ألزم نفسه به هذا الإلزام وإنما لأنه فعله، إذ لا وجود للحسن وللقبيح من الناحية الخلقية سابقاً على ما جاءت به شريعة الله، وليس الله بعاجز عن أن يبدل الحسنة سيئة والسيئة حسنة (الجرجانى، شرح المواقف، جـ 8، ص 182). والحق إن الغزالى والرازى قد فطنا إلى معنى عقلى فى "الحسن" و"القبيح". فطن له الرازى من حيث الوجود فحسب (المحصل، القاهرة، طبعة غير مؤرخة، ص 147؛ كتاب الأربعين، القاهرة سنة 1353 هـ، ص 249) وفطن له الغزالى من حيث الصفات الحسية التى فطرت عليها الأشياء (الغزالى: الاقتصاد، القاهرة، طبعة غير مؤرخة، ص 67).
والله كما جاء فى القرآن الكريم {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
…
} وكل شئ معلق بقضائه تعالى موكول إلى إرادته التى تحيط بالأشياء جميعاً، على حين أن قدره الذى ينفذ بأمره هو "صفة للفعل المحدث" تحدد فى زمان الأشياء التى "كانت" فى انتقالها من اللاوجود إلى الوجود، والقدر كما يقول الجرجانى (التعريفات، طبعة فلو كل، سنة 1845 هـ، ص 181): "وجود الموجودات متفرقة فى الأعيان بعد حصول شرائطها". ويقول أيضاً: "القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء، والقضاء فى الأزل والقدر فيما لازال"(المصدر نفسه). ويقتضى هذا أن المرء يجب أن يفرق بين الإرادة والأمر، إذ الأمر هو الذى يتصل بطاعة الإنسان طاعة مباشرة، فالله يشاء ضلال الكافر ويخلق هذا الضلال فيه، ومع ذلك يأمره بالإيمان.
أما أفعال الإنسان الحرة "الاختيار" فحالة خاصة تتعلق بمبادئ أعم من ذلك. فالله هو خالق أفعال الإنسان أية كانت، وقد فسر نص ما ورد فى القرآن الكريم {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بمعنى الخلق من العدم. صحيح أن الإنسان يخامره شعور بمسئوليته يحصى عليه الحسن والقبيح من الأفعال التى يأتيها كما يقول القرآن الكريم صراحة، وأنه تعالى يثيبه أو يعاقبه كما وعد. فقد أوتى الإنسان "الكسب" أو "الاكتساب"(سورة البقرة، الآية 281؛ سورة الطور، الآية 21). وفى نهاية القرن الماضى وجد الباجورى أن القاعدة الآتية قاعدة واجبة، وهى: الإنسان ملزم فى صورة مختار (حاشية على الجوهرة، القاهرة سنة 1352 هـ = 1934 م، ص 62) ومن ثم فإن الإنسان على مستوى التجربة يجب عليه أن يمضى فى أفعاله كأنما هو حر، ولكن يجب عليه أن يعلم أن كل شئ يأتيه فهو من الله، فإذا فعل الحسن فإنما فعله لأن الله برحمته شاء هذا، وإذا فعل قبيحاً فإنما لأن الله بعدله قد شاء هذا.
وهذا الإنكار للحرية الداخل فى مبحث علم الوجود يتفق مع كفاية "الأسباب" بما يخالف بدعة نظرية
المعتزلة (كفاية الأسباب قدرة يخلقها الله)، ويخالف الحتمية المحضة للعلل التى قال بها الفلاسفة، (السنوسى: المقدمة، الجزائر سنة 1908، ص 108 - 109؛ الباجورى: الكتاب المذكور، ص 58). أما الأشاعرة فلا أثر عندهم للكفاية فى الأسباب، إذ الله لم يكتب الدوام للوجود، وإنما هو سلسلة غير متصلة من خلق يحدث فى كل وقت، وسلسلة زمنية من تحقق القضاء الأزلى. ففى كل وقت يخلق الله ثم يخلق العالم والكل الفانى المتوحد عرضاً، الذى هو الإنسان وكل فعل من أفعاله. وعالم الأفعال "الحرة" هو والكون فى كليته سلسلة غير متصلة من قدر الله الذى لا يدرك، وما العلل إلا الوسائل أو الدلائل على إرادة الله، والشريعة هى "سنة الله". (وظل هذا المصطلح مستعملاً عند محمد عبده فى رسالة التوحيد، القاهرة سنة 1353 هـ، ص 7)؛ إنها هى السنة التى يستطيع بها الله فى جميع الأحوال أن يبدل كما فعل مثلاً حينما شاء أن يأتى بالبرهان على رسالة رسله عليهم السلام فجاء "بالمعجزات".
وعند معظم الأشاعرة -ولا نقول كلهم على الإطلاق- نظرية فى الكون تتفق مع نظرية عدم استمرار الأشياء. وكل شئ حشد من ذرات متصلة أو منفصلة أو متحدة بقدر الله. وإذا كان حقاً أن الباقلانى (القرن الرابع الهجرى = القرن العاشر الميلادى) قد قال بأن نظرية الذرات مساوية فى "الجوهر"(ماسينيون) للعقائد التى جاء بها القرآن، فإنه فى رأينا قد بالغ حتى رأى فى ذلك ما يمثل نظرة الأشاعرة المأثورة عنهم أصدق تمثيل، بل يمثل أكثر من ذلك مذهب جميع أهل السنة فى الإسلام. وهذه النظرية الطبيعية الكلامية فى الذرة هى فى الواقع معتزلية الأصل (أبو الهذيل؛ انظر أبحاث Horten & Pines) وتتفق إذن كبير اتفاق مع "القدرة" التى اهتدى أنها للإنسان على أفعاله. وثمة نزعة متميزة عرف بها الأشاعرة، الباقلانى، والإيجى، والجرجانى (مع بعض الخلافات) وعرف بها المحافظون الجامدون، مثل السنوسى، واللقانى، والباجورى، فقد ظل هؤلاء يأخذون
بنظرية الذرة فى الأعراض على اعتبار أنها أكثر التفاسير قبولاً لقدرة الله على كل شئ فى هذا العالم. وثمة اتجاه آخر تأثر أصحابه إلى حد قليل بنظرات الفلسفة الخلافية، فمروا على هذه النظرات مروراً عابراً ولم يثيروا حولها شيئًا (الغزالى، فخر الدين الرازى أو عدلوها تعديلًا كبيراً، وإن كانوا قد ظلوا يؤكدون النظريات المألوفة عن قضاء الله وقدره وعن فكرة الاكتساب البسيطة بالنسبة للإنسان.
3 -
وكان بعض الماتريدية (أبوحفص النسفى، والتفتازانى) من القائلين بنظرية الذرة. ولكننا نود أن نبرز إبرازاً خاصاً النظرة التى تتصل بالنفس اتصالاً أكثر وثاقة، تلك النظرة التى رأت على ضوئها مدرسة الحنفية الماتريدية بعامة العلاقات بين القدر وبين حرية الإنسان. فالقدر والقضاء من البداية لم يصبحا بعد يتصلان بإرادته تعالى بل بعلمه. وقد خالفت هذه المدرسة الأشاعرة فكان القدر عندها هو الباقي أما القضاء فيتعلق بالوجود فى زمان. ومن ثم كان القضاء عندهم علماً أزلياً يعلم به الله من قديم الأزل الحسن والقبيح والصفات السيئة فى مخلوقاته، على حين كان القضاء هو إيجاد الله لهذه الأشياء نفسها التى خلقها بحكمته وكماله (انظر عبد الرحيم ابن على، نظم الفرائض، الطبعة الثانية، غير مؤرخة، ص 28 - 30؛ الباجورى، الجوهرة، ص 66) وترى أغلبية الماتريدية أن فى الأشياء حسناً يقاس بالعقل وقبحاً من حيث الوجود ولايتصل اتصالاً مباشراً بالأخلاق. وفى ميدان الأخلاق فإن الله هو الذى يخلق بلا واسطة "أصل" أفعال الإنسان الاختيارية، ولكن قدرة الإنسان هى التى تكسبها صفة الحسن أو القبح (ويجب أن نلاحظ أن الرازى فى كتاب الأربعين، ص 277، والجرجانى فى شرح المواقف، جـ 8، ص 147 ينسبان هذه النظرية -التى يقول بها ماتريدى- إلى الباقلانى) فكل ما يحدث مرهون بإرادة الله وإنما الحسن هو الذى يقوم على "رضاه" والله لم يوجب على نفسه العدل، كما يقول المعتزلة، وفعله لا يكون عدلاً لأنه يشاؤه، وإنما لأنه -كما
يقول الأشاعرة - فوق كل عدل بعلمه وحكمته، وهو تعالى لا يكون غير عادل.
4 -
وما بنا من حاجة إلى أن نتتبع الجهود الوافرة التى بذلها علماء الكلام لتدعيم حججهم وتبرير الاعتراضات التى كانت تظهر دوماً. وقد قام أولئك الذين لم يرتضوا النظرية الأشعرية فى الكسب بتبريرات أكثر غموضاً. ومن ثم نشأت نظرية الاستطاعة وهى شائعة بين الأشاعرة والماتريدية؛ (انظر الجوينى: الإرشاد، طبعة Lascani، سنة 1938، ص 122 - 196 - 125 - 201؛ الجرجاني: التعريفات، ص 18
…
إلخ)؛ ونظرية "التولد" أو "التوليد"؛ ونظرية التوفيق أى تيسير الأفعال وخاصة الأفعال الصالحة، والإيمان والطاعة التى يخلقها الله فى الإنسان بلطفه تعالى وضدها وهو الخذلان (أى أن تخلق فى الإنسان القدرة على العصيان، طبقاً لتعريف التفتازانى الماتريدى فى كتابه المقاصد، طبعة إستانبول، ص 118 وما بعدها).
ونستطيع أن نرى فى هذه الجهود تحليلاً طبق على مشاكل شديدة التعقيد حتى إن هذه الجهود يمكن أن تكون قد بدت فى نظر أولئك الذين أرادوا أن يظلوا ثابتين على ما كان يحيط بالسلف الصالح من هالة محجبة والذين أنكروا إثبات العقيدة بالتدليل كأنما هى رياضات تدعو إلى اليأس (انظر الجرجانى: شرح المواقف، جـ 1، ص 34 - 35) وهو أمر تطلع الأشاعرة المتأخرون إلى أن يفعلوه. وكان للكلام خصومه الألداء (بصرف النظر عن معارضة الفلاسفة) فى شخص أنصار المذهبين الحنبلى والظاهرى، الذين اقترنت أقوالهم بأقوال أهل السلف وأساءوا الظن باللجوء إلى العقل فى مسائل العقيدة. وكان الغزالى أيضاً قاسياً كل القسوة فى عرض حديثه عن الكلام. على أننا نجد أحياناً بين هؤلاء الخصوم أشد القواعد تواتراً فى تحليل العلاقات بين الفعل الاختيارى وقدرة الله على كل شئ.
وهكذا نجد أن ابن حزم الظاهرى (القرنان الرابع والخامس الهجرى =
القرنان العاشر والحادى عشر الميلادى) -الذى أنكر أن تكون للعقل قدرة على القياس (نستطيع هنا أن نتحدث عن قول ابن حزم بالمذهب الاسمى، ولكنه ليس مذهباً اسمياً يدور حول قيمة اللغة ذات الأثر وقواعدها) والذى كان يرمى إلى الاستمساك بنص الكتب المنزلة - قد أنكر الكسب الذى قال به الأشاعرة حيث إن نصوص الكتاب كما يقول (الفِصَل، القاهرة سنة 1347 هـ، جـ 3، ص 48) لا تجيز أن الإنسان يخلق أفعاله كما يقول المعتزلة ولا الاكتساب الذى وهبه الله إياه كما يقول الأشاعرة. ولكن نقضه كله لهذه النظريات العارضة، هذا النقض الذى وإن كان أبعد ما يكون عن التسلسل الفكرى (انظر الكتاب المذكور 51 - 52) غير أنه ناضج سديد، وهو فى نفس الوقت قد عرض فى إجمال رأياً شخصياً سديداً فيما يتصل "بالاستطاعة". (انظر المصدر المذكور، ص 21 - 26، 31).
والغزالى، ولا نعنى هنا الغزالى فى كتابه الاقتصاد الذى عنّى نفسه بعرض نظريات الأشاعرة أو النهوض بها متنقصاً مع ذلك من حدود علم الكلام (ص 7 - 8) وإنما نعنى الغزالى فى كتابه التهافت بل الإحياء بخاصة (القاهرة، طبعة سنة 1352 هـ = 1933 م، جـ 4، ص 269) حيث يقوم بتحليل نفسى نافذ كل النفوذ لموضوع الاختيار والصلات بين العقل والإرادة فى الفعل الاختيارى، وهو يدافع عن تصور للاختيار لا يقاس بالعقل ويؤكد أن الله وحده الذى يفعل "من غير غرض" هو صاحب الاختيار والصلات بين العقل والإرادة فى الفعل الاختيارى المطلق، اختيار متصور كأنما هو اختيار إنسانى يرتفع إلى مقام الأبدية. وما يسميه المتكلمون الكسب هو مرحلة وسطى (الإحياء، جـ 4، ص 220) ليست مجال مشاركة فى الاختيار الإلهى، فالإنسان يأتى الفعل ضرورة بمعنى أن كل شئ يحدث له لا يصدر عنه وإنما يصدر عن آخر، فهو يفعل عن اختيار بمعنى أنه هو "محل" الفعل المختار، يفعل فعله غير مدافع بعد أن يقرر العقل، وهذا الأخير ليس إلا صورة.
