المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حياة أسد بن الفرات - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١١/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(20)«توْنس وَجامِعُ الزَّيْتُونَة»

- ‌المقدمة

- ‌فقهاء تونس

- ‌شعراء تونس

- ‌الحالة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌الدولة الحسينية في تونس

- ‌الشعر التونسي في القرن الخامس

- ‌حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية

- ‌حياة أسد بن الفرات

- ‌نظرة في أدب الشيخ محمود قبادو التونسي

- ‌نظرة في حياة وزير تونسي

- ‌الشيخ محمد ماضور من علماء تونس وأدبائها

- ‌الشيخ محمد النجار من أفاضل علماء تونس

- ‌أحمد أبو خريص

- ‌الشيخ محمد بيرم الثاني نسبه وولادته ونشأته

- ‌الشيخ محمد الخضار من علماء تونس الأجلَّاء

- ‌السيد محمد النيفر من كبار علماء جامع الزيتونة في القرن الماضي

- ‌السيد محمد الطاهر بن عاشور

- ‌عمر بن الشيخ من أعاظم أساتذتي بجامع الزيتونة في تونس

- ‌أحمد كريم

- ‌محمد بن الخوجة من أركان النهضة العلمية بجامع الزيتونة

- ‌أحمد الورتاني

- ‌محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامع الزيتونة الأعظم في تونس

- ‌علي الدرويش من علماء تونس الفضلاء

- ‌تونس

- ‌سَالم بوحَاجب آيَة من آيَات العبقريّة

الفصل: ‌حياة أسد بن الفرات

‌حياة أسد بن الفرات

(1)

أيها السادة!

أعرض على حضراتكم آثاراً من سيرة رجل يدخل في سلك العلماء الراسخين، وتقرؤون اسمه في سلك الأبطال الفاتحين، وهو مؤلف "المدونة"، وفاتح صقلية: أسد بن الفرات.

قضى أسد بن الفرات معظم حياته بمدينة القيروان، ولحياته صلة بالعلم، وصلة بالسياسة، فيحسن بنا أن نفتتح المحاضرة بكلمة نأتي بها على موقع القيروان، ونلم فيها بحالته السياسية والعلمية للعهد الذي نشأ وعاش فيه أسد ابن الفرات.

* القيروان:

لا يغيب عن حضراتكم أن تونس فتحت أولاً في عهد عثمان بن عفان بسيف عامله على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكانت آخرة هذا الفتح أن لاذ الروم والبربر بطلب الصلح، فصالحهم الفاتحون على مقدار وافر من المال، تسلموه منهم، وولوا عنهم إلى مصر وما وراءها راجعين.

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الثامن عشر الصادر في رمضان 1364.

ص: 87

وبعد أن وقعت الخلافة في يد معاوية بن أبي سفيان، بعث إلى إفريقية (1) جيشاً يقوده معاوية بن أبي حديج الكندي، ففتح منها بلاداً كثيرة، ثم عاد إلى مصر، وخلفه عقبة بن نافع الفهري، فجعل من فاتحة أعماله أن خطط تلك المدينة التي تسمى:"القيروان"، وهي واقعة من مدينة تونس في ناحية الجنوب، تبعد عنها بمسير خمس ساعات في سكة الحديد، وتقدر هذه المسافة في القديم بنحو مئة ميل.

* الحالة السياسية:

ظلت القيروان منذ أنشأها عقبة بن نافع عاصمة أفريقية، وظل ولاتها يفدون عليها من قبل الخليفة في الشرق إلى أن اضطرب حبل الأمن، وحل بعض الزعماء فيها وكاء الفتنة، فبعث أبو جعفر المنصور جيشاً على رأسه محمد بن الأشعت سنة 144 هـ، فأخمد الثائرة، وصارت ولاية أفريقية عقب هذا إلى المهلبيين، ومنهم: يزيد بن حاتم الذي مدحه ربيعة الرقي بالشعر المتداول:

لَشتانَ ما بين اليزيدينِ في الندى

يزيدِ سُليمِ واليزيدِ بنِ حاتمِ

ثم إلى الأغالبة، ومؤسس دولتهم إبراهيم بن الأغلب، وكان إبراهيم هذا قد رغب إلى الخليفة هارون الرشيد في أن يمنحه إمارة أفريقية، فأجاب رغبته، وكتب له عهد الإمارة سنة 184، فاستقل بشؤون أفريقية الداخلية، وأقام دولة يقال لها: دولة بني الأغلب، وكان يجمع في سياسته بين الحزم والرأفه، ويضيف إلى هذه الخصلة الحميدة علماً وأدباً، فامتدت

(1) تطلق إفريقية على ما بين برقة وطنجة، وقد تطلق على القيروان؛ لأنها كانت عاصمة ملك أفريقية.

