الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دِرَاسَةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ فِي تَارِيخِ الفِقْهِ الإِسْلَامِيِّ:
بقلم الشيخ محمد أبو زهرة
.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد بعث الله تعالى سيدنا محمدًا النبي الأمين. فبلغ رسالة ربه، ووضح شريعته، حتى ترك الناس من بعده على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يضل فيها الساري. ولا يختفي (1) الحق لطالبه من غير مصباح سَوِيٍّ، كتاب الله تعالى وسنة رسوله، إلا أن يؤتى فهمًا سليمًا، وقلبًا مشرقًا بنور الإخلاص، فإنه بهذا الاتجاه القويم يسير في الطريق إلى فهم مصادر الشرع وموارده لا عوج فيه
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ولا يجتلي. اهـ. الناشر.
وَلَا أَمْتَ، يتعرف فيه الغايات الباعثة، والنتائج المترتبة، ويربط بين الحقائق الإسلامية في سلك علمي منتظم كالخرز في عقده، لا تنبو واحدة عن أختها.
2 -
وما انتقل النبي - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الرفيق الأعلى حتى أنار الوجود الإنساني بالحقائق الإسلامية عقيدة وخلقًا وشريعة، ونقلها إلينا أصحابه الذين كانوا من بعده كالنجوم كاملاً.
ولقد صدق رسول الله - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» .
فكانوا حَمَلَةَ علم الرسول - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلوه إلى الأخلاف، واستجابوا للرسول، وهو يدعوهم إلى نقل كلامه إذ كما قال:«نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» أو كما قال - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن أولئك العِلْيَةِ من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام هم الذين شاهدوا وعاينوا، ورأوا منازل الوحي، وعلموا مُدْرَكَاتِ النبوة علم المحس السامع المعاين، واستطاعوا بأمانة الله أن ينقلوه إلى الأخلاف مجملاً بغبار (1) الرسول عليه الصلاة والسلام مشرقًا بنور
(1) كذا في الأصل، ولعل المعنى أنهم نقلوه بحذافيره كما قاله صلى الله عليه وسلم. اهـ. الناشر.
تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ:
(*) رواه البيهقي وأسنده الديلمي، ورواه الدارمي وابن عدي. (" كشف الخفاء " للعجلوني: 1/ 147، و" إتحاف السادة المتقين ": 2/ 223. قال الدكتور نور الدين عتر - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى -: «وَالمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ» انظر (هامش صفحة 67) " أهم الملامح الفنية في الحديث النبوي "، مجلة مركز بحوث السُنَّة والسيرة - قطر. العدد السابع: 1994 م.
النبوة وروعته!! حتى إنه لم ينته عهد الصحابة حتى نقلوا كلام الرسول - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاملاً غير منقوص، وإذا كان قد غاب عن بعضهم أحاديث فإنه لا يغيب عن جميعهم، وكما يقول الإمام الشافعي: إن كل الصحابة قد رَوَوْا كل أخبار الرسول، وأحاديثه، وفتاويه.
فإذا كان عصر النبي عليه الصلاة والسلام هو عصر تبليغ الشريعة فعصر الصحابة هو عصر حفظها، ونقلها للأخلاف غَضَّةً خِصْبَةً كما بَيَّنَهَا النبي الأمين.
ولم يكن عمل الصحابة - رَضِيَ اللهُ تبارك وتعالى عَنْهُمْ - أن ينقلوا فقط، بل كان عليهم أن يستنبطوا، وأن يجتهدوا آراءهم فيما لم يعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام فيه أمرًا.
وقد وجههم عليه السلام إلى ذلك فحث على الاجتهاد، وجعل له ثوابًا فقال عليه السلام:
«لِلْمُجْتَهِدِ إِذَا أَصَابَ أَجْرَانِ، وَإِذَا أَخْطَأَ أَجْرٌ وَاحِدٌ» (*)، فهو مثوب في الحالين.
