المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحمد تيمور باشا - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌أحمد تيمور باشا

‌أحمد تيمور باشا

(1)

أقف موقف التأبين لعظيم من أولئك العظماء الذين لا يسمح بهم الزمان إلا في أوقات نادرة، ليكونوا مُثلاً عالية لكمال الإنسان، حتى إذا قدر النبهاء من الناس أقدارهم، وأخذوا ينحون في بناء الشرف نحوهم، ورحلوا إلى دار السلام عند ربهم وغادروا القلوب تحترق أسفًا، والأكباد تتقطع تلهفاً.

لا أستطيع أن أرسم في هذا المقام صورة تمثل أو تكاد تمثل كمال الفقيد من كل ناحية، وإنما هي كلمة أصف بها جانباً من خصاله الحميدة، عسى أن يكون في إلقائها تذكرة لطلاب الفضيلة من أبنائنا الناهضين.

في سنة 1340 زرتُ المكتبة الزكية وهي في جناح من دار الكتب المصرية، فلقيت هنالك صاحب السعادة أحمد تيمور باشا، فجرى بيننا تعارف، وسرعان ما انقلب التعارف وداً، وما برح الود ينمو حتى أخصب، وصار الصداقة التي يرتاب في وجودها بعض المتأدبين، ويزعم أنها ثالثة الغول والعنقاء، فإذا تحدثت عن شيء من كمال الفقيد، فإنما أتحدث عما كنت أشهده المرة بعد الأخرى، وأقرؤه في سريرته سافراً لا أجد دون قراءته ساتراً.

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الثاني.

ص: 124

* حياته الخلقية:

تلاقي العلامة الكبير أحمد تيمور باشا، فتشهد طلاقة محيا، وابتسامة تملأ ناظريك أنساً، فإذا مد يده إلى مصافحتك، انحنى قليلاً ليخالف عادة المترفين الذين يرفعون رؤوسهم في شيء من التعاظم والخيلاء.

وفي الناس من تجلس إليه ساعة من ليل أو نهار، فلا يلبث أن ينطلق في حديثه إلى شيء من الافتخار بما عنده، أما تيمور باشا، فحرام أن تسمع منه كلمة تومئ إلى فخر، ولو من طريق بعيد.

عرف الفقيد بالتواضع، وهو الخلق الذي كان يجذب إليه قلوب أهل الفضل لأول ما تقع عليه أبصارهم، وأقول الساعة: إنه كان يتواضع في ألمعية وحكمة، وربما خفض جناح التواضع لذي فطرة سليمة لا يقيم له أولو النعمة وزنًا، أكثر مما يخفضه لذي جاه نافذ أو مقام نبيه، وله مع هذا التواضع مقامات يمثل فيها شمم العلماء، وعزة المؤمنين.

يزدري الفقيد مظاهر الأبهة التي تهوي إليها أفئدة كثير ممن هم عن طريق الحمد غافلون، وإذا أصبح يؤثر العزلة إلا قليلاً، فإنه ما برح يخوض غمار الاجتماع بما يقدمه من نتائج عرفانه وجلائل إحسانه.

يأخذ الفقيد بسنّة الوصل والقطع في الله، ويسير على هذه السنّة بعزم لا يهن، وقدم لا يتزلزل، وأسوق على هذا: أنه كان قد اشترك في صحيفة من صحف الأقطار البعيدة عن مصر، فجاءته يوماً تحمل مدحاً له وثناء، لكنها سمَّت في مقام آخر الخروج على الإسلام إصلاحاً، والخارجين عليه مصلحين، فما كان منه إلا أن أعادها قاطعاً الاشتراك فيها، وقال: لا حاجة له في مدح صحيفة تطعن في الشريعة الغراء.

ص: 125

عرف الفقيد بالتؤدة والرصانة، ومن أجلى ما يتمثل فيه هذا الخلق العظيم: أنه كان يحتفظ بالآداب القومية، ويأبى أن يستبد بها آداباً غير شرقية، فما كان ليضع في تاريخ الرسائل إلا الشهر العربي، والسنة الهجرية، ولو كانت الرسائل موجهة إلى شركة أجنبية.

