الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنو أمية
هم بيت الخلافة من سنة 41 إلى 132 هـ (661 - 750). ويسمون الأمويين لأن معاوية بن أبى سفيان الذى أسس دولتهم كان سيد الفرع الأكبر من أبناء أمية بن عبد شمس. وبعد أن خرجت الخلافة من هذا الفرع على أثر وفاة معاوية الثانى، بقى للدولة اسمها القديم لأن الخلافة إنما انتقلت لسيد فرع آخر، هو مروان بن الحكم بن أبى العاص. ولكى يتيسر للقارئ متابعة الموضوع وفهمه سنذكر فيما يلى أسماء خلفاء بنى أمية وتاريخ ارتقاء كل منهم عرش الخلافة:
معاوية بن أبى سفيان: تولى الخلافة فى ربيع الأول أو الآخر أو جمادى الأولى عام 41 هـ (يولية - سبتمبر سنة 661 م).
يزيد بن معاوية: تولى الخلافة فى رجب عام 60 هـ (أبريل سنة 680).
معاوية (الثانى) بن يزيد: تولى الخلافة فى ربيع الأول عام 64 هـ (نوفمبر سنة 683).
مروان بن الحكم: تولى الخلافة فى ذى القعدة عام 64 هـ (يونية سنة 684).
عبد الملك بن مروان: تولى الخلافة فى رمضان عام 65 هـ (أبريل سنة 685).
الوليد بن عبد الملك: تولى الخلافة فى شوال عام 86 هـ (أكتوبر سنة 705).
سليمان بن عبد الملك: تولى الخلافة فى جمادى الآخرة عام 96 هـ (فبراير سنة 715).
عمر (الثانى) بن عبدالعزيز: تولى الخلافة فى صفر عام 99 هـ (أكتوبر سنة 717).
يزيد (الثانى) بن عبد الملك: تولى الخلافة فى رجب عام 101 هـ (فبراير سنة 720).
هشام بن عبد الملك: تولى الخلافة فى شعبان عام 105 هـ (يناير سنة 724).
الوليد (الثانى) بن يزيد الثانى: تولى الخلافة فى ربيع الثانى عام 125 هـ (فبراير سنة 743).
يزيد (الثالث) بن الوليد بن عبد الملك: تولى الخلافة فى رجب عام 126 هـ (أبريل سنة 744).
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك: تولى الخلافة فى ذى الحجة عام 126 هـ (أكتوبر سنة 744).
مروان الثانى بن محمد بن مروان: تولى الخلافة فى صفر عام 127 هـ (ديسمبر سنة 744).
ويسمى الأستاذ فلهاوزن - Well hausen كتابه المأثور عن العصر الأموى "الإمبراطورية العربية"، وهو يريد بهذا أن يبين أن الخلافة الأموية تتجلى فيها محاولة العرب أن يمكنوا سلطانهم فى الدنيا كدولة، على حين أن أمر الدين كان ثانوياً فى هذه المحاولة. على أن الصورة العامة التى رسمها فلهاوزن لتاريخ بنى أمية لا تزال صحيحة وإن كان قد مضى عليها ثلاثون عاماً.
وقد فصَّل "لامنس" Lammens فيما كتبه من بحوث كثيرة مملوءة بالعلم الغزير الصورة الإجمالية التى وضعها فلهاوزن، والتى تمثل الحقائق من بعيد تمثيلا تقريبياً. ووفق "كايتانى" Caetani فى تفصيل إشارة أخذها عن فينكلر تفصيلا علميًا قد يكون مبالغاً فيه، وقد بين ما نشأ عن تعاظم شأن العرب بعد دخولهم فى الإسلام، وتكلم على الهجرات المسلحة التى قامت بها قبائل الصحراء إلى شمالى جزيرتهم ليستوطنوا بلادًا أكثر خصوبة من بلادهم. على أنه مع هذا كله لا يزال المؤرخون المحدثون الذين يكتبون فى تاريخ الأمويين يتتبعون الهيكل الذى وضعه فلهاوزن.
وإذا كان فى الصورة الشائقة التى رسمها هذا المؤرخ ما يحسن تعديله فذلك هو أنه علا فى تقدير الناحية السياسية لتاريخ العرب، كأنما يجب على الباحث أن يسلم بأن خلفاء بنى أمية أرادوا بأعمالهم التى حفظها لهم التاريخ أن يحققوا ما كانوا يشعرون به شعورًا قوياً من آراء قومية سياسية خالصة (انظر ملاحظات Becker فى Ist جـ 9، ص 95 - 99). ونحن وإن كنا لا نشك فى أن العرب كانوا يشعرون بقوميتهم، ولاسيما فى العصر الأموى (انظر Muh .st.: Goldziher جـ 1، ص
101 -
146)، فإننا اليوم مقتنعون بأن تأثير العنصر اللاشعورى فى إظهار ما كمن من جهود الفرد لا يقل عن تأثير العنصر الشعورى، ويجب فى هذا الأمر أن نقرر أن فلهاوزن ومن ترسم آثاره تحيّفوا من شأن العامل الدينى. فالحق إنه إذا كانت نزعات أهل التقى بعيدة كل البعد عن سلائل أشراف مكة الذين حاربوا الإسلام فى أوائل حياته، وإذا كان يجب على الإنسان أن يسلم بأن فى بقاء السلطان فى أيديهم بقاء لسادة الجاهلية ولنزعات من كان يشتغل بالتجارة فى تلك البلاد، فلا شك فى أننا نستهدف لأن نخطئ الحق فى تاريخ بنى أمية إذا تجاهلنا أن انتصار الحركة العربية انتصارًا لم يسمع بمثله من قبل إنما تم تحت لواء الدين الذى جاء به القرآن الكريم. ولا يستطيع مفكر، حتى أحدث المفكرين وأشدهم غلوًّا فى الشك، أن يتجاهل هذه الحقيقة التى لا يمكن الفرار منها.
ولابد أن خلفاء بنى أمية -كأهل عصرهم وبلادهم- كانوا يعتقدون فى قرارة نفوسهم أن انتشار الدين الإسلامى ونمو سلطانهم السياسى صنوان لايفترقان. ولابد أنهم كانوا على يقين من أن خصومهم السياسيين من الشيعة أو من الخوارج كانوا أيضًا خصومًا للسنة النبوية. وقد وعت لنا الكتب التى خلفها لنا المؤرخون ما يدل دلالة لا يتطرق إليها الشك على اقتناع خلفاء بنى أمية بذلك.
وإذا كانت التواريخ التى كتبت بعد سقوط دولتهم، والتى كان أصحابها متأثرين بالآراء السائدة بين أهل التقى، تقرن ذكر الأمويين بالسخط واللعنة، فينبغى ألا ننسى حقيقة لاريب فيها: هى أن الإسلام إنما توطدت أركانه ديناً تدين به الأمم فى أيام حكمهم، وكان بعض ذلك بتأثيرهم.
على أن التاريخ الذى تغلب عليه روح الدين، والذى أصبح تاريخ الإسلام الرسمى فى عهد بنى العباس يعيب على الأمويين أشياء كثيرة، حتى أنه يرميهم بالتقصير فى أداء الفرائض الدينية، وأنهم نبذوا روح الدستور الإسلامى فى الحكم، ذلك الدستور
الذى أقامه محمد صلى الله عليه وسلم على أساس الدين، وأنهم أحلوا الملك محل الخلافة. وفى هذه التهمة نجد صدى الروح الدينية التى لا تجعل السلطان على الأرض إلا لله.
وفى الحق أن نظام الحكم العربى، حتى أيام أبى بكر وعمر، كان بعيدا عن الانطباق على المثل الأعلى للحكم الدينى الذى وضعته المذاهب الفقهية فيما بعد. وقد أبان هذه الحقيقة لامانس وكايتانى فيما كتبا من بحوث. غير أن هذين الصحابيين الجليلين كان لهما مكانة عظيمة. فحال ذلك، فى أول عهد الخلافة، دون نشوء نظرية دستورية تعارض النظام القائم، وإن لم يفلح فى إسكات المعارضة التى تركزت فى على ابن أبى طالب. فلما جاء عثمان كان حكمه دليلا على الانتصار الصريح لحزب بنى أمية الذى تحيّف من حق السابقين الأولين إلى الإسلام. وهنا فقط بدأ الناس يلاحظون الأمر الواقع الذى كان يخالف الحق، والذى هيأ لأولئك الذين ناصبوا الإسلام العداء عند بدء دعوته، أن يقطفوا هم ثمار هذا الدين الجديد. وكان الناس يعتبرون ذلك خروجاً على "حقوق الله" قضى به أصحابه على العمل الذى وضعه النبى صلى الله عليه وسلم وتنكروا له.
ويسهل علينا أن نرى أن اتفاق الرأى على مقاومة النظام الجديد قد جمع بين الغضب الذى كان يجيش فى نفوس أهل الورع من أبطال الدين الفتى وشهدائه، وبين مطامح إيجابية لقوم حاولوا أن يحفظوا لأسرة النبى صلى الله عليه وسلم وأهله المقام الممتاز الذى جعله لهم مؤسس الدولة الجديدة التى تقوم على أساس من الدين. وقد وجد الذين كانوا يريدون أن يجعلوا شرعية الحكم مستمدة من الدين، وكذلك الذين كانوا يرون أن شرعية الحكم مقصورة على أسرة النبى صلى الله عليه وسلم، وجد هؤلاء وأولئك فى على بن أبى طالب بطلا يؤيدونه جميعاً. وكان لعلى أن يزهو بنجاح مبدئى عندما بويع بالخلافة فى المدينة، ثم تغلب على الكوفة واحتلها، وسرعان ما أحرز النصر فى البصرة على طلحة والزبير وعائشة الذين اتحدوا عليه، وكذلك تغلب حزبه فى مصر، وخيل
للناس أن هذا كله قد وضع فى يده السلطان على بلاد العرب كلها.
وكان علىّ فى نزاعه مع معاوية يمثل حقوق الدولة ضد ما يطالب به معاوية والأمويون من الثأر لمقتل عثمان. ولكن الموقف الذى وجد علىّ نفسه فيه، إثر هوادته مع قتلة عثمان، هو الموقف الذى استغله معاوية بمواهبه السياسية العالية استغلالا تجلى فيه الدهاء، وسرعان ما قسم خصوم بنى أمية قسمين جديدين: فهناك الخصومة الدينية التى لا تقبل المصالحة، والتى بلغت أوجها فى مذاهب الخوارج والمتطرفين، وهناك أيضاً الشيعة الذين كانوا يبررون دعوتهم بقولهم إن الخلافة يجب أن تكون فى بيت النبى- صلى الله عليه وسلم. وكان هذا الانقسام من حسن طالع الأمويين، فمثلوا دور المعتدلِين الذين أرادوا أن يحافظوا على القانون والنظام أمام حروب العصابات التى كانت تبيد العراق، وجعلوا البلاد قادرة على أن تجنى ثمرات الفتوح.
ولكن، متى رشح الناس معاوية لمنصب الخلافة بصفة جدية فعلية؟
لا تزال هذه النقطة غامضة، وآراء المؤرخين فيها مختلفة، فمنهم من يقول أنه رشح للخلافة منذ بدأ النزاع بينه وبين على، أى فى عام 37 هـ، ومنهم من يجعل ذلك بعد وفاة علىّ عام 40 هـ، وأيًّا ما كان الأمر فإن هذا الترشيح أثار مشكلة غاية فى الدقة والحرج: ذلك أن السلطة العليا على المؤمنين قد أسندت إلى رجل لم يكن من بين أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم السابقين. والاختلاف فيما يقرره المؤرخون فى هذا الأمر هو فى ذاته شاهد على الاضطراب الذى كان سائدًا بلا شك حينما أفضى سياق الحوادث فجأة إلى حل يخالف العرف المتبع فى تنصيب الخليفة. والحق إن سخط الفقهاء الذين لايأبهون لما تقضيه حاجات التطور التاريخى له ما يبرره من حيث النظرية الشرعية. فإن خلافة معاوية فاتحة عهد. جديد من كل وجه فى تاريخ الإسلام الدستورى: فلم يعد الخليفة هو المنفِّذ لسنة النبى صلى الله عليه وسلم، الذى شاهدها من أول أمرها وعمل على استمرارها، بل صار لمنصبه شأن أكبر من ذلك، إذ أصبح الشخصية البارزة فى العالم العربى،
وكبير سادة القبائل من حيث القوة الحربية. وأصبح من حيث نفوذ أسرته ومن حيث مكانته الشخصية ملكاً على الحقيقة وإن لم يكن الملك لقبه الرسمى، أو هو حاكم على نظام الطغاة كما فهمه اليونان. وهذا هو الموقف الغامض الذى ظل قرناً من الزمان، أعنى طوال العصر الأموى، وهو الذى مهد السبيل للدعاية الشيعية التى قدر لها أن تنتهى بفوز المبدأ الشرعى وبسقوط "الدولة" العربية.
