الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية
(1)
* نسب ابن خلدون:
هو وليُّ الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي (2). ويتصل هذا النسب إلى وائل بن حجر الصحابي الذي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، ودعا له.
ذكر ابن خلدون نسبه على هذا النسق، وقال: لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة.
* دخول سلفه إلى الأندلس:
كان خلدون المذكور قدم من المشرق في رهط من قومه أهل حضرموت، ونزل "إشبيلية"، وهي حمص التي يقول فيها صاحب مرثية الأندلس:
وأين حمصٌ وما تحويه من نُزَهٍ
…
ونهرها العذب فَيّاضٌ وملآن
(1) محاضرة ألقاها الإمام في (جمعية تعاون جاليات أفريقيا الشمالية) بالقاهرة مساء يوم الجمعة 5 صفر 1343.
(2)
خلدون بفتح أوله كما نص عليه صاحب "الحلل السندسية"(مخطوط)، وصاحب "نيل الابتهاج"(ص 169 هامش الديباج المذهب). وأصل اسمه خالد، وعرف بخلدون كما جاء في تاريخ المترجم به.
تفرّع آل خلدون في إشبيلية، وكانت لهم فيها زعامة ورياسة، ثم رحل جده الحسن عقب فتنة خفقت ريحها في تلك البلاد، فنزل "سبتة"، ثم أرخى زمام مطيته متوجهاً إلى مدينة "عناية"؛ لصلة كانت بين بعض أسلافه وبين صاحبها الأمير زكريا، فلقيه الأمير باحتفاء، وأدخله في سلك رجال دولته، وجرى ابنه محمد على سنته في خدمة الدولة، وأدرك ما ناله والده من وجاهة وإقبال. وانتهى أمر ابنه محمد -الذي هو الجد الأدنى للفيلسوف ابن خلدون- إلى السكنى بمدينة "تونس"، والانتظام في هيئة الدولة، وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من مدينة تونس يستعمله عليها، ولكن ابنه محمداً -وهو والد الفيلسوف المتحدث عن حياته- عدل عن مسلك السياسة وخدمة الدولة، وآثر مدارسة العلم ومجالسة الأدباء، فأصبح معدوداً في زمرة العلماء، ومشهوداً له بالتقدم في فن الأدب.
* نشأة ابن خلدون في تونس:
في هذا البيت -الذي تقلَّب رجاله في أطوار خطرة، ثم بسط فيه العلم أشعة باهرة- ولد أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في غرة رمضان سنة 732، فكانت نشأة ابن خلدون في أسرة امتطت ذرا الرياسة، وخفق فيها روح العلم والأدب، مما ساعد ذكاءه الفطري على أن يشتعل بشدة، وجعل نفسه الذكية بمقربة من الهمم الكبيرة.
نشأ ابن خلدون وكانت رياض العلم في مدينة تونس زاهية، وسوق الأدب نافقة. فاستظهر بالقرآن، وتلقى فن الأدب عن والده، ثم أقبل يجتني ثمار العلوم بشغف، ويتردد على مجالسة العلماء الراسخين - مثل: قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الأبلي -.
ولم يكد يستوفي سن العشرين حتى تجلت عبقريته، واستدعاه أبو محمد ابن تافراكين المستبد وقتئذ إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق، وهي "الحمد لله، والشكر لله" تكتب بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم، وهذا مبدأ دخول ابن خلدون في حياته السياسية.
* عزمه على الارتحال:
تولى هذا العمل وهو يطوي ضميره على الرحلة من إفريقية؛ لوحشة أثارها في نفسه معظمُ شيوخه، وانطواء مجالس كانت أنهار علومها دافقة، وقطوف آدابها دانية. ويمكنك من هاهنا أن تعرف لابن خلدون وهو في شرخ شبابه مبدأ من مبادئ الفطرة السليمة، والهمة الشامخة، وهو الاستخفاف بالمقام الوجيه لدى الدولة، وإيثار ما فيه كمال نفسي ولذة روحية على مظاهر الأبهة ومواطن الراحة والنعيم.
* رحلته إلى بجاية:
لبث ابن خلدون بعد تقليده رسم العلامة أمداً غير بعيد حتى أمكنته الفرصة من أمنيته، وغادر تونس سنة 753 إلى "قفصة"، ثم إلى "بسكرة"، ونزل فيها ضيفاً مكرماً لدى صاحبها يوسف بن مزني.
ثم خرج منها قاصداً السلطان أبا عنان، وهو يومئذ "بتلمسان"، فصرفه عن قصد أبي عنان، وحمله على المسير معه إلى "بجاية"؛ ليغتبط بصحبته، وتزدهي بمثل ابن خلدون أيام دولته.
* ابن خلدون عنه سلطان تونس:
لم يكد ابن خلدون يقضي في كنف صاحب "بجاية" برهة حتى طار صيته، وعبق ذكره في حضره السلطان أبي عنان، وقد جعل هذا السلطان
بعد عوده إلى "فاس" يؤلف من جلة العلماء مجلساً حافلاً، فاستدعاه من "بجاية" سنة 755، فأكمل به نظام مجلسه العلمي، واختاره للكتابة والتوقيع بين يديه. قال ابن خلدون:"فتحملت هذا العمل على كره مني؛ إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي".
* اتهامه بالمؤامرة على ما يغضب السلطان:
حظي ابن خلدون لدى أبي عنان، وارتقى في دولته مكاناً علياً، فأخذ حَرُّ الحسد يلفح قلوب بعض منافسيه، فأخذوا يبيِّتون له المكايد، وينصبون له شرك السعاية، حتى استطاعوا أن يدخلوا إلى إفساد قلب السلطان عليه من باب السياسة؛ إذ رموه بالدخول في مؤامرة مع الأمير محمد صاحب "بجاية". ولتهمة الائتمار على نقض شيء مما تبنيه يد الدولة سهام لا تكاد تخسأ، إذا لم تصب المقاتل، أوهت العظم، وقلقلت الحشا، وسلبت الأجفان نومتها الهادئة، ويالأحرى حيث لم تكن قضاياها مما يوكل إلى اجتهاد محكمة عادلة، وإنما ينفرد بسماع بلاغها، ويستبد بتقدير عقوبتها أحد الخصمين الذي هو الرئيس الأعلى.
* ابن خلدون في السجن:
انطلت تلك التهمة على فكر أبي عنان، فقبض على ابن خلدون والأمير محمد، وزجَّهما في السجن. وكانت هذه النكبة أول ما لقيه ابن خلدون من بلاء السياسة، وأيقن بها أن إقبال الدولة سرعان ما ينقلب إدباراً، وأنَّ عزاً تبنيه للرجل صباحاً قد يأتي عليه المساء فإذا هو الدرك الأسفل من الهوان.
ثم إن السلطان أطلق سبيل الأمير محمد، وترك ابن خلدون يقاسي شدة
الحبس، ويتجرَّع مرارة المحنة، حتى التجأ في استعطافه وجلب مرضاته إلى وسيلة الشعر والمديح، وخاطبه بالقصيدة التي يقول في طالعها:
على أيَّ حال لليالي أعاتبُ
…
وأيَّ صروفِ للزمان أغالبُ
وقد تنجح شفاعة الشعر لدى الحاكم المطلق، وتأتي بالأثر الذي تذهب الحجج الساطعة دونه عبثاً، وما كان من أبي عنان إلا أن هشَّ للقصيدة -وكان وقتئذ بتلمسان-، ووعد بالإفلاج عن ابن خلدون عند حلوله بحاضرة "فاس"، ولكنه لم يلبث بعد إيابه إلى الحاضرة إلا خمس ليالي، فطرقه الوجع، لقي أجله قبل أن يفي بوعده لابن خلدون.
