المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١٨

[ابن جرير الطبري]

فهرس الكتاب

- ‌(28) }

- ‌(29) }

- ‌(30) }

- ‌(31) }

- ‌(32)

- ‌(34) }

- ‌(35)

- ‌(37)

- ‌(39) }

- ‌(40)

- ‌(42) }

- ‌(45) }

- ‌(46) }

- ‌(47)

- ‌(49) }

- ‌(50) }

- ‌(51) }

- ‌(52)

- ‌(54) }

- ‌(55) }

- ‌(56) }

- ‌(57) }

- ‌(58) }

- ‌(59) }

- ‌(60) }

- ‌(61) }

- ‌(62) }

- ‌(63) }

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(71) }

- ‌(72)

- ‌(74) }

- ‌(75)

- ‌(77) }

- ‌(78) }

- ‌(80)

- ‌(82) }

- ‌(83) }

- ‌(84)

- ‌(86) }

- ‌(87) }

- ‌(89)

- ‌(92)

- ‌(95) }

- ‌(98) }

- ‌(99)

- ‌(101) }

- ‌(102) }

- ‌(103)

- ‌(105) }

- ‌(107)

- ‌(109) }

- ‌(110) }

- ‌ مريم

- ‌(1) }

- ‌(2)

- ‌(5)

- ‌(6) }

- ‌(7) }

- ‌(8) }

- ‌(9)

- ‌(11) }

- ‌(12)

- ‌(14)

- ‌(16)

- ‌(18)

- ‌(20)

- ‌(24)

- ‌(26) }

- ‌(27) }

- ‌(28) }

- ‌(29) }

- ‌(30)

- ‌(32)

- ‌(34) }

- ‌(35)

- ‌(37) }

- ‌(38) }

- ‌(39) }

- ‌(40) }

- ‌(43) }

- ‌(44) }

- ‌(47)

- ‌(49)

- ‌(51) }

- ‌(52)

- ‌(54) }

- ‌(55) }

- ‌(58) }

- ‌(59) }

- ‌(60) }

- ‌(61) }

- ‌(63) }

- ‌(65) }

- ‌(66)

- ‌(69) }

- ‌(70) }

- ‌(72) }

- ‌(73) }

- ‌(74) }

- ‌(75) }

- ‌(76) }

- ‌(77)

- ‌(79)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(87) }

- ‌(88)

- ‌(91)

- ‌(94)

- ‌(96)

- ‌(98) }

- ‌ طه

- ‌(1)

- ‌(4)

- ‌(6) }

- ‌(9)

- ‌(11)

- ‌(13)

- ‌(15)

- ‌(17) }

- ‌(19)

- ‌(22)

- ‌(24)

- ‌(31)

- ‌(36)

- ‌(38) }

- ‌(39) }

- ‌(41)

- ‌(44)

- ‌(46)

- ‌(51)

- ‌(52) }

- ‌(53) }

- ‌(54) }

- ‌(55) }

- ‌(57)

- ‌(59)

- ‌(61) }

- ‌(62)

- ‌(64) }

- ‌(65)

- ‌(67)

- ‌(70)

- ‌(72)

- ‌(74)

- ‌(77) }

- ‌(78)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(87) }

- ‌(88) }

- ‌(89)

- ‌(92)

- ‌(95)

- ‌(97)

- ‌(99)

- ‌(101)

- ‌(104) }

- ‌(108) }

- ‌(109)

- ‌(111) }

- ‌(112) }

- ‌(113) }

- ‌(114) }

- ‌(115) }

- ‌(116)

- ‌(118)

- ‌(121)

- ‌(123) }

- ‌(124)

- ‌(126) }

- ‌(127) }

- ‌(129)

- ‌(130) }

- ‌(131) }

- ‌(132) }

- ‌(133) }

- ‌(134) }

- ‌ الأنبياء

- ‌(1) }

- ‌(3) }

- ‌(4) }

- ‌(6) }

- ‌(7) }

- ‌(8) }

- ‌(9) }

- ‌(10) }

- ‌(11)

- ‌(13) }

- ‌(14)

- ‌(16) }

- ‌(17) }

- ‌(18) }

- ‌(19) }

- ‌(20)

- ‌(22) }

- ‌(24) }

- ‌(25) }

- ‌(28) }

- ‌(29) }

- ‌(30) }

- ‌(31) }

- ‌(32)

- ‌(34)

- ‌(36) }

- ‌(37)

- ‌(39) }

- ‌(42) }

- ‌(43) }

- ‌(44) }

- ‌(45) }

- ‌(46) }

- ‌(47) }

- ‌(48) }

- ‌(49) }

- ‌(53)

- ‌(58) }

- ‌(59)

- ‌(62)

- ‌(64)

- ‌(66)

- ‌(67) }

- ‌(71) }

- ‌(72)

