المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من وثق من علماء اللغة ومن طعن فيه - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌من وثق من علماء اللغة ومن طعن فيه

‌من وُثِّق من علماء اللغة ومن طُعِن فيه

(1)

لما نزل الكتاب المجيد، وبيَّن الحديث النبوي أحكامه وحكمه ودلائله - وكلاهما ورد باللغة العربية-، أقبل الناس على النظر في العربية مفرداتها وإعرابها وأساليبها؛ لتحقيق تفسير القرآن، وشرح الحديث الذي هو بيان له.

ومقالنا هذا يبحث في رواية المفردات الصحيحة والمعتلَّة، ورواية الأساليب الصحيحة والفاسدة، وهو موضوع علم النحو، ولا يبحث عن رواية الأساليب التي يرتفع بها شأن الكلام، وهو موضوع علم البلاغة.

ومن العلماء من وُثِّق في رواية مفردات اللغة؛ كمحمد بن أحمد الأزهري المتوفى سنة 370 هـ، ألف كتابه المشهور "تهذيب اللغة"، وكان متفَقًا على ثقته وورعه، كما قال ابن خلكان: إن بعض الأفاضل ذكر لي أنه رأى بخطه: "إني امتُحنت بالأسر، سنةَ أن عارضت القرامطةُ الحاج في الهبير (2)، والقوم الذين وقعت في سهمهم عرب نشؤوا بالبادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع

إلخ"، وهذا الذي نقله ابن خلكان عن بعض الأفاضل هو ما ذكره الأزهري في مطلع كتابه "التهذيب".

(1) مجلة "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة- الجزء الثاني عشر لعام 1960.

(2)

الهبير: رمل في طريق مكة كانت عنده وقعة أبي سعد القرمطي سنة 312 هـ. "تاج العروس".

ص: 18

وممن ألف في اللغة: محمود الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ؛ فقد ألف كتابه المسمى "أساس البلاغة"، غير أنه يمتاز عن بقية المعجمات ببيان ما هو مجاز أو استعارة؛ كقوله:"ذهب من داره إلى المسجد ذهابًا ومذهباً"، ثم قالوا: ومن المجاز والكناية: ذهب فلان مذهباً حسناً، وذهب عليَّ كذا: نسيته.

ونرى "القاموس" يخلط في معاني الكلمة بين الحقيقة والمجاز؛ كما قال في مادة "أبل": "الإبل: حيوان معروف"، وأردف ذلك مباشرة:"أو السحاب الذي يحمل ماء المطر"، وهو مجاز، ثم قال، ويقال: "إبلان للقطيعين من الإبل

إلخ".

ومنهم من ألف في مفردات خاصة بأجناس؛ كما ألف معمر بن المثنى: "غريب القرآن"، و"غريب الحديث"، وكما ألف ابن الأثير:"النهاية في غريب الحديث"، وكما ألف الفيروز أبادي:"الروض المسلوف فيمن له اسمان إلى ألوف".

وممن ألف في النحو: سيبويه، والخليل من البصريين، والكسائي، وثعلب من الكوفيين. فسيبويه له:"الكتاب" المعروف، والخليل بن أحمد له:"كتاب العين"، وثعلب له كتاب:"المصون"، وكتاب "اختلاف النحاة". ومن هنا صار النحو قسمين: نحو البصريين، ونحو الكوفيين. وظهر تأليفان: تأليف في نحو البصريين، وتأليف في نحو الكوفيين، وتأليف في اختلاف البصريين والكوفيين. ويقول أصحاب الطبقات: فلان يعرف نحو البصريين والكوفيين.

وممن وثق من علماء اللغة: الخليل، وتلاميذه: سيبويه، ومؤرج

ص: 19

السدوسي، والنضر بن شميل، وكذلك ثعلب، والكسائي، والقاسم بن سلام، وأبو حنيفة الدينوري.