* خروجه من السجن، وولايته كتابة السر وخطَّة المظالم:
وبعد مهلك السلطان بادر الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق سراح ابن خلدون من الاعتقال، وخلع عليه من الإكرام بُرداً ضافياً، وأعاد إليه ما كان يتقلده من أعمال الدولة.
وعندما استلم السلطان أبو سالم زمام الملك استعمل ابن خلدون على كتابة سرِّه، وألقى إليه الأمر في إنشاء مخاطباته، فعدل بالإنشاء عن طريقة التسجيع، وأخذ به في طريق الترسل -ولم يكن كتَّاب الدولة لذلك العهد من يجيد صناعة الترسل-، فكانت هذه المزية من أسباب تفوقه، وإحرازه قصب السبق في حلبة البيان والتحرير.
ولم تزل مكانته لدى أبي سالم راضية، ولم تزحزحه سعاية ابن مرزوق -التي تناولت أكثر رجال الدولة- عما كان يتولاه من كتابة السر، وإنشاء المخاطبات، بل لم تقف في سبيل تقليده خطةَ المظالم آخر عهد الدولة، حتى ثار الوزير عمر بن عبد الله على السلطان، ونبذ الناس بيعته من أعناقهم.
* ابن خلدون في دولة الوزير عمر بن عبد الله:
وقع زمام الحكم في قبضة الوزير عمر بن عبد الله، وكانت بينه وبين ابن خلدون قبل توليه أمر الدولة مودة وصحبة، فأقره على ما كان يتولاه من العمل، وزاد في جرايته. وكان ابن خلدون يطمح بطغيان الشباب إلى غاية أسمى مما يتولى من الأعمال، وفي أمله أن عناية صديقه المقتدر لا تتريث في إسعافه ببغيته. ولما لاح له أن الوزير أخلَّ بعهد الصحبة، أخذه الاستياء من تقصيره إلى أن انقطع عن دار السلطان وهجرها إدلالاً بسابق المودة، ولكن منصب الوزارة أنسى عمر بن عبد الله أن من أساليب عتب الأصدقاء وتذكيرهم بحق أغمضوا عنه هجرهم من غير جفاء، وصرف القدم عن زيارتهم لا عن ملل، ولم يشأ منصب الوزارة إلا أن يفهمه أن تقاعد ابن خلدون عن مقر السلطان زلةٌ، جرَّه إليها تعاظمه، وقلة وفائه بما يستحق مقام الرياسة العليا من إكبار وخضوع، فبدلاً من أن يرعى الوزير مقام الصداقة، ويجعله أرفع مكاناً، وأقوى سلطاناً من مقام الرياسة، أخذته نخوة السلطة، وقابل هجر العتاب والإدلال بهجر الجفاء والتقاطع.
ولما رأى ابن خلدون منه التنكر، والإصرار على الإعراض عنه، استأذنه في العود إلى أفريقية، فلم يجز له ذلك، وشدَّد في منعه، حتى دخل عليه يوم عيد الفطر، وخاطبه بقصيدة يقول في طالعها:
هنيئاً لعيد لا عراه قبول
…
وبشرى لعيد أنت فيه منيل
فحلت هذه القصيدة عقدة من إبائه، وأذن له في السفر، على شرط أن لا يتخذ سبيله إلى "تلمسان"؛ كراهة أن يتصل بصاحبها أبي حمو، ويشتد به أزر دولته.
* رحلة ابن خلدون إلى الأندلس:
احتمل ابن خلدون هذا الشرط، ووليَّ وجهه شطر الأندلس وافداً على السلطان ابن الأحمر بغرناطة. ولما بات بمقربة منها، وافته من وزيرها لسان الدين بن الخطيب رسالة يهنئه فيها بالقدوم، ويعبِّر بها عن شدة ابتهاجه للقياه، ووضع في صدر الرسالة أبياتاً -على سنة من يجيد صناعتي الشعر والنثر-، وهي:
على الطائر الميمون والرحب والسهل
…
حللت حلولَ الغيثِ في البلد المحْلِ
يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه
…
من الشيخ والطفل المعصب والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطةٌ
…
تُنَسي اغتباطي بالشبيبة والأهلِ
* إرساله سفيراً إلى ملك الإسبان:
نزل ابن خلدون من السلطان ابن الأحمر منزلة الاحتفاء والإنعام، وندبه للسفارة بينه وبين ملك الإسبان، فعرف الملك قيمته، وأعجب بكماله ومقدرته، حتى دعاه إلى الإقامة معه بدار ملكه "إشبيلية"، ملتزماً له بأن يرد عليه ما كان لسلفه من أملاك، فرفض ابن خلدون هذه الدعوة، ولم يكن ممن يشغفه المال حبًا، فيؤثره على المقام بين أمته التي يشرف بشرفها، وينحط شأنه بانحطاط سمعتها.
* تنكر وزير الأندلس له:
حاز ابن خلدون لدى ابن الأحمر رعاية ضافية، فجأش الحسد في نفوس بعض معاديه، وطفقوا يُسرون لابن الخطيب ما يزلزل الصداقة بينه وبين ابن خلدون، حتى اغبرَّ صدره، وبدا عليه انقباض أحسَّ به ابن خلدون، فجعل وجه البلاد في عينيه قاتماً، ولم يسعه بعد تنكر ابن الخطيب -وهو
القابض على مقاليد الدولة- إلا أن يعتزم على الرحلة، واتفق أن وافته كتب من أبي عبد الله صاحب "بجاية" يستدعيه للقدوم عليه، فاتخذها ذريعة لاستئذان السلطان في الانصراف إلى أفريقية دون أن يطلعه على ما كان بينه وبين ابن الخطيب، فامتعض في مبدأ الأمر ضَناً بفراقه، ثم ادكر أن للحنين إلى الوطن حكماً لا يغالب، فأذن له بالظعن، وأصدر في تشييعه مرسوماً من إملاء ابن الخطيب، يشهد له فيه برفعة القدر، واستقامة السيرة، والتحقيق في العلم، ويوصي قواد الدولة وأعوانها برعايته وإسعافه في كل حال.
* سفره الثاني إلى بجاية:
سافر إلى "بجاية" سنة 766، وأقيمت له يوم مقدمه حفله مشهودة، فأركب السلطان خاصته لاستقباله، وهرع إليه أهل البلد بنفوس متعطشة إلى لقائه، وانهالوا يمسحون أعطافه، ويلثمون يده. فاجتمع له في هذا الاحتفال إقبال الدولة، وانعطاف الأمة، وهما لا يجتمعان لشخص بانتظام إلا حيث تكون الدولة رشيدة، وإذا كانت الدولة قد تقبل على غير عظيم، فإن الأمة لا تخلع عطفها وإجلالها إلا على من تقدر عظمته، وتثق بإخلاصه.
