المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العِدَدُ: عِدَّةُ الطّلاقِ، َوعِدَّةُ الْوَفِاةِ، وَالاسْتِبْرَاءِ   العِدد: جمع عدة، وسميت بذلك - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٥

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌العِدَدُ: عِدَّةُ الطّلاقِ، َوعِدَّةُ الْوَفِاةِ، وَالاسْتِبْرَاءِ   العِدد: جمع عدة، وسميت بذلك

‌العِدَدُ:

عِدَّةُ الطّلاقِ، َوعِدَّةُ الْوَفِاةِ، وَالاسْتِبْرَاءِ

العِدد: جمع عدة، وسميت بذلك لاستمالها على العدد، وهي تربص المرأة زماناً، معلوماً قدره الشرع علامة على براءة رحمها مع ضرب من التعبد، وجعل المصنف أنواعها ثلاثة، وفي جعل الاستبراء من أنواع العدة تجوز في اصطلاح الفقهاء.

وهيَ بالأَقْرَاءِ ِوالأَشْهُرِ، والْحَمْلِ

الأقراء في الطلاق لذوات الحيض، قال الله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] والأشهر للمتوفى عنها وللمطلقة إذا لم تكون من ذوات الحيض لصغر أو كبر، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي فعدتهن كذلك، ووضع الحمل عدة للحامل كانت متوفى عنها أو مطلقة، قال الله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].

ولا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ

لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] ولا مفهوم لصفة الإيمان هنا لأنه خرج مخرج الغالب، ولا فرق بين مؤمنة وكافرة.

فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَجَبَتْ بِإِقْرَارِهَا لا بِإِقْرَارِه

يعني: فإن لم يعلم دخول فإن أقرت هي به وجبت عليها العدة، لأنه إقرار منها على نفسها فلزمها كسائر الإقرارات بخلاف ما [398/أ] لو أقر هو فقط فإنه دعوى عليها

ص: 3

بغير دليل فلا يقبل كسائر الدعاوي، وهذا الكلام في نفس العدة، وأما لواحقها من النفقة والسكنى فسيأتي الكلام عليها.

فَإِنْ ظَهَرَ حَمْلٌ ولَمْ يَنْفِهِ كَانَ كَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّةِ والرَّجْعَةِ ولَوْ ظَهَرَ بَعْدَ َمْوتِهِ لَحِقَ بِهِ ....

لأن الولد للفراش فهو لاحق به ولا ينتفي عنه إلا بلعان، وعلى هذا فيجب عليها إذا طلقها العدة وتكون له الرجعة، وهذا معنى قوله:(وكَانَ َكَالدُّخُولِ فِي الْعِدَّةِ والرَّجْعَةِ) وفي بعض النسخ: (ولا رجعة له) وهي غير صحيحة لأنها إذا وجبت عليها العدة كان له الرجعة، وقوله:(ولَو ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ) ظاهرٌ لأنه إنما كان ينتفي عنه في الحياة باللعان وهو لا يتأتى هنا.

وأَمَّا بَعْدَهُ فَتَجِبُ، وإِنْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْء حَيثُ أَمْكَنَ شَغْلُهَا مِنْهُ بِأَيِّ خَلْوةٍ كَانَتْ ....

أي: وأما بعد الدخول وهو إرخاء الستور (فَتَجِبُ) العدة سواء (تَصَادَفَا) معاً (عَلَى نَفْي الْوَطْء) أم لا لحق الله في العدة بشرط إمكان الوطء، وأما لو خلا بها لحظة تقصر عن زمان الوطء فلا، وقوله:(بِأَيِّ خَلْوةٍ كَاَنَتْ) أي: سواء كانت خلوة اهتداء زيارة.

فرع:

قال في المدونة: ولو كان معها نساء حين قَبَلَ وانصرف لمحضرهن فلا عدة عليها.

الباجي: وكذلك امرأة واحدة، أي: لأن الخلوة قد فقدت

وتَسْقُطُ النَّفَقَةُ والسُّكْنَى، وَلا يَجِبُ إِلا نِصْفُ الصَّداقِ، ولا رَجْعَةَ لَهُ

هذا مفرع على ما إذا تصادقا على نفي الوطء وسقط حقها من النفقة والسكنى ومن تكميل الصداق لإقرارها بعدم الإصابة، وسقط حقه من الرجعة لإقراره أنه لم يصب،

ص: 4

وكذلك أيضاً لا تكون الرجعة إذا دعى أحدهما الوطء وأنكره الآخر، لأنه يتهم على الرجعة في غير محلها. ابن عبد السلام: وينبغي إذا اختلفا في المسيس أن يجري حكم النفقة والسكنى على الصداق بحيث يكمل يثبتان، وحيث لا يكمل يسقطان.

ولا شَيْءَ لَهَا فِي الْفاسِدِ، وقِيلَ: تَعَاَرضَ إن كان تَلَذَّذَ بشَيْءٍ

يعني: أن ما قدمه من وجوب نصف الصداق إذا طلق قبل البناء إنما هو في النكاح الصحيح وأما الفاسد فلا شيء عليه فيه، لأن الله تعالى إنما أوجب النصف إذا طلق الزوج فقال:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] لأنه قد أضاف الطلاق إليهم، والإضافة إليهم تستدعي وقوعه باختيارهم. وظاهر ما لابن القاسم في إرخاء الستور ما قدمه المصنف، والمنسوب فيه لغيره هو القول الثاني، وعكس هذا القول في كتب العدة فجعل القول بأنها تعارض لابن القاسم ولا تعارض لغيره.

وَلا تَجِبُ بِوَطْءِ الصَّغِيرِ الَّذِي لا يُولَدُ لِمِثْلهِ وإِنْ قَوِىَ عَلَى الْجِمَاعِ، ولا بالْمَحْبوبِ ذَكَرُهُ وأُنّْثَيَاهُ ....

يعني: أن العدة في الطلاق إنما تجب إذا كان الزوج يمكن أن يولد لمثله، فلذلك لا تجب بوطء الصغير الذي لا يولد لمثله، يريد إذا خالع عنه أبوه أو وصيه مثلاً فطلاقه نافذ، ولا بوطء المجبوب لكن تجب على زوجاتهما العدة في الوفاة، ولا أعلم في هذه الجملة خلافاً.

بِخِلافِ الْخَصِيَّ الْقَائِمِ الذَّكَرِ، وفِيهَا فِيهِ وفِي عَكْسِهِ يُسْأَلُ النِّسَاءُ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَالْعِدَّةُ، وإِلا فَلا عِدَّةَ ولا يَلْحَقُ ....

(بِخِلافِ الْخَصِيَّ الْقَائِمِ الذَّكَرِ) المقطوع الأنثيين، ومقتضى قوله (بِخِلافِ) أنها تجب العدة بوطئه وهذا قول حكاه اللخمي وغيره.

ص: 5

ابن عبد السلام: وهو ظاهر المذهب. وقال ابن حبيب: لا عدة على امرأته وهو ظاهر، لأن الولد لا يلحق به عند ابن القاسم.

ابن حبيب: وكذلك ذاهب الخصية اليسرى. وقال ابن دينار: الولد لاحق بالخصي كيفما كان. قيل: وعكسه تجب العدة كيفما كان، وأشار عياض إلى أنه لا فرق في القليح الذكر بين أن يكون سالماً أو بعضه لأنه يصيب بما بقي من ذكره، وكذلك صرح به أشهب، وقوله:(فِيهِ وفِي عَكْسِهِ) المراد بالعكس أن يكون ما في الأنثيين مقطوع الذكر.

عياض: وسبب الخلاف بين المدونة وابن حبيب ذهاب الأنثيين أو أحدهما، فمذهب الكتاب الإحالة على سؤال أهل المعرفة هل يولد له أم لا؟ ومذهب ابن حبيب الإحالة على علم الطب والتشريح لأنهم يقولون: إن البيضة اليسرى جعلت لطبخ المني فإذا فقدت لم يمكن أن يتأتى له ولد، فلا تعتد زوجته ولا يلحق به ولد بخلاف ما إذا كان مقطوع الذكر أو البيضة اليمنى، ونص ابن حبيب على أنه إن بقي معه أنثياه أو اليسرى منهما وبقي من العسيب بعضه أن الولد لاحق به. وينبغي على قوله أن يلحق به الولد وإن لم يبق من عسيبه شيء. وقوله:(إِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَالْعِدَّةُ) أي فالعدة واجبة، يريد ويلحق به الولد (وإِلا فَلا) أي وإن لم يولد لمثله (فَلا عِدَّةَ ولا يَلْحَقُ) به الولد.

ولا عَلَى صَغِيرَةٍ لا تُطِيقُ الرَّجُلَ

لا خلاف في ذلك لأن وطئها جرح وفساد، وفهم منه أنها إن طاقت الرجل عليها العدة وإن لم يمكن حملها وهو مذهب المدونة، واختار ابن لبابة أنها لا عدة عليها ولا على الكبيرة المسنة التي لا يخشى منها الحمل.

ويَجِبُ عَلَى الْحُرَّةِ عِدَّةُ المْطَلَّقَةِ مِنْ كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنْ حِينَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثَلاثُ حِيضٍ ومِنْ كُلِّ وَطْءٍ مِنْ زِنَى أَوِ اشْتِبَاهٍ

عدة المطلقة [398/ب] ثلاثة أقراء في ذات الأقراء وثلاثة أشهر في اليائسة والصغيرة.

ص: 6

وقوله: (مِنْ كُلَّ نِكاَحٍ) أي سواء كان مجمعاً على فساده أم لا؟ وهذا هو المشهور ومذهب المدونة. اللخمي: وقيل: يكفي في المتفق على فساداه كنكاح المحرم والرضاع حيضة لأن الزيادة على الواحدة تعبد.

وقوله: (بَعْدَ الدُّخُولِ) ظاهر لأنه إذا لم يجب على المطلقة قبل البناء شيء في النكاح الصحيح فأحرى الفاسد. وقيل: من حين فرق بينهما، لأنه قد يتوهم أن النكاح المجمع على فساده لما كانت الفرقة فيه لا تحتاج إلى حكم كانت في كل وقت كالأجنبية، فتكون العدة من آخر وطء.

وقوله: (ثَلاثُ حِيَضٍ) هو عطف بيان على قوله: (عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ) أو بدل، ومراده بقوله:(ثَلاثُ حِيضٍ) أي ثلاثة أطهار، لأن الأقراء عندنا الأطهار كما سيأتي، ووجبت العدة في النكاح الفاسد كالصحيح لأن الولد لا يلحق به فيه. وقوله:(ومِنْ كُلَّ وطْءٍ مِنْ زنّى أَوِ اشْتِباهٍ) هذا معطوف على قوله: (مِنْ كُلَّ نكاحٍ فاسد) لكن لا يسمى هذا في عرف الفقهاء عدة وإنما يسمى استبراء

ولا يَطَأُ الزَّوْجُ ولا يَعْقِدُ وإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ بِخِلافِ الْمَطَلِّقِ فِي الصَّحِيحِ

يعني: أن من زنت زوجته أو اشتبهت فلا يطأها زوجها في مدة الاستبراء ولو كان الولد به لاحقاً، وكذلك لا يعقد على الأجنبية التي زنت أو وطئت باشتباه، لأن كل محل امتنع فيه الاستمتاع امتنع فيه العقد إلا الحيض والنفاس.

ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد أن النكاح الفاسد إذا فسخ لا يكون للزوج فيه أن يعقد ولا يطأ وإن لحق الولد، وهذا المعنى الثاني وإن كان قرب إلى لفظه لكن يبقى قوله:(ولا يَطَأُ) ليس فيه كبير فائدة واقتصر، وعلى الثاني بخلاف المطلق في النكاح الصحيح فإن له أن يعقد ويطأ لأن ماءه صحيح لكن يشترط أن لا تكون مريضة بحيث يحجر عليها.

ص: 7

ومِنْ غَيْبَةِ الْغَاصِبِ والسَّابِى عَلَيْهَا والْمُشْتَرِي ولا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِها

يعني: ويجب الاستبراء أيضاً بثلاثة أطهار إذا غصبت وغاب عليها الغاصب.

ابن عبد السلام: وقد اختلف لفظه في المدونة في الأمة المغصوبة يغيب الغاصب عليها ثم تعود إلى ربها فظاهر كلامه في أول الاستبراء الوجوب ونص بعد ذلك على أن استبراءها مستحب، وينبغي أن يجري ذلك في الحرة، وكذلك يجب الاستبراء بالثلاثة إذا غاب عليها السابي من الكفار أو المشتري، وسواء بيعت هذه الحرة جهلاً أو فسقاً.

وقوله: (ولا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِها) أي لا تصدق المرأة إن قالت: لم يصبني. وفي بعض النسخ: (قولهما): أي الرجل والمرأة لحق الله تعالى.

وفِي إِيجَابِ ذِلِكَ فِي إِمْضَاءِ الْوِلِيِّ أِوْ فَسْخِهِ قَوْلانِ

يعني: إذا زوج أجنبي امرأةً مع وجود وليها غير المجبر. وقلنا بأشهر قولي ابن القاسم أن للولي الخيار في إجازته وفسخه ما لم يطل بعد البناء، فأمضاه بعد البناء بالقرب فهل هو تقرير، وكأن النكاح وقع بولي فلا يحتاج إلى استبراء، وكذلك لا يحتاج إليه في الفسخ إذا أراد أن يتزوجها بعد الفسخ؟

أو يقال: إمضاؤه كابتداء نكاح فيحتاج إلى استبراء لأن الماء الأول فاسد وكذلك يحتاج إليه في الفسخ؟ وحاصله: إن قيل أن الماء صحيح لم يحتج إليه وإلا احتاجت. والقول بالاستبراء هو ظاهر المدونة على ما وقع في بعض الروايات، ففيها: ويكره للرجل أن يتزوج امرأة بغير أمر ولي، أعني ولي نسب.

ابن القاسم: فإن فعل كره له وطؤها حتى يعلم وليها فيجيز أو يفسخ، فإن فسخه الإمام أو وليها عند الإمام ثم أرداته زوجها إياه مكانها وإن كره الولي إذا دعته إلى سداد وإن لم يساوِ حسبها ولا غناها، وكان مرضياً في دينه وعقله وهذا إذا لم يكن دخل بها.

ص: 8

ابن يونس: يريد فإن دخل بها لم ينكحها حتى تستبرئ بثلاث حيض. لكن صرح في بعض الروايات بأن قوله: (وهذا إذا لم يدخل بها) من كلام سحنون، والأولى رواية أبي عمران لأنه قال: إن كان هذا الشرط لسحنون فهو على مذهبه في العبد يتزوج بغير إذن سيده فيجيز السيد أنه يستبرئ. قال: وقاله ابن الماجشون. وإن كان من كلام ابن القاسم فهو خلاف ما ذكره ابن حبيب أن مالكاً قال: إن كل نكاح ليس لأحد إجازته فلا يتزوجها في استبراء منه، وإن كان للولي أو السلطان إجازته فله أن يتزوجها في عدة منه. وهو في الموازية في المملوكة توطأ قبل العلم عليها الاستبراء.

واستشكل جماعة الاستبراء هنا لعدم فائدته فإن الولد لاحق به. وأجيب بأن الفائدة تظهر في القذف فلو نسب الولد إلى شبهة في نسبه لم يحد من نسبه إلى ذلك إذا نشأ من الماء الواقع قبل الفسخ أو الاختيار، ويحد إذا نشأ الولد بعد ذلك.

فرع: وإما إذا كان النكاح صحيحاً والوطء فاسداً كمن وطئ زوجته حائضاً فإنه لا يلزم من ذلك استبراء، قالوا: وكذلك لو كان النكاح فاسداً لصداقه.

والأَمَةُ فِي النَّكَاحِ الصَّحِيحِ والْفاسِدِ كذلك، وفِي الزِّنى والاشْتِبَاهِ كذلك

هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها: وفي الزنا والاشتباه حيضة، يعني [121/ب] أن الأمة الزوجة حكمها حكم الزوجة الحرة في هذه الأحكام إلا في القدر الذي تعتد به فإنها تعتد بحيضتين وتستبرئ في الزنا والاشتباه، يريد ومن غيبة الغاصب والسابي والمشتري بحيضة واحدة. ولولا أن المصنف اعتمد على ما اشتهر من أن عدة الأمة حيضتان لكان قوله: كذلك قوله: كذلك: يوهم أن عدة الأمة ثلاث حيض، وعلى هذا فيكون التشبيه بذلك راجعاً إلى أصل الوجوب لا إلى قدره. ووقع في بعض النسخ: والأمة في النكاح الصحيح والفاسد حيضتان، وفي الزنا والاشتباه حيضة: وهي أظهر.

ص: 9

وتُجْبَرُ الْكتَابيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي طَلاقِهِ ومَوْتِهِ كَالمْسْلِمَةِ

قوله: (كَالمْسْلِمَةِ): أي: فتعتد ذات الأقراء بثلاثة قروء، واليائسة والصغيرة بثلاثة أشهر، وفي الوفاة بأربعة أشهر وعشر، هذا هو المشهور، وحكى ابن الجلاب رواية ثانية بأن الذمية تعتد في الوفاة من المسلم بثلاثة قروء، وخرج على الروايتين ما إذا توفي عنها قبل البناء فعل المشهور وتعتد في الوفاة أي المسلم بأربعة أشهر وعشر، وعلى الرواية الثانية لا عدة عليها وإنما أجبرت الكتابية على العدة لحق الزوج. واعلم أنه اختلف في الأقراء الثلاثة في عدة الحرة المسلمة فقال الأبهري: الجميع استبراء ولا تعبد فيها. وقال أبو بكر القاضي: القرء الأول لاستبراء الرحم والقرءان الأخيران عبادة. واختار ابن يونس الأول، ولا يعترض عليه بأنه يكفي في الأمة القرء الواحد لأنا نقول: ذلك كالحدود إنما هي موضوعة على حرمة المحدود من العبيد والأحرار والمحصنين والأبكار. وقال عبد الحق: قول أبي بكر هو الصواب. وخرج بعضهم على قول أبي بكر قولاً بأن الذمية تكتفي بقرء واحد في الوفاة والطلاق بناء على أن الكفار غير مخاطبين بالأحكام، ولهذا روى أبو زيد عن ابن القاسم في النصرانية يموت عنها زوجها الذمي فيتزوجها المسلم بعد حيضة أنه لا يفسخ نكاحها.

وَيَتَزَوَّجُهَا الْمُسْلْمُ بَعْدَ مَوْتِ الذَّمَّيِّ بَعْدَ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ كَطَلاقِهِ

يعني: وقد دخل بها الذمي لمقابلته ذلك بقوله:

فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ تَزَوَّجَهَا مَكَانَهَا فِيهِمَا

أي: في موت الذمي وطلاقه، ولمالك في العتبية أنه يكتفي بحيضة واحدة من طلاق الذمي.

ص: 10

أَقْسَامُهَا مُعْتَادَةٌ، ومُرْتَابَةٌ بِتَأخِيرِ الْحَيْضِ، وصَغِيِرِةٌ، ويَائِسَةٌ، وحَامِلٌ، ومُرْتَابَةٌ بالْحَمْلِ

الضمير في (أَقْسَامُهَا) عائد على العدة، فـ (مُعْتَادَةٌ) فيه حذف مضاف، أي عدة معتادة، ويحتمل عوده على المعتدات، ويترجح الأول بأنه لو أراد الثاني لقال: أقسامهن في الأفصح، وحصرها فيما ذكره استقراء، ثم أخذ المصنف يتكلم على كل قسم فقال:

فَالْمُعْتَادَةُ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ للْحُرَّةِ، وقُرْءانِ للأَمةِ

ما ذكره في الحرة هو نص الآية الكريمة، ولا فرق بين أن يكون زوجها حراً أو عبداً على المعروف. وقيل: إن العدة تتشطر بكون أحد الزوجين رقيقاً، وما ذكره في الأمة متفق عليه عندنا، ويعضده ما رواه أبو داود وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال:((طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان)) لكنه ضعيف عند أهل الحديث، قيل: والصحيح أنه من كلام أبي عمران.

وَالأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ، وجَاءَ لَفْظُ الْحَيْضِ مَوْضِعَهُ كَثِيراً عَلَى التَّسَامُحِ

قوله بقولنا، الشافعي، وهو قول عائشة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وابن شهاب، وأبان بن عثمان، وأبي ثور. وقال أبو حنيفة: الأقراء هي الحيض. وهو مروي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم. وضعف أحمد أسانيد ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود.