ومن العسير علينا أن نحكم على مقدار شعور معاوية بصعوبة الموقف. وإذا اقتصرنا على بعض مظاهر سياسته، وهى فى العادة سياسة يتجلى فيها الحذق وبعد النظر، فإننا نميل إلى أن نستخلص من ذلك أنه لم يقدر كل ما يمكن أن يكون للعامل الدينى من شأن فى النزاع السياسى. على أننا لا ننكر أنه حاول أن يصالح أبناء خصمه على، فأفلح مع الحسن ولكنه كان أقل توفيقا مع الحسين. وكان معاوية فى الجملة شديد التقدير والاحترام لأسرة النبى [صلى الله عليه وسلم] جميعاً: علويين وعباسيين، وللأنصار الذين كانوا يفخرون بأنهم "أنصار النبى"[صلى الله عليه وسلم]
على أن معاوية لم يذهب إلى حد الإغضاء عن فرض يمين الولاء على من كان يرتاب فى أمرهم (لعنة أبى تراب)؛ وهذا عمل ممقوت يشبه أن يكون مقدمة لمحنة العباسيين، وقد أحفظ قلوب الناس على بنى أمية فأسروا لهم البغضاء، وكان ضرره عليهم أكبر من نفعه لهم.
ثم إن معاوية أخطأ بأن أطلق يد زياد بن أبيه فى العراق يتبع سياسة قمع لا تعرف الرحمة، وهى سياسة تخالف السياسة التى جرى عليها معاوية، والتى يستطيع أن يجرى عليها بنفسه فى العراق بما كان يعرف من أسرار اللين الذى يجد سبيله إلى القلوب.
ومما هو جدير بالملاحظة أن معاوية لم يذهب بنفسه إلى العراق طوال مدة حكمه البالغ عشرين سنة، ولم يوثق بينه وبين أهلها علاقات شخصية.
وكان معاوية إلى جانب هذا مقيدًا فى الشام بمشكلات خطيرة جلبها عليه تنظيم الدولة، وأول هذه المشكلات تنظيم علاقة الحاكم بأسرته وبالقبائل.
ولم يقصِّر معاوية -جرياً على عادة العرب، أو خضوعاً لشعور إنسانى عام - فى أن يرى أن قرابته أفادوا كثيراً من الحظ الذى أصابه. ولكنه كان يحذر من الوقوع فى الخطأ الذى وقع فيه عثمان، فلم يصبح أسيراً لقبيلته. ومما هو جدير بالملاحظة أن أهم الولايات أسندت إلى ولاة من غير بنى أمية. ولا عبرة بزياد بن أبيه الذى كان حاكم العراق المستبد، فإن قرابته لمعاوية قرابة وهمية خالصة. وهو إذا كان قد ولى أخاه عتبة على مصر بعد وفاة عمرو بن العاص، فإنه عندما مات عتبة، ولم يكد يمضى عليه فى هذا المنصب عام كامل، لم يعين أموياً آخر مكانه.
وقد أظهر معاوية كل ما عنده من مواهب سياسية عالية فى أمر علاقته برؤساء القبائل الذين كانوا يستنفزهم أتفه الأمور للخروج والعصيان. وهؤلاء الرؤساء -على ما فيهم من قلة الاستعداد للخضوع إلى سلطان رجل من قريش، أو لما لأمير المؤمنين من مكانة دينية- جعلوا منصب الخليفة شبيها بمنصب الحاكم الأوروبى فى عهد الإقطاع.
وكانت غاية معاوية من صبره وطول أناته فى العمل على أن ينال تأييد رؤساء القبائل وانضمامهم إلى صفه -وما كان فى مقدوره أن يقضى بالقوة على نفوذهم- هى أن يقوى سلطانه من جهة، وأن يبلغ من جهة أخرى الغاية الكبرى التى أراد أن يحققها قبل وفاته، وهى مبايعة رجال القبائل لابنه يزيد. وقد أفلح فى أخذ يمين البيعة منهم قبل أن يوافيه الأجل، وبهذا نجح فى جعل الخلافة وراثية. وهذا هو الذى يجب أن نعتبره أكبر نجاح محسوس لسياسة معاوية، وإليه يرجع الفضل فى بقاء خلافة الأمويين قرناً رغم الثورة التى وقعت بعد موت يزيد.
ولكن الموقف ظل مزعزعاً حتى بعد أن توطد المبدأ الذى يجعل الخلافة فى بيت بنى أمية بصفة جدية قاطعة! على أن هذا المبدأ إنما اكتسب بفضل ما كان لمعاوية من مكانة شخصية. وآية ذلك أنه لم يكد يموت حتى هبّ الحسين ليرفع لواءه باعتباره صاحب الحق الشرعى فى الخلافة؛ على حين ظهر عبد الله بن الزبير بمظهر المدافع عن حق جزيرة
العرب التى أحاق بها الإهمال، وعن ذكرى الصحابة الأولين. وكان انتهاء أمر الحسين بمأساة قتله فى كربلاء، تلك المأساة التى تركت ذكرى للاستشهاد فى سبيل الله استغلها خصوم الأمويين فيما بعد. وقضى مقتل الحسين على معارضة العلويين قضاء وقتيا، وكان مركز الأمويين خليقا بأن يزداد قوة لو أن الأجل امتد بيزيد، أو لو أنه ترك ابنا كبيراً يخلفه عن جدارة واستحقاق بدلا من معاوية الثانى الذى كان لا يزال طفلا. على أنه إذا كان يزيد على غير ما ينسبه له أهل الورع من المؤرخين من فساد فى الخلق وضعف فى الدين، فلا شك أنه لم يكن له ما كان لأبيه من صفات ممتازة، وإن لم تكن تعوزه الهمة ولا الذكاء لمواصلة أعمال أبيه.
على أن تكوّن الإمبراطورية المترامية الأطراف لم يكن وليد خطة مرسومة أيام الفتوح الأولى. وعدم وجود منهج معين لإدارة هذه الممتلكات الواسعة المتباينة أحدث سلسلة من المشكلات لم يكن لمعاوية بد من معالجتها بما عرف عنه من نزوع إلى تناول الأمور على طريقة الواقعيين. وهناك قصة تقول إن عمر وضع دستوراً للحكم، ولكن هذه القصة إذا لم تكن من وحى الخيال، فإن الخطط التى وضعها عمر لا تمثل فى الواقع إلا بذرة ضغيرة للتنظيم المالى والمدنى اعتمدت عليها الإمبراطورية الإسلامية فيما بعد.
ومن أسف أننا نجد تاريخ حياة معاوية مملوءاً بالتفاصيل القصصية، ولكنه قاصر كل القصور فيما يتعلق ببيان الطريقة التى سار عليها فى إدارة الدولة. ولا نستطيع أن نعرف معاوية من حيث هو حاكم لدولة إلا من ملاحظات قليلة غير كافية.
وتراخت حركة الفتوح الإسلامية، فنشأ عن ذلك تلك المقاومة القوية التى قام بها الروم (البوزنطيون) لصد تقدم العرب بعد أن هددوهم فى آسية الصغرى وفى أوربا. على أن حملات المسلمين المتوالية التى وجهوها إلى آسية الصغرى والتى أظهرت سيوفهم أمام أبواب القسطنطينية، والإغارات البحرية التى قاموا بها فى بحر
الأرخبيل وعلى شواطئ صقلية: كل هذه سجلت لهم انتصارات محلية لم تصل إلى نتيجة حاسمة. وكانت هجمات الأساطيل البوزنطية على شواطئ الشام يشد أزرها ثورات سكان الجبال فى لبنان قد جعلت معاوية يرى من الحكمة أن يوقع هدنة بشروط لا ترضى ما يشعر به العربى من الأنفة وعزة النفس (عام 57 هـ).
وانتصر العرب فى الشرق أكثر مما انتصروا فى الغرب: فكانت جيوش المسلمين جادة فى اختراق سهول فارس الشرقية، وصارت مصر فى إفريقية قاعدة حربية تسيَّر منها الحملات إلى الغرب والجنوب. ولكنهم لم يملكوا فى هذه الجهات إلا قليلا من الأراضى امتلاكاً تاماً
كانت هذه الحملات -كما كان الحال من قبل- يوكل القيام بها إلى عمَّال الولايات، وكانت تتم بجهود القبائل التى استوطنت هذه الولايات بعد الفتوح الأولى، وهم المهاجرون. أما جيش الخليفة نفسه فكان يدخره للحروب التى يشنها على البوزنطيين ولحماية نفسه ممن قد يخرجون عليه فى بلاده. ويرجع الفضل فى انتصار بنى أمية فى الحرب الأهلية التى نشبت عام 64 هـ إلى قيام هذه القوى موالية لهم أشد الولاء.
على أن معالجة المنية ليزيد مكنت ابن الزبير من الامتداد إلى بلاد العراق وتدخلت فى ذلك عداوة الشيعة التى كانت وحدها سبباً فى فتنة العراق فيما بعد. ثم حدث ما يحدث دائماً فى أوقات الأزمات، فإن جميع المشكلات التى اختفت وانكمشت أيام حكومة معاوية من غير أن ينتهى أمرها تماماً ظهرت من جديد فى صورة خطيرة ملحة: فهناك القبائل التى لا تخضع للسلطان بما فيها من نزعات العصبية والعناية بالمصلحة الخاصة، وهناك أمر العلاقة بين الشعوب المحكومة وبين المتغلبين عليها، يضاف إلى هذا تضارب المصالح والميول بين الشام والعراق ووسط جزيرة العرب.
وقد استطاع معاوية بدهائه أن يكبح جماح هذه القوى المتنازعة كلها، ولكنها استعادت كل قوتها بل هى قد زادت
شدة بتأثير الحروب الدينية. وكان معاوية قبل موته قد نال تأييد قبيلة كلب العظيمة فى الشام بأن تزوج من ابنة بَحْدل بن أُنَيْف، وهى أم يزيد. واستمر تأييد هذه القبيلة للفرع الآخر من الأمويين وزعيمه الحكم بن أبى العاص بن أمية. وحلّ هذا الفرع محل بنى سفيان فى السيادة على القبيلة، ومع هذا فقد قامت محاولة ضعيفة كان غرضها حفظ الخلافة فى بنى سفيان بجعل خالد أخى يزيد الأصغر خليفة له.
ولما ولى الخلافة مروان بن الحكم، كان عند ذاك رجلا قد حنكته السنون؛ واستطاع فى حياته الطويلة أن يعرف المنازعات التى بين القبائل والمنافسات والدسائس التى وقعت بين الصحابة الذين كان كل منهم يريد ميراث النبى [صلى الله عليه وسلم] لنفسه. ثم كان انتصار مرج راهط (عام 64 هجرية) على قبيلة قيس التى أفلح ابن الزبير فى أن ينال تأييدها له فى ثورته. وكان هذا الانتصار سببًا فى أن دان الشام بالطاعة لمروان وانضمت إليه مصر بعد أن كان قد تغلب فيها الحزب المعادى لبنى أمية.
ولكن سرعان ما مات مروان بعد هذا النجاح الأخير فترك لابنه عبد الملك عبئًا عظيما، هو إخضاع وسط الجزيرة والعراق.
تبوأ عبد الملك منصب الخلافة على غير انتظار فظهرت منه نزعة جديدة إلى جعل الخلافة وراثية فى أبنائه بانتظام: وكان هذا هو برنامج معاوية، وهو مخالف تمام المخالفة لسنة العرب فى اعتبار السلطان من حق القبيلة فى جملتها. وكان أكبر غرض رمى إليه عبد الملك وكل من جاء بعده تقريبًا فى سياستهم الأسرية هو حفظ وراثة الملك فى أبنائهم وحرمان الأقارب منها.
ثم قامت الخصومات بين الخليفة وخصومه وبين هؤلاء وبين الثائرين من الشيعة والخوارج، وامتدت هذه الخصومات إلى أقصى بلاد فارس وخراسان، وتجلت فيها نزعات العصبية فى القبائل بكل قوتها. وكانت كل قبيلة تتخذ شارة لها لواء الفريق الذى تنضم إليه من بين المتخاضمين. وأكبر شاهد على هذا دواوين شعراء هذا العصر وما يقترن بها من قصص تاريخية.
وفى وسط هذه الخصومات المضطربة ساعد عبد الملك حسن الحظ فوفق إلى رجلين من الطراز الأول فى المقدرة أحرزا له النصر: أحدهما المُهَلَّب وهو من شيعة ابن الزبير القدماء، ولكنه انضوى تحت لواء الغالب كما فعل زياد من قبل. والثانى رجل يفوقه فى سمو المواهب وفى الإخلاص هو الحجاج. نهض الحجاج بهمة لا رحمة فيهما ولا أنانية يريد أن يعيد للدولة سلطانها على جميع القبائل والأحزاب التى تريد السلطان لنفسها. وعقلية الحجاج تكاد تكون فى مظهرها غريبة عن الطبيعة العربية، وهو يشبه أن يكون طليعة أو صورة رائدة لوزير العصر العباسى، وكان يفوق أمثاله من رجال الاستبداد الذين جاءوا بعده.
