المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌ملاحظات على البحث المقدم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى

‌ملاحظات على البحث المقدَّم عن موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى

(1)

كتب حضرة العضو المحترم الأستاذ فريد بك أبو حديد بحثاً تحت عنوان: "موقف اللغة العامية من اللغة العربية الفصحى"، وألقاه في مجلس المجمع في الدورة الماضية، ثم إن المجمع وزع هذا البحث على حضراتكم لمناقشته في هذه الدورة، ووصلتني نسخة منه، فألقيت على البحث نظرة فاحصة، فلاحظت فيه فقرات تستوقف النظر، ليتعرف الهدف الذي نرمي إليه، وها أنذا أعرض على حضراتكم ملاحظاتي على تلك الفقرات، بعد أن أُورد كل فقرة بنصها، وانظروا ماذا ترون؟

قال حضرة العضو (ص 1): "والذي يتتبع تاريخ العربية الفصحى يستطيع أن يدرك أنها كانت تتغير وتتطور دائماً في ألفاظها وأساليب تعبيرها، حتى بعد أن جاء الإسلام، ونزل القرآن الكريم بلغة قريش، وخلع عليها نوعاً من الثبات جعل تطورها محدوداً".

التطور الذي كان يعرض للغة العربية في ألفاظها وأساليبها قبل أن يجيء الإسلام وينزل القرآن هو التطور الذي يعرض لجميع اللغات عندما

(1) هذه الملاحظات قدمها الإمام إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة بصفته عضواً في المجمع. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الأجزاء الأول والثاني والثالث والرابع من المجلد الحادي والعشرين.

ص: 125

تأخذ في النمو والتدرج في مراقي الكمال، ولم ينقضِ العصر الذي ظهر فيه الإسلام، ونزل فيه القرآن، حتى بلغت اللغة أشدها، وتسنمت ذروة كمالها، فاستقرت على هذا الحال الكامل من جهة قوانين بيانها، وفنون بلاغتها، وفصاحة ألفاظها.

ولا بد للغة الحية بعد هذا التطور الكمالي من تطورآخر تساير به حاجات العصر، ومقتضيات الحضارة في دائرة ما انتهت إليه من كمالها الجوهري، ولم تقف اللغة دون هذا في المائة الأولى لصدر الإسلام، واستطاعت أن تعبر عن كل معنى من معاني العلوم أو المحدثات، وأصبح الفرق بين التطور الذي أخذته اللغة في عهد الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، والطور الذي بلغته في عهد نزول القرآن الكريم واضحاً.

قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وقد كان للاتصال بين اللغة العربية والقرآن الكريم أثران عظيمان".

قال حضرته هذه العبارة، ثم ذكر الأثرين، وسنسوق إلى حضراتكم نص حديثه عن هذين الأثرين، ثم ملاحظاتنا عن ذلك الحديث، حتى يتبين أن صلة الاتصال بين اللغة العربية الفصحى والقرآن الكريم قد أورثت اللغة أساليب بديعة، وارتقت بفنون تبلغها إلى ذروة الكمال، ولم ينشأ عن هذا الاتصال أثر يصدق عليه أنه عقيم.

قال حضرة العضو المحترم مبيناً الأثر الأول الذي قال: إنه نشأ عن الاتصال بين الفصحى والقرآن الكريم: "الأول: أن اللغة العربية احتفظت بصورة كادت تكون مستقرة مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً، وصار التراث الثقافي المتخلف من تلك القرون كلها ملكاً سهل التناول لكل من يقرأ الفصحى

ص: 126

إلى يومنا هذا".

إن أراد حضرته بالصورة التي احتفظت بها اللغة: الصورةَ التي تتقوم من مراعاة قوانين تراكيبها، فهذا يجب أن يكون، ومن حاول تغيير تلك القوانين، يسقط من حساب العاملين لسلامة اللغة العربية، وإنما يريد إحداث لغة إقليمية، وإن أراد بالصورة التي احتفظت بها: هي أنها حدثت معان علمية أو مدنية، ولم توضع لها أسماء خاصة، فهذا لم يكن ناشئاً عن قصور في اللغة، ولا عن اتصالها بالقرآن الكريم، وإنما هو الإهمال ممن شأنهم القيام على تسييرها مع العلم والمدنية.

قال حضرة العضو المحترم في (ص 1): مبيناً الأثر الثاني الذي قال: إنه ترتب على اتصال الفصحى بالقرآن الكريم: "والأمر الثاني: أن اللغة العربية منذ استقرت، فقدت كثيراً من المرونة الضرورية لتطور اللغات، ولا سيما فيما يتصل بالحياة اليومية والمعاملات، فنشأ من ذلك شيء من الانفصال بين لغة الثقافة والأدب والفكر، وبين لغة الأسواق والمعاملات اليومية وما إليها".

لم تفقد اللغة شيئاً من المرونة الضرورية لتطور الحياة؛ فقد كانت وسائل التطور ولا زالت متوفرة فيها، مثل: المجاز والاشتقاق والتعريب، وإذا وجدت معان علمية أو مدنية، ولم تأخذ في هذه اللغة أسماء خاصة، فذلك عائد إلى تقصير الموكول إليهم العمل على مسايرتها لمقتضيات الحياة.

قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وما زال هذا الانفصال يزداد مع تغيير الأحوال، وتبدل ظروف الحياة؛ لأن اللغة الفصحى قنعت بأن تكون أداة للتعبير الفكري والعلمي، وكانت القداسة التي خلعها عليها القرآن الكريم من أقوى أسباب اتصالها بالدراسة العقلية، وقلة قبولها للتطور الذي يبعدها

ص: 127

عن صورتها الأولى - نقصد: الصورة التي نزل القرآن الكريم بها -".