وقد قال الغزالى بهذه القاعدة التى يحسن ألا نفسرها تفسيراً فضفاضاً، وهى أن الإنسان مجبر على الاختيار (انظر المصدر المذكور). وهذه العناية بالتحليل قد تناقصت حتى اختفت فى الرسائل المتأخرة التى لم تكد منذ القرن الخامس عشر تزيد عن ترديد القواعد التى صيغت فى الماضى. وقد أراد الشيخ محمد عبده فى نهاية القرن التاسع عشر أن يحرر نفسه من جدل علم الكلام فاقتصر على قوله:"أما البحث فيما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل -من إحاطة علم الله وإرادته وبين ما تشهد به البداهة من عمل المختار فيما وقع عليه الاختيار- فهو من طلب سر القدر الذى نهينا عن الخوض فيه، والاشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه". (رسالة التوحيد، ص 61).
3 -
نظرات إسلامية مختلفة إلى الله
ونختار هنا من أبرز هذه النظرات بعض الاتجاهات.
1 -
علم الكلام عند الإسماعيلية: وثمة كلام كثير يقال عن عقائد الفرق، من الخوارج فى الإسلام إلى الشيعة. وسنقصر عنايتنا على مذهب الإسماعيلية الذى كانت له علاقات ثقافية كثيرة جداً بأغلبية أهل السنة. وقد اندمجت فى علم الكلام عند الإسماعيلية نزعة مزدوجة أثرت فيه: مذهب المعتزلة (الذى ظل يؤثر فى الشيعة) ومذهب الأفلاطونية الجديدة، ومن ثم أثرت الفلسفة فيه بعض التأثير.
ولا نكاد نعرف شيئاً عن مرحلة التطور الأولى نفسها لهذا العلم أو جهوده لتحديد موقف أصيل من الأفكار الإسلامية مثل "كن" و"قدر" وغير ذلك. وظلت هذه الأفكار البدائية فى هذه المرحلة على حالها حتى جاء أبو عبد الله النسفى (القرن الرابع الهجرى = العاشر الميلادى) فوضعها وضعاً جديداً فى مذهب يأخذ كثيراً من الأفلاطونية الجديدة ومذهب الفيض. وظل النظر فى هذه المسائل يتطور ويتزود باتجاهات جديدة بفضل أبى حاتم الرازى وأبى يعقوب السجستانى وناصر خسرو والكرمانى (وقد وجد شتيرن أنه قد
تأثر فيما يرجح بالفارابى فى قوله بالعقول العشرة). وعن طريق إخوان الصفاء قدر للإسماعيلية أن تؤثر فى كثير من الفلاسفة بل فى علماء الكلام من أهل السنة حتى جاءت الحملة التى شنها نصير الدين الطوسى تأييداً لابن سينا.
التوكيد على غيب الله الذى لا يدرك
وقد نشأ مذهب كلامى كامل سلبى؛ وأصبح من غير الممكن أن ينسب إلى الله فى ذاته اسم أو صفة. بل إن "التوحيد الصحيح" لا ينسب لله تعالى حتى الوجود نفسه (بالفارسية: هسْى). والأسماء التى جاءت فى القرآن إنما تدل على أنها هى ذاته (انظر: إدريس القارصى، القرن الثامن الهجرى = القرن الرابع عشر الميلادى) وقد جعل الأمر، والكلمة والإبداع والعلم، أقانيم؛ فالله ليس بباق، وليس هو لازال، وإنما الباقى هو أمره وكلمته، والذى لا زال هو خلقه الذى فاض عنه بأمره (المقريزى: الخطط، جـ 1، ص 395 الذ ى استشهد به Juda b. Nissim ibn: G. Vajda Malka، باريس سنة 1945، جـ 7، الفصل الأول) ويظل الله هو الذى لا يمكن للأفهام أن تدركه بحال (ناصر خسرو). ويندرج لغز التشبيه والتعطيل فى مذهب إنكارى يجعل إثبات الصفات ينصرف إلى الكلمة أو الأمر أو إلى العقل الأول أو الكلى. ويجعل الكرمانى العقل الأول هو الكلمة، ويجعل الإبداع صفة من صفاته تعالى.
والحق إن مذهب النسفى وخلفائه فى الفيض قد أقام واسطة هى العقل الكلى الذى صدر عنه العالم بفيوضات متعاقبة، وتجد أصداء هذا فى كتاب "قصوص فى الحكمة"(وهو كتاب يجب أن ينسب بعد أبحاث S. Pines فى REI سنة 1951، ص 121 - 124، إلى ابن سينا وليس إلى الفارابى) وتستمر هذه الأصداء عند الغزالى فى "المطاع" من مشكاة الأنوار.
وقد تعلقت المشاعر الدينية للإسماعيلية بطائفة من الأقانيم الغنوصية، فالإرادة والأمر يكونان فى بعض الأحيان مرتبتين روحيتين أسمى من العقل الأول. وما أكثر ما تجعل الإرادة والأمر والكلمة سواء، ويجعل
العقل الكلى أو الأول فى ذاته "مجلى لله" فوق الأفهام يعز التعبير عنه ويتحقق بأمره تعالى. وهذه الأنظار متأصلة فى التأويل الرمزى (المعنى الباطن لآيات القرآن الكريم) تتزود من الأساطير الإيرانية مباشرة. وقد استبطنها من بعد بعض الشيعة بل
السنية والصوفية.
2 -
الفلسفة: وفى الفلسفة اكتسب المصطلح "إلهيات"(الذى اصطنعه علم الكلام) الشيوع من حيث إنه يدل على جملة من المسائل عن الله، ولم تصبح مادة هذه المسائل هى مادة علم الكلام، لقد جاءت من اليونان، وخاصة من أرسطو، ولكنها سادت على الأقل فى الفلسفة الشرقية (وخاصة عند الفارابى وابن سينا) بإلهام عظيم من الأفلاطونية الجديدة (كتاب الإلهيات المنحول لأرسطو). وكان لسلطان القرآن الكريم بعض الأثر فى مادة هذه المسائل (وخاصة علم الله سبحانه وتعالى بالأشخاص) ولكن لا داعى يدعونا إلى أن نبسط هذه المسائل بالتفصيل كما فعلنا بالنسبة لعلم الكلام، وحسبنا أن نذكر أن ابن سينا يثبت وجود الله توسلا بالدليل القائم على حدوث العالم بمعناه الدقيق ولم يغفل الدليل القائم على "فكرة الوجود". (انظر الإشارات، طبعة Forget. ص 146) وقد أعانتهما أداة الفلسفة الأكثر مرونة فى إثبات الصفات بعيداً عن الذات الإلهية متوسلين بتفرقة "معنوية" بسيطة لها أساس من الحقيقة.
ويجب أن نذكر فى هذا المقام نزعة باطنية معرفتنا بها غير كاملة تأخذ عدة أقوال من المذهب الإسماعيلى مأخذ الإنكار (وسائط: إخوان الصفا، والتوحيدى، ثم فى زمن متأخر النزعة الإسماعيلية التى بينها S. Pines. والخاصة ببعض نسخ من إلهيات أرسطو؛ انظر REI، ص 7 وما بعدها).
ولا يزودنا الفلاسفة برسائل عن العدل ولا عن أفعاله تعالى، فهم على خلاف علماء الكلام يؤكدون (أو يتصدون لإثبات) خروج العالم إلى حيز الوجود بفيض واجب صادر عن إرادة (انظر مادة "الإسماعيلية") وأنه باق
إلى أجل، عالم ليست له بداية أو نهاية "ممكن" فى ذاته، محدث فى مرتبة الذات واجب فى مرتبة الوجود، والعناية شريعة الفيض نفسه وهى قائمة ضرورة بعقل الله الأزلى.
والأسباب لا يمكن أن تعجز فى أن تفعل فعلها فى أعراضها، ولم تعد ثمة أية مشكلة عن اختيار الإنسان حيال قدرة الله على كل شئ (النجاة، ص 302).
وأياً كان الحل الذى يتخذ ببقاء نفوس الأفراد فإن العقل الفعال يكون وسيطاً بين الله والإنسان فى مرتبة العلم ومرتبة الفيض، إذ هناك طبقات للعقول العاقلة حتى المعلول الأول ويحيط بهذه العقول العقل الكلى. وعند ابن سينا طبقة من النفوس تقابل هذه العقول، وقد أنكر هذا ابن رشد. والظاهر أن ابن رشد إنما كان من الفلاسفة الذين توسلوا بالفلسفة فى العودة إلى العلم الإلهى بالأشخاص بأعيانها وهو ما شدد القرآن الكريم فى الدعوة إليه. أما الأمر المعلق فهو موقف العقيدة كله من الله. ولا مراء فى أن الفلاسفة كانوا مسلمين وظلوا مسلمين.
ومع أن نظرياتهم نفسها قد تعدل أو يوفق بينها وبين ما أكده القرآن، فإن الله الذى يدعون إليه هو الله الذى ندركه بالعقل ونهتدى إليه فى أسمى الحالات بومضة من ومضات الحدس. وقد تصدوا لإثبات (وتدخل فى ذلك فكراتهم عن التجلى، وهو لحظة عابرة يوفق الإنسان فيها إلى الواجب الكلى) أن الله المدرك بالعقل والله الذى نزل به القرآن يتفقان اتفاقاً كلياً. ولكنها ليست مسألة صحة عقيدة تستخدم العقل سنداً فى نطاقها. فهم يتناولون الفلسفة من ناحية والشريعة من ناحية أخرى مصدرين يتساويان قيمة. والمسألة المعلقة فى هذا المقام هى بيان أنهما يتفقان. وقد بلغوا هذه الغاية بالتأويل فلسفياً ورمزياً معاً، فالله هو الأول والسابق وهو الواجب الوجود، والله عند أئمة الفلاسفة تصور لوجود متعال واجب كامل، وهو العقل الأسمى والحب الأسمى، صدر عنه العالم بفيض ضرورى مراد. وصفوة القول أنه غرض لا يتصل بالعقيدة بمقدار ما يتصل بالتجربة الفلسفية والحدس الخصب.
وقد أدى ما أظهروه من جد فى متابعة أبحاثهم واستدلالاتهم (بالرغم مما وقعوا فيه من أخطاء) إلى أن أدخلوا فى صميم الثقافة الإسلامية ما أغناها حقاً. وقد أثر تحليلهم للمسائل فى بعض الأحيان فى الفكر الدينى نفسه. ولكننا نجد أنفسنا فى هذا المقام قد دخلنا فى ميدان آخر مخالف لسر الله الحى الذى لا يدرك الذى استوجب به القرآن الكريم طاعة المؤمنين.
3 -
الكلام: ونعود الآن إلى مدارس الكلام السنية. وما من شك أن الفلاسفة احتقروا جدل "المتكلمين" الذين جعلوا الشريعة أشتاتاً، كما يقول ابن رشد (فصل المقال، طبعة وترجمة Gauthier، الجزائر، سنة 1942، ص 29). ذلك أن لطائفهم ومجادلاتهم مضطربة فى كثير من الأحيان، وبراهينهم الفلسفية محل مناقشة، ولكنهم عندما تصدوا على هذا النحو إلى الدفاع عن العقائد ضد أولئك الذين شكوا، فإن الذى كان يدخل فى دفاعهم على التحقيق هو الله سبحانه وتعالى كما تصوره العقيدة الإسلامية. والمعتزلة -كالأشاعرة سواء بسواء- رجال دين أولاً وفلاسفة ثانياً (أحمد أمين، ضحى الإسلام، القاهرة سنة 1362 هـ = 1943 م، جـ 7 ص: 204).
ومع ذلك فإن الاتجاهين الباطنين لعلم الكلام عند المعتزلة وعند أهل السنة مختلفان. صحيح أن المعتزلة بدءوا بالقرآن الكريم وعدل الله السامى ولكن فكرتهم عن العقل باعتباره مقياساً للشريعة وسلطان العلوم الأجنبية عليهم من بعد قد أديا بهم إلى إقامة العقيدة كلها على فكرة أن الله يمكن إثبات وجوده بالعقل الإنسانى، وقد قصدوا فى دعم إثبات الوجود المثالى وتنقيته ولكن تشددهم فى القول بالتنزيه بلغ بهم الغاية إلى إضعاف فكرة الصفات الإلهية نفسها. ولم يكن الأشاعرة بمخطئين حين أخذوا عليهم ذلك، ثم حدث من بعد أن سر التوحيد الإلهى قد بدا كأنما أحيط بتصور يتفق وما عليه البشر، وعبر عنه بالأسلوب لا شك، ولكن الأفهام تدركه مباشرة مجزأ. ونحن نجد شيئاً يشبه هذا فى التصوف ماثلاً فى رياضات الجنيد، ويتصل بهذا ويكمله فى الوقت نفسه
العدل الإلهى، فقد أضفى عليه بوجه من الوجوه صبغة بشرية، فقد كانت فيه لمسة من فكرة القاضى العادل عند البشر ارتقى بها إلى مقام البقاء.