لم يكن الحجاج يعرف سيدًا له غير الخليفة، أو مصلحة الدولة كما نقول فى العرف الحديث، ووطد العزم على أن يخدم سيده بكل الوسائل الممكنة. وقد أحاط المؤرخون اسمه بالكراهية متخذين مبررًا لهم من آراء الحجاج والوسائل التى لجأ إليها فى إنجاحها ويرى البعض أن الحجاج كان رجلا مؤمناً حقاً، وأنه كان من أنصار استمرار السنة النبوية فى إقامة الدولة على أساس دينى وهذه السنة تتصل بفكرة أن الحكم حق إلهى.
كانت خلافة عبد الملك كلها -بفضل نفوذ الحجاج القوى- لا تعدو العمل على إقامة ملكية مطلقة؛ والنزعة التى لم تكن الأيام قد تهيأت لها أيام معاوية، وإن كان زياد قد مهد لها قبل الحجاج، بدت ممكنة أيام عبد الملك الذى اتجه فى الكثير من أعماله المتواصلة إلى هذه الغاية. وأول شئ قام به هو إضعاف سلطان ولاة الأمصار وقطع علاقاتهم بالقبائل: وقد طبقت هذه السياسة بأكبر نجاح فى أقصى الولايات الشرقية وأبعدها عن مركز الخلافة، وفى تلك الولايات ظلت الروح الحربية فى القبائل حية بسبب الحروب التى شنت على الترك والفرس: قمع الحجاج حركة أتباع المهلب والأشعث التى أرادوا بها الحصول على الاستقلال، فمكّن الوحدة السياسية للدولة، وعمل على أن يجعل الولاة موظفين لا غير.
وكان الحجاج يعتبر نفسه خادماً لسيده بالرغم من أنه كان يحكم نصف الإمبراطورية. وكان تأسيسه لمدينة واسط وإقامته للزنج فى بطائح البصرة وسائل قصد بها أن يضعف من شوكة العنصر القبلى، على أن مصر لم يتيسر إنزالها إلى هذه المرتبة وإتباعها لمركز الخلافة، لأنها كانت تتمتع بمركز مستقل بعض الاستقلال عن الحكومة المركزية منذ أيام عمرو بن العاص. وكان لمصر شأن أساسى فى سلامة الشام، فرأى عبد الملك أن يولى عليها أخاه عبد العزيز من غير رقيب، وأراد بهذا أن يحافظ على مبدأ الوحدة فى الإمبراطورية مع احترام رغبة المصريين فى الاستقلال. غير أن عبد العزيز رأى نفسه نائبًا عن الملك واعتبر هذا سلماً للخلافة.
وقام عبد الملك بأعمال أخرى أراد بها توحيد الدولة: فأنشأ نظام الإحصاء المالى وأراد به أولا أهل الذمة، ولكن الأمر انتهى بفرضه على المسلمين أنفسهم. ثم جعل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة، وأصلح نظام النقد، وشيد المبانى والأعمال الصحية ولاسيما فى العراق ومصر ووسط جزيرة العرب، واستطاع فى عشرين سنة تولى الخلافة فيها أن يظهر الإمبراطورية العربية بمظهر يقرب من الدولة الملكية شيئاً فشيئاً. وكان هذا عملا بالنظام الذى رسمته السنة الإسلامية الصحيحة.
وفى الحق إن نزعة عبد الملك إزاء الدين تمتاز بانتعاش روح التقوى، فى الظاهر على الأقل، وبالشدة فى معاملة غير المسلمين، وكانت هذه الشدة ناشئة إلى حد كبير عما تطلبته سياسة عبد الملك من مال. ونعتقد أنه أراد بها أن يتحاشى بقاء "دولة فى داخل الدولة".
ويجب أن نعتبر ما فعله عبد الملك من الحصول على تنازل أخيه عبد العزيز عن حقوقه فى الخلافة لأبناء الخليفة دليلا على نزعته إلى الملكية. فلما مات عبد العزيز زالت الصعوبة فخلص العرش للوليد بن عبد الملك. ولكن مشكلة وراثة الخلافة كانت تتجدد عند كل خليفة جديد، ولم ينته أمرها حتى فى عهد العباسيين.
ونستطيع أن نقرر باختصار أن خلافة عبد الملك عملت على تقوية الامبراطورية العربية بقدر ما كانت تسمح الظروف. على أن انقسام الأحزاب المتطلعة للخلافة أيام ابن الزبير والأشعث شجع الخوارج على الفتنة
…
وبعد أن عادت إلى الدولة وحدتها ظهرت أساليب القمع الشديدة التى جرى عليها الحجاج فأضعفت حركة الخوارج، إن لم تكن قد قضت عليها قضاء مبرماً. أما الشيعة، وقد هزموا فى ميدان الكفاح الظاهر، فقد لجأوا إلى الدعوة السرية، ولم تثمر هذه الدعوة ثمرتها إلا بعد زمان طويل. وكانت دعوة الشيعة فى دورها السرى قد جمعت إليها عناصر كثيرة غير متجانسة كان من شأنها أن تطبع تطور السياسة الإسلامية والدين الإسلامى فيما بعد بطابع خاص. ولكن هذا كان سرًا لم تكشف عنه الأيام إلا فيما بعد. أما فى ذلك الحين فإن استتباب النظام فى الداخل أحدث انتعاشاً عظيما فى حركة الفتح، فقويت السياسة التى ترمى إلى توسيع الإمبراطورية. وهذه السياسة التى جرى عليها عبد الملك فى الشرق والغرب آتت أبهر نتائجها فى عهد خلفائه الأقربين. وأخمدت ثورة البربر العظيمة التى قام بتنظيمها كُسَيْلَة ومن بعده الكاهنة. وتوطد الحكم العربى فى شمالى إفريقية فقضى على ما بقى من الحكم البوزنطى ومهد السبيل لفتح الأندلس.
أما فى الشرق فرغم أن الفتوحات الواسعة التى قام بها قتيبة بن مسلم لم تبدأ إلا عام 86 هـ فى أوائل حكم الوليد، فإننا نجد المسلمين قد واصلوا التقدم فى آسية الغربية فى عهد عبد الملك. وكان من أعظم نتائج ذلك دخول الترك فى الإسلام، وكانوا سادة المستقبل. أما النزاع مع البوزنطيين فقد ظل من غير أن تتغير صبغته، ورغم أن العرب تقدموا فى أرمينية وأخضعوا كورها فإنهم لم يفلحوا فى تثبيت قدمهم فى آسية الصغرى، وكانت الأساطيل اليونانية لا تفتأ تغير على شواطئ الشام. ولكن الإسلام كان فى تقدم مطرد، ودخلت فى المدنية
الإسلامية الناشئة شعوب وأجناس لم يكونوا كالفلاحين الآراميين أو القبط الذين قُضى عليهم أن يتعربوا دون مقاومة، أو يظلوا أقلية دينية لا روح لها، بل دخلت فى الإسلام أمم كالبربر والترك، وهى أمم حربية قوية البأس، شديدة التمسك بقوميتها، رضيت بقبول الإسلام ديناً. ولكنها لم تقبل العربية قومية لها. ويرجع الفضل فى معظم النجاح الذى أحرزه الإسلام فيما بعد إلى هاتين الأمتين اللتين تقع إحداهما على الطرف الشرقى من الإمبراطورية العربية، والأخرى على طرفها الغربى. واليهما أيضًا يرجع إحداث تغيير جوهرى فى المدنية الإسلامية.
وقد شهد الوليد فى خلافته ثمرة الجهود الطويلة التى بذلها عبد الملك وظلت شخصية الحجاج القوية تتعهدها. وانتصر المسلمون انتصارات عظيمة على يد مسلمة بن عبد الملك القائد الأموى الذى حاصر القسطنطينية، وموسى بن نصير فاتح الأندلس، وقتيبة بن مسلم.
ويدل الجامع الأموى بدمشق وغيره من العمائر الكثيرة العظيمة على مبلغ قوة الأمويين، ولكن مسألة وراثة الملك فتحت باب الأزمة من جديد، وتغلب فى هذه المرة المبدأ "العربى" فأسندت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك دون ابن الوليد، واستمر الكفاح بين الخليفة الذى أراد أن يجعل الحكم فى أبنائه وبين إخوته الذين أرادوا أن يجعلوه قائماً إلى آخر أيام بنى أمية، وكان من أثر ذلك أن انحطت مكانة الأسرة. ثم إن نتائج الإسراف الذى حصل فى عهد عبد الملك وابنه الوليد بدأت تشتد وطأتها على خلفائهم. وظهرت الأزمة الاقتصادية كما ظهرت مشكلة الموالى الذين دخلوا فى الإسلام. ثم جاء عمر ابن عبد العزيز، وأهل السنة يعتبرونه ممن أعز الله بهم الإسلام ويستثنونه من اللعنة التى ألحقوها بكل خلفاء بنى أمية. وأحسَّ عمر أنه لابد من سياسة تعتمد على إدماج العناصر المختلفة لتجنب نكبة خطيرة يكون فيها القضاء على مستقبل الإسلام وعلى مستقبل البيت الأموى. والأثر العميق الذى تركه عهد عمر فى تاريخ الإسلام -رغم أن مدة حكمه لم تزد على عامين- يدل على أن هذا الخليفة كان ذا صفات
عالية. دقيق الحس فى إدراك الحقائق الواقعة.
ويدهشنا أن نرى فى هذا العصر نفسه نظامًا من المبادئ والأحكام الدينية بلغ حد الكمال مع أن طلائعه لم يكن قد مضى عليها أكثر من جيلين، وقد تكونت العقلية الدينية والفقهية فى الإسلام فى نهاية القرن الأول، وطبعت بطابع لم تكن لتفقده طوال العصور المتعاقبة. لأن هذا النظام كان يمثل تنفيذ ما نادى به محمد [صلى الله عليه وسلم] واتتصار دعوته انتصارًا تامًا.
وحاول عمر بن عبد العزيز أن يوفق بين مطالب الدولة السياسية والمالية وبين احترام تقاليد الدين، وهو فى هذا له فضل السبق على العباسيين، وربما كان فيما فعله أصدق منهم إيمانًا. ورغم أننا يجب أن نعتبره قد أخفق فى أعماله المتعلقة بمستقبل الأسرة فإن إصلاحاته المالية مهدت السبيل إلى معاملة العرب والموالى على قدم المساواة، وساعدت أكثر من أى شئ آخر على إدماج سلالة الفاتحين بسلالة المغلوبين. ولاشك أن العصر الثالث فى مجد الدولة الأموية -وهو عهد هشام- يرجع إلى جهود عمر النافعة.
واستمرت الفتوح خلال العشرين سنة التى حكمها هشام سائرة على الخطة القديمة الشاملة؛ فاستمرت فى الغرب رغم ثورة البربر العظيمة عام 113 هجرية، وفى الشرق أيضًا. وتقدم العرب حتى وصلوا إلى قلب بلاد الغال Gaul وبدأ البحر المتوسط يتحول إلى بحيرة عربية، وأخضع الترك للمرة الثالثة بعد أن بدءوا يحاولون التملص من نير الحكم العربى بعد عزل قتيبة وموته.
ولما مات هشام كانت الخلافة الأموية فى أوج عظمتها، ويكاد الإنسان لا يصدق أنه بعد أشهر قليلة وقعت الدولة -التى كان يظهر أنها بنيت بناءً محكمًا على سلطة الخليفة- فى هرج شامل، وذهبت فريسة للفوضى. ولا شك أن المؤرخين أصابوا إلى حد ما إذ جعلوا لفساد أخلاق الوليد الثانى تأثيراً عظيماً فى قلب النظام القائم ولكن أخطاء شخص واحد لا تكفى فى تعليل ظهور كل علامات الانحلال دفعة
واحدة، وينبغى أن نلتمس الأسباب -كما هى الحال عادة- فى العوامل ذاتها التى أظهرت خلافة هشام فى مظهر الرخاء والتقدم.
استغل هشام إلى أقصى حد إصلاحات عمر المالية، وأثقل كاهل المسلمين وأهل الذمة من رعيته على السواء، تشهد بذلك الثورات التى كان سببها الضرائب الفادحة، وكان البؤس -وهو دائمًا قرين التطرف- سببًا فى إحياء مذهب الخوارج؛ ووصل هذا المذهب إلى الشام فكانت هذه ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل. وفى الشام تمرد الجند الذين كانت تقوم على كواهلهم قوة الأمويين الحربية؛ فخرجوا على النظام ساخطين على نزعة الحكومة الظاهرة إلى الحكم الاستبدادى شيئاً فشيئاً. ثم ظهرت حركة الشيعة مرة أخرى فى العراق علانية، ويدل على ذلك المحاولة التى قام بها زيد بن على بن الحسين (123 هـ) ولكنها فشلت فشلا يرثى له.