وبالجملة فكل من القولين مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، ولولا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] مع حديث ابن عمر في طلاق الحائض لكان مذهب أبي حنيفة أظهر، لأن المقصود من العدة إنما هو العلم أو الظن ببراءة الرحم، والدال على ذلك إنما هو الحيض، وأما الطهر فيوجد مع الحمل.

ص: 11

قوله: (وجَاءَ لَفْظُ الْحَيْضِ) أي إنهم قد يطلقون لفظ الحيض موضع الطهر كثيراً على التسامح. ابن عبد السلام: وما ذكره المصنف هو مذهب المحققين، وذهب بعض الشيوخ إلى حمل هذه الإطلاقات على ظاهرها فنقل عن المذهب قولاً كمذهب أبي حنيفة وهو بعيد لأن هذه المسامحة جرت على لسان من علم أنه لا ينصر إلا قول مالك.

وطُهْرُ الطْلاقِ تَعْتَدُّ بِهِ ولَوْ لحظَةً

لا خلاف في هذا عندنا وليس كمذهب أبي حنيفة في التي تطلق في الحيض فإنها لا تعتد بذلك الحيض عنده وإن قال: القرء هو الحيض.

فَتَحِلُّ بِأَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، ويَنْبَغِي أَلا تَعْجَلَ إِذْ قَدْ يَنْقَطِعُ عَاجِلاً فَلا تَعْتَدُ بِهِ ....

أتى بالفاء لأن هذا مرتب على ما قبله وأيضاً فلما قدم أن الطهر الأول تعتد به ولو لحظة خشي أن يتوهم منه أن الجزء الأول من الطهر الأخير يقوم مقام جميع الطهر فتحل [399/ب] ببعضه فبين ذلك وأنها لا تحل إلا بجميعه. ومقابل المشهور رواه ابن وهب عن مالك أنها لا تبين إذا رأت الدم حتى يعلم أنها حيضة تامة. وخرج ابن رشد على قول ابن الماجشون أن أقل الحيض خمسة أيام أنها لا تحل لغير المطلق حتى تمكثها، وكذلك على القول أن أقله ثلاثة وعلى أنه يوم، وفيه نظر، ألا ترى أن مالكاً وابن القاسم يريان الدفعة ونحوها ليست بحيض في هذا الباب مع أنها تبين برؤيتها أول الدم الثالث فلا يبعد أن يسلك ابن الماجشون وغيره هذا المسلك.

ابن رشد: بناء على تخريجه وعلى قول ابن الماجشون وابن مسلمة: لو انقطع الدم فإن عاد بالقرب لفق منه العدة المذكورة، وإن لم يعد إلا بعد البعد كانت تلك الدفعة ونحوها ملغاة لا يعتد بها، وحكم ذلك دم العلة والفساد، وتقضي ما تركت فيه من الصلاة.

ص: 12

عياض: وقول شيخنا، تقضي ما تركت فيه من الصلاة، فيه نظر لا يوافق عليه.

وقوله: (ويَنْبَغِي أَلا تَعْجَلَ) يعني وإذا قلنا تحل للأزواج برؤيتها أول الدم الثالث فينبغي ألا تعجل بالتزويج لاحتمال أن ينقطع الدم عنها قبل اسبترائها حيضة.

واعلم أن قوله: (ويَنْبَغِي) هو من كلام أشهب في المدونة، والكلام الأول لابن القاسم، كذا قال الجمهور، واختصر ابن أبي زمنين المدونة على أن مجموع الكلام لأشهب، وعلى الأول فاختلف هل كلام أشهب وفاق وهي طريقة المصنف وأكثر الشيوخ، أو اختلاف وإليها ذهب غير واحد وهو مذهب سحنون لقوله: هو خير من رواية ابن القاسم، وهو مثل رواية ابن وهب: أنها لا تحل للأزواج ولا تبين من زوجها حتى يتبين أنها حيضة مستقلة، وهو مذهب ابن المواز وابن حبيب.

وعلى هذا فيكون قول أشهب: (وأحب) محمولاً على الوجوب، ويبين ذلك تعليل أشهب بقوله: أن قد ينقطع عاجلاً فإنه علة تقتضي الوجوب. واختلف القائلون بحمل قوله على الخلاف لو انقطع الدم ما الحكم؟ فقال أبو عمران وابن رشد وغيرهما: لا يضرها ذلك وقد حلت للأزواج برؤيته أولاً.

ورأوا أن مذهب ابن القاسم في مقدار الحيض واحد في باب العبادة والعدة. ومنهم من قال: بل يضرها، وإنما لم يطلب منها ابن القاسم ما طلبه أشهب لأن الأصل عدم انقطاع الدم، وهو أيضاً الغالب فلا يلزمها وجوب ولا استحباب رعياً لمخالفة الأصل والغالب، وإلى هذا ذهب جمهورهم أنه إن لم يتماد بها الدم لا تحسب به حيضة.

فرعان مرتبان على قول الجمهور:

الأول: لو ماتت الزوجية بعد رؤية الدم وقبل التمادي فإنه يحمل أمرها فيه على التمادي ولا يرثها مطلقاً، وإن مات الزوج حينئذ لم ترثه إن تمادى، وإن قالت قبل موته باليوم والشيء القريب: انقطع الدم عني، وكان موته بإثر قولها ذلك ورثته، نقله ابن عبد السلام.

ص: 13

الثاني: عياض: واختلف إذا راجعها زوجها عند انقطاع هذا الدم وعدم تماديه ثم رجع الدم بقرب، هل هي رجعة فاسدة إذ قد ظهر أنها حيضة صحيحة وقعت الرجعة فيها فتبطل وهو الصحيح. وقيل: لا تبطل رجع عن قرب أو بعد.

خليل: وهذا الكلام يدل على أنها لم يعاودها الدم أن الرجعة صحيحة وأن للزوج الرجعة وإن قالت قبل ذلك: رايت الدم ثم ادعت انقطاعه.

وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ ولا قَبْلَهُ فِي ثُبُوتِ الرَّجْعةِ

ابن راشد: يعني إذا ادعى زوجها أنه ارتجعها قبل انقضاء العدة وأقرت هي بصحة قوله فإن قولها في ذلك غير مقبول. هذا الذي ظهر لي من قوله، وما كان يحتاج إلى هذا فقد سبق له في الرجعة ما يغني عنه. وقال ابن عبد السلام: يعني إذا فرعنا على المشهور أن لها أن تتزوج ولم تفعل ما استحب لها من التأخير فتزوجت فبعد أن عقد عليها النكاح قالت: انقطع الدم، لم يقبل قولها لأن ذلك إقرار على غيرها وهو الزوج فتتهم على إرادة فسخ نكاحه، وكذلك لو لم تتزوج فتتهم على إنشاء نكاح من مطلقها من غير صداق ولا ولي فعلى هذا لو دفع إليها المطلق ربع دينار وأحضر الولي لما منعت من ذلك إذ لا موجب للتهمة والله أعلم.

وانظر كلام المؤلف ووفق بينه وبين قول أشهب في المدونة أحب إلى ألا تنكح حتى تستمر الحيضة لأنها ربما رأت الدم ساعة أو يوماً ثم ينقطع عنها فيعلم أن ذلك ليس بحيضة فإذا رأت المرأة هذا في الحيضة الثالثة فلترجع إلى بيتها والعدة قائمة ولزوجها الرجعة حتى تعود عليها حيضة صحيحة مستقيمة. انتهى كلام ابن عبد السلام وفيه نظر، لأنها إذا قالت: انقطع عني قبل التزويج فإما أن تبني على قول أبي عمران وابن راشد أن ابن القاسم يرى أن اقل الحيض لا حد له هنا كما في العبادة أولاً، فإن كان الأول فلا عبرة

ص: 14

بكلامها لأنها قد كمل لها حينئذ ثلاث حيض، وإن بنينا على قول الأكثر فيقبل قولها لأنها حينئذ ثلاثاً ويكون لزوجها الرجعة، وقد تقدم في الفرع الثاني من كلام القاضي عياض ما يدل [400/أ] على ذلك، وقد صرح غيره بذلك، وعلى هذا فكلام ابن راشد أحسن، والله أعلم.

فَإِنْ طُلَّقَتْ فِي حَيْضٍ أِوْ نِفَاسٍ حَلَّتْ بأَوَّلِ الرَّابِعَةِ، والأَمَةُ بحِسَابِهَا

لأنها لا تعتد بالحيضة التي طلقت فيها وكذلك النفاس فلأجل ذلك لا تحل إلا بالدخول في الحيضة الرابعة. قوله (والأَمَةُ بحِسَابِهَا)، أي فتحل بالدخول في الحيضة الثالثة.

وَإِذَا حَاضَتْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَفِيهَا يُسْأَلُ النِّسَاءُ أَيَكُونُ هَذَا حَيْضاً أَمْ لا، وقَالَ أَيْضاً: ولا تِكُونُ حَيْضةٌ أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ. ابْنُ مَسْلَمَةَ: لا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. ابْنُ الْماجِشُونِ وسَحْنُونٌ: لا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ. ولِذَلِكَ قَالَ سَحْنُونٌ: لا تَنْقَضِي بأَقَلَّ مِنْ أَرْبِعَينَ وقَد تَقَدَّمَ الطُّهْرُ فِي الْحَيْضِ ....

قد تقدم أن ابا عرمان وابن راشد تأولا على المدونة أنه لا حد لأقل الحيض هنا كالعبادات وأن أكثرهم خالفهما هنا في ذلك، ونص المازري على أن المشهور عن مالك نفي التحديد وإسناد الحكم إلى ما يقوله النساء أنه حيض، ونص أشهب في المدونة أن اليوم لا يكون هنا حيضاً، وحكى الخطابي عن مالك أنه لا تكون الحيضة هنا أقل من يوم، وكل من قال بالتحديد بيوم أو يومين أو ثلاثة أو خمسة فإنما قال ذلك لعادة جرت عنده. وصرح المصنف عن سحنون أنه يقول: إن أقل الحيض خمسة، وإنما يحكيه غيره استقراء من قوله أنها لا تنقضي بأقل من أربعين، أي بناء على أن أقل الحيض خمسة، وعلى المشهور أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، وذلك أنه يقدر الطلاق وقع آخر لحظة من الطهر فهذا قرء ثم حاضت بعد خمسة أيام ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم حاضت خمسة

ص: 15

ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم دخلت في الدم الثالث وذلك أربعون، ولو بنى على قوله أن أقل الطهر ثمانية لانقضت بستة وعشرين.

قوله: (وقَد تَقَدَّمَ الطُّهْرُ فِي الْحَيْضِ) فيه حذف خطابين تقديرهما: تقدم مقدار الطهر في كتاب الحيض، وحاصل كلام المصنف أن الطهر في البابين سواء، وإنما يختلف البابان في مقدار الحيض.

وَالْمُرْتَابَةُ بغَيْر ِسَبَبٍ مُعْتَادٍ- حُرَّةً أَوْ أَمَةً- تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً ثُمَّ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ عِدَّةً فَتَحِلُّ عَقِبَ السَّنَةِ، كَمَا قَضَى عُمَرُ، ولذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: عِدَّة الطَّلاقِ بَعْدَ الَّريبَةِ، وعِدَّةُ الْوَفَاةِ قَبْلَ الرِّيبَةِ

لما انقضى كلامه على المعتادة أخذ يتكلم على المرتابة بتأخير الحيض.

وقوله: (بغَيْر ِسَبَبٍ مُعْتَادٍ) احترز بذلك مما لو تأخر حيضها لسبب معتاد وسيأتي. وسوى المصنف بين الحرة والأمة في التربص تسعة أشهر، وهي زمان الحمل غالباً، فإذا لم يظهر بها حمل ولا رأت ما حصل الظن أنها ليست بحامل وأنها لا ترى دماً فقام ذلك مقام الإياس من كونها من أهل الأقراء فتعتد حينئذ كعدة الآيسة ثلاثة أشهر مضافة إلى التسعة ولا تدخل فيها، وهو معنى قوله:(فَتَحِلُّ عَقِبَ السَّنَةِ) ثم أشار إلى دليل هذا الكم بقوله: (كَمَا قَضَى عُمَرُ) وبه قال ابن عباس ولا يعلم لهما مخالف، وهذا هو المشهور.

وذكر في الكافي قولاً آخر أن المرتابة لا تخرج من عدتها حتى تستوفي بقيتها وترفع الريبة. وقال أشهب: تعتد الأمة بأحد عشر شهراً تسعة استبراءً وشهران للعدة، وهو الظاهر لأن الثلاثة أشهر إنما لم تتشطر في حق الأمة لأجل أن الحمل لا يظهر في أقل منها وها هنا قد حصل قبلها تسعة أشهر.

ص: 16

وقوله: (ولذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ

إلخ) إنما كانت عدة الطلاق بعد الريبة قبلها لأن المطلقة تطلب أولاً بالأقراء فإذ مضت لها تسعة أشهر ولم تر شيئاً علمت أن عدتها بالأشهر، والمتوفى عنها تعتد بالأشهر فإذا انقضت عدتها ولم تر حيضاً وهي ممن تحيض في ذلك القدر حصت الريبة فأمرت أن تنتظر حمل النساء غالباً، وهو تسعة أشهر- لتزول الريبة.

فَإِنْ حَاضَتْ فِي السَّنَةِ ولَوْ آخِرَهَا انْتَظَرَتِ الثَّانِيَةَ كَذَلِك ثُمَّ الثَّالِثَةَ

يعني: إذا قلنا تتربص سنة فإن جاءتها الحيضة ولو في آخر السنة انتقلت إلى الحيض لأن الحيض يدل على الأقراء فإذا ظهر الأصل قبل ترتب البدل وجب إلغاء البدل كما في سائر الأصول، أما لو رأت الدم بعد السنة ولو بقليل لم يكن له أثر لأن المرأة قد حلت للأزواج بانقضاء السنة، فكان ذلك بمنزلة ما لو طرأ الماء على المتيمم وهو في الصلاة، وما ذكر المصنف من انتظار الثانية والثالثة كذلك هو المشهور.

وقال ابن نافع: إن حاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها أو كانت ممن تحيض فإنها تنتظر أقصى الحمل خمس سنين، وإن كانت ممن يئس مثلها من الحيض اعتدت بالسنة تسعة أشهر ثم ثلاثة.

سحنون: وأصحابنا لا يفرقون بينهما والعدة فيهما بالسنة. الشيخ أبو محمد: يعني سحنون فيمن يحتمل أن تحيض، وأما من لم تحتمل ذلك فعدتها ثلاثة أشهر.

فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى عِدَّةٍ أُخْرَى قَبْلَ الْحَيْضِ فَفِي الاكْتِفَاءِ بثَلاثَةِ أَشْهُرٍ قَوْلانِ

يعني: إذا تمت عدتها بالسنة ثم احتاجت إلى عدة أخرى إما بأن تزوجت غير زوجها ودخل بها ثم طلقها، وإما أن يكون زوجها قد ارتجعها ثم طلقها فروى محمد عن مالك وأصحابه أن عدتها ثلاثة أشهر حرة كانت أو أمة لأنها لما اعتدت بالشهور صارت لها حكم اليائسة والقول بأنها لا تكتفي بثلاثة [400/ب] أشهر وتنتظر السنة لم أره معزواً.

ص: 17

وَتَكْفِي فِي الأَمَةِ الْمُشَتَراةِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ باتِّفَاقٍ

قال في المدونة: وإن اشترى معتدة من طلاق وهي ممن يحيض فارتفعت حيضتها فإذا مضت سنة من يوم الطلاق وليوم الشراء ثلاثة أشهر فأكثر حلت، وعلى هذا ففاعل (تَكْفِي) ضمير عائد على السنة، ويكون كلامه مقيداً بما إذا بقي من السنة من يوم الشراء ثلاثة أكثر، ويحتمل أن يكون ضمير (تَكْفِي) عائد على الثلاثة أشهر المتقدمة في قوله:(فَفِي الاكْتِفَاءِ بثَلاثَةِ أَشْهُرٍ قَوْلانِ) وذكر عن القابسي في معتدة من طلاق اشتريت فرفعتها حيضتها أنها لا توطأ إلا بعد سنة ولو قال القوابل بعد ثلاثة أشهر وقبل سنة لا حمل بها، فلا توطأ إلا بعد حيضتين أو سنة لا حيض فيها.

قال: وليست كالمعتدة من الوفاة هذه إن قال القوابل: بعد ثلاثة أشهر وقبل تسعة لا حمل بها، حل لمشتريها وطؤها لأن العدة من الوفاة قد انقضت بمضي شهرين وخمس ليال والتربص لزوال الريبة فمتى زالت حلت، والمطلقة عدتها بعد التسعة أشهر، وفي المدونة أيضا: من اشترى معتدة من وفاة زوج فحاضت قبل تمام شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تتم عدتها، فإن انقضت عدتها أجزأتها من العدة والاستبراء، وإن انقضت ولم تحض حتى تتم عدتها، فإن انقضت عدتها أجزأتها من العدة والاستبراء، وإن انقضت ولم تحض بعد البيع انتظرت الحيضة فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، فإن زالت الريبة قبلها حلت وإن ارتابت بعدها بحس البطن لم توطأ حتى تذهب الريبة. وأتيت بالكلام في المشتراة في عدة الوفاة استطراداً لأن كلام المصنف لا يتناولها، إذ هو الآن إنما يتكلم في عدة المطلقة.

وَبسَبَبٍ مُعْتَادٍ كَمَنِ اعْتَادَتْهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ سَنَةٍ فَفِي انْتِظَارِهَا لاعْتِبَارِ الأَقْرَاءِ قَوْلانِ، وعَلَى انْتِظَارِهَا تَحِلُ بِانْتِفَائِهَا

هذا قسيم قوله: (والمرتابة بغير سبب معتاد) أي والمرتابة بسبب معتاد، وجعل المصنف الأسباب أربعة: الأول: إذا كانت عادتها أنها لا تحيض إلا في كل سنة أو نحو

ص: 18

ذلك. والثاني: الرضاع. والثالث: المرض. والرابع: الاستحاضةز واقتصر في الجواهر على الثلاثة الأخر، وهو أحسن، لأن في إدخال من تأخر حيضها بسبب العادة تحت المرتابة تسامحاً، والقول بانتظارها الأقراء لمحمد، وهو الذي حكاه اللخمي وغيره.

ابن عبد السلام: وهو الظاهر. ابن راشد: وهو الصحيح عملاً بعموم الآية، لأن عمدة المذهب في التربص سنة إنما هو قضاء عمر، وهو إنما كان فيمن رفعتها حيضتها.

ابن راشد: وقيل تحل بانقضاء السنة. وقال ابن عبد السلام: لا أتحقق وجود هذا القول في المذهب. ويمكن أن يريد المصنف أنها تحل بثلاث أشهر، لكن هذا القول إنما نقله أشهب عن طاوس ووجهه أنه حمل الآية في الأقراء الثلاثة على الغالب من حصول الطهر والحيض في شهر. وعلى الانتظار فقال محمد: إن لم تحِض عند مجيئها حلت وإن حاضت من الغد، وهذا معنى قوله:(وعَلَى انْتِظَارِهَا تَحِلُ بِانْتِفَائِهَا) وكذلك في الحيضة الثانية والثالثة، واستشكله اللخمي فقال: وليس هذا أصل المذهب، ألا تحتسب بالحيض إذا جاء من الغد لأن الحيض يتقدم ويتأخر.

ثم تكلم المصنف على الرضاع فقال:

والْمُرْضِعَةُ تَتَرَبَّصُ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ لا بالسَّنَةِ اتَّفَاقاً، فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّضَاعُ تَرَبَّصَتْ حِيَنِئِذٍ كالأُولَى ....

ما حكاه من الاتفاق حكاه محمد فقال: لم يختلف قول مالك وأصحابه في عدة المرضع أنها لا تعتد بالسنة وعليها أن تنتظر الحيض أبداً ما دامت ترضع حتى ينقطع عنها الرضاع فتسقبل ثلاث حيض، فإن لم تحِض حتى أتت عليها سنة من يوم قطعت الرضاع حلت. وهذا معنى قول المصنف:(فَإِذَا انْقَطَعَ الرَّضَاعُ تَرَبَّصَتْ حِيَنِئِذٍ كالأُولَى) وعلل محمد انتظارها للأقراء بأنا عرفنا أن الرضاع هو الذي رفع عنها الحيض فكانت عدتها بالأقراء كما قال الله تعالى، أي فلم تدخل تحت اليائسات.

ص: 19

وَلِلَّزْوِج انْتِزَاعُ وَلَدِهِ فِرَاراً مِنْ أَنْ تَرِثَهُ أَوْ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعَةً فِي طَلاقٍ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْوَلَدِ ....