وأصول رد الأشاعرة على هذا لم تكن بحال من الأحوال إنكاراً خالصاً لنصيب المؤمنين فى كل توسع طرأ على مادة العقيدة؛ وقد صور تحول الأشعرى على أنه رجوع إلى النزعة التى يكنها السلف وتصريح بالتزام مذهب ابن حنبل (انظر الإبانة، ص 9) على أن الأشاعرة قبلوا التحدى فى الصراع الجدلى وأدى بهم هذا إلى الإيغال فى هذا الميدان، أدى بهم إلى أن يصقلوا أنفسهم دوماً؛ أدى بهم إلى الدخول فى تعقيدات لا تنتهى، ونشأت عن ذلك جملة من المسائل لم تصل إلى حد قط نتيجة لتنوع الاعتراضات وقيام المدارس المعارضة. ووسط هذه الغمرة من الحجج أصبح من العسير فى بعض الأحيان أن نتتبع ذلك التسليم الكامل فى مواجهة العقيدة الساطعة بالله الواحد الخالق الحكم التى تجدها فى سور القرآن الكريم. ونفى الاختيار عند الإنسان بحقيقته الوجودية قد صرف كثيراً من نزعات التفكير نحو القول بالإرادة الإلهية متصورة على هذا النحو، وقد تحدد هذا أكثر بعد القرن الخامس عشر الميلادى، ذلك أن متكلمى الأشاعرة (أو الماتريدية) لم يسعوا إلى تجديد مذهبهم ليلحقوا بخصومهم المعاصرين، ذلك التجديد الذى كان فيما يظهر أول ما تدعوهم حاجة الدفاع عنه، بل جمدوا فى رسائل ذوات قوالب لا تتغير. وهذا الخطر بالشلل المحيق كان بلا شك من أهم الاعتبارات المؤدية إلى ما نجده عند محمد عبده من نزعة تشبه اللاأدرية.
وهنا يكمن فيما نعتقد تعليل النظر إلى علم الكلام نظرة فيها ما يشبه الازدراء (يرتفع فى بعض الأحيان إلى المعارضة العنيفة) وقد أظهر ذلك على السواء خلفاء "السلف الصالح" الذين تمثلهم على الأخص النزعة الحنبلية وأقوال المتصوفة.
4 -
التصوف: ونحن لا نطمع هنا أن نحلل الأصول الدينية للمدارس الصوفية المختلفة أو اتجاهاتها بكل ما
فيها من حدود دقيقة (انظر عن القرون الأولى Passion d' Al-: L.Massignon Halladj باريس سنة 1522؛ Lexique Technique، الطبعة الثانية، باريس سنة 1954) والشئ الجدير بالملاحظة أننا لم نعد نتناول جهداً عقلياً منصرفاً إلى واجب الوجود كما فى الفلسفة أو جهداً غير متصل كما فى الكلام لالتماس حجج قاطعة أو مقررة لعقيدة القرآن الكريم فى الله، وإنما الذى يتضمنه سعينا هنا هو رياضة روحية أو قل حياة مع الله لم تلبث أن فهمت على أنها رياضة فى الوحدة وتحقيقاً باطنياً للتوحيد. وهناك بعض الصوفية كالحلاج والترمذى أعادوا التفكر فى الأصول العقائدية للحقبة التى عاشوها، وبعضهم كالحسن البصرى يمكن أن نسميهم "شبه معتزلة" لأنهم توسعوا فى نقطة من النقاط، وآخرون مثل ابن كرام أضفوا اسمهم على مدرسة من مدارس الكلام، وبعضهم وصلوا أنفسهم بالطريقة الحنبلية فى التفكير، وثمة صوفية كثيرون من الشيعة وهناك صوفية كثيرون من أهل السنة لم يتصدوا بأى وجه من الوجوه لعلم الكلام عند الأشاعرة. وأخيراً نجد كثرة كثيرة منهم وخاصة منذ القرنين السابع والثامن الهجريين (الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين) استجابوا لنزعات أفلاطونية حديثة تقول بوجود الذرات. وسننصرف من وجهة النظر التى تعنينا إلى استخلاص الاتجاهات الكبرى للصوفية طبقاً لتصنيف التزمه
ماسينيون:
(أ) وحدة الشهود: وهو المذهب الذى قال به الحلاج. والظاهر أنه قد ألهم أيضاً كل صوفى تأثر بالمذهب الحنبلى. والاتحاد بالله يتحقق فى قلب الصوفى بشهوده تعالى وشهود سر وحدته. ويظل الله تعالى ووحدته المطلقة فيما يتصل بجميع خلقه هو الغرض الأكبر من العقيدة. ولكن شهود الله تعالى يتحقق بالعشق (فى ذاته تعالى، العشق هو كنه الذات، هكذا يقول الحلاج) وبالعشق تتحقق المناجاة بين قلب المؤمن والله إلى أن يبلغ الأنَيَّة، التى تفنى المناجاة فى الوحدة دون أن تفسدها. ومن المعروف حق المعرفة ما كان فى القرن الثالث الهجرى (القرن التاسع الميلادى) من معارضة العقيدة الإسلامية المقررة للوحدة التى تتحقق
بالعشق (والزعم أن ذلك يستند إلى سورة آل عمران، الآية 29، وسورة المائدة، الآية 59) أجل وحدة الشهود هذه فى اثنينيتها.
مرحلتان متوسطتان: والغزالى فى الإحياء (القرن الخامس الهجرى = القرن الحادى عشر الميلادى) الذى جعل للتصوف حق الوجود بين العلوم الدينية المقررة، قد وحد فى شئ من التخير من هنا ومن هناك، بين القيم العقائدية المتطورة للأشاعرة وبين القيم الروحية لمحبة الله، بين التوكل وبين الفضائل الزهدية التصوفية المختلفة. وثمة مرحلة أخرى متوسطة أعظم أهمية هى حركة الإشراق وقولها بالفيض، وهى حركة لا تقوم بحال على القول الخالص بالذرة. والشخصية العظيمة لإمام الإشراق السهروردى الحلبى (القرن السادس الهجرى = القرن الثانى عشر الميلادى) التى درسها كوربان H. Corbin دراسة جيدة جداً تمثل خير تمثيل الشوق إلى الاتحاد الذى يؤدى إلى التحقق فى مقام المعرفة. ولكن الصورة الظاهرة للأسطورة الإيرانية أتاحت له فى أفق البصيرة الشعرية النافذة أن يترك الشهود لعليائه.
(ب) وحدة الوجود: وقد قيض لها أن تسيطر على التصوف المتأخر منذ ابن عربى (القرنان السادس والسابع الهجريان = القرنان الثانى عشر والثالث عشر الميلاديان) وقد فطن ابن تيمية إلى أثر ابن سينا فى ذلك (وتنقصه) وكان تفطنه لذلك بنية التعديل والتكملة لا الرفض. ويمكن للمرء أن يقول إن الغزالى فى كتيباته التى ألفها بآخرة، الغزالى الذى أشرب الفلسفة بل مذهب الإسماعيلية، هو رائد هذه الفرقة، وفيها يلتقى القول الأفلاطونى المحدث بالذرة، كما جاء فى إلهيات أرسطو المنحولة له، بالنزعة الأشعرية التى تنصرف إلى إثبات الإله الواحد فتجرد الخلق من كل وجود فعلى متميز. فالعالم المخلوق إنما هو عالم فان بالقياس إلى الله المتوحد بوجوده المتوحد بفعله. ويقول الصوفية إن كل وجود تجريبى ظاهرى يجب أن يفنى فى الوجود الواحد الباقى، أى فى الله. ويفسر أنصار مذهب الذرات فى الوجود الآية 85 من سورة الإسراء
فيقولون إن الروح هى فيض مباشر من الأمر الإلهى ومن ثم فهى فيض من ذات الله. وانظر فى ذلك نص الغزالى الذى أشرنا إليه من قبل (وقد ناقش نسبته إليه: Au-: W. Montgouery Watt -thenticily of Works attributed to At Gha zali فى. Royal Asiat. Soc .Journ سنة 1952، 1، 2) ونعنى به "الرسالة اللدنيّة"(القاهرة سنة 1353 هـ = 1934 م، ص 25) وقد تتبعنا بعض الإشارات المختلفة كل الاختلاف فتيسر لنا هنا شئ يشبه الصدى لقولة أفلاطون "التماس الواحد فينا"، بل القولة الهندية "إنك لهو" مع طرح المسائل التاريخية. والرياضة الصوفية الأرفع هى إذن رياضة "اتحاد"، تفهم على أنها تحقق، وهى تبرز للوهلة الأولى سبيلها المختارة بالاعتماد على تأويل رمزى غنوصى لنصوص التنزيل. ولم تثر "وحدة الوجود" بين الفقهاء والمتكلمين ما أثارته وحدة الشهود من معارضة فى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى). على أن المرء لا يستطيع أن ينسى مبلغ القوة التى تدفع بها وحدة الشهود المتوكل فى طريق الرياضة الروحية بمعناها الدقيق.
5 -
السلف الصالح: كان التزام كثير من متصوفى القرون الأولى بالعقيدة يسير على سنة "السلف الصالح". ففى هذه القرون كان بين الصوفية وأهل الحديث فى كثير من الأحيان تداخل، ذلك أنه لم تكن ثمة مسألة خاصة بمدرسة يُنتْمى إليها بالرغم من أن هؤلاء القوم كثيراً ما استظلوا براية السنة الحنبلية. وإنما كانت مسألة نظرة تقوم على ما تكنه الصدور. وهذا الرجوع إلى السلف يجب أن يفهم على أنه تم عن اختيار أكثر مما تم عن مراعاة للتسلسل الزمنى: فنحن نجد ذلك فى القرن الرابع عشر الميلادى عند ابن تيمية بمقدار ما نجده فى أوائل القرن الأول الهجرى. ونجده مرة أخرى مقعّداً تغلب عليه نزعة تنكر الصوفية عند الوهابيين والوهابيين الجدد وعند السلفية المحدثين وتلاميذهم المعاصرين (ويشمل ذلك إلى حد ما بعض الجماعات الدينية).
وهذه النزعة رفعت صوتها فى كثير من الأحيان مناهضة لمراوغات علم الكلام ودقائقه، ومناهضة للإسراف فى الثقة بالأدلة العقلية أو الجدلية. وقد أباح الأنصارى فى كتابه "ذم الكلام" للمسلم الانصراف عن تفسير الصفات الإلهية وألا ينزلق إلى الطريق المسدود الذى انزلق إليه الأشاعرة يضعون الحواشى على النصوص ويفرقون بين الصفة وحال وجودها (انظر هذا الشاهد عند الأنصارى فى ابن تيمية: الفتاوى، جـ 5، ص 275 - 278). وشخصية الأنصارى الصوفى نفسها كافية لبيان أن وجود نزعة للاستمساك بسنة السلف الصالح لايبرر إنكار التصوف جملة كما يحدث كثيراً اليوم، فيخلطه فى يسر بين "وحدة الشهود"، و"وحدة الوجود" وبين وحدة الوجود وانحرافات جماعات الطرق.
والذى يبقى ثابتاً مؤكداً هو الاعتقاد فى الله المتعالى يكلم الناس على لسان أنبيائه ورسله عليهم السلام، ولا يكشف عن ذاته بأكثر من الأسماء الحسنى التى هى "حجاب الاسم"، وهى عقيدة لا تسأل الله أن يجلو عن ذاته وتستمسك بكلمته وتسلم له تعالى، وذلك بفعل تفرد الله به ويكون شاهداً على قدرته وعلى مسئولية عباده عما يفعلون. ومن ثم فإن ما ينطوى عليه المؤمن هو حقاً تسليم نفسه تسليماً كلياً لا تشوبه شائبة فى تهجده لله الذى لا يسأله عما يفعل وإنما يعرف من كلمته تعالى أنه أحكم الحاكمين والمعين الذى ليس معه معين.
والظاهر أن هذا الذى ينطوى عليه المؤمن وأجملنا القول فيه فيما سبق هو أبرز علامات عقيدة المسلم فى الله، وأنه أولاً وقبل كل شئ هو ما يكنه المسلم فى قلبه عندما يجهر باسم الله. وما من تفصيل يقتضيه الأمر هنا. ففى كل عصر وجد "أحرار فى الفكر" و"متشككون" و"منكرون"، وفى كل عصر قامت أبحاث عقلية فى الإلهيات كما كثر فى الإسلام الكلام عنها فى غير اتصال. ويظهر أن الفكر المعاصر قد تنازعته من جميع الجهات اتجاهات مختلفة من الفلسفات الحديثة كما تنازعه من قبل الفكر اليونانى والفكر الإيرانى. وقد يكون الوقت الآن يقتضى قيام كلام جديد أو قل مذهب جديد فى
التبرير الدفاعى ينهض بإعادة النظر على نطاق واسع فى المسائل والمشكلات الخاصة. على أنه قد يكون من الممكن تجنب المزالق التى انزلق إليها علم الكلام القديم ويتم ذلك فقط بالتجاوز عن المظاهر المتناقضة للمشاكل المثارة، وبالرجوع الخالص لله الواحد الحى رب العالمين مالك يوم الدين، وهذا هو ما دأب دوماً كثير من المؤمنين المخلصين وحملة القرآن على أن يحيوا به.