وكان اتساع الفتوحات المتزايد سببًا فى أن أصبحت البلاد القاصية بعيدة عن إشراف السلطة المركزية. وظهرت السخائم القبلية ظهورًا عنيفًا واختلطت بالفوارق الدينية. ونجحت الدعاية الشيعية السرية نجاحًا سريعًا فى أقصى خراسان رغم جهود نصر بن سيار العظيمة لإيقافها. ونستطيع أن ندرك بعد هذا كله كيف أن تذمر الناس من فساد أخلاق الوليد وجد تربة خصيبة ينمو فيها ويستفحل أمره، وخصوصًا بعد أن نادى الوليد بتعيين ابنيه وارثين للخلافة بمجرد ارتقائه العرش؛ فكان ذلك قاضيًا على آمال الطامعين فى الخلافة من أبناء عبد الملك.
ثم ثار جند الشام والأردن فرفعوا يزيد الثالث إلى الخلافة؛ وقتل الوليد. ولم يفلح يزيد ولا أخوه إبراهيم الذى خلفه بعد شهور قليلة فى إخماد الفوضى التى كانت تنتشر فى جميع أجزاء الامبراطورية.
ثم نهض الخوارج وعلى رأسهم الدَّقاق بن قيس الشيبانى فاستولوا على الكوفة. ومرت سنوات قليلة كان يبدو فى أثنائها أن نجاة الدولة ستكون على يد أمير من البيت الحاكم بعيد عن أبناء القابضين على مقاليد الأمور، ذلك هو
مروان بن محمد حفيد مروان بن الحكم.
كان مروان بن محمد حاكمًا لأرمينية، وأنشأ جيشا مواليًا له فى أثناء الحروب الطويلة التى انتصر فيها على البوزنطيين. جاء إلى الشام ليشد أزر أبناء الوليد فى المطالبة بحقوقهم، فلما وجد أن الغاصبين قتلوهم نادى بنفسه خليفة. وبعد شهور قليلة أخمد الثورة فى الشام، وقضى على المناوئين له من أعضاء البيت الأموى، ثم استولى على مصر والعراق، ومهمته فى السنين الثلاث الأولى من خلافته تشبه مهمة جده مروان وعمه عبد الملك من بعض الوجوه. ولكن الظروف كانت أقسى
عليه مما كانت عليهما: فقد انحلت عروة العصبية التى كانت تربط الأمويين، وضعفت شوكة أسرتهم، وزادت فى الوقت نفسه ثقة خصومهم فى النصر.
وعلى حين كان أسلافه يقاتلون جيوشًا ضعيفة العدة كجيوش ابن الزبير، أو عصابات يائسة كالتى كانت للشيعة الذين فروا من نكبة كربلاء، كان مروان يحارب جنودًا زادتها الحروب مع الترك صلابة، وكان يحارب جيوش خراسان الفارسية يقودها أبو مسلم الخراسانى، وكان بنو العباس من وراء ذلك يتأهبون للظهور فى الميدان.
وخلع الشيعة القناع عام 130 هـ: وسرعان ما فتحت فارس وخراسان، ثم احتل الغزاة العراق فى العالم التالى، وظهر العباسيون بدعوتهم فجأة، ونادوا بأبى العباس عبد الله خليفة فى الكوفة. ثم هزم هذا الخليفة الجديد مروان على نهر الزاب، وأرسل أعوانه يطاردونه فى الجزيرة والشام. وهزمه مرة أخرى فى مصر حيث قتل آخر خلفاء بنى أمية فى 27 من ذى القعدة سنة 132 هـ (7 من يولية سنة 750 م)، وقتل أعضاء البيت الأموى.
وقامت فى الشام حركة لمساعدة أبى محمد السفيانى فلم تأت بطائل، وكان فرار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام من المدينة إلى إفريقية ومنها إلى الأندلس ختام المأساة التى صاحبت سقوط أسرة معاوية ومروان.
ولا ريب فى أنه من المبالغة أن نقول إن سلطان العرب ينتهى بسقوط دولة الأمويين، وأن ندعى على بنى العباس
أنهم صبغوا العالم الإسلامى بالصبغة الفارسية. فالحقيقة أن أسرة الخلافة بقيت عربية. وليس ذلك فحسب، بل ظل ولاة الأقاليم وقواد الجيش يختارون من العرب مدة تقرب من قرن. ومن جهة أخرى فإن من الحقائق الثابتة أن صبغ الإسلام بالصبغة الدولية -أى كون العرب لم يعودوا هم العنصر الفعال وحدهم فى تنظيم الدولة وترقية المدنية- كان قد بدأ قبل ذلك، ولو على الأقل فى صورة نظرية، عندما سوت إصلاحات عمر بن عبد العزيز بين العرب والموالى. ثم إن دخول هذه العناصر المتباينة فى الإسلام جعل لها نصيبًا فى تكوين المدنية الإسلامية التى يحق لنا أن نعتبرها عربية، وإن تكن الأبحاث التحليلية فى الخمسين سنة الماضية قد أثبتت أن معظم العوامل التى كونتها أجنبية. ذلك أن اللغة العربية ظلت تصبغ هذه المدنية بصبغة واحدة. وليس هذا فحسب بل إن العناصر المكونة لها امتزج بعضها ببعض تحت التأثير العربى، ولاشك أن الفضل فى طبع هذه المدنية المكونة من عناصر متنوعة بالطابع العربى يرجع إلى الأمويين.
ومن أسف أننا الآن لا نستطيع أن نتعرف بالتفصيل العوامل الأولى التى غرست البذور التى لم نر ثمراتها إلا فى عهد العباسيين.
على أننا نلاحظ أن المدنية الإسلامية بلغت أوج ازدهارها فى النصف الثانى من القرن الثانى، لا فى الدين وحده بل فى العلوم والفنون، وهذا يدل دلالة واضحة على أن انتقال العرب إلى المدنية لم يكن موقوتًا بمجئ بنى العباس، بل إنه بدأ قبل ذلك.
والذى يبهر الإنسان فى مدينة العصر الأموى وجود العالمين القديم والجديد جنبًا إلى جنب على نحو ما نلاحظه دائمًا فى عصور الانتقال: فكانت العقلية العربية وعادات العرب وشعر الفرزدق وجرير والأخطل لا تزال باقية مقبولة عند الناس، وعندما بدأت عناية أهل الحديث والمؤرخين واللغويين تتجه إلى الآثار الأدبية التى أوحت بها الصحراء والتى عرفوها من شواهد جليلة لعصر قد انقضى؛ بل إن النظام الإدارى الذى جرى عليه العباسيون هو فى جوهره نظام الأمويين الذى أنشأوه
على أساس الأنظمة البوزنطية والساسانية. ونصيب يحيى ابن برمك فى إضافة شئ جديد أقل بكثير مما ينسبه له المؤرخون. ونختم القول فى هذا بأن الأمويين لم يستطيعوا أن يجعلوا الإمبراطورية العربية المترامية الأطراف وحدة متجانسة، وهذا هو الذى عجز العباسيون أيضًا عن تحقيقه. وقد استطاع هؤلاء أن يكملوا توحيد العالم الإسلامى من الوجهتين العقلية والمعنوية وكان الأمويون قد شرعوا فى هذا من قبل. ويستطيع القارى أن يجد تفصيل ما لم نستطع بحثه فى هذه المادة، فيما كتب عن أسماء الأشخاص والأماكن المتصلة بتاريخ هذا العصر.
المصادر:
لا نسطيع أن نذكر جميع المصادر التى يرجع إليها فى هذا الموضوع الواسع، ولذلك سنقتصر على الكتب التاريخية العامة. وقد ذكر ل. كايتانى مصادر تاريخ بنى أمية فى كتابه Chronographica Islamica، طبعة باريس، عام 1912، ص 461 - 1617، وهو كنز عظيم القيمة، ولكن ليس له فهرس. وفيه إلى جانب المصادر العربية جميع المصادر السريانية واليَونانية واللاتينية والأرمينية والصينية. وتوجد نصوص هامة حقًا لم تنشر حتى الآن، ولاشك أن أهمها مؤلف عظيم للبلاذرى اسمه "أنساب الأشراف"، لم ينشر إلا جزء صغير منه، نشره آلوارت (Anonyme arab.: W.Ahlwardt Greifswald 1883. Cronik etc) وتقوم بنشر الكتاب الآن جامعة القدس، ونرجو أن نجد فيه بعض بقايا التاريخ الأموى التى طغى عليها مؤرخو بنى العباس المتعصبون، وبعض هذه البقايا حفظ فى تاريخ كتبه مؤرخ عربى أندلسى هو البياسى واسمه "الأعراب بالحروب فى صدر الإسلام" (انظر M.S. O. S.J. Horovitz سنة 1907 ص 22 - 27) وهو كتاب جدير بالنشر. ونأسف لأننا لا نجد فى مؤلف كايتانى المتقدم ما يمكن أن يوصلنا إليه البحث العلمى فى دواوين الشعراء وما عليها من شروح، وأهمها النقائض لجرير والفرزدق. وربما نجد فى هذه الدواوين شيئاً لم نعرفه من قبل (وقد
قام لامانس بأبحاث كثيرة من هذا النوع). وأوراق البردى مصدر آخر عظيم الأهمية وإن كان محدود المجال؛ وأهمها الأوراق التى تحمل اسم قرة بن شريك. وقد رأينا أن من الكتب العامة التى لها قيمة أساسية فى تاريخ العصر الأموى كتاب الأستاذ J. Wellhausen: الذى انتفع بكتاب الطبرى لأول مرة واسمه Das arabische Reich und sein sturz طبعة برلين، سنة 1902، وكتابه Die religios- politischen Oppositionsparteiene im alten Im alten Islam (Abh.G.W.Gott.،V.،1901) Islam وكتابه Die Kampfe der Araber in mit den Romaern (nacrichten G.W. (1901،.der Zeit der Umaijaden Gott ولايقل شأن هذين الكتابين عن الكتاب الأول فيما يختص بناحيتين جوهريتين فى تاريخ العصر الأموى (: A Gibb H. The Arab Conquest in entral Asia طبعة لندن عام 1923 James G.، Forlony) Fund،II وفى هذا الكتاب دراسة جيدة لنقطة أخرى لها أهمية تاريخية عظيمة، ومن أسف أن فتوحات إفريقية لم تدرس على هذا النحو. وللأب لامانس بحوث كثيرة ومع أنها لا تشمل كل تاريخ الخلافة الأموية، فلا يستغنى عنها باحث لكثرة ما فيها من تفاصيل وللتعمق الشديد فى بحث المسائل التاريخية وهى: . Etudes: M.F.B.O sur le regne du Calife omaiyade Moawia I جـ 1 - 3؛ Ziad Ibn Abihi vice-roi de I'Iraq R.S.O.، جـ 4، califat de Razid Le ،.Ire M.F.O.B جـ 4 - 6: le Etudes sur Omaiyades siecle des، بيروت 1930.
وهناك مصادر أخرى منها مقالات C.H.Becker فى Islamstudien جـ 1 طبعة ليبسك 1924 وكذلك كتابه Beitrage zur Geschichte Aegyptens unter dem Islam ج 2 طبعة ستراسبورغ سنة 1903، وهذان الكتابان ساعدا مساعدة عظيمة على إيضاح مكانة الخلافة الأموية فى التاريخ.
[ج. ليفى دى لا فيدا Levi de Vida]
الأمويون فى الأندلس
يقول المؤرخون العرب إن بنى أمية -أو بنى مروان، وهم أبناء الأمويين فى الشام- أسسوا إمبراطورية إسلامية فى بلاد الأندلس وحكموها من القرن
الثامن إلى القرن الحادى عشر متخذين قرطبة عاصمة لهم.
وعودة الأمويين إلى الحكم فى أقصى المغرب من بلاد الإسلام بعد أن قضى عليهم العباسيون فى المشرق حادث من أروع الحوادث فى تاريخ العرب فى العصور الوسطى. وهذه الأسرة هى التى ساعدت على فصل بلاد الأندلس الإسلامية عن باقى بلاد العرب وجعلتها وحدة سياسية حقيقية، وهى التى طبعت هذه البلاد بالطابع الشامى فوق ما لها من مسحة اجتماعية خاصة. وبفضل همة أمرائها استطاعت أن تقاوم مشروعات العباسيين ثم الفاطميين. ولم تلن قناتها إلا أخيرًا بعد أن أنهكتها الحروب، لأنها أخفقت فى كبح جماح الجنود المرتزقة، ولم توقفهم عند حدودهم قبل أن يستفحل الأمر فمكنتهم من إقامة دكتاتورية وراثية إلى جانبها.
ويمكن أن نقسم تاريخ الأمويين فى الأندلس إلى ثلاثة عصور كبرى: (1) عمر الأمراء المستقلين فى قرطبة (2) وعصر الخلافة (3) وعصر تدهور الأسرة وسقوطها. وسنتكلم عن ذلك باختصار.
