المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو بكر بن العربي - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌أبو بكر بن العربي

‌أبو بكر بن العربي

(1)

أخرجت معاهد العلم في بلاد الشرق رجالاً خدموا الإسلام بصدق روايتهم، واستقلال أنظارهم، وشجاعتهم في الدعوة إلى الحق، وصبرهم على ما يلاقون في سبيل ذلك من الأذى، ورزقوا بعد هذا خلقاً سامياً، وازدراء لكل ما لا يدنيهم من مجادة في الدنيا، أو سعادة في الأخرى. وفي مقدمة هذه الطبقة- فيما أرى- القاضي أبو بكر بن العربي، وهو محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن أحمد بن العربي الإشبيلي الأندلسي.

* مولده ونشأته:

ولد صاحب الترجمة بإشبيلية سنة 468، وكان والده عبد الله بن محمد من العلماء الذين أحرزوا في دولة بني عباد حظوة وصدارة، فنشأ أبو بكر في بيئة علم وفضل، وفي بيت يتصل بسياسة الدولة، وذلك مما يهيئ صاحب الفطرة السليمة كأبي بكر بن العربي لأن ينبغ في العلم، ويسبق إلى ذروة المجد.

بلغ أبو بكر سنّ التعلم، فأخذ عن أبيه عبد الله، وخاله أبي القاسم الحسن الهوزني، وأبي عبد الله السرقسطي، وقرأ القراءات، وأخذ حظاً عظيماً من علوم

(1) محاضرة الإمام في دار جمعية "الهداية الإسلامية" مساء يوم الخميس 22 رجب 1355. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد التاسع.

ص: 115

العربية وآدابها، ونقل عنه أنه قال: لم أرحل من الأندلس حتى أحكمت كتاب سيبويه.

* رحلته إلى الشرق:

لما انقرضت دولة بني عباد بإشبيلية، رحل به أبوه إلى الشرق وسنّه يومئذ 17 سنة، ودخل بلاداً كانت مشرقة بنور العلم، فأخذ عن أجلَّة علمائها، مثل "بجاية"، و"المهدية" بإفريقية، ثم الاسكندرية ومصر والشام والعراق والحجاز، وقفل راجعاً إلى وطنه، فلما وصل إلى الإسكندرية، توفي بها أبوه، وعاد إلى وطنه، والناس في أشد الحاجة إليه، وقضى في رحلته ثماني سنين في إحدى الروايات، وعشراً في بعضها.

قال القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد: لما رحلت إلى قرطبة، قرأت على الحافظ أبي بكر، ولزمته، فسمعني ذات يوم أذكر الانصراف إلى وطني بالمرية، فقال لي: ما هذا القلق؟! أقم حتى يكون لك في رحلتك عشرة أعوام كما كان لي.

* لقاؤه في رحلته أبا حامد الغزالي:

قال ابن العربي في "قانون التأويل": ورد علينا ذانشمند - يعني: أبا حامد الغزالي-، فنزل في رباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، معرضاً عن الدنيا، مقبلًا على الله تعالى، فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة، ليس على العموم، ولو رآه علي بن العباس لما قال:

ص: 116

إذا مدحت امرأ غائباً

فلا تغل في مدحه واقصد

فإنك إن تغل تغل الظنو

ن فيه إلى الأمد الأبعد

فيصغر من حيث عظَّمْته

لفضل المغيب على المشهد

ولم يمنع أبا بكر إجلالُه للغزالي أن يناقشه في كثير من المسائل، كما أنكر عليه قوله في كتاب "الإحياء":"ما في الإمكان أبدع مما كان (1) "، وقال:"ونحن وإن كنا قطرة في بحره، فلا نرد عليه إلا بقوله، فسبحان من كمل شيخنا بفواضل الخلائق، ثم صرف به عن هذه الواضحة في الطرائق".

* رجوعه إلى الأندلس:

عاد أبو بكر إلى الأندلس والنفوس إليه متطلعة، فوجدوه في العلم بحرًا زاخرًا، وفي الأدب قمراً زاهراً، فلقي منهم إقبالاً، وشملته منهم حظوة، ولسعة علمه، وقوة حفظه لما كان يرويه من الأحاديث والآثار، وقع في وهم بعض من لم يبلغ هذه الدرجة أن أبا بكر قد يروي ما لم يسمع، فقال:

يا أهل حمص (2) ومن بها أوصيكم

بالبر والتقوى وصية مشفق

فخذوا عن العربي أسمار الدجى

وخذوا الرواية عن إمام مشفق

إن الفتى ذرب اللسان مهذب

إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلق

* شدة ارتياحه لرحلته:

ذكر أبو بكر مسألة استياك الصائم بعد العصر، وأورد الخلاف الذي

(1) يعني: أن خَلق هذا العالم لا يمكن أن يكون أحسن من هذه الصفات. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن هذه الجملة مدسوسة على أبي حامد، ومن القريب تأويل نفي إمكان الإبداعية من جهة تعلق حكمة الله بخلق العالم على هذا النظام.