المصادر:
1 -
كتب إسلامية بارزة:
(أ) كتب ذكرت فى صلب المادة للبخارى، ومسلم، والأشعرى، وابن سينا، وابن حزم، والجوينى، وأبى حامد الغزالى، وابن رشد، وفخر الدين الرازى، وابن تيمية، وسعد التفتازانى، والجرجاني، والسنوسى، والباجورى، وعبد الرحيم بن على، ومحمد عبده، وأحمد أمين.
(ب) كتب أخرى: (1) الخياط: الانتصار، طبعة نيبرج، القاهرة سنة 1344 هـ = 1925 م.
(2)
الأشعرى: اللمع، طبعه وترجمه إلى الإِنجليزية The Theol-: R.J. Mearthy ogy of AI - Ash'ari، بيروت سنة 1953، ص 6 - 74 - 6 - 103.
(3)
الباقلانى: التمهيد، طبعة الخضيرى وأبو ريدة، القاهرة 1366 هـ = 1947 م، ص 152 - 159.
(4)
عبد القاهر البغدادى: أصول الدين، إستانبول سنة 1346 هـ = 1928 م، الفصول 3 - 6.
(5)
الجوينى: الشامل (مخطوط سنة 1290 هـ، بدار الكتب المصرية، القاهرة) ص 150 - 189.
(6)
أبو حفص النسفى: العقائد، طبعة Gureton سنة 1843.
(7)
الشهرستانى: كتاب الملل والنحل، طبعة بدران، القاهرة سنة 1370 هـ = 1951 م، وخاصة ص 8 - 11.
(8)
نهاية الإقدام طبعة Guillaume، أوكسفورد سنة 1934.
(9)
البيضاوى: طوالع الأنوار (القاهرة سنة 1324 هـ = 1905 م)، الكتاب الثانى، الفصول 1 - 3.
(10)
أبو البركات النسفى: العمدة، طبعة Cureton سنة 1843 م.
(11)
أبو ريدة إبراهيم بن سيار النظام، القاهرة سنة 1365 هـ = 1946 م، ص 80 - 98.
2 -
كتب غربية:
(أ) قبل سنة 1910 م، انظر مصادر ما كتبه ماكدونالد عن الله فى صدر هذه المادة.
(ب) كتب أحدث (1) Le: Blachere Coran باريس سنة 1947، 1949، 1951.
(2)
Vajda، Wensinck و Mas- signon الذين ذكروا فى صلب المادة.
(3)
انظر أيضاً Die Phi-: M. Horten Iosophischen Ansichten von Razi und Tusi، بنون سنة 1910؛ Die Spekulative und positive Theologie im islam noch Razi und Tusi، ليبسك سنة 1912؛ Die - Philosophischen Systeme der Spek ulativen Theologen im Islam، بون 1912
(4)
bis: J. Hell Von Mohammad Ghazali يينا سنة 1915.
(5)
H.S. Nyberg: مادتا "المعتزلة" و"النظام" فى دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى.
(6)
Vorlesungen: Goldziher الطبعة الثانية
(7)
Les Preuves de: A. J. Wensinck -l'existence de Dieu dans la theologie mu sulmane، أكاديمية أمستردام، سنة 1936.
(8)
Beitrage zur Is-: S. Pines (A lamischen Atomlehre، برلين سنة 1936.
(9)
Essai sur les doc-: H. Laoust trines sociales et politiques de Teki-d-Din Ahmed b. Taimiya، القاهرة سنة 1939، ص 153 - 178.
(10)
Nallino: Scritti، جـ 2، ص 10 - 18، 432 - 436.
(11)
Die fruhiaslamische: 0. Pretzl Atomenlehre IsL.، سنة 1931، ص 117 - 130؛ Die fruhislamische At- tributenlehre سنة 1940
(12)
Nathanael b. Al-: S. Pines et la theologie ismaelienne Fayyumi فى Etudes historiques juives القاهرة سنة 1946.
(13)
Ghazali et: S. de Beaurecueil Saint Thomas d'Aquin فى Bulletin de d'Archeologie Orien- l'Institut Francais
tale du Caire، سنة 1947 جـ 229 - 238.
(14)
Muslim Theol-: A. S. Tritton ogy، لندن سنة 1947، فى مواضع مختلفة من الأقسام المعقودة على المواد: God و Capacity و Man
(15)
Islam: J. Windrow Sweetman and Christian Theology، لندن سنة 1945 - 1947، جـ 1، ص 17 - 22، 93 - 117 ترجمة "الفوز الأصغر" لابن مسكويه) جـ 2، ص 66.
(16)
Intro-: Gardet et Anawati musulmane duction a la theologie، باريس سنة 1948
(17)
Free Will and: W. Montgomery Predestination in Early Islam، لندن سنة 1948.
(18)
انظر مواد "إله" و"خدا" و"تنرى".
الأبيارى وزايد [كارديه L. Gardet]
تعقيب على مادة "الله"
هذان مقالان عن الله عز وجل، تضمنت أولهما الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية، وتضمنت ثانيهما الطبعة الثانية، كتب أولهما ماكدونالد D. B. Mac- donald كتب ثانيهما كارديه. L. Gardet
ولم يكن "ماكدونالد" جاداً فى بحثه بقدر ما كان "كارديه". أراد "ماكدونالد" أن ينال من محمد صلى الله عليه وسلم والإِسلام، فدخل إلى ذلك من منافذ هيأها له خياله واستنباطه فحاد عن حق كثير: من أجل ذلك عقب عليه معقبون كثيرون جاءت تعقيباتهم برمتها هنا كما ذكرت من قبل. وقد جاء مقال "كارديه" يكاد يكون رداً على ذلك المقال الذى سبق به "ماكدونالد"، فوفى "كارديه" حيث قصر "ماكدونالد" واستوعب حيث لم يستوعب ولم يشتت عليه الغرض أطراف البحث فاجتمع له ما لم يجتمع له، وإذ كان باحثاً يقصد إلى الجد فقد خلا مقاله من تلك الشائبات التى امتلأ بها مقال ماكدونالد.
والمعقب على ماكدونالد علماً لا يجد خيراً مما عقب به "كارديه" إذ فيه الاستقصاء المصحح، غير أنه لا تزال ثمة هنات وتخرصات فى مقال "ماكدونالد" لم يتناولها "كارديه" منها حديثه عن الجزيرة العربية ديانة قبل
محمد صلى الله عليه وسلم، وحديثه عن لفظ "الله" اشتقاقاً، ثم عبثه فى عرضه لصفاته تعالى. من أجل هذا الذى بقى لنا عن "ماكدونالد" ومن أجل أن الموضوع بعد مقال "كارديه" لا يزال يحتاج إلى كلمة متصلة عن "الله" عز وجل، نترك جانباً تتبع علماء الكلام فى اختلافاتهم وتشتت آرائهم، والتأريخ لهذا الاختلاف وهذا التشتت، إلى الاستقراء الذى تجتمع لنا منه تلك الكلمة المتصلة التى يخلص فيها القاريء إلى تعرف "الله" متخففاً من تلك الخلافات المشتتة.
وما من شك فى أن القضية قبل أن يدخل فيها علماء الكلام بخلافاتهم وتأويلاتهم كانت قضية أيسر ما تكون على العقول والأفهام تكاد تجمع عليها الفطر السليمة ولا تختلف فيها. والغريب أن هذا الخلاف على اتساعه وتشعبه يكاد لا يمس من جوهر القضية شيئاً، هذا إذا استبعد منه الجانب المريب الذى دخل عن قصد أو عن جهل.
من أجل هذا كله أسوق تعقيبى هذا، فأقول:
لقد كان للعربى ساكن الصحراء دينه الذى أملاه عليه حذقه ودهاؤه رغم بدائيته، فلقد عبد أرباباً لا حصر لها من النجوم والكواكب، كما كان يعبد أصناماً من الحجر، وكان ضالاً بين هذه كلها لا يعرف إلى أيها يفزع مع الملمات، ولم يكن يؤمن بالأبدية ولا بحياة بعد الموت، غير أنا وجدنا من هؤلاء البدو من كان له شبه إيمان بتلك الحياة الآخرة، وهؤلاء هم الذين تحدثنا عنهم الأخبار بأنهم كانوا يربطون جمالهم إلى جوار قبورهم ولا يقدم لها طعام ولا شراب إلى أن تلحق بهم
لتكون مطاياهم إلى دار الخلود.
وكانت مكة محط عبادة الأصنام، وكانت فيها حول الكعبة قبل الإسلام جملة من الأصنام تمثل معبودات أولئك البدو، منها: اللات، والعزى، ومناة. وما من شك فى أن عبادة الأصنام كانت قديمة فى الجزيرة العربية، فلقد ذكر هيرودوت "اللات" وقال: إنها من أكبر أرباب العرب.
وفى ظل هذه البلبلة الدينية التى فرقت الناس شيعاً لكل معبودهم، كانت ثمة نفرة من هذا الهراء وكان ثمة نفر
أخذوا يتطلعون إلى منقذ يأخذ بأيديهم من هذا الضلال، ولم يكن الأمر أمر منقذ غير مؤيد من الله، فلقد كان فى الجزيرة قبيل الدعوة الإسلامية بقليل بعض المتألهين الذين لم يقروا للأصنام بعبادة، مثل: ورقة بن نوفل، وعبيد الله ابن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد ابن عمرو بن نفيل، ولكنهم لم يبلغوا أن يأخذوا بيد الناس لينقذوهم من الضلال إلى الهدى، وليجمعوهم حول كلمة التوحيد، لأن الأمر كما قلت لك كان يقتضى غيرهم ممن تؤيده السماء.
ولقد تولت السماء محمداً صلى الله عليه وسلم واختارته ليكون صاحب هذه الدعوة، وليكون نبى هذه الأمة، ليجمعهم على إله واحد، هو الله تعالى.
قال أبو الهيثم، وقد سئل عن اشتقاق اسم الله تعالى لغة: كان حقه إلاه، أدخلت الألف واللام تعريفاً، فقيل الإلاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا لها، فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها فى اللام، التى هى لام التعريف، وذهبت الهمزة أصلاً فقالوا: أللاه، فحركوا لام التعريف التى لا تكون إلا ساكنة، ثم التقت لامتان متحركتان، فأدغموا الأولى فى الثانية فقالوا: الله.
والجذم "أل هـ" قديم فى العربية، ولا يمنع هذا القدم من أن تكون ثمة مشاركة ومشاكلة بينه وبين نظائر له فى اللغات الشقيقة كالعبرية والسريانية أو الآرامية، وكما استخدم هذا الجذم فى العربية كان مستخدماً فى اللغات الشقيقة. ومن ثم كان فى العربية كلمة إله، وكانت تعنى قبل الإسلام ما كان يعبده العرب من أصنام وغيرها، ويقابله فى العبرية ألوهيم. أما لفظ "الله" فالذى لا شك فيه أنه لم يكن شائعاً على الألسنة قبل الإسلام شيوع لفظ إله، وأكثر ما ورد منه من ذلك كان على ألسنة المتألهين من الشعراء أمثال أمية بن أبى الصلت، من ذلك قوله:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
…
بالخير صبحنا ربى ومسانا
وقوله:
هو الله بارئ الخلق والخلق كلهم
…
إماء له طوعا جميعاً أعبد
وقوله:
أرسل الله بعد ذاك عذاباً
…
جعل الأرض سفلها أعلاها
وعلى ألسنة نفر غيرهم، من ذلك قولهم فى الإعجاب: لله درك، وقولهم
فى القسم: ايم الله، وايمن الله؛ ثم قولهم فى الدعاء: اللهم، ثم قولهم ألاه، يريدون الله، وقد تأولوا هذا الحذف بأنه جاء من توهم أن الألف واللام لما كانت للتعريف جاز حذفها، فكانت منها هذه الصورة: لاه، ثم قالوا: لاهم، كما قالوا: لاه أبوك:
وحين احتضن الإسلام هذا اللفظ، خص به ذلك المعبود بحق، وأصبح لفظاً قرآنياً لله تعالى وحده، حين تكون ثمة إشارة إلى الآلهة المعبودة دونه، فجعلت لها لفظ إلاه أو آلهة وخصته تعالى بهذا الاسم، من ذلك قوله تعالى {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} وقوله تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} . والقرآن الكريم، إذا ذَكر "إله" -وهو يريده تعالى - ذكره مع قرينة، نحو قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أما إذا جمع كانت هذه التفرقة من إطلاق إله وآلهة على تلك المعبودات التى تعبد من دونه وإفراده تعالى بلفظ الله.
فلفظ "الله" على أية حال لفظ استصفاه القرآن الكريم، وكان لفظاً قرآنياً لذلك المعبود بحق الذى لا إله غيره.
