الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحالة العلمية بجامع الزيتونة
(1)
في قارة أفريقية ثلاثة معاهد إسلامية: الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس. أما الأزهر، فله الشهرة في الشرق والغرب؛ لأن دائرة التعليم فيه أوسع، وطلاب العلم يؤمونه من كل ناحية، والمكاتب -عامة أو خاصة- لا تكاد تخلو من مؤلفات علمائه.
أما المعهدان الآخران، فلعل موقعهما الجغرافي، وحال محيطهما الاقتصادي وقفا منهما دون أن يحوزا كما حاز الأزهر سمعة لم تدع داراً إلا غشيتها، ولا أذناً إلا ولجتها، فما كنت لأعجب إذا لقيت رجالاً من أهل العلم لا يعرفون من شأن جامع الزيتونة كثيراً أو قليلاً.
ولما كانت جمعية الهداية الإسلامية قد أخذت على نفسها أن تكون وسيلة تعارف بين جماعات المسلمين عامة، ورجال العلم خاصة، رأيت أن ألقي كلمة في الحالة العلمية بجامع الزيتونة، ولعلّ الجمعية توفّق إلى إلقاء محاضرة في الحالة العلمية بجامع القرويين، وبهذا العمل تكون الصلة
(1) محاضرة الإمام في نادي جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة، ونشرت في الجزء الرابع من المجلد الثالث من مجلة "الهداية الإسلامية" لعام 1349 هـ. مع ملاحظة التبديل الطارئ على النظام والمنهج وعدد المدرسين والطلاب في جامع الزيتونة حتى الآن.
بين المعاهد الثلاثة كما تقتضي مصلحة الأمة على متانة وصفاء.
وقد رأيت أن أمر بنظرة قصيرة على حال العلم منذ نشأته في تلك البلاد إلى أن دخل جامع الزيتونة في هيئته النظامية؛ لنرى كيف كان العلم هنالك ضارباً بشعاعه منذ أعصر قديمة، وإن اختلفت حالته قوة وضعفاً، وظهوراً وخمولاً.
* نشأة العلم في البلاد التونسية:
كان الذين يعمرون البلاد التونسية والجزائرية والمراكشية صنف البربر، ولكن بعد الفتح الإسلامي هاجر إليها خلق كثير من العرب الخلص، فانتشرت هنالك اللغة العربية، وأصبح سكان تلك البلاد بعد هذا الاختلاط أقواماً مستعربين، إلا قبائل متفرقة، معظمها بالمغرب الأقصى، ويعضها في الجزائر، وقليل منها في تونس.
وإذا نحن رجعنا إلى التاريخ؛ لنعلم كيف أخذت العلوم الإسلامية تنتشر في تلك البلاد، نجد أن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ندب عشرة فقهاء من أعيان التابعين، وبعثهم إلى أفريقية؛ ليعلموا البربر واجبات الدين وأحكامه.
وكان رئيس هؤلاء المبعوثين: أبا عبد الرحمن عبد الله الحبلي، ومن بينهم: أبو الجهم عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وهو أول من ولي القضاء بالقيروان.
ومن ذلك العهد ابتدأ أهل تونس يرحلون إلى الشرق لتلقّي ما فيه من علوم، ومن هؤلاء الراحلين: عبد الرحمن بن زياد المعافري: رجل قروي من جماعة من التابعين، وكان قد صحب أبا جعفر المنصور طلب العلم، وعاد إلى القيروان بعلم غزير، وأدب جم، حتى تقلد أبو جعفر المنصور
الخلافة، فولاه قضاء القيروان، وكانت مدينة القيروان عاصمة الإمارة، ومحط رحال طلاب العلم حتى أواخر المئة الخامسة.
ورحل في طلب العلم بعد طبقة عبد الرحمن بن زياد طائفة لقوا مالك بن أنس وغيره من الأئمة، ثم عادوا بما جمعوا من علم؛ مثل: علي بن زياد، وعبد الله بن غانم، وأسد بن الفرات فاتح صقلية.
وكانت المئة الثالثة مستنيرة بأمثال سحنون ومن أخذوا عنه؛ كأبي سعيد البرادعي، وحماس بن مروان الهمذاني.
وأذكر أن يحيى بن عمر رحل إلى العراق، ثم جاء القيروان، وحضر مجلساً كان يعقده حماس هذا للمذاكرة في الفقه، وبعد أن انصرف من المجلس، قال: ما تركت في بغداد من يتكلم في الفقه بمثل ما سمعت اليوم.