والموثقون من علماء العربية كثير، والمطعون فيهم قليل، ويعتمد في التوثيق وعدم التوثيق على من عاصرهم من أهل الصدق، ولم يكن بينهما منافرة. فلا يعتمد على قلة الثقة بابن دريد على ما قاله فيه نفطويه؛ لأن بينهما منافرة فقد قال فيه:

ابن دريد بقرة

وفيه عِيٌّ وشَرَه

ويدَّعي من حمقه

وضعَ كتاب "الجمهرة"

وهو كتاب "العين"

إلا أنه قد غَيَّره

وقد نفهم صدق العالم من تأليفه. فتتبع كلام الرجل المختلف الغايات يدل على شيء من أخلاقه وطبائعه، مثال هذا: ابن الأنباري الذي يقول في قصيدته التي خاطب بها أبا زكريا الحفصي يرغب منه النصرة لأهل الأندلس:

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

والقصيدة طويلة بليغة للغاية. فالذي ينظم هذه القصيدة المملوءة بلاغة وغيرة لا يكون إلا نقي الأخلاق، بعيداً عن أن يقول في العربية ما لم يسمع.

والذي يشترط فيه الصدق هو من ينقل عن العرب أنفسهم؛ كالأزهري في "التهذيب"، أو من ينقل عن الثقة الذي ينقل عنهم؛ كالجوهري صاحب "الصحاح". أما صاحب "المصباح"، فأكثره متابع للمعاجم المعروفة، ونجد فيه ألفاظاً لا توجد في المعاجم التي بين أيدينا؛ كرفيع بمعنى: رقيق، وكعوائد: جمع عادة.

ص: 20

وممن طُعن فيه: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي. قال الأزهري في "التهذيب": حضرته في داره ببغداد غير مرة، فرأيته يروي عن أبي حاتم، والرياشي، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، فسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه عنه، فاستخف به، ولم يوثقه في روايته.

ودخلت يوماً عليه، فوجدته سكران لا يكاد يستمر لسانه على الكلام من غلبة السكر عليه. وتصفحت كتاب "الجمهرة" له، فلم أره دالًا على معرفة ثاقبة، وعثرت منه على حروف كثيرة أزالها عن وجوهها، وأوقع في تضاعيف الكتاب حروفًا كثيرة أنكرتها، ولم أعرف مخارجها، فاثبتها من كتابي في مواقعها منه؛ لأبحث عنها أنا وغيري ممن يظهر فيه لبعض الأئمة، فإن صحت لبعض الأئمة، اعتمدتها، وإن لم توجد لغيره، وقفت.

وممن طعن فيه الأزهريُّ - في مقدمة كتاب "التهذيب" -: الجاحظُ، فقال:"وممن تكلم في لغة الغريب بما حضر لسانه، وروى عن الأئمة في كلام العرب ما ليس من كلامهم: عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ، وكان أوتي بسطة في لسانه، وبيانًا عذبًا في خطابه، ومجالاً واسعاً في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات الغريب ذموه، وعن الصدق دفعوه". وأخبر أبو عمرو الزاهد: أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحيى، فقال:"اعزبوا عن ذكر الجاحظ؛ فإنه غير ثقة، ولا مأمون".

وممن طعن فيه: أبو علي محمد بن المستنير المعروف بقطرب. قال ابن السكيت: "كتبت عنه قِمَطْراً، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة، فلم أذكر عنه شيئاً".

وممن طعن في روايته: أبو الفرج الحسين الأصبهاني صاحب كتاب

ص: 21

"الأغاني"؛ فقد قال ابن شاكر في كتابه "عيون التواريخ": إن الشيخ شمس الدين الذهبي قال: رأيت شيخنا - يعني: ابن تيمية - يضعفه، ويتهمه في نقله، ويستهول ما يأتي به. وقال ابن الجوزي:"لا يوثق بروايته؛ فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق. ومن تأمل كتاب "الأغاني"، رأى كل قبيح ومنكر".

وممن طُعن فيه: أبو العلاء صاعد بن الحسين، جاء من الشرق إلى الأندلس في عهد المنصور بن أبي عامر، فشاهد منه علماء الأندلس إخباراً في اللغة بخلاف الواقع، فاعرض عنه أهل العلم كما قال المقري في "نفح الطيب"، وقدحوا في علمه وعقله. وألَّف لهم كتاب "الفصوص"، فألقوه في النهر، ولم يأخذوا عنه شيئاً؛ لقلة الثقة به.