علل حضرته ازدياد الانفصال بين العامية والعربية بأن الفصحى قنعت بأن تكون أداة التعبير الفكري والعلمي، والواقع أن الفصحى بقيت تستعمل في المراسلات للتعبير عن كل شأن من شؤون الحياة، ولم تفقد مكانتها في المخاطبات العادية من جهة أنها غير قابلة لأن تتطور بتغير الأحوال وتبدل ظروف الحياة، وإنما السبب في ذلك: قلة العناية بتعلمها، وتمرين النشء على التخاطب بها، ومن هنا نرى الفصحى تطارد العامية في ألسنة المتعلمين، وتقلل من رطانتها على ألسنة أنصاف المتعلمين؛ حيث أصبحت أحاديث الإذاعة تطرق كل سمع، والصحف السيارة تقع في كل يد.

ويقول حضرته: وكانت القداسة التي خلعها عليها القرآن الكريم من أقوى أسباب قلة قبولها للتطور الذي يبعدها عن صورتها الأولى.

والواقع أن الأساليب التي تجري في اللغة نوعان:

أولهما: أساليب ترجع إلى ما يبحث عنه في علم النحو، وهي ما يعد الخروج عنه خروجاً من أوضاع اللغة؛ كان يجري الكلام على غير إعراب، أو على غير ما يجب مراعاته في نظم الكلام تقديماً وتاخيراً، أو ما يجب أن يقع عليه الكلام من أحوال الاتصال والانفصال، والذكر والحذف. ووقوفُ اللغة عند حد هذه الأساليب التي يقرها علم النحو، لم يكن سببه قداسة القرآن، بل لأنها محكمة الوضع، كافية للتعبير عن الأفكار السامية.

ثانيهما: الأساليب التي تجري في دائرة ما تجيزه القوانين النحوية، وهي من الكثرة والتفاضل بحيث يتسابق إليها الكتاب والخطباء إلى أقصى ما يرومون من مظاهر الفصاحة والبراعة.

ص: 128

قال حضرة العضو المحترم (ص 1): "وقد كان من أول ما هجم على العربية الفصحى من آثار تطور الحياة: شيوعُ اللحن فيها، ولهذا الأمر دلالة كبرى، فإنه ينم عما شعرت به الشعوب المتكلمة بالعربية من ثقل وطأة حركات الإعراب، وصعوبتها على الناس إذا احتاجوا إلى التعبير في حياتهم اليومية".

لا يصح أن ينسب دخول اللحن في العربية إلى تطور الحياة الذي تجب مسايرته، وإنما نشأ من دخول أمم غير عربية بين العروبة، واستيلائهم على كثير من مراكز الدولة كما وقع في أواخر الدولة العباسية، بل كان هذا اللحن مظهراً من مظاهر الانحطاط الذي أصيبت به الأمة من ناحية الثقافة والاجتماع.

ويشهد بهذا: أن الأمة اليوم قد أخذت تسترد رقيها الثقافي والاجتماعي، فأخذت لغة العامة تقترب من اللغة الفصحى، والأمل وطيد في أن لا يمر زمن طويل حتى تتحول إليها.

قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "وقد كان أصحاب اللغة العربية في موقف يضطرهم للاختيار بين خطتين:

إما أن يختاروا تطوير لغتهم، والبعد بها عن صورتها الأولى، وإسقاط الإعراب جملة واحدة، وفي هذه الحالة كان الذي ينتج هو أن تستمر اللغة العربية لغة التعامل، وتدفع في تطورها إلى غايته، وكان هذا لا بد يؤدي بها آخر الأمر إلى أن تصير لغة جديدة إلى مدى كبير.

وإما أن يختاروا تجميد لغتهم، والمحافظة على صورتها، والإقبال على درسها وضبطها، والاحتفاظ بكل خصائصها، وبذلك يحتفظون بوحدتها، واتصال ثقافتها على مر العصور".

ص: 129

المخلصون للغة العربية، المتنبهون للنتائج التي تنشأ من تطورها، يرون أنا في حاجة إلى تطويرها، على معنى: أن نضع مفردات للمعاني المحدثة من علميات ومدنيات، أما أن نمس أوضاعها الجوهرية؛ بأن يخرج بها عن وجوه استعمالاتها المألوفة بين البلغاء، والتي انتهى إليها تطورها الكمالي، فذلك ما لا ينبغي أن يخطر على قلب عارف بمزايا هذه اللغة الفصحى، فضلاً عن أن يصدر مجمع فؤاد الأول به قراراً، على أمل أن يلقى من ذوي الأفكار المثقفة قبولاً.

قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "ولقد اختاروا الخطة الثانية في حماسة عجيبة يدل عليها كل ما تخلف من أخبار الرواة والعلماء والخلفاء والأدباء، وكانت حركة ضبط اللغة العربية ودراستها، والحرص على بقاء صورتها، من أعجب الحركات وأقواها في تاريخ اللغات كافة".

إنما اختار أصحاب اللغة العربية المحافظة على صورتها الكمالية، ولسلامة هذه الصورة وضعوا علوم النحو والصرف والبيان، ولا يعد هذا تجميداً للغة، وإذا وقع في اللغة جمود، فلم تساير العلم والمدنية، فإنما جاءها من قلة التوجه إلى وضع ألفاظ لتدل على المعاني المتجددة، وقد نبهنا على أن هذا واقع تبعاً لتباطؤ أهلها في مسايرة العلم والمدنية.

قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "ومنذ اختار أصحاب اللغة العربية هذه الخطة، كان لا مفر من اتساع الفرق بين لغة أدبية فصحى ميدانها الفكر للخاصة، ولغة عامية ميدانها الحياة كلها للكافة".