ولذا قرر العلماء أن الاجتهاد فرض كفاية على من يحسنه. ولقد قال محمد - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روى الثقات لمعاذ بن جبل وقد أرسله قاضيًا على اليمن. قال له: «بِمَ تَقْضِي؟» .
قَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ» .
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ذكر المؤلف الحديث بالمعنى، وللوقوف على الرواية، انظر " الجامع الصحيح " للبخاري:«إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» ، وغيرها من الروايات الأخرى.
قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» .
قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «أَجْتَهِدُ [رَأْيِي] وَلَا آلُو» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُغْتَبِطًا «الحَمْدُ لِلَّهِ الذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ» .
وما كان اجتهاد الصحابة إلا قبسة من نور النبوة لأنهم أعرف الناس بمقاصد الشريعة وغاياتها، فليس رأيهم الرأي، ولكنه الاتباع والاهتداء، حتى قال الإمام مالك:«هُوَ رَأْيٌ وَمَا هُوَ بِالرَّأْيِ» ، وذلك لأنه ليس تهجمًا على الحقائق، ولكنه مُقَيَّدٌ بما علموا من أمر الرسالة والشريعة، وما أدركوا من أقوال، وشاهدوا من أعمال.
ولقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية: أن آراء الصحابة كثير منها سُنَّةٌ، لأن كثيرين منهم كانوا يؤثرون أن يفتوا ناسبين القول لأنفسهم عن أن ينسبوه للنبي عليه الصلاة والسلام، وإما مُسْتَلْهَمَةٌ من وحيها، أو نابعة من نبعها، وهي في كل الأحوال نور من نورها.
3 -
ترك الصحابة ثروة مثرية من الفقه النبوي بالنص عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو بالتخريج عليه، أو بالتطبيق على ما عرفوا من مقاصد الإسلام، وحمل ذلك العلم من بعدهم تلاميذهم من التابعين.
وكان لكل صحابي تابعون يلازمونه، ومنهم من يختص واحدًا منهم بالملازمة أو يغلب عليه ذلك.
فناقل علم ابن عباس رضي الله عنهما عكرمة مولاه، وناقل تفسيره مجاهد.
وناقل علم عمر - سعيد بن المسيب مع غيره ممن عاصروه، وناقل علم ابن عمر مولاه نافع.
وفي العراق ناقل علم عبد الله بن مسعود علقمة، وإبراهيم النخعي، ونقل آل البيت وغيرهم علم عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -، فوق ما كان معلومًا له بين الصحابة من فتاوى تَنْفُذُ إلى لب الحقائق، وما كان له من آراء تشرق في مدلهم الأمور، حتى كان يقول عمر رضي الله عنه كلما عضل أمر:«مَسْأَلَةٌ وَلَا أَبَا حَسَنَ لَهَا» .
وكان أولئك التابعون ينقلون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام والآثار المروية عنه من أعمال وتقريرات، وينقلون علم الصحابة الذي تخرجوا عليه، ويعتبرون ما أجمع عليه الصحابة حجة
قطعية لا مناص من اتباعها، وإن اختلفوا كان لهم أن يختاروا من بينها، ولا يخرجوا عن كلها، وفي الغالب كان كل تلميذ يتبع شيخه من الصحابة.
وكان لهم مع ذلك اجتهاد فيما لا يعرف فيه من قبلهم رأي في أمر من الأمور، فإنهم حينئذٍ يجتهدون آراءهم كما سلك شيوخهم من الصحابة.
وأخذت في عهد التابعين مناهج الاجتهاد تتميز من غير انحراف ولا خروج عن الرَّبْقَةِ، بل الجميع متعلقون بالكتاب والسنة وعلم الصحابة يعتبرونها المنجاة من هاوية الباطل.
فكان لفقهاء العراق نهج في الاجتهاد بعد النصوص وأقوال الصحابة، وغلب عليهم الاجتهاد بالقياس.