ثبت بتاريخ الأمويين فى الأندلس
(1)
عبد الرحمن الأول الملقب بالداخل: حكم من 138 - 172 هـ (756 - 788 م).
(2)
هشام الأول: حكم من 172 - 180 هـ (788 - 796).
(3)
الحكم الأول: حكم من 180 - 206 هـ (796 - 822).
(4)
عبد الرحمن الثانى: حكم من 206 - 238 هـ (822 - 852).
(5)
محمد الأول: حكم من 238 - 273 هـ (852 - 886).
(6)
المنذر: حكم من 273 - 275 هـ (886 - 888).
(7)
عبد الله: حكم من 275 - 300 هـ (888 - 912).
(8)
عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله: حكم من 300 - 350 هـ (912 - 961).
(9)
الحكم الثانى المستنصر بالله: حكم من 350 - 366 هـ (961 - 976).
(10)
هشام الثانى المؤيد بالله: حكم من 366 - 399 هـ (976 - 1009) ومن 400 - 403 هـ (1010 - 1013).
(11)
محمد الثانى المهدى: حكم من 399 - 400 هـ (1009 - 1010).
(12)
سليمان المستعين بالله: حكم من 399 - 407 هـ (1009 - 1016).
(13)
عبد الرحمن الرابع المرتضى: حكم من 407 - 409 هـ (1017 - 1019).
(14)
عبد الرحمن الخامس المستظهر بالله: حكم فى 414 هـ (1023).
(15)
محمد الثالث المستكفى بالله حكم من 414 - 416 هـ (1023 - 1025).
(16)
هشام الثالث المعتد بالله: حكم من 318 - 422 هـ (1027 - 1031).
(1)
عصر الأمراء المستقلين فى قرطبة
يذكر المؤرخون فى العادة أن عبد الرحمن الأول بن معاوية بن هشام الذى يلقبونه بالداخل أسس إمارة أموية فى قرطبة عام 138 هـ (756 م). وبينما بنو العباس يضطهدون أهله وعشيرته استطاع، وهو لايزال فتى، أن يفر خفية إلى فلسطين ومنها إلى مصر وإفريقية يصحبه مولاه بدر، وسرعان ما اضطر إلى الفرار من القيروان حيث تعرض لاضطهاد الوالى عبد الرحمن بن حبيب، وذهب إلى المغرب فلبث زمنًا فى تاهرت مقيما فى قصر بنى رستم. وأكرمته قبائل بربرية كثيرة منها مكناسة ونفزة. وظهرت من عبد الرحمن رغبة فى الاشتغال بالسياسة منذ أن وطئت قدمه أرض إفريقية. وكان يشجعه على ذلك مولاه بدر، ولكن مطامعه السياسية لم تجد فى المغرب أرضًا صالحة فاتجه نظره بالطبع إلى الأندلس.
كان عبد الرحمن رجلا قوى الاستعداد شديد الذكاء مرهف الحس فى الأمور السياسية فاستطاع أن يستغل المنافسات التى ظلت سنين عديدة فى إحداث شقة واسعة بين بنى قيس اليمانية الذين استوطنوا بلاد
الأندلس. ثم إنه لم يجد مشقة فى كسب تأييد أتباع بنى أمية الذين جاءوا قبله ببضع سنين مع بلج بن بشر وكان عددهم يقرب من الخمسمائة انتشروا بين الجند فى البيرة وجيان جنوبى شرق الأندلس. وكان حاكم بلاد الأندلس فى ذلك الحين يوسف بن عبد الرحمن الفهرى، الذى كان يستمد سلطانه من زعيم بنى قيس فى الأندلس وهو الصَّميل الكلابى.
ولما رأى عبد الرحمن أن الوقت قد تهيأ لأن يدخل بلاد الأندلس مطالبًا بالحق فى الملك، غادر المغرب ونزل فى المنُكبَّ " Alminecar" فى ربيع الثانى عام 138 هـ (سبتمبر عام 755) ولقى من الترحيب فوق ما كان يرجو، ووقف لمناهضة يوسف الفهرى. وبعد اجتماعات وحروب ومفاوضات -يستطيع القاريء أن يرجع إلى تفاصيلها فى كتب مؤرخى العرب- نودى بعبدالرحمن أميرًا فى العاشر من ذى الحجة عام 138 (15 مايو سنة 756) فى مدينة قرطبة وهى المقر القديم لحكام العرب.
وحكم عبد الرحمن مؤسس الإمارة الأموية فى قرطبة مدة تزيد على ثلاثة وثلاثين عامًا، قضى أول هذه المدة فى توطيد مركزه فى العاصمة. وذاعت أخبار نجاحه فى بلاد المشرق كلها، فأتى إلى بلاد الأندلس سيل متدفق من أتباع الأمويين وأنصارهم ليقوموا بنصيبهم فى إعادة دولة بنى أمية فى الأندلس بعد أن سقطت فى الشام. ولكن سرعان ما نشأت اضطرابات سياسية كان لابد لأمير قرطبة من التغلب عليها، فكان عليه أولا أن يخضع يوسف الفهرى الذى لم يرضى بالهزيمة فحاول أن يستولى على قرطبة بعد أن جمع حوله فئة من الأتباع، ولكنه هزم 141 هـ (758 م) وقتل فى العام التالى فى إقليم طليطلة.
وظلت الفتن تنتشر فى كل نواحى الأندلس من وراء ستار، كما كانت الحال أيام الولاة. وكانت الاضطرابات تنشأ باستمرار يوقظها طوائف المولدين من الأسيان الذين دخلوا فى الإسلام حديثا. وفوق هذا كان البربر والعرب لا يلقون سلاحهم بسبب الأحقاد القبلية، فكان لابد لعبد الرحمن من أن يخمد
فتن اليمانية وبنى فهر الذين انضووا تحت لواء العلاء بن مغيث الجذامى عام 146 هـ (763 م)، ثم فتن البربر يقودهم شقيا الذى ثار فى شنتبرية عام 152 هـ (769 م) وحال دون انتشار أى اضطراب فيها.
وفى النصف الثانى من حكم عبد الرحمن الأول اتحد بعض كبار العرب فى شرقى الأندلس واستنجدوا بشرلمان، فعبر شرلمان جبال البرانس بنفسه على رأس جيش، وحاصر سرقسطة عام 162 هـ (778 م) ولكن سرعان ما اضطر إلى العودة إلى الرين، فرفع الحصار، ومنى فى رجوعه إلى فرنسا بالهزيمة المشهورة التى تقترن بذكرى رولاند والتى نشأت عن كمين نصبه له الباسك عند ممر رونسفو. وانتهز عبد الرحمن فرصة عودة شرلمان فحاصر سرقسطة بدوره واحتلها عا م 164 هـ (780 م) ولكن احتلاله لها كان قصير الأجل. ثم وجه حملة ضد الباسك كللت بالنجاح.
ولما مات مؤسس الدولة الأموية الجديدة عام 172 هـ (788 م) كانت مملكة قرطبة قد قامت على أساس قوى من الوجهة السياسية ومن حيث سيادتها لبقاع معينة، وصار لها جيش قوى. ونجاح ذلك الرجل الذى خرج على وجهه من الشام، وقدرته العجيبة على إنشاء مملكة لنفسه ونشر السلام فيها، نالا إعجاب كل مؤرخى العرب فلقبوه "صقر قريش".
وكان نشر السلام فى ربوع المملكة الجديدة أكبر همّ لخلفاء عبد الرحمن الأول. وبعد موته انتقل الحكم إلى ابنه هشام الأول فلم يزد حكمه على السبع سنين إلا قليلا، لأنه مات شابًا عام 180 هـ (796 م).
وكان لابد له أولا من التغلب على إخوته الذين أرادوا الاستئثار بالحكم فأرسل حملتين صائفتين عامى 177 هـ (793 م) و 179 هـ (795 م) إحداهما ضد نربون والأخرى ضد جليقية Galicia. والمؤرخون يذكرون أن هشاما الأول كان أميرًا نبيلا جم الفضل، ويأسفون لأن حكمه لم يطل.
وجاء بعده ابنه الحَكم الأول فلبث فى الحكم ستة وعشرين عامًا،
ولا نعرف على وجه اليقين إن كان هو الذى أدخل مذهب المالكية فى الأندلس أم أبوه. والمذهب الذى كان متبعًا حتى ذلك الحين فى تلك البلاد هو مذهب الأوزاعى، وأيا ما كان الأمر فإن الفقهاء لم يصر لهم شأن خطير وكلمة مسموعة عند الحاكم إلا عندما آل الأمر إلى الحكم.
وكان هذا الأمير -خلافًا لأبيه- قليل الميل إلى الفقهاء، وسرعان ما وقف فى وجههم وأثبت لهم قدرته على مخالفة آرائهم. ولكن الفقهاء صمموا على مقاومته فانضموا إلى فريق آخر من المتذمرين هم المولدون، وصاروا -إلى حد ما، وباسم الإسلام- أبطالا للقومية الأسبانية. وكان الحكم رجلا قوى الهمة ثابت العزم فأدت معارضتهم له إلى سلسلة من الإجراءات القاسية اتخذها الحكم بشدة لا هوادة فيها فى الجزء الأكبر من حكمه. وقامت أول فتنة فى قرطبة ذاتها عام 189 هـ (805 م). فقام متآمرون من الأشراف يستحثهم الفقهاء، وحاولوا أن يخلعوا الحكم عن العرش ولكن مؤامرتهم اكتشفت، وقمع الحكم أولئك الثائرين بشدة عظيمة،
وفى العام التالى استولى الحكم على " Merida" ماردة، وأخمد فتنة أخرى فى قرطبة أراق فيها الدماء. وفى عام 191 هـ (807 م) وقعت فى طليطلة وقعة الحفرة المشهورة، وكان أهل هذه المدينة من أول الحكم الأموى فى ثورة لاتهدأ حتى تقوم، فأرسل الحكم اليهم عمروس ليحكم وكان من رجاله المخلصين، فنصب كمينًا لسادة طليطلة بعد أن أقر سيده هذه الخطة، ولم يحرج منه أحد على قيد الحياة.
على أن الذى يكشف عن عزيمة حفيد عبد الرحمن التى لا تلين هى وقعة الربض. ووطّن الحكم عزمه ليقضين على جراثيم الفتنة فى العاصمة قضاء مبرمًا، فجمع حوله حرسًا من الجنود المرتزقة يسمون "الخُرْس". وأقاموا حكم الإرهاب فى قرطبة، وظل التذمر فى زيادة مستمرة، وفى عام 202 هـ (817 م) نشبت ثورة واسعة النطاق فى الضاحية الجنوبية للعاصمة على شاطئ الوادى الكبير، وذلك أن الفقهاء بزعامة
يحيى بن يحيى أهاجوا الدهماء فقام هؤلاء يحاولون أن يأخذوا قصر الأمير، ولكن سرعان ما طوقتهم جنود الحكم وأخذوا عليهم السبل. وقرر الأمير لساعته أن ينفى من أرض الأندلس كل سكان ربض قرطبة الذين نجوا من المذبحة، فهاجر عشرون ألف أسرة ذهب ثلثاهم إلى مصر ومنها إلى "إقريطش"، وذهب الباقون إلى فاس واستوطنوا الحى الذى يسمى عدوة الأندلس. ثم هدم الربض وحظر على الناس أن يعيدوا بناء شئ فيه. وأثّر إخماد الفتنة -على هذه الطريقة العنيفة- فى العالم الإسلامى تأثيرًا كبيرًا حتى أن المؤرخين يسمون الحكم الأول "بالربضى".
وقد أنفق الحكم معظم أيام حكمه فى القضاء على الفتن الداخلية التى كان يوقد نارها المولدون المتذمرون يحرضهم الفقهاء من وراء ستار، واستطاع بهمته أن يتغلب على كل شئ. ولكن لما كان باله مشغولا بالمشاكل الداخلية دائمًا لم يستطع أن يحمى ثغور بلاده حماية كافية فى طول أيام حكمه؛ ولهذا نجد مملكتى أشتورية وجليقية تتقدمان نحو الجنوب تقدما واضحا، وانتزع دوق أكويتانيا برشلونة من يد المسلمين عام 185 هـ (801 م).
ثم جاء بعد الحكم ابنه عبد الرحمن الثانى فكان مخالفًا لأبيه كل المخالفة. وامتد حكمه من 206 إلى 238 هـ (822 - 862 م). وكان ضعيفًا جدًا، فلم يستطع أن يقبض على زمام الأمور. ونشأ عن عهد هذا الأمير الضعيف أن تجددت الحركة القومية. ففى عهده وجد المستعربون من أهل الأندلس الذين ظلوا على دينهم المسيحى أن فى قدرتهم أن يخرجوا على الأمير بتحريض إيولوجيو Eulogio والفارو- Al varo. فلما أرادت الحكومة الإسلامية أن تقمع ثورتهم هبط على الأندلس -وخصوصًا على قرطبة- بين عامى 236 - 238 هـ (850 - 852 م) سيل من المتطوعين يريدون الاستشهاد فى سبيل الدين، ودعا الأمير الأموى مؤتمرًا حاول أن يصد هذا التيار. وكان على الأمير -إلى جانب مقاومة
الجماعات المسيحية المناوئة له- أن يتغلب على ثورات جديدة قام بها المولدون، فكان لابد له من أن يستعيد ماردة وطليطلة بالقوة.
