المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرة في حياة الإمام مالك بن أنس - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌نظرة في حياة الإمام مالك بن أنس

‌نظرةٌ في حياة الإمام مالك بن أنس

(1)

أكمل الله الدين بما أودع في الكتاب والسنّة من أصول وأحكام، وفتح للراسخين في العلم باب الاجتهاد؛ لينتزعوا أحكام الوقائع من أصولها، ويقيسوا الأمور بأشباهها، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وفي أصحابه رضي الله عنهم رجال درسوا الشريعة، ووقفوا على أسرارها، وعرفوا مقاصدها في الإصلاح؛ كالخلفاء الراشدين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم مما لا يسع ذكرهم هذا المقام.

حفظ هؤلاء الأعلام الشريعة من جهة الرواية، فبلَّغوها كما سمعوها، ونصحوا لها من جهة الدراية، فكانوا يتحرّون الحق إذا اجتهدوا، وكان مجلس كل واحد منهم كمدرسة يتلقى فيها الناس القرآن والحديث، ويتعلمون كيف يفصلون للحوادث أحكامًا، ويضعون للسياسة نظمًا، وينقضي عهد الصحابة حتى عمرت بلاد الإسلام برجال رفعوا لواء العلم، وكانوا المثل الكاملة للاستقامة، والألسنة الصادقة لبيان الحقائق، والعقول الراجحة لتدبير وسائل السعادة؛ كالقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وأبي

(1) محاضرة الإمام بدار جمعية "الهداية الإسلامية" في 11 صفر 1353. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد السادس.

ص: 55

بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وعطاء بن أبي رياح، والحسن البصري، وشريح بن الحارث القاضي، وعمر بن عبد العزيز.

وفي هذا العصر الزاهر، وفي البلدة الطافحة بعلوم الشريعة أصولاً وفروعاً، وهي المدينة المنورة، ولد مالك بن أنس الذي صار إمام دار الهجرة من بعد.

* نسب مالك:

يتصل نسبه بذي أصبح أحد ملوك اليمن، فهو مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر بن غَيمان بن خُثَيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح.

ومالكٌ جدُّ مالك من كبار التابعين، يروي عن عمر، وطلحة، وعائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان رضي الله عنه ليلاً إلى قبره، وأنس - الذي هو أبو مالك - يروي عن أبيه مالك بن أبي عامر، فهو من أهل الرواية والحديث.

* مولد مالك ونشأته:

ولد مالك في ربيع الأول سنة ثلاث أو أربع وتسعين من الهجرة، ونشأ بين أبوين صالحين، أما أبوه، فقد عرفتم أنه كان من أهل الحديث، وأما أمه، فيدل على صلاحها: أنه لما بلغ سن التعليم، عمّمته، وقالت له: اذهب فاكتب (تعني: الحديث)، وكانت تقول له: اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه، ويدل على عناية والده أنس بالقيام على حسن ترييته وتعليمه: ما حكاه مالك نفسه، فقال: كان لي أخ في سن أبي شهاب، فألقى أبي يوماً علينا مسألة، فأصاب أخي، وأخطأت، فقال لي: ألهتك الحَمام عن طلب

ص: 56

العلم، فغضبت، وانقطعت إلى أبي هرمز سبع سنين لم أخلطه بغيره.

وكان مالك شديد الحرص في طلب العلم، تتعرف هذا من انقطاعه لابن هرمز ثمان سنين، وقال: كنت أجعل في كمي قمطراً أناوله صبيانه، وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ (يعني: ابن هرمز)، فقولوا: مشغول، وقال: كنت آتي ابن هرمز بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل.

* قوة حافظته:

مما ساعد الإمام مالكاً على بلوغه الذروة في العلم: قوة حافظته؛ فقد روي عنه: أنه قال: ما استودعت قلبي شيئاً فنسيته، وقال: كنت آتى ابن المسيب، وعر وة، والقاسم، وأبا سلمة، وحميداً، وسالماً (وعدّ جماعة)، فأدور عليهم أسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المئة، ثم أنصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا بحديث هذا.