ومما قال أبو القاسم الفزاري أحد أدباء القيروان لذلك العهد:
فهل للقيروان وساكنيها
…
عديل حين يفتخر الفخور
بلاد حشوها علم وحلم
…
وإسلام ومعروف وخير
عراق الشام بغداد وهذي
…
عراق الغرب بينهما كثير
بلاد خطها أصحاب بدر
…
وتلك اختط ساحتها أمير
وفي ذلك العهد ظهر في تونس الطبيب المعروف بابن الجزار صاحب المؤلفات التي عني بها الأوروبيون، ونلقوها من العربية إلى اللاتينية.
* في القرن الرابع:
ومن أعلام المئة الرابعة: أبو العباس عبد الله بن إسحاق المعروف بالإبياني، وكان من حفاظ مذهب مالك، ويميل إلى مذهب الشافعي، ورد مصر، فقال في حقه ابن شعبان: ما عدا النيل منذ خمسين سنة أعلم منه.
ومن أعلام هذا القرن أبو محمد عبد الله بن أبي زيد صاحب المؤلفات التي من جملتها كتاب "النوادر"، والزيادات على "المدونة"، وقد أخرجه في نحو مئة جزء.
* في القرن الخامس:
ومن أعلام المائة الخامسة عبد الحميد بن محمد الهروي المعروف بابن الصائغ، وأبو الحسن علي بن محمد المعروف باللخمي صاحب كتاب "التبصرة"، وله آراء في الفقه، وإليه يشير بعض الأدباء بقوله:
لقد مزقت قلبي سهام لحاظها
…
كما مزق اللخمي مذهب مالك
وفي هذا العهد ظهر الأدب في تونس ظهوره في العراق والشام والأندلس، فظهر بالقيروان: الحسن بن رشيق صاحب كتاب "العمدة"، وابن شرف صاحب الرسائل التي من جملتها "أعلام الكلام"، وأبو إسحاق إبراهيم الحصري صاحب كتاب "زهر الآداب"، وابن خالته أبو الحسن علي الحصري صاحب القصيدة التي حاكاها كثير من الأدباء في القديم والحديث:
ياليلُ الصبُّ متى غده
…
أقيام الساعة موعده
* في القرن السادس:
ومن أعلام المئة السادسة: أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بالمازري، وكان معدوداً فيمن بلغوا رتبة الاجتهاد، ومن مؤلفاته "شرح كتاب البرهان" لإمام الحرمين، و"شرح التلقين" للقاضي عبد الوهاب.
* في القرن السابع:
ومن أعلام المئة السابعة: أبو أحمد بن أبي بكر المعروف بابن زيتون،
رحل إلى الشرق، وأخذ عن عز الدين بن عبد السلام، وعاد إلى تونس، وكان بها قاضي القضاة، وهو أول من أظهر ودرَّس في تونس مؤلفات فخر الدين الخطيب الأصولية.
وفي هذا العهد أنشأ الأمير أبو زكريا يحيى داراً للكتب جمع فيها نحو ستة وثلاثين ألف مجلد.
وورد تونس في هذا القرن حامل لواء العربية بالأندلس علي بن موسى المعروف بابن عصفور، وأقام حتى توفي، وقبره بمكان قريب من جامع الزيتونة.
* في القرن الثامن:
ومن أعلام المئة الثامنة محمد بن عبد السلام، وهو معدود فيمن بلغوا رتبة الاجتهاد، ومن مؤلفاته "شرح جامع الأمهات لابن الحاجب".
ومن أعلام هذا القرن: أبو عبد الله محمد بن عرفة المؤلِّف في الفقه والتفسير والمنطق، وأصول الفقه، وأصول الدين، ومر في رحلته إلى الحج بالقاهرة، وأخذ عنه البدر الدماميني، واجتمع بالملك الظاهر، فأكرمه، وأوصى أمير الحج بخدمته.
ومن أعلامها: المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون المتوفى في القاهرة سنة 807.
* في القرن التاسع:
ومن أعلام المئة التاسعة: محمد بن عمر الأبي شارح "المدونة"، و"صحيح الإمام مسلم"، وأبو القاسم البرزلي صاحب "الفتاوى"، ويحكى: أن الشيخ ابن عرفه ليم على كثرة الاجتهاد، وإتعاب نفسه في النظر، فقال:
وكيف أنام وأنا بين أسدين: الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله.
