المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشعر التونسي في القرن الخامس - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١١/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(20)«توْنس وَجامِعُ الزَّيْتُونَة»

- ‌المقدمة

- ‌فقهاء تونس

- ‌شعراء تونس

- ‌الحالة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌الدولة الحسينية في تونس

- ‌الشعر التونسي في القرن الخامس

- ‌حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية

- ‌حياة أسد بن الفرات

- ‌نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي

- ‌نظرة في حياة وزير تونسي

- ‌الشيخ محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها

- ‌الشيخ محمد النجار من أفاضل علماء تونس

- ‌أحمد أبو خريص

- ‌الشيخ محمد بيرم الثاني نسبه وولادته ونشأته

- ‌الشيخ محمد الخضار من علماء تونس الأجلَّاء

- ‌السيد محمد النيفر من كبار علماء جامع الزيتونة في القرن الماضي

- ‌السيد محمد الطاهر بن عاشور

- ‌عمر بن الشيخ من أعاظم أساتذتي بجامع الزيتونة في تونس

- ‌أحمد كريم

- ‌محمد بن الخوجة من أركان النهضة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌أحمد الورتاني

- ‌محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس

- ‌علي الدرويش من علماء تونس الفضلاء

- ‌تونس

- ‌سَالم بوحَاجب آيَة من آيَات العبقريّة

الفصل: ‌الشعر التونسي في القرن الخامس

‌الشعر التونسي في القرن الخامس

(1)

نهضة أدبية راقية، ظهرت بتونس في القرن الخامس للهجرة، نهضة أشرقت سماؤها بنجوم زاهرة، وقذفت بحارها بدرر فاخرة، ولهذه النهضة مهيئات ساعدت على نشأتها، وسمو غايتها، وبهجة أثرها.

من مهيئاتها: أن للأدب في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس سوقاً قائمة في الشرق؛ أعني: العراق والشام ومصر، وسوقاً قائمة بالغرب؛ كبلاد الأندلس.

وموقع البلاد التونسية بين هاتين النهضتين، بحيث يعبر عليها أدب الشرق إلى الغرب، وأدب الغرب إلى الشرق، فلا جرم أن تهز تونس نشوة البلاغة حتى تسابق في حلبة البيان بخطا واسعة المدى.

ومن مهيئات تلك النهضة الأدبية: أن القيروان التي هي مبعث نورها، كانت دار العلوم بالمغرب، يرحل إليها طلاب العلم، ويغترفون من بحار معارفها الزاخرة، ومن بين علومها الزاهرة: علوم اللغة العربية وآدابها.

ولا أطيل الحديث عن ازدهار هذه العلوم بالقيروان، فقد ألف في أخبار القيروان وتراجم علمائها وأدبائها كتب كثيرة، وأكتفي بأن أقول:

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد التاسع الصادر في رجب 1355.

ص: 47

إن من علمائها الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع، أو أدركوا بضع سنين من القرن الخامس رجالاً يشار إليهم بالبنان؛ مثل: محمد بن جعفر القزاز صاحب المؤلفات في اللغة والأدب ونقد الشعر، وهو صاحب كتاب "ضرائر الشعر"؛ أي: الضرورات التي يجوز للشاعر ارتكابها دون غيره، ومثل: عبد العزيز بن أبي سهل الخشني؛ فقد كان من الراسخين في اللغة والنحو، وكان الشعراء الحذاق يجلسون بين يديه، ويعرضون عليه أشعارهم لنقدها.

وانتشار علوم اللغة وآدابها في وطن، مما يبعث قرائح أبنائه على صناعة الشعر، ويساعدها على أن تصوغ القريض في أسلوب حكيم.

ومن مهيئات تلك النهضة الراقية: أن الشعر التونسي كان له في القرن الرابع جودة وحسن بيان، ومن حذاق شعرائه: علي بن العباس الأيادي، وهو الذي وصف سجع الحمائم عند فلق الصبح في أبيات قال فيها:

قد ولد الصبح فمات الدجى

صاحت فلم ندر غِنا أم نواح

ومنهم: ابن عبدون السوسي، رحل إلى صقلية، ومما قال أيام رحلته متشوقاً إلى القيروان:

يا قصر طارق همي فيك مقصور

شوقي طليق وخطوي عنك مأسور

إن نام جارك إني ساهر أبداً

أبكي عليك وباكي العين معذور

عندي من الوجد ما لو فاض من كبدي

إليك لاحترقت من حولك الدور

ويدلكم على ازدهار الشعر التونسي في القرن الرابع: أنه كان في متناول بعض السيدات المهذبات؛ مثل: خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافري.

وفي ذلك القرن ورد القيروان الشاعر المبدع أبو القاسم المعروف

ص: 48

بابن هانئ، وحط بها رحله، ونال لدى المعز العبيدي حظوة وكرامة. وأديب عبقري كابن هانيء ينزل وطناً، لا بد أن يكون له في حركته الأدبية أثر مبين.

