الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرةٌ في ناحيةٍ من خلافة عثمان
(1)
أريد أن أضع بين أيديكم صحيفة من صحف التاريخ الإسلامي، صحيفة تحكي جانبًا من حديث خلافة عثمان رضي الله عنه، وكنت أود أن أعرض على حضراتكم صحيفة تصعدون فيها أنظاركم، وتصوبونها، فلا ترون إلا ما يقرّ أعينكم، ويبهج نفوسكم، ولكن ألسنة لاغيه، وأقلامًا طائشة، خاضت في الحديث عن خلافة عثمان، فشوهت وجه كثير من الحقائق، ووضعت بجانبها كثيراً من الأباطيل، وزعمت أنها تتحدث عنها بعقل وأمانة.
اخترت أن أحضركم بهذه الصحيفة على ما فيها من حديث قد يثير في نفوسكم حزناً وأسفاً، ولعلكم تجدون في تمحيص بعض الحقائق، ودفع كثير من شبه الباطل ارتياحاً يخفف شيئا من الحزن والأسف على هذه الذكرى المؤلمة.
ولا أريد الحديث عن خلافة عثمان منذ بويع إلى أن لقي ربه شهيداً، وإنما أذكركم بكلمة من فضله وشواهد استقامة على الطريقة، وعلوّ منزلته عند الخالق العظيم ورسوله الكريم.
(1) محاضرة الإمام بدار جمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة في يوم الجمعة 18 من ذي القعدة سنة 1358، ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" الجزأين السادس والسابع من المجلد الثاني عشر.
* نسب عثمان وحاله في الجاهلية:
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، فنسبه يلتقي بنسب النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة، أمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، فجدّته للأم عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عثمان يتعاطى التجارة في البز (الثياب أو متاع البيوت) وكان ذا ثروة وسخاء، محبباً في قريش، ومعروفاً عندهم بالصدق والأمانة.
* دخوله في الإسلام:
كان إسلام عثمان بدعوة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، دعاه هو والزبير ابن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فتقبلوا دعوته، وأسلموا.
وكانت منزلة عثمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سامية، فاختاره صهرًا، وزوجه ابنته السيدة رقية، ولما توفيت، زوجه أختها السيدة أم كلثوم، ولذا سمي: ذا النورين، وتوفيت أم كلثوم في السنة التاسعة من الهجرة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو أنّ لنا ثالثة، لزوجناك".
* فضله في الإسلام:
هاجر عثمان في سبيل الله الهجرتين: هجرة الحبشة، وهجرة المدينة، وكان أحد العشرة المبشرين بالجنة، روى أبو موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا، قال: وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال:"ائذن له وبشره بالجنة"، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن، فقال:"ائذن له وبشره الجنة"، فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة، ثم قال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه، فإذا عثمان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جهز جيش العسرة، فله الجنة"، فجهزه عثمان، ولما قدم المهاجرون المدينة، استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها:"رومة"، وكان يبيع القربة منها بمد من الطعام، فاشتراها عثمان، وجعلها للفقير والغني وابن السبيل.
* ولايته الخلافة:
لما طعن المجوسي أبو لؤلؤة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالوا له: أوص يا أمير المؤمنين: استخلف، فقال: ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، وهم: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
وعهد لهؤلاء الستة أن يجتمعوا بعد موته ليتشاوروا في مبايعة واحد منهم، ولما اجتمعوا، فوضوا في الآخر إلى عبد الرحمن بن العوف أن يعين للخلافة واحدًا منهم، فدار عبد الرحمن ثلاث ليال على الصحابة، ومن وافى المدينة من أشراف الناس، وكان لا يخلو برجل منهم إلا أشار عليه بإمارة عثمان، فبايع عبد الرحمن عثمان، وتوارد الناس بعدُ على مبايعته، ومنهم: علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه -.
* أول خطبة خطبها:
بيّن عثمان منهج سياسته في أول خطبة خطبها، ومما قال في هذه الخطبة:"أما بعد: فإني حُمِّلت، وقد قبلت، ألا وإني متّبع، ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل، وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: اتباع من كان قبلي ممن اجتمعتم عليه وسننتم، وسنّ سنّة أهل الخير فيما لم تسنّوا على ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم".
* فتوحاته:
فتحت في عهد عثمان أرمينيا، والقوقاز، وكان ابتداء فتحهما في عهد عمر بن الخطاب، وفتحت بلاد المغرب؛ إذ أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح بالمسير إليها، وتم في عهد عثمان فتح بلاد الفرس، وفتحت قبرص، وذكر (سيديو) أن معاوية فتح في ذلك العهد كريد، وجزيرة رودس "سنة 29".