* ولايته الحجابة لسلطان "بجاية":
تقلد ليوم خلا من قدومه منصب الحجابة، وهي لدى دول المغرب: الاستقلال بإدارة شؤون الملك، والانفراد بالوساطة بين السلطان وبين أهل دولته. بيد أنه استلم زمام السياسة بعد أن نشأت بين السلطان أبي عبد الله وابن عمه أبي العباس صاحب "قسنطينة" فتنة نفدت التدابير دون إطفائها، وما برحت تتأجج إلى أن كانت عاقبتها قتل أبي عبد الله، واستيلاء أبي العباس على "بجاية".
خرج ابن خلدون باسطاً يد الطاعة إلى أبي العباس، ولقي منه احتفاء وإنعاماً، وسرعان ما أنكفأت عقارب السعاية به تدب حول السلطان، فلم ينشب أن استأذنه في الانصراف، فأجاب طلبه بعد تمنع، وارتحل حتى عرَّج على "بسكرة"؛ لصحبة كانت بينه وبين أميرها أحمد بن يوسف بن مزني.
* انصرافه إلى العلم:
وما كان يمتحن به ويقاسيه من مشاكسة المنافسين له في مقاعد الرياسة، ونصبهم حبائل السعاية به، ثم تنكر السلطان له بعد الرعاية والإقبال، صرفَ قلبه عن التعلق بأسباب السياسة، وجعله يفرغ همته في تحقيق العلوم ودراستها.
ومن أجل هذا قعد عن السفر إلى أبي حمو صاحب "تلمسان" حين استدعاه ليقلده الحجابة وكتابة العلامة، ووجه إليه أخاه يحيى ليقوم بعمل هذه الوظيفة مكانه.
* المراسلة بينه وبين الوزير ابن الخطيب:
بعث إليه الوزير ابن الخطيب من "غرناطة" برسائل يشكو فيها مضض النوى، ويتلهف على عهد اللقاء. وقلوب الأصدقاء قلَّما تتصدع بحزازات الوشاية، وتعود إلى عنفوان ودها الصميم، ولكن الرقة الدافقة على ذوق ابن الخطيب، والأدب المنسجم في مزاج خلقه الرصين، ذهبا بأثر ما سعى به إليه قوم لا يفقهون، ونهضا به إلى تأكيد صداقة انتظمت بينه وبين رجل يدانيه علماً وأدباً، ويضاهيه في طرق التفكير، والعمل لرقي نظام الاجتماع.
وإذا كانت الرسائل مثالاً لمنهج الرجلين في المحاورة ساعات اللقاء، فإن هذه المراسلة تنبئك أن المجالس التي كانت تعقد بين هذين الوزيرين
الخطيرين لم تكن مضمار علم وأدب فقط، بل كانت ممتعة بالنظر في الشؤون السياسية الداخلية والخارجية، فقد أتى ابن الخطيب في بعض هذه الرسائل على تفاصيل من أحوال الدولة بغرناطة، وألم فيها بأنباء عن دولة الإسبان في إشبيلية. وكذلك تجد ابن خلدون تعرض في الجواب عن تلك الكتب لحوادث دول شتى: فنسق فيها قسطاً من الحديث عن شؤون دول: تونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، والحجاز، ومصر.
ولو أن علماء الإِسلام أخذوا في هذا السبيل أينما كانوا، ومدوا جانباً من عنايتهم إلى الاطلاع على تصاريف الدول ومجاري سياستها، لبلغوا منتهى السؤدد، وبرئوا من تبعة وقوع الشعوب الإِسلامية في هذا البلاء المبين.
* مساعيه السياسية وهو في بسكرة:
أقام ابن خلدون في "بسكرة" مقبلاً على دراسة العلم، ولم ينكث يده مع ذلك من التدخل في شؤون الدولة، فكان يشايع أبا حمو صاحب "تلمسان" حين نهض يجلب بخيله ورجله على "بجاية"، فكان وسيلة إلى توثيق عرا الصلة بينه وبين السلطان أبي إسحاق صاحب "تونس". وحمل بعض القبائل على مناصرته حتى سار إليه بطائفة من قبيل "الذواودة"، والتقى به في البطحاء، ثم قفل معه راجعاً إلى تلمسان، إذ بلغ أبا حمو أن السلطان عبد العزيز صاحب "المغرب الأقصى" يتحفز للوثوب على "تلمسان". ولما اقتربت ساعة استيلائه عليها، وأخذ أبو حمو في أهبة الانجلاء عنها إلى الصحراء، اعتزم ابن خلدون على الارتحال إلى الأندلس، وحمله أبو حمو رسالة إلى ابن الأحمر صاحب "غرناطة"، فاتصل نبأ سفره بالسلطان عبد العزيز، ونمى إليه أنه يحمل وديعة إلى ابن الأحمر، فأنفذ إليه سرية اعترضت سبيله، فلم تلق عنده ما يحقق هذه
التهمة، وانقلبت به إلى السلطان، فلقيه حوالي تلمسان، فقضى ليلته في اعتقال، وفي الغد أطلق سبيله، فانصرف إلى رباط الشيخ أبي مدين، ونزل بجواره على قصد التفرغ للعلم، ونثرِ درره الشائقة بين يدي طلابه.
* استدعاؤه إلى فاس:
ولم يزل متمتعاً بحياة علمية خالصة، حتى استدعاه السلطان عبد العزيز، وأوعز إليه في الخروج إلى بلاد "رياح"؛ ليجمعهم على طاعته ومناصرته، فانبعث يعمل في هذا السبيل بكلمة نافذة، ودعاية ناجحة، إلى أن قضى المأرب، وبلغ الغاية المنشودة، وكان يسعى إلى هذه المهمة السياسية وهو مقيم ببسكره في جوار أميرها أحمد بن يوسف بن مزني الذي هو صاحب زمام رياح، وما راع ابن خلدون إلا أن أخذ حساده ينفثون سموم الوشاية في أذن أحمد بن مزني، فهاجوا غيرته، وأوغروا صدره حتى تنفس بالشكوى منه إلى صاحب شورى السلطان، وترمار بن عريف، ورفع صاحب الشورى هذه الشكوى إلى السلطان، فما كان من نظره إلا أن استدعى ابن خلدون إلى حاضرة "فاس"، فخرج بأهله وولده.
ولقيه في الطريق نعي السلطان، وتولية ابنه الصبي أبي بكر السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي، فدخل "فاس"، وكان له مع الوزير سابق صحبة، فأدرَّ عليه من معصرات بره وكرامته فوق ما يحتسب، وظل عاطفاً على التدريس، صارفاً همته إلى الوجهة العلمية إلى أن ظهر السلطان أحمد ابن أبي سالم على الوزير أبي بكر بن غازي، واجتذب مقاليد الأمر من يده، ولم يستقر به الحال حتى قام وزيره محمد بن عثمان يدخل عليه الريبة من جانب ابن خلدون، ويغريه بالقبض عليه.
وما هذا الوزير بأول من ازدهت به الرياسة، وتطوحت به في غرور حتى عمي عليه أن لأعاظم الرجال كابن خلدون تاريخاً باقياً، وصحائف لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من مجاملة أهل عصره له، أو إساءتهم إلا أحصتها.
* عودته إلى الأندلس سنة 776:
قبض عليه السلطان ابن أبي سالم، وسرعان ما نهض إلى خلاصه الأمير عبد الرحمن الذي شارك السلطان في حرب الوزير أبي غازي، واتفق معه على أن يستقل بولاية "مراكش" وأعمالها، ولم يطمئن به المقام بعد أن رأى من تنكر السلطان وسوء طوية وزيره ما رأى، فابتغى الوسيلة إلى إذن السلطان له الانصراف إلى الأندلس؛ ليتفرغ للعلم ومدارسته في ظل دولة ابن الأحمر الذي أولاه في رحلته الأولى سابغ الكرامة والإنعام، ولم يظفر بالجواز إلا بعد تسويف، وعلى رغم من وزيره ورجال دولته.
