الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنها تتفق في القول بأن ظاهرة الإرهاب مركبة معقدة ولها أسباب كثيرة ومتداخلة، بعضها واضح وطاف فوق السطح، والبعض الآخر خفي غائص في الأعماق، وبعضها عام على المستوى الدولي، والبعض الآخر على المستوى المحلي في كل دولة، بل وتتنوع الاستنتاجات بحسب اختصاص الباحثين؛ إذ يركز البعض على بعض تلك الأسباب دون الآخر، فأهل التوجه الاقتصادي يركزون على الأسباب الاقتصادية، والاجتماعيون يركزون على الأسباب الاجتماعية، وهكذا السياسيون والمختصون في الشئون الأمنية، يردونها إلى أسباب أمنية، وهكذا. وهناك من يرفض عزو أسباب الإرهاب إلى الأسباب المادية الخارجية، ويجعلها أسبابا نفسية فقط متعلقة بتكوين شخصية المجرم، أي إنها استعداد نفسي عند من يقوم بالعمليات الإرهابية، وأن الأسباب الأخرى ما هي إلا مثيرات لذلك الاستعداد النفسي، ويستدلون على ذلك بأن هناك مجتمعات يعاني الفرد فيها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ومع ذلك تخلو من الإرهاب بشتى أنماطه وصوره، ولكن متى ما وجد الاستعداد الذاتي، ووجد المثير والمحفز كان ارتكاب جريمة الإرهاب.
ولكن الأكثر تعقيدا أولئك الذين يردون أسباب الإرهاب إلى أسباب دينية وثقافية فقط، أي إن الدين والثقافة هما محركا الإرهاب. وعلى الرغم من خطأ هؤلاء في توجههم وتصورهم، فقد تبنت بعض المنظمات هذا التوجه، وجعلت دين المتهمين بالإرهاب وثقافتهم عدوين لتلك الدولة أو ذلك المجتمع، وصنفوا معتنقي ذلك الدين من الأعداء والإرهابيين وهذا شيء غريب! ومع الأخذ في الحسبان كل ما ذكر، فإني سأجمل الأسباب التي ذكرها بعض الباحثين في هذا المجال، منطلقا في ذلك من بعدين رئيسين؛ هما:
أ- البعد المحلي للدول، وهو
المستوى الداخلي
لكل دولة.
ب- البعد العام، وهو المستوى الدولي.
[المستوى الداخلي]
أ- البعد المحلي: المستوى الداخلي: يعزو بعض الباحثين أسباب الإرهاب إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان، والمؤثرات
التي تتدخل في تكوين نمط حياته أو تؤثر فيها. وقد قسمت تلك الأسباب عناصر كثيرة، أجملها في الأسباب الرئيسة الآتية: -
1 -
الأسباب التربوية والثقافية: التربية والتعليم هما أساس تثبيت التكوين الفطري عند الإنسان «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» . فأي انحراف أو قصور في التربية يكون الشرارة الأولى التي ينطلق منها انحراف المسار عند الإنسان، والفهم الخاطئ للدين يؤدي إلى خلق صورة من الجهل المركب، ويجعل الفرد عرضة للانحراف الفكري والتطرف في السلوك، وتربة خصبة لزرع بذور الشر وقتل نوازع الخير، بل ومناخا ملائما لبث السموم الفكرية من الجهات المغرضة، لتحقيق أهداف إرهابية.
ويقع عبء هذا الأمر ومسؤوليته على المؤسسات التي تتولى تربية الأفراد وتعليمهم وتثقيفهم في جوانب التكوين التربوي العام، أو التربوي الخاص كالتعليم الديني، سواء أكانت تلك المؤسسات ذات مسؤولية مباشرة- كمؤسسات التعليم العام والجامعي- أم ذات مسؤولية غير مباشرة كوسائل الإعلام بشتى أنواعها، وهذه المؤسسات مجتمعة هي المعنية بتنفيذ سياسات التعليم والتربية في مجتمعاتها، وإذا كان قصور تلك المؤسسات عن القيام بواجبها وأداء مهمتها في المجتمع يؤدي إلى قصور في التكوين التربوي الصحيح، فإن انحرافها يؤدي إلى أسوأ من تلك النتيجة؛ سواء أكان بالفعل أم برد الفعل، فحينما يتدنى مستوى الأداء في تلك المؤسسات، بدلا من ترقيته للذوق العام، وترسيخ القيم والمبادئ النبيلة بين الأفراد، وتنمية الوعي في تعظيم حرمة الدين والأموال والأنفس والأعراض والعقول، وتنمية مداركهم في السماحة والتخاطب والعمل على جمع الكلمة، فإن ذلك يوغر صدور المعتدلين، ويدفعهم إلى تبني مواقف متشددة وآراء متطرفة، فتسهم تلك المؤسسات بطريقة غير مباشرة في إذكاء نار الفتنة، وتهيئة جو التهييج نحو ظهور إرهاب فكري، وسخط وإثارة ضد مؤسسات الدولة وضد المجتمع، وهذا في حد ذاته دعوة إلى التطرف، واحتضان الانحراف الذي يقود إلى الإرهاب.