- ‌(73) }

- ‌(74) }

- ‌(75) }

- ‌(78)

- ‌(80) }

- ‌(81) }

- ‌(82) }

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(87) }

- ‌(88) }

- ‌(89)

- ‌(91) }

- ‌(92) }

- ‌(94) }

- ‌(96) }

- ‌(97) }

- ‌(98) }

- ‌(99) }

- ‌(100)

- ‌(102) }

- ‌(104) }

- ‌(105) }

- ‌(106)

- ‌(108) }

- ‌(109) }

- ‌(112) }

- ‌ الحج

- ‌(1)

- ‌(3) }

- ‌(4) }

- ‌(6)

- ‌(9)

- ‌(11) }

- ‌(12) }

- ‌(13) }

- ‌(14) }

- ‌(16) }

- ‌(17) }

- ‌(23)

- ‌(24) }

- ‌(25) }

- ‌(26) }

- ‌(27)

- ‌(30) }

- ‌(31) }

- ‌(32) }

- ‌(33) }

- ‌(34) }

- ‌(35) }

- ‌(37) }

- ‌(39) }

- ‌(40) }

- ‌(41) }

- ‌(42)

- ‌(46) }

- ‌(47) }

- ‌(48) }

- ‌(52) }

- ‌(53) }

- ‌(54) }

- ‌(56)

- ‌(59) }

- ‌(61) }

- ‌(63) }

- ‌(64) }

- ‌(65) }

- ‌(66)

- ‌(68)

- ‌(70) }

- ‌(71) }

- ‌(72) }

- ‌(75) }

الفصل: القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‌

(83)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيوب يا محمد، إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء (رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له) يقول تعالى ذكره: فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا، فكشفنا ما كان به من ضرّ وبلاء وجهد، وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانًا من الله له واختبارًا.

وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام، قال: ثني عبد الصمد بن معقل (1)، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه، أنه كان صابرا نعم العبد، قال وهب: إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه، ثم تلقاه ميكائيل، وحَوْله الملائكة المقرّبون حافين من حول العرش، وشاع ذلك في الملائكة المقرّبين، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض، وكان إبليس لا يُحْجَب بشيء من السماوات، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن

(1) عبد الصمد بن معقل، بكسر القاف اليماني؛ يروى عن عمه وهب بن منبه وعنه ابن أخيه إسماعيل بن عبد الكريم وثقه أحمد. مات سنة ثلاث وثمانين ومئة. (عن الخلاصة) . وهذا الحديث من أحاديث أهل الكتاب، رواه وهب وكعب وغيرهما من أهل الكتاب، كما قال الثعلبي في عرائس المجالس (ص 153 - 163) طبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة. وأصله في الكتاب المقدس سفر أيوب (793 - 833) .

ص: 483

هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات، حتى رفع الله عيسى ابن مريم، فحُجِب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حُجِب من الثلاث الباقية، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) ولذلك أنكرت الجنّ ما كانت تعرف حين قالت:(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا)

إلى قوله (شِهَابًا رَصَدًا) .

قال وهب: فلم يَرُعْ إبليس إلا تجاوبُ ملائكتها بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة، أدركه البغي والحسد، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه، فقال: يا إلهي، نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجرّبه بشدة ولم تجرّبه ببلاء، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينك وليعبدنّ غيرك، قال الله تبارك وتعالى له: انطلق، فقد سلطتك على ماله، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني، ليس لك سلطان على جسده، ولا على عقله، فانقض عدوّ الله، حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم، وكان لأيوب البَشَنِية من الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها، وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، وحمل آلة كل فدان أتان، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، فلما جمع إبليس الشياطين، قال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإني قد سُلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورُعاتَها، فانطلق يؤمّ الإبل، وذلك حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يُحْرقها ورعاتَها حتى أتى على آخرها، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قَعود منها

ص: 484

براعيها، ثم انطلق يؤمّ أيوب حتى وجده قائما يصلي، فقال: يا أيوب، قال: لبيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك؟ الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها، قال أيوب: إنها ماله أعارنيه، وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما ما وطَّنْت نفسي ومالي على الفناء، قال إبليس: وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتُها، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها، فتركت الناس مبهوتين، وهم وقوف عليها يتعجبون، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو فعل الذي فعل ليُشمت به عدوه، وليفجع به صديقه، قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني، عُرْيانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك، وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح، فآجرني فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرّا فأخرك من أجله، فعرّاك الله من المصيبة، وخلصك من البلاء كما يخلص الزُّوان من القمح الخلاص.

ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت من عظمائهم عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتَها، فانطلق يؤمّ الغنم ورعاتها، حتى إذا وَسَطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءَها، ثم خرج إبليس متمثلا بقَهْرمان الرّعاء (1) ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي، فقال له القول الأوّل، وردّ عليه أيوب الرّد الأوّل، ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه، فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه، حتى لا أبقي شيئا، قال له

(1) المراد بقهرمان الرعاء: وكيل صاحب المال، المختص بتدبير أمر الدعاء.

ص: 485

إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم، وذلك حين قَربوا الفَدَادين وأنشئوا في الحرث، والأتن وأولادها رُتوع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن، ثم خرج إبليس متمثلا بقهْرمان الحَرْث، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، ورد عليه أيوب مثل ردّه الأوّل.

فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله، ولم ينجح منه، صعد سريعا، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه، فقال: يا إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده (1) ، فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده؟ فإنها الفتنة المضلة، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال، ولا يقوى عليها صبرهم، فقال الله تعالى له: انطلق، فقد سلَّطتك على ولده، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده، ولا على عقله، فانقضّ عدو الله جوادا، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح الجُدُر بعضها ببعض، ويرميهم بالخشب والجندل، حتى إذا مَثَّل بهم كل مُثْلة، رفع بهم القصر، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه منكَّسين، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلِّم الذي كان يعلمهم الحكمة، وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، متغيرا لا يكاد يُعرف من شدّة التغير، والمُثْلة التي جاء متمثلا فيها، فلما نظر إليه أيوب هاله، وحزن ودمعت عيناه، وقال له: يا أيوب، لو رأيت كيف أفلتّ من حيث أفلت، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا، ولو رأيت بنيك كيف عُذّبوا، وكيف مُثِّل بهم، وكيف قُلِبوا فكانوا منكَّسين على رءوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم، وتقطر من أشفارهم، ولو رأيت كيف شُقَّتْ بطونهم، فتناثرت أمعاؤهم، ولو رأيت كيف قُذِفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم، وكيف دقّ الخشب عظامهم، وخرق جلودهم، وقطع عصبهم، ولو رأيت العصب عريانا، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف، ولو رأيت الوجوه مشدوخة، ولو رأيت الجُدُر تَناطَحُ عليهم، ولو رأيت ما رأيت، قطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه، ولم يزل يرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى، وقبض قبضة

(1) انظر عبارة الثعلبي المفسر في هذا المقام في عرائس المجالس، ص 155 فإنها أوضح وأدق.

ص: 486

من تراب، فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس (الفرصة منه)(1) عند ذلك، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر، وصَعَد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه، فبدروا إبليس إلى الله، فوجدوه قد علم بالذي رُفع إليه من توبة أيوب، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال: يا إلهي، إنما هوّن على أيوب خَطَر المال والولد، أنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلِّطي على جسده؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك، وليكفرنّ بك، وليَجْحَدنَّكَ نعمتك، قال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، ولا على عقله.

فانقضّ عدوّ الله جوادا، فوجد أيوب ساجدا، فعجَّل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قِبَل الأرض في موضع وجهه، فنفخ في منخره نفخه اشتعل منها جسده، فترهل، ونبتت (به) : ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكّ بالعظام، وحكّ بالحجارة الخشنة، وبقطع المُسوح الخشنة، فلم يزل يحكه حتى نَفِد لحمه وتقطع، ولما نَغِلَ جلد أيوب وتغير وأنتن، أخرجه أهل القرية، فجعلوه على تلّ وجعلوا له عريشا، ورفضه خلق الله غير امرأته، فكانت تختلف إليه بما يُصلحه ويلزمه، وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه، يُقال لأحدهم بلدد، وأليفز، وصافر (2)، قال: فانطلق إليه الثلاثة، وهو في بلائه، فبكتوه: فلما سمع منهم أقبل على ربه، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ربّ لأيّ شيء خلقتني؟ لو كنتَ إذْ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني، يا ليتني كنت حَيْضة ألقتني أمي، ويا ليتني مِتّ في بطنها، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري، وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي، فأسوة لي بالسلاطين الذي صُفَّت من دونهم الجيوش،

(1) انظر عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص 155.

(2)

وردت أسماء أصحاب أيوب الثلاثة في الكتاب المقدس ص 795 وهو: أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعمائي.

ص: 487

يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت، وحرصا على بقائهم، أصبحوا في القبور جاثمين، حتى ظنوا أنهم سيخلَّدون، وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز، وطَمروا المطامير، وجمعوا الجموع، وظنوا أنهم سيخلدون، وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون، وعاشوا فيها المئين من السنين، ثم أصبحت خرابا، مأوى للوحوش، ومثنى للشياطين.

