المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نيابة بعض الحروف عن بعض - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌نيابة بعض الحروف عن بعض

‌نيابة بعض الحروف عن بعض

(1)

يتعرض النحاة لمعاني الحروف، فيذكرون للحرف الواحد معنيين، أو معاني، كما يقولون في الباء: تأتي للسببية، والظرفية، والاستعانة، وإذا وقفت على ظاهر صنيعهم، تبادر إلى ذهنك أن الحروف التي تعددت معانيها من قبيل المشترك، وهو اللفظ الدال على معنيين فأكثر؛ بحيث يدل كل معنى مستقل عن الآخر دلالة لا يحتاج فيها إلى تطلب علاقة.

وقد رأينا كثيراً من محققي النحاة يعملون لتقليل معنى الحروف، فيأتون إلى كثير من الشواهد التي يريد بعضهم أن يثبت بها للحروف معاني زائدة على معانيها الكثيرة الدوران في كلام الفصحاء، ويردونها إلى المعاني المعروفة في الاستعمال، كما يفعل ابن هشام، ونجم الدين الرضي، وكما فعل السكاكي في كتاب "المفتاح"، وكذاك ينبغي أن تكون معاني الألفاظ المشتركة قليلة؛ فإن قلتها أعون على حسن البيان.

وقد تمر على قول النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فيجعلك هذا القول في حيرة، أو يذهب بك في استعمالها على غير طريقة، تسمعهم يقولون: إن "في" - مثلاً - تكون بمعنى: "إلى"، أو تكون بمعنى:

(1) بحث طرحه الإمام في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ونشر في الجزأين السادس والسابع من المجلد السابع لمجلة "الهداية الاسلامية".

ص: 30

"الباء"، فتريد أن تذهب بذلك مذهب القياس، فتقول بدل "سرت إلى البحر": سرت في البحر، أو تقول بدل "بعته بدرهم": بعته في درهم.

وإذا مشيت على هذا الوجه من القياس، وقعت في لبس من القول، وأتيت بجمل تنبو عنها الفطرة العربية، وقد نقد أحد فلاسفة اللغة- وهو ابن جني- قول النحاة: إن الحروف يستعمل بعضها مكان بعض، ونبه لما في إطلاق هذه العبارة من فساد، فقال في كتاب "الخصائص":"هذا باب يتلقاه الناس مغسولًا ساذجًا من الصنعة، وما أبعد الصواب عنه، وأوقفه دونه! ". ثم قال: "ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، ولكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع، دون موضع على حسب الحال الداعية إليه، والمسوغة له، فأما في كل موضع، وعلى كل حال، فلا". ثم أتى إلى كثير من الشواهد التي ساقوها على استعمال الحرف بمعنى الحرف؛ وخرَّجها على وجوه تبقى بها الحروف في معانيها المعروفة، واعتمد في هذه الوجوه على باب التضمين.

وقال ابن القيم في كتاب "بدائع الفوائد": "وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية، فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف، وما يستدعي من الأفعال، فيشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حذاق الصناعة، يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف. وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن".

وخلاصة هذا المذهب: أن الحروف لا تستعمل إلا في معانيها الشائعة

ص: 31

في كلام الفصحاء، فإذا وجه إليك كلام، وظهر لك أنه قد أنيب فيه حرف مكان حرف، فإن هناك تضميناً، أو حذف كلمة يبقى به الحرف على حقيقته المعروفة في الاستعمال.

وإذا صرفت النظر إلى فن البيان؛ رجاء أن تجد فيه ما يزيد البحث وضوحًا، وجدتهم يعدون في قبيل الاستعارات: استعارة حرف لمعنى آخر. ولا يزيدون على أن يذكروا لك أمثلة قليلة؛ لتعلم منها كيف تجري الاستعارة في الحروف. غير أنك تحتاج بعد هذا إلى تفصيل القول في معاني الحروف، حتى تصرف المعاني التي وضعت لها الحروف على وجه الحقيقة؛ لتفرق بينها وبين المعاني التي تستعمل فيها على وجه المجاز. ولا لوم على البيانيين إذا لم يفصّلوا لك القول في معاني حروف الجر؛ فإن ذلك من شأن اللغوي الذي يبحث عن دلالات الألفاظ المفردة.

فإذا ضم المجمع اللغوي ما يقوله البيانيون إلى ما يقوله ابن جنّي وغيره من المتفقهين في العربية، أمكنه أن يقرر أن الحرف لا يستعمل مكان آخر إلا على وجه الاستعارة، أو على وجه التضمين. وعلى المؤلفين في العربية بعد هذا أن يقتصروا في بيان معاني الحروف على المعاني الحقيقية، وإن تعرضوا لما زاد على ذلك، فمع بيان أنها معان لم يوضع لها الحرف، حتى يكون الناشئ على بصيرة من أن استعمال الحرف في هذه المعاني من قبيل الاستعارة التي لا تتم إلا بملاحظة علاقة، ونصب قرينة.

وتتعرف المعاني الأصلية للحروف من نصوص علماء العربية، أو من تتبع موارد استعمالها، وكثرة دورانها في الكلام الفصيح.

ص: 32