وكان لفقهاء الحجاز نهج، ويغلب فيه الأخذ بالمصلحة، وكان لكل منهج مدرسة قائمة بذاتها، ابتدأت تتكون في عهد التابعين، ثم نمت من بعدهم حتى تكاملت.
ولا بد أن ننبه هنا أن الصحابة اختلفوا كما نوهنا، وأن التابعين اختلفوا كما قررنا. وإن الاختلاف في الفروع الفقهية لا ضرر فيه على المسلمين، ولا على الحقائق الإسلامية ما دام القصد الوصول إلى الحق، وليس في واحد من الآراء هدم لنص، أو نقض لأصل، أو مصادمة لمقصد من المقاصد الشرعية.
ويروى في ذلك أن عمر بن عبد العزيز قال: «مَا يَسُرُّنِي بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُمُرُ النَّعَمِ، وَلَوْ كَانَ رَأْيًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاس فِي ضِيقٍ» .
4 -
جاء بعد هؤلاء التابعين الطبقة الأولى من الأئمة المجتهدين - كربيعة الرأي ومالك بن أنس وأبي حنيفة والأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وغيرهم كثير.
وهؤلاء التقوا بالتابعين وأخذوا عنهم، ودرسوا الآثار وأوجه الاستنباط عليهم، فأبو حنيفة تلقى عن إبراهيم النخعي، وعطاء، وحماد بن أبي سليمان، وغيرهم. ومالك تلقى عن نافع، وابن شهاب الزهري، والقاسم بن محمد، وغيرهم من التابعين الذين اشتهروا بالفقه، وَسُمُّوا بالفقهاء السبعة مثل عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار.
وإن عين الفقه قد تفتحت بعد ذلك بهؤلاء الأئمة، فقد كثر التلاميذ، وكثر الدارسون وصار ثمة علماء أعلام تتذاكر بهم الركبان، والفتاوى تنقل عنهم من مكان إلى مكان.
وكان موسم الحج مجالاً يتدارس فيه أهل الفقه، بل إن بعضهم كان يقصد من القربى إلى الله تعالى النُّجْعَةَ إلى العلم ليتزود مع زَادِ التقوى زَادَ العلم، وهو من التقوى، ما دام يقصده لوجه الله لا يرجو
سواه، فإن الملائكة تحف بأهل العلم كما وردت بذلك الآثار عن النبي - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان بجوار هؤلاء من جانب إسلامي آخر أهل البيت يدونون أحاديث عَلِيٍّ وأبنائه وفقههم. وكان من بينهم أئمة أعلام أسهموا في البناء الفقهي بأوفر سهم على رأسهم زيد بن علي زين العابدين، وأخوه محمد الباقر، وابن أخيه جعفر الصادق، ومنهم عبد الله بن حسن، وكان شيخًا لأبي حنيفة رضي الله عنهما، وكان لآل البيت مقام معلوم عند الإمامين: أبي حنيفة ومالك.
5 -
تكونت من الاجتهاد، والإخلاص، والنية المحتسبة مجموعة من الفقه هي أعظم ذخيرة إلاسلامية، وهي أعظم ما دُوِّنَ من قواعد التعامل الإسلامي بين الآحاد وبين الجماعات والدول.
وقدرت الأجيال من بعدهم ثمرات ما بذلوا، ونقلها تلاميذهم جيلاً بعد جيل، وتدارسوها وَخَرَّجُوا عليها، وأقاموا على ما وُرِثَ مِنْهَا غروسًا من العلم صارت كَدَوْحَاتٍ تُظِلُّ من يستظل بها، وهم فيما صنعوا لم يخرجوا من كتاب الله ولا سنة رسوله، ولم يَتَحَيَّفُوا طريقهم، ولم يسلكوا غير سبيل المؤمنين.
ولقد سارت تلك المجموعة الفقهية مسار النور في الأرض، فلقد وجدنا أوروبا في عهد نهضتها - تنقل آراءهم. فمذهب مالك
يجتاز الأندلس حتى يصل إلى وسط فرنسا أو أعلى من ذلك، وفي وسط أوروبا تترجم كتب المذاهب الإسلامية، وفي إنجلترا يترجم مثلها.