قال أليفز التيماني: قد أعيانا أمرك يا أيوب، إن كلَّمناك فما نرج للحديث منك موضعا، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء، فذلك علينا، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا، فإنما يحصد امرؤ ما زرع، ويجزى بما عمل، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته، ولا يحصى عدد نعمه، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت، ويرفع به الخافض، ويقوّي به الضعيف: الذي تضلّ حكمة الحكماء عند حكمته، وعلم العلماء عند علمه، حتى تراهم من العيّ في ظلمة يموجون، أن من رجا معونة الله هو القويّ، وإن من توكل عليه هو المكفيّ، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي.

قال أيوب: لذلك سكتّ فَعضِضْت على لساني، ووضعت لسوء الخدمة رأسي، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي، وأن قوته نزعت قوّة جسدي، فأنا عبده، ما قضى عليّ أصابني، ولا قوّة لي إلا ما حمل عليّ، لو كانت عظامي من حديد، وجسدي من نُحاس، وقلبي من حجارة، لم أطق هذا الأمر، ولكن هو ابتلاني، وهو يحمله عني، أتيتموني غِضابا، رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تُضربوا، كيف بي لو قلت لكم: تصدّقوا عني بأموالكم، لعلّ الله أن يخلصني، أو قرّبوا عني قربانا لعلّ الله أن يتقبله مني ويرضى عني، إذا استيقظت تمنَّيت النوم رجاء أن أستريح، فإذا نمت كادت تجود نفسي، تقطَّعت أصابعي، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لَهَواتي ونخر رأسي، فما بين أذنيّ من سداد، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى، وإن دماغي ليسيل من فمي، تساقط شعري عني، فكأنما حُرِّق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على

ص: 488

خدي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أُدخل فيه طعاما إلا غصني، وورمت شفتاي حتى غطَّت العليا أنفي، والسفلى ذقني، تقطَّعت أمعائي في بطني، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل، ما أحسه ولا ينفعني، ذهبت قوة رجليّ، فكأنهما قربتا ماء مُلئتا، لا أطيق حملهما، أحمل لحافي بيديّ وأسناني، فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري، ذهب المال فصرت أسأل بكفي، فيطعمني من كنت أعوله اللقمةَ الواحدة، فيمنُّها عليّ ويعيِّرني، هلك بَنيّ وبناتي، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني، وليس العذاب بعذاب الدنيا، إنه يزول عن أهلها، ويموتون عنه، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها، ولا يتحوّلون عن منازلهم، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها.

قال بِلدد: كيف يقوم لسانك بهذا القول، وكيف تفصح به، أتقول إن العدل يجور، أم تقول إن القويّ يضعف؟ ابك على خطيئتك وتضرّع إلى ربك عسى أن يرحمك، ويتجاوز عن ذنبك، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك، وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك، ولن يأخذ فيك، هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز، وهيهات أن ينبت البَرْديّ في الفلاة، من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه، ومن جحد الحقّ كيف يرجو أن يوفّي حقه؟.

قال أيوب: إني لأعلم أن هذا هو الحقّ، لن يَفْلُج العبد على ربه، ولا يطيق أن يخاصمه، فأيّ كلام لي معه، وإن كان إليّ القوّة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له، وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده، ونصب فيها الجبال الراسيات، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها، وإن كان فيّ الكلام، فأيّ كلام لي معه، من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة، فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق، فوسعه وهو في سعة واسعة، وهو الذي كلَّم البحار ففهمت قوله، وأمرها، فلم تعْد أمره، وهو الذي يفقه الحِيتان والطير وكل دابَّة، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله، ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه.

قال أليفز: عظيم ما تقول يا أيوب، إن الجلود لتقشعرّ من ذكر ما تقول،

ص: 489

إنما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته، مثل هذه الحدّة، وهذا القول أنزلك هذه المنزلة، عظُمت خطيئتك، وكثر طلابك، وَغَصَبْت أهل الأموال على أموالهم، فلبست وهم عراة، وأكلت وهم جياع، وحبست عن الضعيف بابك، وعن الجائع طعامك، وعن المحتاج معروفك، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك، وكيف لا يطَّلع على ذلك وهو يعلم ما غيَّبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء؟.

قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن تكلمت لم ينفعني الكلام، وإن سكت لم تعذروني، قد وقع عليّ كَيْدي، وأسخطت ربي بخطيئتي، وأشمتّ أعدائي، وأمكنتهم من عنقي، وجعلتني للبلاء غَرَضا، وجعلتني للفتنة نُصبا، لم تنفسني مع ذلك، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء، ألم أكن للغريب دارا، وللمسكين قرارا، ولليتيم وليًّا، وللأرملة قَيِّما؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه، وما رأيت أيِّما إلا كنت لها قيِّما ترضّى قيامه، وأنا عبد ذليل، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان، لأن المنّ لربي وليس لي، وإن أسأت فبيده عقوبتي، وقد وقع عليّ بلاء لو سلَّطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي؟.