دخل الأندلس سنة 776، فجرى السلطان على عادته من بسط يد الإكرام، وإنزاله منزلة الاحتفاء والرعاية إلى أن وفد على "غرناطة" مسعود ابن ماسي من حاضرة "فاس"، وأبلغ السلطان بإغراء من رجال دولتها أن ابن خلدون كان يبذل مساعيه وجاهه في خلاص لسان الدين بن الخطيب (1)،
(1) كان لسان الدين بن الخطيب -بفضل ما له من التبحر في العلم والأدب، والخبرة بمذاهب السياسة- قبض على زمام دولة ابن الأحمر، وانفرد بالتصرف في شؤونها، فشجيت به بطانة السلطان وحاشيته، وانسابوا إلى السعاية به من كل حدب، حتى أحس بأنها أخذت من السلطان مأخذ القبول، فاحتال للتخلص من الأندلس، والتجأ إلى السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى، وبقي في ظل رعايته، ثم في حماية الوزير أبي بكر بن غازي من بعده. ولما استولى أحمد بن أبي سالم =
فانقلب عطف السلطان عليه جفاء، وأنسه به وحشة، وأجلاه إلى "العدوة" من بلاد المغرب الأقصى.
وموضع العبرة في هذه الواقعة: أنك تقارن بين عودتيه من الأندلس، فتجده في المرّة الأولى قفل من "غرناطة" والسلطان يبسط له يد المجاملة، ويودعه بقلب يأسف لفراقه، ثم هو متوجه نحو "بجاية"، والدولة متأهبة لاستقباله بأجمل ما يتصور من مظاهر الاحتفاء. وتراه في هذه المرة انصرف عنها والسلطان يكره إقامته، وتطوى عنه بساط أنسه، خرج وهو لا يدري أين يلقي عصا التسيار: هذه دولة الأندلس تنفيه من أرضها، وتلك دولة المغرب الأقصى تلحظه بعين الحنق، وترمي من ورائه بسهام الكيد والأذى، وهذا أبو حمو صاحب "تلمسان" لم يزل ينقم عليه مشايعته للسلطان عبد العزيز، وسعيه في صرف وجوه العرب عنه يوم كان طريداً في الصحراء. بيد أن أبا حمو كان على روية لا يفوتها أن الأخذ في معاملة رجل خطير كابن خلدون بالرفق والأناة إنما توضع في حساب الحسنات التي ينوه بها التاريخ، ويرتقي بها شأن دولته، فسمح له بدخول "تلمسان"، فجاءها وقد ذاق من صروف السياسة عذاب الهون، فما كان إلا أن تجرد للقراءة، ولم يشغل وقته بسوى المذاكرة في العلم ودراسته.
وقد يكون انحراف الدولة عن النابغة، أو اضطهادها له، أشد داعية
= على حاضرة فاس حسبما قصصناه في المحاضرة، وكان استيلاؤه عليها بمساعدة وموالاة من السلطان ابن الأحمر، قام سليمان بن داود يغري السلطان بالقبض عليه، فأودعوه السجن، وائتمروا على قتله بدعوى أنه وقعت له كلمات في كتاب "المحبة" تنطق بزندقته. ثم أوعز سليمان بن داود إلى بعض الأوغاد بقتله، فهجموا عليه ليلاً، وقتلوه خنقاً في محبسه.
إلى بذله كل ما يملك من الجد والألمعية في توسيع دائرة معارفه، أو الحذق في صناعة التأليف أو الاستنباط؛ فإن الكدر الذي قد يثيره تغابيها عن مكانه، أو بخسها من قيمته إنما يكشفه ارتياح النفس وتمتعها باستطلاع حقائق العلوم التي هي أصفى لذة، وأبقى سؤدداً من نيل الحظوة، والقرب من مجالس الأمراء.
* تصنيف ابن خلدون تاريخه ومقدمته:
ما برح ابن خلدون منقطعاً لبث العلم، حتى بدا لأبي حمو أن يبعثه سفيراً إلى "الذواودة"؛ ليراوضهم إلى طاعته، ويجمعهم على ولائه، فلبى طلبه في الظاهر، وخرج وهو يسر في نفسه أن لا يعمل لهذا السبيل بعلَّة أنه أصبح يعزُّ عليه بذلُ شيء من أوقاته في غير الوجهة العلمية، ولعله سئم التدخل في السياسة التي قد تلتوي به مع أهواء الأمراء، وتحمله على أن يسعى في استنجاد القبيلة لمن كان يغريها عليه.
ولما وصل إلى البطحاء، ولى وجهه عن ناحية الذواودة جانباً، وثنى عنانه إلى أولاد عريف، فأنزلوه بقلعة أولاد سلامة، وأقام بينهم أربع سنين في جو هادئ، وبيئة لا تجيش فيها مراجل الحسد، ولا تنفث فيها الوشاية سماً ناقعاً. وفي هذه السنين -التي كانت مهبط السكينة وصفاء الفكر وارتياح الضمير- شرع في تأليف "تاريخه" الفائق، ولذلك الحين أتم في "مقدمته" على نسجها الحكيم، وتحقيقها البديع.
* عودته إلى وطنه:
سلّ يده من كل شاغل، وألقم فكره ثدي الاستنتاح والتفقه في المقاصد العلمية والشؤون العمرانية، حتى بلغ في مجالها شأوا لا يشق غباره. فتاقت
نفسه إلى زيادة التوغل في أسرار العلم، والاستفادة من كتب لا تنالها الأيدي إلا في الحواضر، فراسل صاحب تونس أبا العباس بالعودة إلى تونس التي هي مسقط رأسه، ومسحب ذيل شبابه، ومجرى جياد أنسه، فما تريث أن طلع عليه جواب السلطان يأذن له بالقدوم، ويحثُّه عليه، فانبرى يطوي الفيافي حتى أوى إلى ظل عنايته، وأنزله منزلة المغتبط بسابقات عزه ومظاهر كرامته.
ظن ابن خلدون -مذ حطَّ رحله بين قومه، وسحب رداء العز في وطنه- أن الزمان صافحه بيد المصافاة، وأن الحوادث أصبحت تهاب أن تغشى ساحته، فإذا تقريب السلطان له، واستخلاصه جليساً يضرم في قلوب فريق من الناس نار الغيرة والحسد، فلم يتمالكوا أن باتوا ينصبون له حبائل الوشاية، يهمسون في أذن السلطان بما يوغر صدره عليه، ومما تعلقوا به في أسباب الكيد به: تخليه عن صوغ الشعر في مديح السلطان، وزعموا لديه أنه لم يعن بمديحه كما عني بمديح سلاطين المغرب والأندلس؛ استخفافاً بمقامه، وكفراناً لنعمته.