وفي هذا القرن أنشأ الأمير أبو فارس عبد العزيز خزانة كتب في الجانب الشمالي من جامع الزيتونة، ووقع عليها آلافاً من المجلدات.
* في القرن العاشر:
وكان الأمير في مبتدأ القرن العاشر أبا عبد الله محمد الحفصي، وكان له عناية بالعلم، ومن آثاره: إنشاء مكتبة لجامع الزيتونة، وهي التي تسمى الآن:"المكتبة العبدلية".
وفي سنة 70 من هذا القرن بليت تونس بحلول عساكر الإسبان، فعاثوا في المكاتب، وأطلقوا أيديهم في إتلافها حتى صارت نفائس الكتب ملقاة في الطرق تدوسها خيلهم بأرجلها، ولم يبق في مكتبة جامع الزيتونة -فيما يقال- إلا بضع نسخ من "صحيح الإمام البخاري". ويقول بعض الشيوخ معتذراً عن قلة ما يوجد من مؤلفات التونسيين: إن هذه الكارثة الإسبانية قد أتلفت وأضاعت كثيراً مما ألفوا.
ولكن البلاد لم تلبث بيد الإسبان حتى جاء الأتراك وطردوهم منها سنة 981، وصارت تونس من الأقطار المتعلقة بالدولة العثمانية، ويظهر من مطالعة التاريخ: أن سوق العلم بتونس كانت في القرن العاشر خاملة؛ إذ لم نجد فيها ما وجدنا في القرون قبلها أو بعدها من الأعلام الذين يدل وجودهم في القطر على أن هناك علوماً ساطعة، وأنظاراً واسعة، وأفهاماً راسخة.
* في القرن الحادي عشر:
بمناسبة اتصال تونس بالدولة العثمانية وردها في أوائل القرن الحادي
عشر بعض علماء الروم، فأخذت بهم الحركة العلمية نشاطاً، ومن هؤلاء الواردين: أستاذ يقال له: "منلاً أحمد"، كان بارعاً في الفقه والأصول والتفسير والنحو والبيان والمنطق، فتخرج في درسه جماعة من أعلام القرن الحادي عشر؛ مثل الشيخ: محمد الغماد، والشيخ أبو يحيى الرصّاع.
وينبئكم برسوخ منلا أحمد هذا في الفهم: أن بعض الطلاب أراد أن يسرد عليه تركيباً من كتاب، فقال له: إني لست بقصاص، فعبر لي من شدقك بعبارة تنبئ عن مراد المؤلف.
* في القرن الثاني عشر:
تدلنا آثار كثيرة على أن الحياة العلمية في القرن الثاني عشر قد أخذت في نشاط؛ فإنا نرى لكثير من أمراء تونس في ذلك العهد اعتناء بإحياء العلم، وتهيئة وسائله.
نرى محمد بن مراد باي المتوفى سنة 1108 بنى مدارس في نواح مختلفة من المملكة؛ كالقيروان، والكاف، وقابس، وباجة، والجريد، ونرى الأمير حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية القائمة حتى الآن قد أنشأ مدارس بالحاضرة، والقيروان، وسوسة، وصفاقس، ونفطة.
ونرى علي باشا قد أنشأ مدارس، ووقف في كل مدرسة خزانة من الكتب، وأرسل الشيخ حسين البارودي مفتي دولته إلى الآستانة ليشتري له ما يصل إلى يده من الكتب القيمة.
ونقرأ في تاريخ حسين بن علي الثاني: أنه كان من الأدباء والشعراء، ومن شعره قصيدة ميمية شرحها الشيخ أبو عبد الله محمد الشافعي، وقصيدة قافية شرحها العلامة الشيخ محمد صالح الكواش.
ونقرأ في تاريخ علي باي بن حسين بن علي: أنه كان مشتركاً في العلوم، وكان يصطفي العلماء.
ويقص علينا التاريخ: أن طائفة من العلماء كانوا قد رحلوا إلى تلقي العلم بالأزهر؛ مثل: علي بن موسى الأندلسي، ورد الأزهر، فأخذ عن الشيخ الأجهوري، وعبد الباقي الزرقاني، ومحمد الخرشي، وعاد إلى تونس بعلم كثير.
ومن أعلام هذه المئة الشيخ محمد زيتونة، والشيخ محمد الخضراوي، والشيخ حموده فتاتة، ونجم الدين المعروف بابن سعيد صاحب "حواشي شرح الخيصي"، "للتهذيب وحواشي شرح الأشموني للخلاصة".