قال أليفز: أتحاجّ الله يا أيوب في أمره، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ، أو تبرئها وأنت غير بريء؟ خلق السماوات والأرض بالحقّ، وأحصى ما فيهما من الخلق، فكيف لا يعلم ما أسررت، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيَك به؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته، ثم احتجب بالنور، فأبصارهم عنه كليلة، وقوّتهم عنه ضعيفة، وعزيزهم عنه ذليل، وأنت تزعم أن لو خاصمك، وأدلى إلى الحكم معك، وهل تراه فتناصفه، أم هل تسمعه فتحاوره؟ قد عرفنا فيك قضاءه، إنه من أراد أن يرتفع وضعه، ومن اتضع له رفعه.

قال أيوب صلى الله عليه وسلم: إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره، لا يردّ غضبه شيء إلا رحمته، ولا ينفع عبده إلا التضرّع

ص: 490

له، قال: ربّ أقبل عليّ برحمتك، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت؟ أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريم عني، وجعلتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني، ليس يغيب عنك شيء تُحصي قَطْر الأمطار، وورق الأشجار، وذرّ التراب، أصبح جلدي كالثوب العفن، بأيه أمسكت سقط في يدي، فهب لي قُربانا من عندك، وفرجا من بلائي، بالقدرة التي تبعث موتى العباد، وتنشر بها ميت البلاد، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي، ولا تُفسد عمل يديك، وإن كنت غنيا عني، ليس ينبغي في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عَجَل، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإنما يعجل من يخاف الفوت، ولا تذكرني خطئي وذنوبي، اذكر كيف خلقتني من طين، فجُعِلت مضغة، ثم خلقت المضغة عظاما، وكسوت العظام لحما وجلدا، وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدة، وربَّيتني صغيرا، ورزقتني كبيرا، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك، فإن أخطأت فبين لي، ولا تهلكني غمًّا، وأعلمني ذنبي، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذّبني، وإن كنت من بين خلقك تحصي عليّ عملي، وأستغفرك فلا تغفر لي، إن أحسنت لم أرفع رأسي، وإن أسأت لم تبلعني ريقي، ولم تُقِلني عثرتي، وقد ترى ضعفي تحتك، وتضرّعي لك، فلم خلقتني، أو لم أخرجتني من بطن أمي، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك، وليس جسدي يقوم بعذابك، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض، وغمّ الموت.

قال صافر: قد تكلمت يا أيوب، وما يطيق أحد أن يحبس فمك، تزعم أنك بريء، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك، هل تعلم سَمْك السماء كم بُعده؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده؟ أم هل تعلم أيّ الأرض أعرضها؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به؟ أم هل تعلم أيّ البحر أعمقه؟ أم هل تعلم بأيّ شيء تحبسه؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه، فإن الله خلقه وهو يحصيه، لو تركت كثرة الحديث، وطلبت إلى ربك رجوتَ أن يرحمك، فبذلك تستخرج رحمته، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مُصِرّ على ذنبك إصرار الماء الجاري في صَبَب لا يستطاع إحباسه، فعند طلب الحاجات

ص: 491

إلى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار، وتظلم عيونهم، وعند ذلك يسرّ بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم، وتقدّموا في التضرّع، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها، وهم الذين كابدوا الليل، واعتزلوا الفرش، وانتظروا الأسحار.

قال أيوب: أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يُوَقِّرونني، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي، قاهر لمن هو اليوم يقهرني، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك، ولكنه يبكي معه، وإن كنت جادًّا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه، فسل طير السماء هل تخبرك، وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إليك؟ وسل سباع البرية هل تجيبك؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته، وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه، وما طعم بفيه، وما شمّ بأنفه، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه، له الحكمة والجبروت، وله العظمة واللطف، وله الجلال والقدرة، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصح؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه، وإن أذن لها ابتلعت الأرض، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبْهَت الملوك عند ملكه، وتطيش العلماء عند علمه، وتعيا الحكماء عند حكمته، ويخسأ المبطلون عند سلطانه، هو الذي يذكر المنسي، وينسى المذكور، ويجري الظلمات والنور، هذا علمي، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي.

قال بلدد: إن المنافق يجزى بما أسرّ من نفاقه، وتضلّ عنه العلانية التي خادع بها، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة، ويوحش سبيله، وتوقعه في الأحبولة سريرته، وينقطع اسمه من الأرض، فلا ذكر فيها ولا عمران، لا يرثه ولد مصلحون من بعده، ولا يبقى له أصل يعرف به، ويبهت من يراه، وتقف الأشعار عند ذكره.