إنما يتسع الفرق بين اللغة الفصحى واللغة العامية في دور انحطاط الأمة، وقلة حظها من التعليم، وحضرة العضو المحترم يتفاءل للعامية بأنها سائرة

ص: 130

في ازدياد البعد بينها وبين العربية الفصحى، ونحن نتفاءل للعامية بأنها سائرة في ازدياد التقرب من اللغة الفصحى، ومن نظر إلى اللغة العامية في العهد السالف، وقاسها بهذا العهد الحاضر، وجد اللغة العامية أخذت تتقرب من العربية على قدر انتشار التعليم، وتبسيط أساليبه، ومما ساعد عل هذا التقريب الصحف السيارة والإذاعة؛ فقد أصبحت العامة تسمع من مفردات اللغة وأساليبها ما لم يكونوا يسمعون من قبل.

قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "بدأ هذا الانفصال منذ أول التاريخ الإسلامي، وما زال يزداد حتى بلغ إلى مداه الذي نراه اليوم بين لغة المثقفين القارئين، وبين لغة التعامل الحر".

قد رأيناك أن هذا الانفصال لم يكن ناشئاً عن التطور الذي تقتضيه طبيعة الحياة، وإنما نشأ عن قلة التعليم، وإطلاق الألسنة تنطق بالكلم على جهالة كيف تشاء، ولو كان ذلك الانفصال تطوراً طبيعياً، لما رأينا اللغة العامية الآن تنهض من كبوتها متدرجة في التقرب من اللغة الفصحى.

قال حضرة العضو المحترم (ص 2): "وذلك يشبه ما حدث في بلاد أوربا؛ إذ تطورت اللغة اللاتينية في الوطن اللاتيني، وما يليه من البلاد التي كانت لغة الثقافة فيها هي اللاتينية، ونشأت من ذلك اللغة الإيطالية والفرنسية والإسبانية، وتباعدت الصلة بين اللاتينية وبين سلالاتها تباعداً مختلفاً، يقل في بعضها، ويزيد في بعضها؛ تبعاً لما داخلها من آثار الأقوام الذين مزجوا لغاتهم الأجنبية باللغة اللاتينية الأصلية، وقد حدث مثل هذا التطور إلى حد كبير في اللغة اليونانية؛ فإن يونانية اليوم ليست هي اليونانية القديمة، وإن كان المصدر لا يزال واحداً".

ص: 131

هناك فرق بين اللغة اللاتينية وسلالتها، وبين اللغة العربية ولهجاتها؛ فإن في اللغة العربية ما يمنع من تطورها تطور اللغة اللاتينية، وهو كمال اللغة العربية الفصحى الذي لا تبلغه اليونانية الأصلية، ولا اللاتينية، ثم وحدة أصحاب اللغة العربية في الجنسية والعقلية والخلقية والدينية، قال خليل مطران بك في مقدمة ترجمته لرواية "عطيل" تأليف شكسبير:

"تا الله! لو ملكت العامية، لقتلتها بغير أسف، ولم أكن بقتلي إياها إلا منتقماً لمجد فوق كل مجد، نزلت من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين، فهو فوقهما متداع، وبهما مشوه، منتقماً لأمة كسرت العامية وحدتها، وكانت عليه أكبر معوان للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق، منتقماً للفصاحة نفسها، وأي فصاحة في خشارة لا تصيب فيها تبر الأصل إلا وقد تلوث بذريرات لا تحصى من أوضار الرطانات بأنواعها".

قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "ولكن مهما يكن الفرق بين موقف العامية من العربية الفصحى، وبين موقف اللغات الأوريية الحديثة من اللغات القديمة، فإنه من الواضح أن الاتجاه واحد في نوعه في الحالين، وإذا استمر في سبيله، كان من المحتوم أن تصير اللغة العربية الفصحى لغة الكتاب، على حين يزيد تطور العامة مع الحياة، وتزداد تبعاً لذلك شقة الخلاف بينها وبين الفصحى التي تصبح بعد حين في حكم اللغات القديمة".

غزارة مادة اللغة العربية، وحسن بيانها، وانتشار تعليم القرآن الكريم، تقف بألسنة الناطقين بها دون أن تغرق في العامية حتى تصبح الفصحى في حكم اللغات القديمة، وليس من المحتمل أن يزداد تطور العامية مع الحياة،

ص: 132

وتزداد شقة الخلاف بينها وبين الفصحى، إلا أن يبدو لأولياء الأمور أن يلغوا تعليم الفصحى في الأزهر، ودار العلوم، وكلية الآداب بالجامعة، وغيرها من المدارس، ويكون عمل هذا المجمع عقيماً، فلا يرمي إلى الغاية التي أنشئ من أجلها، وهي المحافظة على سلامة اللغة الفصحى.

قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "لو حدث مثل هذا التباعد، لما كان للأمم العربية مفر -ولو بعد حين- من أن تقف مرة أخرى في موقف الاختيار بين أحد أمرين، كل منهما ينطوي على أضرار كبيرة".

ثم قال مبيناً الأمر الأول من الأمرين المنطويين على أضرار كبيرة:

"الأول: أن نختار الاتصال بالتراث القديم الماثل في اللغة الفصحى، ونضحي في سبيل هذا الاتصال بأعز ما عند أمة حية تتطلع إلى حياة مليئة قوية، وهو اتصال اللغة بالفكر اتصال الشعب الذي يتكلم بأصحاب الفكر الذين يكتبون، وعند ذلك يكون لا مناص لنا من أن نقنع بحركة فكرية منعزلة عن كتلة الأمة، وأن نرضى لأنفسنا بديمقراطية سطحية لا تتعدى المظاهر الكاذبة، على حين تبقى جماهير الأمة في حالة أمية، وعقم عقلي ونفسي.