ص: 88

في أيامه ظلال الأمين وألقت إليه القبائل بحسن الطاعة حتى توفي سنة 196، فخلفه ابنه عبيد الله، وذهب في سياسته مذهب الشطط والعسف، وما لبث أن هلك، وصار الأمر لأخيه زيادة الله، فبايعه الأهالي سنة 201، ثم جاءه التقليد من قبل الخليفة المأمون، وكان زيادة الله فصيح المنطق، مكيناً في العربية وآدابها، وفي عهده تولى أسد بن الفرات قضاء القيروان، وقيادة الجيش الفاتح لصقلية.

فأسد بن الفرات عاش ما بين مدينتي القيروان وتونس أيام تداول سياسة ذلك القطر المهلبيون، ثم الأغالبة، وفي كلتا الدولتين رجال علم وأدب وهمم سامية، وذلك مما ينهض بأمثال أسد في النباهة والذكاء إلى أن يكون من عظماء الرجال الذين يذكرهم التاريخ بتمجيد وإجلال.

* الحالة العلمية:

لأهل تونس -في العهد الذي نشأ فيه ابن الفرات وما يقرب منه- عناية بالعلوم الإِسلامية، فكانوا يرحلون إلى بلاد الشرق للأخذ من علمائها، ومن أشهر هؤلاء الراحلين: أبو البقاء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري؛ فإنه رحل إلى الشرق، وأخذ عن جماعة من التابعين، ثم عاد إلى القيروان، وبث ما عنده من علم، ورحل مرة أخرى إلى العراق، واجتمع بأبي جعفر المنصور، وهو يومئذ الخليفة، وكان قد عرفه أيام رحلته الأولى، وصاحبه في طلب العلم، فعرض عليه الخليفة المقام ببغداد، فأبى، فقلده قضاء القيروان، وتوجه في جيش ابن الأشعث الذي سار لقمع ثورة البربر بأفريقية.

وكان عبد الرحمن هذا في طليعة العلماء الذين نشروا في البلاد التونسية علماً وأدباً، وظهروا بالإقدام على نصيحة ولاة الأمور، ومن آثاره الأدبية:

ص: 89

قوله في أبيات نظمها خطاباً لابنه أنعم حين أخذ في التوجه من العراق إلى القيروان:

ذكرت القيروان فهاج شوقي

وأين القيروان من العراق

مسيرة أشهر للعير نَصّاً

وللخيل المضمرة العتاق

فبلغ أنعماً وبني أبيه

ومن يرجو لنا وله التلاقي

بأن الله قد خلَّى سبيلي

وجدَّ بنا المسير إلى فراق

وهذه الأبيات -على سهولة لفظها، وقرب مأخذها- تدل على أن لصاحبها قدماً في الأدب راسخة.

ومن دلائل إقدامه على نصيحة أولي الأمر: أنه حين دخل على أبي جعفر المنصور قال له: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، وأمراً قبيحاً، قال له أبو جعفر: لعله فيما بَعُد من بأبي، قال: بل كلما قربت، استفحل الأمر وغلظ، قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا، وقولك مقبول عندنا؟ قال: رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيه، قال له: كأنك كرهت صحبتنا! قال: ما يدرك المال والشرف إلا من صحبتكم، ولكني تركت عجوزاً، وإني أحب مطالعتها، فولاه قضاء أفريقية، وتوجه في جيش ابن الأشعث كما قصصنا.

وظهر بعد عبد الرحمن هذا طبقة من أهل العلم راقية، رحلوا إلى الشرق، وأخذوا عن مالك بن أنس؛ كعبد الله بن أبي حسان اليحصبي، وعبد الله بن غانم، وعبد الله بن فروخ، وعلي بن زياد الذي هو أحد أساتذة أسد بن الفرات.

