الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موسى بن نُصَير
(1)
هذه صفحة من حياة قائد عظيم كانت له اليد البيضاء في إنشاء دولة إسلامية رفعت لواء الإسلام في غري أوريا، ومدت فيه ظلال العدل، وبسطت أنوار العلم، والمدنية الباهرة، ذلك هو أبو عبد الرحمن موسى بن نصير فاتح الأندلس.
يقول بعض المؤرخين: إن موسى بن نصير من قبيلة لخم، أو من قبيلة بكر بن وائل، وهو عربي صريح؛ وأشهر ما قيل فيه أنه كان مولى لعبد العزيز ابن مروان.
نشأ موسى بن نصير في وادي القرى بالحجاز، وخدم بني مروان بدمشق، وتنبه شأنه فقلدوه أعمالاً في ممالكهم.
ويروى: أن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان لما ابتنى بها الوليد كانت ترفع عنده مكانه موسى بن نصير حتى بلغ ما سنحدثك عنه بتلخيص وإيجاز:
كان موسى بن نصير من التابعين، وولد في خلافة عمر بن الخطاب سنة 19 هـ، وأخذ عن بعض الصحابة؛ كتميم الداري، وكان والده نُصير
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع والثامن من المجلد العشرين.
على حرس معاوية بن أبي سفيان، وله عنده مكانة، ولكنه امتنع من أن يدخل معه في حرب علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -.
عهد الوليد بن عبد الملك إلى موسى بن نصير بولاية بلاد المغرب سنة 88 أو 89، فنزل القيروان، وخرج غازياً يقص أثر البربر لا يدافعه أحد حتى بلغ "طنجة"، ودان له سائر البربر بالطاعة، فاستعمل على طنجة وأعمالها طارق بن زياد، وقفل راجعاً إلى القيروان.
ولما استتب له الأمر بالمغرب، استأذن الخليفة في غزو الأندلس، فأذن له، وبعث إلى طارق، فامره بغزوها، فعبر طارق البحر، ونزل بالجبل الذي سمي من بعد:"جبل طارق"، وانساب إلى أرض الأندلس بجيش مؤلف من اثني عشر ألف مقاتل، ففتح جانباً عظيماً من البلاد، وأبلغ موسى ما لاقاه، فلم يرتح موسى لإفراد طارق بفضل هذا الفتح الباهر، فحفزته الغيرة إلى أن تكون القيادة العملية بيده، فكتب إلى طارق يأمره بأن لا يتجاوز المكان الذي يصل إليه الكتاب فيه؛ حتى يلحق به، ولكن طارقاً استشار قواد الجيش، فأشاروا بمواصلة الغزو خشية أن يجد جماعات المنهزمين من الأعداء فرصة التجمع والاتحاد ثم الكر على المسلمين، فأخذ طارق برأيهم، ومضى في سبيله، ثم قدم موسى في جيش ضخم سنة 93، واشتد في توبيخ طارق إذ خالف ما أمره به من وقف الجهاد، بل قال بعض المؤرخين: إنه عزله عن قيادة الجيش، واعتقله مع وضوح عذره، ثم اصطلح القائدان، وأقبلا على الجهاد، وأمعنا في الفتح، وكان النصر حليفهما في كل واقعة، فلم يعارضهما أحد إلا بطلب صلح.
ولما نجح موسى في غزو الأندلس، طمحت همته إلى مواصلة الغزو
حتى يتوغل في أحشاء أوروبا، وينفذ منها إلى القسطنطينية "الآستانة" حتى يصل إلى الشام.