قال أيوب: إن أكن غويا فعليّ غواي، وإن أكن بريا فأيّ منعة عندي، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني، وإن سكتُّ فمن ذا الذي يَعْذرني، ذهب رجائي وانقضت أحلامي، وتنكرت لي معارفي؛ دعوت غلامي، فلم يجبني،

ص: 492

وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني، وقع عليّ البلاء فرفضوني، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي، أما سمعتم بما أصابني، وما شغلكم عني ما رأيتم بي، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته، وألقاني هاهنا، وهنت عليه، لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه، ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلى لي لذابت كليتاي، وصعق روحي، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي، ونزع الهيبة مني، علمت بأيّ ذنب عذّبني، نودي فقيل: يا أيوب، قال: لبيك، قال: أنا هذا قد دنوت منك، فقم فاشدد إزارك، وقم مقام جبار، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد، والسِّخال في فم العنقاء، واللحم في فم التنين، ويكيل مكيالا من النور، ويزن مثقالا من الريح، ويُصر صُرَّة من الشمس، ويردّ أمس لغد، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك، أردت أن تخاصمني بغيَّك؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها؟ أم تعلم ما بُعد زواياها؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها، ولا يحملها دعائم من تحتها، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال، هل لك من ذراع تطيق حملها، أم هل تدري كم مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزل من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب، وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أي شيء لهب البروق؟ هل رأيت عمق البحور؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل؟ وأين طريق النور؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ وأين خزانة الريح، كيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار، ومن ذلَّت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها، وعطَّفها على أفراخها، من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات، ولا تهاب المسلطين، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها، وآثرتها بالعيش على نفوسها؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (1) مكانه في منقطع التراب، والوتينان (2) يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما، كأنها آكام الحبال، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد، وكأن جلودهما فِلَق الصخور، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال، أأنت ملأت جلودهما لحما؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما، أو تصدّهما عن قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر، ومسكنه في السحاب، عيناه تَوَقَّدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب، وزبده كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، أسراره لا تدخله الهموم، تمرّ به الجيوش وهو متكئ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [زُبَر] الحديد عنده مثل التين، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النُّشاب، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويضحك من النيازك، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه، أو واضع اللجام في شدقه، أتظنه يوفي بعهدك، أو يسبح من خوفك؟ هل تحصي عمره، أم هل تدري أجله، أو تفوّت رزقه؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى؟

قال أيوب صلى الله عليه وسلم: قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي، ليت الأرض انشقت بي، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع عليّ البلاء، إلهي حملتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية، ولا تغيب عنك غائبة، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأمَّا الآن فهو بصر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يديّ على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدّي، ودست وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.

قال الله تبارك وتعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي، وبحلمي صرفت عنك غضبي، إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرِّب عن صحابتك قُربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليمانيّ، وغيره من أهل الكتب الأوَل، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم، وكان الله قد اصطفاه ونبأه، وابتلاه

(1) في الكتاب المقدس ص 831: " بهيموث ".

(2)

في الكتاب المقدس ص 381: " لوياثان ".

ص: 493

فعشته إياه، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين، حتى إن كان المارّ ليمرّ فيقول: لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمه، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: وكان وهب بن منبه يقول: لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال ليس لها، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت نعم، قال: هل تعرفينني؟ قالت لا قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كلّ ما كان لكما من مال وولد، فإنه عندي، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه، قال: وقد سمعت أنه إنما قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي مما به من البلاء، والله أعلم، وأراد عدوّ الله أن يأتيه من قِبَلها، فرجعت إلى أيوب، فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: أو قد آتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة، فلما طال عليه البلاء، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه معهم فتى حديث السنّ، قد كان آمن به وصدّقه، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء، فأعظموا ذلك وفَظِعوا به، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده، وذلك حين أراد الله أن يفرِّج عنه ما به، فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه، قال: أي ربّ لأيّ شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت عليّ البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، إلى: وكابدوا الليل، واعتزلوا الفراش، وانتظروا الأسحار، ثم زاد فيه: أولئك الآمنون الذي لا يخافون، ولا يهتمون ولا يحزنون، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم؟

قال فتى حضرهم وسمع قولهم، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه، وإنما قيَّضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم، فأراد الله أن يصغر به

ص: 498

إليهم أنفسهم وأن يسفِّه بصغره لهم أحلامهم، فلما تكلم تمادى في الكلام، فلم يزدد إلا حكما، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وُعظوا أو ذُكِّروا، فقال: إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول، وكنتم أحقّ بالكلام وأولى به مني لحقّ أسنانكم، ولأنكم جرّبتم قبلي، ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم، وعرفتم ما لم أعرف، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحقّ والذِّمام أفضلُ من الذي وصفتم، هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم، ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض، يومكم هذا اختاره الله لوحيه، واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوّته، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا أن أيوب غَيَّر الحقّ في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخِيْرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوّة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذُل أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكن يرحمه ويبكي، معه ويستغفر له، ويحزن لحزنه، ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيّها الكهول في أنفسكم.