"والأمر الثاني: أن نختار الحياة الحاضرة والمستقبلة مضحين بكنوز الثقافة القديمة، وما فيها من أصول حضارتنا ومثلنا العليا، ونقطع بيننا وبين ماضينا الكريم السامي، ويكون علينا في هذه الحالة أن نعود إلى حيث بدأت الأمم أول خطواتها نحو الحضارة إلى أن نستطيع - بعد أحقاب طويلة - تحصيل ثروة فكرية جديدة، تصلح لأن تكون غذاء لعقول أمة حديثة".

هذا كلام ناشئ عن التشاؤم لمستقبل اللغة الفصحى، والواقع أن العامية قد أخذت تزداد قرباً من اللغة الفصحى؛ للأسباب التي ذكرناها آنفاً، فيمكننا

ص: 133

- بلا ريب - أن نبقى متصلين بالتراث القديم الماثل في اللغة الفصحى، وأن نسير في الحياة الحاضرة والمستقبلة كما تسير الأمم الراقية شبراً بشبر، وذراعاً بذراع.

أما الإعراض عن الفصحى، والتضحية بكنوز الثقافة القديمة، وابتداء أولى الخطوات إلى الحضارة كما قال حضرته، فنزعة لا تلتقي مع اتجاه المفكرين الناطقين باللغة العربية. ذلك أن هؤلاء المفكرين الصادقين يبتغون لأممهم حضارة فاضلة نقية، ولا فضل لحضارتنا إلا أن تقوم على التراث القديم الماثل في اللغة الفصحى.

قال حضرة العضو المحترم (ص 3): "ونرى أن الخطوة الأولى في تفكيرنا: هي أن نتامل في حال هذه اللغة العامية، وأن نحاول تجديد خصائصها، وما بلغته في تطورها، ثم نسأل أنفسنا بعد ذلك في صراحة عمّا يجدر بنا أن نفعله للمحافظة على حياتنا الفكرية أولاً، ولتجنب ما يمكن تجنبه من الخسارة ثانياً".

تأملنا في حال هذه اللغة العامية، وعرفنا ما بلغته في تطورها، وسألنا أنفسنا في صراحة عما يجدر بنا أن نفعله للمحافظة على حياتنا الفكرية أولاً، ولتجنب كل ما يمكن تجنبه من الخسارة ثانياً، فوصلنا إلى أن سعادة الأمم العربية في المحافظة على العربية الفصحى، وإصلاح العامية ما استطعنا حتى تعود إليها، وقد رأينا أمارات نجاحنا في الإصلاح؛ حيث شعرنا بأن العامية قد أخذت تقترب من العربية الفصحى؛ لوسائل وجدت في هذا العصر، فنبهنا لها من قبل.

قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "لا شك أن الكثرة الكبرى من

ص: 134

الألفاظ العامية إما عربية قرشية صحيحة، وإما محرفة عنها تحريفاً قليلاً، وإما عربية من لهجات قبائل أخوى غير قريش، أو محرفة عنها تحريفاً قليلاً، فمن المعروف أن القبائل العربية التي جاءت إلى مصر في العصور المختلفة كانت من أصول مختلفة، وكان مقامها في العواصم والريف وعلى حدود الصحراء سبباً في وجود لهجات متباينة في الأقاليم المختلفة، ولكن العامية المصرية؛ أي: التي نشأت حول العاصمة مصر هي الأكثر انتشاراً، وقد امتزج فيها أثر كثير من القبائل، وكان رائدها دائماً التسهيل في النطق، والتيسير في التداول".

العربية القرشية الصحيحة، والعربية من لهجات قبائل أخرى غير قريش، قد احتوت عليها المعاجم الواسعة، ودواوين الشعراء. أما المحرفة عن القرشية، أو لهجات القبائل تحريفاً قليلاً أو كثيراً، فيجب تصحيحها، وتخطئة من ينطق بها محرفة، ولا يكفي في عدها صحيحة احتمال أن تكون لهجة قبيلة عربية من القبائل التي جاءت إلى مصر في العصور المختلفة.

ولو فتحنا باب التحريف بعلة التسهيل في النطق، والتيسير في التداول، لأفسدنا على اللغة الفصحى نظامها، وحشرنا فيها من الألفاظ ما يكثر سواد مترادفاتها، ونحن نريد التقليل منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "ويستطيع كل منا أن يخلو إلى نفسه، ويثبت ما يرد على خاطره من الألفاظ المعروفة المتداولة، ومنها يتبين أن الألفاظ العامية ليست سوى صور من ألفاظ عربية ليس من العسير أن تصحح، بل إنه ليس من العسير أن يرد إليها اعتبارها، وترفع عنها الوصمة التي لصقت بها على مر القرون".

ص: 135

إن كانت هذه الألفاظ العامية مخالفة للسماع، فتصحيحها أن ترد إلى الوجه الذي نطق به الفصحاء من قبل، وإن كانت خارجة عن القياس، فتصحيحها أن ترد إلى الوجه الذي يوافق مقاييس اللغة الفصحى، أما ما يرد إليه اعتباره، وهو الكلمات العربية التي تلوكها ألسنة العامة، ويتحاماها البلغاء لابتذالها، فتلك الكلمات لم تزل معدودة في العربي الفصيح، وإذا تحاماها الأديب البارع، مؤثراً عليها ما يراه أجود وأليق بنظم الكلام، فكل له ذوقه واختياره فيما يستعمل من الألفاظ.

قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "ونرى أن بُعد الألفاظ العامية عن العربية مبالغَ فيه، فالفرق لا يزال ضئيلاً بينها وبين الفصحى، ومن اليسير تدارك الأمر إذا نحن عنينا بجمع كل المفردات العامية، وعنينا لإعادة الاعتبار إلى كل ما يمكن رد الاعتبار إليه، وصححنا كل ما يمكن تصحيحه منها بغير إبعاد لها عن صورتها كلما أمكن ذلك".

لا ندري ماذا يريد حضرة العضو المحترم: أنجمع المفردات العامية في لهجات الشعوب العربية الجارية اليوم، أم يريد خصوص اللهجة المصرية وحدها؟ فإن أراد إجراء العمل في جميع اللهجات العربية؛ بأن يعيد للألفاظ العامية اعتبارها، فقد عمل على تكثير المترادفات في اللغة، وساعد على أن تكون لهجات الشعوب مختلفة، مع إمكان توحيدها في دائرة اللغة الفصحى، وإن أراد إجراء اللهجة المصرية خاصة، قلنا: إن الشعوب الأخرى إنما ترضى العود إلى اللغة العربية الفصحى، ولا يستطيع المجمع، ولا ما هو أقوى من المجمع أن يحملها على العود إلى لغة إقليمية، وإن بلغ أهلها في الثقافة ما لم يبلغه غيرهم.

ص: 136

قال حضرة العضو المحترم (ص 4): "على أن اللغة العامية تحتوي على كثير من الألفاظ التي أهملتها الفصحى تعالياً منها، أذكر منها: طرفة، قفة، سلة، دخان، مزراب، فلان يطوح - أي: يتطوح -".

ماذا يريد حضرة العضو الفاضل من الفصحى التي أهملت هذه الألفاظ؟ فإن أراد اللغة المقابلة للعامية، فهذه الألفاظ لم تتعال عنها اللغة الفصحى؛ فإن مزراب، وسلة، والجونة (1)، وقفة، ودخان ثابتة في المعاجم، وإن أراد لغة قريش، فليست الفصحى بمقصورة على هذه اللغة، على أن كلمة دخان واردة في القرآن الكريم.

قال حضرة العضو المحترم (ص 5): "والتحريف في العامية ناشئ في أغلب الأحوال من القصد إلى التخفيف في النطق، إذا لم يكن ناشئاً من تأثير لهجة بعض القبائل العربية".

ما يكون موافقاً للهجة بعض القبائل العربية لا يسمى تحريفاً، بل هو عربي صحيح، قال ابن جني في "الخصائص":"اللغات على اختلافها كلها حجة، والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ". وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": "كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه".

وأما التحريف الذي سماه حضرة العضو المحترم: قصداً إلى التخفيف في النطق. فيجب معالجته، وإعادة اللفظ إلى الحال التي كان عليها يوم بلغت اللغة طورها الكمالي، وإذا فتحنا باب التخفيف في النطق، دخل منه على اللغة ريح عاصف تنسف كثيراً من قوانينها، وأوضاع ألفاظها، وأهل

(1) سليلة: منشأة أدما تكون مع العطارين.

ص: 137

العلم يأنفون في مجاراة العامة فيما يقعون فيه على جهالة، وإنما شأنهم إصلاح خطئهم، والأخذ بهم إلى أن ينطقوا بالكلام، أو يكتبوا على نحو ما ينطق به العلماء من الناس أو يكتبون.

قال حضرة العضو المحترم (ص 9): "ليس أسلوب اللغة العامية هو عين أسلوب الفصحى، وإن كان قريباً منه، فهناك فروق كثيرة نذكر منها البعض على سبيل التمثيل".

وأخذ حضرة العضو المحترم يسوق أمثلة لهذه الفروق الكثيرة، فأورد أربعة أمثلة حيث قال:"تقول في العربية عادة: جاء محمد، وكتب أخي لي كتاباً، وهكذا. وذلك بتقديم الفعل على الفاعل، فإذا قدمنا الفاعل، وابتدأنا به، كان لنا في ذلك قصد، وأما في العامية، فالمعتاد أن تقول: محمد جه، وأخويا بعث لي جواباً، وهكذا".

مقتضى ما قاله حضرة العضو: أن للعربية الفصحى في الإخبار أسلوبين: أسلوب تقديم الفاعل على الفعل، وأسلوب تقديم الفعل على الفاعل، وأن لكل منهما مقاماً كما هو معروف في علم البلاغة، وأن العامية جرت على أحد هذين الأسلوبين، وهو أسلوب تقديم الفاعل على الفعل.

إن جرت العامية على تقديم الفاعل، فقد جرت على أسلوب عربي فصيح، ولكن تنقصه البلاغة متى استعمل في مقام يستدعي تقديم الفعل على الفاعل، ونحن لا نقصد إلى تكليف العامة برعاية مقتضيات الأحوال في كل ما يتكلمون به، بل يكفيهم أن لا يخرجوا عن الأسلوب الذي يعد في نظر النحوي عربياً صحيحاً.

قال حضرة العضو المحترم (ص 9): "تكثر في العامية العبارات الآتية التي

ص: 138

تدل على حركة النفس، والإشارات واللفتات، وهذا لشدة امتزاجها بالحياة اليومية"، ثم قال: "وسأورد عبارة عامية في وصف حالة لبيان ما فيها من اللفتات والإشارات التي أقصدها"، وأورد صورة واقعة باللغة العامية، ثم قال: "ومثل هذا الأسلوب لا يتفق والأسلوب العربي المعتاد، فمن سايره من الكتاب، فإن قصده تقريب أسلوبه من العامية".

