الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسعف، فإذا قطعت صارت جذعا، فالجذع الذي أمرت مريم بهزّه لم يذكر أحد نعلمه أنه كان جذعًا مقطوعًا غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزِّها إياه نخلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان المتساقط. عليها رطبا نخلة واحدا، فتبين بذلك صحة ما قلنا.
وقوله: (جَنِيًّا) يعني مجنيا; وإنما كان أصله مفعولا فصرف إلى فعيل; والمجني: المأخوذ طريا، وكل ما أخذ من ثمرة، أو نقل من موضعه بطراوته فقد اجتني، ولذلك قيل: فلان يجتني الكمأة; ومنه قول ابن أخت جذيمة:
هَذَا جَنَايَ وخِيارُهُ فِيهِ
…
إذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إلى فِيهْ (1)
(1) البيت في (اللسان: جنى) قال: قال أبو عبيد: يضرب هذا مثلا للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده. قال أبو عبيد: وذكر ابن الكلبي أن المثل لعمرو بن عدي اللخي بن أخت جذيمة، وهو أول من قاله، وإن خذيمة نزل منزلا، وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأة، فكان بعضهم يستأثر بخير ما يجد، ويأكل طيبها، وعمرو يأتيه بخير ما يجد، ولا يأكل منها شيئا، فلما أتى خاله جذيمة قال: هذا. . . البيت والجنى: ما يجنى من الشجر. ويروى * هذا جناي وهجانه فيه *
أي خياره. أه. وقال: وجنيت الثمر أجنيتها واجتنيتها: بمعنى. ابن سيده: جني الثمرة ونحوها وتجناها، كل ذلك: تناولها من شجرتها وعلى هذا استشهد المؤلف بالبيت.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
(26) }
يقول تعالى ذكره: فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك، لا تخشي جوعًا ولا عطشًا (وَقَرِّي عَيْنًا) يقول: وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار. وإنما معنى الكلام: ولتقرِر عينك بولدك، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير، نظير ما فعل بقوله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) وإنما هو:
فإن طابت أنفسهن لكم. وقوله (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) ومنه قوله (يُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) إنما هو يساقط عليك رطب الجذع، فحوّل الفعل إلى الجِذْع، في قراءة من قرأه بالياء. وفي قراءة من قرأ:(تُساقِطْ) بالتاء، معناه: يساقط عليك رطب النخلة، ثم حول الفعل إلى النخلة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله (وقرِّي)
فأما أهل المدينة فقرءوه (وَقَرِّي) بفتح القاف على لغة من قال: قَرِرت بالمكان أَقَرّ به، وقَرِرت عينا، أقرّ به قُرورا، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة.
وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقر به قرارا وقررت بالمكان أقر به، فالقراءة على لغتهم:(وَقِري عَيْنا) بكسر القاف، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف.
وقوله (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا) يقول: فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) يقول: فقولي: إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألا أُكَلِّم أحدًا من بني آدم اليوم (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الآية (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) صمتا.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني المغيرة بن عثمان، قال: سمعت أنس بن مالك يقول (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: صمتا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: يعني بالصوم: الصمت.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن سليمان التيميّ، قال: سمعت
أنسا قرأ (وإنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَن صَوْما وَصَمْتا) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أما قوله (صَوْما) فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) قال: كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام، إلا مِن ذكر الله، فقال لها ذلك، فقالت: إني أصوم من الكلام كما أصوم مِنْ الطعام، إلا من ذكر الله; فلما كلموها أشارت إليه، فقالوا (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فأجابهم فقال (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) حتى بلغ (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) .
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر، فقال بعضهم: أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة، وذلك أنها جاءت وهي أيِّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن حارثة، قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ فقال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم (لا تَحْزَنِي) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج ولا مملوكة، أي شيء عذري عند الناس (يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال: هذا كله كلام عيسى لأمه.