* ذكاؤه وقوة نظره:

جمع مالك إلى قوة الحفظ سعةَ نظر، وغوصاً على حكمة التشريع، ويدلكم على حسن تفقهه فيما يحفظ: أنه كان يحمل النصوص على وجوه تطابق المعروف من قصد الشارع في التعبد أو الإصلاخ، ويأخذ في كثير من الفتاوى بقاعدة رعاية المصالح، وقاعدة سد ذرائع الفساد، وقد كان في عصره من يحفظ حفظه للأحاديث والآثار، وإنما ارتفع ذكر مالك في الأقطار، ورحل إليه طلاب العلم من كل ناحية؛ لجودة نظره في الكتاب والسنة، وكثرة ما يفصله من الأحكام المندرجة تحت الأصول، أو الملوح إليها بالعلل المنصوصة أو المعقولة، وذلك ما لا يحسنه إلا قوي النظر، نافذ البصيرة إلى اللباب، قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث، لضللت، فقيل

ص: 57

له: كيف ذلك؟ فقال: أكثرت من الحديث، فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا.

* تحرِّيه في رواية الحديث:

من رجال الحديث من يأخذ عن الثقات والضعفاء، ومنهم من لا يروي إلا عن الثقات، ومن هذا القبيل: مالك بن أنس، قال ابن عيينة، كان مالك لا يحدث إلا عن ثقات الناس، وذكر مالك مرة حديثاً، فقيل له: من حدثك بهذا؟ فقال: إنا لم نجالس السفهاء، وكان مالك يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين، (وأشار إلى المسجد)، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال، لكان أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.

وقال ابن عيينة: ما رأيت أحداً أجودَ أخذاً للعلم من مالك، وما كان أشدَّ انتقاءه للرجال والعلماء!.

* صدقه وإتقانه للرواية:

بلغ مالك في الصدق والضبط في الرواية أقصى ما يبلغ الرواة، وروايته بشهادة كثير من الأئمة أصح رواية، قال البخاري: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. وقال أبو داود: أصح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرويه مالك عن نافع عن ابن عمر، ثم ما يرويه مالك عن الزهري عن سالم بن عمر عن أبيه، ثم ما يرويه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال ابن مهدي: ما أُقدم على مالك في صحة الحديث أحداً.

وقال ابن مهدي أيضاً: ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث

ص: 58

رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك.

* غزارة علمه:

حدثناك عن قوة حافظته، وثقوب ذهنه، وحرصه في طلب العلم، ومن جمع هذه الثلاث خصال، ولقي كبار العلماء، فسرعان ما يكون علماً شامخًا، وبحرًا زاخرًا، وقد دل ثناء كبار العلماء على مالك أنه كان إماماً في العلم، بالغاً فيه أسنى منزلة.

قال سفيان بن عيينة لما بلغته وفاة مالك: ما ترك على الأرض مثله.

وكان الأوزاعي يقول عندما يذكر مالكاً: هو عالم المدينة، وعالم العلماء، ومفتي الحرمين.

وقال الشافعي: مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وما من أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلت مالكًا حجة بيني وبين الله، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وقال ابن معين: كان مالك من حجيج الله على خلقه، وقال بشر الحافي: إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك.

ولا نمضي من هذا الفصل حتى نذكر لك حديثاً يرويه الثقات، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"يوشك أن يضرب الناس- أكباد الإبل في طلب العلم (1)، فلا يجدون أعلم (2) من عالم المدينة"، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، والترمذي وحسَّنه، والنسائي، والحاكم في "المستدرك" وصححه. وقد حمل هذا الحديث بعض السلف عن مالك بن أنس. قال سفيان بن عيينة: ترى أن المراد

(1) في رواية: يلتمسون العلم.

(2)

في رواية: أفقه.

ص: 59

من الحديث مالك بن أنس؛ لأنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة، ويؤيده: أن طلاب العلم لم يضربوا أكباد الإبل من مشارق الأرض ومغاريها، ويرحلوا إلى عالم بالمدينة رحلتهم إلى مالك بن أنس.

* تعظيمه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كان مالك إذا أراد أن يحدث، توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا متمكناً على طهارة.

وكان يكره أن يحدث على الطريق، أو قائماً، أو مستعجلاً، ويقول: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلدغته عقرب مرات، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبد الله! لقد رأيت اليوم منك عجبًا، فقال: نعم، إنما صبرت إجلالًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومر مالك على ابن أبي حازم وهو يحدِّث، فتعداه، فقيل له، فقال: لم أجد موضعًا أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم.

* كراهته للابتداع في الدين:

كان مالك يتحرى السنن، ويحث على اتباعها، ويتجنب الباع، ويحذر من ارتكابها، وكان كثيراً ما ينشد:

وخير أمور الدين ما كان سنَةً

وشر الأمور المحدَثات البدائعُ

وسئل مرة عن الداء العضال، فقال: الحدث في الدين. ولقد صدق مالك في تسمية البدعة الداء العضال، فقلما تتفشى البدعة

ص: 60

في قوم، ويشفون منها، فإن كان هناك برء منها، فبتلقي النشء قبحها وسوء عاقبتها قبل أن يشبوا عليها، وصرفِهم عنها قبل أن تتلوث فطرهم بأقذارها.