فأسد بن الفرات شب وعاش في بيئة علم واسع، وأدب غزير، وقد

ص: 90

ساعدته هذه البيئة على أن يكون انتفاعه من الرحلة التي تقلبت به في الحجاز والعراق والقاهرة عظيماً سريعاً، وسنقص على حضراتكم شيئاً من أنبائها، وأنباء ما عاد به إلى وطنه من علم وافر نبيل.

* مولد أسد ونشأته:

المعروف من نسب أسد أنه أسد بن الفرات بن سنان مولى سليم، وأصله من نيسابور أحد أعمال خراسان، وكان أسد يقول على وجه الاستملاح: أنا أسد، والأسد خير الوحوش، وابن الفرات، والفرات خير المياه، وجدي سنان، والسنان خير السلاح.

ولد أسد ببلد حران من ديار بكر سنة 142 هـ، وكان أبوه الفرات من جند خراسان، فلما بعث أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث لإخماد فتنة البربر بأفريقية، وكان الفرات في الجيش الذي يقوده محمد بن الأشعث، فأخذ ابنه أسداً وقد بلغ من العمر حولين، فنزل بالقيروان، وهي يومئذ عاصمة أفريقية.

بقي أسد بالقيروان نحو خمس سنين، ثم انتقل به أبوه إلى مدينة تونس، وأقام بها سنين توفق فيها أسد إلى طلب العلم، فتلقى من شيوخ أشهرهم: علي بن زياد الذي لقي مالكاً، وأصبح أفقه العلماء بأفريقية.

ولم يقنع أسد بما تلقاه من شيوخ أفريقية، وتاقت نفسه لأن يزداد بسطة في العلم، فأزمع الرحلة إلى الشرق، وكانت الرحلة ولا زالت السبب الأقرب إلى تثقيف العقل، والنبوغ في العلم، متى كان الراحل مجداً غير هازل، نبيهاً غير خامل، ولولا رجال من الأمة يرحلون، فيردون مناهل العلوم ثم يصدرون، لبقي كثير من الأمم في جهلهم، أو على مقدار من العلم لا يرفع

ص: 91

ذكرهم، ولا يقوم بحاجاتهم.

* رحلته إلى الحجاز:

غادر أسد بن الفرات تونس سنة 172، فدخل المدينة وعالمها الذي تضرب إليه أكباد الإبل وقتئذ مالك بن أنس، فلزم مجالسه، وسمع منه كتاب "الموطأ"، وبعد أن فرغ من سماعه، قال لمالك، زودني يا أبا عبد الله، فقال له مالك: حسبك ما للناس.

وكان أصحاب مالك -ابن القاسم وغيره- يهابون مالكاً، فلا يسألونه أو يناقشونه في العلم إلا بمقدار، ولما رأوا في أسد جرأة، أخذوا يدفعونه إلى سؤال مالك، ويلقنونه ما شاؤوا من المسائل يبتغون أجوبتها، فكانوا إذا أجابه مالك عن مسألة، يقولون له: قل له: لو كان كذا وكذا، كيف يكون الحكم؟ قال أسد: فأقول له، حتى ضاق علي يوماً، وقال لي:"سلسلة بنت سلسلة، إذا كان كذا، كان كذا وكذا، إن أردت هذا، فعليك بالعراق".

وكان الإمام مالك يكره السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها؛ ذلك لأن أصول الشريعة محكمة، ومقاصدها واضحة، ووسائل الاستنباط ممهدة، فمتى وقعت الواقعة، وجدت من أئمة الاجتهاد من يفصل لها حكماً موافقاً.

* انتقاله إلى العراق:

قصد أسد المسير إلى العراق ليتعلم من علمائه ما لم يكن يعلم، فدخل على مالك مودعاً، وقال له: أوصني. فقال له مالك: "أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة لهذه الأمة".

رحل أسد إلى العراق، فلقي هنالك أصحاب الإمام أبي حنيفة، وكان

ص: 92

يشهد مجالس محمد بن الحسن العامة، ولم يكتف بما كان يستفيده من هذه المجالس حتى اقترح على محمد بن الحسن أن يسمح له بوقت يخصه فيه بالدراسة، فتقبل محمد بن الحسن اقتراحه، وقال له: اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل كله وحدك، فتبيت عندي، وأسمعك. قال أسد: فكنت أبيت في سقيفة بيت يسكن هو في علوه، فكان ينزل إلي، ويضع بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل، ورآني نعست، ملأ يده ماء، ونضح به على وجهي، فأنتبه؛ فكان ذلك دأبي ودأبه حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه.