ولندع الذين يسمون بالمستشرقين وأكثرهم لغويون، وليسوا فقهاء، وأكثرهم يتعرضون للفقه على غير بَيِّنَةٍ، ومن غير سلطان من العلم، وبقلب لا يرجو للإسلام وقارًا بل يتتبع الأوهام ليجعل منها حقائق، يحرفون القول عن مواضعه، لندع هؤلاء فهم أعجز من أن ينالوا من هذا الدين الشامخ العظيم.
وإن المنصفين منهم عدد قليل. وهو يحاولون أن يفهموا الفقه الإسلامي كما هو، على أنه قانون إنساني عادل يصلح غذاء للمادة القانونية في هذا العالم.
وإذا كان ذلك الفقه العظيم يسير في طريق يضع المغرضون فيه الأشواء والأحجار في أوروبا لمنعوا أقوامهم عنه، فإن المؤتمرات القانونية استطاعت بإرشاد علماء المسلمين، وإرادات طلاب الحقائق، أن يقرروا إقرارًا متواضعًا بأن يعترفوا بأنه شريعة قائمة بذاتها صالحة للتطبيق ومعالجة أدواء العالم الاجتماعية.
وإذا كان القرار متواضعًا لا يخرج عن الصلاحية، فإن ابتداء له خط يسير فيه إلى الانتهاء. «وَأَوَّلُ الغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْهَمِرُ» .
الأئمة:
6 -
برز أولئك الأئمة في التاريخ الإسلامي على أنهم شراح الفقه الإسلامي، وَمَتْنُهُ كتاب الله تعالى وَسُنَّةُ رسوله - صَلََّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما نقل عن أصحابه رضي الله عنهم، وهي شاهد النور، ومطلع الرسالة ومنار الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وما فرضوا هذه الآراء على الأجيال، بل قدموها لهم على أن ما كان من النصوص فله حكمها لا تغيير فيه ولا تبديل، وقد أجمعوا عليه، إلا ما يكون النص فيه قابلاً للاختلاف في فهمه.
أما ما يكون رأيًا فإنه رأي يقدم ليدرس، ويقول أبو حنيفة وهو ممن أكثر من الرأي، وَقَدَّرَ مسائل واستنبط حكمها: وهذا أحسن ما وصلنا إليه فمن رأى خيرًا منه فليأخذ به.
ويقول وقد سئل عما استنبطه من فقه:
وكلهم وحالهم جميعًا تصورها مقالة الفقهاء على لسان كل واحد منهم: «رَأْيُنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الخَطَأَ، وَرَأْيُ غَيْرِنَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ» .
غير أن الأئمة الأعلام منهم من طُوِيَ مذهبه في لجة التاريخ، كالأوزاعي فقيه الشام الذي عاصر أبا حنيفة، وكابن شبرمة فقيه البصرة
وقاضيها، وكابن أبي ليلى فقيه الكوفة وقاضيها، وكالليث بن سعد فقيه مصر الذي قال فيه الشافعي:«إِنَّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إِلَاّ أَنَّ أَصْحَابَهُ لَمْ يَقُومُوا بِهِ» .
وغيرهم كثير، لا تجد لهم مذهبًا مدونًا قائمًا بذاته، وقد تجد لهم أقوالاً كثيرة مدونة في كتب غيرهم من أصحاب المذاهب، وخصوصًا أهل المذهب الحنفي، ومن ذلك " اختلاف [أبي حنفية] وابن أبي ليلى "(*) لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة و" الرد على سير الأوزاعي " له رضي الله عنهما. وتجد آراء مبثوثة لهؤلاء الأئمة في الفقه الإسلامي المقارن، ككتاب " المغني " لابن قدامة، و" المحلى " لابن حزم، و" بداية المجتهد " لابن رشد، و" المجموع " للنووي "، و" المبسوط " (1) للسرخسي.