قرأت القصة التي صورها حضرته باللهجة العامية، ولم تقع عيني على عبارة منها تقف اللغة الفصحى أمامها عاجزة عن أن تدل على حركة النفس والإشارات واللفتات التي دلت عليها تلك العبارات العامية، يعرف هذا من درس الفصحى بألمعية مهذبة، وذوق سليم.

قال حضرة العضو المحترم (ص 10): "ومهما يكن من الأمر، فإنما نوجه النظر إلى أن اللغة العامية قد ابتكرت لنفسها نظاماً كاملا في تعبيرها، وأصبح الخروج عنه خروجاً عن طريقة معترف بها، ومن ثم يمكن أن نقول: إن العامية قد كادت تصير لغة قائمة بنفسها في قواعدها وفي أسلوبها".

إن كان الخروج عن نظام العامية خروجاً إلى اللغة الفصحى، كان رجوعاً عن طريقة مكروهة إلى الطريقة المعترف بها.

وإن كان الخروج عنها إلى غير نظام العربية الفصحى، فهو خروج إلى طريقة ذات عوج، إنما أنشئ هذا المجمع لإصلاحها وتسويتها غير مبال باعتراف العامة من الناس بها.

ثم إن حضرة العضو المحترم يقول عن العامية: "وقد ابتكرت لنفسها نظاماً كاملاً في تعبيرها". ثم يقول: "وقد كادت تصير لغة قائمة بنفسها في قواعدها وفي أسلوبها".

ص: 139

إن صح أن يكون للعامية نظام كامل كما قال حضرته أولاً، أو أنها كادت تصير لغة قائمة بنفسها كما قال حضرته ثانياً، فما على المجمع إلا أن ينظر في تلك النظم أو القواعد، فيعيدها إلى نظم اللغة الفصحى وقواعدها.

قال حضرة العضو المحترم (ص 10): "عندما اضطرت الحياة الشعوب المتكلمة بالعربية إلى تطوير لغتها، أشعرت هذه الشعوب في الوقت عينه أنها مهددة بالحرمان الأدبي منذ بعدت الشقة بينها وبين اللغة الأدبية، والشعوب لا يمكن أن تحيا بغير تعبير عن خلجات نفسها في الأغاني والأناشيد والأمثال والعبر، فوجد الموهوبون من عامة الشعب وبعض الأدباء المتصلين بالشعب أن اللغة التي يتخاطبون بها، ويتعاملون ويفكرون في حاجة إلى أن تؤدي ما يحتاج إليه الناس من التعبير، وأخذوا يحاولون مرة بعد مرة أن يجعلوها أداة أدبية، فتحللوا من الأساليب الأدبية المعروفة في اللغة الفصحى؛ لأنها لا تلائم تلك اللغة الساذجة التي تولدت منها، فاخترعوا الموشحات، والمواليا

إلخ ".

يصرح حضرة العضو المحترم هنا بأن الشقة بين العامية والعربية بعيدة، وقال في موضع آخر: والفرق بينهما لا يزال ضئيلاً.

قال حضرة العضو المحترم (ص 11): "فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية، لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على صلاحها للتعبير الأدبي، وصار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى، حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها، بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه، كان أجدر أن يسترق القلوب؛ لأن تلك الأساليب أقرب إلى النفس والإلهام من الفصحى؛ لشدة

ص: 140

اتصالها بحياة الكافة".

لم تبرهن العامية حتى اليوم على صلاحها للتعبير الأدبي، وما هي إلا كالعامية التي توجد في كثير من اللغات الحية بجانب لغة الأدباء والكتاب، وهل وجد في أصحاب تلك اللغات من يدعو إلى ترك لغة الأدب والكتابة، واستبدال عاميتهم بها؟ قال الأستاذ جبر ضومط في مقال له نشرته مجلة "السيدات والرجال" (م 6 ص 449 و 450):

"خذ الإنكليزية - مثلاً -، فترى فيها لغتين: مكتتبة وهي الفصحى، وعامية وهي الدارجة، والفصاحة في المكتتبة بالغة أعلى درجاتها في لندن، والدارجة بالغة أحط درجاتها أيضاً في بعض أقسام من تلك المدينة؛ حيث الفقر والجهل على أشدهما، ومثل الإنكليزية الفرنسية، ومثل لندن باريس، فإن اللغة المكتتبة فيها وصلت في كتابات بعضهم إلى ما وصلت إليه تماثيل اليونان الجميلة، ولكن اللغة الدارجة في بعض شوارع باريس لا يزيد نصيبها عما هي فيما يقابلها من شوارع لندن، بل في برلين مدينة العلم والعلماء، ومدينة الأدب والأدباء تهبط اللغة الدائرة على الألسنة في أفواه الأقوام من الغوغاء والخشارة إلى ما لا يستطيع أن يتصور مثله بين أقوام العامة عندنا".

قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "غير أننا لا ينبغي لنا أن نتجاهل الخطر الماثل في لباقة اللغة العامية وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي، فهو إن كان اليوم من ذلك محدوداً، فقد يكون غداً أقوى. وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى، إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت أجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي

ص: 141

الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح".

ليس من المعقول أن يجيء يوم تكون فيه اللغة العامية أقدر على الأداء السامي من الفصحى؛ فإن الفصحى بالغة نهاية الكمال في الأداء الأدبي السامي، يعرف هذا من أعارها نظرة منصف بعيد، ومن البعيد جداً -فيما نرى- أن يفتن شبابنا بالعامية، وقد اتجهوا اليوم إلى الاعتزاز بعربيتهم، وبذل كل مجهود في الاحتفاظ بتراثها وجمع شملها.