وقد ضلَّ هؤلاء عن سواء السبيل: فإن العالم الأديب قد يهفو به نزق الشباب، أو ينساق بحكم الضرورة إلى مديح بعض الرؤساء، حتى إذا بلغ في العلم أشده، وخلع عليه التقدم في السن حلة السكينة والوقار، عافت نفسه ذلك الفن المزري من الشعر، وجمدت قريحته دون أن تنطف فيه بقطرة. فيجب على صاحب الدولة الرشيدة أن يكون على همة أسمى من أن تتشوف إلى سفاسف الأمور، وأطهر من أن ترضى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا بأنفسهم في حضيض الملق والاستعطاف، بل الأمجد لذكره، والأدعى لحمده: أن يكون إكرام العلماء في نظره حقاً تقتضيه العلم بنفسها.
* تقديم تاريخه إلى صاحب تونس:
فاجأه صديق له -كان أحد بطانة أولئك السعاة- بما يكيدونه به تحت ستار، وكان قد اعتزم على أن يقدم للسلطان نسخة مما أكمل من "تاريخه"، فانتهز الفرصة، وأنشده ساعة إهدائه الكتاب قصيدة أمتعها بذكر سيره وفتوحاته، ونسج في ذيلها الاعتذار عن انتحال الشعر بأسلوب بليغ. ويقول في هذا الاعتذار:
وإليكها مني على خجل بها
…
عذراء قد حليت بكل نفيسِ
لولا عنايتك التي أوليتني
…
ما كنت أعني بعدها بطروسِ
والله ما أبقت ممارسة النوى
…
مني سوى رسم أمرِّ دريس
أضنى الزمان عليَّ في الأدب الذي
…
دارسته بمجامع ودروس
فسطا على فرعي وروَّع مأمني
…
واجتث من روح النشاط غروسي
ورضاك رحمتي التي أعتدُّها
…
تُحيي مُنى نفسي وتُذهب بوسي
* ابن خلدون في مصر:
وما برحوا يركبون في السعاية به كل فن، حتى شاهد أثرها في معاملة السلطان له، فرام التخلص من مثار هذه الفتنة، وابتغى الوسيلة إلى ذلك باستئذان السطان في السفر لأداء فريضة الحج، وقدم الاسكندرية لمضيِّ عشر ليال من جلوس الملك الظاهر على عرش الملك، ثم انتقل إلى القاهرة، وتصدى للتدريس بالجامع الأزهر، واتصل بالسلطان، فأكرم مثواه، وأعاد ليل غربته ووحشته صباح أنس وطمأنينة، وأولاه وظيفة التدريس بمدرسة القمحة، ثم قلده خطة قضاء المالكية على وفق النظام المتبع لذلك العهد من إقامة قضاة على عدد المذاهب الأربعة، يلقب كل واحد منهم بقاضي
القضاة، فتحرى بهذه الخطة صراطاً سوياً، ولم يدخر وسعاً في العمل على إصلاحها، وتجديد ما درس من معالمها، ولم تألف العامة الصرامة في إقامة الحق على وجهه الصريح، ولم يعتد ذوو الجاه والشوكة من رجال الدولة إغلاق باب الشفاعة والتوسل في وجوههم، فتعاقد الفريقان على التظلم منه، والتهويش عليه لدى السلطان؛ بدعوى أنه غير خبير بالتقاليد المعبر عنها بالمصطلح، وانضم إلى هذه المحنة نكبته في أهله وولده إذ أبحروا من تونس ليلتحقوا به، فغشيتهم ريح عاصف، وهلكوا في البحر غرقاً.
وقف السلطان تجاه تلك الشكوى موقف الحكمة، فجمع بين الحزم في السياسة، وكرم الهمة، ففصله عن الخطة؛ تهدئة لثائرة الجمهور، واستمر على مواصلته بالرعاية والإنعام؛ وفاء بحق العلم، واقتناصاً لمفاخر يزدهي بها وجه تاريخه المجيد.
* ابن خلدون والوزير ابن زمرك:
وبعد أن قضى ثلاث سنين عاكفاً على التدريس والتحرير، خرج لقضاء فريضة الحج سنة 789، وقفل راجعاً إلى القاهرة، واتصل حين بلغ الينبع بكتاب يحتوي على شعر ونثر راسله به أبو عبد الله بن زمرك وزير السلطان ابن الأحمر صاحب "غرناطة"، ولجودة نظمه، وصفاء ديباجته بحيث يسوغ لنقاد الأدب أن يضعوه بالمكان الأسمى من الشعر، ويقضوا له بالسبق في حلبة البلاغة، رأينا من اللائق بهذه المحاضرة أن نحلي جيدها بطوق فرائده، ومما يقول في أوائل هذه القصيدة:
ويا زاجري الأظعان وهي ضوامرٌ
…
دعوها ترد هيماً عطاشاً على نجدِ
ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصَّبا
…
فإن زفير الشوق من مثلها بعدي
براها الهوى بري القداح وحطها
…
حزون على صفح من القفر ممتدِّ
عجبت لها أنّي تجاذبني الهوى
…
وما شوقها شوقي ولا وجدُها وجدي
لئن شاقها بين العذيب وبارقٍ
…
مياه بفيء الظل للبان والرند
فما شاقني إلا بدور خدودها
…
وقد لِحْن يوم النفر في قُضُب مُلْدِ
وكم صارمٍ قد سل من لحظ أحورٍ .. وكم ذابلٍ قد هز في ناعم القدّ
خذوا الحذر من سكان رامة إنها
…
ضعيفات كسر اللحظ تفتك بالأُسد
واسترسل في هذا الطرز البديع والنسيب الساحر حتى تخلص إلى خطاب ابن خلدون بقوله:
إليك -أبا زيد- شكاة رفعتها
…
وما أنت من عمرو لديَّ ولا زيدِ
بعيشك خبرني ولا زلت مفضلاً
…
أعندك من شوق كمثل الذي عندي
فكم ثار بي شوق إليك مبرِّح
…
فظلت يد الأشواق تقدح في زندي
يقابلني منك الصباح بوجنة
…
حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي
وتوهمني الشمس المنيرة غرة
…
بوجهك وإن الله وجهك عن ردِّ
محياك أجلى في العيون من الضحى
…
وذكرك أحلى في الشفاه من الشهد
واطرد في هذا النسق المعبر عن الوداد المحض، والشوق الطافح، وبلوغ الشعر في جودته إلى هذا الحد مما ينبه على رفعة منزلة ابن خلدون في نفس الوزير ابن زمرك؛ إذ الشاعر وإن كان مغلقاً لا يطيل نفس الشعر ويرتقي في إبداعه إلى هذا المظهر إلا عن داعية تزعج قريحته، وتأخذ بمجامع عنايته. وليست الداعية في هذا المقام سوى الإعجاب بكمال ابن خلدون، والحنين إلى حدائق آدابه الزاهرة.
وبعد عودته إلى القاهرة تقلد خطة القضاء مرة ثانية، ثم عزل عنها، وقد تولاها مراراً، وبلغت ولايته لها، ثم تخليه عنها منذ هبط مصر إلى أن توفي نحو ست مرات.
* ابن خلدون والطاغية تيمورلنك:
وكان الملك الناصر فرج يسلك في رعايته والإقبال عليه بوجه البر والإنعام مسلك أبيه الملك الظاهر، واستصحبه في خروجه إلى الشام أيام الفتنة التترية، فكان ابن خلدون ممن وقعوا في الأسر، ثم غشي مجلس تيمورلنك في طائفة من الأعيان والقضاة، ومكنه دهاؤه وبراعته في فن السياسة من افتتاح باب المخاطبة، والدخول معه في حديث أصاب مواقع هواه، وأخذ بمجامع لبه، حتى أحرز لديه مكانة الرعاية والإكرام، وحمله الإعجاب بسمو مداركه، وكياسة منطقه على اصطفائه لنفسه، والانقلاب به إلى مقر ملكه؛ ليكون شهاباً ثاقباً في سماء دولته، ودرة وضاءة في سلك علمائه.