* كيف نشأت الفتنة؟
قضى عثمان رضي الله عنه معظم أيام خلافته والناس مجمعون على حبه، والاغتباط بإمارته؛ لشدة رأفته، وواسع حلمه، ولين جانبه، ولأن أيدي الناس امتلأت في عهده من المغانم، وصاروا يتمتعون بالعيش الطيب كثر مما كانوا يتمتعون.
كان بعد هذا أن دخل في الإسلام نفر غير مخلصين في إسلامهم، وإنما يريدون الكيد له، وتفريق كلمة أهله، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وهو من يهود حمير، نزل بالبصرة على حكيم بن جبلة العبدي، وابتدأ يبثّ في السر: أن علياً أحق في الخلافة، ويدعو إلى نزع الخلافة من عثمان، فتعلق بدعوته نفر، وبلغ أمره عبد الله بن عامر عامل البصرة، فطرده، وجاء الكوفة، فأُخرج منها، ثم جاء الشام، فأُخرج منها كذلك، فأتى مصر، واتصل به نفر من أوشاب الناس، منهم: كنانة بن بشر، وخالد بن ملجم، وأخذ يردد عليهم أن علياً وصيُّ النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وبعث من هؤلاء دعاة في البلاد التي كان قد طرد منها، واتفق أن كان لعثمان عمّال من ذوي قرابته، وهناك أناس قد يلاقون من هؤلاء العمال ما لا يوافق أهواءهم، فيطعنون فيهم، ويتخذون
من قرابتهم لعثمان وسيلة إلى الطعن في عثمان، فوجد فريق يوافقون أصحاب تلك الدعاية السرية في الطعن في عثمان نفسه، وإن كان فريقان يختلفان في الباعث على هذا الطعن، فاصحاب تلك الدعاية السرية يريدون تفريق كلمة المسلمين، أو إفساد دينهم، والفريق الثاني إنما يريد نقل الخلافة من عثمان إلى غيره؛ كراهة لبعض عماله، أو رجاء أن يجد في خلافة غيره ولاية أو غنيمة.
وتكوّن من الفريقين جمع يتمضمضون بالطعن في عمال عثمان، ويتعدون بالطعن إلى عثمان نفسه، ينسبون إليه أشياءَ زوراً، ويذكرون بعض أعماله على غير وجهها الصحيح، وكان عثمان يقابل زعماء هذه الدعاية باللين، ولا يزيد على أن يدفعهم بالحجة.
كان جماعة من أهل الكوفة قد أظهروا العداء لعثمان، فأبلغ سعيد بن العاص عثمانَ خبرهم، فكتب إليه بإرسالهم إلى معاوية، وكتب إلى معاوية: أن نفراً خلقوا للفتنة، فقم عليهم، وانههم، وإن آنست منهم رشدًا، فاقبل، وإن أعيوك، فارددهم إليّ.
فانزلهم معاوية، وأجرى عليهم من الرزق ما كان لهم بالعراق، ولكن معاوية بعد محادثتهم، استصغر عقولهم، واحتقر شأنهم، وكتب إلى عثمان يقول له: إنه قدم عليّ أقوام ليس لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجّة، وإنما همهم الفتنة، وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فانه سعيداً عنهم، فإنهم ليسوا كثر من شغب ونكير.
ومما جعل عمال عثمان يوسعون صدصرهم لهؤلاء الطاعنين، ولا يبادرون
إلى عقوبتهم الزاجر: أنهم كانوا يتظاهرون في طعنهم بحال من يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقيام دعوة منظمة، لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً، تختلق المعايب، وتلصقها بعثمان وعماله، قد تأخذ بأذهان بعض الغافلين عن سريرة أولئك الدعاة، ويتخيلون أن الدعوة لإصلاح أمر الدولة، فيشارك هؤلاء الغافلون ذينك الفريقين في هذه الدعاية، أو يقفون في الأقل موقف الحيادة،
فلا غرابة أن تنقل كلمات في نقد سياسة عثمان عن أناس لا يريدون إفساد حال المسلمين، ولا يبتغون إدراك منفعة خاصة قد فاتتهم، وإنما يقولونها عن تأثر بتلك الدعاية المنظمة الدائبة.