هكذا قال مالك ومحمد وهو مئروط بأن لا يضر بالود كما إذا علق بأمه ولم يقبل غيرها. مالك في العتبية: وكذلك هي إذا طلبت طرحه إذا قبل ثدي غيرها وكان للأب مال. وإنما قال المصنف: (فِي طَلاقٍ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ) لأنه لو كان طلاقاً بائناً لم يحتج إلى انتزاع الولد لأنها حينئذ لا ترثه وله أن يتزوج أختها أو رابعة، ثم تكلم المصنف على المرض فقال:

وَالْمَرِيضَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَالْمُرْتَابَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وقَالَ أَشْهَبُ: كَالْمُرْضِعِ

قوله: (كَالْمُرْتَابَةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ) أي تتربص سنة، ورأى أشهب أن المرض يذهب الدم فكان كالرضاع، وفرق ابن القاسم بينهما بأن المرضعة قادرة على إزالة ذلك السبب فكانت قادرة على الأقراء بخلاف المريضة فإنها لا تقدر على رفع السبب فأشبهت اليائسة. وقول ابن القاسم مروي عن مالك، وبه قال أصبغ وابن عبد الحكم، واختار ابن المواز قول أشهب [401/أ] ثم تكلم المصنف على السبب الرابع وهو الاستحاضة فقال:

وَأَمَّا الْمْسَتحَاضَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُمَيَّزَةَّ بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَرِوَايَتَانِ، ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعْتَبرُ الْحَيْضُ الْمُمَيَّزُ، ابْنُ وَهْبٍ: كَالْمُرْتَابَة، وغَيْرُ الْمُمَيِّزَة كَالْمُرْتَابَةِ ....

حاصله أن المستحاضة على ضربين: إن كانت غير مميزة فهي كالمرتابة باتفاق فعدتها سنة، وإن ميزت فروايتان، واختار ابن القاسم أنها تعمل على المميز الذي لاشك فيه وهو المشهور، واختار ابن وهب أن تعتد بالسنة كالأوىل وتمييزه برائحته ولونه، وقال ابن المواز بكثرته أي أن دم الحيض كثير ودم الاستحاضة قليل، والأمة في ذلك كالحرة.

ص: 20

تنبيه:

الباجي: انتظارها سنة ظاهر في تقديم الاستحاضة وأما في تأخيرها ففيه نظر وذلك أن الاستحاضة لا تكون إلا بعد حيض، فإذ وجد الحيض بطل حكم الريبة بارتفاع الحيضة واعتدت بالأقراء، فلا يجوز أن يضاف ما بعد الحيض والاستحاضة إلى ما قبله، وقاله ابن القاسم. تستأنف بالمستحاضة التي ينقطع عنها الدم سنة من يوم انقطعت الاستحاضة، ووجهه أن الاستحاضة ليست من جنس انقطاع الدم فلا تلفق. وقال بعضهم: إذا قلنا تبني على أيام الاستحاضة فاختلف إذا لم تعلم أول الدم هل كان حيضاً أو استحاضة؟ فقيل: محمله على الاستحاضة وتكون السنة من يوم الطلاق.

محمد: والقياس أن تكون السنة من بعد قدر حيضة والاستطهار.

وأَمَّا الصَّغِيرَةُ والْيَائِسَةُ حُرَّةُ أَوْ أَمَةً فَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ بِالأَهِلَّةِ

لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي كذلك، وقوله:(حرة أو أمة) هو المشهور، ووجهه أن الحمل لا يظهر في أقل من ثلاثة أشهر. وحكى ابن بشير قولين آخرين: شهر ونصف. والثاني: شهران. وقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي فلم تدروا ما عدتهن، هكذا فسره مالك في العتبية، وقال ابن بكير والقاضي إسماعيل: إن ارتبتم في معاودة الحيض، قالا: ولو كانت ريبة ماضية في الحكم لكان حقها أن ارتبتم بفتح الألف من إن. قالا: واليائس في كلام العرب إنما هو فيما لم ينقطع فيه الرجاء، يقال: يئست من الحيض لشدة مرض ومن الغائب لبعد غيبته، ولا يقال: يئست من الميت الذي قد انقطع منه الرجاء.

قال اللخمي: والأول أحسن لقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} ولا يجتمع الإياس والشك وقال بعض المفسرين: المعنى: إن ارتبتم هذ الدم الذي ظهر من المرأة استحاضة أو حيض معهود أو كبر؟ وقال بعضهم أنه متصل بأول السورة، والمعنى

ص: 21

لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة، قيل: وهو الأصح في معنى الآية. وقوله: (بِالأَهِلَّةِ) ظاهر.

فَإِنِ انْكَسَرَ الأَوَّلُ تُمِّمَ الْمُنْكَسِرُ ثَلاثِينَ مِنَ الرَّابعِ، وقِيلَ: تُمِّمَ الثلاثة

أي فإن انكسر الشهر الأول بأن طلقها في أثناء شهر، وما قدمه المصنف هو في المدونة على بعض الروايات، لكن صرح عياض وغيره بأن ذلك إنما هو عن ابن شهاب وربيعة.

المتيطي عن بعض القرويين: وقولهما مخالف لقول مالك. وقال أبو عمران: لعل ربيعة يريد إذا لم تر الأهلة مثل أن يغم الهلال، وهو أحسن من الخلاف، والقول الثاني هو مذهب المدونة، ونص عليه في كتاب أكرية الدور، وصرح بعضهم بمشهوريته، وهو الذي يأتي على ما ذكره المصنف في الظهار بقوله: فإن انكسر الأول تمم المنكسر ثلاثين من الثالث، وهو الظاهر لأن المطلوب ما يصدق عليه ثلاثة أشهر، وذلك حاصل بهذا القدر، ووقع في بعض النسخ تقديم هذا القول وهي أحسن.

قَالَ مَالِكٌ: وتُلْغِي الْيَوْمَ الأَوَّلَ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: تَحْتَسِبُ بهِ إِلَى وَقْتِهِ

أي: إذا طلقت في بعض يوم- وعلى قوله الأول- أنها تحتسب به إلى وقته فتحل في تلك الساعة. قال في البيان: ووجهه أنها تجب عليها بإجماع أن تبتدئ العدة من تلك الساعة ولتجتنب الطيب والزينة من حينئذ إن كانت عدة وفاة فيجب أن تحل في تلك الساعة. قال: ووجه الثاني أن السنة والشهر واليوم لما كان أول كل واحد منها غروب الشمس عند العرب والعجم وجب إلغاء بعض اليوم. وعلى الثاني: لو تزوجت بعد الوقت الذي هلك فيه زوجها وقبل غروب الشمس لفسخ النكاح. وقال ابن القاسم: لا يفسخ. وهو قول ثالث وهو استحسان مراعاة للخلاف.

ص: 22

فَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ تَمَامِهَا عَادَتْ إِلَى الأَقْرَاءِ

يعني: فإن رأت الصغيرة الدم قبل تمام الأشهر فإنها تلغي ما قدم وتعتد بالأقراء ولو كان ذلك في آخر يوم من الأشهر لأنها إنما اعتدت بالأشهر لتعذر الحيض، وإنما خصصنا كلامه هنا بالصغيرة كما قال ابن راشد، ولم نعممه في الصغيرة والكبيرة كما قال ابن عبد السلام لأنه سيتكلم في اليائسة. والعدد بالنسبة إلى الصغيرة مجاز لأنه حقيقة في الرجوع إلى شيء تقدم، ثم كلامه مقيد بما إذا كانت في سن من تحيض وأما من لم تحِض فلا اعتبار به وهو دم علة وفساد كما لو رأته بنت الستة ونحوها، وهذا معنى قوله:

وما تَرَاهُ مَنْ لا يَحِيضُ مِثلُها لا اعْتِدَادَ بِهِ

ثم تكلم على اليائسة فقال:

وَما تَرَاهُ الْيَائِسَةُ يُسْأَلُ النِّسَاءُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حَيْضاً انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَهُ كَالْمُرْتَابَةِ بَعْدَ حَيْضَة ....

أي إذا قال النساء أنه حيض فليست بيائسة، وإنما معنى الكلام [401/ب] وما تراه من شك في كونها يائسة فإن قلن أنه حيض انتقلت إليه. قال في المدونة: وإن قلن ليس بحيض وكانت في سن من لم تحض من بنات السبعين والثمانين لم يكن ذلك حيضاً وتمادت بالأشهر. ونص في المقدمات في كتاب الطهارة على أنه إذا شك في هذا الدم أنه يحكم له بحكم الحيض حتى يظهر.

وَاَّلتِي لَمْ تَحِضْ، وإن بَلَغَتِ الثَّلاثِينَ كَالصَّغِيرَة

يريد: وأكثر من الثلاثين، وقد صرح في أصل المدونة بأن الأربعين كذلك، قال علماؤنا: وأما لو حاضت مرة في عمرها ثم انقطع عنها سنين كثيرة لمرض أو غيره، وقد

ص: 23

ولدت أو لم تلد ثم طلقت فإن عدتها بالأقراء ما لم تبلغ سن من لم تحض، فإن أتتها الأقراء وإلا تربصت سنة كما تقدم.

وَالْحَامِلُ تَحِلُّ بِوَضْعِ جَمِيعِ حَمْلِهَا لا بأَحَدِ التَّوْءَمَيْنِ، ولِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ قَبْلَ وَضْعِ الثَّانِي، ولا فَرْقَ بَيْنَ الْكَامِلِ والْعَلَقةِ كَالاسْتِيلادِ ....

لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وذلك يتناول جميع الحمل، فلذلك فلا تحل إلا بوضع الثاني، فإذا لم تحل كان للزوج الرجعة، ولفظ الحمل يتناول الكامل والعلقة ونص في المدونة في إرخاء الستور على أنها تحل بالمضغة والعلقة وتكون بها أم ولد، ونص في الاستبراء على أن الدم المجتمع كذلك. وقال أشهب: لا تحل بالدم المطلقة ولا تكون به الأمة أم ولد. قيل: وعلامة هذا الدم عند ابن القاسم أن يصب عليه الماء فلا يذوب.

ابن عبد السلام: وما تقدم من أنها تحل بالدم عند ابن القاسم ولا تحل به عند أشهب هو المعلوم من المذهب وعكسه عياض في بعض تواليفه.

والْمُرْتَاَبَةُ بحَسِّ الْبَطْنِ لا تُنْكَحُ إِلا بَعْدَ أَقْصَى أَمَدِ الْوَضْعِ، وهُوَ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، ورُوِيَ أَرْبَعَةٌ، وسَبْعَةٌ، وقَالَ أَشْهَبُ: لا تَحِلُّ أَبَداً حَتَّى يَتَبَيَّنَ ....

ما ذكره المصنف أنه المشهور كذلك، قال ابن شاس وغيره، وهو قوله في كتاب العدة من المدونة، والقول بالأربع هو أيضاً في كتاب العتق من المدونة.

عبد الوهاب: وهي الرواية المشهور. قال ابن الجلاب: هو الصحيح. وروى أشهب عنه أن أقصاه سبعة أعوام، وقال أشهب: لا تحل أبداً حتى يتبين براءتها من الحمل. قال: وأرى أن المرأة تلد أبداً إذا كانت ترى الدم حتى يذهب عنها ثم تستقبل تسعة أشهر. وهذا يصحح النسخة التي ذكرناها وهي قوله: حتى يتبين، لا ما وقع في بعض النسخ: حتى

ص: 24

يتأيس، من الإياس لأنه لا يلزم من بلوغها سن الإياس أن لا يكون في بطنها حمل متقدم وإنما يمنع الإياس ابتداء الحمل، ويمكن أن يكون المعنى: حتى تيأس من الحمل، فيتفق معنى هذه والأولى، وما جاء هذا الإشكال إلا من فهم الإياس من الحيض، ونقل الجوهري في إجماعه عن محمد بن الحكم أن أكثره تسعة أشهر.

ابن عبد السلام: ولا أعلم له موافقاً كما لا أعلم له موجهاً لأن العيان يقتضي خلافه بما لا يشك فيه ولعله لم يصح عنه. وروي عن مالك أنه لا تحد في ذلك بل يلحق الولد بما يقول النساء أنه يلحق به. وهو أظهر، وسيأتي هذا القول من كلام المصنف.

والنِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فِيهِ سَوَاءٌ

أي: فيما تقدم، وهو أكثر مدة الحمل، ولعله إنما ذكر هذا إشارة إلى دفع ما يقال أنه وجد من بني فلان من لا تلد إلى كذا، وفي بني فلان من لا تلد إلى كذا.

ولَوْ أَتَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ بِوَلَدٍ لِدُونِ أَقْصَى الْحَمْل لَحِقَ بِهِ إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باللِّعَانِ، ولا يَضُرُّهَا إِقْرَارُهَا بانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لأَّنَّ الْحَامِلُ تَحِيضُ

يعني: أن المرأة المطلقة- وفي معناها المتوفى عنها- إذ أتت بعد انقضاء العدة بولد فإنه يلحق به إذا أتت به لما يلحق فيه الولد، ولا ينتفي عنه إلا بلعان لأن الولد للفراش، وكلام المصنف ظاهر التصور وهو مقيد بما إذا لم تتزوج غير هذا الزوج أو تزوجت غيره وأتت به لأقل من ستة أشهر من عقد الثاني، وحينئذ ينفسخ نكاح الثاني لأنه نكاح في عدة وترجع إلى الأول، وأما إن أتت به لستة أشهر فأكثر فهو لاحق بالثاني قطعاً.

وَفِيهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ خَمْسِ سِنِينَ بأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْ بِوَاحِد مِنْهُمَا وحُدَّتْ واسْتَضْعَفَهُ بَعْضُهُمْ وقَالَ كَأَنَّ تَحْدِيدَ خَمْسِ سِنِينَ فَرْضٌ ....

إنما لم يلحق بالأول للزيادة على الخمس سنين ولم يلحق بالثاني لنقصانه عن أقل الحمل، إذا لم يلحق بواحد منهما فتحد قطعاً، والمستضعف لهذا هو القابسي. ابن يونس:

ص: 25

وكان يستعظم أن ينفى الولد من الزوج الأول، وتبعه على ذلك اللخمي، وهو استضعاف ظاهر، ولظهوره عقب المصنف ذلك بقوله:

وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِمَا يُشْبِهُ لَزِمَ

وإلا فكان الأليق بالمصنف أن يقدم هذا القول لما ذكر الخلاف والله أعلم.

وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلا بَيِّنَةَ اسْتَانَفَتِ الْعِدَّةَ مِنْ يَوْمِ إِقْرَارِهِ وَوَرِثَتْهُ فِيهَا فِي الَّرجْعِيِّ، ولا يَرِثُهَا وَلا رَجْعَةَ لَهُ إِنِ انْقَضَى قَدْرُ الْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِ طَلاقِ إِقْرَارِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بيِّنَةٌ فَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ طلَّقَ

صورة المسألة من كلامه ظاهرة وإنما استأنفت العدة من يوم أقر لأن العدة حق لله تعالى [402/أ] فلا يصدق في إسقاطها ولذلك ورثته في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة، وإنما لم يرثها ولم تكن له رجعة إذا انقضت العدة من يوم طلاق إقراره لأنه أقر أنها حينئذ أجنبية، فالشرط في قوله:(إِنِ انْقَضَى) راجع إلى مسألتي الميراث والارتجاع معاً. قال في المدونة: وإن كان الطلاق بتاتاً لم يتوارثا بحال.

أبو الحسن: وانظر لو قال الزوج: إنما أقررت بذلك لإسقاط النفقة والسكنى هل يصدق وتكون له الجرعة كما صدقوا المرأة إذا دعت أن زوجها طلقها ثلاثة ولم تصدق عليه ثم خالعها وأرادت نكاحه وقالت: إنما أقررت بذلك لإسقاط النفقة والسكنى لأتخلص منه أن ذلك لها وكما صدقوها إذ طلقت وادعت أنها حامل ثم تقول: لم يكن بي حمل وإنما قلت ذلك ليراجعني زوجي.

وقوله: (وَإِنْ كَانَتْ بيِّنَةٌ) أي تشهد بما أقر به فالعدة من يوم شهدت البينة، لأن قيام البينة يقطع كل تهمة. قال في التهذيب، ويرجع عليها بما أنفقته من ماله بعد طلاقه قبل علمها لأنه فرط، زاد في أصل المدونة بخلاف المتوفى عنها تنفق من مال زوجها بعد موته فللورثة الرجوع عليها.

ص: 26

مالك في العتبية: وترجع أيضاً بما تسلفت في الطلاق. وقال ابن نافع: لا ترجع بما تسلفت بخلاف ما أنفقت. ابن المواز: ولو قدم عليها رجل واحد يشهد بطلاقها فأعلمها أو رجل وامرأتان فليس ذلك بشيء حتى يشهد عندها من يحكم به السلطان في الطلاق.

وَزَوْجَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا- صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، بنِكَاحٍ صَحِيحٍ غَيْر الْحَامِلِ مِنْهُ- تَعْتَدُّ صَغِيَرةً أَوْ كَبِيرَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً، مَدْخُولاً بهَا أَم لا- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرانِ وخَمْسُ لَيَالٍ

أي: أن المسلم مطلقاً سواء كان صغيراً أو كبيراً إذا توفي عن زوجته صغيرة كانت أو كبيرة تعتد لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] الآية، ولم يفرق هنا في الزوج والزوجة بين أن يكونا صغيرين أو لا، لأن الزوج لما كان معدوماً في عدة الوفاة حسم الشرع الباب وأوجب له العدة مطلقاً بخلاف الطلاق فإن الزوج يبحث عن حال المعتدة ويذب عن نفسه. واحترز بقوله:(غير الحامل) من الحامل فإن عدتها وضع حملها كما سيأتي. وقوله: (فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً) يريد: أو فيها بقية رق. وحكى ابن أبي زيد وابن العطار عن مالك أنه لا عدة على أمة توفي عنها زوجها قبل البناء وإن كان مثلها يوطأ، وهي رواية شاذة.

وَتُجْبَرُ الذِّمَّيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ، ورُوِيَ فِي الْحُرَّةِ الذِّمِّيَّةِ ثَلاثَةُ قُرُوءٍ ولا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ....

أي: العدة المتقدمة وهي أربعة أشهر وعشر، وجبرت إما لعموم الآية وإما لأنه حق بين مسلم وكافر، وما هذا شأنه يغلب فيه المسلم، والرواية أنها تعتد بثلاثة قروء حكاها ابن الجلاب وغيره.

ص: 27

وقوله: (ولا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ): هكذا وقع في نسختي ولم يقع ذلك في نسخة ابن عبد السلام وابن راشد، وعلى وقوعها فليست ابتداء مسألة وإنما هي من تمام الرواية الثانية، ففي الجواهر: وروي الحرة الذمية أنها تستبرأ بثلاث حيض، ويشرط في هذه الرواية كونها مدخولاً بها وإلا فلا عدة عليها، وأما على المشهور فتعتد بأربعة أشهر وعشراً، وهكذا أشار ابن الجلاب وغيره.

تنبيه:

يعني: أن ما قدمه من أن المتوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشراً إنما هو في النكاح الصحي، وأما الفاسد فإنها تلحق بالمطلقات فإن دخل بها استبرئت بثلاث حيض وإن لم يدخل بها استبرئت بثلاث حيض وإن لم يدخل بها فلا شيء عليها لأن الحكم يوجب فسخه، وتحقيق المذهب أن الفساد إن كان مجمعاً عليه ولم يدخل بها فلا عدة، وإن دخل بها فعليها الاستبراء خاصة على المشهور، وقيل: تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن كان مختلفاً فيه ولم يدخل فمن ورثها قال: عليها العدة، ومن لم يورثها لم ير عليها شيئاً. وإن كان دخل ففي اعتدادها بالأشهر أو الأقراء قولان، روى ابن المواز عن ابن القاسم فيمن تزوج في المرض ثم مات أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، وقال أيضاً أنها تعتد بثلاثة أقراء، والأول أظهر.