وهذا مثال صغير ينبئكم عما وراءه من الاعتزاز بالقومية، وهل يحتقر الرجل قوميته بأكثر من أن يولع بتقليد قوم آخرين، ويحاكيهم فيما لا مدخل له في علو شأنهم وقوة سلطانهم؟.

ومن الأخلاق الضائعة في الشرق، إلا بين طبقة خاصة من الناس: خصلة القيام على الوعد، وصيانته من الإخلاف، وكان الفقيد يرعى هذه الخصلة حق رعايتها، فإذا قطع وعدًا في أمر جليل أو حقير، وجد في نفسه مذكرًا فطرياً حتى يكون الوعد ناجزاً، ولطول ما صحبناه على هذا الخلق الحازم لم نرتب فيما إذا عين وقتاً للّقاء أن يكون عند الوقت حاضراً.

يرعى الفقيد عهد إخوانه، ويبذل ما استطاع في قضاء ما يهمهم، ولا أنسى أن أمراً اقتضى سفري إلى الإسكندرية، وأشفق رحمه الله من أن لا أهتدي طريق الوصول إليه، فأزمع السفر، ولا داعي له إلى هذا السفر إلا عاطفة المودة، وأمتعني بمرافقته ذهاباً وإياباً.

يزن تيمور باشا الرجال كما يزنهم غيره ليعلم أيهم أرجح في الفضل وزنًا، ولكنه لا يضع في جانب ما يفضل به قدر الرجل شيئاً غير العلم وسلامة العقيدة ومكارم الأخلاق، هذا قانون الفضل في رأي الفقيد، واحترامه القلبي والعملي للأشخاص، وإلقاؤه إليهم بالمودة لا يخرج عن حدود هذا القانون.

ص: 126

ينفق الفقيد في وجوه البر بأريحية وبسط راحة، وإذا لم يظهر من إحسانه إلا ما يهبه لبعض الجمعيات الخيرية أو الأدبية، فإن المتواري منها؛ كالذي يسعف به ذوي الحاجات من الأسر والأفراد شيء كثير، ومن شواهد إخلاصه فيما ينفق: أنه كان يهب لبعض الجمعيات الإصلاحية في المرة الواحدة نحو الخمسين ديناراً، أو المئة دينار، وإذا جاءه من تسلم منه المبلغ بإيصال من الجمعية، أبى أن يقبله، وقال له: مزقه إن شئت، ولا وجه لكتابته، فضلاً عن الاحتفاظ به.

في الفقيد صبر جميل، وما هو على الحياة بحريص، كنت أزوره وهو على فراش مرَض خطير، فإذا تجاوزت باب الغرفة مقبلاً، هبّ على وجهه ابتسام يعقبه تحية، فمحادثته خالية من شكوى المرض، أو الضجر من مصابه.

يرتاح الفقيد للطرف الأدبية، ويوردها في المجلس حسب اقتضاء المقام، ولكنني لم أره يداعب في محادثته قريباً أو صديقاً، فضلاً عمن يلاقونه في أوقات نادرة، ونظره الصائب في هذه الحياة، ورسوخ طبيعة الجد في نفسه قد جعلاه لا يألف إلا حديثاً في علم أو أدب، أو شأن من شؤون الاجتماع، وهما اللذان جعلاه لا يشغل شيئاً من وقته في لهو، ولم أر قط في منزله نرداً، أو شطرنجاً، أو نحوهما من الملاهي التي تأكل عمر المغرم بها أكل النار للهشيم.

يتحدث الفقيد في صوت منخفض هادئ، وهو يملك أن يداري، فيبسط وجهاً رحباً، ولساناً بالتحية أو الحديث رطباً، وليس في استطاعته أن يداهن، فيقول للمسيء: أحسنت، أو للمخطئ: أصبت، وإذا منعه حياؤه

ص: 127

الرقيق من أن يصارح جليسه بالتخطئة في علم أو رأي، فإنه يسلك في تنبيهه على الخطأ طريقة رفيقة بعيدة عن هيئة المعارضة، وليس من شأنها أن تجزَّ إلى مناقشة.