قال: ثم أقبل على أيوب صلى الله عليه وسلم فقال: وقد كان في عظمة الله وجلاله، وذكر الموت ما يقطع لسانك، ويكسر قلبك، وينسيك حججك، ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استَبَقوا إلى الله

ص: 499

بالأعمال الزاكية، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ومع المقصِّرين والمفرِّطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون، متى ما رأيتهم يا أيوب.

قال أيوب: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم، فهنالك بغيتم وتعزّزتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي، معروفا حقي، منتصفا من خصمي، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني، مهيبا مكاني، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي، ورفع حذري، وملَّني أهلي، وعقني أرحامي، وتنكرت لي معارفي، ورغب عني صديقي، وقطعني أصحابي، وكفرني أهل بيتي، وجُحِدَتْ حقوقي، ونُسِيت صنائعي، أصرخ فلا يُصْرِخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، وإن قضاءه هو الذي أذلني، وأقمأني وأخسأني، وأن سُلطانه، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني، ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.

لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه، ثم قيل له: يا أيوب، إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك، ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل، إلى آخره، وزاد فيه: ورحمتي سبقت غضبي، فاركُض برجلك هذا

ص: 500

مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم، ومالك ومثله معه وزعموا: ومثله معه لتكون لمن خلفك آية، ولتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين، فركض برجله، فانفجرت له عين، فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله عنه، كلّ ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة متلدّدة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا؟ قال: لا ثم تبسّم، فعرفته بمضحكه، فاعتنقته.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: فحدثت عبد الله بن عباس حديثه، واعتناقها إياه، فقال عبد الله: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بها كلّ مال لهما وولد.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه، فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، ومالي لا أعرفه؟ فتبسّم، ثم قال: ها أنا هو، وقد فرج الله عني ما كنت فيه، فعند ذلك اعتنقته، قال وهب: فأوحى الله في قسمه ليضربها في الذي كلمته، أن (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي قد برّت يمينك، يقول الله تعالى (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) يقول الله (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) .

حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به، قال: وما على وجه الأرض خلق أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس قال: لو كان لربّ هذا فيه حاجة ما صنع به هذا، فعند ذلك دعا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، قال: بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب.

حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا ابن عيينة،

ص: 501

عن عمرو، عن وهب بن منبه، قال: لم يكن بأيوب أكلة، إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا مخلد بن حسين، عن هشام، عن الحسن، وحجاج عن مبارك، عن الحسن: زاد أحدهما على الآخر قال: إن أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه، وله من النساء والبقر والغنم والإبل، وإن عدوّ الله إبليس قيل له: هل تقدر أن تفتن أيوب؟ قال: ربّ إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد، ولا يستطيع أن لا يشكرك، ولكن سلطني على ماله وولده، فسترى كيف يطيعني ويعصيك! قال: فسلطه على ماله وولده، قال: فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم، فيقول: يا أيوب تصلي لربك، ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران، وكنت ناحية فجئت لأخبرك، قال: فيقول أيوب: اللهمّ أنت أعطيت، وأنت أخذت، مهما تبقي نفسي أحمدك على حُسن بلائك، فلا يقدر منه على شيء مما يريد، ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران، ثم يأتي أيوب فيقول له ذلك، ويردّ عليه أيوب مثل ذلك، قال: وكذلك فعل بالإبل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده، فقال: يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت، حتى هلكوا، فيقول أيوب مثل ذلك، قال: ربّ هذا حين أحسنت إليّ الإحسان كله، قد كنت قبل اليوم يشغلني حبّ المال بالنهار، ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم، فالآن أفرغ سمعي وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد، والتقديس والتهليل، فينصرف عدوّ الله من عنده لم يصب منه شيئا ما يريد.

قال: ثم إن الله تبارك وتعالى قال: كيف رأيت أيوب؟ قال إبليس: أيوب قد علم أنك ستردّ عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده، فإن أصابه الضرّ فيه أطاعني وعصاك، قال: فسلط على جسده، فأتاه فنفخ فيه نفخة قرّح من لدن قرنه إلى قدمه، قال: فأصابه البلاء بعد البلاء، حتى حمل فوضع على مِزبلة كُناسة لبني إسرائيل، فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق، ولا أحد يقربه غير زوجته، صبرت معه بصدق، وكانت تأتيه بطعام، وتحمد الله معه إذا حمد، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله، والتحميد والثناء على الله والصبر على

