المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فقهاء تونس (1) ألقيت نظرة على تاريخ الفقه في تونس، واستخلصت - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١١/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(20)«توْنس وَجامِعُ الزَّيْتُونَة»

- ‌المقدمة

- ‌فقهاء تونس

- ‌شعراء تونس

- ‌الحالة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌الدولة الحسينية في تونس

- ‌الشعر التونسي في القرن الخامس

- ‌حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية

- ‌حياة أسد بن الفرات

- ‌نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي

- ‌نظرة في حياة وزير تونسي

- ‌الشيخ محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها

- ‌الشيخ محمد النجار من أفاضل علماء تونس

- ‌أحمد أبو خريص

- ‌الشيخ محمد بيرم الثاني نسبه وولادته ونشأته

- ‌الشيخ محمد الخضار من علماء تونس الأجلَّاء

- ‌السيد محمد النيفر من كبار علماء جامع الزيتونة في القرن الماضي

- ‌السيد محمد الطاهر بن عاشور

- ‌عمر بن الشيخ من أعاظم أساتذتي بجامع الزيتونة في تونس

- ‌أحمد كريم

- ‌محمد بن الخوجة من أركان النهضة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌أحمد الورتاني

- ‌محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس

- ‌علي الدرويش من علماء تونس الفضلاء

- ‌تونس

- ‌سَالم بوحَاجب آيَة من آيَات العبقريّة

الفصل: ‌ ‌فقهاء تونس (1) ألقيت نظرة على تاريخ الفقه في تونس، واستخلصت

‌فقهاء تونس

(1)

ألقيت نظرة على تاريخ الفقه في تونس، واستخلصت منه هذا الحديث: وإذا تحدثت عن فقهاء تونس، فلا أتحدث عمَّن يحفظ أقوال أهل العلم ويلقيها في الدرس، أو يجمعها في كتاب على نحو ما حفظها، وإنما أتحدث عمَّن درس أحكام الشريعة، وعرف وجه ارتباطها بأصولها، وإذا تجددت حادثة، استطاع أن يرجع إلى دلائل الشريعة، ويستنبط لها حكماً ينطبق عليها.

أخذ الفقه الإسلامي يدخل البلاد التونسية منذ ابتداء فتحها في عهد معاوية بن أبي سفيان؛ فقد توارد عليها أيام الفتح جماعات من الصحابة والتابعين والمتفقهين في الدين؛ مثل: عبد الله بن الزبير، وعقبة بن نافع، وينبئنا التاريخ: أن الفقه كان في عهد عمر بن عبد العزيز يتلقى في تونس على طريق الدراسة والتعليم، فإن هذا الخليفة ندب عشرة من أعيان التابعين، وبعث بهم إلى أفريقية ليعلموا البربر واجبات الدين وأحكامه، ومن بين هؤلاء الأعيان: عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وهو أول من ولي القضاء بالقيروان، وكانت مدينة القيروان يومئذ مقر الإمارة، فأصبح جامعها الذي أسسه الفاتحون

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد السادس عشر الصادران في رجب وشعبان 1362.

ص: 8

الأولون معهداً للعلوم الإسلامية، ومصدراً للفتاوى والأحكام.

وأخذ أهل تونس يرحلون إلى الشرق لتلقي علوم الشريعة، ومن هؤلاء الراحلين: عبد الرحمن بن زياد المعافري، فتلقى العلم عن جماعة من التابعين، وكان من رفقائه في طلب العلم الخليفة أبو جعفر المنصور، ثم عاد عبد الرحمن إلى القيروان بعلم غزير.

ورحل بعد هذه الطبقة طائفة أخذوا عن الإمام مالك وغيره من الأئمة، ثم عادوا إلى تونس بعلم واسمع؛ مثل: علي بن زياد، وهو أول من دخل تونس بموطأ مالك بن أنس، ومثل أسد بن الفرات الذي تلقى العلم عن مالك بالمدينة، ثم عن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة بالعراق، وعاد إلى تونس وهو على علم بأصول مذهبي مالك وأبي حنيفة وفروعهما، وهذا الفقيه هو البطل الذي فتح صقلية في عهد الأغالبة، فجمع بين القضاء العادل، وقيادة الجيوش المظفرة.

