المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد الباقر وزيد - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌محمد الباقر وزيد

‌محمد الباقر وزيد

(1)

اقترحت عليَّ لجنة المحاضرات لشركة السيارات الشرقية والدقهلية في هذه السنة إلقاء كلمة في موضوع يتصل بسيدنا الحسين، فبدا لي أن أجعلها في الحديث عن حفيديه: محمد، وزيد ابني اعلي زين العابدين بن الحسين، وفي سيرة العظماء عبرة لمن يريد أن يكون عظيماً في علمه، أو في شرفه وسمو هممه، أو في المسارعة إلى عمل الخير ما استطاع.

* محمد الباقر:

هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فنسبه من جهتي أبيه وأمه يتصل بعلي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد محمد في المدينة المنورة في صفر سنة ست أو سبع وخمسين، وتلقى الحديث وعلوم الدين عن أبيه علي زين العابدين، وجديه الحسن والحسين، وعم أبيه محمد بن الحنفية، وروى الحديث عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأنس، وسعيد بن المسيب.

وهو معدود في صفوة المحدثين الصادقين فيما يروون، قال ابن سعد:

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الأول والثاني من المجلد السادس عشر.

ص: 31

كان محمد ثقة كثير الحديث، وقال العجلي: محمد تابعي ثقة.

وكان محمد الباقر معدوداً من كبار الفقهاء، قال صاحب "الإرشاد": لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين من علم الدين والسنن، وعلم القرآن، والسير، وفنون الأدب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر.

وذكره الإمام النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين.

وقال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عند الباقر.

ولقب بالباقر من قولهم: بقر العلم: أوسعه، قال صاحب "القاموس": والباقر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه؛ لتبحره في العلم.

وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لأهل التقى

وخير من لبى على الأجبل

وقال مالك بن أعين الجهني يمدحه:

إذا طلبت الناس علم القرآ

ن كانت قريش عليه عيالا

وتلقى عن الباقر الحديث جماعة من كبار أئمة الحديث، مثل: الإمام الزهري، والإمام الأوزاعي، وربيعة، وابن جريج، وعمر بن دينار.

وللباقر بعد منزلة الفقه والعلم منزلة فائقة في الفضل والاجتهاد في العبادة، والدعوة إلى الله. قال محمد بن المنكدر: ما رأيت أحداً يفضل علي ابن الحسين، حتى رأيت ابنه محمداً؛ أردت أن أعظه، فوعظني.

وللباقر مواعظ بالغة، وحكم رائعة، ومن هذه المواعظ والحكم قوله لابنه:"إياك والكسل والضجرة فإنهما مفتاح كل خبيثة، فإنك إذا كسلت، لم تؤد حقاً، وإن ضجرت، لم تصبر على حق". وقوله: "أشد الإيمان ثلاثة:

ص: 32

ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال".

وقوله: "ما دخل قلب عبد شيء من الكبر إلا نقص من جمقله بقدره، أو أكثر منه". وقوله: "ليس الأخ أخًا يرعاك غنياً، ويتركك فقيراً". وقوله: "الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل، أوطناه".

ومن حكم الباقر: "اعوف المودة في قلب أخيك مما له في قلبك".

وإلى معنى هذه الحكمة يشير قول الشاعر:

سلوا عن مودات الرجال قلوبكم

فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا

ولا تسألوا عنها العيون فربما

أقرت بشيء لم يكن داخل الحشا

وكان محمد الباقر يحترم الشيخين أبا بكر وعمر، ويعترف بإمامتهما.

قال سالم أبو حفصة: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال لي: يا سالم! تولهما، وأبرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامي هدى.

وروى عنه أنه قال: ما أدركت أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.

وروى عنه أنه قال: من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر، فقد جهل السنة.

وتوفى الباقر سنة 113 رحمه الله بالحميمة، وهي قرية بصقع الشام في طريق المدينة، ونقل إلى المدينة، ودفنه بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه زين العابدين، وعم أبيه الحسن بن علي.