وفي ذلك القرن كان للأدب سوق نافقة، وظهر فيها الشاعران: علي الغراب الصفاقسي، ومحمد الورغي، بل نجد في أشعار أهل العلم جزالة وإحكام نسج.
وأذكر من شعر الشيخ ابن سعيد قوله يشكو حساده:
ومالي ذنب عندهم غير أنني
…
إذا شئت قلت الشعر وهو رقيق
وإن خضت في بحر من العلم لجَّ بي
…
تطاير دُرٍّ فوقه وعقيق
خليلي هل يجني على المرء مجده
…
فإني بالمجد العريق حريق
وأذكر من شعر الشيخ حمودة بن عبد العزيز يتحدث عن الحرب:
فلا وأبي لا يبلغ المجد عاجز
…
يعلل نفساً بالأماني الكواذبِ
ولكن فتى قد جرَّد السيف طالباً
…
به من حقوق الحمد أسنى المطالبِ
يهاب الدنايا أن تدنس عرضَه
…
وليس لأسباب المنايا بهائبِ
هي الحرب من يعلق بها يبلغ المنى
…
وهل نال أقصى المجد غير المحاربِ
* نشأة جامع الزيتونة:
كانت القيروان منذ الفتح الإسلامي عاصمة للملكة التونسية، وكان جامعها الذي اختطه عقبة بن نافع رضي الله عنه من أكبر المعاهد التي يؤمها طلاب العلم من نواح مختلفة، ولما استولى على القطر الفرنسي أصحاب المهدي بن تومرت: عبد المؤمن بن علي وحلفاؤه، اتخذوا مدينة تونس دار الإمارة، وبقيت العاصمة إلى هذا اليوم.
وبعد أن صارت مدينة تونس عاصمة البلاد، أصبحت مورد العلوم، ومحط رحال العلم، فأخذ جامع الزيتونة يغالب جامع القيروان، وأخذ اسمه يتردد أكثر مما كان يتردد على الألسنة والآذان.
ابتدأ بناء جامع الزيتونة الأمير حسان بن النعمان الغساني الداخل لإفريقية سنة 79، ثم جاء الأمير عبد الله بن الحبحاب الداخل سنة 114، وأتم بناءه سنة 141، ولما تولى زيادة الله بن الأغلب الإمارة بالقيروان، أحدث به أبنية فخمة، وصار من أحسن الجوامع القائمة على أساطين من المرمر والرخام.
* جامع الزيتونة والنظام:
رأى أمير تونس المشير أحمد باشا أن تكون الدولة قائمة بنفسها، وأخذ ينظر في وسائل القوة والمنعة، وأول ما يعنى به طالب القوة: ترقية شأن التعليم، وإنبات طلاب العلم نباتاً حسناً، فكان من تدبير هذا الأمير: أن قصد إلى تنظيم التعليم بجامع الزيتونة، وأصدر في ذلك مرسوماً سنة 1258، وتلي هذا المرسوم في يوم مشهود، ورسم في صحيفة محاطة بإطار، وعلق داخل باب من أبواب الجامع يقال له:"باب الشفاء".
واقتضى هذا المرسوم أن ينتخب للتدريس بجامع الزيتونة خمسة عشر عالماً من المالكية، ومثلهم من الحنفية، على أن يقرئ المدرس في كل يوم -ما عدا يومي الخميس والجمعة- درسين من أي فن أراد، وفي أي وقت تيسر له، وإذا فقد أحد هؤلاء المدرسين، انتخب نظَّار الجامع بدله أعلم الموجودين في العصر، وإذا اشتبه عليهم الحال فيمن يستحق ولاية التدريس، عقدوا مسابقة بين من يرغبون في إحرازها بطريق المسابقة، ومن وقع عليه الاختيار، فصل في تعيينه المشايخ النظّار، وبعثوا قرارهم إلى حضرة سمو الباي يصدر مرسوماً في ولايته.
وفي عهد الأمير محمد الصادق باي، ووزيره المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب "أقوم المسالك في أحوال الممالك"، دخل على نظام التعليم تبديل وتهذيب، ووضعت مناهج سارت به إلى الإمام مرحلة كبيرة، وكان هذا الوزير يتردد على الجامع، ويشهد حلقات الدروس بنفسه، فكان فيما يظهره رجال الدولة من العناية بهذا المعهد الإسلامي داعية إقبال وتنافس في ميدان العلوم.
وفي سنة 1310، وسنة 1312 دخل على هذا النظام شيء من التنقيح.