صنيع أسد بن الفرات يرينا كيف كان طلاب العلم في الإِسلام، فلا نعجب لمن يقص علينا التاريخ أنهم بلغوا في العلم -وهم لا يبعدون عن سن العشرين- منزلة سامية فائقة.

وصنيع محمد بن الحسن يرينا كيف كان الأساتيذ يحنون على طلاب العلم حنو المرضعات على الفطيم، ويقضون ليلهم ونهارهم في إنارة عقولهم، وتوسيع دائرة معارفهم.

* انتقاله إلى مصر:

بعد أن تضلع أسد مما عند علماء العراق من علم، انتقل إلى مصر، وقد ظهر بها وقتئذ أصحاب الإمام مالك: ابن القاسم، وأشهب، وغيرهما، فحضر أسد لأول قدومه مجلس أشهب بن عبد العزيز، فصادف أن بدرت من أشهب كلمة تطاول بها على الإمامين مالك وأبي حنيفةَ، فأخذت أسداً الحميةُ لهما؛ ولم يتمالك أن قال: يا أشهب! فأسكته الطلبة، وقالوا له: ماذا أردت أن تقول له؟ قال: أردت أن أقول له: مثلك ومثلهما مثل رجل

ص: 93

أتى بين بحرين، فبال، فرغى بوله، فقال: هذا بحر ثالث.

وكان ابن القاسم وأشهب يخالفان مالكاً في بعض الفتاوى، غير أن في ابن القاسم أناة، فلا يضم إلى الخلاف قولة جافية، أما أشهب، فكان لا يبالي أن يزيد على الخلاف كلمة يتظاهر فيها باستقلال النظر ما شاء.

ثم اتصل أسد بابن القاسم، وكان يغدو إليه في كل يوم يلقي عليه مسائل ليجيبه عنها بما يرويه عن مالك، أو تقتضيه أصول مذهبه، حتى دوّن ستين كتاباً سماها: الأسدية.

ولما عزم أسد على العودة إلى القيروان، سأله طلاب العلم هنا بمصر أن يسمح لهم باستنساخ ما دونه عن ابن القاسم -أعني: الأسدية-، فأبى عليهم ذلك، فحسبوا أن هذا من الحقوق التي يتناولها القضاء، فشكوه إلى القاضي، وهو يومئذ عمرو بن مسروق الكندي، فقال لهم: وأي سبيل لكم عليه؟! رجل سأل رجلاً فأجابه، ها هو المسؤول بين أظهركم، فاسألوه كما سأله. ثم إن القاضي رغب إلى أسد في أن يسمح لهم باستنساخ الأسدية، فأجاب طلب القاضي، وسلمها لهم حتى فرغوا من نسخها.

* عودته إلى القيروان:

قضى أسد في رحلته نحو عشر سنين، ثم عاد إلى القيروان سنة 181، وانتصب للتدريس، وبث ما كسب من علم، فأقبل عليه الطلاب يجتنون من ثمار رحلته، ويتلقون عنه "الموطأ". وكتاب "الأسدية"، وممن أخذ الأسدية: الإمام سحنون، ثم إن سحنون رحل إلى مصر سنة 188، وقرأ الأسدية بين يدي ابن القاسم نفسه، وكان ابن القاسم قد رجع في بعض مسائلها، وقررها على غير ما سمع منه أسد بن الفرات، ولما فرغ سحنون من قراءتها، كتب

ص: 94

ابن القاسم رسالة إلى أسد يأمره فيها بأن يصحح "مدونته" على النسخة التي يحملها سحنون، عاد سحنون بالمدونة، ودفع كتاب ابن القاسم إلى أسد، فأبى أسد أن يغير مدونته المسماة: الأسدية على نحو ما سمعها عن ابن القاسم، ولكن مدونة سحنون هي التي انتشرت في الآفاق، وعول عليها الناس في الفتوى، وهي التي تناولها الفقهاء بالشرح والاختصار.