(2)

هي إشبيلية.

ص: 117

جرى فيها بين المالكية والشافعية، وما استفاده من بعض علماء بغداد في وجهة نظر المالكية، وقال: لو لم أستفد في رحلتي إلا هذه المسألة، لكفاني.

* اتصاله بالسلطان:

لازم أبو عبد الله بن المجاهد مجلس أبي بكر نحواً من ثلاثة أشهر، ثم تخلف عنه، فسئل عن سبب تخلفه، فقال: كان - يعني: أبا بكر - يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب للسلطان، والواقع أن اتصال العالم المتين في علمه وتقواه بالسلطان لا يأتي إلا بخير، فهنالك تكون النصيحة التي تكف شراً عظيماً، أو تثمر خيراً عاماً.

* ولايته قضاء إشبيلية:

تقلد منصب قاضي القضاة بإشبيلية، فأقام ميزان العدل، وضبط الأمور بيد الحزم، والتزم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يخاف لومة لائم، وربما صدرت عنه أحكام صارمة، كما روي أنه عاقب زمّاراً بثقب شدقه.

قال القاضي عياض يتحدث عن ابن العيي: "واستقضي ببلده، فنفع الله به أهلها؛ لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة".

* محنته:

كان قد ألزم الناس بإحضار جلود ضحاياهم لإصلاح جانب من سور إشبيلية قد تهدم، ولم يكن هناك مال، فأحضروها وهم مكرهون، وبلغ من غيظ العامة أن أضمروا له شراً، وهجموا على منزله، ونهبوا أمواله وكتبه، ولولا أنه فرّ من ظهر البيت، لآذوه في نفسه.

والعبرة في هذه القصة: أن علماء الإسلام كانوا يوجهون أنظارهم

ص: 118

إلى المصالح العامة، ولاسيما وسائل حماية البلاد من أن تمتد إليها يد عدوّ لا يرعى فيها عهداً، ولا تأخذه بها رأفة، وكم من عالم قد قرأنا في تاريخ حياته أنه مات شهيداً في سبيل الدفاع عن دينه ووطنه!.

وتومئ هذه الواقعة إلى أن الناس هم الناس، قد يبخلون بالأمر الحقير عن الأمور الهامة الجليلة، ويبلغ بهم البخل أن يبغضوا الداعي إلى الإصلاح، ويعملوا جهدهم في إيذائه ما استطاعوا.

* إقباله على نشر العلم:

صرف صاحب الترجمة من القضاء، وانتقل إلى قرطبة، وأقبل على نشر العلم غيرآسف على القضاء، وكان يقول:"إن القاضي إذا ولي القضاء عامين، نسي أكثر مما كان يحفظ، فينبغي له أن يعزل، وأن يتدارك نفسه".

وكنت وليت في تونس قضاء "بنزرت" وملحقاتها، فأحسست أن هذه الولاية ستقف بي في العلم عند حد، وصغرت في عيني، فاستقلت منها بعد أن قمت بواجبها نحو سنة وأربعة أشهر، ورجعت إلى الحاضرة، وأقبلت على التدريس بجامع الزيتونة.

وكان صاحب الترجمة منقطعاً للبحث والمطالعة، حتى إنه كان يضع الكتب عن يمين الفراش وشماره، ولا يطفئ المصباح، وإذا غلبه النوم، نام، ومهما استيقظ، مد يده إلى كتاب (1).

وممن أخذ عن ابن العربي، وسمع منه: القاضي عياض، والإمام السهيلي صاحب "الروض الأنف".

(1) حكى عنه هذا بعض أهل العلم الذين صحبوه أيام كان بقرطبة.

ص: 119

* رسوخه في الأدب:

قد عرفنا أن أبا بكر قد درس علم الأدب قبل رحلته، وقرأنا من رحلته: أنه قرأ الأدب على التبريزي، ثم إن من ينظر في الجمل البليغة التي تجيء في مؤلفاته، يدرك أنها صادرة من أديب جال في منظوم البلغاء ومنثورهم جولة واسعة، وله شعر جيد، ولا ينتظر ممن يقضي الوقت في بحث العلوم ودراستها أن يأتي من الشعر بمثل ما يأتي به أبو تمام وابن الرومي.