وفي سنة 1329 عقدت الحكومة لجنة من كبار أهل العلم وبعض رجال الدولة؛ للنظر فيما تحتاج إليه مناهج التعليم من تهذيب وإصلاح، فصار التعليم بما قررته اللجنة أقرب إلى التعليم المحاط بالنظم المدرسية من كل جانب.
وكانت أقسام التعليم من ابتدائي وثانوي وعال، كلها في نفس جامع الزيتونة، وفي سنة 1345 فصل التعليم الابتدائي عن الثانوي والعالي، فخصص
للابتدائي جامع فسيح يقال له "جامع سيدي يوسف"، ويقي القسمان الثانوي والعالي في جامع الزيتونة.
ونؤمل من ذوي الشأن هنالك أن ينشئوا في الجامعة الزيتونية قسماً للتخصص؛ حتى تسير تلك الجامعة بجانب الأزهر الشريف في المستقبل كما سارت بجانبه فيما سلف من الأيام.
وظهر في عهد النظام نبغاء في علوم الدين واللغة العربية؛ مثل: الشيخ معاوية الذي يذكره الشيخ الأنباني في تقاريره البيانية، فيناقشه تارة، ويسلم آراءه تارة أخرى.
وفي أوائل ذلك العهد أخذت تونس في حياة مدنية نامية، وصارت في مقدمة الشعوب التي تيقظت لما تحتاج إليسه من إصلاح. ومن شواهد هذا: قصائد المفتي المالكي الشيخ محمود قبادو المتوفى حوالي سنة 1280، فإن قارئها يجد فيها تذكرة وتنبيهاً على جانب من طرق الإصلاح، ويحضرني من شعره قوله في إحدى القصائد:
أرى الملك مثل الفلك تحت رئيسه
…
عويزاً إلى الأعوان فيما يؤمُّه
فذلك نوتيٌّ يعين بفعله وآخر
…
خِرِّيتٌ قُصاراه علمُه
ومقصده جري السفين وحفظها
…
ليسلم كل أو ليعظم غنمه
أيركب هول البحر دون مقاوم
…
وفي طيه حرب كما يؤذن اسمه
لذاك ترى ملك الفرنج مؤثلاً
…
بعلم على الأيام يمتد يَمُّهُ
ومملكة الإسلام يقلص ظلها
…
وينقص من أطرافها ما تضمُّه
على أنها أجدى وأبسط رقعة
…
وأوسط إقليماً من الطبع عظمه
وأعرق في منمى الحضارة موضعاً
…
وأطول باعاً يقلق الهام دمه
ودوخ مغزاها الأقاليم سبعة
…
وتاخمها من سد يا جوج رَدْمُه
ويقول في الأمم الغربية:
هم غرسوا دوح التمدن فرعه الر
…
ياضي والعلم الطبيعي جذمه
أيجمل يا أهل الحفيظة أنهم
…
يبزوننا علماً لنا كان فخمه
ويقول:
لقد قتلوا دنيا الحياتين خبرة
…
فمن لم يساهمهم فقد طاش سهمُه
ومن نبغاء ذلك العهد: الأستاذ الشيخ أحمد بن أبي الضياف، تولى رياسة الديوان بالوزارة الكبرى، وكان الأمير أحمد باي قد جعل اللسان الرسمي للدولة اللغة العربية بعد أن كانت المراسلات تحرر باللسان التركي، فأخذ الشيخ ابن أبي الضياف ينسج في رسائل الدولة على طرز لسان الدين ابن الخطيب، وتلاه الشيخ محمد العزيز بوعتور في رياسة الديوان، وكان كاتباً بليغاً، فصارت مخاطبات الحكومة ببراعة هذين الأستاذين ومن ينحو نحوهما تحرر بأقلام راقية.
* إدارة المعهد الزيتوني:
يتولى إدارة شؤون ذلك المعهد أربعة من الشيوخ، وهم: رئيس الإفتاء الحنفي، ورئيس الإفتاء المالكي، والقاضي الحنفي، والقاضي المالكي، ويسمى هؤلاء الشيوخ من جهة نظرهم في شؤون المعهد:"المشايخ النظّار"، ويرأس المجلس شيخ الإسلام الحنفي، واكتسب الحنفية التقدم على المالكية في المواطن الرسمية؛ حيث إن أمراء الدولة الحسينية القائمة لهذا العهد
يتقلدون مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
يجتمع النظار بمكان معد لهم بجانب من المعهد في صبيحة يوم السبت من كل أسبوع، ثم يتناوبون بعد هذا بقية الأيام، فيجيء كل واحد منهم في يوم لإجراء ما قرروه عند اجتماعهم، وينص القانون على أن للناظر أن يختبر أحوال المدرسين بنفسه، فيجلس قريباً من المدرس بحيث يسمع إلقاءه؛ حتى تتميز عنده مراتب المدرسين.