وفى عهده أيضًا ظهر فى الأندلس لأول مرة النورمانديون الذين يسميهم المسلمون "المجوس". وفى عام 230 هـ (844 م) استولى غزاة النورمانديين على إشبيلية، وعقدت هدنة بين قائدهم وبين أمير قرطبة الذى أرسل إليهم سفيرًا هو يحيى بن الحكم الغزّال.
ولما مات عبد الرحمن الثانى عام 238 هـ (852 م) خلفه على عرش قرطبة ابنه محمد الأول، فحكم إلى عام 273 هـ (886 م)، وامتاز عهده بثورات داخلية متوالية كانت تزداد رغم قسوته؛ فقام المستعربون بثورة عند توليه الملك. وبدأ الأمير يضطهد الطوائف المسيحية فاستغاث مسيحيو طليطلة بليو أوردونيو الأول " Leo Ordono" فسير إليهم جيشًا على رأسه الكونت بيرزو " Bierz" وقطعت جنود المسلمين عليه الطريق عام 240 هـ (854 م) فى موقعة وادى سليط.
ولم تقف ثورات المسيحيين إلا عام 245 هـ (859 م) وبعد موت إيولوجيو وليوقريطيا " Leocritia". ولكن زادت القلاقل السياسية فى إمارة قرطبة، وأخذت حركات العصيان تظهر شيئاً فشيئا فى جميع الولايات التى كانت خاضعة نظريًا لقرطبة. وكان يقود هذه الحركات المولدون الذين ظهروا فى ثوب حكام مستقلين وأبطال قوميين. وظل أمراء قرطبة مشغولين حتى أول القرن العاشر بثورات أشراف المولدين وبدعاوى البيوتات العربية الكبيرة بعد ذلك.
وفى عهد محمد الأول بدأت ثورة طويلة الأجل فى جنوب غربى الأندلس كان على رأسها زعيم مستقل هو عمر ابن حفصون. وسرعان ما صار له السلطان المطلق على جميع البلاد الجبلية التى تقع بين رُنْدَة " Ronda" ومالقة. وأنشأ مقرًا له فى قلعة بباشتر " Bobastro" الحصينة، وظل ينازع الحكومة الإسلامية المركزية إلا فى فترات هدنة قصيرة. وسرعان ما اعترف الثائرون فى كل بلاد الأندلس أنه زعيمهم غير مدافع.
وكان حكم المنذر ابن محمد الأول وخليفته قصير الأمد (273 - 275 هـ = 886 - 888 م)، قضاه كله فى محاربة ابن حفصون الذى كان نفوذه يزداد يومًا بعد يوم، وفى محاصرة قلعة بباشتر التى كانت خليقة بأن تتكلل بالنجاح لولا أن
المنية عاجلت الأمير. ويظهر أنه مات مسمومًا بيد أخيه عبد الله الذى تولى الحكم بعده.
أما عن حكم عبد الله (275 - 300 هـ = 888 - 912 م) فيقال بحق أنه مرحلة هامة فى إعادة السكينة إلى مملكة قرطبة، رغم أن عهده يبدو خافت النور بالنسبة لعظمة عهد حفيده وخليفته عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر. ولا شك أنه كان شديد القسوة فى قمع كل من أراد خلعه عن العرش ولو كانوا إخوته، شأنه فى هذا شأن كل أمراء ذلك العهد. ولكنه كان يواجه أخطارًا عديدة، ويكافح حركات اضطر أسلافه إلى مكافحتها وكانت تزداد قوة إلى أيامه، واستغرقت ثورة ابن حفصون وحدها معظم أيام حكمه.
ومن جهة أخرى فإن إشبيلية، رغم قربها من قرطبة، كانت على وشك أن تخرج على الحكم الأموى. وكان الحزب الأسبانى والحزب العربى فيها يُضعفان باستمرار سلطة الحاكم الذى ترسله قرطبة. وكانا يطلقان على المدينة طوائف البربر الذين كانوا ينزلون فى الجبال المجاورة. ثم اشتدت عداوة القبائل العربية الكبرى كبنى حجاج وبنى خلدون، وصارت تقض مضجع الأمير شيئاً فشيئًا. وكان رؤساء هذه القبائل أصحاب أراض واسعة، ولهم أتباع مخلصون كثيرون يستطيعون تسليحهم إذا استلزم الأمر ذلك. ولم يكد عبد الله يستقر على عرش الإمارة حتى قام كريب بن خلدون رئيس القبيلة الثانية وأهاج إقليم الشرف كله، وضم إليه زعيم بنى حجاج. ثم عقد محالفة مع الأمير واتفق معه على مهاجمة المولدين فى إشبيلية وأنزل بها الدمار عام 278 هـ (891 م)، ولكن خضوعه كان قصير الأمد.
وفى عام 286 هـ (899 م) وقعت منازعات بين زعماء الأسرتين الكبيرتين
فى إشبيلية. وبعد أن تخلص إبراهيم ابن حجاج من كُرَيب منافسه، عقد محالفة مع ابن حفصون قائد الثورة فى الجنوب الشرقى، واستطاع عبد الله أن يخضع ابن حفصون، ولكنه اضطر إلى منحه امتيازات عديدة حتى أنه أصبح فى الواقع مستقلا بحكم إشبيلية. وفى هذا العصر زاد نفوذ الأشراف -وهم حكام إقطاعيون كانوا يتبعون أمير قرطبة من الوجهة النظرية- فساعد ذلك على إضعاف سلطانه. وكان أهم هؤلاء الأشراف صاحب سرقسطة وإقليش ووشقة وأكسونبة Ocsonoba فى الجنوب الغربى.
اما ابن حفصون فإنه بعد أن أظهر شيئاً من الخضوع فى أول حكم عبد الله عاد إلى مناوأة الحكومة، وساعده مسيحيو قرطبة ورئيسهم الكونت سرفاندو، فامتد سلطانه إلى الجنوب حتى أصبحت العاصمة نفسها مهددة بالخطر، ولم يكن بد من الركون إلى العمل الحازم. وفى عام 278 هـ (891 م) زحف الأمير عبد الله على حصن بولي poly جنوبى قرطبة - واسمه الآن أكَولار Agwlar - وكان ابن حفصون قد اتخذه مقرًا له، وأرغم هذا الثائر على الالتجاء إلى قلعة بباشتر، وكان هذا النجاح سببًا فى تقوية سلطان الأمير، وساعده على إخضاع كورات إستجه وأرشذونة وإلبيرة وجيَّان مدة قصيرة.
وظل الأمير إلى آخر حكمه ينشر السلام فى بلاده ويصل فى ذلك إلى نتائج مختلفة، ولكن همته لم تفتر، ولم يدع خصومه الثائرين يهدأ لهم بال، ونجح بالتدريج فى توطيد سلطانه، وفصم عروة خصوم بنى أمية.
لما مات فى صفر عام 300 هـ (912 م) كان الموقف أكثر استقرارًا من ذى قبل. فقد مهد السبيل إلى نشر السلام فى ربوع الأندلس، وكان من أنشط العاملين على ذلك. وجاء حفيده فأكمل فى الجزء الأول من حكمه ما بدأه عبد الله.
(2)
خلافة الأمويين فى الأندلس
لما تولى عبد الرحمن الثالث بن محمد الأمر بعد جده عبد الله، كان فى الثالثة والعشرين من عمره. ورغم أنه كان
فتى فإن جده اختاره خليفة له لما كان له من عظيم الصفات، فكان اختيارًا صادف أهله. وليس فى تاريخ العصر الإسلامى فى الأندلس عهد أزهى وأبهر من عهد عبد الرحمن الثالث. كان حكمه طويلا، فقد حكم نصف قرن: من 300 - 350 هـ (912 - 961 م)، فتمكن الأمير من تنفيذ سياسته تنفيذا متواصلا منقطع النظير، وساعدته هذه المزايا على أن يخمد مراكز الثورة المختلفة التى كانت لاتهدأ فى الأندلس، منذ أن دخلها المسلمون؛ وظلت البلاد هادئة عشرات السنين. وفى عهد عبد الرحمن الثالث وخليفته الحكم الثانى، وفى العهد الذى كان الأمر فيه فى قبضة المنصور والمظفر الدكتاتورين العامريين، بلغ ملك المسلمين فى الأندلس أوج عظمته، ولم تستطع الأندلس بعد ذلك أن تصل إلى النفوذ السياسى والمدنية الزاهرة اللذين بلغتهما فى عهد هذين الأميرين، ولا فى أن يكون لها الشأن الأول فى الغرب وأوروبا وإفريقية.
ولا نريد تفصيل القول فى عهد عبد الرحمن الثالث، بل حسبنا أن نقتصر على دراسة أهم ما فيه. ونستطيع أن نقسمه إلى عصرين كبيرين: أولهما عمر إعادة السلام إلى البلاد، وقد تم فيه تحقيق الوحدة السياسية فى الإمبراطوية القرطبية. والعصر الثانى أطول من الأول، وأكثر ما يميزه الاشتغال بالشئون الخارجية وبالعلاقات بالممالك المسيحية فى الشمال، وبشمالى إفريقية الذى كان يحكمه الفاطميون.
ولما اعتلى عبد الرحمن الثالث العرش، بدأ فى العمل، ورسم لنفسه برنامجًا يقوم على القضاء على الثورات التى كانت تروى أرض الأندلس بالدماء منذ قيام الدولة الأموية، وعلى أن يشل سلطان أشراف العرب الأقوياء، وأن يحمى الثغور الإسلامية فى الشمال. وقد نفذ برنامجه جزءًا جزءًا. وفى العام الأول من حكمه استولى على إستجة، ودك حصونها. وقام بغزوة أخرى كانت نتيجتها الاستيلاء على قلعة مونتليون Monteleon الحصينة، ونشر السكينة فى إقليمى جَيَّان
وإلبيرة. وظل يخضع جنوب الأندلس إلى عام 305 هـ (917 م)، فخضعت له إشبيلية وبعدها قرمونة. ثم مات عمر ابن حفصون قائد الثورة الهرم، وحاول أبناؤه جعفر وسليمان وحفص أن يستمروا فى الكفاح، ولكن لم تكن لهم ثقة عظيمة فى نجاح أسلحتهم. وكانت النتيجة أن استولى عبد الرحمن على بباشتر بعد أن حاصرها بنفسه عام 315 هـ (أوائل 928 م)، وسقطت طليطلة آخر حصن للثورة بعد ذلك بخمس سنين. وكان أسلاف عبد الرحمن قد اضطروا إلى أن يمنحوها نوعًا من الاستقلال السياسى، ولكنه ضيق عليها الخناق حتى سلمت أخيراً عام 320 هـ (932 م).
على أن الأمير لم يغفل فى الوقت نفسه عن مطامع الملك المسيحية فى الشمال، ولاسيما مملكة ليون التى رسمت لنفسها برنامجاً للتوسع العمرانى، والتى كان يحكمها أوردونيو الثانى، وهو أمير طموح نشيط. واستولى أوردونيو على قلعة الحنش فى جنوب ماردة Merida. وبعد ذلك بقليل تمكن بمساعدة سانخو ملك (نبارة) نافار، من أن يرسل حملة إلى إقليمى تطيلة وفلتييره Valtierre. ولكن عبد الرحمن الثالث صد تقدمهما وأحرز انتصارات متوالية فى عام 308 هـ (920 م) بأن استولى على قلاع أوسمه وشنت اشتبان وكلونية وقرقر وقلهرة ومويز وانتصر فى وادى جنقويرة. وبعد ذلك بأربع سنين اعتدى أهل ليون من جديد، فانتهز الأمير فرصة الاضطرابات التى قامت فى ذلك البلد المسيحى بسبب ولاية الملك بعد أوردونيو الثانى، وأصلح الموقف لمنفعته فى حرب كللت بالنصر.
وكان عبد الرحمن طوال الجزء الأول من حكمه يرقب الحوادث فى إفريقية عن كثب ويقيم الحصون على الشواطئ، وينظم أسطولا قويا، وهو بذلك يستعد لغزوات الفاطميين التى قد تقع بعد أن أتى ضدهم أعمالا تدل على عداوة ظاهرة. ولكى يبرز هذه العداوة فى صورة أقوى، اتخذ لنفسه
لقب أمير المؤمنين عام 316 هـ (929 م) بعد أن كان أسلافه، بل هو نفسه، من قبل قانعين بلقب الإمارة فقط. وكانت المملكة القرطبية الصغيرة قد صارت فى الوقت نفسه إمبراطورية إسلامية عظيمة، وتمت بذلك عودة الخلافة الأموية إلى الأندلس، بعد أن انقضى أمرها فى دمشق، واتخذ لنفسه أيضاً لقباً تشريفياً فسمى نفسه الناصر لدين الله (انظر Espagne musulmane: E. Levi Provencal du Xeme siecle، طبعة باريس 1932 م، ص 45 وما بعدها).