وربما ذكر المؤرخون أشخاصاً معدودين من الصحابة مثل: عمّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، ويقولون: إنهم كانوا يؤلبون على عثمان، ومتى صحّ أصل الرواية، فمن المحتمل أن يكون الذي صدر منهم لا يزيد على إبداء آراء يخالفون بها رأي عثمان في بعض تصرفات الدولة، أو تولية رجال يرونهم غير ذي كفاية لما تقلدوا من الأعمال، فجاء بعض ذوي الأهواء إلى هذا النقد الذي لا تخلو منه دولة، وإن بلغت من الرشد والعدل غايتهما، وسمّاه تأليباً.
وقد بلغ الحال بدعاة الفتنة أن يزوّروا رسائل على أنها صدرت من عائشة، وعلي، وطلحة، والزبير في الدعوة إلى خلع عثمان، وبلغ أمر هذه الرسائل إلى هؤلاء الصحابة الأجلَاّء، وتبرؤوا منها، وأنكروا أن تكون صدرت منهم. وبمثل هذه الرسائل المزوّرة كانوا يخضعون الغافلين الذين لا يتثبتون فيما ينقل إليهم من الأنباء.
والظاهر أن من أسباب سريان هذه الدعاية الخبيثة: كثرة من دخلوا في الإسلام ممن لم تستنر بصائرهم بهداية الدين الحنيف حق الاستنارة، ولم يقدروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حق أقدارهم، يضاف إلى هذا: ما كان عليه عثمان من النبل والحلم والحياء.
ثم ما كان يجري عليه عماله من عدم مقابلة الطاعنين فيهم أو في عثمان بالشدة الزاجرة، إما استخفافًا بأمرهم، وإما احتمالًا لهذا المطاعن، ولاسيما مطاعن يتظاهر أصحابها بأنهم يتظلمون، أو يريدون إقامة معروف، أو إزالة منكر.
ومن تتبع سيرة الخلفاء الراشدين، أو من جاء بعدهم من الخلفاء العاقلين، وجدهم لا يعاقبون الناس على نقد سياساتهم، وإن ظهر النقد في أقوال جافية، وهذا معاوية يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدهم إلا كلمة يشتفي بها، جعلت له ذلك دبر أذني.
* كيف دبر خلع عثمان أو قتله؟
مما لا نرتاب فيه: أن ليس للصحابة، ولا لأفاضل التابعين سعي في خلع عثمان، ولا دخل في قتله، وإنما المؤتمرون على ذلك هم دعاة الفتنة، واستعانوا بمن تلون بدعايتهم، ونعوّل في هذا على أقوال المحدثين والمحققين من المؤرخين.
قال الحافظ أبو بكر العربي في كتاب "القواصم والعواصم": وقد سمّوا من قام على عثمان، فوجدناهم أهل أغراض سوء، حيل بينهم وبينها، وقال: إن أحداً من الصحابة لم يشنع عليه، وقد انتدب المردة الجهلة أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغباً مؤلباً، وبما جرى عليه
راضياً، واخترعوا كتبًا فيها فصاحة وأمثال، وادعوا أن عثمان كتب بها إلى علي، وذلك كله مصنوع؛ ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين، والخلفاء الراشدين.
اجتمع بعض رؤوس الفتنة بالكوفة، وأخذوا يزيدون نارها حطباً، فكتب سعيد بن العاص يشكوهم إلى عثمان، فأمره بارسالهم إلى عبد الرحمن ابن خالد عامل حمص، فوبّخهم خالد، وتوعدهم، فهابوا سطوته، وأظهروا التوبة، وأرسل بهم إلى عثمان متظاهرين بالتوبة، فخيرهم عثمان بالبلاد التي يريدون استيطانها، فاختاروا التفرق، وذهب كل إلى البلد الذي اختاره، ولما سار كل إلى ما اختار، عادوا إلى إيقاد الفتنة وتأليب الجماعة، وتكاتبوا من أمصارهم في القدوم على المدينة، حتى جمعوا أمرهم، وعزموا على خلع عثمان أو قتله، وتوجهوا نحو المدينة، متظاهرين بقصد الحج، وكان على أهل البصرة حكيم بن جبلة، وعلى أهل الكوفة الأشتر النخعي، وعلى أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي، فدخلوا المدينة في نحو أريعة آلاف شخص، فاطلع عليهم عثمان من حائط داره، ووعظهم، وذكرهم، فاستشاطوا، ولم تنجع فيهم الموعظة، وأراد الصحابة أن يدفعوهم عنه، فأوعز إليهم عثمان أن لا يقاتل أحد بسببه أبدًا، وثبت أن عبد الرحمن بن الزبير قال لعثمان: إن معك في الدار عصابة مستبصرة، ينصر الله بأقل منها، فأذنْ لنا، فقال: أذى الله رجلاً أراق لي دمًا. وقال سليط بن سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا، لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا. وجاءه زيد بن ثابت، فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا. وروي: أن عبد الله بن عامر قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال لي: اعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة
إلا كف يده وسلاحه.