ولا أدري كيف غفل أو تغافل حضرته عن هذه الحركة العربية التي تشرف عليها جامعة الدول العربية، وينهض لتأييدها شبابنا في مصر وغير مصر، ومن أثر هذه الحركة: العمل لتوحيد الثقافة، ويجب أن يكون في مقدمتها: اتحاد اللغة. وحضرة العضو المحترم إن أراد من العناية باللغة العامية: العناية باللغة العامية المصرية وحدها، قلنا له: ما رأيك في اللغة العامية في تونس والشام والعراق والحجاز؛ فإنها تختلف اختلافا ظاهراً؟ فإن قال: يعني كل شعب بلغته العامية، قلنا له: كانت مذكرة حضرتك هذه دعوة إلى تشتيت شمل هذه الشعوب، وعقبة في سبيل توحيد الثقافة التي تعقد له الجامعة اليوم المؤتمرات، وتؤلف له اللجان. وإن قال: تفرض اللغة المصرية على تلك الشعوب، قلنا له: إن تلك الشعوب لا يسهل عليها أن تترك لهجتها، وتنقلب إلى اللهجة المصرية، وكلاهما من اللغات المعتلة المحتاجة إلى إصلاح وتصحيح. وإذا سهل على الشعوب أن تتحد في لغة، فهذه اللغة هي العربية الفصحى، فقد اتفق على فصاحتها وكمالها المسلمون من تلك الشعوب، وغير المسلمين.

قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "وليس يجدينا أن تقاوم عوامل

ص: 142

الحياة بالعنف والقسوة؛ لأن الطبيعة تأبى كل عنف، وهي أقوى من كل قوة، ولسنا نملك أن نقاومها إلا بأن نطيعها، ونعرف أسرارها، ثم نتجه بها ومعها إلى حيث نحتال أن نصل بها".

قد عرفت وجه الحالة الملحة إلى أن تكون الشعوب العربية مرتبطة بلغة واحدة، واللغة الفصحى هي المحبوبة لهم جميعاً، وهي التي يرضون بالتوجيه إليها أن تكون جامعة لشتاتهم، ثم هي معروفة بينهم في الجملة، فبذل شيء من العناية يجعل جريانها على الألسن أمراً ميسوراً.

وحضرة العضو نفسه يقول في بعض المواضع من مذكرته: فالفرق لا يزال ضئيلاً بين العامية وبين الفصحى.

قال حضرة العضو المحترم (ص 12): "والذي يجعلنا نحرص على اللغة الفصحى واضح لا يحتاج إلى بيان، فلو لم تكن العربية لغة القرآن الكريم، ولو لم تكن كنوزنا القديمة هي أكبر ما نملك من ثقافة إنسانية، لكان من الهين علينا أن نقبل على هذه العامية بكل جهودنا، فنسمو بآدابها، ونودعها ثمار كل ما في شعوبنا من عبقرية، فتصبح هي لغتنا، ولا ضرر علينا أن تكون لنا لغة ليست هي الفصحى".

قد فات حضرة العضو وجه مهم من الوجوه التي تجعل انصرافنا عن اللغة الفصحى غير هين علينا، وهو حسن بيانها، وسعة وجوه تصرفاتها، وسمو منزلتها في البلاغة، تلك المزية التي تدعونا إلى أن نقبل بكل جهودنا على أن نحتفظ بها، ونودعها ثمار كل ما في شعوبنا من عبقرية، ومن الضرر الفادح في اتخاذنا لغة غير الفصحى سد أبواب التفاهم بين شعوب عربية، من الخير لها جميعاً أن تكون لها لغة واحدة، بها يتعارفون ويتخاطبون،

ص: 143

وليست هناك لغة يتقبلون أن تكون نظام وحدتهم، ووسيلة تعارفهم غير العربية الفصحى.

وهناك رجال يعرفون غير العربية من اللغات الحية، ولا يهمهم الاحتفاظ باللغة من جهة أنها لغة القرآن، قد شهدوا بأن العربية أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبيعية، قال المطران يوسف داود الموصلي:

"من خواص اللغة العربية وفضائلها: أنها أقرب لغات سائر الدنيا إلى قواعد المنطق، بحيث إن عباراتها سلسة طبيعية، يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها من دون تصنع ولا تكلف باتباع ما يدل عليه القانون الطبيعي، وهذه الخاصية إن كانت اللغات السامية تشترك فيها مع العربية في وجه من الوجوه، فقلما نجدها في اللغات المسماة: "الهندية الجرمانية"، ولا سيما الإفرنجية منها".

قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن أسلوبها قد استقر على صورة اعتادها الناس، وفي ذلك الأسلوب خلاف كبير للأسلوب العربي الفصيح".

يقول حضرة العضو المحترم هنا: "في ذلك خلاف كبير للأسلوب العربي الفصيح"، وقال فيما سبق:"فالفرق لا يزال ضئيلاً بينها وبين العربية الفصحى".

قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن اللغة العامية لا تزال تتطور عصراً بعد عصر، وإن هذا التطور ناشئ من حياة الناس، فهي وليدة الحياة نفسها، وفيها من المرونة كل ما للكائن الحي.

كانت العامية تتطور عصراً بعد عصر، أما الآن، فتطورها هو أنها أخذت تتقرب من الفصحى، وهذا دليل على أن تطورها في الماضي ناشئ من قلة

ص: 144

المحافظة على سلامة اللغة الفصحى، والسير بها مع العلم والمدنية جنباً لجنب، فالعامية وليدة قلة العناية بنشر الفصحى التي تملك من وسائل النمو والترقي ما تملكه كل لغة حية.

قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إنها أداة صالحة للتعبير الأدبي الساذج، فإذا أرادت التعبير عن المعاني الدقيقة السامية، كان لا مفر لها من الاقتراب من الفصحى".