والإِسلام قد جلّى هذا المعبود بحق وعرف به تعريفاً شاملاً لا يليق بغيره، ولا يشاركه فى غيره، تعريفاً لا بلبلة فيه ولا غموض، تعريفاً يتفق والفطر السليمة، وهذا الجلاء تجمعه أحكام أملاها القرآن الكريم، وتصدى للتدليل عليها الصفوة من علماء الكلام، وهى:
1 -
وجوده تعالى: وإن الذى لا يشك فى أصل الوجود يعلم أن كل موجود إما متحيز وإما غير متحيز، ثم إن كل متحيز إن لم يكن فيه ائتلاف فهو جوهر فرد، وإن ائتلف مع غيره سمى جسماً، وإن غير المتحيز إما أن يستدعى وجوده جسماً يقوم به، وهى الأعراض؛ أو لا يستدعى جسماً يقوم به، وهو الله تعالى. فالله موجود، والعالم موجود به وبقدرته، وهذا مدرك بالدليل لا بالحس. والدليل إلى هذا أن كل حادث فلحدوثه سبب، والعالم حادث، فلزم أن يكون له سبب. ونعنى بالحادث ما كان معدوماً ثم صار موجوداً. ووجود هذا الحادث قبل أن وجد قد يكون محالاً أو ممكناً، وباطل أن يكون محالاً، لأن المحال لا يوجد قط، ولسنا نعنى بالممكن غير ما يجوز أن يوجد
ويجوز ألا يوجد، ولكنه لم يكن موجوداً، لأنه ليس يجب وجوبه لذاته، إذ لو وُجد وجوده لذاته لكان واجباً لا ممكناً، بل إنه قد افتقر وجوده إلى مرجح لوجوده على العدم حتى يتبدل العدم وجوداً.
ثم إن كل جسم أو متحيز لا يخلو عن الحوادث، لأنه لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان.
2 -
قدمه تعالى: فهو سبب لهذا العالم، وإن لم يكن قديماً لكان حادثاً، ولو كان حادثاً لافتقر إلى سبب آخر، وكذلك السبب الآخر، ويتسلسل إما إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن ينتهى إلى قديم لا محالة يقف عنده، وهو الذى نطلبه ونسميه خالق العالم.
ونعنى بقول قديم أن وجوده غير مسبوق بعدم ولفظ القديم لا يحمل إلا إثبات موجود ونفى عدم سابق.
ثم إن القدم ليس معنى زائداً على الذات، وإلا لزم من ذلك أن يكون تعالى قديماً بقدم زائد عليه، فيتسلسل القول إلى ما لا نهاية.
باق: فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه. لأنه لو انعدم لافتقر عدمه إلى سبب. وكما يفتقر تبدل العدم بالوجود إلى مرجح للوجود على العدم، فكذلك يفتقر تبدل الوجود بالعدم إلى مرجح للعدم على الوجود، وذلك المرجح إما فاعل بعدم القدرة أو ضد أو انقطاع شرط من شروط الوجود، ومحال أن يحال على القدرة، إذ لوجود شئ ثابت يجوز أن يصدر عن القدرة، فيكون القادر باستعماله فعل شيئاً والعدم ليس بشئ، فيستحيل أن يكون فعلاً واقعاً بأثر القدرة، فقد يقال: فاعل العدم هل فعل شيئاً؟ فإن قيل: نعم، كان محالاً، لأن النفى ليس بشئ.
وباطل أن يقال: إنه بعدمه ضد، لأن الضد إن فرض حادثاً اندفع وجوده بمضاده القديم، وكان ذلك أولى من أن ينقطع به وجوده القديم.
ومحال أن يكون له ضد قديم كان موجوداً معه فى القدم ولم يعدمه، وقد أعدمه الآن، وباطل أن يقال: انعدم لانعدام شرط وجوده، فإن الشرط إن كان حادثاً استحال أن يكون وجود القديم مشروطاً بحادث، وإن كان قديماً
فالكلام فى استحالة عدم الشرط كالكلام فى استحالة عدم المشروط، فلا يتصور عدمه.
ليس بجوهر متحيز، لأنه قد ثبت قدمه، ولو كان متحيزاً لكان لا يخلو عن الحركة فى حيزه أو السكون فيه، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
ليس بجسم، لأن كل جسم فهو متألف من جوهرين متحيزين، وإذا استحال أن يكون جوهراً استحال أن يكون جسماً.
ليس بعرض، إذ العرض ما يستدعى وجوده ذاتاً تقوم به، وذلك الذات اسم أو جوهر، ومهما كان الجسم واجب الحدوث كان الحال فيه حادثاً أيضاً لا محالة، إذ يبطل انتقال الأغراض، وصانع العالم قديم فلا يمكن أن يكون عرضاً.
ليس فى جهة مخصوصة من الجهات الست. فالجهات تستحيل على غير الجواهر والأغراض، إذ الحيز معقول وهو الذى يختص الجوهرية، ولكن الحيز إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شئ آخر متحيز.
والجهات الست: فوق وأسفل وقدام وخلف ويمين وشمال، فمعنى كون الشئ فوقنا هو أنه فى حيز يلى جانب الرأس، ومعنى كونه تحت أنه فى حيز يلى جانب الرجل وكذا سائر الجهات، فكل ما قيل فيه إنه فى جهة فقد قيل إنه فى حيز مع زيادة إضافة.
منزه عن أن يوصف بالاستقرار على العرش، فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر لا محالة، فإنه إما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك لا يخلو عن التقدير، وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة لجاز أن يماسه من سائر الجهات، فيصير محاطاً به، ثم إنه لا يستقر على الجسم إلا جسم ولا يحل فيه إلا عرض، والله تعالى ليس بجسم ولا عرض.
ويقول مالك بن أنس، وقد سئل عن معنى قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب.
والاستواء فى الآية فهو نسبته للعرش لا محالة ولا يمكن أن يكون
للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوماً أو مراداً، أو مقدوراً عليه، أو محلاً مثل محل العرض، أو مكاناً مثل مستقر الجسم. ولكن بعض هذه النسبة يستحيل عقلاً وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له، فإن كان فى جملة هذه النسبة -مع أنه لا نسبة سواها- نسبة لا يخيلها العقل ولا ينبو عنها اللفظ، فليعلم أنها المراد. أما كونه مكاناً أو محلاً كما كان للجوهر والعرض، فاللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق، وأما كونه معلوماً ومراداً، فالعقل لا يخيله ولكن اللفظ لا يصلح له، وأما كونه مقدوراً عليه وواقعاً فى قبضة القدرة ومسخراً له، مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه، لأنه يتمدح به وينبه به على غيره الذى هو دونه فى العظم، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعاً. أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب.
أنه تعالى مرئى: وهذا لوجوده ووجود ذاته، فليس ذلك إلا لذاته، فإنه ليس لعقله ولا لصفة من الصفات، بل كل موجود ذات، فواجب أن يكون مرئياً، كما واجب أن يكون معلوماً بالقوة لا بالفعل، أى هو من حيث ذاته مستعد لأن تتعلق الرؤية به، وأنه لا مانع ولا مخيل فى ذاته، فإن امتنع وجود الرؤية فالأمر خارج عن ذاته.
والبارى سبحانه موجود وذات، وله ثبوت وحقيقة، وهو يخالف سائر الموجودات فى استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحدوث، أو موصوفاً بصفة تناقض صفات الإلهية من العلم والقدرة وغيرهما، فكل ما يصح لموجود فهو يصح فى حقه تعالى، إن لم يدل على الحدوث ولم يناقض صفة من صفاته، والدليل عليه تعلق العلم به، فإنه لما لم يؤد إلى تغير ذاته ولا إلى مناقضة صفاته، ولا إلى الدلالة على الحدوث، سوى بينه وبين الأجسام والأعراض فى جواز تعلق العلم بذاته وصفاته، والرؤية نوع علم لا يوجب تعلقه بالمرئى تغير صفة، ولا يدل على حدوث، فوجب الحكم بها على كل موجود.
فإن قيل: فكونه مرئياً يوجب كونه بجهة، وكونه بجهة يوجب كونه عرضاً
أو جوهراً، وهو محال، ونظم القياس: أنه إن كان مرئياً فهو بجهة من الرأس، وهذا اللازم محال، فالمفضى إلى الرؤية محال.
قيل: إن القول بأن كل مرئى فهو بجهة من الرأس، إما أن يكون بضرورة أو بنظر، ولا سبيل إلى دعوى الضرورة، وأما النظر فمنتهاهم أنه لم ير إلى الآن شئ إلا وكان بجهة من الرأس مخصوصة، ويقال: فما لم ير فلا يحكم باستحالته، ولو جاز هذا لجاز للمجسِّم أن يقول: إن الله تعالى جسم، لأنه فاعل، وإننا لم نر إلى الآن فاعلاً إلا جسما.
ويجب ألا تحمل الرؤية على أنها حالة تساوى الحالة التى يدركها الرائى عند النظر إلى الأجسام والألوان، ولكن الواجب أن نحصل معنى هذا اللفظ فى الموضع المتفق، وأن نحذف منه ما يستحيل فى حق الله سبحانه وتعالى:
والحاصل: أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم.
أما المحل فليس بركن فى صحة هذه التسمية، فإن الحالة التى ندركها بالعين من المرئى لو أدركناها بالقلب أو بالجهة مثلاً لأمكننا أن نقول: قد رأينا الشئ وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.
ولنا أن نقول: علمنا بقلبنا أو بدماغنا، إن أدركنا الشئ بالقلب أو بالدماغ.
وأما المتعلق بعينه فليس ركنا فى إطلاق هذا الاسم، وثبوت هذه الحقيقة، فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان تعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث إنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود أى موجود كان، وأى ذات كان. فإذن الركن الذى الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث
وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه.
وقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} إنما هو دليل على عدم معرفة موسى عليه السلام الله لوقوع وقت ما هو جائز فى نفسه، والأنبياء عليهم السلام لا يعرفون من الغيب إلا ما عرفوا.
وقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، أى لا تحيط به ولا تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالأجسام.
أنه تعالى واحد، وكونه تعالى واحداً يرجع إلى ثبوت ذاته ونفى غيره. والواحد قد يطلب ويراد به أنه لا يقبل القسمة؛ أى لا كمية له ولا جزء ولا مقدار، والبارى تعالى واحد بمعنى سلب الكمية المصححة للقسمة عنه، فإنه غير قابل للانقسام إذ الانقسام لما له كمية، والتقسيم تصرف فى كمية بالتفريق والتصغير، وما لا كمية له لا يتصور انقسامه.
وقد يطلق ويراد أنه لا نظير له فى رتبته، فهو تعالى لا ند له، فأما أنه لا ضد له فظاهر إذ المفهوم من الضد هو الذى يتعاقب مع الشئ على محل واحد، ولا تجامع، وما لا محل له فلا ضد له، والبارى سبحانه لا محل له فلا ضد له.
ومعنى أنه لا ند له تعالى أن ما سواه هو خالقه لا غير، إذ لو قدر له شريك لكان مثله فى كل الوجوه أو أرفع منه أو كان دونه، وكل ذلك محال، فالمفضى إليه محال.
ووجه استحالة كونه مثله من كل وجه أن كل اثنين هما متغايران، فإن لم يكن تغاير لم تكن الاثنينية معقولة، فإنا لا نعقل سواءين إلا فى محلين أو فى محل واحد فى وقتين، فيكون أحدهما مفارقاً للآخر ومبايناً له ومغايراً، إما فى المحل وإما فى الوقت. والشيئان تارة يتغايران بتغاير الحد والحقيقة، كتغاير الحركة واللون، فإنهما وإن اجتمعا فى محل واحد فى وقت واحد فهما اثنان، إذ أحدهما مغاير للآخر بحقيقته، فإن استوى اثنان فى الحقيقة والحد، كالسواءين فيكون الفرق بينهما إما فى المحل أو فى الزمان، فإن فرض سواءان مثلاً فى جوهر واحد فى محال واحدة كان محالاً، إذ لم تعرف
الاثنينية، ولو جاز أن يقال هما اثنان ولا مغايرة لجاز أن يشار إلى إنسان واحد ويقال إنه إنسانان بل عشرة، وكلها متساوية متماثلة فى الصفة والمكان وجميع العوارض واللوازم من غير فرق، وذلك محال بالضرورة.
فإن كان ند لله سبحانه مساويًا له فى الحقيقة والصفات استحال وجوده، إذ ليس مغايره بالمكان، إذ لا مكان ولا زمان، فإنهما قديمان وإن ارتفع كل فرق ارتفع العدد بالضرورة ولزمت الوحدة، ومحال أن يقال: يخالفه بكونه أرفع منه، فإن الأرفع هو الإله، والإله عبارة عن أجلّ الموجودات وأرفعها، والآخر المقدر ناقص ليس بالإله. وإن كان أدنى منه كان محالًا، لأنه ناقص. فلا يتصور اثنان متساويان فى صفات الجلال إذ يرتفع عند ذلك الافتراق ويبطل العدد.
أنه تعالى قادر، إذ كل فعل محكم فهو صادر من فاعل قادر، والعالم محكم فهو إذن صادر من فاعل قادر.
أنه تعالى عالم، يعلم جميع الموجودات والمعدومات. والموجودات منقسمة إلى قديم وحادث، والقديم ذاته وصفاته. ومن علم غيره فهو بذاته وصفاته أعلم، فيجب ضرورة أن يكون بذاته عالمًا وصفاته، إن ثبت أنه عالم بغيره، ومعلوم أنه عالم بغيره لأن ما ينطلق عليه اسم الغير فهو صنعه المتقن وفعله المحكم المرتب، وذلك يدل على قدرته على ما سبق.