ومن مهيئات تلك النهضة الراقية: أن الحضارة بالقيروان ما زالت تتقدم شوطاً فشوطًا، إلى أن أدركت في أوائل القرن الخامس غاية بعيدة، وأخذت مناظر أنيقة، فارتقت الصناعة، واتسعت طرق التجارة، وأنشئت القصور المشيدة، والمتنزهات الرائقة، فكان في بدائع المدنية وزخارف العمران ما ينمي قوة التخيل، وشماعدها على أن تسرح في حدائق فسيحة، وتصوغ المعاني في صور غريبة.

ومن مهيئات تلك النهضة الأدبية: أن المعز بن باديس الذي تولى الملك سنة 406 كان على جانب عظيم من علوم اللغة وآدابها، فكانت دراسته لآداب اللغة العربية معينة له على تقدير قيمة الشعر، وباعثة له على الاحتفال بنوابغ الشعراء؛ ويحدثنا التاريخ: أنه كان لا يسمع بشاعر بارع إلا ويدنيه من حضرته، حتى اجتمع حول قصره نحو مئة شاعر يرأسهم أستاذه ووزيره علي بن أبي الرجال.

وتولى الملك بعد المعز ابنه تميم، وكان أديباً بليغاً، وقصدته الشعراء من الآفاق، فكانوا يجدون عنده من الاحتفاء البالغ ما كانوا يجدونه من والده المعز.

ولا شك أن إقبال المعز وابنه تميم من بعده على الشعراء إقبالاً يفتح في وجوههم أبواب الأمل، ويجعلهم في هناءة وراحة بال، مما يزيد الهمم تعلقاً بهذه الصناعة النبيلة.

ص: 49

ثم إن الأمة التي يجد منها الشعر أذواقاً لطيفة، وإحساساً رقيقاً، شأنها أن تحتفل بالأدباء، ولا ترفع إلا من رفعه أدبه، وذلك ما يدعو إلى التنافس في صوغ القريض، وإطلاق القرائح في مراعيه الخصيبة، وفنونه البهيجة.

تجمعت هذه المهيئات بتونس، فولدت في القرن الخامس نهضة أدبية، قلما تجود بمثلها الأيام، فظهر في هذا العهد رجال أحكموا صناعة القريض، وذهبوا في فنونه كل مذهب، وأتوا بما يسترعي الأسماع، ويأخذ بالألباب.

ولا يسع المقام أن أذكر من عرفتهم من شعراء ذلك العصر؛ وأورد لكل شاعر شيئاً مما قرأته له من الشعر، وإنما أريد أن أسوق شواهد على أن الشعر التونسي في ذلك العهد يساير الشعر الراقي في سائر البلاد العربية جنباً لجنب، وأن شعاره جودة التصرف في المعاني، وإيرادها في صور شيقة، ثم تخيّر الألفاظ المأنوسة الرشيقة ووضعها في سلك الوئام والائتلاف.

فمن الأدباء البارزين في ذلك القرن: أبو علي الحسن بن رشيق، وشعره يدور في كتب الأدب كثيراً، ومن بديع شعره: قوله مخاطباً لشخص كان ابن رشيق قد رجاه في أمر، فساوفه فيه، ثم قطع رجاءه:

رجوتك للأمر المهم وفي يدي

بقايا أُمَنِّي النفس فيها الأمانيا

فساوفت بي الأيام حتى إذا انقضت

أواخر ما عندي قطعت رجائيا

وكنت كأني نازف البير طالباً

لإجمامها أو يرجع الماء صافيا

فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه

ولا هي أعطته الذي كان راجيا

ويعجبني من شعره قوله:

قد أحكمت مني التجا

رب كل شيء غير جودي

ص: 50

أبداً أقول لئن كسبـ

ـت لأقبضن يدي شديد

حتى إذا أثريت عد

ت إلى السماحة من جديد

وممن أحرز شهرة في ذلك العصر: أبو إسحاق المعروف بالحصري، وهو صاحب، كتاب "زهر الآداب". ومن شعره يصف سجع الحمائم في الأسحار:

يا هل بكيت كما بكت

وَرْقُ الحمائم في الغصون

هتفت سحيراً والربا

للقطر رافعة العيون

ذكرتني عهداً مضى

للأنس منقطع القرين

فتصرمت أيامه

وكأنها رجع الجفون

ومن هذه الطبقة: أبو الحسن علي بن عبد الغني المعروف بالحصري أيضاً، ومن شعره السائر في الأندية قصيدته التي يقول في طالعها:

يا ليلُ الصبُّ متى غده

أقيام الساعة موعده

وقد وازنها جماعة من الشعراء في القديم والحديث.