وما أتى على تونس مئتا سنة من الهجرة النبوية إلا وقد ظهر فيها أعلام بلغوا الذروة في الفقه، وأحكموا صناعة القضاء

وظهر بعد هؤلاء الذين لاقوا مالكاً طبقة أشهرهم: الإمام عبد السلام ابن سعيد المعروف بسحنون، نشأ سحنون وشبّ في القيروان، ثم رحل إلى مصر، وتلقى فقهاً كثيراً عن ابن القاسم، وألف كتاب "المدونة"، وعنه انتشر مذهب مالك في تونس، بل في المغرب كله، وتخرج بين يديه رجال خدموا الفقه بالاستنباط والتدريس والتأليف.

هذا هو الأساس الذي ارتفع عليه صرح الفقه في تونس، واستمر جامع القيروان يخرج للناس أكابر الفقهاء الذين بلغوا درجة الاستنباط أو الترجيح

ص: 9

بين الآراء، وألفوا فأحكموا صناعة التأليف، كما أخرج في المئة الثالثة محمد ابن إبراهيم بن عبدوسي، والقاضي موسى بن عمران المعروف بالقطَّان، وأخرج في المئة الرابعة عبد الله بن أبي زيد صاحب كتاب "النوادر"، وأخرج في المئة الخامسة عبد الحميد المعروف بابن الصائغ، وعلي بن محمد المعروف باللخمي، وعبد الخالق السبوري.

وبين أيدي هؤلاء الأساتذة تخرج الإمام محمد بن علي المعروف بالمازري، فازدهرت بعلومه المئة السادسة.

وفي أواخر المئة السادسة انتقل كرسي الإمارة إلى مدينة تونس؛ حيث اختارها عبد المؤمن بن علي وخلفاؤه مقراً للإمارة، وأصبحت الحركة العلمية تنمو في هذه المدينة إلى أن صار جامع الزيتونة محطَّ رحال طلاب العلم بدل جامع القيروان.

وظهر في المئة السابعة علماء أجلاءة مثل: أبي أحمد المعروف بابن زيتون، وهو أول من أظهر بعد عودته من الشرق مؤلفات فخر الدين الرازي في الأصول، ودرسها بتحقيق.

وظهر في المئة الثامنة أعلام يشار إليهم بالبنان؛ مثل: محمد بن عبد السلام الهواري، ومحمد بن هارون الكناني، وتحدث أبو عبد الله المقري قاضي فاس عن زيارته لتونس في ذلك العهد، وذكر لقاعه لهذين الإمامين، ثم قال:"ولقيت غير واحد من علمائها".

ومن تلاميذ محمد بن عبد السلام: أبو عبد الله محمد بن عرفة، وأبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، وتخرج في دروس ابن عرفة علماء ازدانت المئة التاسعة بدراساتهم وآرائهم ومؤلفاتهم؛ مثل: أبي عبد الله

ص: 10

الأبي، وأبي القاسم البرزلي.

وجرت في تونس بعد هذا فتن وحروب عطلت سير العلم، وأتلفت كثيراً من خزائن الكتب حتى كادت المئة العاشرة تنقضي دون أن يكون هنالك رجال لهم في الفقه أقدام راسخة، وأنظار ثاقبة.

وفي آخر المئة العاشرة التحقت تونس بولايات الدولة العثمانية. ويقول المؤرخون: أول من كسا القضاء فيها عظمة وكرامة بعد الاستيلاء العثماني: أبو الحسن النفاتي المتوفى سنة 1049.