وأنه تعالى حى، وكون العالم القادر حياً ضرورى، ولا يعنى بالحى إلا ما يشعر بنفسه ويعلم ذاته وغيره، ثم كيف لا يكون العالم بجميع المعلومات القادر على جميع المقدورات حيًا؟
أنه تعالى مريد لأفعاله، وبرهان ذلك أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها عن البعض إلا بمرجح، ولا تكفى ذاته للترجيح، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذى خصص أحد الضدين بالوقوع فى حال دون حال، وكذلك القدرة لا تكفى فيه، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة، وكذلك العلم لا يكفى، لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه، ولا يؤثر فيه ولا يغيره.
فإن كان الشئ ممكناً فى نفسه مساوياً للممكن الآخر الذى فى مقابلته، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، ولا يجعل أحد الممكنين مرجحاً على الآخر، بل يعقل الممكنين ويعقل تساويهما. والله تعالى يعلم أن وجود العالم فى الوقت الذى وجد فيه كان ممكناً وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساوياً له فى الإمكان، لأن هذه الإمكانات متساوية، فمن العلم أن يتعلق بها كما هو عليه، فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه فى وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده فى ذلك الوقت لعلة تعلق الإرادة به، فتكون الإرادة للتعيين علة، ويكون العلم متعلقاً به تابعاً غير مؤثر فيه، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الإرادة لاكتفى به عن القدرة، بل كان ذلك يكفى فى وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله به، وكل ذلك محال.
وقد يقال: إن القدرة كما لا تناسب أحد الضدين فالإرادة القديمة أيضاً لا تتعين لأحد الضدين، فاختصاصها بأحد الضدين ينبغى أن يكون بمخصص، ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، إذ يقال الذات لا تكفى للحدوث، إذ لو حدث من الذات لكان مع الذات غير متأخر، فلا بد من القدرة، والقدرة لا تكفى، إذ لو كان للقدرة لما اختص بهذا الوقت وما قبله وما بعده فى النسبة إلى جواز تعلق القدرة بها على وتيرة، فالذى يخصص هذا الوقت هو الإرادة.
وقد يقال: إن الإرادة لا تكفى، فإن الإرادة القديمة عامة التعلق كالقدرة، فنسبتها إلى الأوقات واحدة، ونسبتها إلى الضدين واحدة، فإن توقع الحركة مثلاً يدل على السكون، لأن الإرادة تعلقت بالحركة لا بالسكون.
فإن قيل: وهل كان يمكن أن تتعلق بالسكون؟ فإن قيل: لا، فهو محال، وإن قيل: نعم، فهما متساويان، أعنى الحركة والسكون فى مناسبة الإرادة القديمة، فما الذى أوجب تخصيص الإرادة القديمة بالحركة دون السكون؟ فيحتاج إلى مخصص، ثم يلزم السؤال فى مخصص المخصص، ويتسلسل إلى غير نهاية.
ويتفرع على هذا أقوال أربعة:
فقائل يقول إن العالم وجد لذات الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس للذات صفة زائدة البتة. ولما كانت الذات قديمة كان العالم قديماً، وكانت نسبة العالم إليه كنسبة المعلول إلى العلة، وهذا قول الفلاسفة.
وقائل يقول إن العالم حادث، ولكن حدث فى الوقت الذى حدث فيه لا قبله ولا بعده، لإرادة حادثة حدثت له لا فى محل، فاقتضت حدوث العالم، وهذا قول المعتزلة.
وقائل يقول: حدث بإرادة حادثة حدثت فى ذاته، وهذا قول يقول بكونه محلا للحوادث.
وقائل يقول: حدث العالم فى الوقت الذى تعلقت الإرادة القديمة بحدوثه فى ذلك الوقت، من غير حدوث إرادة ومن غير تغير صفة القديم، وهو قول أهل الحق.
فأما من يقول بقدم العالم فهذا محال، لأن الفعل يستحيل أن يكون قديماً، إذ معنى كونه فعلًا أنه لم يكن ثم كان، فإن كان موجوداً مع الله أبداً فكيف يكون فعلًا؟ بل يلزم من ذلك دورات لانهاية لها، وهو محال.
وأما من يقول بقول المعتزلة فقد جعل البارئ تعالى مريداً بإرادة حادثة لا فى محل، وهذا باطل، ثم كيف أن الإرادة حدثت فى هذا الوقت على الخصوص؟ فإن كانت بإرادة أخرى فالسؤال فى الإرادة الأخرى لازم وبتسلسل إلى غير نهاية، وإن كان لا بإرادة فليحدث العالم فى هذا الوقت على الخصوص لا بإرادة، فإن افتقار الحادث إلى الإرادة لجوازه لا لكونه جسماً أو إسماً أو إرادة أو علماً، والحادثات فى هذا متساوية.
وأما من يقول بحدوث الإرادة فى ذاته تعالى لا متعلقة بذلك الحادث، فقد جعلوا الله تعالى مريداً بإرادة فى غير ذاته كما جعلوه تعالى محلا للحوادث، وهذا يوجب حدوثه.
والقائل بقول أهل الحق يعنى أن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها.
أنه تعالى سميع بصير، وهذا ثابت شرعاً وعقلاً. أما شرعاً فالآيات القرآنية
الدالة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ولا يصح أن يقال: إنما أريد العلم لأن فى هذا صرفاً لألفاظ الشارع عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام، إذ كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة فى كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن يكون كذلك.
وقد يقال: إن وجه استحالته أنه إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلاً للحوادث، وهو محال، وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتاً معدوماً وكيف يرى العالم فى الأزل، والعالم معدوم، والمعدوم لا يرى؟
قيل: فالله يعلم الآن أن العالم كان موجوداً قبل هذا، فكيف علم فى الأزل أنه يكون موجوداً، وهو بعد لم يكن موجوداً؟ فإن جاز إثبات صفة تكون عند وجود العالم، علماً بأنه كائن، وفعله بأنه سيكون، وبعده بأنه كان، وقبله بأنه سيكون، وهو لايتغير عبر عنه بالعلم والعلمية، جاز ذلك فى السمع والسمعية والبصر والبصرية.
وأما عقلا، فمن المعلوم أن الخالق أكمل من المخلوق، ومعلوم أن البصير أكمل ممن لا يبصر، والسميع أكمل ممن لا يسمع، فيستحيل أن نثبت وصف الكمال للمخلوق ولا نثبته للخالق.
ولا يلزم عن هذا الإدراك الحاصل بالشم والذوق واللمس، على أن فقدها نقصان ووجودها كمال فى الإدراك، والمحققون يصرحون بإثبات أنواع الإدراكات مع السمع والبصر والعلم، الذى هو كمال فى الإدراك، دون الأسباب التى هى مقترنة بها فى العادة من المماسة والملاقاة، فإن ذلك محال على الله تعالى.
وأنه تعالى متكلم، وعلى هذا إجماع المسلمين. وبرهانه أن الإنسان يسمى متكلماً باعتبارين أحدهما بالصوت والحرف، والآخر بكلام النفس الذى ليس بصوت وحرف، وذلك كمال، وهو فى حق الله تعالى غير محال، ولا هو دال على الحدوث، فكلام الله تعالى صفة قديمة قائمة بذاته.
ثم إن هذه الصفات السبع، وهى القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ليست هى الذات، بل هى زائدة على الذات، فصانع العالم تعالى عالم بعلم، وحى بحياة، وقادر بقدرة، وهكذا فىِ جميع الصفات.
والأسامى التى تسمى بها الله تعالى أربعة:
الأول: ما لا يدل إلا على ذاته، كالموجود، وهذا صادق أزلا وأبداً.
الثانى: ما يدل على الذات مع زيادة سلب، كالقديم، فإنه يدل على وجود غير مسبوق بعدم أزلا، والباقى، فإنه يدل على الوجود وسلب العدم عنه آخراً؛ وكالواحد، فإنه يدل على الوجود وسلب الشريك، وكالغنى، فإنه يدل على الوجود وسلب الحاجة، وهذا أيضاً يصدق أزلا وأبدا، لأن ما يسلب عنه يسلب لذاته فيلازم الذات على الدوام.
الثالث: ما يدل على الوجود وصفة زائدة من صفات المعنى، كالحى والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم، وما يرجع إلى هذه الصفات السبع، كالآمر والناهى والخبير ونظائره، فذلك أيضاً يصدق عليه أزلا وأبداً.
الرابع: ما يدل على الوجود مع إضافة إلى فعل من أفعاله كالجواد والرازق والخالق والمعز والمذل وأمثاله.
* * *
وللإمام محمد عبده فى الصفات: إذا قدرنا عقل البشر قدره وجدنا غاية ما ينتهى إليه كماله إنما هو الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التى تقع تحت الإدراك الإنسانى حسًا كان أو وجداناً أو تعقلا، ثم التوصل بذلك إلى معرفة مناشئها وتحصيل كليات لأنواعها والإحاطة ببعض القواعد لعروض ما يعرض لها، أما الوصول إلى كنه حقيقة ما فمما لا تبلغه قوته لأن اكتناه المركبات إنما هو باكتناه ما تركبت منه وذلك ينتهى إلى البسيط الصرف وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة وغاية ما يمكن عرفانه منه هو عوارضه وآثاره. خذ أظهر الأشياء وأجلاها كالضوء، قرر الناظرون فيه له أحكاماً كثيرة فصّلوها فى علم خاص به ولكن لم يستطع ناظر أن يفهم ما هو
ولا أن يكتنه معنى الإضاءة نفسه، وإنما يعرف من ذلك ما يعرفه كل بصير له عينان وعلى هذا القياس. ثم إن الله لم يجعل للإنسان حاجة تدعو إلى اكتناه شئ من الكائنات وإنما حاجته إلى معرفة العوارض والخواص ولذة عقله إن كان سليما إنما هى تحقيق نسبة تلك الخواص إلى ما اختصت به وإدراك القواعد التى قامت عليها تلك النسب، فالاشتغال بالاكتناه إضاعة للوقت وصرف للقوة إلى غير ما سبقت إليه. اشتغل الإنسان بتحصيل العلم بأقرب الأشياء إليه وهى نفسه، أراد أن يعرف بعض عوارضها وهل هى عرض أو جوهر؟ هل هى قبل الجسم أو بعده؟ هل هى فيه أو مجردة عنه؟ كل هذه صفات لم يصل العقل إلى إثبات شئ منها يمكن الاتفاق عليه وإنما مبلغ جهده أنه عرف أنه موجود حى له شعور وإرادة، وكل ما أحاط به بعد ذلك من الحقائق الثابتة فهو راجع إلى تلك العوارض التى وصل إليها ببديهته. أما كُنه شئ من ذلك -بل وكيفية اتصافه ببعض صفاته- فهو مجهول عنده ولا يجد سبيلا للعلم به. هذا حال العقل الإنسانى مع ما يساويه فى الوجود أو ينحط عنه، بل وكذلك شأنه فيما يظن من الأفعال أنه صادر عنه كالفكر وارتباطه بالحركة والنطق، فما يكون من أمره بالنسبة إلى ذلك الوجود الأعلى؟ ماذا يكون اندهاشه بل انقطاعه إذا وجه نظره إلى ما لا يتناهى من الوجود الأزلى الأبدى؟
النظر فى الخلق يهدى بالضرورة إلى المنافع الدنيوية ويضئ للنفس طريقها إلى معرفة مَن هذه آثاره وعليها تجلت أنواره وإلى اتصافه بما لولاه لما صدرت عنه هذه الآثار على ما هى عليه من النظام. وتخالف الأنظار فى الكون إنما هو من تصارع الحق والباطل، ولابد أن يظفر الحق ويعلو على الباطل بتعاون الأفكار أو صولة القوى منها على الضعيف. أما الفكر فى ذات الخالق فهو طلب للاكتناه من جهة وهو ممتنع على العقل البشرى لما علمت من انقطاع النسبة بين الوجودين ولاستحالة التركب فى ذاته وتطاول إلى ما لا تبلغه القوة البشرية من جهة أخرى فهو عبث ومهلكة، عبث لأنه سعى إلى مالا يدرك، ومهلكة لأنه يؤدى
إلى الخبط فى الاعتقاد لأنه تحديد لما لا يجوز تحديده وحصر لما لا يصح حصره. لا ريب أن هذا الحديث وما أتينا عليه من البيان كما يأتى فى الذات من حيث هى يأتى فيها مع صفاتها فالنهى واستحالة الوصول إلى الاكتناه شاملان لها فيكفينا من العلم بها أن نعلم أنه متصف بها. أما ما وراء ذلك فهو مما يستأثر هو بعلمه ولايمكن لعقولنا أن تصل إليه، ولهذا لم يأت الكتاب العزيز وماسبقه من الكتب إلا بتوجيه النظر إلى المصنوع لينفذ منه إلى معرفة وجود الصانع وصفاته الكمالية، أما كيفية الاتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها فالذى يوجبه علينا الإيمان هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلى، أبدى، حى، عالم، مريد، قادر، منفرد فى وجوب وجوده وفى كمال صفاته وفى صنع خلقه، وأنه متكلم، سميع، بصير وما يتبع ذلك من الصفات التى جاء الشرع بإطلاق أسمائها عليه. أما كون الصفات زائدة على الذات، وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليه العلم من معانى الكتب السماوية، وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصرات ونحو ذلك من الشؤون التى اختلف عليها النظار وتفرقت فيها المذاهب فمما لا يجوز الخوض فيه إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه، والاستدلال على شئ منه بالألفاظ الواردة ضعف فى العقل وتغرير بالشرع لأن استعمال اللغة لا ينحصر فى الحقيقة ولئن انحصر فوضع اللغة لا تراعى فيه الوجودات بكنهها الحقيقى وإنما تلك مذاهب فلسفة إن لم يضل فيها أمثلهم فلم يهتد فيها فريق إلى مقنع، فما علينا إلا الوقوف عند ما تبلغه عقولنا وأن نسأل الله أن يغفر لمن آمن به وبما جاء به رسله عليهم السلام ممن تقدمنا.
