المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأمثال في اللغة العربية - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٦/ ٢

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌الأمثال في اللغة العربية

‌الأمثال في اللّغة العربيّة

(1)

المَثَلُ في أصل وضعه: المثيل، والشبيه، ويطلق على الكلام البليغ الشاخ المشهور؛ لحسنه، أو لاشتماله على حكمة، وذلك ما نبغي الحديث عنه في هذا المقال.

توجد الأمثال حتى في غير اللغات الراقية، ولا تكاد لغة تخلو من الأمثال. وها نحن نجد بين الجماعات البعيدة من العلم أو المدنية أقوالاً من نوع كلامهم يضربونها في مواضع تشبه مواردها، ولا فرق بينها وبين ما جاء في الفصيح من الأمثال إلا الفرق الذي نحسه بين اللغة الدارجة واللغة العربية الخالصة.

من خواص المثل: الإيجاز، وأن يكون جيد العبارة. ولإيجازه وجودة عبارته تداولته الألسنة، وقبلته خاصة الناس وعامتهم. قال الزمخشري:"ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلاً للسير، ولا جديرًا بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه".

وقال الفارابي: "المثل ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم، وفاه بها في السرَّاء والضرَّاء".

(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء التاسع من المجلد الرابع.

ص: 33

وقال: "وهو أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا يجتمعون على ناقص، أو مقصر في الجودة، أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة".

وقال أبو عبيد: "اجتمع في الأمثال ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه".

يصوِّر المثل الحقائق في أجلى صورة، ويريك المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، فإذا أردت أن تصف رجلاً بالدهاء، وجودة الرأي، والأخذ في تدبير الأمور بأنجح الطرق، ورمت أن تعبر عن هذا المعنى بلفظ موجز ينقشه في نفس المخاطب حتى كأنه يراه رأي العين، ضربت فيه المثل:"يعرف من أين تؤكل الكتف".

وإذا سمعت كلاماً كثيراً لا تُجنى منه فائدة، وأردت أن تصفه بكلمة يخف وقعها في الأذن، وتضع ذلك المعنى موضع المشاهد، ضربت فيه المثل:"أسمع جعجعة، ولا أرى طحناً".

يحسن ضرب المثل حيث يكون سبب وروده معروفاً للمخاطبين.

وكثير من الأمثال لا يفهم منها معنى، وإن كانت ألفاظها واضحة الدلالة على معانيها المفردة، فالمثل:"إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر"، مفرداته واضحة المعاني، وليس في تركيبه حذف، ولا لفظ يتوقف فهمه على كلام يسبقه أو يأتي من بعده، ولو سقته في الحديث مع من لا يعرف مورده، لم تصل به إلى الغرض الذي تستعمل من أجله الأمثال، وهو إبراز المعنى في صورة مألوفة تتلقاها النفوس بارتياح، وإنما يفي هذا المثل بالغرض، ويقع المعنى المقصود في نفس المخاطب موضع الجلي الواضح، متى عرف: "أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة

ص: 34

أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس، والقمر يُرى، وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس، فتراضوا برجلٍ جعلوه حكماً، فقال واحد منهم: إن قومي يبغون عليّ، فقال الحكم:"إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر".

قد يستعمل المثل على وجه الاستعارة؛ كضرب المثل: "الصيف ضيَّعتِ اللبن" في حق من كان متمكنًا من أمر، فأضاعه من يده، ثم جاء يطلبه بعد فواته، فإنك شبهت حال هذا الرجل بمورد المثل، وهو حال المرأة التي كانت تحت شيخ موسر سألته الطلاق، فطلقها زمن الصيف، فتزوجت شابًا فقيراً، فلما دخل الشتاء، أرسلت إلى الشيخ تستقيه لبناً، فقال لها:"الصيف ضيعت اللبن"، واستعرتَ هذا المثل إلى حال الرجل الذي أضاع أمراً كان طوع يده، ثم رغب في مناله. واستعمال الأمثال على هذا الوجه هو الذي تحدث عنه البيانيون، فقالوا:"متى فشا استعمال المجاز المركب، سمي: مثلاً".

وقد يستعمل المثل على وجه التشبيه الصريح؛ كان تذكر شخصًا تريد أن تصفه بأنه يُشتهى قربه، ويخاف شره، فتقول: هو "كالخمر يُشتهى شربها، ويُخاف صداعها".