اللغة العامية اليوم في طور التقرب من اللغة الفصحى، وللصحف السيارة وما يلقى في الإذاعة فضل في هذا التقريب، وقد أرادت الحكومة المصرية أن تسرع بهذا التقريب، فأنشأت هذا المجمع؛ للعود بالعامية إلى العربية؛ بوضع أسماء عربية، أو على مقاييس العربية الفصحى، وبنشر نصوص عربية فصيحة، ليعرف بها الناس كيف كان بلغاء العرب يتكلمون، فينحوا نحوهم، وينسجوا على منوالهم.

قال حضرة العضو المحترم (ص 17): "إن العامية ليست مجرد مسخ أو تشويه للعربية، بل قد أصبحت لغة قائمة بذاتها، ولها قواعدها وأصولها، وإذا شذ عنها شاذ، عد ذلك خروجاً عن طريقة مقررة".

تخلو اللغات - راقية كانت أم ساقطة - من قواعد يجري عليها المتكلمون بها، ولكن في العامية مفردات عربية فصيحة، وأساليب لا تخالف أساليب العربية الفصحى، وما عدا ذلك، فهو مسخ وتشويه للعربية، وإذا دعا مرسوم المجمع إلى دراسة لهجات الشعوب العربية، فليس معنى هذا أن ندرسها لتعد لغة مستقلة، ويعنى بتعليمها لأبنائنا، وإنما القصد من دراسة المجمع لها: أن يعلم وجوه الانحراف الذي دخل فيها حتى تصحح لتعود إلى العربية

ص: 145

الفصحى. ويلاحظ هنا: أن حضرة العضو المحترم قال هنا: "قد أصبحت لغة قائمة بذاتها، ولها قواعدها وأصولها".

ولو أراد من دراستها أن تعلم، لكان المجمع بين خطتين: إما أن يقصد إهمال العربية الفصحى، والاستغناء بالعامية عنها، ولا أظن أحداً من حضرات الأعضاء يسبق إلى ذهنه أن المجمع يستطيع أن يفعل هذا، أو إذا فعله يجد من الأمة العربية إغضاء عنه، وإما أن يفرض على الناس تعلم لغتين، لكل منهما نظامها وقواعدها، وهما: العامية والعربية.

قال حضرة العضو المحترم (ص 18): "ألا يمكن أن نقبل في الفصحى غير ما يصح في لغة قريش؟ ".

نقبل في الفصحى غير ما يصح في لغة قريش، فقد نقلنا لحضراتكم أن ابن جني قال:"اللغات على اختلافها كلها حجة".

وكذلك قال أبو حيان: "ما كان لغة لقبيلة، صح القياس عليه".

قال حضرة العضو المحترم (ص 18): "هل نجعل الأصل هو منع ما لم يستعمل في الفصحى من قبل، أم نجعل الأصل إجازة كل ما يمكن إجازته، ما دام قائماً في لغة الحياة؟ ".

المحافظة على سلامة اللغة العربية تقتضي أن يكون الأصل هو منع ما لم يستعمل في الفصحى من قبل، ولم يمكن تخريجه على وجه القياس في الفصحى، فإن أمكن تخريجه على وجه من وجوه القياس، أصبح عربياً فصيحاً، وإن لم يستعمل الفصحى من قبل، وليس من حق المجمع أن يجيز كلمة عامية تخالف ما سمع في اللغة الفصحى، ولم يمكن تخريجها على طريق من طرق القياس؛ ككلمة: عمولة، ونحو قولهم:"بالتبر لم بعتكم".

ص: 146

قال حضرة العضو المحترم (ص 19): "ولو استطعنا أن تتجرد من قيود الأساليب القديمة، لسهل علينا تطوير الفصحى بحيث تقترب من العامية خطوة جريئة في الطريق السوي، بغير أن يعود ذلك بضرر على الفصحى، بل يكسبها قوة وشباباً".

للغة الفصحى أساليب محكمة، وبعد أن يحافظ الناس على قوانين النحو، يجدون في دائرة هذه القوانين صوراً من التراكيب يتفاضل فيها البلغاء، فإن أراد حضرة العضو المحترم من الأساليب القديمة: الأساليب التي يبحث عنها النحاة من حيث الصحة والفساد، كان التجرد من قيودها هدماً لكيان اللغة الفصحى، وإن أراد من الأساليب القديمة: صور التراكيب التي يتفاوت فيها البلغاء بعد الاحتفاظ بالقوانين النحوية، فهذه يسوغ التجرد من قيودها إن كان في التجرد منها تطوير للغة؛ لأنه لا يعود على الفصحى بضرر، وربما أكسبها قوة وشباباً. وإذا قلت: إنَّ سلامة اللغة الفصحى في الوقوف عند قوانين نحوها، أريد: القوانين التي اتفق عليها النحاة، أو قررها جمهورهم، أو انفرد بها أحد علماء العربية الذين لا يقطعون رأياً إلا بعد نظر واجتهاد.

وقد أصدر المجمع قبل هذا قرارات قصد بها التوسع في أساليب اللغة، وتيسير وضع بعض المصطلحات، اعتمد فيها على آراء انفرد بها بعض العلماء عن الجمهور، ولا ننكر أن يقوم اليوم أحد الدارسين للعلوم العربية، ويتخذ في بعض المسائل العربية مذهباً يخالف به رأي الجمهور، على شرط أن يذكر أدلة علمية على ما ذهب إليه. والذي لا نرتاح إليه أن يتعرض بعض من لم يدر أصول اللغة العربية إلى إحدى المسائل العربية، ويرتجل فيها رأياً لم يسبقه إليه أحد، معتمدً على ذوقه الخاص، دون أن يسنده إلى شاهد يعتد به، أو قياس.

ص: 147