* حياته العلمية:

إذا كان نبوغ الرجل في العلم على قدر صفاء قريحته، وحرصه على أن يعلم ما لم يعلم، فحظ الفقيد من هاتين المزيتين عظيم.

كان رحمه الله وضيء الفكر، ذا رغبة متناهية في أن يزداد كل يوم علماً، وقد هيأ الله له أن أنشا تلك المكتبة الحافلة بالكتب القيمة، فلا جرم أن كان العلامة الذي يقف دون شأوه كثير من فرسان البراعة والتحرير.

يطلب فريقٌ العلمَ لليسار، والفقيد محفوف باليسار من قبل أن يطلب العلم.

ويطلبه فريق للمنصب، والفقيد تصافحه المناصب، فيسل يده من مصافحتها.

ويطلبه آخرون للمباهاة، وما بين الفقيد والمباهاة مثل ما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصاع.

إذن لم يطلب تيمور باشا العلم إلا لفضيلته، ومن طلب العلم لفضيلته يريد أن لا يدع ثمرة من ثمره إلا قطفها، ولا زهرة من أزهاره إلا تنسمها.

كنت أزوره وهو على فراش مرض أشار عليه الأطباء فيه بإلتزام السكون، وإراحة الفكر من كل عمل، فأرى بجانب قوارير الأدوية كتبا كثيرة، ويقول لي: إني لا أستطيع الانقطاع عن المطالعة، ولكن نظراً لإشارة الطبيب أقتصر

ص: 128

على مطالعة الكتب التي لا تستدعي إجهاد فكر؛ ككتب الأدب والتاريخ.

لا يقنع الفقيد في بحث الموضوعات العلمية حتى يبلغ الأمد الأقصى، فيمعن في البحث، ويتقصى أثر الموضوع من الكتب التي شأنها التعرض له حتى يلم به من كل ناحية، وهذه مقالات الآثار النبوية التي حررها في "مجلة الهداية الإسلامية"، وهي آخر موضوع خاض فيه قلمه الأمين، لم يكتف فيها بما استمده من كتب الحديث والسيرة والتاريخ والأدب، فكان يبعث برسائل إلى سورية وفلسطين وتونس وغيرها من البلاد، ويسأل عما يوجد هنالك مما يدَّعى أنه آثار نبوية، وكان ينقد ما يورده في هذا القصد، ويضعه في الدرجة التي يستحقها بحكم آداب البحث.

يتلقى الفقيد نقد آرائه بأناة وطمانينة شأن من يخدم العلم بإخلاص، ولا يهمه إلا أن تظهر الحقائق سافرة كما هي، وليس من سمائه ولا أرضه الحرص على أن يعتقد فيه الناس العصمة من الخطأ، وإنما هو دأب المرائي في العلم، ينزعج من نقد آرائه، فيثور للدفاع عنها، وإن استيقنت نفسه أنها الباطل، مكشراً عن أنيابه تحت وضح البرهان.

عرف الفقيد بسعة الاطلاع، ودقة البحث، فكان كالوادي الخصب ينتجعه الباحثون في الشرق والغرب، فيجدون عنده ما يكشف الحيرة، ويجعل النفس في قرار من العلم.

وله بعد أجوبة المسترشدين مقالات علمية كان ينشرها بالصحف: "المؤيد" و"الهلال"، و"المقتطف"، و"المقتبس" ومجلة "الزهراء"، و"الفتح"، ومجلة "المجمع العلمي"، ومجلة "الهداية الإسلامية".

