المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرة في حياة عمر بن عبد العزيز - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌نظرة في حياة عمر بن عبد العزيز

‌نظرةٌ في حياة عمر بن عبد العزيز

(1)

إن من الأسباب التي جعلت كثيراً من شبابنا يسرفون في إكبار رجال أوربا، ولا يرفعون رؤوسهم فخراً بعظماء الشرق: أنهم لم يدرسوا تاريخ عظمائنا بعناية وروية وإنصاف.

وذلك ما دعا رجال جمعية الهداية الإسلامية إلى أن توجه همتها إلى إلقاء محاضرات في إحياء ذكر رجال نبغوا في العلم، أو برعوا في السياسة، أو كانوا مُثلاً كاملة في الأخلاق والآداب.

ومن الرجال الذين لا يسمح بهم الدهر إلا قليلاً: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ومحاضرتنا الليلة في مقتبسات من سيرته الغراء.

* تمهيد:

التحق الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - بالرفيق الأعلى وقد بلّغ للناس شريعة سمحة، وأقام للدولة الإسلامية أساساً محكماً، فقام بالأمر بعده الخلفاء الراشدون، فساروا على أثره في الزهد، والعدل في السياسة، وإيثار الحق على الخلق، صاعلاء كلمة الله بكل ما لديهم من قوة، ثم ولي

(1) محاضرة الإمام في دار جمعية "الهداية الإسلامية"، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد السابع.

ص: 39

بعدهم رجال فقدت معهم الخلافة شيئاً مما كانت تعهده في أولئك الخلفاء الراشدين من الزهد في الدنيا، والاستقامة على ما أمر الله في كل حال، وشعر الناس بفرق جليّ بين عهد الخلافة الرشيدة، والخلافة التي أخذت بعض أساليب الملك المكروهة، وما زالت هذه الأساليب الخاطئة تتزايد حتى كادت تذهب بمعظم ما أرشد إليه الإسلام من عدل وحرية ومساواة.

وربما وقع في بعض الأوهام أن القسوة وأبهة الملك اللتين ظهر بهما بعض الخلفاء، أو بعض وزرائهم، أو عمالهم أمر يقتضيه حال الناس، وما طرأ على أخلاقهم من فساد، ويسوقون على هذا أنه قيل للحجاج: لم لا تكون كعمر بن الخطاب؟ فقال: تبذَّروا، أتعمّرْ لكم؛ "أي: كونوا كأبي ذر الغفاري، كن لكم كعمر بن الخطاب".

وقد أظهر الله في خلال ذلك العهد - الذي صارت فيه الخلافة إلى ملك عضوض - فتى دل بسيرته الماجدة الفاخرة على أن في استطاعة كل أمير نير البصيرة، طيب السريرة أن يقيم الشريعة، ويبسط ظلال العدل، ويرفع راية العلم، ويعمر السبل بالأمن، ويجعل الناس في نعيم من العيش، وإن وجد الأهواء في تشعب، والقلوب في تفرق، والأخلاق في فساد، وذلك الفتى هو عمر بن عبد العزيز.

* نسب عمر بن عبد العزيز:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدُّه مروان بن الحكم هو الذي جلس على عرش الخلافة بعد وفاة معاوية بن يزيد ابن معاوية سنة 64، وتوفي سنة 65 بعد أن عهد بالخلافة إلى ابنه عبد الملك.

ص: 40

ووالد عمر، وهو عبد العزلز بن مروان، كان مروان قد استعمله على مصر سنة 65، وبقي في ولايتها إلى أن توفي سنة 85.

وأما أمه، فهي أم عاصم ينت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

* نشأته:

ولد عمر بن عبد العزيز سنة 61 هجرية بالمدينة المنورة (1)، وشبَّ في نعيم ورفاهية من العيش، فقد كان أبوه عبد العزيز أميراً على مصر، وعمه عبد الملك تخفق راية خلافته في الشرق والغرب.

حفظ القرآن الكريم، وتلقى علوم الدين من أفاضل الصحابة، مثل: عبادة بن الصامت، وعم أمه عبد الله بن عمر، ثم عن أفاضل التابعين؛ مثل: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وروى عن عبيد الله هذا أكثر مما روى عن غيره من أهل العلم، ومن شعر عبيد الله يخاطب عمر ابن عبد العزيز:

أينْ لي، فكن مثلي أو ابتغ صاحباً

كمثلك إني مبتغ صاحباً مثلي

عزيرٌ إخائي، لاينال مودتي

من القوم إلا مسلم كامل العقل

وما يلبث الإخوان أن يتفوقوا

إذا لم يؤلف زوج شكل إلى شكل

وضم إلى علوم الدين علوم اللغة العربية وآدابها، قال رضي الله عنه: لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم، إلى العربية، فالشعر، فأصبت منه حاجتي.

