المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الاتجاه الوقائي التربوي: ويقصد به بناء المناعة الذاتية المدافعة للعوامل - نظرة في مفهوم الإرهاب والموقف منه في الإسلام

[عبد الرحمن المطرودي]

الفصل: ‌ ‌الاتجاه الوقائي التربوي: ويقصد به بناء المناعة الذاتية المدافعة للعوامل

‌الاتجاه الوقائي

التربوي: ويقصد به بناء المناعة الذاتية المدافعة للعوامل المسببة لخروج السلوك البشري عن جادة الصواب. وقد يطلق على هذا الاتجاه اتجاه تجفيف المنابع التي تولد الإرهاب، ويتمثل ذلك في غرس الفضائل، وتربية النفس على الآداب الخيرة، والالتزام بالأحكام الشرعية، والتمسك بكل ما يصون محركات السلوك البشري ويمنعها من السير في طريق غير سليم.

وأما الاتجاه الثاني، فهو اتجاه المعالجة، ويتمثل فيما شرعه الله من أحكام وتشريعات عقابية رادعة، وهذه الأحكام تتضمن بعدين أساسيين. بعد تطهير النفس البشرية وتخليصها من عقدة ارتكاب الذنب. أما البعد الآخر، فيتمثل في ردع من يرتكب جريمة من العودة إلى مثلها وزجر الآخرين من الوقوع في ذلك الخطأ، وهذا بعد وقائي؛ كما في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179][البقرة: 179] ، أي إن في تطبيق حكم القصاص ما يمنع بعضكم من قتل بعض مخافة أن يقتص منه، فيحييا بذلك معا.

لذا فإن موقف الإسلام من الإرهاب موقف أزلي يجمع بين الوقاية والمعالجة للمخالفات التي قد تكون سببا في مزيد من الإرهاب والعنف.

[الاتجاه الوقائي]

أ- الاتجاه الوقائي التربوي: فيما يأتي ذكر لبعض المعايير والتوجيهات الإسلامية في مجال الوقاية من جميع أنواع الإرهاب والعنف والاعتداء، وهي: -

1 -

دعوة الإسلام إلى السلام: الإسلام هو دين السلام لجميع البشر، فلا يجتمع مع العنف والاعتداء؛ لأنهما ضدان متناقضان، والمسلمون مأمورون بالبداءة بالسلام لكل من يقابلهم، وهي كلمة أمان ورحمة واطمئنان، وإشاعة للأمن بين الناس جميعا، فلا يجتمع الضدان: السلام والعنف، بل إن المسلمين مأمورون بالبحث عن السلام والجنوح إليه إذا جنح العدو إليه ورغب فيه، وذلك في حال الحرب المعلنة، فكيف بغير ذلك قال تعالى:

ص: 38

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 61 - 62][الأنفال: 61، 62] .

ومما امتن الله به على عباده نعمة الأمن، وهي من أجل النعم التي أنعم الله بها عليهم؛ قال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4][قريش: 3، 4] .

2 -

إشاعة العدل في كل شيء العدل من العوامل الرئيسة، والآداب السامية، والأخلاق الرفيعة التي تؤدي إلى الوقاية من الظلم والطغيان، وبالتالي تقطع الطريق على التطرف والإرهاب؛ لأن عدم العدل بين الناس هو من أسس نشأة الإرهاب، لأن المظلوم أو المقهور إن لم يستطع نيل حقه بالطرق المشروعة، فقد يعلن عن غضبه بقيامه برد الظلم بمثله، ومن هنا ينشأ الإرهاب المضاد. ولذلك كان أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل صريحا، حيث قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90][النحل: 90] .

ولمعنى العدل في الإسلام مفاهيم كثيرة، والمعنى في هذه الآية هو الحكم المنصف، أي: أداء كل شيء إلى من هو له على وجه الإنصاف، أو إيفاء الناس حقوقهم التي تجب (1) .

ولم يفرق الإسلام بين الناس في مسألة العدل بسبب الجنس أو الديانة أو العرق، فحقوق الإنسان مكفولة في الإسلام باعتبار أن كل البشر عند الله بمكانة واحدة من حيث العدل بينهم، ولا تمييز بين الناس إلا في مسألة الطاعة لله سبحانه وتعالى والتقوى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13][الحجرات: 13] .

وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم، وآدم من تراب» .

وانطلاقا من مبدأ إنسانية الإسلام وعالميته، فإن الله يأمر المسلمين بالعدل الشامل الكامل، حتى مع من يسيئون إليهم؛ لأن العدل حق لله، ولا ينبغي تجاوزه:

(1) محمد عطا أحمد يوسف: العدل في القرآن الكريم (القاهرة، د. ت) ، ص 50، والتعريف للإمام الطبري.

ص: 39

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8][المائدة: 8] .

يقول الإمام الطبري: "يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولاياتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري، ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة، واعدلوا أيها المؤمنون على كل أحد من الناس وليا لكم كان أو عدوا، فاحملوهم على ما أمرتم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه "(1) . وهذا هو عدل الإسلام في أحكامه مع جميع الناس.

3 -

دعوة الإسلام إلى التراحم بين الناس: الإسلام دين الرحمة، والرحمة ضد القسوة، فالرحمة من الصفات الفطرية في الخلق عامة، بل إنها من كمال فطرة البشر، وقد جعل المولى سبحانه وتعالى الرحمة غاية رئيسة في الإسلام بعد توحيد الله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107][الأنبياء: 107] أي رحمة للبشرية كلها. وجاءت تعاليمه كلها رحمة وشفاء لما في الصدور، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57][يونس: 57] . وخاطب المولى سبحانه رسوله الكريم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159][آل عمران: 159] ، وهذه إبانة أن الشدة والغلظة والعنف سبب رئيس من أسباب التفرق والتشتت وعدم الاجتماع، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على هذا الخلق القويم، فقال عليه الصلاة والسلام:«من لا يرحم لا يرحم» [رواه البخاري]، وقال:«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» . [رواه أبو داود والترمذي] ، فالرحمة تكون لجنس من في الأرض جميعا دون تفريق بسبب من الأسباب.

(1) الإمام الطبري، تفسير الطبري، 10/ 7.

ص: 40

4 -

الحرية وتحمل المسئولية: الإسلام يحارب الإكراه بكل صوره وأشكاله؛ لأن الإكراه يؤدي إلى نقيض المطلوب، وإلى شيوع النفاق الذي هو قاعدة الغدر والخيانة والتربص؛ لأن الإكراه ضرب من ضروب الإرهاب، حتى في مسألة اعتناق الإسلام لم يشرع المولى سبحانه إكراه الناس على ذلك، فقال سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256][البقرة: 256] ؛ لأن الإيمان قناعة وقبول قلبي، والقلب لا سلطان عليه إلا لخالقه الذي يقول:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24][الأنفال: 24] . والقناعة الذاتية وحرية الإنسان في الاختيار تجعله طبيعيا يتحمل المسئولية، ويكون إيمانه قويا، يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125][النحل: 125] ، بل إن المكره لا يحاسب في الإسلام عما يفعل حال الإكراه المؤدي إلى ضرر يلحق به.

5 -

خلق التعامل مع غير المسلمين في الإسلام: لقد سمت شريعة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين سموا لم يرق إليه قانون من القوانين البشرية أو نظام من الأنظمة؛ إذ حفظ لهم الإسلام حقوقهم المالية والأخلاقية والاجتماعية، كما حفظ أموالهم وأرواحهم وأعراضهم، ولم يكرههم على ترك دينهم أو ما هو أدنى من ذلك، فخاطب القرآن الكريم أهل الكتاب خطابا راقيا بقوله سبحانه وتعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64][آل عمران: 64] ، فهذا تشريع الإسلام في الدعوة، ذلك التشريع القائم على مبدأ الحوار والإقناع بالحجة دون إكراه. وقال صلى الله عليه وسلم في حق أهل الكتاب:«لهم ما لنا وعليهم ما علينا» [مسند أحمد] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى يهوديا مسنا يسأل الناس ما معناه: " والله ما أنصفناه؛ أخذنا منه في شبيبته وننساه في شيبته، اضربوا له من بيت المال ". أي: اجعلوا له خراجا يعيش منه.