ويحدثنا القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة"، فيقول: ولقد قتل عثمان، وطالبوه أربعة آلاف، وفي المدينة أربعون ألفاً، كلهم لا يريد قتله، ويريد نصره، ولكنه دفعَ الكلَّ، واستسلم للأمر بالعهد الذي كان عنده، ولم يرض أن يراق بسببه دم، ورضي أن يكون عند الله المظلوم، ولا يكون عند الله الظالم.
ولما ضرب أولئك البغاة على عثمان الحصار، كان معه وعلى بابه جماعة من الصحابة وأبناء الصحابة يحرسونه، منهم: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر، والحسن، والحسين، وعبدالله بن الزبير، ومحمد ابن طلحة، وعبدالله بن عامر، وربما وقعت بينهم وبين الثائرين مدافعة، حتى أصيب الحسن وغيره بجراح.
ثم إن هؤلاء الثائرين اقتحموا دار عثمان يريدون قتله.
ويذكر المؤرخون في أسماء من باشروا قتله: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن أبي بكر لم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد سنة حجة الوداع، وهي السنة التي انتقل عقبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فكان أيام فتنة عثمان لم يزل في أوائل عهد الشباب. على أن بعض الروايات تقول: إن محمد بن أبي بكر بعد أن دخل على عثمان كلّمه ووعظه، فرجع، ثم دخل سفهاء القوم، فسفكوا دمه الطاهر، وكتاب الله بين يديه، وصعدت روحه الطاهرة إلى مقام كريم.
* رد ما ينسب إلى عثمان من الأحداث:
يذكر المؤرخون أشياء كان الناقمون على عثمان قد اتخذوها أسباباً
لثورتهم عليه، ومن هذه الأشياء ما هو مفترى على عثمان قطعاً، ومنها ما لو صحّ، لم يكن موضع إنكار، وإنما هو من قبيل ما يرجع إلى اجتهاد الإمام، ويقع مثله من الخلفاء الراشدين، ومنها ما يعد في حسناته وصالح أعماله.
وها نحن هؤلاء نعرض على حضراتكم ما قصه المؤرخون وبعض المحدثين من الأمور التي طعن بها الطاعنون في عثمان، وجعلوها أسباب قيامهم عليه:
قالوا: ولَّى عمالاً من ذوي قرابته، وزعموا أنهم ليسوا أهلاً للولاية.
وذكروا: معاوية بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، ومروان بن الحكم.
ويدفع هذا بأن تعيين الولاة يرجع إلى اجتهاد الإمام، وتقوى عثمان، وإخلاصه في سياسة الرعية يجعلنا على ثقة من أنه ولَّى بعض ذوي قرابته بعد أن عرف كفايتهم للأعمال، والمعيب أن يولي قريباً لا يكون كافياً للعمل، أو يؤثره في الولاية، وهو على علم بن غيره أكفى منه، ثم إن معاوية ولّاه الشام عمر بن الخطاب، ولم يزد عثمان على أن أقرّه على الولاية، وكذلك الوليد بن عقبة كان عاملاً لعمر بن الخطاب على الجزيرة، وكان من عثمان أن ولّاه الكوفة، فقدمها وسار في الناس خمس سنين سيرة حسنة، حتى اتهمه جماعة بشرب الخمر، فاستقدمه عثمان، وأقام عليه الحد، وولّى مكانه سعيد بن العاص، وسعيد بن العاص نشأ يتيماً في حجر عثمان، ثم انتقل إلى الشام، وأقام بها عند معاوية، فذكره عمر بن الخطاب يوماً، واستقدمه إلى المدينة، وأكرمه، وكان شريف النفس، سخي اليد، فصيح
اللسان، لا يختلف اثنان في كفايته للعمل.