وَقَالَ أَشْهَبُ: لابُدَّ مِنْ حَيْضَةٍ أَوْ مَا يَنُوبُ عَنْهَا فِي الْمُرْتَابَةِ، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. والْمَشْهُورُ: إِنْ تَمَتْ قَبْلَ عَادَتِهَا فَلا، ويَنْظُرُها النِّسَاءُ وإِلا فَنَعَمْ

لا خلاف أن المعتدة في الوفاة تحل بمضي الشهر إذا حاضت في أثنائها، واختلف إذا لم تحض، فروى أشهب: لابد من حيضة كانت أيام طهرها أقل من العدة أو أكثر، وإن لم

ص: 28

تحض فلا بد من تسعة أشهر. وإلى هذا أشار بقوله: أو ما ينوب عنها في المرتابة. وفي قوله: (قَالَ أَشْهَبُ) نظر، لأنه يوهم أن أشهب قاله، والمنقول عنه في المنتقى والمقدمات وغيرهما كقول [402/أ] ابن الماجشون: لا يحتاج إليها، وتكفيها أربعة أشهر وعشر لأنه لو كانت الحيضة مشروطة لبينته الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] والمشهور تصوره واضح ووجهه بين، لأن تأخير الحيض إذا كانت عادتها أن تحيض قبل مضي مقدار العدة ريبة بخلاف ما إذا كانت عادتها أنها لا تحيض في قدرها، فإن التأخير هنا لا يوجب ريبة، ولذلك اتفق على أن المرضع والمريضة تحل بمضي أربعة أشهر وعشر، قاله ابن بشير لأنها لم يتأخر الحيض عنها لريبة في الحمل وإنما ذلك لما نزل بها، وعلى المشهور فتكون الآية مخصصة بمن لم تحصل لها ريبة بتأخير الحيض وهو مبني على تخصيص العموم بالمعنى. وما ذكره المصنف أنه المشهور رواه مطرف عن مالك، وحاصله أنها تبرأ بمضي أربعة أشهر وعشر بشرطين: أن تتم العدة قبل مجيء عادتها، وأن ينظرها النساء ويقلن لا ريبة بها. وإلى الشرط الثاني أشار بقوله: وينظرها النساء، أي إذا تمت العدة قبل عادتها.

قوله: (وإِلا فَنَعَمْ) أي وإن قال النساء: بها ريبة، فلابد من الحيضة أو ما يقوم مقامها، وهذا الخلاف في المدخول بها.

القاضي أبو محمد: وأما غير المدخول بها فتحل بمضي العدة وإن تأخر حيضها. وروى ابن المواز وابن سحنون أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر إلا أن ترتاب بتأخير الحيض فترفع لتسعة أشهر.

وفِي الْمْستَحَاضَةِ قَوْلانِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْر، وتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَالتَّفْصِيلُ أَيْضاً فِي الْمُمَيِّزَةِ ....

اقتصر الباجي على القول بأنها تعتد بتسعة أشهر، وحكاه اللخمي وابن بشير وحكيا أيضاً القول بأنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، واستحسنه اللخمي لعموم الآية. قال ابن

ص: 29

عبد السلام: والقولان لمالك نصاً، وأما الثالث فتخريج، ومعناه أنها إن كانت غير مميزة تربصت تسعة أشهر وإلا اكتفت بالأربعة أشهر وعشر إن أتتها فيها حيضة، كما تقدم.

وَأَمَّا الأَمَةُ فَقِيلَ: لا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْعِدَّةِ اتِّفَاقاً، وإِنَّمَا تَحِلُّ بِمَا تَحِلُّ بِهِ الأَمَةُ فِي الشِّرَاءِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ مَعَهَا، وقِيلَ: تَحِلُّ الْمُرْضِعُ بِمُضِيِّهَا، وفِي الْعُتْبِيَّةِ: تَحِلُّ مُطْلَقاً ....

حاصل ما ذكره طريقان: أحدهما: أن ما تقدم من الخلاف في اشتراط الحيضة في عدة الوفاة إنما ذلك في عدة الحرة، وأما الأمة فالاتفاق على أنها لا تحل بمجرد مضيها لقصر أمدها فلا يظهر الحمل فيها.

وقوله: (وإِنَّمَا تَحِلُّ

إلخ): ليس بظاهر لأنه لا يؤخذ منه الحكم، ولا يقال: لعله شبه لإفادة الحكم لأن التشبيه لإفادة إنما يكون إذا ذكره. وقد اختلف بما تحل به الأمة المتأخر زمان حيضها في الشراء، هل بثلاثة أشهر أو تسعة؟ ومقتضى المدونة أنها تحل بثلاثة إلا أن ترتاب، ففيها: ومن اشترى معتدة من وفاة زوج فحاضت قبل تمام شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تتم عدتها، فإن انقضت أجزائها عن العدة والاستبراء، وإن تمت عدتها ولم تحض بعد البيع انتظرت الحيضة فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، فإن زالت الريبة قبلها حلت وإن ارتابت بعدها بحس البطن لم توطأ حتى تذهب الريبة.

قيل لابن شاش: ما فائدة التسعة وهي لا تبرأ إلا بزوال الريبة؟ قال: معنى ذلك إذا أحست شيئاً عند الثلاثة وارتفعت إلى التسعة كفتها التسعة إن لم تزد تلك الريبة، وأنها لا تزيد على التسعة إلا أن تزيد تلك الريبة. ابن عبد السلام: والمشهور أنها ترفع إلى تسعة أشهر.

خليل: ولعله يريد مع الريبة ليوافق المدونة. وقول المصنف: وإنما تحل بما تحل به الأمة في الشراء: يحتمل أن يريد به القولين أو على أحدهما، والأقرب أنه يريد القول بالثلاثة

ص: 30

الأشهر لأنه الذي في الجواهر، وهو مقتضى المدونة كما ذكرنا، وكذلك مذهب الرسالة فإنه نص فيها على أن الأمة التي لا تحيض لصغر أو كبر وقد بني بها فلا تنكح في الوفاة إلا بعد ثلاثة أشهر، وهذه الطريقة ضعيفة فإن ما حكاه المصنف عن العتبية في الطريقة الثانية يبطل الاتفاق.

وقوله: (تَحِلُّ مُطْلَقاً) أي سواء كان يخشى منها الحمل أو لا، وحكى غير واحد في هذه المسالة ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم في العتبية: تحل وإن كانت شابة يخشى منها الحمل، وفي إحدى الروايتين عن مالك أنها تكمل ثلاثة أشهر ولا تحل بدونها، وقال في الموازية: إن كانت ممن يخشى منها الحمل فثلاثة أشهر، وإن كانت صغيرة أو يائسة أو لم يدخل بها فشهران وخمس ليال. اللخمي: وهو أحسنها، والقول بأن المرضع تحل بمضيها هو أيضاً لابن القاسم في العتبية.

والْحَامِلِ بِوَضْعِهَا ولَوْ لَحْظَةً، ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا ولَوْ بَعْدَ نِكَاحِهَا

يعني: والحامل المتوفى عنها تحل بوضعها ولو ولدت بعد موته بلحظة.

(ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا) ولو تزوجت غيره، وهذا مذهب الجمهور. ورأوا أن قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] ونقل عن علي وابن عباس: إنما تعتد بأقصى [403/أ] الأجلين، وبه قال سحنون، ودليل الأول ما في الصحيح أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج، وصرح البخاري (لأربعين ليلة)، وفي الموطأ:(نصف شهر).

الباجي: وهذه القضية من آخر ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع.

ص: 31

وقوله: (ولَهَا غُسْلُ زَوْجِهَا ولَوْ بَعْدَ نِكَاحِهَا): تصوره بين.

ابن الماجشون: وإن ماتت الزوجة وكان قد تزوج أختها فله أن يغسلها. وقال ابن حبيب: أحب إلى إذا نكح أختها أن لا يغسلها.

ابن يونس: وعندي إذا ولدت المرأة وتزوجت غيره فأحب إلى ألا تغسله. وهو ظاهر، ولا يوجد دليل على جواز نظر المرأة إلى فرج رجلين في وقت واحد.

وَالْمَوْتُ يَنْقُلُ الرَّجْعِيَّةَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وقِيلَ: إِلَى أَقْصَى الأَجَلَيْنِ

يعني: أن المطلقة الرجعية سواء كانت حرة أو أمة إذا مات زوجها عنها انتقلت إلى عدة الوفاة وتبطل العدة التي كانت فيها لأن المطلقة طلاقاً رجعياً حكمها حكم الزوجة في الإرث والنفقة والسكنى وهذا هو المشهور. وقال سحنون: عليها أقصى الأجلين. ورأى أن الطلاق أوجب عدة والموت أوجب أخرى فلا يبطل الموت ما تقدم بالطلاق.

خليل: وانظر لو كانت حاضت حيضة قبل الموت ثم لم تأتها حيضة في عدة الوفاة فهل تكتفي بتلك الحيضة وهو الظاهر من جهة المعنى أو لا؟ وهو ظاهر كلامهم.

وقوله: (وَالْمَوْتُ يَنْقُلُ الرَّجْعِيَّةَ) احترز به من المطلقة طلاقاً بائناً فإن الموت لا ينقلها.

وَلا يَنْقُلُ الْعِتْقُ إِلَى عِدَّةِ الْحُرَّةِ

يعني: إذا طلقها طلاقاً رجعياً ثم عتقت فإنه تتم عدة الأمة لأن العتق ليس بموجب للعدة، وحاصله أن الناقل ما أوجب عدة.

وَلذَلِكَ لَوْ عُتِقَت ثُمَّ مَاتَ َفعِدَّةُ الْحُرَّةِ لِلْوَفَاةِ لأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا نَقَلَهَا صَادَفَهَا حُرَّةً، ولَوْ مَاتَ ثُمَّ عُتِقَتْ فَعِدَّةُ أَمَةٍ ....

يعني: ولأجل ما قدمه من أن الموت ينقل وأن العتق لا ينقل كان الحكم فيمن طلق زوجته طلاقاً رجعيا ثم عتقت ثم مات عنها أن عليها عدة الحرة، لأن الموجب لعدة

ص: 32

الوفاة حصل في حال كونها حرة بخلاف ما إذا مات ثم عتقت لأن الموجب- وهو الموت- لما نقلها لم يصادف حرة فتستمر على عدة الأمة شهرين وخمس ليال.

ابن عبد السلام: وسواء تقدمت لها حيضة أم لا، غير أنه إن تقدمت اكتفت بما انتقلت إليه، وإن لم تتقدم لها حيضة فاسلك بها ما تقدم في عدة الأمة للوفاة إذا لم تر فيها دماً، وكذلك تفعل في التي تقدم عتقها على موت مطلقها.

وَلا تَنْتَقِلُ ذِمِّيَّةٌ تُسْلِمُ تَحْتَ ذِمِّيِّ بَعْدَ الْبِنَاِء فَيَمُوتُ فِي عِدَّتِهَا

إنما لم تنتقل الذمية وإن كان الزوج أملك بها إذا أسلم لأنها في حكم البائن، وإنما كان أملك بها إذا أسلم تأليفاً على الإسلام لا لكونها رجعية، وأيضاً فالخطاب في عدة الوفاة إنما وقع للمسلمين بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} . احترز بقوله: (بَعْدَ الْبِنَاِء): مما لو مات عنها قبله فإنها لا عدة عليها.

ص: 33

وَيَجِبُ الاسْتِبْرَاءُ بِحُصُولِ الْمِلْكِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ إِرْثٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوْ إِقَالَةٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ إِذَا لَمْ تًؤْمَنِ الْبَرَاءَةُ بِوَجْهٍ قَوِيِّ اتِّفَاقاً كَذَاتِ السَّيِّدِ والْمَسْبِبَّةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِها، وإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ أَوِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا إِذَا كَانَتَا مِمَّنْ يَحْمِلْنَ عَادَةً كًبِنْتِ َثلاثَ عَشْرَةَ، وخَمْسِينَ

أصل اشتقاق الاستبراء من التبري وهو التخلص، ثم استعمل لغة في الاستقصاء والبحث والكشف عن الأمر الغامض، وفي الشرع في الكشف عن حال الأرحام عند انتقال الأملاك مراعاة لحفظ الأنساب، وهو واجب كإيجاب العدة في الزوجات لما رواه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال في سبي أوطاس:((لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة)).

الأبهري: ويجب الاستبراء بأربعة شروط: الأول: الملك، الثاني: ألا تعلم براءة الرحم، الثالث: أن يكون وطء تلك الأمة مباحاً في المستقبل، والرابع: أن لا يكون الفرج محللاً له قبل الملك، واحترز بالأول مما لو تزوج أمة فإنه لا يجب عليه استبراؤها، وبالثاني مما لو علمت براءتها كما لو حاضت الأمة المودعة عنده ثم اشتراها، وبالثالث مما لو اشترى ذات زوج، وبالرابع مما لو اشترى زوجته، وقال غيره: إذا اجتمع نقل الملك مع عدم الحوز وجب الاستبراء، وإن انتفى الأمران أو أحدهما فلا استبراء، وكلام الأبهري أحسن لأن هذا الكلام يقتضي أن الإنسان إذا اشترى أمة متزوجة بالغير أن عليه الاستبراء وليس كذلك، وقال بحصول الملك ولم يقل كغيره ينقل الملك ليدخل في كلامه ما أخذه بالغنيمة من أيدي الكفار مما أخذوه من أموال المسلمين بالقهر فإنهم إنما لهم فيه شبهة الملك على المذهب، وقسم المصنف أنواع الملك بقوله: (أَوْ غَيْرِهِ

إلخ).

وقوله: (أَوْ إِقَالَةٍ)، يريد إلا أن يتقايلا قبل التفرق فإنه لا استبراء. نص عليه في المدونة، ويؤخذ هذا التقييد [403/ب] من كلام المصنف من قوله:(إِذَا لَمْ تًؤْمَنِ) لأنه إذا حصل التقايل قبل التفرق علمت البراءة.

ص: 34

وقوله: (كَذَاتِ السَّيِّدِ) هو أيضاً من الأمثلة التي لا تعلم فيها البراءة لأنها إذا كانت ذات سيد ثم انتقلت إلى غيره فذلك الغير لم يعلم براءة رحمها لاحتمال أن يكون السيد قد وطئها.

وقوله: (والْمَسْبِبَّةِ) ظاهر، وفيها جاء الحديث المتقدم.

وقوله: (وإِنْ كَانَتْ لَمْ تَحِضْ

إلخ) (إن) للبالغة بمعنى (لو) أي يجب الاستبراء على كل من يمكن حملها سواء كانت من رأت دم الحيض أم لا، وجعل سن الصغيرة التي يمكن حملها ثلاثة عشر، وسن الكبيرة التي يمكن حملها خمسين، وتقدم في الطهارة فيمن سنها خمسون هل يحكم لم تراه من الدم بحكم الحيض أم لا؟ وكذلك اختلفوا هنا في العدد هل يحكم لها بحكم اليائسة أم لا؟

وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْضَعَ فِيهَا فَاشْتْرُيِتْ فَحَاضَتْ فِي الطَّرِيقِ.

يعني: وكذلك يجب الاستبراء إذا أبضع في جارية، أي إذا أرسل دراهم مع شخص ليشتري له بها جارية فاشتراها، وظاهر كلامه أنه لا فرق في ذلك بين أن يأتي بها المبضع معه أو يرسلها مع غيره، وإنما ذكر في المدونة المسالة فيما إذا أرسلها مع غيره.

عياض: ووجب الاستبراء هنا لأنها قد خرجت من يد مشتريها المؤتمن عليها، ولهذا فارقت المودعة التي تخرج ولو كان مشتريها هو الذي أتى بها إليه كانت كمسألة المودعة، وقال أشهب: تجزئها حيضتها في الطريق ولو أرسلت مع وكيل، ولا استبراء عنده من سوء الظن، وعلى هذا فيقيد كلام المصنف بما إذا بعثها مع غيره، واستشكل قول ابن القاسم بوجهين: أحدهما: لو وجب الاستبراء بسوء الظن لزم ألا يطأ من إيمائه إلا من لا تتصرف، وأن لا يطأ في كل طهر إلا مرة، ثانيهما: أن ابن القاسم وافق في الأمة المودعة، وكذلك الأمة المرتهنة تفدى على أن لا استبراء فيهما، فكان يلزمه ألا يستبرئ في المسالة المذكورة لأن المبضع معه والرسول أمينان، وأجيب بأن المبضع معه بعثها مع غيره بغير

ص: 35

إذن ربها فأشبه الغاصب فليس استبراء سوء الظن، ولا تشبه أيضاً الوديعة للتعدي، وفيه نظر الوديعة.

فإِنْ أمنت قَطْعاً أَوْ بِوَجْهٍ قَوِيِّ كَالاسْتِبْرَاءِ لَمْ يَجِبِ اتِّفَاقاً كَمَنْ لا تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَكَمَنْ حَاضَتْ تَحْتَ يَدِهِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدٍ لَهُ صَغِيٍر فَيَسْتَبْرِئُهَا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ولَمْ تَخْرُجْ، أَوْ لِشَرِيكِهِ، أَوْ بِوَدِيعَةٍ ولَمْ تَخْرُجْ ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا وكَالْمَبِيعَةِ بِالْخِيَارِ ولَمْ تَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ

ظاهره أن فاعل (أمنت) عائد على البراءة لأنه قسيم قوله: (إذا لم تؤمن البراءة) وصوابه على هذا أن يقول فإن حصلت البراءة أو اعتقدت بوجه قطعي أو بوجه ظني قوي، ويمكن أن يكون فاعل (أمنت) ضميراً عائداً على المشتراة المفهومة من السياق، والأول أقرب إلى لفظه كما ذكرنا، والثاني أولى لسلامته مما أورد على الأول، والله أعلم.

قوله: (كَالاسْتِبْرَاءِ) مثال لما علمت فيه البراءة بوجه ظني.

وقوله: (كَمَنْ لا تُطِيقُ الْوَطْءَ) مثال لما علمت فيه البراءة قطعاً، واعترضه ابن عبد السلام بأن الكلام إنما هو فيمن يمكن وطؤها وفيه نظر، ونص المتيطي أن بنت ثمان سنين لا تطيق الوطء وعمل بذلك وثيقة، وإنما لم يجب الاستبراء هنا لأنه إنما وجب خشية وطء الحامل، وقد انتفى الحمل إما بالقطع وإما بالظن.

وقوله: (كَمَنْ حَاضَتْ) هذه أمثلة لما ظن فيها البراءة لأنها إذا حاضت تحت يده سواء كانت لزوجته أو ولده الصغير ثم اشتراها حصل الظن القوي ببراءة رحمها.

وقوله: (مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ) راجع إلى مسألة الولد.

وقوله: (ولَمْ تَخْرُجْ) أي وأما إن خرجت فإنه يجب عليها الاستبراء لسوء الظن، وهذا الشرط إنما هو على قول ابن القاسم وأما على قول أشهب فلا.

ص: 36

ابن عبد السلام: والظن في التي انتقلت إليه من ابنه أقوى منه في المنتقلة إليه من زوجته لأن نظره في الأولى أتم، ولهذا فصل أشهب في جارية زوجته على ما حكاه عنه محمد، فقال: إن كانت معه في دار هذا الذاب عنها والناظر في أمرها أجزأه كانت تخرج أم لا تخرج، فظاهر هذا أن الزوج لو لم يكن هو الذاب عنها لكان لها حكم غير هذا.

وقوله: (أَوْ لِشَرِيكِهِ) أي اشترى نصيب شريكه وهي تحت يده.

وقوله: (أَوْ بِوَدِيعَةٍ ولَمْ تَخْرُجْ ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا) لا خفاء في اشتراط عدم دخول سيدها، وأما اشتراط عدم خروجها فهو مبنى على قول ابن القاسم لا على قول أشهب.

وقوله: (أَوْ بِوَدِيعَةٍ) معطوف على قوله: (وَكَمَنْ حَاضَتْ تَحْتَ يَدِهِ لِزَوْجَتِهِ) تقديره كمن حاضت تحت يده حالة كونها لزوجته أو بوديعة. وقول ابن عبد السلام أن قوله (بِوَدِيعَةٍ) معطوف على قوله (بِوَجْهٍ قَوِيِّ)، أو على ما عطف عليه بوجه قوي ليس بظاهر، لأن الوديعة أحد أمثلة الوجه القوي.

وقوله: (وكَالْمَبِيعَةِ بِالْخِيَارِ) أي إذا اشترى أمة على الخيار إما له أو للبائع أو لأجنبي، وقبضها المشتري وحاضت في أيام الخيار، ثم أمضى من له الخيار البيع فلا يحتاج إلى استبرائها، وهذا حكم المشتري [404/أ] وأما البائع ففي المدونة: ومن اشترى جارية بالخيار ثلاثة فتواضعاها أو كانت وخشاً فقبضها، فاختار من له الخيار ردها فلا استبراء على البائع، لأن البيع لم يتم فيها، قال: وأن أحب البائع أن يستبرئ التي غاب عليها المشتري وكان له الخيار خاصة فذلك أحسن، إذ لو وطئها المبتاع لكان بذلك مختاراً وإن كان منهياً عن ذلك، كما استحب استبراء التي غاب عليها الغاصب. عياض: وأحب في مسألة الغاصب محمولة على الوجوب. قال: ويبينه ما وقع في أول الكتاب من قوله: (وعليه أن يستبرئها). قالوا: وعلى الغاصب نفقتها ومنه ضمانها حتى تخرج. نص في الجواهر على استحباب الاستبراء إذا غاب عليها المشتري على ظاهر المدونة. وقال

ص: 37

القاضي أبو الفرج: القياس إذا غاب عليها المشتري وجوب الاستبراء. واستحسنه اللخمي. انتهى. خليل: والأقرب حمل المدونة على الوجوب في مسألة الخيار ولاسيما إذا كان الخيار للمشتري.

