الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاضي أبو الحسن الجرجاني
(1)
نعرض على حضرات القراء صفحة من حياة شخص غزير العلم، رائع الأدب، صافي الذوق، كامل الخلق، هو القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، من أعيان القرن الرابع.
نشأ أبو الحسن في "جرجان"، وتقلب في البلاد للقاء كبار العلماء والأخذ عنهم، فدخل "نيسابور"، وطاف العراق والشام وغيرها، وأحرز في العلوم والآداب منزلة يشار إليها بالبنان. قال مؤرخوه:"لم يزل أبو الحسن يتقدم حتى ذكر في الدنيا"، ووصفه صاحب "يتيمة الدهر" فقال:"هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم".
ويعد أن بلغ الذروة في العلم والآداب، عرج على حضرة الصاحب بن عباد، فعرف قدره، وتمسك بصحبته، وكاد من شدة اختصاصه به لا يستطيع مفارقته، فكان لا يفارقه كما قال الصاحب في بعض رسائله:"مقيماً، وظاعناً، ومسافراً، وقاطناً". وتأخذ هذا من كتاب بعث به الصاحب إلى حسام الدولة العباسي تاشي الحاجب يوصيه فيه بمساعدة القاضي في كل ما يحتاج إليه عندما استأذنه في زيارة "جرجان"، فقد فقال: "فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تجهد القاضي أبي الحسن فيما يعجل رده، فإني
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد العشرين.
ما غاب كالمضل الناشد، واذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله".
وكان الصاحب يتلقاه في "جرجان" بإقبال وإكرام أكثر مما يتلقاه به في غيرها من البلاد، قال القاضي: وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي، وتواضعه لي، فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده
…
وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمس
…
وأعزّه ما قيل في الوطن
ثم قال له: قد فرغت من هذا المعنى في قصيدتك العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل
…
ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره.
وتولى قضاء "جرجان" على يد الصاحب، ثم تولى قاضي القضاة بالري، واستمر على ذلك إلى أن توفي، وكان حسن السيرة في قضائه.
ويصفه المؤرخون، فنرى فيما يصفونه به خصالاً تعد أصولاً في مكارم الأخلاق؛ كصدق اللهجة، وعزة النفس، وشرف الهمة، ومن شواهد هذا: أبياته المنقطعة النظير في تصوير الاعتزاز بالعلم وسمو الهمة، وهي:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
…
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
وما كل برق لاح لي يستفزني
…
ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
…
بدا طمع صيرته لي سُلَّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
…
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
…
إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
…
ولو عظموه في النفوس لعظما
وقد لهج بهذا المعنى في شعره، وقال من أبيات:
فإن لم يكن عندالزمان سوى الذي
…
أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقال توصل بالخضوع إلى الغنى
…
وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وللقاضي ديوان شعر، وقد يعرج في شعره على الصاحب بن عباد، أو غيره من أقرانه الذين كانوا يمنحونه الوداد، وينظرون إليه بعين الإجلال، فكان يخاطبهم بلسان الشعر كالمجازاة على ما يلاقي من إسعادهم، وصدق مودتهم له، وقد رأيتم كيف كان الصاحب بن عباد يطلق لقلمه أن يثني عليه بأبلغ الثناء، ويسمي صلة الود بينهما إخاء، ولا يأبى أن يثني عليه في شعره.
قال القاضي: انصرفت يوماً من دار الصاحب قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر العيد، ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له
…
مع قرب عهد لقائه مشتاقَهْ
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه
…
فكأنما أهدي له أخلاقَهْ
ونظر القاضي إلى ما يفضي إليه اقتراض المال وصرفه في شهوات النفس من سوء العواقب، فحاول معالجة هذا المرض بحكمة بالغة، فقال:
إذا رمت أن تستقرض المال منفقاً
…
على شهوات النفس في زمن العصر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها
…
عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغني وان أبت
…
فكل منوع بعدها واسع العذر
ولم يكن القاضي بارعاً في صناعة الشعر فحسب، بل كان مبدعاً في النثر أيضاً، كما وصفه صاحب "يتيمة الدهر"، فقال: يجمع خط ابن مقلة،
إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري.
وجمع القاضي الجرجاني إلى غزارة العلم ذوقاً سليماً، ونقداً للشعر عادلًا، وبسلامة الذوق والعدل في النقد استطاع أن يخرج كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" في صنع حكيم، ووضع بديع، وكان الصاحب بن عباد ألف رسالة في إظهار مساوئ المتنبي، ولم تمنع القاضي الجرجاني صداقته للصاحب أن يؤلف كتاب "الوساطة"، ويسلك فيه مسلك الإنصاف، فيرد كثيراً مما عده الصاحب وغيره من سقطات المتنبي.
ومن قرأ كتاب "الوساطة"، وذكر أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني أخذ من القاضي الجرجاني، واغترف من بحره، وكان يفتخر بالانتماء إليه، تنبه لناحية من النواحي التي استمد منها عبد القادر براعته في كتابي "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة".
وإذا كان في المنتمين إلى قبيل العلماء من إذا أدرك شهادة أو منصباً أو وجاهة، قلَّ إقباله على العلم، وأصبح يأنس بلقاء الناس، وشمعى إليه ما استطاع، ولا يبالي أن يقضي الساعة أو الساعتين في محادثات تمضي مع الوقت دون أن يكون لهما أثر في نماء علم، أو إتقان عمل، فإن القاضي الجرجاني من الطبقة التي تلذ العلم، وتأنس بالكتاب، وترى في ذلك غنيمة الحياة، فاقرأ إن شئت قوله:
ما تطعمت لذة العيش حتى
…
صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العلـ
…
ـم فلا أبتغي سواه أنيسا
ولا يضر أمثال القاضي الجرجاني أن يقلل من لقاء الناس، ويؤثر أن يكون للييت والكتاب جليساً، ما دام يحمل في يمينه قلماً يبث به في القراطيس
ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فقد حرر بذلك القلم البارع مؤلفات غير كتاب " الوساطة"، منها:"تفسير القرآن المجيد"، وكتاب "تهذيب التاريخ".
عاش القاضي الجرجاني في عزة ووجاهة واستقامة، وتوفي سنة 366 هـ، وهو قاضي القضاة بالري، وحمل تابوته إلى "جرجان"، ودفن بها، جازاه الله عن إعزازه للعلم خير الجزاء.