وكان لاتصاله بخاله (أي: عم أمه) عبد الله بن عمر أثر في استقامته،

(1) وقيل: ولد بمصر، وسترى أن والده إنما تولى إمارة مصر سنة 65.

ص: 41

فقد كان يأتي والدته أم عاصم، ويقول لها: يا أمّة! أنا أحب أن أكون مثل خالي، يريد: عبد الله بن عمر، فتقول له على وجه الاستبعاد: أنت تكون مثل خالك؟!

ولما تولى أبوه عبد العزيز إمارة مصر، كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه بولدها عمر، فاستأذنت عمها عبد الله بن عمر في الخروج إلى مصر، فقال لها: يا بنية أخي! هو زوجك، فالحقي به، ولما أزمعت السفر، قال لها: اتركي هذا الغلام (يعني: عمر بن عبد العزيز) عندنا؛ فإنه أشبهكم بنا، فامتثلت أمره، وأبقته عنده، وحين وصلت إلى مصر، سألها عبد العزيز عن ابنه عمر، فأخبرته بأنها خلفته بالمدينة إجابة لرغبة خاله عبد الله بن عمر، فسر عبد العزيز بما فعلت، وكتب بذلك إلى أخيه عبد الملك، فأمر عبد الملك بأن يجري لعمر بالمدينة ألف دينار في كل شهر. طلب عمر رضي الله عنه العلم حتى بلغ رتبة الاجتهاد، قال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة.

* ولايته إمارة المدينة المنورة:

تولى عمر رضي الله عنه إمارة المدينة في عهد الوليد بن عبد الملك سنة 87، فسار في ولايته بعدل ويقظة، ومن الطرق التي استعان بها على سياسته الرشيدة: أنه دعا عشرة من أفاضل علماء المدينة، وقال لهم: دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظُلامة، فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني، فدعوا له، وافترقوا.

يدعو عمر بن عبد العزيز العلماء أن يكونوا أنصاره على الحق، وأن

ص: 42

يدلوه على الظالمين من عماله، وهذا من شواهد نصحه فيما تولاه من الإمارة، وكذلك يكون حال من يتقلد الولاية ليعمل صالحًا، أما من يتقلدها للمباهاة، واتباع الشهوات، وطول الباع في اضطهاد الضعفاء، فلا يرتاح له بال إلا أن يضع على أفواه دعاة الإصلاح كمائم، أو ينفيهم من الأرض.

* ولايته الخلافة:

تولى الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك، ومبايعة الناس له عند وفاة سليمان سنة 99، وكان يقول للرجل: بايعني بلا عهد ولا ميثاق، تطيعني ما أطعت الله، فإن عصيت الله، فلا طاعة لي عليك، فيبايعه على ذلك.

* تخليه عن أبهة الملك:

لما ولي الخلافة، قام الناس بين يديه، فنهاهم عن ذلك، وقال: يا معشر الناس! إن تقوموا نقم، وإن نقعدوا تقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين. وأذن للمظلومين أن يدخلوا عليه بغير إذن، وقال: ألا إنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معول كل مظلوم.

ولما فرغ من دفن سليمان بن عبد الفلك، قدّموا إليه مراكب الخلافة: اليراذين، والخيل، والبغال، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة. فقال: دابتي أوفقُ لي، فركب بغلته، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، مالي ولك! إنما أنا رجل من المسلمين.

* عدم حرصه على الخلافة:

كان عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك حين توفي سليمان غائباً، وحين علم بوفاته، أخذ البيعة لنفسه، وبلغه بعد ذلك مبايعة الناس لعمر بن عبد العزيز بعهد سليمان، فقدم دمشق، واعتذر لعمر بأنه لم يبلغه أن الخليفة

ص: 43

عهد إلى أحد، فقال له عمر:"والله! لو بويعتَ بالأمر ما نازعتك". وعدم الحرص على الولاية يعين الرجل على السير فيها باستقامة دون أن يخشى سخط شخص أو رهط من الناس، وإن بلغوا منتهى الوجاهة، أو عرفوا من وسائل الكيد ما لم يعرفه أحد من قبل.