وأما عبد الله بن عامر بن كريز، فكان ابن خال عثمان، وأمه أمها أم حكيم ابنة عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن عامر هذا نشأ في الإسلام نشأة طيبة، وكان معدودًا من نجباء قريش وكرمائهم، ولّاه عثمان عاملاً بالبصرة عند اختلاف أهلها على أبي موسى الأشعري، وكان سن عبد الله بن عامر يومئذ خمساً وعشرين سنة، فقاد الجيوش، وفتح خراسان وسجستان وكرمان، وما زال يطارد كسرى يزدجرد حتى قتل كسرى، وانقرضت على يده الدولة الساسانية، وكان لكرمه وحسن خلقه يحبه الناس.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان عثمان استعمله على الحرب في مصر، وأبقى عمرو بن العاص على الخراج، ثم وقع خلاف بينهما، فاستقدم عثمان عمرو بن العاص، وصارت إمارتا الخراج والحرب إلى عبد الله بن سعد.
وذكر ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" سبباً لعزل عمرو بن العاص، هو أن الإسكندرية انتقضت سنة 25 هـ فافتتحها عمرو بن العاص، وعاملهم معاملة الناقضين للعهد، ولم يصح عند عثمان نقضهم، فعزله، وولى عبد الله ابن سرح، فاعتزل عمرو إلى ناحية بفلسطين، وكان يزور المدينة أحياناً.
ويدلكم على أن ولاية عبد الله بن سعد لم تقع موقع الإنكار من الصحابة: أن عثمان أمره بفتح أفريقية، فسار إليها في جيش مؤلف من كثير من الصحابة وأبناء الصحابة، منهم: عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسن، والحسين، وعبد الله ابن عمرو بن العاص.
وقالوا: عبد الله بن سعد هذا كان قد أسلم، ثم ارتد وعاد إلى مكة، فنقول: عاد إلى الإسلام، وظهر إخلاصه، والتوبة تجبّ ما قبلها.
قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة": ولّى عثمان عبد الله بن أبي سرح؛ لحسن سيرته، وحميد طريقته، ولهذا فتح الفتوح في بحر المغرب وبره، وغزا معه جماعة من الصحابة وأبناء الصحابة، وأطاعوه، ورضوا عنه.
وأما مروان بن الحكم: فكان له عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وتولى الكتابة لعثمان، وروى الحديث عن عثمان وعلي، والواقع أن مروان قد كثر الطعن فيه، ونرى بعض المحدثين يصفه بما يخفف هذا الطعن، فأبو بكر بن العربي يقول:"فمروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين".
وقالوا: رد الحكم إلى المدينة، وقد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم منها إلى الطائف.
ويدفع هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن قبل وفاته لعثمان في رده، ولما أبلغ عثمان هذا الإذن أبا بكر وعمر، قالا له: إن كان معك شهيد، رددناه، ولما ولي عثمان الخلافة، عمل على مقتضى علمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن في رده، وللحاكم أن يعمل على ما يعلم في غير القضاء بين الخصوم.
وقالوا: كان عمر يضرب بالدرة، وهو يضرب بالسوط، وضرب عمار ابن ياسر، وابن مسعود، ومنعه عطاءه، وضرب أبا ذر، ونفاه إلى الربذة.
وسلك بعض أهل العلم في دفع هذا الإنكار طريقة أن للحاكم أن يؤدب بعض الرعايا بما يراه صلاحاً، ولكن حفاظ الحديث أنكروا هذا الذي يحكيه المؤرخون أشد الإنكار، قال أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم": أما
ضربه لعمار، وابن مسعود، ومنعه لعطاء بن مسعود، فزور وإفك، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، ولا يذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له.
وأما قصة أبي ذر، فهو أن أبا ذر كان زاهداً، وكان يعظ عمال عثمان في الزهد، ويتلو عليهم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، وربما أغلظ لهم القول، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستدعاه إلى المدينة، فاجتمع عليه الناس، فكره ذلك، فقال له عثمان: لو اعتزلت! فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً، ونزل وراء أجله فضلاء.
وقالوا: صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلا على الدرجة التي كان يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
ويدفع هذا بأن هذه الرواية غير صحيحة، قال أبو بكر بن العربي في "العواصم": ما سمعت هذا ممن فيه تقية، وإنما هي إشاعة منكر، ليروي ويذكر، ليتغير بها قلب من يتغير.
وقالوا: لما طُعن عمر رضي الله عنه، قتل عبد الله بن عمر الهرمزان بتهمة أن له يداً في قتل عمر، فلم يُقم عثمان على عبد الله بن عمر حدَّ القصاص.