ويساعد المشايخ النظار في الإشراف على التعليم أستاذان من المدرسين يحضران جلسات المشايخ النظار، ولهما إبداء ملاحظاتهما في تلك الجلسات، ولا يعتد برأيهما عند الاقتراع.
وهذان الأستاذان يحرران -أو أحدهما- كل يوم أحوال الطلبة، وأحوال المدرسين غيبة وحضوراً، ويعرضان ذلك على من يحضر من المشايخ النظار في يومه.
* العلوم والفنون التي تدرس بالمعهد الزيتوني:
يدرَّس في ذلك المعهد: التفسير، والحديث، والسير، والتوحيد، والقراءات، والمصطلح، والفقه، والأصول، وآداب الشريعة، والنحو، والبيان؛ واللغة، والأدب، وعلم العروض، والمنطق، والتاريخ، والجغرافية؛ والحساب، والهندسة، والهيئة والميقات، والمساحة.
ينص القانون على أن هذه العلوم والفنون تدرس في نفس الجامع، ولكن الطلاب -فيما أعرف- يتلقون بعض العلوم الحديثة؛ كالجغرافيا والهندسة بمدرسة الخلدونية، وهي مدرسة بمقربة من المعهد تقوم بها جمعية أهلية، إلا أنها تتناول مساعدة سنوية من إدارة الأوقاف.
ولم يكن الإنشاء مما يتلقاه الطلاب على طريقة التمرين، وأذكر أني كنت وجهت إلى المشايخ النظار خطاباً مفتوحاً أطلب فيه العناية بدرس الإنشاء على طريقة عملية، آثرت أن يكون الخطاب نظماً، ويحضرني منه الآن:
بذلتم في نَفاق العلم وسعاً
…
وذللتم طرائقه الصعابا
فأصبح معهد العرفان صرحاً
…
رفيعاً لا نظير له غرابا
ولكن الخصاصة في فنون
…
تساورنا المخافة أن نعابا
أصاب صناعة الإنشاء محل
…
وغاض معينها إلا سرابا
أنرمي نحو وادينا بقشر
…
ويحرز غيرنا منها اللبابا
* * *
أفي علم البيان نغوص فهماً
…
ونملأ من جواهره الوطابا
وإن ركبت أناملنا يراعاً
…
تعاصى أن يشق بها عبابا
ومن ركب الأتان لدى سباق
…
أبى إلا الزراية والعتابا
وليس بنافع تقليد رمح
…
لشخص لم تعلمه الحرابا
وأذكر منها:
ولا ترقى شؤون الشعب إلا
…
بأقلام تناقشه الحسابا
وتكشف عن شموس الجو لبساً
…
تراكم تحت غرتها سحابا
وما الحادي بشعر أبي فراس
…
وقد جست أنامله الربابا
بأعذب من صدى قلم تهادى
…
على طرس يخط به كتابا
وأرشق منظراً من لحظ قلبي
…
توسد باللوى الذهب المذابا
دواة في زجاجتها مداد
…
نصوغ على البعاد به خطابا
* الكتب التي تدرس بالقسم العالي:
أقتصر هنا على ذكر ما يدرس في المرتبة العالية من الكتب؛ إذ هي التي يعرف بها مدى التعليم، وكفاية المتخرجين الذين استمروا على تلقي العلم إلى انتهاء أمد الدراسة.
يعين القانون لقراءة التفسير: "الجلالين"، و"أسرار التنزيل" للقاضي البيضاوي، ولقراءة الحديث:"الموطأ بشرح الزرقاني"، و"صحيح الإمام البخاري بشرح القسطلاني"، و"صحيح الإمام مسلم بشرح الأبي"، وكتاب "الشفا" للقاضي عياض بشرح الشهاب.