* عدم اكتراثه بمديح الشعراء:

لما تولى الخلافة، حضر الشعراء ببابه؛ ظناً منهم أنه من أولئك الذي تأخذهم النشوة إذا مُدحوا، فيعطوا المادحين من بيت مال المسلمين بغير حساب، فمكثوا أشهراً لا يأذن لأحد منهم بالدخول، ثم أذن لجرير، فأنشد بين يديه قصيدته التي يقول فيها:

زرت الخليفة من أرض على قدر

كما أتى ربه موسى على قدر

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا

من الخليفة ما نرجو من المطر

فقال له عمر: لا أرى لك في شيء من بيت مال المسلمين حقاً، فقال جرير: لقد فرض الله لي فيه حقاً، قال: ويحك! ما حقك؟ قال: ابن سبيل أتاك من شقة بعيدة، فدعا بعشرين ديناراً فضلت من عطائه، فقال: هذه فضلت من عطائي، ولو فضل أكثر من هذا، لأعطيتك، فخذها، فإن شئت فاحمد، وإن شئت فذم، فخرج جرير وهو يقول:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزُّهُ

وقد كان شيطاني من الجن راقيا

كان رحمه الله عامر القلب بالتقوى، واثقاً من أنه سيسير في طريق العدل ما استطاع، ومن كان هذا شأنه، لم يقم للشعراء وأمثالهم وزناً يبلغ به أن يجازيهم عن المديح، أو يتقي هجاءهم بشيء من أموال المسلمين. وكان يرق للشاعر، ويعطيه متى علم أنه في حاجة وبؤس، دخل عليه نُصَيب

ص: 44

الشاعر، وقال له: يا أمير المؤمنين! كبرت سني، ودق عظمي، وبليت ببنيّات نفضتُ عليهن من لوني، فكسدن عليّ، فرقّ له، ووصله بعطاء.

* مبادرته برد المظالم:

ما يفعله رجال الحكومات قد يكون على وجه الاجتهاد للمصلحة؛ كالأحكام التي يصدرها القضاة في القضايا الشخصية، فهذه لا يصح لمن أتى بعدهم أن ينقضها، ولو ظهر له أنهم كانوا مخطئين في اجتهادهم، إلا أن يجيء الحكم مخالفاً لصريح الكتاب أو السنة أو القواعد القطعية، فإنه ينقض في كل حال.

أما ما يفعلونه استبداداً وعدواناً، فهذا ما يجب على من أتى بعدهم أن ينظر في شأنه، ويرده عليهم بكل قوة، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، فإنه بعد أن دفن سليمان بن عبد الملك، ذهب يطلب مقيلًا ليستريح من تعب السهر قليلاً، فقال له ابنه عبد الملك: أتقيل ولا ترد المظالم؟ فقال: أي بني! سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم، فقال له ابنه: من لك أن تعيش إلى الظهر؟! فخرج ولم يَقِل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة، فليرفعها.

ثم كتب إلى عماله يأمرهم برد المظالم إلى أصحابها من غير تباطؤ في ردّها، أو يراجعه في شأنها.

* إجراؤه لقاعدة المساواة:

كان الخلفاء قبله يؤثرون بني أمية بكثرة العطاء، ولما تولى عمر، سوّاهم في العطاء بغيرهم، فبعثوا إليه رجلاً ليكلمه في شأنهم، فدخل عليه، وخاطبه في ذلك، فأجابه عمر بجواب دله فيه على أن بني أمية وسائر المسلمين في

ص: 45

نظره سواء، فخرج الرجل إليهم، وقال: يا معشر بني أمية! عمدتم إلى صاحبكم (يعني: عبد العزيز بن مروان)، فزوجتموه بنت ابن عمر (يعني: عاصماً)، فجاءتكم بعمر بن الخطاب ملفوفاً في ثيابه، فلا تلوموا إلا أنفسكم.

ويدلكم على رسوخه في فهم ما جاء به الإسلام من المساواة: أن رجلاً دخل على سليمان بن عبد الملك، وشتمه في مجلسه، وكان عمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال سليمان لعمر: ماذا ترى عليه يا أبا حفص؟ فقال: أرى عليه أن تشتمه كما شتمك، وتشتم أباه كما شتم أباك.

* عدم قبوله للهدية بعد الولاية:

لما كان بعض الولاة يتناولون الرشوة باسم الهدية، صرح هذا الخليفة بأن الهدية للوالي رشوة لا محالة؛ حتى يطهر دولته من نجاسة الارتشاء، ويقطع أسبابها.