وكان القضاة بعد هذا يبعثون من البلاد التركية، وهم متفقهون على مذهب أبي حنيفة، وورد غيرهم من العلماء، فشدوا أزر النهضة العلمية، فسارت في قوة ونشاط، وأخذت تونس تخرج كبار الفقهاء؛ مثل: الشيخ محمد زيتونة، والشيخ محمد سعادة.

ومن هنا رأى الأمير محمد حسين باي أن البلاد في غنى عن القضاة الذين يبعثون من الآستانة، وعين من الوطنيين قاضياً مالكياً، وقاضياً حنفياً، وكان هذا الأمير يصطفي لمجلسه صفوة العلماء، فأقام للعلم سوقاً نافقة، وما أقبلت المئة الثالثة عشرة حتى كانت تونس عامرة بأجلة الفقهاء. وجاء الأمير أحمد باي، ونظم التعليم بجامع الزيتونة سنة 1256 هـ، فازدادت النهضة العلمية قوة على قوتها، واشتهرت بيوت بإقبال أبنائها على العلم، وتوليهم للمناصب الشرعية، كآل النيفر، وآل عاشور بين فقهاء المالكية، وآل بيرم، وآل أبي الخوجة بين الفقهاء الحنفية.

كان نظام التعليم بالمعهد الزيتوني من أسباب تنافس أصحاب المذهبين: المالكي، والحنفي في ميدان العلم، ويضاف إلى هذا: أن في العاصمة محكمة

ص: 11

مالكية، ومحكمة حنفية، وكل منهما يتألف من قاض، ورئيس للفتوى، وثلاثة أو أربعة من المفتين، أما القضاة والمفتون في سائر البلاد، فيعينون من الفقهاء المالكية، نظراً إلى أن المذهب المالكي هو الذي يأخذ به معظم الوطنيين.

وقد أخرج جامع الزيتونة بعد هذا النظام فقهاء أجلة، يعتزون بعلمهم، ويزهدون في المناصب، إلا أن تحيط بها العزة والكرامة، وأدركت من هؤلاء الفقهاء أساتذة بلغوا غاية بعيدة في سعة العلم، وتحقيق البحث؛ مثل: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ أحمد بن الخوجة، والشيخ محمد النجار، ومن نظر في فتاوى هؤلاء الأساتذة، أو رسائلهم التي حرروا بها بعض المسائل العويصة، رآهم كيف يرجعون إلى الأصول والقواعد ومراعاة المصالح، ولا يقنعون بنقل الأقوال دون أن يتأوَّلوها بالنقد والمناقشة.

ويدلنا التاريخ القريب أن بعض رجال الدولة وجدوا عندما اتجهوا إلى إصلاح الحالة السياسية أو العلمية أو الاجتماعية فقهاء يدركون مقتضيات العصر، ويعرفون كيف تسعها أصول الشريعة بحق، فكانوا يعقدون منهم بعض لجانهم، ويستنيرون بآرائهم؛ مثل أساتذتنا: الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ سالم أبي حاجب، والشيخ مصطفى رضوان.

وما زال الرسوخ في الفقه، وربط الأحكام بأصولها، من عناية الأساتذة في جامع الزيتونة، يشهد بهذا ما نقرؤه من محاضراتهم وفتاواهم ومقالاتهم التي تنشر في الصحف التونسية أو المصرية.

وإذا كان لهذا الحديث خلاصة، فهي: أن كثيراً من فقهاء تونس كانوا يدرسون الفقه بأنظار مستقلة، وآراء تستضيء بالأدلة، وكانوا يتنافسون في هذه الطريقة، ويتفاوتون فيها على قدر تفاضلهم في العبقرية وسموِّ الهمة.

ص: 12

فإذا ما تصدى مؤرخ للحديث عن الفقهاء الذين برعوا في فهم حكمة التشريع، وشملوا الحقوق برعاية وصيانة، فإن كثيراً من فقهاء تونس أهل لأن يذكروا في مقدمة أولئك الفقهاء.

ص: 13