* انتفاعه بالأدب في بعض الشدائد:

ذكر ابن العربي في كتاب "قانون التأويل" ركوبه البحر في رحلته من إفريقية، وحكى أن البحر عظم عليهم، وتلاطمت بهم أمواجه، فوقعوا في هول كبير، ولكن الله سلم، فخرجوا منه خروج الميت من القبر، وانتهوا بعد شدة إلى بيوت بني كعب بن سليم، ووقف ابن العربي على باب أميرهم، فوجده يدير أعواد الشاه (الشطرنج)، فدنا منه، وأشار على الأمير بتحريك قطعة، فعارضه صاحبه؛ فأشار عليه بتحريك قطعة أخرى، فهزم الأمير صاحبه (1)، وأضاف إلى هذا أحاديث من الأدب الرائق، فعظم في عين الأمير، فأقبل يتعجب منه، ويسأله عن سنه، ويستكشف حاله، فأخبره بما لاقوه من هول البحر، فاستدعى أباه، وبالغ في إكرامهم؛ قال أبو بكر: فانظر إلى هذا العلم - يعني: التلهي بالشطرنج - الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب.

* رأيه في طريقة التعليم:

يرى أبو بكر تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم، ثم ينتقل

(1) قال أبو بكر: كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة.

ص: 120

منه إلى درس الحساب، ثم ينتقل منه إلى درس القرآن، ثم ينظر في أصول الدين، ثم في أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه.

ومن رأيه: أن لا يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط، وأنكر على علماء بلده الذي يأخذون الصبي في أول أمره بكتاب الله، حيث إنه يقرأ ما لا يفهم.

قال ابن خلدون: وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه، ثم قال: ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثار للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم، فيفوته القرآن؛ لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ، وانحل من ريقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة.

ولو أعطي جانب من أوقات الطفل إلى تعلم القرآن، وجانب منها إلى أخذ مبادئ من علم الحساب، وعلوم اللغة، ومختارات من الشعر، لكان خيراً.

* مؤلفاته:

المصنفون كثير، أما الذين يكتبون على بينة مما يكتبون، فيتقنون الرواية إذا رووا، ويراعون قانون أدب البحث إذا استنبطوا، فليسوا بكثير، ومن أهل هذه الطبقة أبو بكر بن العربي، فإنك لا تفتح كتاباً من مؤلفاته إلا وجدت علماً غزيراً، ونقداً عادلاً، وفكراً يتصرف في حرية، وعبارات على إيجازها تجعل ما أشكل من المسائل صبحاً بيناً، ومن مؤلفاته كتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "القبس"، وكتاب "ترتيب المسالك" (كلاهما شرح

ص: 121

لموطأ مالك) و"عارضة الأحوذي في شرح متن الترمذي"، و"قانون التأويل"(1)، و"أنوار الفجر"(كلاهما تفسير للقرآن المجيد)، وكتاب "النيرين في الصحيحين"، وكتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف"، إلى غير هذا من الكتب القيمة.

ولأبي بكر هذا فضل في انصرافي عن دراسة علوم الدين دراسة تقليد ومتابعة، شأن من لا يزيد في التفقه على قراءة مثل "مختصر خليل" وشروحه وحواشيه، ذلك أني اتصلت بمكتبة خالي وأستاذي المرحوم الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز، واستعرت منها كتاب "العارضة"، وكتاب "القبس"، وجزءاً من "ترتيب المسالك"(2) ثم اتصلت بمكتبة صديقي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام المالكي بتونس لهذا العهد، واستعرت منها كتاب "الأحكام"، وكتاب "العواصم من القواصم"، فأعجبت بطريقة المؤلف في التأليف، ووجدتها الطريقة التي تنهض بالفكر حتى يكون مثمراً؛ بل الطريقة التي تحبب إلى ذي الفطرة السليمة دراسة العلوم الدينية، والواقع أن هذه الكتب كانت أول ما أخذني إلى النظر في علوم الشريعة بتلهف، بعد أن كنت قد انقطعت إلى علوم اللغة العربية وآدابها.

* أخلاقه:

يجمع أبو بكر إلى غزارة العلم: "أدب الأخلاق، وحسن المعاشرة، ولين الكتف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود"(3).

(1) يوجد منه جزء في دار الكتب المصرية.

(2)

وطالعت الجزء الثاني منه في إحدى مكاتب الجزائر.

(3)

"نفح الطيب".

ص: 122

* وفاته:

بعد أن استولى الموحدون على مدينة إشبيلية فيما استولوا عليه من بلاد الأندلس، توجه أبو بكر بن العربي مع جماعة من أهل بلده إلى المغرب الأقصى، فأدركته المنية هناك، ودفن بفاس خارج باب المحروق، وقبره معروف، قال المقرري في "أزهار الرياض": وقد زرته مراراً. أفاض الله على قبره رحمة ونوراً.

ص: 123