وقد يستعمل على وجه الحقيقة المحضة، كأن ترى شخصًا اعتبر في بعض الأمور بما وقع فيه غيره من عاقبة مكروهة، فأخذ حذره من ذلك الأمر، فتقول:"السعيد من اتعظ بغيره" فليس في ضرب هذا المثل استعارة ولا تشبيه.

والكتب التي صنفت في أمثال العرب، كأمثال أبي عبيدة، والميداني،

ص: 35

وابن قتيبة، وابن حبيب، وابن الأنباري، وابن هلال، والشيخ طاهر الجزائري، تجمع الأنواع الثلاثة، ولا تختص بما تحدث عنه البيانيون، وهو المجاز المركب الذي يفشو استعماله. يلزم في المثل: أن يكون قولاً موجزاً شائعاً، وقد يكون حكمة؛ أي: كلاماً ينهى عن سفه، أو يدعو إلى خير، نحو:"إنَ المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقي"، وهو مثل يضرب لمن يجهد نفسه في طلب الشيء، ويبالغ في الطلب، حتى إنه ربما يدركه التعب أو الملل، فينقطع دون البلوغ إلى الغاية.

وقد يكون خالياً من الحكمة بالمعنى المشار إليه، ولكنه يدل على معنى مقبول؛ كالأمثال الصالحة للاعتذار؛ نحو:"مكره أخاك لا بطل".

والحكمة التي تؤدي إلى ما يؤديه المثل، إلا أنها لم تشع في الجمهور، ولم تجر إلا بين الخواص، يسميها بعض الأدباء بالنادرة.

ومن الأمثال ما يكون كلاماً مستقلاً بنفسه، نحو: (حُبُّك الشيءَ يُعمي وُيصم"، ونحو: "ربَّ أخ لك لم تلده أمك". وقد يكون مقتطعًا من كلام؛ نحو: "إن المقدرة تذهب الحفيظة". قال أبو عبيد: بلغنا هذا المثل عن رجل عظيم من قريش في سالف الدهر كان يطلب رجلاً بثأر، فلما ظفر به، قال: لولا أن المقدرة تذهب الحفيظة، لا نتقمت منك. ثم تركه. وإلى هذين الضربين من الأمثال أشار المرزوقي في كتاب "الفصيح"، فقال: المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول.

يقول علماء الأدب: إن الأمثال لا تُغير، بل تجري كما جاءت، حتى إنهم يحافظون عليها، وإن جاءت على بعض الوجوه الشاذة. قال الزجاج

ص: 36

في "شرح أدب الكاتب": الأمثال قد تخرج عن القياس، فتحكى كما سمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال. وقال المرزوقي: من شرط المثل: أن لا يغير عما يقع في الأصل، ألا ترى أن قولهم:"أعطِ القوس باريها" تسكن ياؤه، وإن كان التحريك الأصل؛ لوقوع المثل في الأصل على ذلك.

ويتصل بهذا: أن لا يغير المثل ليوافق حال من ضرب في شأنهم؛ من نحو التذكير والتأنيث، أو الإفراد والتثنية والجمع، بل يستعمل باللفظ والحال التي نطق به العربي في أول ما نطق به (1).

والعلَّة العامة في امتناع تغيير ما يسمى مثلاً: أن تغييره يخرجه عن أن يكون اللفظ المتداول المشهور، وفي امتناع تغيير المثل الذي يستعمل على وجه الاستعارة علة خاصة، هي أن الاستعارة مبنية على استعمال لفظ المشبه به، ولو غير المثل؛ كأن قلت: (الصيف ضيعتَ اللبن"- بفتح تاء الخطاب -، لما كان لفظ المشبه به مستعملاً في المشبه بعينه، ومن تصرف في المثل بالتغيير، كان مشيرًا إلى المثل، لا ضارباً للمثل نفسه.

وقد عد علماء الأدب فيما يجب أن يعرفه الكاتب والشاعر: الأمثال العربية. قال ابن الأثير في "المثل السائر": وكنت جردت من كتاب "الأمثال" للميداني أوراقاً خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال.

وإذا كان في الأمثال حكمة وبلاغة، كان في العناية بجمعها ودرسها وسيلة من وسائل ترقية التحرير والخطابة.

(1) قال الزمخشري: لم يضربوا مثلاً إلا قولاً فبه غرابة من بعض الوجوه، ومن ثم حوفظ عليه، وحمي عن التغيير.

ص: 37