ولم تطب نفس ابن خلدون لأن يحط في أهواء هذا الطاغية، ويتطوح في مجاراته أن يدخل في شيعته، ويعمل تحت لوائه، وتلطف في مخادعته باستئذانه في العودة إلى مصر؛ ليجمع أمره، ويضم إليه أهله وكتبه، فنفذت الخدعة، وبلغ أمنيته، فعاد إلى القاهرة، ومدَّ بها طنب الإقامة إلى أن أدركه أجله وهو في منصب القضاء لأربع بقين من رمضان سنة 808، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر.
وقبره غير معروف، شأن من يوافيه الحمام في دار غربة، أو يقبره قوم كسدت لديهم بضاعته الغالية، وكلَّت أبصارهم دون الوصول إلى مراميه السامية.
* أخلاق ابن خلدون:
يمكن للناظر فيما اقتبسناه من سيرة ابن خلدون أن يشهد له ببعض خصال سامية؛ كعلو الهمة، ورقة الحاشية، وقلة المبالاة باقتحام المصاعب والأخطار، وقد وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتاب "الإحاطة" ببعض أخلاق شريفة إذ قال:"هو حسن الخلق، جم الفضائل، ظاهر الحياء، وقور المجلس، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة. جواد، حسن العشرة، عكف على رعي خلال الأصالة". ووصفه الوزير أبو عبد الله بن زمرك في قصيدته المومأ إليها آنفاً بشدة الحياء إذ قال:
يقابلني منك الصباح بوجنة
…
حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي
وبحسن الخلق إذ قال:
لقيتك في غريب وأنت رئيسه
…
وبابك للأعلام مجتمع الوفد
فآنست حتى ما شكوت بغربة
…
وواليت حتى لم أجد مضض الفقد
وعدت لقطري شاكراً ما بلوته
…
من الخلق المحمود والحسب العدِّ
وقد أثنى عليه الأستاذ إبراهيم الباعوني الشامي، وكانت بينهما مودة وصحبة، ووصفه بعلو الهمة.
وأومأ ابن الخطيب إلى مغمز في خلقه، وهو بعده عن حسن التأني، وشغوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، وجعل هذا هو العلة في تحامل رجاك الدولة عليه، وانطلاق ألسنتهم في السعاية به لدى السلطان.
ولمزه ابن حجر في كتاب "رفع الإصر" بخلق كبير، والازدراء بمقام غيره.
وذكر في شواهد هذا: أن القضاة دخلوا للسلام عليه حين تولى منصب القضاء، فلم يقم لأحد منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك. ومن تقصى أخبار النوابغ من أهل العلم والأدب، وجد أكثرهم يتطوح في الاحتفاظ بالمظهر اللائق بعظمته إلى الحال الذي يعده علم الأخلاق في قبيل الكبر والخيلاء.
وقذفه ابن حجر بخلق الفظاظة، وجفاء الطبع أيام كان قاضياً، وحكى عنه: أنه كان يعزر الخصوم بالصفع -ويسميه: الزج-، فإذا غضب على إنسان، قال: زُجُّوه،. فيصفع حتى تحمرَّ رقبته.
وتجاوز ابن حجر في التشنيع عليه، حتى رماه بارتكاب ما لا يحل لنا الأدب الجميل إيراده في هذه المحاضرة، فإلى الله إيابهُما، وعليه حسابهما. ومن قرأ ما كتبه ابن حجر في ترجمة ابن خلدون، وجدها منسوجة على قصد الحط من شأنه، وكتم شيء من فضله، فلا يبعد أن يدخل في عبارته غلو، أو يتساهل في النقل عمن كان بينه وبين المترجَم له منافسة وتحاسد.
* مكانته في العلم:
أنبتت المعاهد العلمية الإِسلامية من فحول العلماء رجالاً لا تحيط بهم أقلام الحاسبين، ولكن الرجال الذين يتسنمون في العلم الذروة القصوى، وتنفجر قرائحهم بمدارك فائقة، فيخرجوها للناس في أسلوبها الحكيم، ليسوا بكثير، ومن هذه الطائفة العزيزة المثال: أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون.
كان بعيد الشأو في العلوم الشرعية والعربية، خبيراً بالعلوم النظرية، ضليعاً في الفنون الأدبية، ويشهد له بالرسوخ في العلم: الكتب التي درسها؛ مثل: "تهذيب البرادعي" في الفقه، و"مختصري ابن الحاجب الأصلي والفرعي"،
وكتاب "الموطأ"، و"صحيح مسلم"، وغيرهما من الأمهات في علم الحديث، وكتاب "التسهيل" لابن مالك في النحو.
وأخذ العلوم العقلية والمنطق وسائر الفنون الحكمية والتعليمية عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الأبلي.
وحسبكم شاهداً على تقدمه في هذه العلوم النقلية والعقلية: مقدمة تاريخه التي أمتع فيها البحث عن حقائق هذه العلوم وفلسفتها على طرز لا يبتكره إلا من مارسها على بينة من أمرها، وتوغل في أحشائها.
وأضاف إلى ثقافة الفكر، والتبريز في الفهم: قوةَ الحفظ، فكان يحفظ القرآن الكريم، والمعلقات، وديوان الحماسة، وشعر حبيب، وقطعة من شعر المتنبي، وسقط الزند، وطائفة من أشعار كتاب "الأغاني"، وغير ذلك من المنظومات العلمية.
* ابن خلدون والحافظ ابن حجر:
قصد الشيخ ابن حجر الحط من شأنه في العلم، فقال في "رفع الإصر": وقد ذكره ابن الخطيب في "تاريخ غرناطة"، ولم يصفه بعلم، وإنما ذكر له تصانيف في الأدب، وشيئًا من نظمه. وقد نقل صاحب "نفح الطيب" ترجمة ابن الخطيب لابن خلدون في كتاب "الإحاطة"، وهي تتضمن وصفه بالعلم؛ حيث قال: متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور.
وقال ابن حجر: وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه، فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين ابن علي في "تاريخه"، فقال: قتل بسيف جده، قال ابن حجر: ولم توجد
هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكأنه ذكرها في النسخة التي رجع عنها.
والعجب من الحافظ أبي الحسن حين يغض من مقام ابن خلدون لبلاغ مزوِّر عنه، ثم من الحافظ ابن حجر حين ينفي ذلك من "تاريخه"، ويرجو أن يكون ذكره في النسخة التي رجع عنها. والحقيقة أن ابن خلدون أورد ذلك في الفصل الذي عقده في ولاية العهد من "المقدمة"، عازياً له إلى القاضي أبي بكر بن العربي المالكي، ومتعقباً له بالرد، ونصه:
"وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا، فقال في كتابه الذي سماه: "بالعواصم والقواصم" ما معناه: أن الحسين قتل بشرع جده، وهو غلط، حمله عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومَن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟! ".
ومن مثل هذا يستدل على أن بعض الطاعنين على ذوي الآراء الإصلاحية، قد يؤتون من عدم اطلاعهم على نفس مقالاتهم، واستيفاء النظر في مؤلفاتهم.