فَإِنْ أَمِنَتْ بِوَجْهٍ قَوِيٍّ يَقْصُرُ عَنِ الاسْتِبَراءِ فَقَوْلانِ، وهُوَ مَرَاتِبُ

هذا الكلام يتم به تقسيمه الذي بين فيه من يجب في حقه الاستبراء ومن لا يجب، وجعل الأقسام ثلاثة، إما ألا تعلم البراءة ولا تظن أولاً، فالأول يجب فيه الاستبراء ودخل فيه من ظن شغل رحمها ومن شك. والثاني إما أن تعلم براءة الرحم أو تظن بوجه قوي كالاستبراء الحاصل عنده قبل حصول ملكه أو يظن دون ذلك. وذكر في القسم الثالث في وجوب الاستبراء قولين، وجعله مراتب ولم يجعله مسائل لوجهين، لأن المراتب تفاوت الوجوه التي يقوى بها الاستبراء ويضعف، لأن المرتبة الواحدة يدخل تحتها مسائل، والمشهور في جميع المراتب الوجوب إلا الأولى.

الأُولَى: الْحَاصِلَةُ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ بِشَرْطِ أَلا يَمْضِيَ مِقْدَارُ حَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ، فَالْمَشْهُورُ: لا يَجِبُ ....

تصور كلامه ظاهر، ومقابل المشهور حكاه ابن شعبان وفضل عن أشهب أنه لابد من حيضة أخرى.

وقوله: (بِشَرْطِ أَلا يَمْضِيَ مِقْدَارُ حَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ) هكذا فسر محمد ذلك، وهو أحسن من قوله في المدونة: ومن ابتاع أمة في أول الدم أجزأه من الاستبراء، وأما في آخره وقد بقي منه يوم أو يومان فلا، لأن قوله في أول الدم أعم من المقصود، فإنها إذا كانت عادتها اثني عشر يوماً أو نحوها واشتراها بعد أربعة أيام صدق عليها أنها في أول الدم مع أنها لا تستغني ببقية هذا الدم عن الاستبراء. لكن ما أشار إليه المصنف إنما يأتي على رأي

ص: 38

أبي بكر بن عبد الرحمن، وذلك أنه اختلف في معظم الحيضة فذهب أبو بكر بن عبد الرحمن إلى أنه يراعى أكثر الأيام، وحكى ابن القصار عن ابن مناس أن معظم الحيضة اليوم الأول والثاني، لأن الدم فيهما يكون أكثر اندفاعاً من باقي الحيضة وإن كثرت الأيام، والدم القوي وهو الذي يدفع ما في الرحم لا الرقيق.

الثَّانِيةُ: مَنْ تَحْتَ يَدِهِ إِذَا كَانَتْ تَخْرُجُ أَوْ مَنْ كَانَتْ لِغَائِبٍ أَوْ لِمَجْبُوبٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيِّ أَوْ مُكَاتَبَةٍ تَتَصَرَّفُ ثُمَّ عَجَزَتْ ويُسَمَّى اسْتِبْرَاءَ سُوءِ الظَّنِّ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ. وقَالَ أَشْهَبُ: لا يجِبُ

خاف ابن القاسم عليها الحمل من زنا أو اغتصاب فأوجب الاستبراء.

ابن راشد: وهو أقيس لفساد الزمان، ولم يعتبر أشهب هذا الاستبراء الذي أوجبه ابن القاسم لسوء الظن، لأن الدليل قام على الغاية في مملوكته التي تتصرف. وقد يجاب لابن القاسم أنه لو خوطب بالاستبراء في المملوكة لشق ذلك لتكرره بخلاف المشتراة، وألحق في الجواهر المشتراة من الصبي ونحوه المشتراة من محرم، وصرح بمشهورية قول ابن القاسم. وما ذكره المصنف من وجوب الاستبراء في المكاتبة هو نص قول ابن حبيب، وهو الذي نقله التونسي وابن شاس عن ابن القاسم، وهو ظاهر نقل المازري، لأنه قال: أثبت فيها ابن القاسم الاستبراء ونفاه أشهب. والذي في المدونة في أول كتاب الاستبراء: ومن كاتب أمته ثم عجزت أحببت له الاستبراء إلا التي في يده لا تخرج فالاستبراء عليها. وعلى هذا فيكون معنى أحببت أنه يجب عليه الاستبراء. وحمل أبو الحسن وابن عبد السلام المدونة على ظاهرها، وجعل المصنف مخالفاً لها. وقد اختلف ظواهر مسائل المدونة في رجوع المكاتب إلى يد ربه بسبب العجز، هل هو ملك مستأنف أم لا؟ وخلافهم في مسألة المكاتبة راجع إلى هذا المعنى.

ص: 39

خليل: وفيه نظر لأنه خلاف ما نقله التونسي وغيره عن ابن القاسم، ولأن علة ابن القاسم حاصلة في المكاتبة كغيرها.

وَالثَّالِثَةُ: كَالْمُطِيقَةِ وَالْياَئِسَةِ لا يَحْمِلانِ عَادَةً. وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِلذَّرِيعَةِ وِلِعُسْرِ تَبَيُّنِهِ ....

قال في الجواهر: كبنت التسع والعشر فإنه يمكن وطؤها ولا تحمل في العادة، وكبنت الخمسين. والقول بوجوب الاستبراء رواه ابن القاسم عن مالك، والقياس هو الشاذ، وهو رواية ابن عبد الحكم وابن غانم، لأن الاستبراء معلل بخشية الحمل، والفرض أن العادة تنفيه لولا ما عارضه من التعليل الذي أشار إليه المصنف، لأنه لو قيل بذلك لتوسل إلى [404/ب] من يمكن الحمل منها، وأيضاً فإنه يعسر تمييز الزمان الذي يمكن فيه الحمل مما لم يمكن فيه، فلذلك أمر بالاستبراء في الجميع حسماً للذريعة.

وَالرَّابعَةُ: كَالْوَخْشِ وَالْبِكْرِ

ذكر في الجواهر أن المشهور الوجوب فيهما، والقول بنفي الوجوب في الوخش حكاه المازري وغيره. والقول بنفي الوجوب في البكر للخمي، ورآه مستحباً على وجه الاحتياط.

ابن عبد السلام: واحتمال الحمل في الوخش أقوى منه في البكر، فكان ينبغي ألا يجمع بينهما في مرتبة واحدة، بل احتمال الحمل في الوخش أقوى منه في الصغيرة واليائسة المذكورتين في المرتبة الثالثة، والذي قاله ظاهر لاسيما إن كانت الوخش شابة.

وَالْخَامِسَةُ: كَالْمُشْتَرَاةِ مُتَزَوِّجَةً فَتُطَلَّقُ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: تَحِلُّ مَكَانَهَا

يعني: إذا اشترى أمة ذات زوج ولم يبن بها، فبعد انعقاد البيع طلقها زواجها قبل أن يبني بها، فقال ابن القاسم: ليس للمشتري أن يطأها في تلك الحال، ولابد له من الاستبراء، لأنها لو أتت بولد لستة أشهر فأكثر من يوم عقد النكاح عليها لحق بالزوج.

ص: 40

وقال سحنون: تحل للمشتري مكانها، إذ لا موجب عنده للاستبراء، لأن الفرض أنها غير مدخول بها. قول ابن القاسم أظهر لما ذكرناه، ولأن الزوج إنما يباح له وطؤها بإخبار السيد لأنه لا طريق له غير ذلك بخلاف المشتري، فإنا لو أجزنا له الوطء لكان أيضاً معتمده إخبار السيد، والمشتري لا يجوز له الاعتماد على ذلك باتفاق.

وَيَجِبُ بِرُجُوعِهَا مِنْ غَصْبٍ أَوْ سَبْيٍ

القاعدة أنه متى حيزت الأمة على وجه استباحة وطئها وجب استبراؤها إذا غلب عليها غيبة يمكن فيها الوطء، ولا تصدق الأمة إن قالت لم يطأني كما لا تصدق الحرة في ذلك. عياض: قالوا وعلى الغاصب نفقتها ومنه ضمانها حتى تخرج، قالوا ويلزم هذا فيمن زنى بأمة رجل طائعة أو مكرهة، لأن طوعها لا يبطل حق سيدها.

وَيَجِبُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ بِعِتْقٍ أَوْ مَوْتِ سَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ فِي غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ والْمُعْتَدَّةِ مِنْهُمَا ....

لما كان موجب الاستبراء ضريين، حصول الملك وزواله، وتكلم على الأول أتبعه بالثاني.

ابن هارون: يعني أن الأمة الموطوءة كانت مستولدة أم لا إذا عتقها السيد أو مات سيد أم الولد فلا تتزوج كل واحدة منهما إلا بعد الاستبراء بحيضة، وإن عقد قبل الاستبراء فسخ قبل الدخول وبعده لوقوع العقد في حالة يحرم الاستمتاع فيها لحق الغير. ثم إن هذا الاستبراء إنما يحتاج إليه إذا لم يكونا متزوجتين أو معتدتين، فإن كانا كذلك فلا استبراء، لأنهما إنما وجب استبراؤهما إذا لم يكونا معتدتين أو متزوجتين، لأنه لا مانع هناك للسيد من وطئهما، فاحتمل أن يكونا موطوءتين له بخلاف ما إذا كانتا متزوجتين أو معتدتين فإن هناك مانع له. وهذا معنى قوله في غير المتزوجة والمعتدة منهما، أي من الأمة وأم الولد.

ص: 41

وَلَوِ اسْتَبْرَأَهُمَا أَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا اسْتَانَفَتْ أُمُّ الْوَلَدِ دُونَهَا

يعني: إذا استبرأ السيد الأمة أو أم الولد أو انقضت عدتهما من وفاة زوج كل منهما أو طلاقه، ثم أعتقهما وأراد السيد أن يزوجهما، فإن الأمة تكتفي بذلك الاستبراء المتقدم أو العدة المتقدمة بخلاف أم الولد فإنها لا تكتفي بذلك الاستبراء المتقدم أو العدة المتقدمة، وتحتاج بعد العتق إلى الاستبراء بحيضة، لأن أم الولد لما كان فيها عقد حرية كانت الحيضة في حقها كالعدة، فصارت بمنزلة الزوج يطلق امرأته بعد استبرائها بثلاث حيض فإنها لا تكتفي بذلك ولابد لها من استئناف العدة، لأن أم الولد فراش لسيدها ولا يخرجها عن ذلك إلا تزويجها، وإذا زالت عصمة النكاح عادت إلى الفراش بخلاف الأمة فإنها وإن كانت رائعة ليست بفراش حتى يقر السيد بوطئها.

وَاسْتَانَفَا فِي الْمَوْتِ مَعاً، وَلَوْ كَانَ غَائِباً إِلا غِيبَةً عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ َيْقَدَمْ مِنْهَا

يعني: لو مات سيد أم الولد أو الأمة فإنهما يستأنفان معاً حيضة، لأن الميت يحتاط له. وقوله:(وَلَوْ كَانَ غَائِباً) مبالغة، وسواء كانت الأمة أقر السيد بوطئها أم لا.

ابن عبد السلام: ولو قيل في الأمة المتوفى عنها سيدها ولم يقر بوطئها لا تحتاج إلى استبراء كان السيد غائباً أو حاضراً ما كان بعيداً، ألا ترى أنها لو أتت بولد لم يلحق بسيدها، فلم يبق إلا الاستبراء من سوء الظن، وفيه ما قد علمت.

وقوله: (إِلا غِيبَةً عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ َيْقَدَمْ مِنْهَا) أي: ولا يمكنه أن يأتي خفية. وفي معنى الغيبة التي يعلم أنه لم يقدم منها ما إذا كان مسجوناً. وما ذكره صحيح في الأمة، وأما في أم الولد فمخالف لما في المدونة، ففيها: وإن مات السيد وهي في أول دم حيضتها أو غاب عنها فحاضت بعده كثيراً ثم مات عنها، فلابد لها من استئناف حيضتها بعد موته لأنها عدته، وإنما يأتي كلام المصنف على ما قاله عبد الوهاب في معونته أن الحيضة في الدم استبراء محض وليس بعدة.

ص: 42

وَلَوْ مَاتَ فِي أَوَّلِ دَمِهِمَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لأَنَّهُ لَهَا كَالْعِدَّةِ

[405/أ] يعني بخلاف الأمة فإنها تعتد به كما تقدم في الشراء. وما حكاه من عدم الاكتفاء في أم الولد هو المشهور، وفي الاستذكار عن القاضي إسماعيل أنها تكتفي بالحيضة التي مات وهي عليها، وهو جار على أن الحيضة في حق أم الولد استبراء محض.

وَيَجِبُ قَبْلَ تَزْوِيجِ الأَمَةِ، ويُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ

أي ويجب الاستبراء، وهذا مقيد بالموطوءة. وأما إن لم يطأها ففي المدونة: لا يحتاج فيها إلى استبراء. وقبل قول السيد في الاستبراء لأنه لا يعلم إلا من جهته.

وَلَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ مُدَعِّيِ اسْتِبْرَاءٍ ولَمْ يَطَاهَا جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا قَبْلَ الاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ ....

يعني: إذا اشترى أمة وزعم بائعها أنه استبرأها قبل بيعها على ما هو الأولى له.

وقوله: (ولَمْ يَطَاهَا) يوهم أن له وطئها بدعوى البائع، وهو لا يجوز حتى يستبرئها.

وقوله: (جَازَ لَهُ تَزْوِيجُهَا) على المشهور، لأنه قد انتقل إلى المشتري حكم البائع.

ووجه الشاذ أن البائع كان له ذلك حيث كان له الوطء بخلاف المشتري، وهو قول سحنون. وقال ابن القاسم فيمن اشترى زوجته قبل البناء فأراد أن يزوجها: ليس له ذلك حتى يستبرئها، لأن بائعها لم يكن له أن يطأها. وقال سحنون: له أن يزوجها، لأن الوطء له جائز. وبالجملة فابن القاسم راعى حال البائع، وسحنون راعى حال المشتري.

وَيَجِبُ عَنِ الْوَطْءِ الْفَاسِدِ كَمَنْ وُطِئَتْ بِاشْتِبَاهٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَمَنْ وَطئ أُخْتَ أَمَةٍ وَطأهَا ثُمَّ حَرَّمَ الأُولَى ....

ابن راشد: ولا خلاف في هذا وتصور كلامه ظاهر.

ص: 43

وَفِي اسْتِبْرَاءٍ الأَبِ أَمَةً لابْنِهِ فَوَطأهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَبْرَأَهَا فَقُوِّمَتْ عَلَيْهِ قَوْلانِ

يعني: إذا وطئ الرجل جارية ولده فقومت عليه فإن لم يكن استبرأها قبل وطئها لم يطأها حتى يستبرئها، وإن كان قد عزلها عنده واستبرأها ثم وطأها، فالمشهور أنه لا يحتاج إلى استبراء. والمشهور ومقابله في المدونة، ففيها: ابن القاسم: ومن وطئ جارية ابنه فقومت عليه فليستبرئها إن لم يكن الأب قد عزلها واستبرأها. وقال غيره: لابد أن يستبرئها لفساد مائه وإن كانت مستبرأة عند الأب إذا تلذذ بجارية ابنه حرمت على الابن ووجب على الأب قيمتها، ولم يكن للابن التمسك بها على المعروف. وهذه لما كانت مستبرأة عند الأب فبأول وضع اليد عليها وجلوسه بين فخذيها حرمها على الابن ووجبت على الأب القيمة، فصار وطؤه في مملوكه له بعد الاستبراء. وأشار التونسي إلى أن قول الغير مبني على قول ابن عبد الحكم أن الأب لا يضمن قيمتها بوطئها بل يكون للابن أن يتماسك بها في عسر الأب ويسره. وحكاية المصنف القولين تدل على أن قول الغير مخالف لقول ابن القاسم وهي طريقة الأكثر، وذلك أن الأكثر فهموا أن قول ابن القاسم إن لم يكن الأب عزلها عنده واستبرأها، أنه لو كان استبرأها قبل الوطء لا يحتاج إلى استبراء بعده. وخالفهم ابن اللباد وابن الشقاق وفهما قوله:(إن لم يكن عزلها عنده واستبرأها) على أن المراد بعد وطئه. وصحح هذا ابن مرزوق، وخالفه تلميذه ابن رشد، وصحح مذهب الأكثرين، واحتج لابن القاسم بما احتج به القابسي. واختار عياض قول ابن اللباد بدليل قول ابن القاسم في آخر المسألة لأنه وطء فاسد.

وَالاسْتِبْرَاءُ لِلْمُرْتَابَةِ قُرْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَيْضَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ

لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض)) ومقابل المشهور أنه طهر كالعدة، ولم أره منصوصاً، وإنما خرجه المازري على قول أشهب أن المشتراة في أول دمها لا تكتفي بذلك.

ص: 44

وَالْمُرْتَابَةُ بِتَاخِيرِ حَيْضِهَا، قِيلَ: تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ثَلاثَةً ويَنْظُرُهَا النِّسَاءُ، فَإِنِ ارْتَبْنَ فَتِسْعَةٌ. وكَانَ يَقُولُ تَحِيضُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ انْتَظَرَتْهَا ....

يعني: أنه اختلف في استبراء الأمة المرتابة، والقول بأنها تتربص تسعة أشهر لمالك في المدونة ورواية ابن وهب، والقول الذي نقله المصنف عن ابن القاسم بقوله: ثلاثة وينظرها النساء، هو له في العتبية، ورواه ابن القاسم وابن غانم في المدونة.

ابن القاسم: وإن ارتفعت الريبة قبل التسعة حلت. وسئل ابن مناس: ما فائدة التسعة على هذا القول وهي إن زالت ريبتها قبلها حلت، وإن لم تزل بعد التسعة زادت؟ فأجاب بأن قال: فائدة ذلك إذا لم تزد تلك الريبة بها الحاصلة بالثلاثة وبقيت على حالها، نعم إن زادت بالحس والتحريك زادت على التسعة. وفصل ابن القاسم بين من تكون عادتها بتأخير حيضتها، كما إذا كانت تأتيها الحيضة في ستة أشهر أو سبعة أو نحو ذلك، وبين من يتأخر حيضها أكثر من تسعة أشهر كما إذا كانت تحيض كل سنة، فالأولى تنتظر الحيضة، والثانية تبرأ بثلاثة [405/ب] أشهر، وقول المصنف وكان يقول: إن كانت تحيض كل ستة أشهر ليس هو على معنى الاشتراط، والمعنى إن كانت عادتها تحيض فيما دون تسعة أشهر، ولكن ذكر المصنف الستة تبعاً للرواية، وهذه الرواية رواها يحيي عنه.

خليل: وانظر على هذا القول إذا كانت عادتها ستة أشهر فانتظرتها ولم تأتها الحيضة فيها، هل تحل بانتفائها كما تقدم في عدة الحرة إذا كانت عادتها أن تحيض كل سنة أو ترجع إلى ستة أشهر غالب أمر الحمل.

وَالْمُرْضِعُ والْمَرِيضَةُ كَذَلِكَ

أي: مثل المرتابة، وظاهر تشبيهه في الخلاف المتقدم، ويحتمل في الاستبراء بثلاثة أشهر، وينظرها النساء فإن ارتبن فتسعة وهو أقرب، لأنه الذي رأيته منصوصاً، ولأن قوله إثر هذه والمستولدة كذلك.

ص: 45

وقيل: (تسعة) يقتضي أنه لم يرد التشبيه في الجميع وإلا لاستغنى عن قوله: وقيل (تسعة). لكن في كلامه على هذا نظر، فإنه ليس في كلامه ما يدل على أنه أراد بالتشبيه ذلك.

وَالْمُسْتَوْلَدَةُ كَذَلِكَ، وقِيلَ: تِسْعَةٌ

المستولدة هي أم الولد، وتصور القولين بين.