أما مؤلفاته، فهي "ذيل طبقات الأطباء"، و"تاريخ رجال القرن الثالث

ص: 129

عشر والرابع عشر"، و"نظرة تاريخية في انتشار المذاهب الأربعة"، و"تاريخ الطائفة اليزيدية"، و"تاريخ العلم العثماني"، و"نقد القسم التاريخي لدائرة معارف فريد وجدي بك"، و"لُعب العرب"، و"التصوير عند العرب"، و"تراجم المهندسين من العرب"، و"معجم اللغة العامية"، والقصد من هذا التأليف: الرد على من يدعون إلى إقامة العامية مقام العربية الفصحى بدعوى أنه يوجد في العامية من الكلمات ما ليس له في اللغة الفصحى من رديف، و"معجم الفوائد"، وهو كتاب يشتمل على مسائل قيمة من علوم شتى، و"البرقيات"، وهو كتاب يحتوي على الكلمات التي يدل كل مفرد منها على معان متعددة، و"حياة أبي العلاء المعري وعقيدته"، و"مفتاح الخزانة".

يغار الفقيد على اللغة العربية، ويحرص على أن تكون نقية من الألفاظ الأجنبية، وكان من أجل هذا يتحامى أن يضع- ولو في رسائله المعتادة- كلمة غير عربية فصيحة، فكان يعبر عن التليفون - مثلاً - بالهاتف، كتب لي من الإسكندرية في الصيف الماضي:"رقم الهاتف (757) البلد"، بل يعبر عن الجنيه بالدينار، كتب لي من هنالك:"سرني إقامة حفلة لمرور سنة على مجلة "الهداية الإسلامية"، وأتبرع لهذه الحفلة بعشرة دنانير"، وكان يعجبه أن يكتب كاتب الجمعية أو اللجنة في التواضع:(كاتم السر) بدل كلمة (السكرتير).

للفقيد رحمه الله عناية بالآثار العلمية، فاجتمع في مكتبته من المؤلفات والأوراق المشتملة على خطوط العلماء ما لا أحسبه يوجد في مكتبة شرقية غيرها، وأذكر بهذه المناسبة: أني كنت أنهيت "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" بقلم ذي مداد أحمر (كوبية)، ونظمت أبياتاً على لسان

ص: 130

القلم (1) وكتبتها بنفس القلم، وأهديته مع الأبيات إلى المكتبة التيمورية، فتلقاها الفقيد بارتياح، ووضعها في معرض الآثار العلمية، وقبل وفاته بيوم زار نادي الجمعية، ومعه الصحيفة المكتوب بها الأبيات، وقد تطاير أكثر حروفها، وأبدى رغبته في أن تعاد بمداد ثابت.

درس الفقيد الشريعة الإسلامية على النحو الذي يجعل لها في النفوس مكانة، فأخذ احترامها بمجامع قلبه، وكانت غيرته عليها بالغة، وهذا ما كان يهز أريحيته لمساعدة الجمعيات والصحف التي يقصد بها تقويم المنحرفين عن الدين الحنيف، وما قبل أن يكون عضواً في مجلس إدارة جمعية الهداية الإسلامية إلا ليساعدها برأيه وجاهه، كما كان يساعدها بعلمه ونواله.

هذه كلمة تصف شيئاً من كمال المرحوم أحمد تيمور باشا، ألقيها بقلب ملؤه الأسف لفراقه، والإعجاب بسيرته، ونرجو الله تعالى أن لا يبقي النهضة الإصلاحية كطائر هيض جناحه، أو بطل ضاع سلاحه، وأن يمتع الفقيد بواسع رحمته وحمده، ويجعل نجليه الماجدين قرة أعين أهل الفضل من بعده، والسلام عليكم ورحمة الله.

(1) هذه هي:

سفكت دمي في الطرس أنمل كاتب

وطوتني المبراة إلا ما ترى

ناضلت عن حق يحاول ذو هوى

تصويره للناس شيئاً منكرا

لا تضربوا وجه الثرى ببقية

مني كما ترمى النواة وتزدرى

فخزانة الأستاذ تيمور ازدهت

بحلى من العرفان تبهر منظرا

فأنا الشهيد وتلك جنات الهدى

لا أبتغي بسوى ذراها مظهرا

ص: 131