ثم قال ابن حجر مستشهداً على ما يدعي من ضعف مكانة ابن خلدون العلمية:
"حتى إن ابن عرفة لما قدم إلى الحج، قال: كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب، فلما بلغنا أن ابن خلدون ولي القضاء، عدنا بالضد من ذلك".
غير بعيد صدور هذه المقالة من الشيخ ابن عرفة؛ فإن ابن خلدون لم يكن مملوء الحافظة بتفاصيل علم الفقه؛ بحيث يكون أخصائياً في أحكام نوازله الجزئية، وهذا هو المنظور إليه في أهلية القضاء لذلك العهد. أما أن يكون الرجل مكيناً في علم الأصول، قاتلاً قواعد الفقه خبرة، ذا حذق في
صناعة تطبيق القواعد على ما يعرض من الوقائع -وهي المرتبة التي لا يقصر عنها ابن خلدون فيما نعتقد-، فلهم أن ينفوا عنه أهلية القضاء، ويطرحوه من حساب من يتقلدها بحق.
ثم أن البون الشاسع الذي كان بين مسلكي الشيخ ابن عرفة وابن خلدون في العلم يقتضي أن يكون بينهما من المنافسة ما لا يمنع أحدهما من القدح في مكانة صاحبه، وقد كان بينهما في تونس مجافاة، وادعى ابن خلدون أن لابن عرفة إصبعاً في السعايات التي بلوه بها لدى صاحب الدولة التونسية.
* مؤلفاته:
أتى ابن الخطيب في كتاب "الإحاطة" على بعض مؤلفات ابن خلدون، فقال: شرحَ البردةَ شرحاً بديعاً دلَّ به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد، وعلق للسلطان -يعني: ابن الأحمر- أيام نظره في العقليات تقييداً مفيداً في المنطق، ولخص "محصل" الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتاباً في الحساب، وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه بشيء لا غاية فوقه في الكمال.
وقال صاحب "نفح الطيب" بعد نقل ما جاء في "الإحاطة" من التعريف بابن خلدون: هذا كلام لسان الدين في حق المذكور في مبادئ أمره وأوسطه، فكيف لو رأى "تاريخه الكبير"؟!.
ومما قاله المقريزي في وصف "مقدمة" هذا التاريخ: وإنه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إن هي إلا زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة
والفهوم، توقف على عنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبح على أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم.
ورام الشيخ ابن حجر أن يبخس كل أثر له، حتى هذه المقدمة، فقال في كتاب "رفع الإصر" بعد حكايته كلام المقريزي: وما وصفه به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية، فمسلم، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك، فليس الأمر كما قال، إلا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن.
وقد نقلت هذه المقدمة إلى لغات أخرى: تركية، وإيطالية، وفرنسية، فكانت أحد الآثار العربية التي شهد بها الغربيون كيف يرتقي الفكر الناشئ في معاهد العلوم الإِسلامية حتى يتسنى له أن يبحث في نظم الاجتماع، وطرق الإصلاح، على وجه بديع، وأسلوب حكيم. ومتى صح أن النابغة لا يبدع في فن من فنون النظر، ويطيل فيه النفس إلى الأمد الأقصى إلا أن يتقدمه سلف يكون كواضع الأساس، أو يحظى بصحبة من ينسج في البحث والمحاورة على منوال ذلك الفن؛ فإنا لم نر من الرجال الذين لقيهم ابن خلدون من يصح أن يكون مساعداً له على هذا المسلك الفلسفي الاجتماعي غير لسان الدين بن الخطيب، ولهذا كان ابن خلدون ينوه بشأنه، ويشيد بذكره أينما حل.
قال الشيخ إبراهيم الباعوني الشامي -فيما رآه صاحب "نفح الطيب" بخطه-: وكان -يعني: ابن خلدون- يكثر من ذكر لسان الدين بن الخطيب، ويورد من نظمه ونثره ما يشنف به الأسماع، وينعقد على استحسانه الإجماع،
وتتقاصر عن إدراكه الأطماع.
* شعره:
يعد ابن خلدون في قبيل الشعراء المجيدين، ولكن انكبابه على مدارسة العلوم، وقلة غدو قريحته ورواحها على النظم، عاقه عن أن يبلغ في إتقان نسجه والإبداع في فنون التخيل مبلغ المشهود لهم بالتفوق في هذه الصناعة.
وقد اعترف هو نفسه بما يجده من استصعاب الشعر عليه، وبعدِ مأخذه منه عندما يحاول نظمه، قال في "مقدمة تاريخه": ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر -وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة-، فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام؛ من القرآن، والحديث، وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً، وإنما أتيت -والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية، والقوانين التأليفية، وعدَّدَ جملة من محفوظاته، ثم قال: وامتلأ حفظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلى ساعة معجباً، ثم قال: لله أنت! وهل يقول هذا إلا مثلك!
ولصفاء فطرته، وسلامة ذوقه، قد يدرك شعره مع تلك العلة التي أومأ إليها غاية بعيدة في الإجادة. ومن مُثُله الرائقة: قصيدته التي أنشدها سلطان المغرب ليلة الميلاد النبوي عام 763، وافتتحها بقوله:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي
…
وأطلن موقف عَبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين ساعة وقفة
…
لوداع مشغوف الفؤاد كئيبِ
ومنها:
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا
…
وتواصل الإسآد بالتأويب
متجافياً عن رحل كل مذلل
…
نشوان من أينٍ ومس لغوب
تتجاذب النفحات فضل ردائه
…
في ملتقاها من صبا وجنوب
إن هام من ظمأ الصبابة صحبه
…
نهلوا بمورد دمعه المسكوب
أو تعترض مسراهم سدف الدجى
…
صدعوا الدجى بغرامه المشبوب
هلا عطفت صدورهن إلى التي
…
فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤمَّ من أكناف يثرب مأمناً
…
يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوة آيها مجلوة
…
تتلو من الآثار كل غريب
ومن أجود شعره وأعلاه مطلعاً في البلاغة: قوله من قصيدة يهنئ بها أبا حمو بعيد الفطر:
هذي الديار فحيهن صباحا
…
وقف المطايا بينهن طلاحا
لا تسأل الأطلال إن لم تروها
…
عبرات عينك واكفاً ممتاحا
فلقد أخذن على جفونك موثقاً
…
أن لا يرين مع البعاد شحاحا
ايه على الحي الجميع وربما
…
طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا
وتعرض الشيخ ابن حجر لشعر ابن خلدون، وقال: إنه لم يكن ماهراً في النظم، وكان يبالى في كتمانه، مع أنه كان جيداً لنقد الشعر. وعدم مهارته في الشعر مسلم على معنى أنه لم يصل إلى درجة من أفرغوا جهدهم في هذه الصناعة، وأصبحوا لا ترى تراجمهم إلا في طبقات الشعراء. وقد أريناك من شعره مثلاً يشهد بأن له قوة شاعرية فطرية، وهو المثل الأعلى لشعر من
انصرف بهمته إلى التضلع من العلوم النقلية والنظرية، ثم مد يده إلى الشعر على وجه التحلي بفن من فنون الأدب الجميلة.