وَالمْسُتْحَاضَةُ: الْمَشْهُورُ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ إِلا أَنْ تَشُكَّ فَتِسْعَةٌ، أَوْ تَرىَ مَا تُوقِنُ هِيَ وَالنِّسَاءُ أَنَّهُ حَيْضٌ ....

مقابل المشهور أنه تتربص تسعة ولو ميزت.

وَالصَّغِيرَةُ وَالْيَائِسَةُ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ

أي: بشرط أن يمكن وطء الصغيرة، ففي البيان: أما التي لا يوطأ مثلها فلا خلاف أنها لا استبراء عليها، وإنما الخلاف في الصغيرة التي يوطأ مثلها ويؤمن الحمل منها، فذهب مالك وعامة أصحابه إلى وجوب الاستبراء فيها والمواضعة إن كانت من ذوات الأثمان بثلاثة أشهر، لأن الحمل لا يتبين في أقل منها. وقيل: شهران. وقيل: شهر ونصف. وقيل: شهر. وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أنها لا يجب فيها استبراء ولا مواضعة. ونقل بعضهم القول بالشهرين والشهر والنصف في اليائسة أيضاً بعض الموثقين، وكذلك أيضاً يلزم من قال أن استبراء الصغيرة شهران يقول بذلك في اليائسة.

وَالْحَامِلُ: بِوَضْعِ حَمْلِهَا

أي: واستبراء الحامل، وهو ظاهر.

وَالْمُرْتَابَةُ بِحَسِّ الْبَطْنِ أَقْصَى أَمَدِ الْوَضْعِ

يعنى على الخلاف المتقدم.

ص: 46

وَيَحْرُمُ فِي زَمَنِ الاسْتِبْرَاءِ جَمِيعُ الاسْتِمْتَاعِ. ابْنُ حَبِيبٍ: لا يَحْرُمُ مِنَ الْحَامِلِ مِنْ ِزنَّى والْمَسْبِيَّةِ إِلا الْوَطْءُ ....

ابن عبد السلام: والأول هو المعروف في المذهب. وقال ابن حبيب: أما المسبية تقع في سهمه أو يبتاعها في المقاسم فله أن يلتذ منها بالقبلة والمباشرة والتجريب وغيره ما عدا الوطء لئلا يسقي ماءه ولد غيره، وهذه قد تم ملكه فيها، وبيع المقاسم بيع في براءة وإن ظهر بها حمل لم ترد به. أبو محمد: وهذا الذي ذكر ابن حبيب أنه تدخل البراءة من الحمل في بيع السلطان ليس بقول مالك إلا أن يعني في الوخش. وقد قال ابن المواز: بيع الرائعة بالبراءة مطلق جائز ولا يدخل في ذلك الحمل، وإن تبرأ منه فسد البيع. ونقل المازري وصاحب الجواهر عن ابن حبيب في الحامل من زنى مثل ما نقله المصنف وكذلك ابن راشد. وقال ابن عبد السلام: ما ذكره المؤلف عن ابن حبيب في الزنا لا أحفظه عنه، لكن قال سحنون فيمن اشترى أمة بالبراءة من حمل ظاهر أنه لا بأس أن ينال منها ما ينال من الحائض إذا كان من غير السيد، وكذلك إن قال بعد البيع أن أرضى بحمل إن كان بها ولم يكن البائع يطأ. ابن يونس: ولعله ترخص في هذا للشيخ، لأنه يملك نفسه كما أرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة في الصوم، وأما الشاب فلا.

التَّدَاخُلُ: وَإِذَا طَرَأَ مُوجِبٌ قَبْلَ تَمَامِ عِدَّةٍ أَوْ اسْتِبَراءٍ فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَّحِداً بِفِعْلٍ سَائِغٍ انْهَدَمَتِ الأُولَى واسْتَانَفَتْ مَا هِيَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ أَقْرَاءٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ حَمْلٍ كَالْمُرْتَجِعِ ثُمَّ يُطَلِّقُ أَوْ يَمُوتُ- مَسَّ أَوْ لَمْ يَمَسَّ- إِلا أَنْ يُفْهَمَ ضَرَرٌ بالتَّطْوِيلِ فَتَبْنِي الْمُطَلَّقَةُ مَا لَمْ تُمَسَّ كَمَا تَبْنِي إِذَا لَمْ تُرْتَجَعْ مُطْلَقاً ....

يعني: إذا كانت في عدة أو استبراء ثم تجدد قبل تمام ما هي فيه موجب آخر، فإما أن يكون الموجبان من رجل واحد أو رجلين، وإذا كانا من رجل فإما أن يكونا بفعل سائغ- أي جائز- أم لا. وذكر المصنف أنه إذا كان الرجل واحداً بفعل سائغ فإن العدة الأولى

ص: 47

تنهدم وتستغني بالثانية عنها، سواء كانت الثانية من نوع الأولى أو من نوع آخر، وهو مراده بقوله:(مِنْ أَقْرَاءٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ حَمْلٍ). ومثل ذلك بالمرتجع ثم يطلق، يعني إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم ارتجعها ثم طلقها أو مات عنها قبل انقضاء العدة، ولا فرق في ذلك بين أن يمسها بعد ارتجاعه أم لا، ففي الموطأ: والسنة عندنا أن الرجل إذا طلق امرأته وله عليها رجعة فارتجعها ثم فارقها قبل أن يمسها فلا تبني على ما مضى من عدتها، وإنما تستأنف من يوم طلقها عدة مستأنفة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، يعني لأن الرجعة تهدم العدة فإن الزوجية تنافي العدة. [406/أ].

وقوله: إِلا أَنْ يُفْهَمَ ضَرَرٌ بالتَّطْوِيلِ) هذا الكلام لابن القصار، وقيد به الطلاق مالك المتقدم، وهو ظاهر، لأنه إذا قصد بهذا الارتجاع التطويل عليها في العدة فيعاقب بنقيض مقصوده، وتبني على العدة الأولى بشرط ألا يكون مسها في الارتجاع.

وقوله: (كَمَا تَبْنِي إِذَا لَمْ تُرْتَجَعْ مُطْلَقاً) يعني إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم أتبعها في العدة طلقة أخرى فإنها تبني على العدة من الطلقة الأولى مطلقاً، سواء تخلل الطلاقين حيض أم لا، وهو أحد قولي الشافعي، فنبه المصنف بالإطلاق على مخالفته في أحد قوليه. وفي بعض النسخ:(إذا لم ترتجع مطلقاً) وهي واضحة.

وَكَالْمُتَزَوِّجِ زَوْجَتَهُ الْبَائِنَ ثُمَّ يُطَلِّقُ بَعْدَ الْبِنَاءِ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنَّهَا تَسْتَانِفُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: إِنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَأَقْصَى الأَجَلَيْنِ وضُعِّفَ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءٍ لَمْ تَنْهَدِمْ ....

هذا معطوف على قوله: (كَالْمُرْتَجِعِ) يعني إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً ثم تزوجها وطلقها أو مات عنها فإنها تستأنف، ولا فرق في الموت بين أن يموت عنها قبل البناء أو بعده، بخلاف الطلاق فإنه إن طلقها بعد البناء استأنفت، لأن وطئه هادم للعدة. وإن طلقها قبل البناء بانت، لأن المطلقة طلاقاً بائناً في حكم الأجنبية. وإلى مساواة حالها في

ص: 48

الموت أشار بقوله: (أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا قَبلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) وإلى الفرق في الطلاق أشار بقوله: (ثم يطلقها بعد البناء). ثم صرح بما أفهمه الكلام آخراً فقال: أما لو طلق قبل البناء لم تنهدم. وروى محمد: إن مات قبله فأقصى الأجلين، أي: وعليها الإحداد في الأربعة أشهر وعشر. هكذا قال في الرواية. والمراد بالأجلين الثلاثة قروء والأربعة أشهر وعشر، ومعنى أقصى الأجلين، أي: أبعدهما، فإن انتهت الأقراء أولاً انتظرت الأشهر، وإن انقضت الشهر انتظرت تمام الأقراء.

تنبيه:

وقع في نسخ عديدة: وروى محمد بن مسملة، وكذلك هو في نسخة ابن راشد. وفي نسخة ابن عبد السلام:(وَرَوَى مُحَمَّدُ) فقط وفسره بابن المواز. وكذلك هو في ابن يونس فليعتمد عليه هنا، على أنه لا يلزم من أن ابن المواز رواه ألا يكون محمد بن مسلمة رواه. واعترض أبو عمران ما رواه محمد فقال: إما أن يجعلها تمضي على عدة الطلاق، أو يجعل النكاح قد هم عدة الخلع فتعتد الوفاة فقط. قال: ويلزمه على هذا أن الحامل إذا خالعها زوجها ثم تزوجها وتوفي عنها قبل الدخول أن يوجب عليها أقصى الأجلين. وأجاب ابن يونس بما حاصله أن عدة الخلع لما خالفت عدة الوفاة في الجنس لزم ألا تدخل إحداهما في الأخرى، بخلاف الحامل فإن عدتها في الخلع والوفاة وضع حملها، فلم يكن اعتبار أقصى الأجلين.

وَمَا سِوَاهُ فَأَقْصَى الأَجَلَيْنِ كَالْمُعتَدَّةِ الْبَائِنِ يَطَأهَا الْمُطَلِّقُ أَوْ غَيْرُهُ وَطْئاً فَاسِداً بِزِنَى أَوْ اشْتِبَاهٍ أِوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ....

حقيقة أقصى الأجلين إذا كان كل من الأجلين يمكن أن يكون أبعد كالأقصى فيما تقدم، ويطلق مجازاً على معنى آخر وهو المذكور هنا، ومعناه أن المرأة إذا طلقت طلاقاً

ص: 49

بائناً ثم وطئها مطلقها أو غيره وطئاً فاسداً إما بزنى أو اشتباه، أو تزوجها المطلق أو غيره تزويجاً فاسداً.

والفساد في حق غير المطلق ظاهر لأنه نكاح في عدة الغير، وأما المطلق فلا يكون بسبب العدة وإنما يفسد لغير ذلك من وجوه الفساد. ومعنى أقصى الأجلين أنه يبتدئ من حين الوطء الثاني ثلاث حيض.

وقوله: (كَالْمُعتَدَّةِ الْبَائِنِ يَطَأهَا الْمُطَلِّقُ) يريد وكذلك الرجعية إذا وطأها بغير نية ارتجاع على المشهور فإنها تستبرئ بثلاث حيض، وكأن المصنف إنما خص المعتدة البائن للاتفاق عليها.

وَكَالْمُعْتَدَّةِ فِي وَفَاةٍ أَوْ طَلاقٍ تَتَزَوَّجُ ويُدْخَلُ بِهَا. وقَالَ ابْنُ الْجَلابِ: تُتِمُّ ثُمَّ تَسْتَانِفُ عِدَّةً أُخْرَى. وهُوَ فِي الْمُوطَّأِ عَنْ عُمَرَ

يعني: وممن هي مخاطبة بأقصى الأجلين على المشهور المعتدة، سواء كانت معتدة من طلاق أو وفاة إذا تزوجت ودخل بها في العدة وفسخ النكاح، وأقصى الأجلين في حق المطلقة مجاز كما ذكرنا بخلافه في المتوفي عنها.

وقوله: (وقَالَ ابْنُ الْجَلابِ) أحسن منه: وفي الجلاب، لأن ابن الجلاب لم يقله وإنما نقل في المسألتين روايتين، إحداهما ما شهره المصنف، والثانية أنها تتم بقية العدة الأولى ثم تعتد بعد ذلك للزوج الثاني عدة أخرى. ثم كلامه يوهم أن ابن الجلاب ذكر في مسألة الموت والطلاق، وإنما ذكره في مسالة الطلاق.

وَكَالْمُسْتَبْرَأَةِ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ أُوْ يَمُوتُ

يعني: وكذلك يجب أقصى الأجلين على من وجب استبراؤها من الزوجات لأجل وطء فاسد يزني أو اشتباه ثم طلقها الزوج أو مات عنها.

ص: 50

وَوَضْعُ الْحَمْلِ اللاحِقِ بِالنِّكَاحِ الصَّحٍيحٍ يَهْدِمُ غَيْرَهُ

مثاله: إذا تزوجت المعتدة لغير [406/ب] مطلقها أو غصبت أو زنت أو وطئت باشتباه ثم أتت بولد وألحق بالأول، وهو معنى قوله:(بِالنِّكَاحِ الصَّحٍيحٍ) فإن ذلك الوضع (يَهْدِمُ غَيْرَهُ) أي: الاستبراء من الوطء الثاني، لأنه إنما كان خشية الحمل وهو مأمون هنا، ولا خلاف في هذا، قاله عياض وغيره.

وَوَضْعُهُ مِنَ الْفَاسِدِ يَهْدِمُ أَثَرَ الْفَاسِدِ، ولا يَهْدِمُ فِي الْمُعْتَدَّةِ لِلْوَفَاةِ اتِّفَاقاً، فَعَلَيْهَا أَقْصَى الأَجَلْينِ، وفِي الْمُعْتَدَّةِ لِلطَّلاقِ قَوْلانِ. وَعَلَى أَلا يَهْدِمَ فَقِيلَ: أَقْصَى الأَجَلَيْنِ. وَقِيلَ: تَاتَنِفُ بَعْدَهُ عِدَّةً ....

يعني: وإن ألحق بالنكاح في العدة فإن كان وطأها بعد حيضة فإن ذلك الوضع يبرئها من الاستبراء، وهو معنى قوله:(أَثَرَ الْفَاسِدِ) ثم هل يهدم هذا الوضع أثر العدة؟ لا يخلو إما أن تكون العدة الأولى من وفاة أو طلاق، فإن كانت من وفاة فقال المصنف وغيره: لا يهدمها هذا الوضع بالاتفاق. وحكى بعضهم فيها خلافاً كالمعتدة من الطلاق. وهذه الطريقة أولى لأن المثبت أولى ممن حكى الخلاف.

أبو محمد: عن أشهب فإنه حكى عنه في المنعي لها زوجها أن الوضع من الآخر يبرئها منهما، قال: وهو خلاف قولهم كلهم. فإن قلت: كيف يصح قوله: (ولا يَهْدِمُ فِي العدة لِلْوَفَاةِ) ولا يمكن أن يكون أقصى الأجلين إلا الحمل، فإن الفرض محكوم له بأنه من الثاني، ولا يحكم به أنه من الثاني إلا بعد كونه آتياً بعد ستة أشهر، وعلى هذا فيكون الحمل هو أقصى الأجلين، ويصح قوله أن: (وَضْعُهُ مِنَ الْفَاسِدِ

لا يَهْدِمُ فِي الْمُعْتَدَّةِ لِلْوَفَاةِ) فالجواب أنه يتصور في المنعي لها زوجها إذا اعتدت وتزوجت وحملت من الثاني ثم ثبت أنه لم يمت أولاً وإنما مات الآن، وفسخ نكاح الثاني لأنه نكح ذات

ص: 51

زوج، فإن وضعت قبل تمام أربعة أشهر وعشر من يوم موت الزوج الأول لم تحل حتى تنقضي الأربعة أشهر وعشر، وإن انقضت الأربعة أشهر وعشر قبل وضع الحمل بأن تبين موت الأول وهي في أول الحمل لم تحل حتى تضع حملها، والله أعلم.

وقوله: (وفِي الْمُعْتَدَّةِ لِلطَّلاقِ قَوْلانِ) يعني: وهل يهدم الحمل اللاحق بالنكاح الفاسد عدة الطلاق؟ قولان. والقول بالهدم مذهب المدونة عند غير واحد من الشيوخ، لأن فيها: وأما الحامل فالوضع يبرئها من الزوجين جميعاً، فظاهره وإن كان من الآخر. وصرح بعضهم بذلك في اختصاره للمدونة، وهو قول ابن القاسم في مختصر ابن أبي زيد، ورواية أشهب في الموازية وضعفه محمد.

والقول بأنه لا يبرئها ولابد لها من ثلاث حيض لأصبغ، والأول أظهر لأن العدة شرعت لبراءة الرحم، ومع الوضع تتحقق البراءة. ورأى أن عدة الطلاق أيضاً فيها ضرب من التعبد، ولولا ذلك لاقتصر على قرء واحد. وعلى الأول إنما تبرأ بالحمل إذا كان بشبهة، وأما إذا كان بزنى صراح فإنه لا يبرئها ذلك من عدة وجبت عليها. وقاله ابن القاسم، لكن اعترضه أبو إسحاق وقال: لا ينبغي أن يفرق في ذلك إذا القصد براءة الرحم.

وقوله: (وَعَلَى أَلا يَهْدِمَ

إلخ) يعني: وإذا فرعنا على القول بعدم الهدم فعليها أقصى الأجلين، أي لا تكتفي بالحمل وتنتظر بقية الأقراء. وهذا من المواضع التي أطلق فيها المصنف الأقصى بالمجاز، وهذا القول هو المعروف، والقول بأنها تستأنف ثلاث حيض نقله صاحب النوادر، لكن قال عبد الحق: لا يصح ما نقله أنها تستأنف ثلاث حيض، ولفظه في الأمهات: لم يكن لها بد من بقية الثلاث.

ابن يونس: وهذه العبارة هي الصواب لأن الحمل لا يكون من الآخر إلا أن يتزوجها بعد حيضة وتضعه بعد ستة أشهر فأكثر، فقد مضت لها حيضة فتتم بقية الثلاث حيض. وفي التنبيهات ما وقع من نقل بعضهم أنها تستأنف ثلاث حيض بعد الوضع فإنما معناه أنها لم

ص: 52

تحض قبل. قيل: ولا يقول أحد أن الوضع يهدم ما مضى من عدتها، فإن قلت هذا ليس بظاهر لأنه إنما يلحق بالثاني بعد الحيضة. قيل: يحتمل أن يكون ذلك قبلها ويكون الأول نفاه، فإنه حينئذ يلحق بالثاني كما قال المصنف في المسألة التي تليها.

ابن عبد السلام: القول باستئناف الثلاث ذكره محمد واختاره، وظاهره أن النفاس في هذه الصورة لا يقوم مقام حيضة، وقال بعضهم بل يقوم مقامها، وهو الأظهر عندي. انتهى.

وَمَهْمَا أَتَتْ غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا بِوَلَدٍ يَحْتَمِلُهُمَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَيْضَةٍ لَحِقَ بِالَّثانِي إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باِللِّعَانِ فَيَلْحَقُ بِالأَوَّلِ. وَلا تُلاعِنُ هِيَ لَأَنَّهُ نَفَاهُ إِلَى فِرَاشٍ، فَإِنْ نَفَاهُ تَلاعَنَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَيْضَةٍ فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ ....

جرت عادة غير المصنف بفرض هذه المسألة في النكاح في العدة، وأتى المصنف بعبارة شاملة لها ولغيرها، فإن قوله:(غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) يدخل فيه النكاح في العدة والموطوءة باشتباه، ولا يقال: يدخل في كلامه الأمة المشتركة إذا وطئها الشريكان كما أشار إليه ابن عبد السلام، لأن قوله بعد:(هَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ) يرده. وأخرج بقوله (غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) الزانية والمغتصبة، ومعناه: إذا تزوجت المعتدة ثم أتت [407/أ] بولد لما يحتمل أن يكون لكل واحد من الواطئين بأن تأتي به لستة أشهر فأكثر من وطء الثاني. فإن كان وطء الثاني بعد حيضة لحق الولد بالثاني، لأن الحيضة تدل على براءة رحمها من الأول، وهذا مذهب المدونة وهو المشهور. وروى المدنيون عن مالك: يلحق بالأول ولو وطأها الثاني بعد حيضة أو حيضتين لصحة ماء الأول وفساد وطء الثاني.

وقوله: (إِلا أَنْ يَنْفِيَهُ باِللِّعَانِ فَيَلْحَقُ بِالأَوَّلِ) تصوره ظاهر ولا تلاعن هي لأنه لم يرمها بزنى، وإنما نفاه إلى فراش، فإن نفاه الأول أيضاً التعنت حينئذ، لأنه لم يبق من يلحق به هذا الولد. وهذا معنى قوله:(فَإِنْ نَفَاهُ تَلاعَنَا).

ص: 53

قوله: (فَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَيْضَةٍ فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ) أي فيلحق بالأول إلا أن ينفيه بلعان فينتفي عنه ويلحق بالثاني، ولا تلاعن هي إلا أن ينفيه الثاني أيضاً فحينئذ تلاعن. وعلى ما رواه المدنيون إذا نفاه الأول تلاعن لأنه لا يلحق بالثاني، وإذا ألحق بالأول فإنها تحرم على الثاني لكونه وطأها في العدة. قاله في المدونة.