وانتهى خبر هذا إلى الخليفة، فرأى أن ما همّ به موسى غرر بالمسلمين، فبعث ينكر عليه هذا الاتجاه، ويستدعيه وطارقًا إلى دار الخلافة، فأقام موسى ابنه عبد العزيز حكماً بالأندلس، ودخل الشرق سنة 95 يصحبه طارق، فوصلا إلى الشام. وها هنا يذكر المؤرخون: أن الوليد طرأ عليه مرض ثقيل، ولما علم سليمان بن عبد الملك وليُّ عهده بقرب وصول موسى، أراد تأخير الاحتفال بقدوم فاتح الأندلس إلى أول خلافته حتى يكون له فخر هذا الفتح، فكتب إلى موسى يأمره بن يؤخر قدومه إلى دمشق أياماً، ووافاه الكتاب وهو في طبرية فلسطين، فلم يعمل به، ودخل دمشق في حياة الوليد.
ولما مات الوليد، نكبه سليمان؛ لمخالفته أمره بالمسارعة في دخول دمشق.
ويذكر بعض المؤرخين: أن موسى بن نصير قدم على سليمان حين استخلف، وإنما نكبه؛ لأن طارقاً سبق بالشكاية منه إلى سليمان، ورماه بجولان يده في بعض الغنائم، فوجد سليمان ضغينًا عليه، واستقبله بالتأنيب، وعزله عن جميع أعماله. وها هنا روايات في وصف نكبته لا تخلو من مبالغة فيما يظهر، ومن بين هذه الروايات: رواية قد ياخذ منها أن سليمان لم يتجاوز توبيخه وعزله عن جميع الأعمال، فقد جاء في "تاريخ ابن خلكان" ما يأتي:"ولما وصل موسى إلى الشام، ومات الوليد بن عبد الملك، وقام من بعده سليمان، وحج في سنة 97 للهجرة، حج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل: بمر الظهران، على اختلاف فيه".
ثبَّت موسى بن نصير دعائم الإسلام في بلاد المغرب، وكان يقصد من فتوحه نشر الدعوة الإسلامية، لا بسط سلطان الدولة وحده؛ إذ ورد في أعماله الماجدة: أنه كان يخصص رجالًا من العرب متفقهين في الدين لتعليم البربر القرآن وفرائض الصلاة، كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من قبله.
وكان موسى بن نصير معروفاً بالحزم واليقظة والدهاء، وقد شهد له بهذا عظيم من عظماء الدولة الأموية، وهو يزيد بن المهلب، يروى في سيرة موسى بن نصير: أنه لما تنكر له سليمان بن عبد الملك، لاذ بيزيد بن المهلب لمكانته من سليمان، وطلب منه أن يكلمه في شأنه، فقال له يزيد: لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس، وأعرفهم بمكايد الحروب، ومداراة الدنيا، فكيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار؟ فقال له موسى: يا ابن الكرام! ليس هذا وقت تعديد. أما سمعت: "إذا جاء الحين، غطى على العين"؟
كان موسى بن نصير ثاقب الفكر في وجوه السياسة الدولية والحربية، ويكفي شاهداً على هذا: أنه ولي أمر ما وراء مصر إلى البحر المحيط، فأحكم تدبير شؤونه، وأخضع قبائل البربر، وفتح معظم بلاد الأندلس، ولم يهزم له جيش قط.
وكان رحمه الله فصيحاً بليغاً. قال صاحب "نفح الطيب": "أما معارفه الأدبية، فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله مع نزارتها في أصحاب دار الكلام".
وكان عامر القلب بإجلال الخالق- جل شأنه -، ما وقع قحط شديد
بالمغرب، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، وخطبهم، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين الوليد؟ فقال: هذا مقام لا يذكر فيه غير الله!.
حفظ التاريخ لموسى بن نصير مقابلته لِما قام به طارق من الفتح بشيء من الجفاء، ولكن ما حفظه له من الهمم الشامخة، والأعمال الفاخرة، يغطي على تلك الهفوة، ولا سيما هفوة جاءت في طريق طموحه إلى وضع لبنات جديدة في بناء مجده الأثيل.
وإذا كان سليمان بن عبد الملك قابل هذا القائد العظيم بجفاء واضطهاد، فإن قلوب الأمة - على اختلاف طبقاتها - قد امتلأت بإكباره، والبطل الهمام من يرتاح لرضا الأمة أكثر من إقبال الدولة.