2 -
الأسباب الاجتماعية: المجتمع هو المحضن الذي ينمو فيه الإنسان، وتنمو فيه مداركه الحسية والمعنوية، ويتنفس هواءه، ويرشف من رحيقه، فهو المناخ الذي تنمو فيه عوامل التوازن المادي والمعنوي لدى الإنسان. وأي خلل في تلك العوامل، فإنه يؤدي إلى خلل في توازن الإنسان في تفكيره ومنهج تعامله، فالإنسان ينظر إلى مجتمعه على أن فيه العدل وفيه كرامته الإنسانية، وحينما لا يجد ذلك كما يتصور فإنه يحاول التعبير عن رفضه لتلك الحالة بالطريقة التي يعتقد أنها تنقل رسالته. فعلى سبيل المثال: حينما لا تتكافأ الفرص بين المواطنين، ولا يكون التفاضل قائما على أسس ومعايير سليمة، أو عندما لا يكون العدل مقياسا للجمع بين المتساويين والتفريق بين المتفرقين، أو حينما يتسلط القوي على الضعيف، وغير ذلك من الأخطاء الاجتماعية، فإن ذلك يشكل إحباطا لفئات من المجتمع، فتحاول التعبير عن رفضها لتلك الممارسات بطريقة خاطئة غير رشيدة؛ لأن رد الفعل العكسي هو الذي يسوق ذلك الإنسان إلى كراهية المجتمع، ومحاولة الانتقام بالطريقة التي يراها مناسبة لرد ما يتصور أنه سلب منه.
فانتشار المشكلات الاجتماعية ومعاناة المواطنين دوافع إلى انحراف سلوكهم، وتطرف آرائهم وغلوهم في أفكارهم، بل ويجعل المجتمع أرضا خصبة لنمو الظواهر الخارجة على نواميس الطبيعة البشرية المتعارف عليها في ذلك المجتمع.
3 -
الأسباب الاقتصادية: الاقتصاد من العوامل الرئيسة في خلق الاستقرار النفسي لدى الإنسان؛ فكلما كان دخل الفرد يفي بمتطلباته ومتطلبات أسرته، كلما كان رضاه واستقراره الاجتماعي ثابتا، وكلما كان دخل الفرد قليلا لا يسد حاجته وحاجات أسرته الضرورية، كلما كان مضطربا غير راض عن مجتمعه، بل قد يتحول عدم الرضا إلى كراهية تقود إلى نقمة على المجتمع، خاصة إن كان يرى التفاوت بينه وبين أعضاء آخرين في المجتمع مع عدم وجود أسباب وجيهة لتلك الفروق، إضافة إلى التدني في مستوى المعيشة والسكن والتعليم والصحة، وغيرها من الخدمات الضرورية التي يرى الفرد أن سبب حدوثها
هو إخفاق الدولة في توفيرها له بسبب فشو الفساد الإداري، وعدم العدل بين أفراد المجتمع.
هذه الحالة من الإحباط والشعور السلبي تجاه المجتمع يولد عند الإنسان حالة من التخلي عن الانتماء الوطني، ونبذ الشعور بالمسئولية الوطنية، وعدم احترام ذلك الوطن والمواطن الذين يرى أنهما لم ينصفاه ولم يعطياه حقه، وأن الوطن لم يقم بالواجب نحو ذلك المواطن في سد معاناته ومعالجة فقره وعوزه، ولهذا يتكون لديه شعور بالانتقام، وقد يستثمر هذا الشعور بعض المغرضين، فيحسنون لذلك المحبط قدرتهم على تحسين وضعه الاقتصادي، دون أن ينظر في عبر التاريخ، وإلى ما حوله من المجتمعات، وما حل بها من جراء تلك الفئات التي تحمل فكرا غير سوي.
