الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهجات العربية في هذا العصر
(1)
لهجات البلاد العربية اليوم أصلها العربية الفصحى، دخلها الفساد من وجوه شتى، وظهر في كثير من ألفاظها وأساليب مخاطبتها. ولما كان مجمع اللغة العربية الملكي يعمل لسلامة اللغة العربية، وسد ثغور حاجاتها، وإصلاح ما اعتراها من خلل، كان من حقه دراسة تلك اللهجات بقدر المستطاع، متخذًا هذه الدراسات وسيلة إلى تخليصها مما طرأ على ألفاظها وأساليبها من فساد.
وذلك أن دارس اللهجة يذكر الكلمات التي دخلها التحريف، ويبيِّن وجه تحريفها، وينبه على وجهها الصحيح، ويذكر الكلمات التي دخلها التحريف، ويدل على ما يقوم مقامها من الألفاظ العربية الفصيحة، ويتعرض للكلمة المستعملة في غير معانيها المعروفة في كلام العرب، أو معجمات اللغة، حتى إذا لم يجد بين هذه المعاني والمعاني التي وضعت لها الكلمة مناسبة، نبّه على أن هذه الكلمة استعملت في غير مواضعها، وأرشد إلى الألفاظ التي يصح أن تستعمل مكانها.
وإذا أخذ يبحث في الأساليب، ووجد فيها ما يخالف قانون نظم الكلام
(1) مذكرة قدمها الإمام إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ونشرت في الجزء الثامن من المجلد الثالث عشر - مجلة "الهداية الإسلامية".
العربي، نبه على هذه المخالفة، وذكر الوجه الذي يكون به الأسلوب عربيًا فصيحاً.
وفي دراسة هذه اللهجات معرفة مقدار بُعدها عن العربية. والمجهودات التي تبذل في إصلاحها تكون على قدر ما عرف من هذا البعد؛ فقد يظن بعض أهل العلم أن اللغة الدارجة في طرابلس الغرب، أو في المغرب الأقصى بعيدة عن العربية أشد البعد، ويرى أن العودة بها إلى العربية المستقيمة أمر متعسر أو متعذر، ولكنه متى درسها بنفسه، أوقرأ كتبًا بحثتها بحثًا علميًا وافيًا، يعرف أنها لم تبعد عن العربية إلى الحد الذي سبق إلى ظنه، فيقوى أمله في السعي لإعادتها إلى العربية السليمة، ويعمل لتحقيق هذا الأمر مجتهداً.
وأذكر أني كنت ممن يحسبون أن لهجة بلاد الجزائر قد بعدت من العربية إلى أقصى غاية، حتى أخذت أدرس مفرداتها، وأرجع فيما أشتبه فيه إلى معجمات اللغة، فوجدت أكثرها من أصل العربية، غير أنهم يحرفونه بنحو تبديل بعض الحركات أو الحروف، أو بصوغه على غير قياس، أو يتصرفون فيه باحد طرق المجاز، ويغلب استعماله في المعنى المجازي حتى يصبح حقيقة في عرفهم الخاص.
ونجد في لهجة كل قطر ألفاظاً عربية فصيحة دارجة بين عامتهم، ولابتذالها في ألسنة العامة يتحاماها الكتاب والشعراء والمؤلفون، وقد تكون هذه الألفاظ عند أدباء قطر معدودة في غريب اللغة؛ لعدم جريانها في لهجتهم، وقلة ورودها فيما قرب مأخذه من كلام العرب، ومثال ذلك: أنك ترى العامة في بلاد بصحراء الجزائر يقال لها: "سوف" يستعملون لفظ: كرف بمعنى:
الشم، فيقولون: كرفت؛ أي: شممت. وفي "القاموس": كل ما كرفته، فقد شممته. وأدباء تلك الناحية يتجنبون استعمالها بهذا المعنى؛ لابتذالها، وربما يعدها بعض الأدباء في بلاد الشرق من غريب اللغة، فيترك استعمالها لغرابتها، لا لابتذالها. ولو أرسلت في إيراد ما يشاكل هذه الكلمة في ابتذاله بين أهل قطر، وعده غريباً عن آخرين، لأتيت بكلم كثير.