* *
أما عن أفعاله تعالى، فقد أجملها الغزالى فى كتابه "الإحياء" فى أصول، وإليك موجز ما قال:
الأصل الأول: العلم بأن كل حادث فى العالم فهو فعله وخلقه واختراعه، لا خالق له سواه ولا محدث له إلا إياه، خلق الخلق وصنعهم، وأوجد قدرتهم وحركتهم، فجميع أفعال عباده مخلوقة له ومتعلقة بقدرته.
الأصل الثانى: أن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب، بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً، وخلق الاختيار والمختار جميعاً. فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له، فإنها خلقت مقدورة مقدرة هى وصفه، وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة، فتسمى باعتبار تلك النسبة كسباً، وكيف تكون جبرا محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والدعوة الضرورية؟ أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها؟ وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد فى الاعتقاد، وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط، إذ قدرة الله تعالى فى الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلاً بها، وهى عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق، فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها.
الأصل الثالث: أن فعل العبد وإن كان كسباً للعبد فلا يخرج عن كونه مراداً لله سبحانه، فلا يجرى فى الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته، وبإرادته ومشيئته، ومنه الخير والشر، والنفع والضر، والإسلام والكفر، والعرفان والنكر، والفوز والخسران، والرشد والغواية، والطاعة والعصيان، والإيمان والشرك، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
ويدل عليه من جهة النقل قول الأمة قاطبة. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ وقول الله عز وجل {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} .
ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصى والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها، وإنما هى جارية على وفق إرادة العدو إبليس، لعنه الله، مع أنه عدو لله سبحانه، والجارى على وفق إرادة
العدو أكثر من الجارى على وفق إرادته تعالى، فليت شعرى كيف يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذى الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لا ستنكف منها. والمعصية هى الغالبة على الخلق، وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى، وهذا غاية الضعف والعجز، تعالى رب الأرباب عن هذا علواً كبيراً. ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة له صح أنها مرادة له.
فإن قيل: فكيف ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد؟ قلت: الأمر غير الإرادة، إذ يصح لك أن تأمر مولى لك لا يريد امتثال أمرك لتثبت عذرك لدى السلطان عن ضربك إياه على مخالفته لك. ولولا هذا الأمر لدى السلطان لم يكن العذر ممهدا، ولو كنت مريداً لامتثاله لكنت مريداً لهلاك نفسك، وهذا محال.
الأصل الرابع: أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع، ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجباً عليه؛ ولا يقال: وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة العباد، فهو محال، إذ هو الموجب والآمر والناهى. وكيف يتهدف لإيجاب أو يتعرض للزوم وخطاب.
والمراد بالواجب أحد أمرين:
إما الفعل الذى فى تركه ضرر، إما آجل أو عاجل.
وإما أن يراد به الذى عدمه إلى محال، كما يقال: وجود المعلوم واجب، إذ عدمه يؤدى إلى محال، وهو أن يصير العلم جهلاً.
فإن أريد بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأول فقد عرضه للضرر، وإن أريد به المعنى الثانى فهو التسليم، إذ بعد سبق العلم لابد من وجود المعلوم، وإن أريد به معنى ثالث، فهذا مالا يفهم. الأصل الخامس: أنه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه، ولو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه، وقد سألوا ذلك فقالوا {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
الأصل السادس: أنه لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق، ومن غير ثواب لا حق، لأنه متصرف فى ملكه، ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه، والظلم هو عبارة عن
التصرف فى ملك الغير بغير إذنه، وهو محال على الله تعالى، فإنه لايصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً، ويدل على جواز ذلك وجوده، فإن ذبح البهائم إيلام لها. وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم تتقدمه جريمة.
فإن قيل: إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام، ويجب ذلك على الله سبحانه؛ قيل: من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل، إذ يقال: وصف الثواب والحشر بكونه واجباً عليه، إن كان المراد به أنه يتضرر بتركه فهو محال، وإن أريد به غيره فهو غير مفهوم إذ فيه خروج عن المعانى التى للواجب.
الأصل السابع: أنه تعالى يفعل بعباده مايشاء، فلا تجب عليه رعاية الأصلح لعباده، إذ لا يجب عليه شئ سبحانه، بل لا يعقل فى حقه الوجوب، فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الأصل الثامن: أن معرفة الله سبحانه واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه، لا بالعقل، لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة، وهو محال، فإن العقل لا يوجب العبث، وإما أن يوجبها لفائدة وغرض، ولذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود، وذلك محال فى حقه تعالى، فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد، وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد، وهو أيضاً محال، لأنه لا غرض له فى الحال، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه، وليس فى المآل إلا الثواب والعقاب.
ويقول الإمام محمد عبده: أفعال الله صادرة عن علمه وكل ما صدر عن علم وإرادة فهو عن الاختيار ولا شئ مما يصدر عن الاختيار بواجب على المختار لذاته، فلا شئ من أفعاله بواجب الصدور عنه لذاته، فجميع صفات الأفعال -من خلق ورزق وإعطاء ومنع وتعذيب وتنعيم- مما يثبت له تعالى بالإمكان الخاص. فلا يطوفن بعقل عاقل -بعد تسليم أنه فاعل عن علم وإرادة- أن يتوهم أن شيئاً من أفعاله واجب عنه لذاته كما هو الشأن فى لوازم الماهيات أو فى اتصاف الواجب بصفاته مثلاً فإن ذلك هو التناقض البديهى الاستحالة كما سبق الإشارة إليه:
بقيت علينا جولة نظر فى تلك المقالات الحمقى التى اختبط فيها القوم اختباط إخوة تفرقت بهم الطرق فى السير إلى مقصد واحد حتى إذا التقوا فى غسق الليل صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كل أن الآخر عدو يريد مقارعته على مابيده فاستحر بينهم القتال ولازالوا يتجالدون حتى تساقط جلهم دون المطلب، ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقى وهم الناجون ولو تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعاً على بلوغ ما أملوا ولوافتهم الغاية إخواناً بنور الحق مهتدين. نريد تلك المقالات المضطربة فى أنه يجب على الله رعاية المصلحة فى أفعاله وتحقيق وعيده فيمن تعدى حدوده من عبيده وما يتلو ذلك من وقوع أعماله تحت العلل والأغراض، فقد بالغ قوم فى الإيجاب حتى ظن الناظر فى مزاعمهم أنهم عدوه واحداً من المكلفين يفرض عليه أن يجهد للقيام بما عليه من الحقوق وتأدية مالزمه من الواجبات تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وغلا آخرون فى نفى التعليل عن أفعاله حتى خيل للممعن فى مقالاتهم أنهم لايرضونه إلا قلباً يبرم اليوم ما نقضه
بالأمس، ويفعل غداً ما أخبر بنقيضه اليوم، أو غافلاً لا يشعر بما يستتبعه عمله سبحان ربك رب العزة عما يصفون وهو أحكم الحاكمين وأصدق القائلين، جبروت الله وطهارة دينه أعلى وأرفع من هذا كله. اتفق الجميع على أن أفعاله تعالى لا تخلو من حكمة وصرح الغلاة والمقصرون جميعاً بأنه تعالى منزه عن العبث فى أفعاله والكذب فى أقواله، ثم بعد هذا أخذوا يتنابزون بالألفاظ ويتمارون فى الأوضاع ولا يدرى إلى أى غاية يقصدون.
فلنأخذ ما اتفقوا عليه ولنرد إلى حقيقة واحدة ما اختلفوا فيه حكمة كل عمل ما يترتب عليه مما يحفظ نظاماً أو يدفع فساداً -خاصاً كان أو عاماً- لو كشف للعقل من أى وجه لعقله وحكم بأن العمل لم يكن عبثاً ولعباً، ومن يزعم للحكمة معنى لا يرجع إلى هذا حاكمناه إلى أوضاع اللغة وبداهة العقل. لا يسمى ما يترتب على العمل حكمة ولا تتمثل عند العقل بمثالها إلا إذا كان ما يتبع العمل مراداً لفاعله بالفعل وإلا لعد النائم حكيماً فيما لو صدرت
عنه حركة فى نومه قتلت عقرباً كاد يلسع طفلاً أو دفعت صبياً عن حفرة كاد يسقط فيها بل لوُسم بالحكمة كثير من العجماوات إذا استتبعت حركاتها بعض المنافع الخاصة أو العامة، والبداهة تأباه. من القواعد الصحيحة المسلمة عند جميع العقلاء أن أفعال العاقل تصان عن العبث ولا يريدون من العاقل إلا العالم بما يصدر عنه بإرادته ويريدون من صونها عن العبث أنها لاتصدر إلا لأمر يترتب عليها يكون غاية لها، وإن كان هذا فى العاقل الحادث فما ظنك بمصدر كل عقل ومنتهى الكمال فى العلم والحكم؟ هذه كلها مسلمات لا ينازع فيها أحد. صنع الله الذى أتقن كل شئ وأحسن خلقه مشحون بضروب الحكم، ففيه ماقامت به السماوات والأرض وما بينهما وحفظ به نظام الكون بأسره وما صانه عن الفساد الذى يفضى به إلى العدم، وفيه ما استقامت به مصلحة كل موجود على حدته خصوصاً ما هو من الموجودات الحية كالنبات والحيوان ولولا هذه البدائع من الحكم ما تيسر لنا الاستدلال على علمه. فهذه الحكم التى نعرفها الآن بوضع كل شئ فى موضعه وإيتاء كل محتاج ماله إليه الحاجة، إما أن تكون معلومة له مرادة مع الفعل أم لا، لا يمكن القول بالثانى وإلا لكان قولا بقصور العلم إن لم تكن معلومة أو بالغفلة إن لم تكن مرادة، وقد سبق تحقيق أن علمه وسع كل شئ واستحالة غيبه أثر من آثاره عن إرادته، فهو يريد الفعل ويريد ما يترتب عليه من الحكمة ولا معنى لهذا إلا إرادته للحكمة من حيث هى تابعة للفعل، ومن المحال أن تكون الحكمة غير مرادة بالفعل مع العلم بارتباطها به فيجب الاعتقاد بأن أفعاله يستحيل أن تكون خالية من الحكمة وبأن الحكمة يستحيل أن تكون غير مرادة إذ لو صح توهم أن ما يترتب على الفعل غير مراد لم يعد ذلك من الحكمة كما سبق. فوجوب الحكمة فى أفعاله تابع لوجوب الكمال فى علمه وإرادته وهو مما لا نزاع فيه بين جميع المتخالفين، وهكذا يقال فى وجوب تحقق ما وعد وأوعد به فإنه تابع لكمال علمه وإرادته وصدقه وهو
أصدق القائلين، وما جاء فى الكتاب أو السنة مما قد يوهم خلاف ذلك يجب إرجاعه إلى بقية الآيات وسائر الآثار حتى ينطبق الجميع على ما هدت إليه البديهيات السابق إيرادها وعلى ما يليق بكمال الله وبالغ حكمته وجليل عظمته. والأصل الذى يرجع إليه كل وارد فى هذا الباب قوله تعالى الآيات 16 - 18 سورة الأنبياء {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} .
وقوله {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أى لصدر عن ذاتنا المتفردة بالكمال المطلق الذى لا يشوبه نقص وهو محال و"إن" فى قوله "إن كنا فاعلين" نافية، وهو نتيجة القياس السابق. بقى أن الناظرين فى هذه الحقائق ينقسمون إلى قسمين: فمنهم من يطلب علمها لأنه شهوة العقل وفيه لذته، فهذا القسم يسمى المعانى بأسمائها ولا يبالى جوز الشرع إطلاقها فى جانب الله أم لم يجوز فيسمى الحكمة غاية وغرضاً وعلة غائيّة ورعاية للمصلحة وليس من رأيه أن يجعل لقلمه عناناً يرده عن إطلاق اسم متى صح عنده معناه، وقد يعبر بالواجب عليه بدل الواجب له غير مبال بما يوهمه اللفظ. ومنهم من يطلب علمها مع مراعاة أن ذلك دين يتعبد به واعتقاد بشؤون لإله عظيم يعبد بالتحميد والتعظيم ويجب الاحتياط فى تنزيهه حتى بعفة اللسان عن النطق بما يوهم نقصاً فى جانبه فيتبرأ من تلك الألفاظ مفردها ومركبها فإن الوجوب عليه يوهم التكليف والإلزام وبعبارة أخرى يوهم القهر والتأثر بالأغيار ورعاية المصلحة توهم إعمال النظر وإجالة الفكر وهما من لوازم النقص فى العلم والغاية والعلة الغائيّة والغرض توهم حركة فى نفس الفاعل من قبل البدء فى العمل إلى نهايته وفيها ما فى سوابقها ولكن الله أكبر.