ولقراءة علم الكلام؛ "العقائد العضدية بشرح السعد"، و"المواقف بشرح السيد الشريف"، ولقراءة الأصول:"التوضيح بشرحه المسمى بالتلويح"، و"مختصر ابن الحاجب بشرح العضد"، و"جمع الجوامع بشرح الجلال المحلي". ولقراءة علم النحو:"مغني اللبيب"، و"شرح الأشموني على الخلاصة"، ولعلم البلاغة:"التلخيص بشرح المطول للسعد"، والقسم الثالث من "المفتاح بشرح السيد"، ولقراءة علم اللغة والأدب:"المزهر" للسيوطي، و"الحماسة بشرح المرزوقي"، و"المثل السائر لابن الأثير"، ولقراءة المنطق:"شرح القطب على الشمسية"، ومما يدرس للتاريخ:"مقدمة ابن خلدون".
ومن هنا يستبين الناظر أن الأزهر وجامع الزيتونة يتحدان في أغلب ما يدرس من الكتب، إذن، فالثقافة في المعهدين واحدة، أو متقاربة.
المدرسون:
الذين يقومون بالتدريس في ذلك المعهد ثلاث طبقات:
1 -
مدرسون من الطبقة الأولى، وهم ثلاثون مدرساً.
2 -
ومدرسون من الطبقة الثانية، وهم اثنا عشر مدرساً.
3 -
ومدرسون من الطبقة الثالثة، وهم خمسون مدرساً.
وبعد هؤلاء أستاذان يختصان بدرس القراءات.
والمدرسون من الطبقة الأولى يقرئون كتب المرتبة العالية، ويشتركون مع مدرسي الطبقة الثانية في إقراء كتب المرتبة المتوسطة، والمدرسون من الطبقة الثانية يدرِّسون كتب المرتبة المتوسطة، ويشاركون في تدريس كتب المرتبة الأخيرة.
والمدرسون من الطبقة الثالثة مقصورون على دراسة كتب المرتبة الثالثة، وللنظارة أن تأذن لهم في إقراء كتب المرتبة المتوسطة.
لا يجلس للتدريس في المعهد إلا من كان بيده شهادة من نفس المعهد، أما العلماء الذين يردون على حاضرة تونس، فإنما يسوغ لهم التدريس بعد إجازة المشايخ النظارة، وموافقة الدولة.
ويحتوي القانون على نصائح وآداب للمدرسين؛ كما يقول: "على المدرس أن يتثبت في الفهم والنقل حتى يكون على بصيرة من أمرهما، ولا يتوثق بأول بارق، ويستبرئ لدينه ولعوضه من نقل الخطأ عنه، وإذا أخطأ في فهم أو نقل، فعليه بمقتضى ديانته أن يصدع بالحق".
ومما يقول: "ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقتها العلماء جيلاً بعد آخر، ولا أن يكثر من تغليط المصنفين؛ فإن كثرة التغليط أمارة الاشتباه
والتخليط، بل عليه أن يبذل الوسع في فهم مراد الفضلاء، ولا يلقي البحث إلا بعد التحري والإحاطة بأطراف الكلام، والتدبر في فهم المراد".
* التلاميذ:
يتخذ كل تلميذ دفتراً يكتب له فيه أساتذته في كل شهر شهاداتهم بالحضور، وحال المواظبة، ودرجته في النجابة والفهم، ويذكرون الباب أو المسألة التي كانت مبدأ حضوره في الكتاب، كما يذكرون البحث الذي انتهى إليه وقت كتابة الشهادة.
ويبلغ عددهم في هذا المعهد زهاء ألفين، ومعظمهم من القطر التونسي، ومن بينهم كثير من القطر الجزائري، ويوجد من بينهم طلاب من طرابلس الغرب، والمغرب الأقصى.
وقد اشتمل قانون المعهد على نصائح وآداب للطلاب؛ كما يقول: "يلتزم التلميذ آداب السؤال، فيسأل سؤال مسترشد ملتزماً اللطف في سؤاله". ويقول: "لا يسوغ للتلميذ التلهي عن الدرس بحديث أو غيره، وإذا سأل التلميذ، فليس لغيره من الطلاب أن يجيبه إلا إذا أذن له الشيخ في الجواب".
ويقول في التلميذ يسيء الأدب مع أستاذه: "فعلى الشيخ أن يلومه أولاً فيما بينهما، فكان عاد، وبخه بمحضر أقرانه، فكان عاد، رفع الأمر للنظارة كتابة؛ لتجازيه بما ترى من لومه أو توبيخه أو رفته من المعهد رفتاً مؤقتاً أو باتاً".
* الامتحان:
تعقد عند انتهاء أيام الدراسة من كل سنة لجان من المدرسين لاختبار التلاميذ فيما قرؤوه في تلك السنة، (وهو امتحان النقل).