فبحثُ المجمع في لهجات البلاد العربية اليوم وأساليبها، واستكشافُ ما دخلها من ضروب الفساد، ثم التنبيهُ على وجوه صحتها في مجلته، أو في مؤلفات خاصة، نراه من أقرب الوسائل إلى إصلاح هذه اللهجات، وإعادتها إلى أصلها العربي الفصيح.
ولا يغني عن هذه الدراسة أن يحيل أهل تلك اللهجات على معجمات اللغة، وكتب النحو؛ فإن أكثر الناس يأخذهم التعود على النطق بلفظ أو أسلوب غير عربي، فلا يتنبهون لوجه الخطأ في استعماله.
ومثل هذا التعود كان السبب في انتشار أخطاء كثيرة، حتى بين الأدباء والمؤلفين من أهل العلم، ولم ينكشف للناس أمرها إلا بعد أن قام رجال من العلماء الراسخين في اللغة، فأقبلوا يتتبعون بقدر ما استطاعوا تلك الألفاظ التي يخطئ في استعمالها الخواص من الناس، فنقدوها، وبيَّنوا وجه استعمالها الصحيح، فتجنبها من يتحرَّى النطق والكتابة بالعربية الفصحى.
وإذا وجد أفراد خدموا اللغة بإصلاحِ جانبٍ من أخطاء طرأت عليها، وأنقذوا ألسنة كثيرة وأقلامًا من معرَّة تلك الأخطاء، فجدير بمجمع اللغة العربية الملكي أن يقوم بعمل أوسع من عمل أولئك الأفراد، وأعظم منه أثراً، وهو أن يدرس لهجات الأقطار العربية من ناحية ما دخل في ألفاظها وأساليبها من
أغلاط، ويدل على وجهها الصحيح.
وأذكر أني كنت في مجلس حضره أحد كبار رجال الدولة في هذا العهد، ودار حديث يتعلق بالمجمع، فقال: إن أهم عمل يقوم به المجمع أن يأتي إلى ألفاظ دائرة في اللغة الدارجة، وليست بعربية، فينبه على الألفاظ الفصيحة التي تقوم مقامها، وضرب المثل بكلمة:"يادوبك" في اللهجة المصرية، وهذه الكلمة تستعمل بمعنى: على أكثر تقدير.
فهذا أحد عظماء الدولة يرى أن من أهم أغراض المجمع دراسة اللهجات الحاضرة، والعمل لإصلاحها.
واتصال المجمع بعلماء الأقطار العربية وأدبائها يساعده على درس هذه اللهجات، ويكون هؤلاء العلماء والأدباء هم الذين يتلقون ما يقرره من إصلاح، ويأخذون به النشء ما أمكنهم، ويذيعونه في دروسهم ومجالسهم، ويدعون إليه في صحفهم.
وقد روير في نظام المجمع ما يؤكد الصلة بينه وبين تلك الأقطار؛ إذ جعل للمجمع انتخاب أعضاء فخريين، وأعضاء مراسلين، فإذا جرى المجمع في انتخاب هؤلاء الأعضاء على أن يكون له في كل قطر عضو أو أعضاء، انفتح أمامه الطريق لدراسة هذه اللهجات دراسة وافية.
ودراسة اللهجات - بعرض مفرداتها وأساليبها على قوانين العلوم العربية - قد تحتاج إلى مجهود كبير، وزمن غير قصير، ولكن غاية سامية مثل هذا الإصلاح ينبغي للمجمع أن يقف دونها، وهو يستطيع إدراكها، ولو بعد عشرات من السنين.
أما لجنة اللهجات، فقد كتب أعضاؤها في لهجة مصر والشام وتونس
والجزائر، ولكن اللجنة أرجات النظر فيما كتبوه؛ لكثره ما عرض في جلسات المجمع من مصطلحات العلوم والفنون والشؤون العامة، فإذا زيد في أعضاء المجمع، وكان عمله متواصلاً غير مقيد بجلسات معلومة، استطاعت اللجنة أن تواصل عملها، وتعرض على المجمع ما يصل إليه بحثها.