ومحمد الباقر هو الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر الذين هم موضع عقيدة الشيعة الإمامية، وبهذا سمو: الاثني عشرية، وهؤلاء الأئمة هم علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن العسكري،

ص: 33

وهذا الإمام الأخير في مذهب الشيعة هو المهدي المنتظر.

وهناك طائفة من الشيعة يقال لهم: الباقرية يقولون: الإمامة انتقلت من علي بن أبي طالب وأولاده إلى محمد الباقر، وانتهت الإمامة عنده، وإنه لم يمت، ولكنه غائب، وهو المهدي المنتظر.

وأهل السنة يعتقدون في هؤلاء الأئمة العلم والتقوى، ولكنهم لا يعتقدون كما يعتقد بعض الفرق أنهم معصومون عن جميع الذنوب وسائر النقائص، إلى ما يتبع هذا من الآراء.

* زيد بن علي:

نسب زيد بن علي من جهة أبيه هو نسب أخيه محمد الباقر، وأما نسبه من جهة الأم، فإن زيدًا أمه كانت أم ولد؛ أي: أمة، ولم يقصر به ذلك عن أن يكون في أعلى مرتبة من الفضل، قال له هشام بن عبد الملك: أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن لك جوابًا إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت أمسكت عنك، قال: لا، بل أجب، قال: إن الأمهات لا يقنعون بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن ابتعثه الله نبيًا، وجعله للعرب أبًا، وأخرج من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، فتقول لي كذا، وأنا ابن فاطمة، وابن علي!.

ولد زيد بالمدينة سنة 75، فيكون أصغر سناً من أخيه الباقر بنحو تسع عشرة سنة، وهنالك نشأ، وكانت المدينة لذلك العهد زاخرة بعلوم الشريعة، وفي ذلك العهد ظهر كثير من أعاظم الفقهاء، مثل: سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر،

ص: 34

والقاسم بن محمد، وخارجة، وكان هؤلاء الفقهاء من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولم يؤثر عن أحد منهم أن أفتى في شرع الله بما يوافق هوى السياسة؛ رهبة من سطوتها، أو طمعًا في الوجاهة لدى أربابها، فيكون زيد بن علي قد شب في بيئة علمية تغمرها الآداب الرفيعة، وتنبت فيها الأعمال الصالحة نباتًا حسنًا.

وكان زيد من كبار المحدثين، فقد روى عن أبيه زين العابدين، وأخيه محمد الباقر، وعن عروة بن الزبير، وعبد الله بن رافع، وغيرهم من أجلة التابعين.

وهو معدود في مرتبة المحدثين الصادقين فيما يروون، وقد روى عنه جماعة من أئمة الحديث، مثل: الزهري، وشعبة، والأعمش، وابن أبي الزناد.

وكان زيد فقيهاً مجتهداً، ولقيه الإمام أبو حنيفة، وأخذ عنه، وأثنى عليه. وكان زيد يقول الشعر، ومن شعره الأبيات التي أرسلها إلى هشام بن عبد الملك بعد ذلك المجلس الذي قال له فيه: أتترصد للخلافة، وأنت ابن أمة؟! وهي:

مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا

سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا

فالله يعلم أنا لا نحبكم

ولا نلومكم ألا تحبونا

وكان زيد - مع رسوخه في علوم الشريعة - تسمو به همته إلى تولي الخلافة؛ إذ كان ينكر على هشام سوء سياسته، ويراها شراً من سياسة يزيد، ويروى أنه - أي: زيداً - دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، فرأى سعد

ص: 35

ابن إبراهيم في جماعة من القرشيين، فحادثهم في سياسة هشام، حتى قال لهم:"وأنا أشهد أن يزيد ليس شراً من هشام، فما لكم! "، ولما انصرف، قال سعد لأصحابه: مدة حياة هذا قصيرة.