تنبيهان:

الأول: قد تقدم أن قول (غَيْرُ الْمَزْنِيِّ بِهَا) يشمل المعتدة والموطوءة باشتباه، ولم أر هذا لحكم في المشتبهة. الثاني: احترز المصنف بقوله: (يَحْتَمِلُهُمَا) مما لو أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، فإنه لا يلحق بالثاني أصلاً ويلحق بالأول إلا أن ينفيه بلعان.

ابن القاسم: وفي معنى الستة ما إذا كان الشهر السادس تسعة وعشرين ولا يلحق في أنقص من ذلك. وقال ابن دينار: يلحق به وإن نقص ليلتين أو ثلاثاً قدر ما بين الأهلة.

عياض: وقد وقعت قديماً بفاس مسألة في امرأة جاءت بولد لخمسة أشهر وأربعة وعشرين يوماً هل يلحق به أم لا؟ واختلف فيها فقهاء بلدنا أيضاً، والصواب ألا يلحق به، إذ لا يصح توالي ستة أشهر نقص، وبه أفتى أحمد ابن القاضي ومحمد بن العجوز وغيرهما، وخالفهما أبو على السبتي.

ثُمَّ مَنِ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ بِهِ وَيْحَدُّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَلْحِقُ الْمُلاعِنَ الثَّانِيَ. وَقِيلَ: الْمُسْتَلْحِقُ مِنْهُمَا يُحَدُّ ....

لا خفاء فيما ذكره أن من استلحقه منهما يلحق به كما في سائر مسائل اللعان.

ابن المواز: فإذا استلحقه أحدهما فلا دعوى للثاني فيه، ولو ادعاه الأول قبل لعان الثاني لم يقبل منه، لأنه ابن الثاني، ولو استلحقه كلاهما بعد التعانهما كان الأول أحق به وتحرم على الثاني للأبد، سواء التعن أم لا، لأنه ناكح في عدة.

ص: 54

سحنون: ولا تحرم على الأول- وإن التعن- لأنه لم تلاعنه كالتي تغتصب فينفي الزوج حملها، أنه يلاعن ولا تحرم عليه. وقال أصبغ: إن تلاعنا جميعاً حرمت على الأول والثاني. وقال عبد الحميد، وابن عبد السلام: إذا استلحقاه فإنه يكون لمن يقتضي الحكم إلحاقه به لو لم يكن لعانٌ، فإن كان بعد حيضة لحق بالثاني، وإن كا قبلها فبالأول.

ابن عبد السلام: هكذا نصوا. وينبغي أن يحمل على ما إذا استلحقاه في زمان واحد، وأما إن تقدم أحدهما فيلحق بالمستلحق الأول، فانظره مع كلام ابن المواز.

وقوله: (وَيْحَدُّ

إلخ) يعني: ويحد المستلحق إن كان هو الملاعن الثاني لأنه هو الذي نفاه إلى غير فراش، وأما إن استلحقه الملاعن الأول فإنه لا حد عليه لأنه إنما نفاه لفراش. وهذا قول محمد.

وقوله: وقيل: (الْمُسْتَلْحِقُ مِنْهُمَا يُحَدُّ) أي: سواء كان الأول أو الثاني. وهو قول أصبغ واستصوبه التونسي، قال: لأن لعانها لهما.

هَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْقَافَّةُ فَفِي الأَمَةِ يَطَأهَا السَّيِّدَانِ فِي طُهْرٍ

يعني: أن الكم الذي ذكره خاص بالنكاح، وليس في الحرائر قافة وإنما القافة في الإماء، وهذا هو المشهور. وروي عن مالك أنه يعمل به في الحرائر أيضاً، واختاره اللخمي وغيره. والقافة جمع قائف.

أبو عمران: وإنما اختصت القافة بالإماء على المشهور لأن الأمة قد تكون بين جماعة فيطأونها في طهر واحد، فقد تساورا في الملك والوطء. وكذلك ما حكم به عمر رضي الله عنه في وطء الزنا في الجاهلية لتساوي الوطء، وليس أحدهما أقوى من الآخر. وكذلك الأمة إذا ابتاعها رجل وقد وطأها البائع ووطأها المبتاع في ذلك الطهر، لأنها استويا في ذلك الملك، وأما الحرة فإنها لا تكون زوجاً لرجلين في حالة واحدة، فلا يصح فيها

ص: 55

فراشان متساويان. وأيضاً ولد الحرة لا ينتفي إلا بلعان، وولد الأمة ينتفي بغيره. والنفي بالقافة إنما هو ضرب من الاجتهاد، فلا ينقل ولد الحرة من اليقين إلى الاجتهاد، ثم من ألحقته القافة لحق به، فإن قالت: هو منهما. فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن الاشتراك في الماء لا يصح، ويصير إلى أن يبلغ فيوالي من شاء منهما. وسيأتي من كلام المنصف من آخر أمهات الأولاد في هذه المسالة أربعة أقوال.

فرع:

فإن قالت القافة: ليس هو لواحد منهما. قال أصبغ: تغير عليه القافة، فإن استوى كلامهم وهما مقران بالوطء وإلا أيهما [407/ب] شاء. وقال سحنون: يدعى له آخرون ثم آخرون، هكذا أبداً حتى يلحقه بعضهم بأحدهما، لأن القافة إنما دعيت لتحلق لا لتنفي.

وهل يُجتزأ بقائف واحد، وهو الذي رواه ابن حبيب عن مالك، وشرط في الرواية أن يكون عدلاً، أو لا يجتزأ إلا باثنين، وهو الذي رواه ابن نافع عن مالك بناء على إلحاقه بباب الخبر أو بباب الشهادة؟ بعض الشيوخ: والقياس أن يحكم بقائف واحد وإن لم يكن عدلاً، لأنه علم علم يؤديه وليس من طريق الشهادة، كما يقبل قول النصراني الطبيب فيما يحتاج إلى معرفته من ناحية الطب. زاد التونسي: وكذلك اختلف في الترجمان والناظر في العيوب هل يُجتزأ بواحد أو لابد من اثنين؟

وَالْمُشْتَراةُ فِي الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ مِنْ حِينِ الشِّرَاءِ

يعني: سواء كانت معتدة من وفاة أو طلاق، أما المعتدة في الوفاة ففي المدونة: إن حاضت قبل شهرين وخمس ليال لم يطأها حتى تنقضي عدتها، وإن تمت عدتها ولم تحض فإن رفعتها حتى مضت ثلاثة أشهر وحست من نفسها انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم الشراء، وأما المطلقة فأشار إليها بقوله:

ص: 56

فَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَتَأَخَّرَ حَيْضُهَا اعْتَبَرَتْ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ شَرَائِهَا، وإِنْ زَادَتْ عَلَى سَنَةِ الْعِدَّةِ ....

لأنها إذا طلقت وهي مرتابة بتأخير الحيض فعدتها سنة كما تقدم واستبراؤها بثلاثة أشهر كما تقدم فتنتظر أقصى الأجلين، فإن بيعت وقد بقي من العام ثلاثة أشهر فقد دخل الاستبراء في العدة، وإن بيعت وقد بقي من السنة يوم دخل يوم من الاستبراء في العدة.

خليل: ولو قيل: يكتفي بالسنة على الاستبراء لكان قولاً حسناً، لأن الاستبراء معقول المعنى، وقد حصلت براءة الرحم بالسنة، والله أعلم.

وَمَنْ أَعْتَقَ لَمْ يَسْتَبْرِئُ لِنِكَاحِهِ عَنْ وَطْئِهِ

يعني إذا كانت له أمة يطأها ثم أعتقها وأراد أن يتزوجها لم يستبرئ لنكاحه، لأن وطئه أولاً صحيح، والاستبراء إنما يكون عن الوطء الفاسد. وسمعت ممن أثق به أن في المسألة قولاً آخر بالاستبراء، ولم أره الآن وهو أظهر، ليفرق بين ولده من وطء الملك فإنه ينتفي بمجرد دعواه من غير يمين على المشهور، وبين ولده من وطء النكاح فإنه لا ينتفي إلا بلعانه.

وَمَنِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا لِحَلِّ وَطْءِ الْمِلْكِ

يعني: أن الإنسان إذا كان متزوجاً لأمة ثم اشتراها فليس عليه استبراء، لأنه إن لم يدخل بها فواضح إذ لا وطء منه ولا من غيره حتى يجب الاستبراء منه، وإن دخل فوطؤه صحيح والماء ماؤه، وهو ماء صحيح في وطء صحيح.

عياض: وقال ابن كنانة: في غير المدخول بها ويستبرئها. وانظر ما حكاه القاضي عن ابن كنانة هل معناه وإن كانت بعد البناء لم يحتج إلى استبراء أو إنما تحتاج إليه بعده من باب الأولى، ويكون نبه بالأخف على الأشد وهو الظاهر. وذكر أن الولد إذا أحدث بعد الملك كانت به أم ولد باتفاق.

ص: 57

واختلف إذا حملت به في النكاح وولدته بعد الشراء هل تكون به أم ولد أو لا؟ فتحتاج إلى الاستبراء ليحصل هل هي أم ولد أو لا؟

فَلَوْ بَاعَ الْمَدْخُولَ بِهَا أَوْ أَعْتَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ وَطْءِ الْمِلْكِ لَمْ تَحِلَّ لِلسَيَّدِ وَلا لِلزَّوْجٍ إِلا بِقُرْءَيْنِ عِدَّة فسخ النِّكَاح، وكَانَ يَقُولُ: حَيْضَةٌ. ثًمَّ رَجَعَ ....

يعني: فلو باع هذا الزوج الذي اشترى زوجته وكان قد دخل بها أو أعتقها أو مات عنها قبل أن يطأها بالملك، أو كان هذا الزوج مكاتباً اشترى زوجته فعجز فرجعت إلى سيده قبل أن يطأها المكاتب لم تحل واحدة منهن لزوج إن تزوجت أو لسيد إن حصلت سيده قبل أن يطأها المكاتب لم تحل واحدة منهن لزوج إن تزوجت أو لسيد إن حصلت إلا بعد قرءين عدة فسخ النكاح، وكان مالك يقول في كل من اشترى زوجته من حر أو عبد ثم باعها أو أعتقها أنه يستبرئها بحيضة ثم رجع عنه إلى حيضتين. ذكر ذلك في المختصر الكبير، وكتاب ابن المواز. وبالمرجوع إليه أخذ ابن القاسم، ولكنه في المدونة إنما ذكر مسألة المكاتب، قيل: وسبب الخلاف هل هي من ملك ولم يفعل كمن فعل، وذلك أن المكاتب ونحوه قد ملك أن يطأ فهل يعد كأنه وطئ أم لا؟

عياض: وقيل سبب الخلاف الخلاف في المطلوب في الفسوخ هل هو استبراء أو عدة؟

أبو الحسن وغيره: وإذا بنينا على القول المرجوع إليه فالحيضة الأولى هي التي للمواضعة ويبرأ بها المبتاع، والثانية إنما هي لتتميم عدة فسخ النكاح وضمانها حينئذ من المشتري. وكتب ابن عتاب أن المواضعة في الحيضتين معاً، وهو ظاهر ابن أبي زمنين. ونص ما في كتاب ابن عبدوس: وذلك أنه إن ظهر بها حمل فيهما صارت أم ولد للبائع، وقول المصنف عدة مجرور إما بدل أو عطف بيان من قرءين.

ص: 58

وَبَعْدَهُ بِحَيْضَةٍ لأَنَّ وَطْئَهُ فَسْخٌ لِلْعِدَّةِ.

الضمير المجرور ببعده عائد على الوطء، يعني: وإن باع المدخول بها أو مات عنها أو أعتقها بعد أن وطئها اكتفت بحيضة، لأن وطئه هادم لعدة فسخ النكاح. ولما كان المطلوب في الفرع الأول على القول المرجوع [408/أ] إليه إنما هو عدة، قال المصنف بقرءين، لأن الأقراء هن الأطهار بخلاف المطلوب هنا فإنه استبراء محض، فلذلك قال بحيضة ولم يقل بقرء، لأنه تقدم أن المطلوب به في الاستبراء حيضة على المشهور.

إِلا أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَ ذَلِكَ حَيْضَةٌ أَوْحَيْضَتَانِ فَتَحِلُّ بِحَيْضَةٍ

الاستثناء راجع إلى صدر المسألة- أعني محل القرءين- والإشارة بذلك عائدة على البيع والعتق والموت، وعجز المكاتب المفهومة من قوله:(فلو باع المدخول بها أو أعتقها أو مات عنها أو عجز المكاتب) يعني إلا أن تحصل قبل انتقال الملك بأحد تلك الوجوه حيضة أو حيضتان فتحل بحيضة، لأنه إن حصل قبل ذلك حيضة كانت هذه الحيضة التي تحل بهما مكملة للعدة ونائبة عن الاستبراء، وإن كان الحاصل قبل حيضتان كانت هذه الحيضة استبراء فقط.

وَمَتَى الْتَبَسَ الأَمْرُ فَالأَحْوَطُ كَالْمَرْأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطَلَّقٌة، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ فِيهِمَا فَعِدَّتُهُمَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ فَإِنْ تَبَيَّنَتْ فَكَالْمَطَّلَقةِ ....

الكلام المتقدم في التداخل هو باعتبار موجبين، والكلام الآن إذا كان الموجب واحداً ولكنه التبس بغيره، ثم التباسه إما أن يكون من جهة محل الحكم وإما من جهة سببه، ومثل المصنف للأولين بمثالين أشار إلى الأول بقوله:(كَالْمَرْأَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ) وإلى الثاني بقوله: (أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطَلَّقٌة) يعني: إذا كانت له امرأتان إحداهما

ص: 59

بنكاح فاسد كما لو تزوج أختين من الرضاع ولم تدر السابقة منهما، ثم مات الزوج فتعتد كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر وثلاثة قروء، لأن الحكم فيهما لو علمت السابقة أن تعتد بأربعة أشهر وعشر، وتعتد الأخرى بثلاثة قروء، لكن لا يعلم ذلك طلب في كل واحدة مجموع الأمرين إذ لا تتحقق حليتهما للأزواج إلا بذلك، والتعليل في المسألة الثانية كالأولى.

وقوله: (ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ) هو عائد للمسألتين معاً.

وقوله: (وَلَمْ تَتَبَيَّنْ) أي: المنكوحة نكاحاً فاسداً أو المطلقة فيهما، أي في المسألتين.

وقوله: (فَعِدَّتُهُمَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ) واضح.

وقوله: (فَإِنْ تَبَيَّنَتْ) أي المنكوحة نكاحاً نكاحاً فاسداً (فَكَالْمَطَّلَقةِ) أي: فإن مات عنها قبل البناء فلا شيء عليها، وإن مات بعده تربصت ثلاثة قروء، ثم أخذ يتكلم على الالتباس من جهة سبب الحكم، فقال:

وَكَالْمُسْتَوْلَدَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ يَمُوتُ السَّيِّدُ والزَّوْجٌ وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَإِنِ احْتَمَلَ مَا بَيْنَهُمَا عِدَّةَ الأَمَةِ فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ مِنْ مَوْتِ الثَّانِي، وحَيْضَةٌ فِيهَا أَوْ إَلَى تَمَامِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَهَذَاَ عَلَى أَنَّ اسْتِبْرَاءَ الْمُسْتَوْلَدَةِ بِذَلِكَ لا عَلَى أَنَّهُ ثَلاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ وإِنْ لَمْ يَحْتَمِل فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ مِنْ مَوْتِ الثَّانِي، وَحُكْمُ الْحَيْضَةِ مَا فِي عِدَّةِ الحُرَّةِ لِلْوَفَاةِ، ولابُدَّ مِمَّا تَحِلُّ بهِ الأَمَةُ الْمُعتَدَّةُ مِنَ الْوَفَاةِ مِنْ مَوْتِ الأَوَّلِ

يعني: إذا زوج الرجل أم ولد ثم غاب عنها سيدها وزوجها وماتا، وعلم أن أحدهما مات قبل الآخر لكن لم يعلم السابق منهما، فلذلك صورتين:

الأولى: أن يكون بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال، وهو معنى قوله:(فإن احتمل ما بينهما عدة الأمة). وانتهى كلامه على هذه الصورة عند قوله: (ثَلاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ) والصورة الثانية: ألا يكون بين موتهما شهران وخمس ليال، وهو معنى قوله: (وإِنْ لَمْ

ص: 60

يَحْتَمِل .... إلخ). وإنما طلبت في الأولى بأربعة أشهر وعشر وحيضة، لأنه على تقدير احتمال موت السيد أولاً لا يلزمها بسببه شيء لأنه مات عنها وهي في عصمة زوج ولم تحل لسيدها، لكن يجب عليها أربعة أشهر وعشر، لأن زوجها مات عنها وهي حرة، وعلى احتمال موت الزوج أولاً تجب عليها العدة منه بشهرين وخمس ليال، لأنه مات عنها قبل سيدها لكن يجب عليها الاستبراء بحيضة، لأنها قد حلت للسيد إذ الفرض أن بين موتهما مقدار العدة، فلأجل ذلك لا تحل إلا بمجموع الأمرين أربعة أشهر وعشر وحيضة، فإن أتتها الحيضة في أربعة أشهر وعشر وإلا انتظرتها إلى تسعة أشهر، فإن لم تأتها ولم تحس بريبة حلت، وهذا معنى قوله:(وحيضة فيها أو إلى تمام تسعة أشهر).

واختلف الشيوخ في الشهرين وخمس ليال، هل لها حكم أكثر منها؟ وبه فسر المدونة ابن يونس، أو الأقل وإليه ذهب ابن شبلون لأنه لم يمض وقت تحل فيه للسيد، ولو جهل مقدار ما بينهما هل أقل أو أكثر لكانت كما لو تحقق أنه أكثر ولزم الأخذ بالأحوط. قاله بعض الشيوخ.

قوله: (وَهَذَا) أي: ما قلنا من الرفع إلى تسعة أشهر إنما هو إنما هو أن تستبرأ أم الولد إذا توفي عنها سيدها وارتابت بتأخير الحيض تسعة أشهر لا على القول بأنها ترفع ثلاثة أشهر، فإنها على هذا القول تكتفي بأربعة وعشر لدخول الثلاثة فيها ولا على أنها ترفع إلى ستة أشهر فإنها تستغني بستة أشهر. وهذا القول الذي قدمه عن ابن القاسم بقوله: وكان يقول إن كانت تحيض كل ستة أشهر انتظرتها. وكلام المصنف يوهم أن ابن القاسم يقصد خصوصية الستة، وإنما قال [408/ب] ذلك على طريق المثال كما تقدم، واعلم أن ما قاله المصنف من أنها على القول بأنها تكتفي بثلاثة أشهر تكتفي هنا بالأربعة أشهر وعشر، هو قول غير واحد من القرويين، ورده ابن يونس بأن القول بالاكتفاء بالثلاثة إنما هو في الأمة القن إذا ارتابت، والحيضة في أم الولد من وفاة سيدها أو عتقه

ص: 61

إياها عدة لقول الاختلاف فيها بخلاف الأمة. وإذا كانت عليها عدة من سيدها وعدة من زوجها وجب أن تطالب بأقصى الأجلين، كقول ابن القاسم فيمن تزوجت في عدة وفاة ودخل بها، وصححه عياض. خليل: وإنما يظهر أثر اشتراط الحيضة فيما إذا احتمل على قول من لا يراعى الحيضة في عدة الوفاة، وأما من يعتبرها- كأشهب وأحد قولي ابن القاسم- فإن حيضة استبرائها تدخل في الحيضة المشترطة في العدة.

وقوله: (وإن لم يحتمل) هذه هي الصورة الثانية، يعني فإن لم يكن بين موتهما شهران وخمس ليال بل أقل من ذلك فعليها أربعة أشهر وعشر لاحتمال موت الزوج بعد موت السيد، وعلى احتمال موت الزوج أولاً فعليها شهران وخمس ليال وهي مندرجة في الأربعة، فلذلك اكتفت بالأربعة أشهر وعشر ولم تحتج إلى حيضة الاستبراء، لأنها إنما احتاجت إليها في المسالة السابقة لكونها حلت للسيد، وها هنا لم تحل له، لأنه وإن مات زوجها أولاً فهي معتدة منه.

وقوله: (وَحُكْمُ الْحَيْضَةِ

إلخ) فيحتاج إليها على قول أشهب، ولا يحتاج إليها على قول عبد الملك، ويفرق على المشهور.