ورد في سيرته: أنه اشتهى مرة تفاحاً، فقال: لو كان لنا شيء من التفاح؛ فإنه طيب الريح، طيب الطعم، فقام رجل من أقاربه، فأهدى إليه تفاحًا، فرده عليه، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية؛ فقال: إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهي لنا رشوة.

وإنما كانت الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم هدية؛ لأنه معصوم من الجور، فلا يعقل أن يكون لها أثر في تصرفاته العامة، أو فيما يفصل فيه من الأحكام.

* عدم توليته لمن كان عاملاً لظالم غشوم:

لا يخلو من تولى عملاً لظالم غشوم أن يجري على يده شيء قليل أو كثير من الظلم، ومن اعتاد على الظلم، لا يصلح للعمل في دولة العدل،

ص: 46

ولذلك كان عمر رضي الله عنه لا يستعمل من كان عاملاً لنحو الحجاج، استعمل مرة عاملاً، فبلغه أنه عمل للحجاج، فعزله، فأتاه يعتذر إليه، وقال: لم أعمل للحجاج إلا قليلاً، فقال له: حسبك من صحبة شر يوم أو بعض يوم.

* عنايته بنشر العلم:

بصر عمر بمكان علوم الدين من إصلاح الأخلاق، وتطهير السرائر، وتنظيم الاجتماع، بل بصر بمكانها من الفلاح في الدنيا، والسعادة في الأخرى، فعني بنشرها بين أهل الحضر والبدو، فإنا نقرأ في سيرته: أنه أرسل عشرة من فضلاء التابعين؛ ليعلموا البربر بالمغرب القرآن، ويفقهوهم في أمور الدين.

ونقرأ في تاريخه: أنه بعث يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد إلى البادية؛ ليعلما الناس السنّة، وأجرى عليهما رزقًا كافيًا، فقبل يزيد الرزق، ولم يقبل الحارث، وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرًا، فبلغ ذلك عمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأسًا، وأكثر اللهُ فينا من أمثال الحارث.

وفي كتاب له إلى أمراء الجند:

"ومُرْ أهل العلم والفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مساجدهم".

وفي كتاب له إلى والي حمص:

انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مئة دينار، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله. والسلام.

وكذلك يجب على كل حكومة إسلامية أن تعنى بعلوم الدين، وتعطيها

ص: 47

حقها من التعليم، والآباء الذين يستطيعون الوسيلة إلى أن يكون أبناؤهم على تربية دينية صادقة، ولم يفعلوا، إنما يحاربون الله في أرضه، ويكثرون سواد الأرصل الخبيثة، والزائغون عن الحق أشد ضرراً من ذوات السموم القاتلة؛ ذلك لأنهم يفسدون القلوب، وذوات السموم تفسد الأجسام، وفساد القلوب أسوأ عاقبة من فساد الأجسام.

* عدله في الرعية:

الأمير العادل هو الذي يستوي في نظره القوي والضعيف، والقريب والبعيد، ولا يستقيم أمر أمة حتى يكون القابض على زمامه فعّالاً لما يراه الحق، ولا يكون لأولي القربى أثر في نفسه إلا أن يهيئ لهم عزماً صارماً يكف بأسهم، ويعلمهم كيف يحترمون حقوق غيرهم، وكذلك كان عمر ابن عبد العزيز.

وكان رضي الله عنه كثيراً ما يركب، فيلقى الركبان، ويسألهم عن أخبار ما وراءهم من البلاد، خرج يوماً هو ومولاه مزاحم، فلقيهما راكب من أهل المدينة، وسألاه عن حال الناس بها، فقال:"إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور، والغني موفور، والعائل مجبور"، فسر عمر بذلك، وقال:"والله! لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس".

بسط ظلال العدل، وأصبح الناس في كثير من النواحي على حال يسر، حتى لا يوجد من بينهم من يقبل الصدقة، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر ابن عبد العزيز على صدقات إفريقية، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، وقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس،

ص: 48

فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسملمين.

* احترامه للعلماء المستقيمين:

لو فكرت في حال الولاة الذين يسمتخفون بمقامات أهل العلم، لرأيتهم بين ثلاثة رجال: رجل جاهل، والجاهل لا يعوف فضل العلم حتى يجل أهل العلم.

ورجل صغير النفس، عظيم في عينه المنصب، وأخذه التعاظم بالإثم؛ فتخيل أنه سيد من في الأرض، وأن مقامه أرفع من كل مقام.