* الرواة عن مالك:

بلغ مالك في الفقه والحفظ والتفقه في الدين أقصى ما يمكن أن يبلغه راسخ في العلم، واشتهر بالصدق، واتقان الرواية، فكان فيهما العلمَ الشامخ، والقمر الزاهر، فلا جرم أن يقبل عليه طالبو العلم من كل مكان، وأن يروي عنه أقرانه وشيوخه دون أن يجدوا في صدورهم حرجاً من الرواية عمن هو في طبقتهم، أو من كان يتلقى العلم في مجالسهم.

قال جعفر الفريابي: لا أعلم أحداً روى عن الأئمة والجِلّة ممن مات قبله بدهر طويل إلا مالكًا، وقد روى عنه من أقرانه: سفيان الثوري، والليث ابن سعد، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وروى عنه: الإمام أبو حنيفة، وصاحباه: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن.

وروى عنه من شيوخه: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأيوب السختياني، وربيعة بن عبد الرحمن، ونافع بن أبي نعيم القارئ.

وكان مالك من أكثر رجال الحديث رواة، وقد أفرد الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي كتاباً في الرواة عن مالك أورد فيه ألف رجل إلا سبعة، وألّف القاضي عياض كتاباً في ذلك، فذكر نحو ألف اسم وثلاث مئة اسم.

* كرم أخلاقه وسمو آدابه:

كان مالك على خلق كريم، وأدب نبيل، وقد شهد له بذلك أفاضل الرجال من أهل العلم.

قال ابن وهب: الذي تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه، كان

ص: 61

يحيى بن يحيى بن بكير أقام عند مالك بعد أن فرغ من سماع الحديث عنه، وقال: إنما أقمت مستفيداً لشمائله، فإنها شمائل الصحابة والتابعين.

وكان ربيعة إذا جاء مالك يقول: قد جاء العاقل.

وقال زياد بن يونس: كان - والله - مالك أعظم الخلق مروءة، وكثرهم سمتاً، ورأيته كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظاً للسانه.

وقال ابن المبارك: كان مالك أشد الناس مداراة للناس، وترك ما لا يعنيه.

وكان مالك يحافظ على فضيلة الإنصاف، ويقول: ليس في الناس أقل من الإنصاف، فأردت المداومة عليه، وكان- على اعتزازه بمقامه العلمي - شديد التواضع. قال له ابن القاسم: ما أعلم أحداً أعلم بأحكام البيوع من أهل مصر، فقال له: وبم ذلك؟ قال: بك، قال مالك: فأنا لا أعرف البيوع، فكيف يعرفونها بي؟!.

ويدلكم على رسوخه في الإنصاف والتواضع، دايثار الحق على حب الانفراد بالإمامة: أن أبا جعفر المنصور قال له: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها (يعني: الموطأ) فننسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإنَّ ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم.

ص: 62

* وعظه للملوك:

لم يكن مالك بالذي يهاب الخلفاء هيبة تمنعه من الجهر بنصيحتهم، أو بالذي يحمله الطمع على تملقهم.

دخل يوماً على الرشيد، فحثه على مصالح المسلمين، وقال له: لقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في فضله وقَدَمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور حتى يخرج الدخان من تحت لحيته، وقد رضي الناس منكم بدون هذا.

ولأنه يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجالس الأمراء لم يبال الدخول عليهم، وروي أنه قيل له: إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون ويجورون! فقال: يرحمك الله، فأين يكون الكلام بالحق؟.

وناظره الخليفة أبو جعفر المنصور في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع صوته؛ فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد؛ فإن الله عز وجل أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، ومدح أقواماً فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3].

* اعتزازه بمقامه العلمي في مجالسهم:

كان مالك متواضعاً، ولكنه يقدر مكانته العلمية، ويصون كرامتها، ويحوطها بالعزة من كل جانب.

قدم الخليفة المهديُّ المدينة، فاقبل الناس عليه مسلِّمين، فلما أخذوا مجالسهم، جاء مالك، فقالوا: اليوم يجلس مالك آخر الناس، فلما دنا، ونظر ازدحام الناس، وقف، وقال: يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك؟

ص: 63

فناداه المهدي: عندي يا أبا عبد الله، فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى، وأجلسه بجنبه.