وإن لواحد من هؤلاء الذين طوت لجنة التاريخ مذاهبهم، وهو الليث بن سعد رسالة قيمة في مجاوبة بينه وبين الإمام مالك تفيض علمًا، وقد تعرضت لمسائل فقهية كثيرة تناولها بعقل مدرك، وفقه عميق، وهي منبعثة من قلب مؤمن مخلص تفيض محبة ومودة لمالك الذي التقى به في العلم والمذاكرة (2).
وإن نسيان مناهج هؤلاء وما وصلوا إليه من حلول في الفروع سببه أمران:
(1) في الأصل: المضبوط، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. اهـ. الناشر.
(2)
راجع الرسالة في " إعلام الموقعين " لابن القيم.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)" اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى "، للإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، عني بتصحيحه والتعليق عليه أبو الوفاء الأفغاني، المدرس بالمدرسة النظامية بالهند، عنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، الطبعة الأولى، أشرف على طبعه رضوان محمد رضوان وكيل لجنة إحياء المعارف العثمانية، مطبعة الوفاء 1358 هـ.
أحدهما - أن أكثرهم لم يكن مقيمًا في مدينة يقصد إليها للعلم، ويفد إليها التلاميذ، فدمشق في عهد الأوزاعي، كان العل قد رحل منها إلى المدينة وبغداد، ومصر في الوقت الذي كان فيه الليث لم تكن قد صارت منتجعًا للعلم إلا ما كان من تلاميذ الإمام مالك الذين كانوا يغالبون أصحاب الليث حتى غلبوهم.
الثاني - أنه لم يكن له تلاميذ أقوياء ينشرون في الأقاليم آراءهم، ويخدمونها بالتدوين أو الفحص والجمع والرواية، ويقربونها إلى الناس، ويجعلونها دانية القطوف، ولم يكن ثمة سلطان يؤيدها.
7 -
انحسرت موجة التاريخ عن ثمانية مذاهب معروفة دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ. ودرست من التلاميذ في الأماكن التي انتشرت فيها تلك المذاهب، وبعضها كثر عدد معتنقيه، وبمقدارهم كان الدرس والفحص، وبعضهم تعددت أماكنه، وحيثما حل تأثر بعادات الإقليم وعرفه، وذلك في غير ما ثبت بالنص كما ترى في المذهب الحنفي، في اختلاف العادات بين فقه أرض الروم، وما وراء النهر، والعراقين، والاختلاف فيه أعراف لا اختلاف فقه.
وكما ترى في مذهب مالك بين اختلاف المغرب، ومن كان من أتباعه في العراق وهكذا، وكان ذلك في فروع جزئية، وكما نرى في اختلاف المذهب الشافعي (1) بين الخراسانيين والعراقيين.
(1) في الأصل: المذهب الحنبلي، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه. اهـ. الناشر.
وإنك لترى هذه المذاهب تجري كالأنهار في الأقطار. فيحمل ماؤها بعض لون المجرى الذي يجري فيه. وتلك المذاهب الثمانية التي سجلت في التاريخ هي:
المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، وهذه كما يعبر الفقهاء «مذاهب الأمصار» ، أي أنها التي انتشرت في الأمصار الإسلامية، ولا يخلو مصر منها، فلا يمكن أن يوجد مصر إسلامي خَالٍ منها وقد يخلو من بعضها، ولا يخلو من كلها.
وهناك مذاهب أربعة أخرى قد يخلو مصر منها جميعًا، ولكن لا تخلو البلاد الإسلامية منها، فهي منثورة في أقاليم إسلامية مختلفة، وأحسب أنها أقلية في أكثرها.
وتلك المذاهب هي مذهب الإمام زيد بن علي زين العابدين المتوفى سنة 122 هـ، وهو أقرب مذاهب آل البيت إلى مذاهب الأئمة الأربعة، بل إن المخرجين فيه في خراسان كانوا إذا لم يجدوا نصًا مأثورًا عن الإمام زيد، أخذوا باجتهاد أبي حنيفة رضي الله عنهما وهو منتشر في اليمن وخراسان.