ص: 502

ما ابتلاه الله، قال الحسن: فصرخ إبليس عدوّ الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب، فاجتمعوا إليه وقالوا له: جمعتنا، ما خبرك؟ ما أعياك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له، ثم سُلِّطت على جسده فتركته قُرْحة ملقاة على كُناسة بني إسرائيل، لا يقربه إلا امرأته، فقد افتضحت بربي، فاستعنت بكم، فأعينوني عليه، قال: فقالوا له: أين مكرك؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى، قال: بطل ذلك كله في أيوب، فأشيروا عليّ، قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة، من أين أتيته؟ قال: من قِبَل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبَل امرأته، فإنه لا يستطيع أن يعصيها، وليس أحد يقربه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تَصَدَّق، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه، ويتردّد الدوابّ في جسده، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوقع في صدرها، فوسوس إليها، فذكَّرها ما كانت فيه من النِّعم والمال والدوابّ، وذكَّرها جمال أيوب وشبابه، وما هو فيه من الضرّ، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا، قال الحسن: فصرخت، فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت، أتاها بسُخْلة، فقال: ليذبح هذا إليّ أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ يا أيوب، يا أيوب، حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك؟ أين الماشية؟ أين المال، أين الولد؟ أين الصديق، أين لونك الحسن؟ قد تغير، وصار مثل الرماد؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدوابّ؟ اذبح هذه السَّخْلة واسترح، قال أيوب: أتاك عدوّ الله، فنفخ فيك، فوجد فيك رفقا، وأجبته! ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب؟ من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متَّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال: ويلك! والله ما عدلت، ولا أنصفت ربك، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنَّك مئة جلدة، هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله، طعامك وشرابك الذي تأتيني به عليّ حرام، وأن أذوق ما تأتيني به بعد، إذ قلت لي هذا فاغرُبي عني فلا أراك، فطردها، فذهبت، فقال الشيطان: هذا قد وطَّن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه، فباء بالغلبة ورفضه، ونظر أيوب إلى امرأته وقد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب، ولا صديق. قال الحسن: ومرّ به رجلان وهو على تلك الحال، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب، فقال أحد الرجلين لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة، ما بلغ به هذا، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشدّ عليه من هذه الكلمة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان لأيوب أخوان، فأتياه، فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى، قال: فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل، فقال أيوب: اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكان عار فصدقنيُ فصُدِّق وهما يسمعان، قال: ثم خرّ ساجدا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: فحدثني مخلد بن الحسين، عن هشام، عن الحسن، قال: فقال: (رب أني مسني الضر) ثم ردّ ذلك إلى ربه فقال (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن جرير، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن مبارك، عن الحسن ومخلد، عن هشام، عن الحسن، دخل حديث أحدهما في الآخر، قالا فقيل له:(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فركض برجله فنبعت عين، فاغتسل منها، فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط، فأذهب الله

ص: 503

كل ألم وكل سقم، وعاد إليه شبابه وجماله، أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب برجله، فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا، وكُسِي حُلة، قال: فجعل يتلفت ولا يرى شيئا ما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له، حتى والله ذُكر لنا أن الماء الذي اغتسل به، تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى، ولكنها بركتك، فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع؟ لأرجعنّ إليه فرجعت، فلا كُناسة ترى، ولا من تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيوب، قالت: وهابت صاحب الحُلة أن تأتيه فتسأل عنه، فأرسل إليها أيوب فدعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتَلى الذي كان منبوذا على الكُناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل؟ قال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلي، فهل رأيته؟ وهي تبكي إنه قد كان هاهنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان، فدعوت الله فردّ علي ما ترين، قال الحسن: ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)

إلى آخر الآيتين، فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضرّ، غير أنه كان يذكر الله كثيرا، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الأجل، وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ أذن له في الدعاء، ويسرَّه له، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني، ثم لا أستجيب له، فلما دعا

ص: 505

استجاب له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم، وأثنى عليه فقال:(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) .

واختلف أهل التأويل في الأهل الذي ذكر الله في قوله (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم: إنما آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يُرَدّوا عليه في الدنيا، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة.

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فقال: قيل له: إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، وأُوتي مثلهم في الدنيا، قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب.

وقال آخرون: بل ردّهم إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم.

* ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك، عن ابن مسعود (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: أهله بأعيانهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: لما دعا أيوب استجاب الله له، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال: أحياهم بأعيانهم، وردّ إليه مثلهم (1) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (وهبنا له أهله ومثلهم معهم) قال: قيل له: إن شئت أحييناهم لك، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا، فاختار أن يكونوا في الآخرة

(1) هذا يناسب الاستشهاد على عدم ردهم بأعيانهم. فلعله مؤخر من تقديم.

ص: 506