ص: 41

ووجه القرآن الكريم إلى حسن معاملتهم والتعامل معهم، بل برهم والقسط إليهم، يقول المولى سبحانه وتعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8][الممتحنة: 8] ، وأعطى لهم المولى سبحانه وتعالى حق الاستجارة بالمسلمين، قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6][التوبة: 6] ، ليس لأن تمن عليه أو تستغل ضعفه لأي شيء آخر، إنما لقصد سماعه كلام الله، وقال صلى الله عليه وسلم في ذلك:«ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» [سنن أبي داود]، وقال عليه الصلاة والسلام:«من آذى ذميا فأنا خصيمه، ومن كنت خصيمه خصمته يوم القيامة» . وحرم الله سبحانه وتعالى قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فحرمة الأنفس على إطلاقها مكفولة في الشريعة الإسلامية، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33][الإسراء: 33]، وقال صلى الله عليه وسلم:«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» . [صحيح البخاري] .

6 -

الدعوة إلى الوسطية والاعتدال وعدم الغلو في الدين: الغلو في الدين هو الطريق إلى التطرف الفكري والاعتقادي. والفهم الخاطئ للدين قد يدفع الإنسان إلى محاولة فرض ما يعتقده ويؤمن به بالقوة، وهذا ما أثبته الواقع المشاهد.

وقد نهت الشريعة الإسلامية عن الغلو في الدين، وحذرت المسلمين منه حتى لا ينجرفوا وينحرفوا، فجعل الله هذه الأمة وسطا؛ لأن دينهم كذلك، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143][البقرة: 143]، ومثل هذا التوجيه جاء صريحا لأهل الكتاب؛ قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77][المائدة: 77] . فالغلو خلاف الوسطية، فإذ كانت الوسطية تعني الاعتدال والتوازن في الأمور كلها، فإن الغلو يعني الشقة والتضييق على النفس باتباع طريق

ص: 42

واحد بعيدا عن الوسط، ووسطية الإسلام توازن بين الأحكام، فلا غلو وتشدد، ولا تفلت ولا تسيب، فلا إفراط ولا تفريط في الإسلام، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل العملي في ذلك مع بعض الصحابة الذين شددوا على أنفسهم بحثا عن المزيد من الطاعة، فقال أحدهم: أصوم الدهر كله ولا أفطر، وقال الآخر: أقوم الليل كله ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا درسا عميقا في الوسطية والاعتدال، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» [صحيح البخاري] ، حيث إن ذلك بعيد عن روح الإسلام ومبادئه التي بنيت على التيسير وعدم التنفير (1) وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم، وقد قال سبحانه وتعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6][المائدة: 6]، وقال جل شأنه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78][الحج: 78]، وقال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185][البقرة: 185] . ووسطية الإسلام تحصين للمجتمع من الإفرازات التي يمكن أن توجد بسبب التضييق من المتطرفين الذي يعتمدون على نظرة ضيقة للكون وللحياة، وينطلقون منها إلى تخطئة كل رأي مخالف لهم باسم الدين، ويدينون كل فكر مخالف لفكرهم باسم الدين، الأمر الذي ينتهي بهم إلى تكفير الناس، بل والنيل من أعراض العلماء، ووصمهم بصفات غير لائقة، فالغلو في الدين باب إلى التطرف الذي يقود إلى العنف والسعي إلى إلزام المخالف رأيه بالقوة.

7 -

علو مكانة النفس في الإسلام: إن الإسلام قد كرم ابن آدم وأنزله منزلة رفيعة بما حباه الله من طاقات عقلية ونفسية، وبما أعطاه من قوام جميل وصورة حسنة لا يماثله فيها أحد من خلق الله عز وجل على وجه الأرض.

إن الإنسان هو الكائن المفضل الذي كتب الله له أن يتبوأ الصدارة والمكانة الرفيعة بين الخليقة والكائنات جميعا، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70][الإسراء: 70] .