ويجرى امتحان لأخذ شهادة "التطويع"، وهذه الشهادة منظور إليها كشهادة العالمية في الأزهر؛ من جهة ما يترتب عليها من نيل بعض المناصب، إلا أن دراسة الطالب نحو سبع سنين تكفي لقبوله للامتحان، وإحرازه هذه الشهادة، والمقرر لهذا الامتحان مقالة تحرر ارتجالاً، وعلى مرأى من المراقبين في باب من أبواب الفقه، ثم إلقاء درس بعدها في الأصول، أو الفقه، أو الكلام، أو النحو، أو المنطق، أو البلاغة، على حسب ما تقع عليه يد الطالب من أوراق كثيرة تعين فيها دروس من هذه العلوم، وتوضع في ربعة، ومدة مطالعة الدرس -فيما أعرف- ست ساعات، ثم تلقى على الطالب في يوم بعد يوم الدرس تسعة أسئلة من تسعة علوم ليجيب عنها حال السؤال، والعلوم التي تطرح منها الأسئلة هي: الفقه، والنحو، والصرف، والمنطق، والبلاغة، والحساب، والهندسة، والجغرافية، والتاريخ.
يتولى هذا الامتحان المشايخ النظار بأنفسهم، ويلقي الممتحنون الدروس، وتلقى عليهم الأسئلة في مجمع عام يشهده من شاء من المدرسين والطلاب وغيرهم.
والذي يلاحظ: أن ليس في مواد الامتحان علم الحديث والتفسير، مع أنهما يدرسان في المعهد، ونحن نود أن يكون هذا العلمان في أول ما يجري فيه الامتحان، ولو أفضى الحال إلى مد أجل الدراسة سنتين أو ثلاثاً.
ونود لو أن المشايخ النظار يأخذون بطريقة مناقشة الطلاب في درس الامتحان حتى يتضح مقدار فهم الطالب جلياً، ولتكون هذه المناقشة من دواعي مواظبتهم على الدروس، وإقبالهم على ما يقرره الأستاذ؛ ليكونوا من كل ما يلقيه على بينة.
* مثل ممن تلقينا عنه في ذلك المعهد:
أذكر لحضراتكم من كبراء أساتذتنا ثلاثة امتاز كل واحد منهم بناحية جعلته عبقرياً متناهياً:
أحدهم: أستاذنا المرحوم الشيخ سالم أبو حاجب، حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأني دخلت في مجال أفسح للنظر، وأدعى لنشاط الفكر؛ إذ لم يكن الأستاذ مما يقصر مناقشته على عبارات المؤلفين، بل كان يتجاوزها إلى نقد الآراء نفسها، ويتجاوز النقد إلى الغوص على أسرار المباحث، دينية كانت أم عربية، ولا يترك في درس الكتب الشرعية أن يعقد الصلة بين أصول الإسلام ومقتضيات المدنية الحاضرة.
ثانيهم: أستاذنا المرحوم الشيخ عمر بن الشيخ، وكان هذا الأستاذ نافذ الفكر في المباحث الغامضة، قديراً على حل المسائل العويصة، ولكنه لا يكثر من مناقشة المؤلفين وذوي الآراء، وإذا ناقش في عبارة أو رأي، فبأدب واحترام، وقد درس هذا الأستاذ كتاب "المواقف" من فاتحته إلى منتهاه، وكان يوم ختمه لهذا الكتاب يوماً مشهوداً.
ثالثهم: أستاذنا المرحوم الشيخ محمد النجار، وكان هذا الأستاذ واسع الاطلاع، غزير العلم، وإذا صح لنا أن نعد الأستاذ الشيخ سالم أبا حاجب إخصائياً في علوم اللغة والنحو والبلاغة والأدب؛ لظهور رسوخه في هذه العلوم أكثر من غيرها، وصح لنا أن نعد الأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ إخصائياً في الفقه والكلام والمنطق والفلسفة؛ لظهور مكانته في هذه العلوم أكثر مما سواها، فإن الأستاذ الشيخ محمد النجار كان نحريراً في العلوم
التي تدرس في جامع الزيتونة في درجات متساوية أو متقاربة.
هذا ما وسع المقام من الحديث عن الحالة العلمية في جامع الزيتونة، وكانت الحكومة منذ أشهر قد ألفت لجنة للنظر في إصلاح قانون ذلك المعهد، ونرجو أن تكون اللجنة قد عملت صالحاً.