ولا يقدح خطأ رأي العالم في الثقة بروايته. فابن تيمية - مثلاً - يصحح رواية سيبويه، ويخطئه في التطبيق، وقد روى: أن أبا حيان كان رفيقًا لابن تيمية، فرد ابن تيمية على سيبويه فقال له أبو حيان: أترد على سيبويه؟ فقال: هل سيبويه نبي النحو؟ لقد أخطأ في ثلاثين موضعاً من كتابه، فهجره أبو حيان، وكان شأن أبي حيان أن يقول له: بيِّن لنا الخطأ الذي وقع في الثلاثين موضعاً ويردها أو يسلم بها، ولا يكون قول ابن تيمية وحده سبباً للهجرة.

ومن يروي شيئاً في اللغة، وهو لا يوثق بروايته، يحفظ قوله، فإن ورد ما رواه عن راو آخر يوثق بروايته، أخذ به، وإلا، وقف عن روايته كما قال الأزهري في "تهذيبه".

وهناك فريق ثالث يخرج من اللغة ما يصح أن يكون داخلاً فيها؛

ص: 22

كالقاسم الحريري؛ فقد ألَّف "درة الغواص في أوهام الخواص"، وكثر ما جعله وهمًا، وليس بعربي فصيح، رده شارحو كتابه: الشهاب الخفاجى، والشيخ محمود الألوسي بأنه عربي فصيح، إما بمطابقته لقول بعض النحاة، أو بوجه عربي مقبول. وعلى فرض أن سجل ما ينطق به أشباه العامة، فعلينا أن نضع علامات لما زيد على العربية الفصحى.

ومن أدبائنا من يمشي في طريق معاكس لهذا، فيسبق إلى ذهنه أن استعمال العامة من الناس لكلمة توافق العربية، فيستعملها على أنها عربية فصيحة، ويتبين أن العامة لم يستندوا إلى نطق عربي فصيح، ولو قبلنا هذه الكلمة، لزم أن نقبل كل ما تنطق به العامة مخالفاً العربية الفصحى؛ كاشتقاق بعضهم اسم الفاعل من فخم: فخيم، والعرب يقولون: هو فخم، ولم يقولوا: فخيم، وقول العامة: عمولة، وهي في اللغة: عمالة - بالكسر والضم -. ثم إنا لو قبلنا دخول هذا في معاجمنا على أنه من العربية الفصحى، لكثر في اللغة المترادف: اللفظ العربي، واللفظ العامي الذي زيد عليه. ومن أدبائنا من يرون كثرة المترادف في اللغة من العيب فيها، وأنه يجب إعدامه.

ولا يضرنا وجود المعرب في اللغة إذا اقتضت الحاجة، ولا سيما إذا لم يوجد له مثال قريب من العربية. وقد أخذ الأتراك كلمتي: فانوس، وفنار من اليونان، ثم أخذتهما أمم عربية، وصارتا من مفرداتها اللغوية. وكذلك: الجذوة؛ فقد قال في المعجم التركي شمس الدين سامي: هي مأخوذة من العربية، والأصل: قبسة من النار. ويستعمل في تونس: "كاهية" لنائب الرئيس، قال السيد محمد فريد في رحلته إلى تونس: إن أهل تونس يطلقون كاهية بمعنى: وكيل الرئيس، وهي محرفة عن "كيخيا" المحرفة هي أيضاً عن

ص: 23

"كتخدا". والحق أن كتخدا فارسي، ومعناه: بيت الرب. وحرّفه الأتراك إلى قولهم: كاهية بمعنى: وكيل الرئيس، ولفظ كيخيا لعلّه مستعمل في مصر فقط، فإنا لم نره في المعجم التركي الذي بين أيدينا لشمس الدين سامي.

لهذا أرى من الواجب أن نتحرز مما ينسب إلى غير الموثوق بهم حتى يعضده نقل آخر موثوق به، أو يكون له في العربية وجه مقبول.

ص: 24