ويدفع بن هذه الواقعة جرت بمرأى من الصحابة وهو متوفرون، فكيف تقع في أول عهد عثمان ويسكتون عنها؟ وإذا أردنا أن نرجع إلى قول المؤرخين، فقد قالوا: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر، وظهرت تحت ثيابه، وقالوا: أعطى الخنجر لأبي لؤلؤة، وحرضه على عمر
حتى قتله. وكان قتل عبد الله له قبل أن يتولى عثمان، ولعل عثمان كان لا يرى على عبد الله حقاً؛ لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله. ويروى: أن عمرو بن العاص لما أختلف الصحابة في الاقتصاص من عبد الله بن عمر، قال لعثمان: إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك، قال لعثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها دية، وأحتملتها في مالي، وانتهى الخلاف.
وقالوا: ابتدع في جمع المصحف، وحرق المصاحف.
ويدفع هذا الطعن بأن الله تعالى وعد بحفظ القرآن، فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فكان هذا الحفظ على يد عثمان، فإن عثمان- كما يقول ابن حزم- جمع القرآن في مصحف تحفظ به القراءات المسموعة من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أحرق المصاحف التي تشتمل على شيء يتوهمه واهم، أو يدسه زنديق.
وقالوا: خالف سنة القصر في الصلاة، فصلى بالناس في منى أربم ركعات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلونها ركعتين.
وجواب هذأ: أن تلك السنة كثر فيها الأعراب، فخشي أن يسبق إلى أذهانهم أن الصلاة أربم، فقصد إلى تعليمهم أنها أربم. وروى البيهقي: أن عثمان نفسه خطب في منى، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طَغام، فخفت أن يستنوا، ولعل الذي نبه إلى هذا ما روي من أن أعرابياً ناداه في منى: يا أمير المؤمنين! ما زلت أصليها منذ رأيتك عام
أول ركعتين.
قال ابن العربي في "العواصم": وأما ترك عثمان للقصر، فاجتهاد؛ إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا في منازلهم، فرأى أن السنة ربما
أدت إلى إسقاط الفرض، فتركها خوف الذريعة.
ومما أنكره الثائرون على عثمان: حمايته لأرض كانت للناس عامة، فخصها بإبل الصدقة، واجهوه بهذا الإنكار، فقرؤوا عليه الاية:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]، وقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك، أم على الله تفتري؟ فقال: هذه الآية نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى، فقد حمى الأئمة قبلي لإبل مصدقة، فلما زادت إبل الصدقة، زدت في الحمى.
وثبت في "صحيح البخاري": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر ابن الخطاب حمى السرف، والربذة.
وزعموا أنهم لاقوا راكباً خارج المدينة يحمل كتاباً من عثمان إلى عامله بمصر عبد الله بن سعد يأمره فيه بقتل محمد بن أبي بكر، ومن معه من رؤوس هذه الفتنة بعد أن وعظهم وأظهروا التوبة.
ويدفع هذا بأنهم ادعوا هذا، وأنكر عثمان أن يكون قد كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، صالا، فيميني أني ما كتبت، ولا أمرت، وقد يكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه، فقالوا: تسلم إلينا مروان، فقال: لا أفعل، ولو سلمه، لكان ظالماً، وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان (1).
وساق الإمام البخاري في "جامعه" قصة تحتوي شيئاً مما يتلمسه الذين يتنقصون عثمان رضي الله عنه، قال: جاء رجل من أهل مصر، وحج البيت، فرأى قوماً
(1)"العواصم" لابن العربي.
جلوساً، فقال: من هؤلاء القوم؟ قال: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر! إني سائلك عن شيء، فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: أتعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله كبر!
قال ابن عمر: تعال أبيّنْ لك: أما فراره يوم أحد، فاشهد أن الله عفا عنه، وغفر له. وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمَه".
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان، لبعثه مكانه، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى:"هذه يد عثمان"، فضرب بها على يده اليسرى، فقال:"هذه لعثمان".
وملخص هذه المحاضرة: أن عثمان رضي الله عنه لم يأت حدثاً منكراً، ولم يرتكب ظلماً ولا إثماً، وأن الصحابة جميعاً بريئون من دمه، وإنما حاول خلعه، أو خان الله في سفك دمه، نفر ليسوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من القوم الذين يريدون الإصلاخ.
ولعل محاضرتنا هذه تنبه شبابنا النابتين نباتاً حسناً على أن يتثبتوا فيما يقصه المؤرخون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الذين صاحبوه أعواماً، ووردت الأخبار الصحيحة أنه توفي وهو عنهم راض.