* * *
وثمة للغزالى فى كتابه "الإحياء" كلمة جامعة تكاد تلخص هذا كله، بقوله:
إنه تعالى ليس بجسم ولا صورة، ولا جوهر محدود مقدر، وإنه لا يماثل الأجسام لا فى التقدير ولا فى قبول الانقسام، وإنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر، ولا بعرض ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجوداً ولا يماثله موجود، ليس كمثله شئ ولا هو مثل شئ، وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأنظار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات، وأنه مستو على العرش على الوجه الذى قاله، وبالمعنى الذى أراده، استواءً منزهاً عن المماسّة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون فى قبضته، وهو فوق العرش والسماء، وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شئ شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام، وأنه لا يحل فى شئ، ولا يحل فيه شئ، تعالى عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان، وهو الآن ما عليه كان، وأنه بائن عن خلقه بصفاته، ليس فى ذاته سواه، ولا فى سواه ذاته، وأنه مقدس عن التغير والانتقال لا تحله الحوادث، ولا تعتريه العوارض، بل لايزال فى نعوت جلاله منزها عن الزوال، وفى صفات كماله مستغنياً عن زيادة الاستكمال، وأنه فى ذاته معلوم الوجود بالعقول، مرئى الذات بالأبصار، نعمة منه ولطفاً بالأبرار فى دار القرار، وإتماماً منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وأنه تعالى حى قادر، جبار قاهر، لا يعتريه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت، ذو الملك والملكوت، والقوة والجبروت، له السلطان والقهر والخلق والأمر، والسموات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون فى قبضته، وأنه المتفرد بالخلق والاختراع، المتوحد
بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا تعزب عن قدرته تصاريف الأمور، لا تحصى مقدوراته، ولا تتناهى معلوماته.
وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجرى من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، وأنه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر فى جو الهواء، ويعلم السر وما أخفى، ويطلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلى لم يزل موصوفاً به فى أزل الآزال، لا بعلم متجدد حاصل فى ذاته بالحلول والانتقال.
وأنه تعالى مريد للكائنات، مدبر للحادثات، فلا يجرى فى الملك والملكوت قليل أو كثير، صغير أو كبير، إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته، فما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، بل هو المبديء والمعيد، الفعّال لما يريد، لا رادّ لأمره، ولا معقب لقضائه، ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته. ولا قوة له على طاعته إلا بمشيئته وإرادته، وأن إرادته قائمة بذاته فى جملة صفاته، لم يزل كذلك موصوفاً بها، مريداً فى أزله لوجود الأشياء فى أوقاتها التى قدرها فوجدت فى أوقاتها، كما أراده فى أزله من غير تقدم ولا تأخر، بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير، دبر الأمور لا بترتيب أنصار، ولا تربص زمان، فلذلك لم يشغله شأن عن شأن.
وأنه تعالى سميع بصير، يسمع ويرى، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفى، ولا يغيب عن رؤيته مرئى وإن دق، ولا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، يرى من غير حدق وأجفان ويسمع من غير أصمخة وآذان، كما يعلم بغير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق.
وأنه تعالى متكلم، آمر ناه، واعد متوعد، بكلام أزلى قديم قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان، وأن القرآن والتوراة والإنجيل كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام، وإن القرآن الكريم مقروء بالألسنة، مكتوب فى المصاحف، محفوظ فى القلوب، وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى، لا يقبل الانفصال والافتراق، بالانتقال إلى القلوب والأوراق، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف، كما يرى الأبرار ذات الله تعالى فى الآخرة من غير جوهر ولا عرض.
وإذا كانت له هذه الصفات كان حياً، عالماً، قادراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، بالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، لا بمجرد الذات.
وأنه تعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله، وفائض من عدله، على أحسن الوجوه وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأنه حكيم فى أفعاله، عادل فى أقضيته، لا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يُتصور منه الظلم بتصرفه فى ملك غيره، ولا يُتصور الظلم من الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً، فكل ما سواه من إنس وجن، وملك وشيطان، وسماء وأرض وحيوان، ونبات وجماد وجوهر وعرض، ومدرك ومحسوس، حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً، وأنشأه إنشاء بعد أن لم يكن شيئاً، إذ كان فى الأزل موجوداً وحده ولم يكن معه غيره، فأحدث الخلق بعد ذلك إظهاراً لقدرته، وتحقيقاً لما سبق من إرادته، ولما حقّ فى الأزل من كلمته، لا لافتقاره إليه وحاجته، وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف، لا عن وجوب، ومتطوَّل بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم، فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان. وأنه عز وجل يثيب عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له. إذ لا يجب عليه لأحد فعل، ولا يتصور منه ظلم، ولا يجب لأحد
عليه حق، وأن حقه فى الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل، ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة، فتلقّوا أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.
ويكاد يتمم هذا ويكمله ما قيل عن أفعال العباد، يقول الإمام محمد عبده:
وكما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود لا يحتاج فى ذلك إلى دليل يهديه ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ثم يصدرها بقدرة ما فيه. ويعد إنكار شئ من ذلك مساوياً لإنكار وجوده فى مجافاته لبداهة العقل. فإن كان قد هداه البرهان وتقويم الدليل إلى أن حوادث الكون بأسره مستندة إلى واجب وجوده واحد يصرفه على مقتضى علمه وإرادته خشع وخضع ورد الأمر إليه فيما لقى، ولكن مع ذلك لا ينسى نصيبه فيما بقى. فالمؤمن كما يشهد بالدليل وبالعيان أن قدرة مكوّن الكائنات أسمى من قوى الممكنات يشهد بالبداهة أنه فى أعماله الاختيارية -عقلية كانت أو جسمانية- قائم بتصريف ما وهب الله له من المدارك والقوى فيما خلقت لأجله. وقد عرف القوم شكر الله على نعمه، فقالوا: هو صرّف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خُلق لأجله. على هذا قامت الشرائع وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، وهو عقله الذى شرّفه الله بالخطاب فى أوامره ونواهيه.
ودعوى أن الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدى إلى الإشراك بالله وهو الظلم العظيم دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنة، فالإشراك اعتقاد أن لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وإن لشئ من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به فيما لا يقدر العبد عليه. هذا هو الشرك
الذى كان عليه الوثنيون ومن ماثلهم فجاءت الشريعة الإسلامية بمحوه وردّ الأمر فيما فوق القدرة البشرية والأسباب الكونية إلى الله وحده، وتقرير أمرين عظيمين هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية:
الأول: أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.
والثانى: أن قدرة الله هى مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده وأن لا شئ سوى الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.
فالإيمان بوحدانية الله لا يقتضى من المكلف إلا اعتقاد أن الله صرفه فى قواه، فهو كاسب لإيمانه ولما كلفه الله به من بقية الأعمال، واعتقاد أن قدرة فوق قدرته ولها وحدها السلطان الأعلى فى إتمام مراد العبد بإزالة الموانع أو تهيئة الأسباب المتممة، مما لا يعلمه ولا يدخل تحت إرادته.
أما التطلع إلى ما هو أغمض من ذلك فليس من مقتضى الإيمان وإنما هو من شره العقول فى طلب رفع الأستار عن الأسرار. والأفعال الإنسانية الاختيارية لا تخرج عن أن تكون من الأكوان الواقعة تحت مداركنا، وما تنفعل به نفوسنا عند الإحَساس بها، أو استحضار صورها، وهذا يشابه كل المشابهة ما تنفعل به عند وقوع بعض الكائنات تحت حواسنا أو حضورها فى مخيلاتنا، وذلك بديهى لا يحتاج إلى دليل.
فمن الأفعال الاختيارية ما هو معجب فى نفسه تجد النفس منه ما تجد من جمال الخلق، ومنها ما هو قبيح فى نفسه يحس منه ما يحس من رؤية الخلق المشوه، ومنها ما هو قبيح لما يعقبه من الألم، وما هو حسن لما يجلب من اللذة أو دفع الألم.
ومن الأفعال الاختيارية ما يحسن باعتبار ما يجلب من النفع وما يقبح بما يجر إليه من الضرر، ويختص الإنسان بالتمييز بين الحسن والقبيح بهذا المعنى إذا أخذ من أكمل وجهاته. وقلما يشاركه فيه حيوان آخر اللهم إلا من
أحط جهاته، وهو خاصة العقل وسر الحكمة الإلهية فى هبة الفكر. فالناس متفقون على أن من الأعمال ما هو نافع ومنها ما هو ضار، وبعبارة أخرى منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، ومن عقلائهم وأهل النظر الصحيح والمزاج المعتدل منهم من يمكنه إصابة وجه الحق فى معرفة ذلك، ومتفقون كذلك على أن الحسن ما كان أدوم فائدة وإن كان مؤلما فى الحال وأن القبيح ما جرّ إلى فساد فى النظام الخاص بالشخص أو الشامل له ولمن يتصل به وإن عظمت لذته الحاضرة. ولكنهم يختلفون فى النظر إلى كل عمل بعينه اختلافهم فى أمزجتهم وسحنهم ومناشئهم وجميع ما يكتنف بهم، فلذلك ضربوا إلى الشر فى كل وجه وكل يظن أنه إنما يطلب نافعاً ويتقى ضاراً، فالعقل البشرى وحده ليس فى استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته فى هذه الحياة اللهم إلا فى قليل ممن لم يعرفهم الزمن، فإن كان لهم من الشأن العظيم ما به عرفهم أشار إليهم الدهر بأصابع الأجيال، وقد سبقت الإشارة إليهم فيما مر. وليست عقول الناس سواء فى معرفة الله تعالى ولا فى معرفة حياة بعد هذه الحياة، فهم وإن اتفقوا فى الخضوع لقوة أسمى من قواهم وشعر معظمهم بيوم بعد هذا اليوم ولكن أفسدت الوثنية عقولهم وانحرفت بها عن مسلك السعادة، فليس فى سعة العقل الإنسانى فى الأفراد كافة أن يعرف من الله ما يجب أن يعرف ولا أن يفهم من الحياة الآخرة ما ينبغى أن يفهم ولا أن يقرر لكل نوع من الأعمال جزاءه فى تلك الدار الآخرة، وإنما قد تيسر ذلك لقليل ممن اختصه الله بكمال العقل ونور البصيرة وإن لم ينل شرف الاقتداء بهدى نبوى ولو بلغه لكان أسرع الناس إلى اتباعه وهؤلاء ربما يصلون بأفكارهم إلى العرفان من وجه غير ما يليق فى الحقيقة أن ينظر منه إلى الجلال الإلهى. ثم من أحوال الحياة ما لا يمكن لعقل بشرى أن يصل إليه وحده وهو تفصيل اللذائذ والآلام وطرق المحاسبة على الأعمال ولو بوجه
ما. ومن الأعمال ما لا يمكن أن يعرف وجه الفائدة فيه لا فى هذه الحياة ولا فيما بعدها - كصور العبادات كما يرى فى أعداد الركعات وبعض الأعمال فى الحج فى الديانة الإسلامية وكبعض الاحتفالات فى الديانة الموسوية وضروب التوسل والزهادة فى الديانة العيصموية، كل ذلك مما لا يمكن للعقل البشرى أن يستقل بمعرفة وجه الفائدة فيه ويعلم الله أن فيه سعادته، لهذا كله كان العقل الإنسانى محتاجاً فى قيادة القوى الإدراكية والبدنية إلى ما هو خير له فى الحياتين إلى معين يستعين به فى تحديد أحكام الأعمال وتعيين الوجه فى الاعتقاد بصفات الألوهية ومعرفة ما ينبغى أن يعرف من أحوال الآخرة وبالجملة فى وسائل السعادة فى الدنيا والأخرة، ولا يكون لهذا المعين سلطان على نفسه حتى يكون من بنى جنسه ليفهم منه أو عنه ما يقول وحتى يكون ممتازاً على سائر الأفراد بأمر فائق على ما عرف فى العادة وما عرف فى سنة الخليقة ويكون بذلك مبرهناً على أنه يتكلم عن الله الذى يعلم مصالح العباد على ما هى عليه ويعلم صفاته الكمالية وما ينبغى أن يعرف منها والحياة الآخرة وما أعد فيها فيكون الفهم عنه والثقة بأنه يتكلم عن العليم الخبير معيناً للعقل على ضبط ما تشتت عليه أو درك ما ضعف عن إدراكه، وذلك المعين هو النبى عليه الصلاة والسلام.
بهذا التعقيب قصدت -غير ما قدمت- أن أضع صورة كاملة حية لله عند المسلمين، خالية من الخلافات، وإنما تجمع الرأى العام السليم، وأن أجعل من تلك الصورة المتكاملة فرصة لمن تعز عليه المراجع، فيطالعها هنا فى يسر غير موزع بين خلافات لا طائل تحتها، ثم يطالع فيها غير المسلم هذا المنظر الرائع من تقديس وتنزيه لرب العالمين، وهذا الخضوع والخشوع لله، وهذه كلها سر الانقياد والطاعة، والتزام الخير وتجنب الشر، والضرب فى سبيل الفلاح، لبلوغ تلك الغاية التى صرح بها القرآن الكريم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
إبراهيم الأبيارى