وشعر هشام من زيد هذا الطموح، مضافاً إلى عبقرية زيد، واستجماعه لخصال الفضل، وكان زيد بالكوفة، فأرسل هشام إلى عامله على الكوفة، وهو يوسف بن عمر النقعي، يأمره بن يوجه زيداً إلى الحجاز، فغادر زيد الكوفة إلى الحجاز، ولما بلغ "العزيب" لحقته الشيعة، وأخبروه أن الناس مجمعة عليه، ولم يزالوا يلحفون عليه حتى رجع، وأقام بالكوفة سنة يبايعه الناس على الخلافة خفية، وبايعه جماعة من أعلام الفقهاء، مثل: منصور بن المغنمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن شبرمة، وغيرهم، ويقال: إن أبا حنيفة رضي الله عنه أرسل إليه ثلاثين ألف درهم، وحث الناس على مناصرته.

وظهر زيد معلناً أمره في محرم سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومئة، ونشبت الحرب بينه وبين يوسف بن عمر عامل هشام على الكوفة، ولم تدم الحرب أكثر من ثلاثة أيام، وأدرك الفشل أتباع زيد، فتفرقوا عنه، وكانت العاقبة أن أصاب زيداً سهم في جبهته، فحمله أصحابه، ومات من هذه الإصابة كريماً شهيداً - تغمده الله برحمته -، وكان يتمثل يوم قتل بقول القائل:

أذل الحياة وعز الممات

وكلاً أراه طعاماً وبيلا

فإن كان لا بد من واحد

فسيروا إلى الموت سيراً جميلا

وصُلب زيد بعد موته حيناً، وإليه يشير أبو الحسن محمد بن عمران الأنباري بقوله من القصيدة التي رثى بها الوزير ابن بقية، وقد صلب هذا

ص: 36

الوزير أيضاً بعد قتله:

ركبت مطية من قبل زيد

علاها في السنين الماضيات

وتلك فضيلة فيها تأس

تباعد عنك تعيير العدات

ولم أرقبل جذعك قط جذعاً

تمكن من عناق المكرمات

* احترام زيد للشيخين أبي بكر وعمر:

لما أخذ الناس يبايعون زيداً بالخلافة، جاءته طائفة يطلبون منه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: لا، بل أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا: إذاً نرفضك، فسموا: رافضة، وسميت شيعته: زيدية.

فزيد بن علي هو الذي ينيسب إليه من فرق الشيعة فرقة الزيدية، ومذهبهم قائم على صحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر، واحترامهما، ولكنهم يقولون: إن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وأحق بالخلافة، وزعيم الزيدية اليوم هو الإمام يحيى ملك اليمن.

ونحن نوافق الزيدية في الاعتقاد بفضل زيد وعلمه وجلالة قدره، ولكننا نعتقد أن أبا بكر وعمر قد توليا الخلافة بحق، كما أن الإمام علي بن أبي طالب قد تولاها بعد عثمان بحق.

* مقارنة بين الاخوان:

كان كل من حفيدي الحسين عظيماً في علمه، عظيماً في خلقه، عظيماً في تقواه، ولكن محمداً كان يميل إلى السلم، ويصبر نفسه على السكون في ظروف يرى فيها بعض ما يكره، وقد ذكروا في سيرته: أنه كان يعرض عن الجدل والخصومات، فمعظم فضله في الانقطاع للعلم، والتزود من الأعمال الصالحة، أما زيد، فكان - مع علمه وتقواه - يخاطر بنفسه، ويأخذ

ص: 37

بالصراحة في أقواله، ولا يتباطأ عن مناهضة من يراهم على فساد، وقد رأيتم كيف كان يخاطب هشام بن عبد الملك بالكلمات اللاذعة، وكيف كان يطمح إلى أن يكون له سلطان يبتغيه وسيلة إلى إصلاح حال الأمة، وإعادة ما ضاع على أيدي بعض أمراء بني أمية من العدل.

فنحن لا نلوم الباقر على عدم تعرضه لأمر السياسة، فقد يكون الباقر قد عرف أنه لا يصل بمناهضتها إلى عاقبة راضية، ولا ننكر على زيد مخاطرته في سبيل الإصلاح إذا أخذ بالعزيمة، وإذا قال بعض الناس: ليس المخاطر بمحمود وإن سلم، وجد من يقول له: ليس المخاطر في سبيل الإصلاح بمذموم وإن لم يسلم.

ص: 38