وبعد ذلك بقليل استولى الخليفة عام (931 م) على قلعة سبتة وهى على شاطئ إفريقية، وعين لها حاكماً وأقام بها حامية، وكان هذا مبدأ غارة الأمويين على المغرب الأقصى. وقبل ذلك بعدة سنين كان حكام مملكة نكور قد طلبوا الانضواء تحت لواء الخليفة الأموى فأجيبوا إلى ذلك. على أن الناصر لم يقف عند هذا الحد واستطاع أن يضم إلى جانبه أمراء الولايات الصغيرة الذين كانوا يحاولون مقاومة غزاة الفاطميين، واستطاع بفضل محالفة عقدها مع المغراوة أن يخضع كل بلاد المغرب الأوسط ماعدا إقليم تاهرت.
ولا نرى لعبد الرحمن فى الجزء الثانى من عهده أعمالا كثيرة قام بها بنفسه. على أن الأحزاب أخذت تنشأ حينذاك فى قلب الإمبراطورية قرطبة المتحدة الهادئة. ولم يكن لها شأن يذكر فى أول أمرها، ولكنها صارت أخيرًا سببًا لاضطرابات عظيمة فى الشئون الداخلية للخلافة. وكان من هذه الأحزاب حزب الصقالبة وحزب البربر. والصقالبة أسرى أخذوا فى شرقى أوربا وإيطاليا وشمالى الأندلس، وسرعان ما صاروا طائفة كبيرة فى قرطبة، نجدهم فى عهد الناصر يتبوءون مناصب عالية فى الدولة، بل وفى الجيش.
ويظهر أن الخليفة استعان بالصقالبة -الذين أيدوه فى أول الأمر- فى الحد من سطوة أشراف العرب
القدماء، بل وفى محو آثارها؛ فمثلًا نجد الخليفة فى 327 هـ (939 م) يسند قيادة حملة حربية هامة إلى"نجدة الصقلبى". ولكنه ندم على ذلك فيما بعد؛ لأن جنود المسلمين فى هذه المرة ذاقت أول نكبة إبان حكمه: هزمهم أهل ليون وحلفاؤهم أهل نبارة بقيادة رميرو الثاني، وكان ذلك فى شنت مانكس والخندق. ومن ذلك الحين كانت سياسة الناصر إزاء الممالك المسيحية مقصورة على انتهاز كل فرصة ممكنة، سياسة منطوية على اليقظة والحذر.
ثم نشبت الحرب الأهلية فى شمالى أسبانيا بسبب الحقد المتأصل بين رميرو الثاني وفرنان أمير قشتالة. ولما مات ملك ليون اقتلر ولداه - أوردونيو Ordono الثالث وسانخو sancho - على الملك. ولكى يتفرغ أولهما للتغلب على أخيه الذى كانت تؤيده قشتالة، عقد مع عبد الرحمن معاهدة سلام فى صالح الخليفة، وتعهد بأن يدفع له جزية منتظمة. ولما مات أوردونيو الثالث عام 955 هـ خلفه سانخو. ونظرًا لكراهية الأشراف له وهزيمته أمام جيوش الخليفة، اضطر إلى أن يلجا إلى بمبلونة مع توتا ملكة نبارة العجوز. وبعد ذلك لجأ إلى عبد الرحمن الناصر ليساعده على استعادة مملكته التى استولى عليها أوردونيو الرابع، فبدأت المفاوضات وأتى سانخو وتوتا إلى قرطبة يطلبان العون من الخليفة، واضطر ملك ليون أن ينزل عن عشر قلاع فى مقابل إمداد الخليفة له بجنود ساعدته على أخذ سمورة عام 959 م، أوبيط Oviedo فى السنة التالية.
على أن خطر الفاطميين الذى كان يهدد الأندلس لم تختف كل معالمه؛ ففى عا م 343 هـ (954 م) أرسل الخليفة الفاطمى المعز وإليه على صقلية ليغير على ثغور الأندلس. وأجاب الناصر على ذلك بأن أمَّر"غالبا" -وهو واحد من أنصاره المخلصين- على أسطول يتألف من سبعين سفينة، سارت وأحرقت مرسى الخرز، قرب القلعة على ساحل إفريقية الشمالية.
ومات عبد الرحمن الثالث الناصر فى اليوم الثاني من رمضان عام. 350 هـ (15 مايو 961 م) وكان فى الثالثة والسبعين من عمره.
ثم جاء بعده ابنه الحكم الثانى المستنصر بالله، وولى الخلافة وهو يقارب الخمسين، فواصل أعمال أَبيه. وكان ملكًا ورعا. عالمًا، يقترن اسمه خاصة بمسجد قرطبة؛ لأنه وسعه وزينه بالزخارف، وأنفق عليه مبالغ طائلة وأحضر له مهرة الصناع وغالى المواد من بلاد البحر المتوسط ومن بوزنطة. وكان أكبر همّ أَبيه متجهًا إلى تشييد المبانى العامة وإقامة الحصون، وبنى مدينة الزهراء على مسافة ثلاثة أميال شمالى غريب قرطبة لتكون مقرًا له.
وكانت محبة الحكم الثانى للعلم سببًا فى أن يميل إلى الحياة الهادئة من أول الأمر، ولكن المؤرخين يبالغون فى تصويره خليفة لا يعنى بالأمور السياسية. وكان على الحكم أن يحافظ على الحالة التى ترك أبوه البلاد عليها، فلم يكن عليه إلَّا أن يراقب سير دواليب الحكومة من غير اضطراب. وقد نفذ برنامج أَبيه، وكان مترسما لخطاه فى أن لايظل متفرجًا لا يبدى حراكا أمام ما يقع فى شمالى أسبانيا وفى إفريقية.
واستقبل الحكم الثانى أخا سانخو - واسمه أوردونيو الشرير Ordono the Wicked - استقبالًا فخمًا، وصار بالتدريج راعيًا لكل الأمراء المسيحيين فى الشمال كأنهم ولاة يتبعون له.
وكان ساعده الأيمن فى السياسة حاجبه"المصحفى" وكبار الصقالبة، ولعله أسرف فى الثقة بهم إسرافًا يستحق عليه اللوم. وظلت الحكومة الأموية تبذل نشاطًا عظيمًا على شواطئ إفريقية، وكان يظن أن خطر الفاطميين قد زال عند ما رحل المعز إلى مصر، ولكن ممثليه بني صنهاج عادوا إلى مناوأة ولاة بني أمية فى إفريقية الشمالية. ومن جهة أخرى ظل أمراء الأدارسة فى إقليمى طنجة وأصيلا موالين للفاطميين، وقد قاوم حسن بن قَنُّون مقاومة طويلة، ولكنه أخذ فى قلعته"حجر النسر" وأرسل أسيرًا إلى قرطبة. ويمتاز عهد الحكم الثانى بتجدد محاولة النورمانديين (انظر المجوس) للدخول فى أسبانيا عام 355 هـ (966 م).
ثم أحس الحكم الثانى ببلوغه الكبر، فصار أكبر همه أن يحفظ الخلافة فى أبناء الأمويين. ولم يكن له سوى ابن واحد لا يزال فتى وهو هشام، فأخذ له من النَّاس البيعة ليتولى الخلافة من بعده، ومات بعد ذلك فى الثالث من صفر سنة 366 (الأول من أكتوبر سنة 986).
وعهد هشام الثانى المؤيد بالله ثالث خلفاء بني أمية فى الأندلس هو عصر قيام دكتاتورية وراثية فى بني عامر. وقبضهم على السلطة المدنية والحربية، بعد زحزحة الخليفة إلى قصره وتجريده من الاضطلاع بمهام السياسة.
والظروف التى نشأ فيها هذا الوضع الجديد بعد وفاة الحكم الثانى معقدة جدًا ولكنها معروفة تمامًا .. وحسب القول بأن ذلك الحاجب المشهور أبقى للخليفة الناشئ استعمال السلطة العليا من الوجهة النظرية ومع ذلك فإنه -مع مطامعه التى لم تكن تقف عند حد- لم يفكر فيما يظهر تفكيرًا جديًا فى خلعه والجلوس مكانه. فكانت كل الأعمال الرسمية تسير باسم هشام الثانى، ويظهر أنه لم يبد أقل ميل إلى مقاومة نفوذ بني عامر فى بلاده، والحقيقة أن ضعف الخلافة الأموية لم يظهر إلا بعوإن ذهب المنصور.
وواصل المنصور سياسة عبد الرحمن الثالث والحكم الثانى باسم هشام الثانى، وطبعها بشخصيتة القوية، وأقام المنصور فى غربى بلاد البربر شبه نظام للحماية بحيث صارت نفقات إفريقية أقل ضغطا على ميزانية الخليفة. وكان المنصور قائدَا مظفرًا، شديد العداوة للممالك المسيحية، وكان يوجه ضدها الحملات فى كل عام تقريبًا حفظًا لهيبته. ونذكر من هذه الحملات حملة قطالونية عام 374 هـ (985) التى هزم فيها الكونت بوريل found Borrel. واستولى على برشلونة. وبعد ذلك بثلاث سنين تحول المنصور إلى ليون وحاكمها برموره الثانى - Ber mura II الذى خالف معاهدة بينه وبين قرطبة؛ فاستولى على قلمرية وليون وسمورة.
وكان للمنصور فخر الانتصار فى حملته الشهيرة على جليقية وفيها استولى على شئت ياقب فى 2 شعبان سنة 387 (10 أغسطس سنة 997). وفى عام 392 هـ (1002 م) قاد جيوشه إلى قشتالة فاستولى على قنالش Canates وسان ميلان ديلا كوجولا ومات فى مدينة سالم وهو عائد من حملته الظافرة فى السنة نفسها.
تدهور الخلافة الأموية وسقوطها
بعد موت المنصور عين هشام الثانى ابنه عبد الملك حاجبًا له، وكان قبل ذلك بسنين قد اشتهر فى إفريقية. وظلت بلاد الأندلس خلال السنين الست الأولى من استيلائه على السلطان يسودها السلام. وعزز عبد الملك جيش الخليفة بجنود جدد استحضر أكثرهم من إفريقية، وقام بحملات كثيرة ضد ممالك الشمال. ففى عام 393 هـ (1003) سير حملات متوالية على قطالونية، وفى عام 395 هـ (1005) وجهها إلى جليقية، وفى عام 396 هـ (1006) إلى بمبلونة، وفى عام 397 هـ (1007) إلى أهل قشتالة فهزمهم فى كلونية. وبعد هذه الحملة التى فاز فيها أخيرًا لقب نفسه بلقب تشريفى هو المظفر بالله. ورغم معارضة صامتة كانت فى قرطبة ضد استبداد بني عامر، ورغم مؤامرات عديدة قضى عليها سريعًا، فإن عبد الملك المظفر عمل على إطالة أَجل الخلافة الأموية بضع سنين. وكانت حياته شاذة من غير شك، ولكنها كانت بعيدة عن الأخطار الكبيرة فى الداخل أو
الخارج، على أنه سرعان ما مات، ويقال إنه مات مسموما بإيعاز أخيه عبد الرحمن الذى خلفه بموافقة هشام الثانى الخليفة الضعيف.
وكان عبد الرحمن ابنًا للمنصور من أميرة مسيحية تزوج بها هى ابنة سانخو Sancho ملك نبارة، ولذلك كان الحاجب الجديد يسمى سانخويلو Sanchuelo أى سانخو الصغيره وبعد قبضة على زمام الأمر بقليل من الزمن
جلب على نفسه كراهية شديدة من أهل قرطبة لتجاوزه الحدود التى حذر أبوه وأخوه قبله من مجاوزتها، فقد اعتز بتأييد جنود البربر فاستولى عليه جشع لم يكبح جماحه، وفكر فى أن يكون خلفًا لهشام الثانى وأن يلقب نفسه بلقب الخلافة،
وكان الخليفة من الضعف بحيث أجاب طلب عبد الرحمن. وفى عام 399 هـ (1008) صدر مرسوم بجعل عبد الرحمن وليا للعهد على عرش قرطبة. وأثار هذا الإعلان البلاد جميعًا على بن ي عامر؛ فقام حرب المتذمرين، وزاد عددهم زيادة كبيرة بعد هذا الآمر الذى لم يكن يتوقعه أحد. وتولى القيادة أمراء بني أمية المحرومون من العرش، فانتهزوا سفر عبد الرحمن بن أبي عامر فى حملة على جليقية وأشعلوا الثورة فى العاصمة، وحاصروا قصر الخليفة وأرغموه على أن ينزل عن العرش لحفيد الناصر، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار الذى نودى به خليفة ولقب المهدي عام 399 هـ (1008). وأخلى الخليفة الجديد قصر بني عامر المسمى المدينة الزهراء وجعله دكا، وبعد ذلك بأيام أسرع عبد الرحمن راجعًا إلى قرطبة فقبض عليه على مسافة قليلة من العاصمة هو وحليفه المخلص الكونت كاريون Carrion Count ثم قتل.