وإذا كان يقبل عطايا الملوك، فلأنه يستعين بها في سبيل بث العلم، دون أن يكون لها أثر في تملقهم، أو الإغضاء عن أهوائهم.

لما حجَّ هارون الرشيد، وقدم المدينة، بعث إلى مالك بكيس فيه خمس مئة دينار، ورحل إلى مكة لقضاء نسكه، ولما عاد إلى المدينة، بعث إلى مالك يطلب منه الانتقال معه إلى بغداد، فقال مالك للرسول: قل له: إن الكيس بخاتمه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وقال له الرشيد: تأتينا حتى نتعلم عليك، ونسمع منك، فقال له: العلم يُؤتى ولا يأتي، قال: نأتي، وتمنع الناس حتى ننصرف، قال: إذا منع العلم من العامة، لم ينفع الله به الخاصة ولا العامة، فذهب الرشيد إلى منزل مالك، وتعلم منه، وسمع عليه، وكان القارئ له معن بن عيسى القزاز.

وسئل عيسى بن عمر المدني: أكان مالك يغشى الأمراء؟ قال: لا، إلا أن يبعثوا إليه فيأتيهم.

ودخل مرة على هارون الرشيد، وبين يديه شطرنج منصوب، وهو ينظر فيه، فوقف مالك ولم يجلس، وقال: أحق هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! فرفع هارون رقعته، وقال: لا ينصب بين يدي بعدُ.

وقال: والله! ما دخلت على أحد منهم - يعني: السلطان - إلا أذهب الله هيبته من قلبي حتى أقول له الحق.

ص: 64

روي أنه كان جالساً مع أبي جعفر، فعطس أبو جعفر، فشمته مالك، فلما خرج، أنكر عليه الحاجب ذلك، وتهدده إن عاد لتشميته، فلما كان بعد ذلك، جلس عنده، فعطس أبو جعفر، فنظر مالك إلى الحاجب، ثم قال للمنصور: أي حكم تريد يا أمير المؤمنين، أحكم الله، أم حكم الشيطان؟ قال: لا، بل حكم الله، قال:"يرحمك الله".

* محنته:

من المعروف في تاريخ مالك بن أنس أنه ضُرب بالسياط (1)، واختلف المؤرخون في الخليفة الذي ضرب في عهده، هل هو المنصور، أو هارون الرشيد؟ والمشهور أنه ضرب في عهد المنصور، والضارب له جعفر بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس في ولايته الأولى بالمدينة المنورة.

أما سبب ضربه، فأكثر الرواة على أنه سعى به إلى جعفر، وقيل له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء؛ فإنه يأخذ بحديث قيس بن ثابت بن الأحنف في طلاق المُكْرَه أنه لا يجوز، ويضيفون إلى هذا: أنه ذكر لجعفر أنه - أي: الإمام - أفتى عند قيام محمد بن عبد الله بن حسن العلوي بن بيعة أبي جعفر لا تلزم؛ لأنها على الإكراه (2).

ولما حج المنصور، أراد إرضاء مالك، فأرسل إليه جعفرَ بن سليمان ليقتص منه، فقال مالك: أعوذ بالله، والله! ما ارتفع منها سوط عن جسمي

(1) ضرب سنة 146 ست وأربعين ومئة. وقال ابن الجوزي في "شذور العقود" في حوادث سنة 147: وفيها ضرب مالك.

(2)

وخالف هؤلاء الرواة ابن بكير، وقال: ما ضرب مالك إلا في تقديمه عثمان على علي، فسعى به الطالبيون حتى ضرب.

ص: 65

إلا وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعفر هذا فاطمي من جهة أمه؛ فإن أمه هي أم الحسن بنت جعفر بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقال الدراوردي سمعت مالكاً حين ضربه جعفر يقول: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعملون.

وازداد قدر مالك بعد هذه المحنة رفعة، وعظَّمه الناس أكثر مما كانوا يعظونه.

* اختياره العزلة في آخر حياته:

كان مالك يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، واحتمل الناس له ذلك حتى مات، وروي أنه خوطب في ذلك، فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره، وروي أنه عندما حضرته الوفاة، سئل عن تخلفه عن المسجد، فقال: سلس بول، فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة، وكرهت أن أذكر علّتي فأشكو.

* نعته:

كان مالك طويلاً، جسيماً، عظيم الهامة، أعينَ، شديد البياض إلى شقرة، حسن الصورة، أشم، عظيم اللحية تبلغ صدره، ذات سعة وطول. وكان يأخذ أطراف شاربه ولا يحلقه، ولا يحفيه، ويرى حلقه من المُثْلَة، وكان يترك له سَبَلتين (1) طويلتين، ويحتج بأن عمر رضي الله عنه كان يفتل شاربه

(1) السبلة: ما على طرف الثياب.