* مكانته العلمية:

عرفنا مما سلف أن أسداً تفقه عن علي بن زياد في تونس، ثم رحل وأخذ عن مالك بالمدينة، ثم عن أصحاب أبي حنيفة بالعراق، ثم عن عبد الرحمن ابن القاسم بالقاهرة، وأن مدة رحلته بلغت تسع سنين، وإن تسع سنين يقضيها العالم الذكي في الازدياد من العلم بجد وتلهف، لكفيلة بأن تخرجه للناس نحريراً فائقاً، وبما نال أسد في هذه الرحلة من علم كان يقول مغتبطاً ومعرضاً ببعض معاصريه بالقيروان:"ضربنا في طلب العلم آباط الإبل، واغتربنا في البلاد، ولقينا العلماء، وغيرنا طلب العلم خلف كانون أبيه، ووراء منسج أمه، ويريدون بعد ذلك أن يلحقونا".

وتحدث محمد بن الحسن عن أسد في مكة، فوصفه بالدراسة والمناظرة والسماع، وكان قاضي القيروان عبد الله بن غانم يشاوره، ويعجب بعلمه، وقال أبو بكر بن الأبار في "الحلة السِّيراء":"وكان لأسد بيان وبلاغة، إلا أنه بالعلم أشهر منه بالأدب".

ومما امتاز به أسد عن معاصريه: أنه كان يسرد في مجالسه أقوال أهل العراق، ثم أقوال أهل المدينة، وبهذه الطريقة اتسعت دائرة علم الفقه في تونس، وأصبح طريق النظر في أحكام الشريعة ومداركها مألوفاً ميسراً، وقد

ص: 95

تقدم إلى فتح هذا الباب بالقيروان عبد الله بن فروخ؛ فإنه رحل إلى الشرق، ولقي مالكاً وأبا حنيفة، وكان يعتمد في فقهه على مالك، ويأخذ بطريق النظر والاستدلال، وقد يميل إلى قول أهل العراق حين يستبين له أنه أرجح حجة، وأقوم قيلاً.

* ولايته القضاء:

توفي قاضي القيروان عبد الله بن غانم، فأقام زيادة الله مكانه أبا محرز ابن عبد الله الكتاني، ثم إن علي بن حميد وصف لزيادة الله فضل أسد، ومكانته في العلم، وسعى لديه في أن يصرف أبا محرز عن القضاء، ويقلده أسد بن الفرات، فلم يوافق زيادة الله على عزل محرز، ولكنه قلد أسداً القضاء مع أبي محرز سنة 204، فكانا يقضيان كل منهما بمكانه؛ بحيث يكون المتداعيان بالخيار.

وفي مدينة تونس لهذا العهد محكمتان: إحداهما تحكم على المذهب المالكي، وأخراهما تحكم على مذهب أبي حنيفة، ويسيران في القضاء على أن الخيار للمدعى عليه، وعباراتهم الخيارية في هذا المعنى:"المطلوب يتوجه حيث شاء".

أما تولية قاضيين لتطرح بينهما القضايا، ويصدرا فيها حكماً واحداً، فقد كان الخليفة المهدي استخلف على القضاء محمد بن علاثة، وعافية بن يزيد، فكانا يقضيان معاً في مسجد الرصافة.

* شجاعته الأدبية:

كان أسد على شاكلة العلماء الذين يصغر في أعينهم أهل الدنيا، ولا تملك عليهم سطوة السلطان ألسنتهم، فيُدهنوا. دخل أسد وأبو محرز

ص: 96

على منصور الطبري يوم ثار على زيادة الله، واستولى على القيروان، وهما قاضيان، فقال لهما ذلك الثائر في كلام دار بينهما:"اخرجا عني، أما تعلمان أن هذا البائس -يعني: زيادة الله- ظلم المسلمين؟ ". أما أبو محرز، فخالطه رعب، وقال له: وظلم اليهودَ والنصارى. وأما أسد، فإنه ملك جأشه، وآثر أن يقول كلمة حق على أن يسكت أمام صولة باطل، فقال له: كنتم أعواناً له قبل هذا الوقت، وأنتم وهو على مثل هذا الحال، ولما وسعنا الوقوف عنه وعنكم، فكذلك يسعنا الوقوف عنه وحده. ولما دافع أسد بهذه الكلمة، صال عليه بعض الجند القائمين على رأس الثائر، ثم انصرف القاضيان وهما يتوقعان بطشة الثائر الغشوم، ولكن الله صرف قلبه عنهما، فلم يمسهما بأذى.

