الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصف جمع غير العاقل بصيغة فَعْلاء
(1)
جرى اختلاف بين أدباء العصر في صحة عبارة وقعت في منثور الكتَّاب، ومنظوم الشعراء منذ عهد بعيد، وهي العبارة التي يوصف فيها الجمع بصيغة فعلاء.
وأول مناقشة جرت في هذا كانت بين الأستاذ (فريتس كرنكو العرباني الجرماني)، والأب (آنستاس الكرملي)؛ حيث كان الأب آنستاس يستعمل في مجلته "لغة العرب" فعلاء وصفاً للجمع، كان يقول: الأشجار الخضراء، بدلأ من: الأشجار الخضر، فأنكر عليه الأستاذ (كرنكو) بدعوى أن هذا الاستعمال خطأ، ورد عليه الأب (آنستاس) بأن من مزايا لغة العرب وصف المنعوت المجموع من غير العاقل بصفة المفردة المؤنثة، وأورد شواهد فيها وصف الجمع بصفة فاعلة؛ نحو: الأيام الخالية، وقطوفها دانية، وتناولت الصحف والأندية الحديث عن هذه المسألة باحثة عن وجه الحق في هذه العبارة، فبدا لي أن ألقي نظرة فاحصة بين نظراتهم حتى أثق بفصاحة هذا الوصف، وتناولته من حيث القياس والسماع، فكان ملخص البحث ونتيجته ما يأتي:
(1) اقتراح قدمه الإمام إلى مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ونشر في الجزء التاسع من المجلد العشرين لمجلة "الهداية الاسلامية".
يقول علماء العربية: يجوز وصف الجمع المكسر لغير العاقل بالمفرد المؤنث، غير أن وصفه بالمفرد المؤنث بالتاء كثير شائع، ووصفه بالمفرد المؤنث بالصيغة قليل، والمراد من المؤنث بالصيغة: ما كانت علامة تأنيثه ألف التأنيث المقصورة، أو الممدودة، فالحكم الذي قرروه عام، ولكنهم اقتصروا فيما رأينا على التمثيل بما فيه ألف التأنيث المقصورة. قال أبو البقاء في "الكليات":"والجمع المكسر لغير العاقل يجوز أن يوصف بما يوصف به المؤنث، نحو: {مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، وهو قليل". ثم قال: "والجمع يوصف بالمفرد المؤنث بالتاء، وهو شائع، وقد يوصف بالمفرد المؤنث بالصيغة؛ كما في قوله تعالى:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]. ومازال الناس يحملون ما قرره علماء العربية من جواز وصف جمع التكسير لغير العاقل بالمفرد المؤنث على عمومه، دون أن يتعرض أحد لمنع وصفه بفعلاء.
وورد وصف الجمع بصيغة فعلاء في أشعار هذا العصر؛ كما قال الأستاذ خليل مطران في رثاء شوقي:
يجلو نبوغك كلَّ يوم آية
…
عذراءمن آياته الغرّاء
فقد وصف الآيات، وهي جمع، بغرّاء.
وقال أيضاً:
النيل يجري من عميق دافق
…
من حيث ينبع في الربا السَّمَّاء
وقال الأستاذ بشارة الخوري في رثاء شوقي:
قاموا على سرر الأعراس وانتبهوا
…
على صياح بكيّ الطرف عائرِهِ
على مآتم من طير ومن شجر
…
خرساء كالقبر غرقى في دياجره
فوصف المآتم بقوله: خرساء.
وورد وصف الجمع بفعلاء في كثير من أشعار المولدين قبل هذا العصر، كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم (1):
متكفن بملابس
…
حمراء وهي تعود خضرا
وقال برهان الدين القيراطي المتوفى سنة 781 هـ:
شرَّف الله أحمداً سيد الخلق
…
بأسنى المواهب الحسناء
وقال:
قد تشرفت حيث صغت قريضاً
…
في معاني صفاتك العلياء
وقال الإشبيلي (2):
أفديه إن أخذ الطلا منه وقد
…
دعت الكرى أجفانه الوطفاء
وقال مهيار الديملي:
راكب العز في مفاوزها اليَهْـ
…
ـماءِ سار لا يركب التغريرا
فوصف المفاوز، وهو جمع، باليهماء، قال صاحب "الأساس":"مفازة يهماء: ما فيها ماء". وقال اليازجي: "وبوده أن يكون فداء عن أياديهم البيضاء".
وورد في أشعار المولدين فَعْلاء خبراً عن ضمير يعود على جمع؛ كما قال أبو تمام:
(1)"معاهد التنصيص"(ج 1 ص 197).
(2)
كتاب "تراجم بعض أعيان دمشق" لابن شاشو.