والمذهب الثاني مذهب الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر، وقد توفي أبو عبد الله سنة 148 هـ، وقد أخذ عنه الإمام أبو حنيفة، وروى عنه أحاديث.
وارجع إلى كتاب " الآثار " لأبي يوسف وكتاب " الآثار " لمحمد - تجد فيهما رواية أبي حنيفة عن الإمام الصادق رضي الله عنه. وقد قال فيه أبو
حنيفة: ما رأيت أحدًا أعلم باختلاف الناس من جعفر بن محمد، وهو منتشر في شيعة العراق، وإيران، وبعض أندونيسيا وباكستان والهند.
والمذهب الثالث: مذهب داوود الأصفهاني الظاهري، الذي كان تلميذًا للشافعي رضي الله عنه وهو الذي قصر الاستنباط الفقهي على النصوص، وإقامة على القرآن، وعلى السنة دون غيرهما. وقد دون المذهب من بعده ابن حزم، وشدد في التمسك بالنص أشد من داوود، وألف في ذلك كتابه " المحلى "، وإنه وإن كان المذهب لا يعلم من يعمل به بعد عصر الموحدين في الأندلس، فهو جامع للفقه الإسلامي، وهو ديوان من دواوينه، كما سماه هو.
والمذهب الرابع: هو مذهب الإباضية، وينسب إلى عبد الله بن إباض، وهو مذهب يقوم على أحاديث رسول الله تعالى، ولا يخالف مذهب السنة إلا في الفروع.
والتاريخ الإسلامي يذكر أن عبد الله بن إباض كان من الخوارج المعتزلة الذين لا يكفرون المسلمين لما يزعمونه من أخطائهم، بل إنهم يقولون إنهم كفار نعمة.
ولكن أتباعه الذين يقيمون في بعض الجزر والواحات يقولون إنه كان تابعيًا ولم يكن خارجيًا، ومهما يكن الشأن في أمره، فإن له مذهبًا مدونًا خصبًا، وقد قبس منه ومن غيره قانون الميراث الصادر بمصر برقم 77 لسنة 1943 وإن كان قليلاً.
الأئمة الأربعة:
8 -
إن أولئك الأعلام كتب أتباعهم مناقب لهم، ولا يخلو إمام من الأربعة، ومن ذكرناهم قبلهم من مناقب كتبت لهم، وهي تصلح مصادر عن أحوالهم، ولا يصلح تاريخًا يؤخذ مسلسلاً عن أدوار حياتهم، ومجموع دراساته، ونشر مذاهبهم.
وذلك لأن هذه المناقب تختلط فيها المبالغات المختلفة بالحقائق المقررة الثابتة، كما ترى في " مناقب الإمام الشافعي " للإمام الرازي (1) و" مناقب أبي حنيفة " للمكي (2) وغيرهم. وأيضًا فهي مجموعة من المعلومات المنثورة تحتاج إلى تنظيم وترتيب علمي وتبويب، وهي ثالثًا لا تتجه إلى رد المسببات إلى أسبابها، فلا تكاد تجد من بينها تحليلاً علميًا دقيقًا، مرتبطًا بالعصر ارتباطًا وثيقًا، وتقرأ المناقب فتحسب أن علم الأئمة - رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - كان علمًا لا سبب له إلا أنفسهم، وكأنه لَدُنِّي.
ولكن في القرن الأخير اتجهت الدراسات لتاريخ الأئمة، فابتدأت دراستها بطريقة علمية ترد المسسببات إلى أسبابها، والآثار إلى ما أثر فيها.
ولعل أول كتاب رأيته هو كتاب " المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين " للكتاب أحمد تيمور رحمه الله
(1) في الأصل: " مناقب الإمام الرازي " للإمام الشافعي، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه. اهـ. الناشر.
(2)
الأصل: " مناقب المكي " لأبي حنيفة، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. اهـ. الناشر.