ص: 66

إذا أهمه أمر. والمشهور عنه أنه لا يغير شيبه بالخضاب.

وقال مصعب الزبيري: كان مالك من أحسن الناس وجهاً، وأحلاهم عيناً، وأنقاهم بياضاً، وأتمهم طولاً في جودة بدن.

* مؤلفاته:

من أشهر مؤلفات مالك: "الموطأ"(1)، وهو كتاب توخى فيه القويّ من الأحاديث المرفوعة والمرسلة، ومزجه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وممن شهد ببلوغه في الصحة الغاية القصوى: الإمام الشافعي بقوله: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "الموطأ" هو الأصل الأول واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع؛ كمسلم، والترمذي.

ومن مؤلفاته: رسالة رد فيها على القدرية، وكتاب في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، ورسالة في الأقضية، كتب بها إلى بعض القضاة في عشرة أجزاء، ورسالة إلى أبي غسان محمد بن المطرف، وكتاب في التفسير لغريب القرآن، ونسب إليه كتاب يسمى: كتاب السير في رواية ابن القاسم عنه، ورسالته إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة، أما رسالته المشهورة إلى هارون الرشيد، فقد أنكرها طائفة من أصحابه، حتى إن أصبغ بن الفرج حلف على أنها ليست من وضع مالك.

(1) قيل: سمي: "موطأ" لأنه شيء قد صنفه ووطأه للناس، وقيل: لأن مالكاً عرضه على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فواطؤوه عليه، فسماه:"الموطأ".

ص: 67

* مقتبسات من حكمه ووصاياه:

لمالكٍ حِكَم بالغة، ووصايا نافعة، شأن من درس القرآن والسنة بعقل راجح، وسريرة طا هرة؛.

قال مالك: من صدق في حديثه، متع بعقله، ولم يصبه ما يصيب الناس من الهم والخوف.

وقال: طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس.

وقال: تعلموا الحلم قبل العلم.

وقال: العلم نور يجعله الله حيث يشاء ليس بكثرة الرواية.

وقال: نعم الرجل فلان، إلا أنه كان يتكلم كلام شهر في يوم.

وقال مطرف: قال لي مالك: ما يقول الناس فيَّ؟ قلت: أما الصديق، فيثني، وأما العدو، فيقع، فقال: ما زال الناس هكذا: لهم صديق وعدو، ولكن نعوذ بالثه من تتابع الألسنة.

ودلت الروايات على أن أصحابه كانوا إذا أرادوا وداعه، طلبوا منه أن يزوّدهم بنصائح ينتفعون بها في مستقبل حياتهم، قال يحيى بن يحيى الأندلسي: لما ودعت مالكًا، سألته أن يوصيني، فقال: عليك بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله.

وقال الحارث بن أسد من أهل قفصة بإفريقية: دخلت على مالك أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصني، فقال له: اتق الله، وانظر عمن تنقل. وقال لابن القاسم: اتق الله، وانشر ما سمعت. وقال لي: اتق الله، وعليك بتلاوة القرآن.

قال الحارث: لم يرني أهلاً للعلم، فكان يستفتي ولا يفتي، ويقول:

ص: 68

لم يرني مالك أهلاً للعلم.

وقال أسد بن الفرات: كنت أنا وصاحباً يلزم مالكاً، فلما أردنا الخروج إلى العراق، أتينا مودّعين، فقلنا له: أوصنا، فالتفت إلى صاحبي، فقال له: أوصيك بالقرآن خيراً، والتفت إليَّ وقال: أوصيك بهذه الأمة خيراً.

وقال خالد بن خداش: ودعت مالكًا، فقلت: أوصني، قال: تقوى الله، وطلب الحديث من أهله.

* وفاته:

مرض مالك نحو اثنين وعشرين يوماً، وتوفي في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة، وكان آخر كلامه أن تشهَّد، وقال: لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وصلى عليه أمير المدينة وقتئذ عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وشيع جنازته ماشياً، وكان أحد من حملوا نعشه، وقبره معروف اليوم في البقيع، أفاض الله عليه رحمة ونوراً.

قضى هذا الإمام الجليل - رحمه الله تعالى - نحو ستين سنة في التفقه في الدين والإفتاء والاجتهاد في طاعة الله، ورجعت نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، وهذه صفحة من حياته نعرضها على حضراتكم، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، والسلام عليكم ورحمة الله.

ص: 69