الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاحتيال على طيف الخيال أمر مهم عند أهل الغرام، يتوصل إليه بالمنام، وإنما تدعو الحاجة إليه عند طول الهجر وشدة الضجر، ومقاساة نار الملل والسهر، ومنهم من ذم النوم في قالب الاعتذار عن طيف الخيال، كأنه يقول: إن المنغصات في الدنيا لا تنفك عن الإنسان حتى في النوم، ألا ترى أن من يحلم بمحبوبه، أو شيء من مطلوبه، ينتبه فلا يرى إلا الأسف والقلق، وزيادة الحرق، وإن حلم أنه أحدث أو ضرب رأى ذلك في الصباح! ولما كان خيال المحبوب من التلذذات، لم يأت النوم به جريا على عوائد الزمان في الإتيان بغير الملائم للإنسان.
فصل في أحوال العشاق
وقد مضت أمثلتها في فصل أقسام العشاق، فهذا الفصل كالذيل له يفيد بعض فوائد جديدة، منها أحكام الليل والنهار، وذم قصرهما عند الوصل، وطولهما عند الهجر والنفار، وتمني طول زمن الوصل والرضا، وقصر الهجر وقطعه أسرع من القضا، وما تشعب في ذلك بين العشاق، وذهبوا كل مذهب على اختلاف الأذواق، وإنما أكثروا من ذكر الليل دون غيره لأنه محل سكون الحواس، وهدوء الأنفاس، وخلو النفس بعد انطباق مسالك التشعبات عنها،
فتستجلب الأفكار الخفيات، فيما مضى وما هو آت، وقلة الاعتلاق، ومحل التسلية عن الأشواق، اللهم إلا شخصا قد ملك الحب قياده، فلا يلهيه شيء ولا ينسيه مراده. ثم اشتهر على ألسنتهم من لوم العذول، وسوء عقله الذي أوقعه في الفضول، وكيف أدخل نفسه بين الأحباب، حتى انتقم منه أهل الآداب، فوجهوا إليه سنان اللسان والأقلام، فامتحن طعنا بكل نثر ونظام، فقد قيل: ليس من العدل، كثرة العذل، ومن تكلم بما لا يعنيه، سمع ما لا يرضيه. ومن لم يمسك عما استغنى عنه ن الكلام، فهو أحق بالملام. ثم أحكام الزيارة، وما جاء في فضلها من اليراعة والعبارة، وتفنن العشاق في فضل زيارة الحبيب، وإيثار النفس على نفائس الطيب. قيل: كان الشافعي رحمه الله يكثر من زيارة أحمد، وكان أحمد يقل من زيارته هيبة له. فقيل للشافعي: إنك لتزوره أكثر وهو المحتاج إليك! فأنشد:
قالوا يزورك أحمد وتزوره
…
قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته
…
فلفضله فالفضل في الحالتين له
وجعل عمر بن الفارض الزيارة تفضلا من المحبوب، ومنة منه على المحب، فسبحان واهب الفضل لمن أحسن في خدمته، وقام بحقوق محبته، وطيب الحبيب، غاية لا يدركها اللبيب، وذلك قوله:
ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها
…
وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم
ومما يتخرج على الزيارة تخريج الفروع على الأصول، ويهتدي إلى إلحاقه بها أهل العقول، وما جرى على ألسنة الأحباب، ن أحوال العتاب، وانقسام الناس فيه إلى مادح له لتأكيده المحبة، وذام له بين الأحبة، والصحيح إنما كذب الناقل، وميز الحق من الباطل، وأكد الصحبة بعد النفور، وبين للحبيب الزور، فهو أحق بأن ينصر، ومنه يستكثر. قال في "إحياء علو الدين" ما معناه: إن العتاب شأ، أولي الألباب، وقاطع لقطيعة الأخلاء والأصحاب، وكان الرجل إذا وقع في نفسه من أخيه شيئا لم يهجره حتى يوضح له ذلك، فإن انتهى وإلا هجره، وإما عتاب يفضي إلى المقاطعة، ويحدث الهجر والممانعة، فتقريع يجب اجتنابه عقلا ونقلا، وتركه فصلا وأصلا، وقد قيل: من سوء الآداب، كثرة العتاب. ومن أمثالهم: العتاب مفتاح الوصال، قاطع للهجر والملال. وإن أفضل العتاب ما غرس العفو وأثمر المحبة، وعتب يوجب العفو والصفاء، أفضل من ترك يعقب الجفا. وقال علي كرم الله وجهه في تفسير قوله تعالى:(فاصفح فالصفح الجميل)[الحجر:85] اعف واصفح من دون عتاب. وقال بعضهم: عتاب المحبين الذلة في الأعتاب وخدمة الأبواب. ومما يلحق بالعتاب ويصلح أن يكون معه في باب الصبر على تعنت المعشوق، وتجنيه على الصب المشوق، والصفح عن التجني حين يذوق جناه، ونسخ سخطه بظلمه ورضاه، وهو أصل عند العشاق يبني عليه، ويرجع في قواعد مذهب المحبين إليه، لا يصدهم عنه صد، ولا