فيا حسن الرسوم وما تمشى
…
إليها الدهر في صور البعاد
وإذ طير الحوادث في رباها
…
سواكن وهي غنّاء المراد
فقوله "غنّاء المراد" خبر عن الضمير العائد إلى الرسوم، أو إلى رياها. وقال ابن هانئ:
طويت لي الأيام فوق مكايد
…
ما ينطوي من فوقها الأعداء
ما كان أحسن من أياديها التي
…
توليك إلا أنهاحسناء
وقال أبو الطيب المتنبي:
وعقاب لبنان وكيف يقطعها
…
وهوالشتاء وصيفهن شتاء
لبس الثلوج بها علي مسالكي
…
فكأنها ببياضها سوداء
فقوله: "سوداء" خبر عن الضمير في قوله: "فكأنها"، وهذا الضمير عائد على الثلوج، أو على المسالك.
بل ورد مثل هذا في شعر عربي فصيح، قال المخبل السعدي:
أعرفت من سلمى رسوم ديار
…
بالشط بين مخفق وصحار
وسألتها عن أهلها فوجدتها
…
عمياء جاهلة عن الأخبار
فقوله: "عمياء" مفعول ثان لوجدت، وهو بمنزلة الخبر عن الضمير العائد إلى رسوم ديار "الأغاني".
وورد خبراً عن الضمير العائد إلى جمع بعد الإخبار عنه المفرد المؤنث بالتاء؛ كما قال ابن هانئ:
لولا مشيب بفودي للفؤاد عصا
…
أنضيت في مهمه التشبيب لي قلصا
واستوقفت عبراتي وهي جارية
…
وكفاء توهم ربعاً للحبيب قصا
وجرى على هذا المرحوم حافظ إبراهيم، فقال:
يستنطق الآلام وهي دفينة
…
خرساء حتى تنطق الآلام
فأخبر عن الضمير العائد إلى الآلام بفعلاء بعد أن أخبر عنه بالمفرد المؤنث بالتاء، ونسج على هذا المنوال المرحوم مصطفى صادق الرافعي، فقال:"وترد الأمواج نقية بيضاء كأنها عمائم العلماء".
وورد خبراً عن ضمير يعود على اسم جمع؛ كما قال ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 في طير أبابيل من سورة الفيل: "ثم اختلفوا في صفتها، فقال بعضهم: كانت بيضاء، وقال آخرون: كانت سوداء، وقال آخرون: كانت خضراء، والطير اسم لجماعة ما يطير، والواحد طائر".
وورد فعلاء في أشعارهم حالاً من الجمع، كما قال ابن الخطيب (1):
ولك الجواري المنشآت وقد غدت
…
تختال في برد الشباب وترفل
جوفاء يحملها ومن حملت به
…
من يعلم الأنثى وماذا تحمل
فقوله: "جوفاء" حال من الجواري المنشآت، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أعني: الجواري.
وقال الطغرائي يمدح أبا الفضل أسعد بن محمد بن موسى (2):
لقد قلت للمزجي قلائصه
…
حدباء يعرق لحمها الجدب
فقوله: "حدباء" حال من جمع، وهو:"قلائصه".
ووردت وصفاً لجمع محذوف بعد وصفه بصفة المؤنث بالتاء،
(1)"نفح الطيب".
(2)
"مختارات البارودي".
قال المتنبي:
وبساتينك الجياد وما تحـ
…
ـل من سمهرية سمراء
وقال الأبيوردي:
ولو استطيل على الحمام بعزة رفعت له اليزنية السمراء
واليزنية: الرماخ، نسبة إلى ذي يزن.
وملخص البحث: أن علماء العربية أطلقوا في صحة وصف جمع غير العاقل بصفة المفردة المؤنثة، فيدخل في إطلاقهم وصفه بفَعلاء، ولم نر أحداً منهم خص هذا الحكم بصيغتي فاعلة، وفعلى. ثم إن الوصف بها ورد في كلام العلماء والأدباء كثيراً؛ كما ورد في عبارة ابن جرير الطبري، وورد في شعر أبي تمام، والمتنبي ما يدل على صحته. وقد قال صاحب "الكشاف": اجعل ما يقوله أبو تمام بمنزلة ما يرويه. وقال الشهاب الخفاجي في "شرح درة الغواص": اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. ثم إن قياس فَعلاء على فعلى وفاعلة في صحة الوصف بهما من الأقيسة التي تتلقاها اللغة العربية على الرحب والسعة.
وبناء على هذا، أقترح على مؤتمر المجمع الموقر أن يُصدر قراراً في صحة التركيب الذي يوصف فيه جمع غير العاقل بصيغة فَعلاء، قطعاً للمناقشة التي تدور حول هذا الأسلوب.
وبعد عرض هذا الاقتراح قرر المجمع صحة وصف جمع غير العاقل بصيغة فعلاء.