ورجل قصير النظر، يحسب أن إجلاله لأحد من مرؤوسيه - وإن كان عزير العلم، رفيع القدر - يذهب بجانب من مهابته.

وكان عمر بن عبد العزيز غزير العلم، كبير الهمة، بعيد النظر، فلا جرم أن يقدر العلماء المستقيمين قدرهم، ويعينهم على الاحتفاظ؛ بكرامتهم حتى يكون لتعليمهم وإرشادهم ثمر رطب، ولا تحيا أمة أو ترقى في سماء المجد إلا أن يكون فيها علماء مخلصون محترمون.

أرسل عمر بن عبد العزيز أيام ولايته على المدينة إلى سعيد بن المسيب رسولًا يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أميراً ولا خليفة، فاخطأ الرسول، فقال له: الأمير يدعوك، فقام سعيد بن المسيب طاعة لولي الأمر، فلما دخل على عمر، قال له عمر: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله يدعوك، وإنما أرسلناه يسألك، فأخطأ.

* قبوله للوعظ والنصيحة:

نجد في كتب الأدب والتاريخ مواعظ كثيرة، وخطباً تشتمل على نصائح

ص: 49

ألقيت بين يديه، فتلقاها بارتياح وقبول، بل كان رضي الله عنه يدعو أهل العلم والصلاح إلى وعظه وإرشاده إلى ما فيه خير، وتحذيره مما لا خير فيه، ويكفي شاهداً لهذا: أنه قال لمزاحم مولاه: يا مزاحم! إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعالاً لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه.

* امتلاؤه بخشية الله وتقواه:

عدل لا يشوبه حيف، وحزم لا تحوم عليه غفلة، خصلتان لا يجتمعان لولي الأمر إلا أن يكون قلبه عامرًا بخشية الله وإجلاله، ذلك أن التقوى تنير سبيل العدل، ومن لم يجعل الله له هذا النور، لا يلبث أن تخرج به الأهواء إلى ظلمات الجور، والتقوى تجعل ولي الأمر في يقظة، فلا يدعو الحال إلى مصلحة إلا أقامها، ولا ظهرت مفسدة إلا اقتلعها، وقطع أسبابها، وما تيسر لعمر بن عبد العزيز أن يسير في سياسة الأمة تلك السيرة القيمة إلا لأنه يخاف مقام ربه، ويذكر في كل حال أنه سيسأل عن كل ما قدمت يداه، قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجته:"والله! ما رأيت أخوفَ لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف، حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم".

وكثيراً ما كان يخطب، فتنهال عبراته، فيتلقاها بطرف ردائه.

* شرط الصحبة عنده:

في الرؤساء من لا يرضى عن جليسه إلا أن يتزلف له بمدح مبالَغ فيه، أو ينحدر مع أهوائه أينما انحدرت. أما الرئيس العادل، فأحبُّ جلسائه إليه من يدله على مواطن الإصلاح، ويعينه على عمل الخير، أرشدنا إلى هذا

ص: 50

عمر بن عبد العزيز إذ قال لجلسائه:

"من صحبني منكم، فليصحبني على خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عونأ، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها مني ومن الناس، فإذا كان كذلك، فحيّهل به، صالا، فهو خارج من صحبتي، والدخول عليّ".

* حزمه:

الوقت نفيس، ومن لا يقدر قيمته، فقد يصرف جانباً منه في لهو، أو عمل لا يأتي بثمرة. والرجل الحازم من يحرص على أن لا يذهب شيء من وقته في غير جدوى، ويحرص على أن يقوم بكل عمل في وقته اللائق به، وتأخير بعض الأعمال عن وقتها إيثارًا للراحة، يوقعك في عناء؛ حيث يكون لكل وقت من أوقاتك الآتية عمل يختص به، ولا يسمع ذلك الوقت غيره.

ومن حزم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كان لا يؤخر عمل يومه إلى غده. قال له بعض إخوانه: يا أمير المؤمنين! لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل هذا اليوم؟ قالوا: تجزيه من الغد، قال: قد فَدَحني (شق عليَّ) عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليَّ عمل يومين؟!.

* تمسكه بالسنَّة، وكراهته للبدعة:

كان رضي الله عنه يتحرى السنّة، ويعمل لإحيائها، ويكره البدعة، ويعمل لإماتتها، ويدلكم على شهرة اقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم: أن أنس بن مالك قدم من العراق إلى المدينة يوم كان عمر أميرها، فكانت تعجبه صلاة عمر، وقال: ما صليت خلف إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبهَ صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من

ص: 51

إمامكم هذا.