ومن لذيذ شعره: قوله متشوقاً إلى صديقه أبي العباس النحوي ببلنسية من بلاد الأندلس:

قامت لأنفاسي مقام طبيبها

ذكرى "بلنسية" وذكر أديبها

حدثتني فشفيت مني لوعة

أمسيت محترق الحشا بلهيبها

ما زلت أذكره ولكن زدتني

ذكراً وحسب النفس ذكر حبيبها

أهوى بلنسية وما سبب الهوى

إلا أبو العباس أنس غريبها

هب النسيم وما النسيم بطيب

حتى يشاب بطيبه وبطيبها

ص: 51

ومن هذه الطبقة الذائعة الصيت: محمد بن شرف، وشعره كشعر قرينه ابن رشيق، يجري في نوادي الأدب كثيراً، ومن أبدع تشابيهه قوله:

إني وإن عَزَّني نيلُ المنى لأرى

حرص الفتى خلّة زيدت على العدمِ

تقلدتني الليالي وهي مدبرة

كأنني صارم في كف منهزم

وقوله:

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

فكأنني سبابة المتندم

هؤلاء الأدباء الأربعة: ابن رشيق، وابن شرف، والحصريين، قد طارت لهم سمعة في الشرق والغرب، وترددت أسماؤهم وأشعارهم في كتب الأدب كثيراً، وهناك شعراء أدرك أسماءهم شيء من الخمول، ولم يحفظ التدوين من آثارهم إلا قليلاً.

ومن أهل هذه الطبقة: علي بن حبيب التنوخي الصفاقسي، ومن شعره يتشوق إلى ليال قضاها عند صديق كناه بابن حسين: قوله:

يا ليالي في ذرا ابن حسين

هل معاد قبل الممات إليّا

قد نشرنا صحائف الحزن نشراً

وطوينا العزاء بعدك طيّا

وأطلنا البكا عليك وإني

لعليم أن ليس يرجع شيّا

فإلى الله من فراق رماني

عنك بعد الدنو مرمى قصيّا

ومن هذه الطبقة: الشاعر المعروف بالتراب السوسي، ومن رقيق شعره: قوله من قصيدة يمدح بها جبارة بن كامل المتغلب على سوسة:

بات بالأبرق برق يتسامى

فجفا الجفن لرؤياه المناما

طلعت راياته خافقة

خفقان القلب صبّاً مستهاما

ص: 52

بذمام الحب يا برق عسى

لك علم، حبهم أعيا الأناما

آنسوا عاماً فلما ملكوا

رِقَّ قلبي أوحشوا عاماً فعاما

ومنهم: علي بن فضال القيرواني، ومما ينسب إليه من الشعر: تلك الأبيات السائرة:

وإخوان حسبتهم دروعاً

فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاماً صائبات

فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب

لقد صدقوا ولكن من ودادي

وقالوا قد سعينا كلَّ سعي

لقد صدقوا ولكن في فساد

ولم تكن نهضة الأدب في ذلك العهد واقفة عند حد البراعة في النظم، وحسن التصرف في المعاني، بل تجاوزت هذه الناحية إلى ناحية النظر في قوانين هذه الصناعة، ووجوه نقدها، وفنون محاسنها، ففي هذا العهد ألف ابن رشيق كتاب "العمدة في صناعة الشعر ونقده"، وكتاب "قراصنة الذهب في نقد أشعار العرب"، وألف ابن شرف كتاب "مسائل الانتقاد" تعرض فيه لنيف وخمسين شاعراً، ونبه فيه لبعض أصول النقد، وألف قبلهما عبد الكريم ابن إبراهيم النهشلي كتابه المسمى "الممتع" بيَّن فيه أساليب النقد ومناحيه، ومن نظراته السامية: قوله في فصل من هذا الكتاب:

"قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه؛ وكثر استعماله عند أهله بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة".

دقت صناعة النقد في ذلك العهد، حتى نرى الأدباء يلحظون من خفي

ص: 53

المآخذ في الشعر ما لا يتنبه له إلا ذو ألمعية متقدة، وكان المعز بن باديس نفسه يباري الأدباء في هذا المجال، فيبدي لبعض الشعراء عثرات قد يخفى عليهم مكانها، وهم من أبصر الناس بصناعة الشعر، وأدراهم بوجوه نقده، ومما يساق مثلاً لهذا: أن ابن رشيق أنشده قصيدته التي يقول أولها:

تثبت لا يخامرك اضطراب

فقد خضعت لعزتك الرقاب

فعاب المعز قوله في هذا البيت:

"تثبت"، وقال له: متى عهدتني لا أتثبت!

أيها السادة!

هذا الحديث نبهنا به لنهضة الشعر بتونس في القرن الخامس؛ وإذا كانت صروف الأيام قد جعلت البلاد بعد ذلك العهد لا تنبت من الشعراء المبدعين إلا قليلاً؛ فليس ببعيد أن يكون لتلك النهضة الفذة أثر في رقي الشعر التونسي لعهدنا هذا؛ حتى تقف تونس في صف أخواتها: مصر والشام والعراق؛ فإن القوم الذين يشعرون أن لأسلافهم ضرباً من شواهد النبل والفخار جالت فيه يد الحوادث، يجدون من الحرص على إحيائه؛ والجد في رفع بنائه، ما لا يجد مثله العاملون لإنشاء فخار لا عهد لهم به من قبل.

وقد ظهر في شباب تونس اليوم أدباء ينحون في الشعر نحو الإجادة، بل الإبداع؛ وكأني بعهد الحصريين، وابن شرف، وابن رشيق، قد عاد؛ ولكن في زي يلائم روح هذا العصر؛ وأرجو أن يسير مع المدنية الفاضلة شبراً بشبر، وذراعاً بذراع؛ ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ص: 54