تقفون من سيوف اللحظ عند حد، ولا تأخذهم فيه لومة لائم، ولا يعدون جور ما يرد من الظلم من المظالم. والهجر: عند أهل المحبة بعد الاستقصاء إلى أربعة أقسام: هجر الدلال: وهو الممدوح الصفات، المقصود بالذات، وسببه علم المحبوب بمكانته عند المحب، وأنه يتلذذ بالحسنة، ولا تغيره الحوادث على اختلاف الأزمنة، ولهذا إذا صفت مرآة أهل المحبة، اتحدوا في كل رتبة، فيقع لأحدهم بعد المبالغة في هذا الصفاء أن يعتقد ارتفاع الخلاف، واتصاف كل أحد بما عنده من الأوصاف. وهجر الملال: هو هجر منشأه الملازمة مع اختلاف الخصال، وتكون المحبة فيه غير عريقة، بل منشأها علة على الحقيقة، وسبه ما ذكر من الاختلاف، وتحري النفس طلب الاعتساف، وعلامته تأثير مباعدة المكان، وطول الأزمان، وعلاجه التحبب والتخلق بخلق المراد، وسلوك كل ما أراد، وربما محته الهدية، والملاطفة بالأخلاق المرضية والصفح مع حسن الصبر، والمجاوزة عن الزلة وإن عظم الأمر. وهجر الجزاء والمعاقبة: هو هجر سببه وقوع في ذنب ولو خطأ، وعلامته قبول الأوبة، عند صدق التوبة، وعلاجه تصديق الحبيب في دعواه، والنزول على حكمه والرضا بما يهواه، والاعتراف بالذنب وأن لم يكن صدر، وطلب لعفو ممن عليه قدر. والهجر الخلقي: وفيه حديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". وهذا القسم والذي قبله
لا تعلق للعشاق بهما على ما اخترناه، وبعضهم يرى أن الثلاثة الأول من متعلقات العشق، ويجمع بين الكلامين بتفاوت المراتب. وهذا القسم لا علاج له أصلاً إلا بالإرادة الإلهية. ثم هجر المحب الصادق، قد يؤول الأمر فيه بالعاشق إلى أن يخرج كلامه مخرج الدعاء عليه، ويكون في الحقيقة ثناء لديه، وقد يستخير عند تمادي الجر وحكم الغرام حلول رمسه، فيجعل ذلك الدعاء على نفسه، ثم يتمادى الهجر ولا يسمع الدعاء، ويعز الوصل ويصعب الرضاء، فيأخذ العاشق في سح الدموع، والانحطاط من أوج الارتفاع إلى حضيض الخضوع، وأما نفي كدر الهم والصدود، باستجلاب الأماني والوعود، والتعلل بالأماني، والطمع في التهاني، فهو أصل انقسمت فيه العشاق إلى قسمين: قسم وفى له محبوبه، وحصل له بعد الوعد مطلوبه، وهو العزيز النادر، وغير الوافي الوافر، وقسم مات بغصته، وحالت المنية بينه وبين أمنيته، وانتهاز فرصته، وأعجب ما فيه أن الراضين به مع العلم بزوره أكثر العشاق، وأغلب من نودي عليه في هذه الأسواق، والمترسمة أكثروا في هذا الباب الأقوال، واختلفوا باختلاف الأحوال. ومن كلام أفلاطون: الأماني حلم المستيقظ، وسلوة المحروم. وقال غيره: التمني مؤنس، إن لم ينفعك فقد أنهاك. قيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا؟ قال: ممازحة الحبيب، ومحادثة الصديق، وأماني تقطع بها أيامك. وأما الرضا بالدون من المحبوب، والقناعة باليسر من المطلوب، وإن طال الوعد،
وكثر الخضوع، وامتد البعد،
وانسكبت الدموع، فصفة العاشق القانع، الملي على نفسه المطامع، المنزه محبوبه عن التكليف، المشفق عليه من نحو التعنيف، وقد اتصف به جم غزير، عدوا فيه أقل القليل أكثر الكثير، وعكس هؤلاء من مد إلى المحبوب باعه، وأوسع آماله وأطماعه، فلم يرض إلا بامتزاج الأشباح، فضلاً عن الأرواح، والتأليف الذي لا يمكن تمييزه كالماء والراح، حتى يراهما واحداً في العين، الأحوال الذي يرى الشيء اثنين، وحاصل القضية انه يمكن الجمع بين أهل القناعة باليسير من المحبوب، ومن لم يقف على غاية في المطلوب، باختلاف الأمكنة وصفاء الأيام، والخلو ن نحو واش ونمام، ومجالس الورد النمام، فإن من الحزم انتهاز الفرص، ومن الحمق الوقوع في ضيق القفص، ومن صفا له الزمان فجبن عن مطلوبه، فهو زاهد في محبوبه، ومن رأى العوائق دون مرامه، فالحزم تقييد غرامه، ومن حالات العشاق مكابدة الأمور الصعاب، عند طلب رضا الأحباب، وخوض الأهوال، واستهلال قضاء الآجال، فضلاً عن بذل الأموال، ليحصل من حبوبه على مطلوبه، ويرضى باليسير كما سلف، ولو كان ذلك يقضي إلى التلف. وأعظم من ذلك الملازمة على ذكر المحبوب عند نزول البلاء. وتلف النفس وشدة الابتلاء.