* مُثل من فلسفته الاجتماعية:
لابن خلدون في الاجتماع والسياسة آراء سامية استمدها من مطالعاته الواسعة في التاريخ، ومشاهداته أزمان الرحلة؛ إذ تقلب في أمم، ودخل في أحشاء دول. ولنسق إليكم أمثلة من فلسفته الاجتماعية التي لها مساس بمشروع جمعية أدبية كجمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية:
* المغلوب مولع بتقليد الغالب:
يقول ابن خلدون: إن المغلوب "مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته، وسائر أحواله وعوائده". وعلل هذا بأن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو بما تغالط به نفسها من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب.
وهذه نظرية صحيحة، وعلتها ظاهرة، وهي مطردة في الأقوام الجاهلة والشعوب التي يلقى حبلها على غاربها، فتأخذ في تقليد الغالب، والتشبه به في الشعار والعادات، وتفرط في ذلك حتى تندمج في بني جنسه، وتفنى في قبيل عنصريته.
فجدير بزعماء الشرق ودعاة إصلاحه اليوم ألا يدعوا النشء منهمكاً في تقليد الأمم الغربية، ويحق عليهم أن يمعنوا النظر في أحوالها ومظاهر مدنيتها، ويميزوا بين ما كان من أسباب رقي حالتها الاجتماعية، وانبساط يدها إلى القبض على أزمَّة السياسة في الشرق، فيحرضوا الشرقيين على اقتباسه،
وإضافته إلى وسائل حضارتهم، وما كان من الأوضاع المنكرة، أو أنه كان ناشئاً عن عادة ولدتها البيئة الخاصة، ضربوا عنه صفحاً، وأنذروا الشرق عاقبة الاقتداء به.
وفحصُ أحوال تلك الأمم، وتمييزُ طيبها من خبيثها يحتاج إلى نظر حكيم، وذوق سليم، فقد يجد الناظر ما قد يكون نافعاً في أوطانهم، ولكن عمله في بلادنا اليوم ضرر محض. ومن أمثلة هذا: إضراب التلاميذ عن الدروس احتجاجاً على قضية سياسية، فهذا النوع من الإضراب قد يلتجئ إليه تلاميذ دولة مستقلة حريصة على ترقيتهم في العلوم والفنون، فيكون نافعاً لهم، وذريعة لنجاح مطلبهم، ولكن الدولة الأجنبية لا يسوءها أن ينقطع أبناؤنا عن التعلم ليالي وأيامًا، بل يرتاح ضميرها إلى أن تغلق المدارس أحقاباً؛ حتى يتسنى لها أن تسوقهم كالأنعام إلى حيث تشاء.
* الأمة المغلوبة يسرع إليها الفناء:
يقول ابن خلدون: "إن الأمة إذا غُلبت، وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء". وجعل العلة في هذا ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها، فيقصر الأمل، ويضعف التناسل، والاعتماد إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوة الحيوانية.
وهذه النظرية حادثة، وعلتها معقولة، فيتحتم على زعماء الشعوب المغلوبة للأجنبي أن يعالجوا هذا الداء القاتل للأمم الجاهلة بما يبثونه فيها من أمل الخلاص، ويضربوا لها الأمثال بالأمم التي تخلصت من سلطة الغريب؛ مثل: اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، وأمريكا، ويعلموها أن وسيلة النجاة منافسة
الغالب في أسباب القوة من المال والعلم والاتحاد، ويربُّوها على العظمة وإباءة الضيم واستصغار العظائم؛ فإنها تعود إلى حياة وقوة تصارع بها حاكمها الغاصب، وإن كانت فئة قليلة، وبلغت جنود خصمها من الكثرة ما لا يخطر على البال.
لا تحقرن صغيراً في مخاصمة
…
إن الذبابة أدمت مقلة الأسد
* العرب والسياسة:
عقد ابن خلدون في "مقدمة تاريخه" فصلاً ذهب فيه إلى أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك. وتدور هذه المقالة على ألسنة بعض من يريد الحطَّ من شأن العرب، ولا سيما الأعاجم الذين يريدون استعمار بلادهم، وإدخالهم تحت سيطرتهم، ويسوقونها كالشاهد على أن العرب لا يصلحون لأن يديروا سياستهم بيد مستقلة، وينقلها بعض العرب أو أنصارهم، فيرمي ابن خلدون بسفه الرأي في هذه القضية، ويحكم على تخطئته بحجة سداد نظرهم في السياسة، واتساع فتوحاتهم أيام الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم من دهاة الأمراء وأبطال الرجال.
والتحقيق أن ابن خلدون إنما يقصد العرب الذين يعيشون بالبادية، وقبل أن يخرجوا من ظلمات جاهليتهم إلى الاهتداء بمعالم الإِسلام. وعباراته صريحة في هذا الصدد. ومما قال في هذا القصد:"وإنما يصيرون إلى سياسة الملك بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية". ثم قال: "واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم".
خرجت يوماً من "برلين" على سكة الحديد إلى بعض نواحيها، وكان في رفقتي اثنان من مستشرقي الألمان. وبعد قليل أقبل عليَّ أحدهما، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك؟ فقلت له: إنما يريد العرب في عصر جاهليتهم، وأما بعد أن تحلوا بهدي الإِسلام، فقد أصبحوا كغيرهم من الأمم: يجيدون النظر في السياسة، ويديرون زمامها على بينة. فلاح على وجهه الامتعاض من هذا الجواب. وليست ألمانيا أقل شرهاً وحرصاً على استعباد الشعوب الشرقية من بقية دول الاستعمار.
ويوضح ما قاله ابن خلدون من قلة خبرة العرب أيام جاهليتهم بمذاهب السياسة: أنهم كانوا مغلوبين لطبيعتين لا ينتظم معهما أمر الملك وإدارة شؤون الجماعة:
إحداهما: الانتصار لمثل الجار والقريب، والصاحب والحليف، وإن كان ظالماً، وكانوا يرون هذه الطبيعة من مقتضيات صحة العهد، وعزة الجانب. والسياسة إنما تقوم على قاعدة المساواة، وحماية الحقوق من أيدي المعتدين عليها، لا فرق بين بعيد وقريب، وعدو وحبيب. ويعتبر هذا بالحكومات الأجنبية، فإنك تجدها تعبث بقاعدة المساواة في البلاد المحتلة، فتستخف بحقوق الوطنيين، وترفع أبناء جنسها عليهم درجات، وهذا أول العلل التي تجعل سياستها منكرة، ووطأتها لا تطاق.
ثانيهما: المسارعة إلى مؤاخذة المسيء والانتقام منه بدافع طبيعة إباية الضيم، والسياسة تقضي باحتمال بعض الأذى، والإغضاء عن كثير من الهفوات.
وأقم الوزن بالقسط في الحكومات السائدة، فإنك ترى الحكومة التي هي أطيش حلماً، وأخف يداً إلى إرهاق من تسميهم مجرمين سياسيين، فتستيقن أنها أقصر عمراً، وأن بغضها في قلب شعبها أحر من جمر الغضا.
وقد حارب الإِسلام هاتين الطبيعتين حتى أخرج من العرب موازين قسط وعدالة؛ كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وجبال حلم وأناة؛ كمعاوية بن أبي سفيان، والمأمون بن هارون الرشيد.
أيها السادة!
هذه كلمات في حياة الفيلسوف التونسي عبد الرحمن بن خلدون، ألقيناها على مسامعكم رجاء أن يأخذ منها طلاب العلم بالأزهر الشريف عبرة، حتى ترى منهم أوطانهم بعد العودة أمثال ابن خلدون في علمه وتفكيره، وما ذلك على الله بعزيز.