4 -
الأسباب السياسية: وضوح المنهج السياسي واستقراره، والعمل وفق معايير وأطر محددة يخلق الثقة، ويوجد القناعة، ويبني قواعد الاستقرار الحسي والمعنوي لدى المواطن، والعكس صحيح تماما، فإن الغموض في المنهج والتخبط في العمل، وعدم الاستقرار في المسير يزعزع الثقة، ويقوض البناء السياسي للمجتمع، ويخلق حالة من الصدام بين المواطنين والقيادة السياسية، وتتكون ولاءات متنوعة، وتقوم جماعات وأحزاب، فتدغدغ مشاعر المواطن بدعوى تحقيق ما يصبو إليه من أهداف سياسية، وما ينشده من استقرار سياسي ومكانة دولية قوية.
وهذا وجه من وجوه انتشار الإرهاب بسبب المنهج السياسي.
أما الوجه الآخر، فهو البحث عن المكاسب السياسية من خلال خلق الضغوط، مثل إقدام بعض الدول على احتضان بعض الجماعات أو الأفراد الخارجين على قوانين بلادهم، وتشجيعهم ومساعدتهم ماديا ومعنويا، وذلك تحقيقا لمكاسب سياسية، واستخدامهم- كما يقال- ورقة ضغط تلوح بها الدولة الحاضنة في وجه الدولة الأخرى متى ما أرادت، لتحصل من خلالها الدولة الحاضنة على تنازلات سياسية أو مكاسب اقتصادية من الدولة الأخرى، بل يصل الأمر ببعض الدول في بعض الحالات إلى
تدريب عصابات التخريب والإرهاب تحقيقا لأغراضها، ثم ما تلبث تلك الدولة أن تتفق مع الدولة الأخرى، فتعمل على إخراج تلك الجماعات من أراضيها، أو تحجيم نشاطها، أو منعها من العمل ضد تلك الدولة لينقلب السحر على الساحر، ويحصد الشر زارعه، والأمثلة على هذا النوع في التاريخ المعاصر، بل في الوقت الحاضر، كثيرة وواضحة. وقد يسمح لتلك العصابات والمخربين بالانتقال إلى دولة أو مجتمع آخر يعملون من خلاله.
5 -
الأسباب النفسية والشخصية: تتفاوت الغرائز الدافعة للسلوك البشري، فبعضها يدفع إلى الخير وأخرى تدفع إلى غير ذلك، ولهذا يوجد أشخاص لديهم ميول إجرامية تجعلهم يستحسنون ارتكاب الجرائم بصفة عامة، والجرائم الإرهابية بصفة خاصة، بل قد يتعطشون لذلك، وهؤلاء يميلون إلى العنف في مسلكهم مع الغير، بل مع أقرب الناس إليهم في محيط أسرهم، نتيجة لعوامل نفسية كامنة في داخلهم تدفعهم أحيانا إلى التجرد من الرحمة والشفقة، بل والإنسانية، وتخلق منهم أفرادا يتلذذون بارتكاب تلك الأعمال الإرهابية.
وهذه الأسباب النفسية قد ترجع إلى عيوب أو صفات خلقية أو خلقية، أو خلل في تكوينهم النفسي أو العقلي أو الوجداني، مكتسب أو وراثي.
وقد يكتسب الفرد الصفات النفسية من البيئة المحيطة به سواء في محيط الأسرة أو في محيط المجتمع؛ فكل خلل في ذلك المحيط ينعكس على سلوك ذلك الفرد وتصرفاته، حتى تصبح جزءا من تكوينه وتركيبه النفسي، ويعد الإخفاق في الحياة الأسرية من أهم الأسباب المؤدية إلى جنوح الأفراد واكتسابهم بعض الصفات السيئة، بل وفشلهم في التعليم الذي يعد صمام الأمان في الضبط الاجتماعي، ومحاربة الجنوح الفكري والأخلاقي لدى الفرد، والإخفاق في الحياة يكون لدى الإنسان شعورا بالنقص وعدم تقبل المجتمع له. وقد يكون هذا الإحساس دافعا للإنسان لإثبات وجوده من خلال مواقع أخرى، فإن لم يتحقق له ذلك، فإنه يلجأ إلى التطرف؛ لأنه وسيلة سهلة لإثبات الذات حتى لو أدى به ذلك إلى ارتكاب جرائم إرهابية؛ لأن المهم