ومن ذلك الحسين إلى سقوط الخلافة -الذى لم يكن بعيدًا- سادت الحرب الأهلية فى قرطبة وإمبراطورية الخلفاء، وزاد العنصر البربرى بجنود صنهاجة التى أتى به ابن وعامر من إفريقية، وكان له شأن كبير فى الاضطرابات التى جاءت بعد ذلك. وبدلا من أن يعمل المهدي على مصالحة رؤساء الجنود المرتزقة أسخطهم بما أبداه لهم من الجفاء والاحتقار، ولا سيما بطرده عددًا كبيرًا من الأفريقيين من ديوان الجند، فانضم المتذمرون من دهماء قرطبة إلى هؤلاء المطرودين، واستمالوا أهل البلاد، وسرعان ما نادوا بخلافة أمير جديد هو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ولقب المستعين بالله. واستولى البربر مع الخليفة
الجديد على قلعة رباح Calatrava ووادى الحجارة، وحاولوا عبثًا فى مدينة سالم أن يضموا القائد "واضحًا" إلى حركتهم، ولكنهم لجئوا إلى أهل قشتالة وأفلحوا فى استمالتهم، ثم عادوا إلى قرطبة بعد أن أمدهم أهل قشتالة بالقوة والمؤونة. وعجز المهدى عن صد زحفهم فوقعت العاصمة فى أيديهم، وقام زعيم صنهاجة زاوى بن زيرى بإجلاس سليمان المستعين على عرش الخلافة.
على أن المهدى لم يعترف بالهزيمة، فاستعان بواضح وبكونت ريموند حاكم برشلونة والكونت أرمنجود حاكم أرجيل، وأغار على سليمان المستعين وأنصاره من البربر فى عقبة البقر جنوبى قرطبة، فأخذ عليهم السبل، وعاد ظافرًا إلى العاصمة بعد أن نهبها أهل قطالونية، ولكن البربر جمعوا شملهم واستولوا على ما بين البحر المتوسط ونهر الوادى الكبير. وعذب أهل قرطبة وما حولها.
وأمام هذه الحوادث ألقى أهل قرطبة على خليفتهم المهدى تبعة الشرور التى حلت بهم، بعد أن صار ضعفه واضحًا لهم، فدبرت مؤامرة ذبح المهدى فيها، وأعيد هشام الثانى إلى العرش (ذو الحجة سنة 400 = يولية سنة 1010).
وكان أول ما عني به هشام بعد عودته إلى الملك هو أن يعين واضحًا كبيرًا لوزرائه وأن يصالح البربر، فأبى هؤلاء وعادوا إلى حصار قرطبة، وظلت الحال على ذلك إلى عام 1013 م. وقد خلف لنا مؤرخو العرب تفاصيل وافية عن المؤامرات التى حيكت شباكها فى قرطبة، كما خلفوا لنا قصصًا كثيرة عن المحاصرين. واضطر أهل قرطبة آخر الأمر إلى التسلم، وأرغمهم البربر على تجديد يمين البيعة لسليمان المستعين.
عين سليمان البربر فى مناصب الحجاب والوزراء، وأصاب أهل قرطبة اضطهاد لم يسبق له مثيل، وذهب آخر من نجا من الصقالبة الذين كانوا أيام بنى عامر إلى اللحاق بأقربائهم فى شرقى بلاد الأندلس. واتفق أهل قرطبة
على أن يسلموا مقاليد أمورهم إلى على بن حمود حاكم سبتة Ceuta' وهو من العلويين الطامحين - فانتهز عليّ فرصة تفرق البربر الذين كانوا يؤازرون المستعين، وزحف على قرطبة، واستولى عليها ونادى بنفسه خليفة عليها (406 هـ = 1016 م) وقتل المستعين. ولكن على ابن حمود قتل بعد ذلك بقليل
ولم تكن السنون التالية لذلك أقل اضطرابًا، وطالب بالعرش بعد عليّ قاسمٌ بن حمود وابن أخيه يحيى بن على، وكان يطالب به من الأمويين عبد الرحمن الرابع بن محمد المرتضى، وعبد الرحمن الخامس المستظهر، ومحمَّد الثالث المستكفى، وهشام الثالث المعتد، وكانوا يقتسمون سلطانا مزلزل الدعائم حتى عام 420 هـ (1030 م). على أن بلاد الأندلس كلها ملت تغير الحكومة المستمر، وعزم أهل قرطبة على إلغاء الخلافة إلغاء تامًا. واختفى هشام الثانى، ويجوز أنه قتل أثناء إغارة على القصر أو هرب منه كما قيل، فترك الأندلس وذهب ليقضى ما بقي من أيامه مستخفيًا فى الشرق، ويصعب القطع والتدقيق فيما انتهت إليه حياته الخالية من العظمة. وأيا ما كان الأمر فإن دولة الأمويين فى الأندلس أخذت تتمزق بعد وحدتها السياسية منذ بدء القرن الحادى عشر، وسرعان ما أعلنت ولايات أسبانيا الإسلامية استقلالها تحت سلطان حكام من الأسبان أو الصقالبة أو البربر، وتكونت ممالك صغيرة يعرف عهدها بعهد ملوك الطوائف؛ أما قرطبة فسرعان ما صارت شبه جمهورية صغيرة تحولت بسرعة فى عهد بنى جهور وصار لها شأن.
وعلى أى حال فإن بضع عشرات من السنين كانت كافية لهدم الدولة الوطيدة الأركان التى أقام بناءها أمراء بنى أمية العظام وأكبرهم عبد الرحمن الناصر، وهو من أعظم حكام العصور الوسطى وحكام الإسلام.
ملوك بنى أمية فى الأندلس
هشام
معاوية
(1)
عبد الرحمن الأول
(2)
هشام الأول
(3)
الحكم الأول
(4)
عبد الرحمن الثانى
(5)
محمد الأول
(6)
المنذر
(7)
عبد الله
(8)
عبد الرحمن الثالث
(9)
الحكم الثانى
(10)
هشام الثانى
(11)
محمد الثانى
(12)
سليمان
(13)
عبد الرحمن الرابع
(14)
عبد الرحمن الخامس
(15)
محمد الثالث
(16)
هشام الثالث
المصادر:
كان تاريخ بنى أمية فى الأندلس موضع عناية المؤرخين، فكتبوا فيه كتبًا كثيرة فى بلاد الأندلس ذاتها فى عهد بنى أمية وبعدهم أيضًا، ومن أسف أن الأيام لم تحفظ لنا كل هذه الكتب التى كان أهمها كتب الرازى وابن حيان. كتب أحمد بن محمد الرازى -الذى عاش فى النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادى) - تاريخًا لملوك الأندلس الإسلامية أسماه "أخبار ملوك الأندلس"، وكان هذا الكتاب أكبر مصدر للمؤرخين من بعده. ونستطيع أن نذكر من المراجع التى كتبت فى الوقت نفسه الكتب الآتية، وذلك على حسب ترتيبها التاريخى:
(1)
كتاب لا يعرف مؤلفه واسمه: أخبار مجموعة (ترجمه إلى الأسبانية ونشره E. Lafuente y alcantra بمدريد 1867 بعنوان Ajbar machmua، cronica anonima del riglo XI، وهو تاريخ شائق يمثل الحوادث تمثيلا جيدًا، حافل بمعلومات يظهر أنها بريئة من الأساطير المختلطة بتاريخ المسلمين فى الأندلس حتى أيام عبد الرحمن الثالث.
(2)
كتاب افتتاح الأندلس لابن القوطية القرطبي المتوفى عام 368 هـ (977 م)
وهو يشمل تاريخ المسلمين فى الأندلس إلى أيام الناصر. وقد طبع فى مناسبات كثيرة، وترجمت أجزاء منه، وترجمه كله أخيرًا Ribera فى مدريد عام 1926. (3) ولحيان بن خلف بن حيان -وهو مؤرخ كبير تُوفِّي عام 496 هـ (1076 م) - كتاب عظيم اسمه "المقتبس فى تاريخ الأندلس" وآخر اسمه المتين. ولكن لم يخلص إلينا من ذلك إلا مخطوط لجزء واحد يتناول عهد الأمير عبد الله وهو محفوظ فى مكتبة بودليانا (وقد نشره Melchor. M. Atuna بعنو أن: ، - a L'his Textes arabes relatifs roire de L'occident musulman جـ 3، باريس 1932). وتوجد فى مكتبة الأكاديمية بمدريد نسخة من مخطوط وجد فى الآستانة يشمل جزءًا من عهد الحكم الثانى. ولحسن الحظ حفظت منه مقتبسات كثيرة فى كتب المؤرخين الذين جاءوا بعد ذلك وخصوصًا ابن بسام فى كتابه المسمى الذخيرة.
(4)
ولنذكر أَيضًا مما كتب فى الأندلس ذاتها "تاريخ قادس" من أعمال قرطبة لصاحبه الخشافى (ترجمه ونشره Ribera .J بعنوان Historia de los fueces de Cordoba، مدريد سنة 1914).
(5)
وبين سنة 1883 وسنة 1895 نشر J.Ribera و F. Codera كتاب Bib- liotheca arabio-hispona فى عشرة أجزاء جمعا فيه ما صنفه كتاب التراجم من أهل الأندلس. ولكن لا شك أن أوفى المراجع الخاصة بتاريخ الأمويين فى قرطبة كتابان متأخران نسبيًا أحدهما يرجع إلى القرن الرابع عشر وهو كتاب ابن عذارى المراكشى، وثانيهما يرجع إلى القرن السابع عشر وهو كتاب المقري، ويسمى الأول "البيان المغرب فى أخبار ملوك الأندلس والمغرب" وقد عرف من هذا الكتاب ثلاثة أجزاء اثنان منها يتناولان الأندلس، ويشمل أولهما تاريخ شبه الجزيرة منذ الفتح العربى إلى وفاة الحاجب المنصور بن أبي عامر. وهذا الجزء يعيد -كما أبان دوزى- كل الجزء الخاص بالأندلس فى كتاب لمؤرخ قرطبى من مؤرخى القرن العاشر هو عريب بن سعد الذى أكمل تاريخ الطبرى حتى انتهى به إلى عصره
(نشر دوزى كتاب عريب بعنوان Afrique et de 1'Espagane in- l' Histoire de titulee al Byano l - mogrib، طبعة ليدن سنة 1848 - 1851 وترجمة إلى الفرنسية E. Fagnan ونشره فى الجزائر سنة 1901 - 1904، وترجم بعضه إلى الأسبانية Fernandez Gonzalez، غرناطة 1862). والجزء الثانى يتناول تاريخ سقوط خلافة بنى أمية من أيام عبد الملك العامري وتاريخ ملوك الطوائف وقد عشر على هذا الجزء ونشره (بعنوان Tex- tes arabes relatifs a L'histoire de l'Occident musulman جـ 2، باريس 1930). والكتاب الثانى ليس أقل من "البيان المغرب" شأنًا فى دراسة تاريخ بنى أمية، وهو كتاب "نفح الطيب" للمقرى المغربى، نشر نصفه الأول دوزى وديجاوكربل ورايت بعنوان Analectes sur l'histoire et la litterature des arabes d'Espagne، ليدن 1855 - 1861 (وطبع فى بولاق سنة 1279 هـ وفى القاهرة ونشر مختصرًا له بالإنجليزية P. de Gayangos بعنوان The History of the Muhammedan Dynasties in Spain، لندن سنة 1840 - 1843. ويخصص ابن خلدون جزءًا من كتابه العبر لتاريخ بنى أمية فى الأندلس (طبعة القاهرة جزء 4، ص 116 - 155) على نحو ما فعل المؤرخون المتقدمون كابن الأثير فى كتابه الكامل (ترجمه F. Fagnan بعنوان (maghreb et de L'Espagne الجزائر سنة 1901) والنويرى فى كتابه نهاية الأرب History of Spain وقد نشره مع ترجمة أسبانية M.Gaspar Remiro فى غرناطة 1917 - 1919).
ويمكن إكمال هذه العجالة فى المصادر العربية المتعلقة بتاريخ بنى أمية بالرجوع إلى كتاب F. Pons Boigues وهو قيم جدًا وإن أصبح اليوم من المراجع القديمة وهو - Ensayo bio - bib liografico sobre los historiandores y geografos arabigo- espanoles طبعة مدريد 1898، وإلى مختصر جيد كتبه Barrau - Dihigo واسمه Recherches sur l'hisotire Politique du royaume asturien تورز سنة 1921، ص 55 - 78.
[ا. ليفى بروفنسال E. Levi - Provencal]