ومن شواهد حرصه على إقامة السنن، وقتل البدع: قوله: "لو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنّة ينعشها الله على يدي، ببضعة من لحمي، حتى يأتي ذلك على آخر نفسي، كان في الله يسيراً".

وقال في خطبة خطبها على المنبر يوم الجمعة: "لولا أن أنعش سنَّة، أو أعمل بحق، ما أحببت أن أعيش فُواقًا (1) ".

* إنكاره الثشاؤم:

معروف أن الإسلام أبطل فيما أبطل من مزاعم العرب التشاؤم بنحو النجوم والطيور وغير ذلك، غير أن النفوس الضعيفة لا تئبت أمام خواطر السوء، وإنما يثبت أمامها، بل يسلم من خطراتها من كان إيمانه بأنه كفلق الصبح، وثقته به مالئة قلبه من أسفله إلى أعلاه، ومن هؤلاء المتوكلين على الله في كل ما يفعلون أو يقولون: عمر بن عبد العزيز، خرج عمر في بعض أسفاره من المدينة ومعه مولاه مزاحم، فنظر مزاحم، فإذا القمر في الدبران، قال: فكرهت أن أقول ذلك له، فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر إلى القمر، وقال له: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران! يا مزاحم! إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار.

* زهده:

إن سيرة نقية من كل مغمز كسيرة عمر بن عبد العزيز لا تنتظم إلا لمن

(1) الفُواق - بالضم -: ما بين الحلبتين من الوقت.

ص: 52

يؤثر الحياة الباقية على الحياة الدنيا، ولم يترك حب العمل الصالح لحب الزينة والملاذ في نفسه موضعاً، يكفي شاهداً على زهده في حطام الدنيا: أنه لم يخلف يوم مات سوى سبعة عشر ديناراً، كفّن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع ليقبر فيه بدينارين، وقسم الباقي على ورثته.

وقال له مَسلمة بن عبد الملك عند مرض الموت: قد تركت ولدك عيلة لا شيء لهم، فقال: والله! ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، ثم قال: بَنيَّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله؛ فسيجعل الله له مخرجًا، وإما رجل مكبّ على المعاصي، فإني لم كن أقويه على معصية الله.

ولم يكن رضي الله عنه ممن يضع الطعام على مائدته ألواناً، دخل غلام له على مولاته فاطمة بنت عبد الملك، فغدَّته عدساً، فقال الغلام: كل يوم عدس! قالت: يابني! هذا طعام مولاك أمير المؤمنين:

وما هي إلا جوعة قد سددتها

فكل طعام بين جنبيَّ واحد

وقومت ثيابه وهو خليفة باثني عشر درهماً، وكانت حلته قبل ذلك بألف درهم.

* إيثاره الاجتماع بأهل الفضل على العزلة:

قال ميمون بن مهران: وكنت في سمر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فقلت له: يا أمير المؤمنين! ما بقاؤك على ما أرى؟! أنت بالنهار مشغول في حوائج الناس، وبالليل أنت معنا ها هنا، ثم الله أعلم بما تخلو به. فقال: إليك عني يا ميمون؛ فإني وجدت لقاء الرجال تلقيحًا لألبابهم.

* بعد نظره في السياسة:

يجمع عمر رضي الله عنه إلى الخلق العظيم استقامةً، وإلى الاستقامة حكمة،

ص: 53

وحسنَ نظر في السياسة، قال له ابنه عبد الملك يوماً: ما الذي يمنعك أن تمضي الذي تريده؟ فو الذي نفسي بيده! ما أبالي أن لو غَلَت بي وبك القدور في الحق، فقال: يا بني! إني لو باهت الناس بما تقول، لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها، لم أجد بدًا من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف. يا بني! إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر، أرجو أن ينفذ الله مشيئتي، وإن تعدُ عليَّ منيتي، فقد علم الله الذي أريده.

* وفاته رحمه الله:

توفي عمر بدير سمعان من أرض المعرة سنة 101 وله أربعون سنة، وكانت خلافته سنتين وستة أشهر وأياماً، كخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

وقال الحسن البصري لما جاءه نعيه: مات خير الناس.

أيها السادة!

هذه محادثة أخذنا فيها بطرف من سيرة رجل من أعاظم رجال الإسلام، عسى أن تكون موضع قدوة لكل من تولى أمراً من أمور المسلمين، وأراد أن يكون له لسان صدق في الآخرين، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 54