* فتحه صقلية (1):

صقلية: جزيرة في البحر المتوسط، لا يفصلها عن أوربا الإيطالية إلا مضيق مسينا، وهي التي تسمى:"سيسيليا".

أما سبب فتحها، فهو أنه كان بين زيادة الله وصاحب صقلية عقد هدنة، ومما احتواه هذا العقد: أن من وقع إلى صقلية من المسلمين، ورغب أن يرد إلى بلاد الإِسلام، كان عليهم أن يردوه إليها، ثم إن صاحب صقلية قصد إلى الإيقاع بزعيم يقال له:(فيمه)، فتخلص هذا الزعيم وأتباعه من صقلية، وهبطوا القيروان يستنجدون بصاحب الدولة زيادة الله بن الأغلب،

(1) ضبطها صاحب "القاموس" بكسر الصاد والقاف، وضبطها ابن خلكان بفتحهما، وكذلك يقول ابن هشام اللخمي في "لحن العامة": ويقولون: سقلية -بسين مكسورة- والصواب: صقلية- بصاد وقاف مفتوحتين.

ص: 97

ورفعوا إليه أن في أيدي الروم أسارى من المسلمين، لم يمكنوهم من العود إلى أوطانهم، فجمع زيادة الله وجوه الناس، وأحضر أسد بن الفرات، وأبا محرز، وسألهما الرأي فيما يصنع، فأما أبو محرز، فقال: نتأنى في هذا الأمر حتى نكون فيه على بينة، وأما أسد بن الفرات، فقال: نتبين الأمر من رسلهم، فإن شهدوا بأن هناك أسرى، أصبح عقد الهدنة بيننا وبينهم منقوضاً، فقال له ابن محرز: كيف نعتمد على قول الرسل في مثل هذا؟ فقال أسد: بالرسل هادناهم، وبالرسل نجعلهم ناقضين، فارتاح زيادة الله لقول أسد، وسأل الرسل، وكان بين الرسل رجل مسلم، فشهدوا بأن لدى الروم مسلمين محبوسين عن العود إلى أوطانهم.

أمر زيادة الله يومئذ بالخروج إلى صقلية، فعرض أسد نفسه ليخرج في الجيوش المحاربة، فتباطأ زيادة الله عن إجابته، وامتعض أسد من تباطئه حتى قال: قد أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النوتية، وما أحوجهم إلى من يجريها لهم بالكتاب والسنة، ولما وثق زيادة الله من صدق عزيمته، أذن له بالخروج على أن يكون أمير الجيش في هذه الغزوة، فكره أسد الإمارة؛ ظناً منه أنه سيتقلدها بدل القضاء، وقال لزيادة الله عندما عزم عليه في ولايتها: أصلح الله الأمير، من بعد القضاء والنظر في حلال الله وحرامه، يعزلني ويوليني الإمارة! فقال له زيادة الله: إني لم أعزلك عن القضاء، بل وليتك الإمارة، وأبقيت لك اسم القضاء، فأنت قاض أمير، فرضي أسد عند ذلك بالإمارة. ويقول المؤرخون: لم تجتمع الإمارة والقضاء لأحد ببلد أفريقية إلا لأسد وحده. وأما في غير أفريقية، فقد اجتمع القضاء وإمارة الجيوش لبعض علماء بغداد والأندلس. قال ابن خلدون: "وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد

ص: 98

في عساكر الصوائف، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس".

أذن زيادة الله بأن تهيأ السفن وتساق إلى مرسى مدينة "سوسة"، وكانت نحواً من مئة سفينة، وجهز جنداً يقدرون بعشرة آلاف رجل، وتسع مئة فارس.

خرج أسد في ربيع سنة 212 متوجهاً إلى مدينة "سوسة" ليقلع منها إلى صقلية، وكان يوم خروجه من القيروان يوماً مشهوداً، خرج وجوه أهل العلم لتشييعه، وأمر زيادة الله أن لا يبقى أحد من رجال الدولة إلا شيعه، فركب أسد، وسار في محفل عظيم من الناس، ولما رأى حملة الأقلام والسيوف يحتفون به من كل جانب، لم يشأ أن تمر هذه الفرصة دون أن ينوه فيها بفضل العلم، وينبه على ما يلقاه العالمون من خير وعزة، فقال:

"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر الناس! ما ولِّي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من سلفي مثل هذا قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام، فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكابدوا عليه، واصبروا على شدته؛ فإنكم تنالون به الدنيا والآخرة".