(1) محمد بن علي بن محمد الشوكاني، نيل الأوطار (الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1402 هـ/ 1982 م) ، ج 6، ص 103.

ص: 43

يقول الفخر الرازي في تعليقه على الآية: "فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي، وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي "(1) .

8 -

تحريم قتل النفس: حرم الإسلام قتل النفس وسفك الدم المعصوم، وجعل ذلك من كبائر الذنوب؛ قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33][الإسراء: 33] ، " والقتل ظلما أكبر الكبائر بعد الكفر، وموجب لاستحقاق العقوبة في الدنيا والآخرة "(2) .

وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32][المائدة: 32]، وقال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93][النساء: 93]، وجعل من صفات المؤمن عدم القتل؛ قال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68][الفرقان: 68]، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:"دلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا"(3) .

ومن السنة ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. . .» (4) .

وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» ، وقال ابن عمر رضي الله عنه:"إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله "(5) ولو اشترك أهل السماء والأرض في قتل رجل واحد، لكان ذلك موجبا لدخولهم النار جميعا، روى الإمام الترمذي:«لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» (6) .

(1) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، 21/ 12، ومعنى قوله:"العالم السفلي" أي في الأرض.

(2)

محمد بن أحمد بن حمزة الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مج 7، (القاهرة: المكتبة الإسلامية، 1358 هـ/ 1939 م) ، ص 233.

(3)

محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، المجلد 7، جـ 13، ص 76.

(4)

صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الحدود، 12/ 188، الحديث رقم (6857)، وانظر أيضا: صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، 2/ 444، رقم الحديث (145) .

(5)

صحيح البخاري مع فتح الباري، 12/ 188، كتاب الديات، حديث رقم (6862) .

(6)

رواه الإمام الترمذي في سننه، باب الحكم في الدماء، عن أبي سعيد الخدري (2/ 427، الحديث رقم (1419) وقال عنه: (هذا حديث غريب) والحديث صححه الشيخ الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 2/ 57.

ص: 44

9 -

تكوين روح التكافل بين أفراد المجتمع: من العوامل التي قد تدفع الإنسان إلى ارتكاب الجريمة: الفقر، وعدم وجود عدل في الأمور الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات بعضها مع بعض، وقد جاء الربط بين الفقر وارتكاب جريمة القتل في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151][الأنعام: 151]، وفي تفسيرها يقول الإمام الطبري:"ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافون بحياتهم على أنفسكم العجز على أرزاقهم وأقواتهم ".

وما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شيء أكثر من استعاذته من الفقر، الذي جاء في بعض الآثار ما يفيد أن الفقر من أسباب الكفر.

ومعالجة لهذا العامل فقد جاء في التشريع الإسلامي كثير من التوجيهات والوصايا لمعالجة مشكلة الفقر، فشرعت الزكاة والوقف والصدقات والكفارات وغيرها من الواجبات في أموال الناس عامة وتصرف على الفقراء حسب أحكامها وشروطها. كما أوجب على الدولة السعي إلى رزق الفقراء والمحتاجين، وتنظيم معيشتهم، وتدبير سكنهم وتعليمهم وعلاجهم، وغير ذلك من الواجبات الاجتماعية على الدولة.

10 -

صيانة الروابط الاجتماعية من عوامل البغضاء والشحناء: يحتل بناء الروابط الاجتماعية في الإسلام مكانة مهمة. ولهذا سعى إلى العمل على صيانتها ومعاجلة العوامل التي تهدد تماسكها وترابطها، وتقود إلى الشقاق والمنازعات والعداوة والبغضاء، مما يعرض الأمن العام للخطر.

ومن أهم العوامل التي تؤثر سلبا في العلاقات الاجتماعية الإشاعة، وهي بث الأخبار بقصد الإفساد مباشرة، أو بشكل غير مباشر، ولهذا وضع الإسلام منهاجا خاصا لتلقي الأخبار، وذلك لأن الشائعات تزعزع الأمن والاستقرار، وتحدث الفوضى من الهرج والمرج في المجتمع، بل قد تكون سببا في حدوث كوارث ونكبات

ص: 45