ركب أسد البحر يوم السبت منتصف ربيع الأول سنة 212، وألقى مراسي السفن على مدينة مأزر بلاد صقلية يوم الثلاثاء، وزحف إليه صاحب صقلية (بلاته) في جيوش عظيمة، والتقى الجمعان، فكانت العاقبة أن فشلت جيوش الروم، وارتدت على أعقابها خاسرة، وبث أسد السرايا في كل ناحية، واستولى على عدة حصون حتى ضرب الحصار على "سركوسة"، وفي أثناء

ص: 99

حصاره لهذه المدينة توفاه الله في ربيع الآخر، وقيل: في شعبان سنة 113 (1) بجراحات شديدة أصابته في إحدى الوقائع؛ إذ كان أسد يحمل اللواء بيده، ويدعو الناس إلى الإقدام، ثم يخوض بهم مواقع القتال.

قال ابن أبي الفضل -وكان فيمن شهد يوم فتح صقلية-: "رأيت أسد ابن الفرات وفي يده اللواء، فحملوا عليه، وكانت فينا روعة، فقال للناس (مشيراً إلى جيش العدو): هؤلاء عجم الساحل (2)، هؤلاء عبيدكم، لا تهابوهم، وحمل اللواء، وحمل الناس معه، فانهزم (بلاته)، وأصحابه، فلما انصرف أسد، رأيت والله! الدمَ قد سال مع قناة اللواء على ذراعه حتى صار الدم تحت إبطه".

وكان أسد يرجو من الله ما لا يرجوه الجبناء ضعفاء الإيمان، فكان على ثقة من أنه سيكسر جيش الروم، بلغ من الكثرة ما شاء أن يبلغ، ويدل على هذا أن الزعيم (فيمه) تأهب لأن يقاتل هو والذين معه بجانب جنود الإِسلام، فأبى أسد، وقال له: اعتزلنا، فلا حاجة لنا بأن تعينونا. وقال له ولأصحابه: اجعلوا على رؤوسكم سيما تعرفون بها؛ لئلا يتوهم واحد منا أنكم من هؤلاء الموافقين لنا، فيصيبكم بمكروه، فاتخذوا في ذلك اليوم سيماهم حشيشاً يضعونه على رؤوسهم.

ومما يشهد على أن أسداً كان يحمل في صدره قلب البطل الذي لا يرى مرارة الموت إلا في الخوف منه: أن الجيش الإِسلامي بُلي بعد نزول

(1) ودفن هنالك، وقال ابن خلدون: في قصر بأنه. وكتب زيادة الله بفتح صقلية على يد أسد إلى المأمون.

(2)

يريد: أنهم الذين فروا من ساحل أفريقية عند فتحها.

ص: 100

صقلية بمجاعة اضطرته إلى أكل لحوم الخيل، فمشى فريق منهم إلى زعيم يقال له: سحنون بن قادم؛ ليسعى لدى أسد في الرجوع بهم إلى أفريقية، فمضى إلى أسد، وخاطبه في هذا الشأن، فكان جواب أسد أن قال: ما كنت لأكسر غزوة على المسلمين، وفي المسلمين خير كثير، فاستجرأ عليه ابن قادم، وقال: على أقلِّ من هذا قُتل عثمان بن عفان، فتناوله أسد بالسوط، وخفقه به ثلاثاً أو أربعاً، ثم مضى على عزيمته، فقاتل حتى فتح أكثر البلاد، وأتم فتحها من بعده أفراد يعزمون فيفعلون.

وأنا لا أشك في أن تعاليم الإِسلام متى تلقيت بحق، طبعت النفوس على الشجاعتين: الأدبية، والحربية، فلا عجيب أن يخرج من بين مجالس مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن القاسم بطل تحمل يمناه السيف بعد أن كانت تحمل اليراعة، وتتخضب بحمرة الدم بعد أن كانت تتخضب بسواد المداد، فيعيش عالماً صالحاً، ويموت قائد جيش فاتحاً.

ذلك هو أسد بن الفرات، رحمه الله، ورحم كل من جاهد في سبيل سعادة الأمة وإعلاء شأنها، ما استطاع إلى الجهاد سبيلاً.

ص: 101