ابن عبد السلام: واختلف حذاق الشيوخ هل طلب الحيضة في عدة الوفاة في حق من كانت عادتها أن تحيض في أقل من زمان العدة عام في كل معتدة أو لا يحتاج إليها هنا لرفع الريبة في تلك العدة فصارت من باب اعتبار الشك المركب، وقد تقدم إطراحه في الفقهيات لأنه من الوساوس؟

قوله: (ولابُدَّ مِمَّا تَحِلُّ بهِ الأَمَةُ الْمُعتَدَّةُ للوفاة).

ابن راشد: هذا الموضع مشكل لأن فرض المسألة أن الأول مجهول، فإن فرضنا أن الأول هو الزوج فهذه تعتد عدة الأمة، وتقدم الخلاف هل لابد من حيضة أو تحل بثلاثة أشهر أو تحل بانقضاء العدة؟

ص: 62

وإن كان السيد هو الأول فعدتها أربعة أشهر وعشر، ويختلف هل تحل أم لا تحل حتى تحيض- كما سبق- فأي فائدة في ذكره فتأمله؟

خليل: ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أنها تتربص تسعة أشهر على قول وذلك لأنه قدم أن الأمة، قد لا تحل بمجرد مضي عدتها بل لابد مما تحل به الأمة. وقد تقدم أن في ذلك قولين: أحدهما أنها تتربص تسعة أشهر. والثاني أنها تتربص ثلاثة. فعلى الأول أنها تتربص تسعة لابد لهذه المستولدة من تسعة إذا ضعف أمرها أن تكون كالأمة، والله أعلم.

فرع:

ولا ترث أم الولد من زوجها شيئاً في الصورتين لاحتمال موت الزوج قبل موت السيد. قاله في المدونة وغيرها.

ص: 63

الإِحْدَادُ: وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لِلْوَفَاةِ خَاصَّةً وِإنْ كَانَتْ صَغِيرَةً دُونَ الطلَّاقِ

أبو زيد وأبو عبيد: يقال حدث المرأة فهي حاد، وأحدث فهي محد، ولم يعرف الأصمعي (حدت) وأصله من حاددت الرجل من كذا إذا منعته، ومنه الحدود الشرعية من الجلد والرجم والقطع لأنه تمنع أن يؤتى مثل ذلك الفعل، ومنه أيضاً الحدود للماهيات لأنها تمنع من أن يدخل في تلك الماهية غيرها، ولذلك قيل للبواب حداد لأنه يمنع غيره، والدليل على وجوبه في عدة الوفاة ما في الصحيحين وغيرهم عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قُسطٍ وأظفار)). قيل: والعصب ثيا من اليمن فيها بياض وسواد، والنبذة- بضم النون- القطعة والشيء اليسير، والقسط- بضم القاف- والأظفار نوعان من البخور، ورخص فيه في الطهر من الحيض لتطييب المحل وإزالة كراهته. ولهذا الحديث ونحوه قصد مالك الإحداد على عدة الوفاة، وحكمة مشروعيته الإبعاد مما تراه المرأة له صوناً للأنساب.

مطرف وابن الماجشون: وإن ارتابت فعليها الإحداد حتى تنقضي الريبة وإن بلغت إلى خمس سنين. قال: وكذلك سمعنا مالك يقول.

قوله: (وِإنْ كَانَتْ صَغِيرَةً) يريد وإن كانت في المهند ويجنبها أهلها، لأنها لما وجبت عدة الوفاة على الصغيرة والكبيرة وجب عليها الإحداد، ودخل في قوله:(كُلِّ زَوْجَةٍ لِلْوَفَاةِ) الأمة والحرة، وهو صحيح.

وَفِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ والْكِتَابِيَّةِ قَوْلانِ

المشهور مذهب المدونة وجوب الإحداد عليهما، ولم يوجبه عبد الملك وسحنون على امرأة المفقود، لأن الرجل لم تتحقق وفاته بدليل أنا لا نقسم ميراثه، واختار اللخمي أن

ص: 64

يكون عليها أقصى الأجلين. والقول بعدم وجوب الإحداد على الكتابية رواه ابن نافع عن مالك، وبه قال هو وأشهب، إما [409/أ] لأنها لم تدخل في قوله عليه الصلاة والسلام:((لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر)). وإما بناء على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة كما أشار بعضهم، وقد يقال: إن المشهور وقول ابن نافع مبنيان على الخلاف في عدتها، هل تعتد بأربعة أشهر وعشر أو بثلاث حيض. فالمشهور مبني على الأول، وقول ابن نافع مبني على الثاني.

وَهو تَرْكُ الزِّينَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلا تَتَحَلَّى وَلَوْ بِخَاتَمٍ، ولا تَتَطَيَّبُ، وَلا تَدَّهِنُ بِالأَدْهَانِ الْمَطِّيَبةِ بِخِلافِ الشَّيْرَقِ والزَّيْتِ ....

لما ذكر أن الإحداد واجب أتبعه على حقيقته، ولما كان ترك التحلي والتطيب من نتيجة قوله (تَرْكُ الزِّينَةِ) أدخل الفاء في قوله:(فَلا تَتَحَلَّى وَلَوْ بِخَاتَمٍ، ولا تَتَطَيَّبُ).

عيسي: وسواء كن ذلك الخاتم فضة أو ذهبا. مالك في رواية محمد: ولا تلبس حالياً ولو كان حديداً. ولم ينص أصحابنا على الجوهر والياقوت.

الباجي: وهو داخل تحت قوله في الموطأ: ولا تلبس خاتماً ولا خلخالاً ولا غير ذلك من الحلي.

محمد عن مالك: ولا تحضر عمل الطيب ولا تتجز فيه، وإن لم يكن لها كسب غيره حتى تحل.

ولو مات زوجها بعد أن مشطت رأسها فقال مالك: لا تنقض مشطها، أرأيت لو اختضبت. قال في البيان: إن كانت امتشطت بغير طيب، وأما إن كانت امتشطت بطيب أو تطيب في سائر جسدها فيجب عليها غسله كنزع الثوب المصبوغ إذا توفي زوجها ولا لابسة له، وكما يجب على الرجل إذا أحرم وهو متطيب أن يغسل الطيب عنه. وقال بعض القرويين: إذا لزمت المرأة العدة وعليها طيب ليس عليها غسله بخلاف الذي يحرم. عبد الحق: لأن المحرم أدخل الإحرام على نفسه ولو شاء نزع الطيب قبل أن يحرم أو

ص: 65

أخر الإحرام حتى يذهب، فلم يعذر لاختياره بخلاف العدة فإنه لا خيار للمرأة فيها. والشيرق بكسر الشين المعجمة وآخره قاف، ويقال بالجيم ويقال أيضاً بالحاء المهملة المفتوحة. النووي: وهو بفتح الراء وليس بعربي، وهو دهن السمسم.

وَلَا تَمْتَشِطُ بِحِنَّاءٍ ولا كَتَمٍ وَلَا بِماَ يَخْتَمِرُ فِي رَاسِهَا

قال في المدونة بإثر هذا: وتمتشط بالسدر وبما لا يختمر في رأسها.

عياض: والحناء ممدود، والكتم بفتح التاء الوسمة التي يصبغ بها الشعر. وقال أبو عبيد: بتشديد التاء. وهو يذهب حمرة بيان الضعر ولا يسوده كما زعمه بعضهم مما أخطأ في ذلك.

وَلا تَدخُلُ الْحَمَّامَ، ولا تُطْلِي جَسَدَهَا

هكذا قال أشهب أنها لا تدخل الحمام ولا تطلي جسدها بالنورة، ولا بأس أن تستحد. هكذا نقل اللخمي وابن يونس عن أشهب. ونقل ابن عبد السلام عن أشهب أنها لا تدخل الحمام إلا من ضرورة. ونقل عن غيره أنها لا تدخله، قال: وظاهره ولو مع الضرورة. وأجاز لها ابن لبابة دخول الحمام، وأجاز في السليمانية الإطلاء بالنورة.

مالك في العتبية: ولا باس أن تخرج إلى العرس ولا تتهيأ بما لا تلبسه الحاد ولا تبيت إلا في بيتها، ولا بأس أن تنظر في المرآة وتحتجم وتقلم أظفارها وتنتف إبطيها.

وَلا تَكْتَحِلُ إِلا لِضَرُورَةٍ وَتَمْسَحُهُ نَهَاراً، وقِيلَ: وَلا لِضَرُورَةٍ

قال في المدونة: ولا تكتحل إلا من ضرورة، ولا بأس وإن كان فيه طيب ودين الله يسر. زاد مالك في الموازية أنها تكتحل ليلاً وتمسحه نهاراً كما قال المصنف. ولمالك في المختصر أنها لا تكتحل بإثمد فيه طيب وإن اشتكت عينها.

الباجي: ويحتمل ما في المختصر أنها لم تضطر إلى الطيب. الباجي: وجدت لمالك ولم أتحققه أنها لا تكتحل بالإثمد ولا بشيء فيه سواد ولا صفرة ولا بما فيه طيب وإن اشتكت

ص: 66

عينها. ومعنى ذلك ألا تدعو إلى ذلك ضرورة، وهذا على تأويل الباجي يرجع إلى الأول. ونقل ابن عبد الحكم عدم الجواز ولو حصلت الضرورة، ودليله ((أن امرأة توفي زوجها فأتت أمُّهَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن بنتي اشتكت عينها أفأكحلها؟ قال: لا قالت: إني أخشى أن تنفقئ عينها. قال: وإن انفقأت)).

عبد الحق: وإسناده صحيح. وفي الموطأ أنه عليه الصلاة والسلام قال لامرأة معتدة اشتكت عينها: ((اكتحلي بكحل الجلاء بالليل وامسحيه نهاراً)). ولعل تعارض الحديثين هو سبب الاختلاف هنا.

وَتَلْزمُ الْمَسكَنَ

أي: وتلزم المتوفى عنها المسكن الذي توفي عنها زوجها فيه. ونبه بهذا على قول ابن عباس وجابر أنها تعتد حيث شاءت. ودليلنا ما رواه مالك وأبو داود والترمذي وصححه أن الفريعة بنت أخت أبي سعيد الخدري جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبُدٍ له أبقوا له حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نعم)). فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت، فقال:((كيف قلت)[409/ب] فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: ((امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)) واللفظ لأبي داود.

وَلَا تَلْبَسُ مَصْبُوغاً إِلا الأَسْوَدَ وَالأَدْكَنَ وَالأَكْحَلَ إِلا أَنْ لَا تَجِدَ غَيْرَهُ

هكذا وقع كما ترى أن الأدكن داخل في المستثنى، ونحوه في الجلاب، فإنه قال: ولا بأس بلباس البياض والسواد والدكن والكحليات. ومذهب المدونة خلافه، ففيها: ولا

ص: 67

تلبس خزاً ولا ما صبغ من ثياب أو جباب حرير أو كتان أو قطن أو صوف وإنه كان أخضر أو أدكن إلا أن لا تجد غيره، وتكون بموضع لا تجد استبدالاً، فإن وجدت بدلاً ببيع فليس ذلك لها. اللخمي: وكذلك إذا قدرت على تغيير صبغة بسواد. ولا فرق في المصبوغ الممنوع بين الصوف والحرير وغيرهما.

ابن رشد: ولو رجع في أمر اللباس إلى الأحوال لكان حسناً، فرب امرأة يكون شأنها لباس الخز والحرير فإذا لبست ثوب كتان أي لون كان فلا يكون زينة لها.

خليل: وعلى هذا فتمتنع الناصعة البياض من السواد فإنه يزينها. وكذلك قال اللخمي: أرى أن تمنع من الثياب الحسنة وإن كانت بيضاء لأنها تزيد في الوضاءة، وتنظر حينئذ لنفسها ويتشوف لها، وكذلك الرفيع من السواد، ولا أرى من تمنع الأخضر والأزرق والزيتي.

وَتَلْبَسُ الأَبْيَضَ- ولَوْ إِبْرِيسَماً- وغَلِيظَ عُصُبِ الْيَمَنِ، وَأَبْيَضَ الْخَزِّ وأِسْوَدَهُ

ما ذكره هو المشهور. قال في المدونة: وتلبس رقيق البياض كله وغليظه. ومال غير واحد إلى المنع من رقيق البياض.

وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِدَّةِ

يعني: وليس الإحداد شرطاً في العدة، بل لو تركته أثمت وحلت بانقضاء العدة.

وَعَلَى مَنِ اشْتَرَى أَمَةً مُعْتَدَّةً إِبْقَاؤُهَا فِي مَوْضِعِ اعْتِدَادِهَا، ويَجُوزُ إِخْرَاجُهَا نَهَاراً لِلْبَيْعِ، وَلَا تَتَزَيَّنُ بِمَا لا تَلْبَسُهُ الْحَادُّ ....

لأن بقاء المعتدة في موضع اعتدادها مأمور به، فإذا احتاج سيدها للبيع جاز له إخراجها نهاراً كما جاز للحرة أن تخرج لحوائجها طرفي النهار، ولا يتركها تتزين بما لا تتزين به الحاد، وإنما لم يكن للمشتري إخراجها لأنه حل محل البائع.

ص: 68

وَلِلْمُعْتَدَّةِ الْمَدْخُولِ بها مُطْلَقاً مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاقٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ لِعَانٍ السُّكْنَى

يعني: أن للمدخول بها السكنى في العدة مطلقاً سواء كانت من وفاة أو طلاق أو خلع، وعطفه الخلع على الطلاق من باب عطف الخاص على العام، ولأنه قد يتوهم إسقاط السكنى لها لما بذلته، ولينبه على أنه لا فرق في الطلاق بين البائن وغيره.

والمشهور في المتوفى عنها ما ذكره المصنف، وروى ابن خويز منداد عن مالك سقوط السكنى لها، وقاله ابن القصار، لأن ملك الزوج للدار قد زال بموته، وأسقط أحمد بن حنبل السكنى للبائن.

ودليلنا قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ولم يذكر في ذلك شرطاً. ثم قال في النفقة: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فشرط وجود الحمل.

وقوله: (أَوْ فَسْخٍ) أي في النكاح الفاسد، لأنها محبوسة من أجله، ولأن الولد يلحق به كالصحيح.

قوله: (أَوْ لِعَانٍ) هو المشهور. وقال القاضي إسماعيل: لا سكنى لها. وهو اختيار ابن رشد لانقطاع الزوجية وأسبابها، ولو أتت بولد لم يلحق به.

وَإِنْ نَقَلَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاتَّهَمْ رَجَعَتْ لِلَأوَّلِ

يعني: إذا نقل الرجل زوجته من موضع سكناه المعروف إلى غيره، واتهم على إسقاط حق الله تعالى في السكنى، كما لو طلقها بالقرب فإنها ترجع إلى المنزل الأول، ولم يكتفوا منه هنا باليمين.

فرع:

فإن كانت إقامتها في غير منزلها لحق آدمي مثل أن تكون ظئراً استؤجرت بشرط أن تكون في دار أبوي الصبي، فمات الزوج عنها أو طلقها.

ص: 69

التونسي: فاعرف في هذا أنه تفسخ الإجارة وترجع إلى بيتها بخلاف حق الله تعالى من العكوف والإحرام.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ ِبَها يَمُوتُ زَوْجُهَا فَلا سُكْنَى لَهَا إِلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْكَنَهَا فَتَكُونُ كَالْمَدْخُولِ بِهَا ....

لأنها إنما تعتد في موضع سكناها إلا أن يكون قد أسكنها فلها السكنى، وسواء كانت كبيرة أو صغيرة لا يجامع مثلها. قاله في المدونة، وقيده أبو بكر بن عبد الرحمن بما إذا كان قد ضم الصغيرة إليه لا ليكفلها، وأما إن أخذها ليكفلها ثم مات فليس لها.

ابن يونس: وأظن أن ابن المواز ذكره، وهو بين فاعلمه.

ابن حارث: واختلفوا في الصغيرة التي لا يدخل بمثلها إذا أسكنها زوجها في حياته ثم مات، فقال ابن القاسم: هي أحق بالسكنى حتى تنقضي العدة. قال سحنون: وكيف تكون أولى بالسكنى وإنما هو متطوع لها بها في حياته.

محمد: ولو اكترى لها منزلاً فجعلها فيه ونقد الكراء، أو كان لنفسه فهي أحق به وإن لم يبن.

اللخمي: وليس هو أصل المذهب إلا أن يكون موته بعد أن صارت إلى ذلك المسكن.

وَلا سُكْنَى لِلأَمَةِ مَا لَمْ تَتَبَوَّا بَيْتاً

يعني: إذا لم تتبوأ بيتاً اعتدت في بيت سيدها، وإن تبوأت فكالحرة. وبالجملة فأحكمها بعد [410/أ] الموت أو الطلاق باعتبار السكنى كحالها في حال الزوجية. بعض الأندلسيين: وهو يدل على أن سكنى المعتدة تبع لسكنى العصمة، فيؤخذ منه أن الحرة إذا طاعت لزوجها بالسكنى في دارها دون كراء ثم طلقها فطلبت منه كراء أمد العدة أنه لا يلزمه السكنى، وبهذا أفتى أبو عمر ابن المكوي وابن العطار والأصيلي، وذهب ابن زرب وابن عتاب إلى أن عليه الكراء، وإليه ذهب اللخمي، وأفتى به المازري لأن المكارمة قد زالت بالطلاق.

ص: 70

وَلَوْ خَرَجَ بِهَا إِلَى الحْجَ ِّفَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا بَائِناً أَوْ رَجْعِياً رَجَعَتْ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَبْعُدْ أَوْ تُحْرِمْ ....

يعني: ولو سافر الزوج بزوجته فأما إلى الحج أو غيره، فإن سافر بها إلى حجة الفريضة فما قاله المصنف قاله أبو بكر بن عبد الرحمن، وأما غيره: فترجع إن بعدت كالسفر إلى الرباط ونحوه، وسوى غيره بين الفرض والنفل بخلاف العزو والرباط.

عياض: وفرق بين ذلك بفروق ضعيفة، والأول أصوب. وأشار التونسي إلى أنه ينبغي على الثاني أن يلحق بذلك الغزو ونحوه، وما ذكره من أنها ترجع إذا طلقها أو مات عنها في الثلاثة الأيام نحوه في المدونة، ونص على أن ما قرب من الثلاثة بمنزلتها وأنها ترجع إن وجدت ثقة. قال: وترجع من ملل وذوي الحليفة من المدينة، وردهن عمر رضي الله عنه من البيداء، ولا يفسخ كراء كريها، ولتكر الإبل فيمثل ما اكترت ولو بعدت كإفريقية من الأندلس أو المدينة من مصر تمادت، وأما إذا أحرمت فلتنفد قربت أو بعدت. وملل موضع بينه وبين المدينة ثمانية عشر ميلاً.

قوله: (إن وجدت ثقة) يريد محرماً أو ناساً لا بأس بهم. قاله اللخمي وابن عبد السلام وغيرهما. وفهم اللخمي من قول مالك أنها ترجع في اليومين والثلاثة أن الحج عنده على التراخي، قال: وعلى قوله أنه على الفور يكون عليها أن تنفد لما خرجت إليه وإن لم تكن بعدت عن بلدها، وكذلك لو لم تكن خرجت لكان عليها أن تخرج.

ابن عبد السلام: وفي قوله: (لكان عليها أن تخرج) نظر، فإنه حينئذ يكون كواجبين تعارضا، لأن مكثها في بيتها فرض، والحج كذلك، فيسلك مسلك الترجيح.

فرعان:

الأول: قال أبو عمران: وإذا طلقها ورجعت فعليه الكراء في رجوعها لأنها إنما رجعت من أجله وحبست له، فذلك بمنزلة ما يجب لها من السكنى عليه.

ص: 71

الثاني: قال أبو الحسن: قوله: وأما إذا أحرمت فلتنفد، ظاهره أنها أحرمت قبل موت الزوج، ولا إشكال في هذا وهي غير عاصية، ولو أحرمت بعد موت الزوج نفدت وهي عاصية، بخلاف المعتكفة فإنها لا تنفد إذا أحرمت بالحج وتبقى على اعتكافها حتى تتمه، إذ لو قيل أنها تخرج إلى الحج الذي أحرمت به لبطل اعتكافها، لأنه لا يكون إلا في المسجد، بخلاف الإحرام فإنه لا يخل بجملة العدة وإنما يخل بالمبيت.

وَتَرْجِعُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ إِنْ كَانَ خَرَجَ لإِقَامَةِ الأَشْهُرِ لا لِلْمُقَامِ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً، وَإِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إِذَا بَقِي لَهَا شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى بَيْتِهَا بِالتَّقْدِيرِ، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ لِلانْتِقَالِ اعْتَدَّتْ فِي أَقْرَبِهمَا أَوْ أَبَعْدِهِمَا أَوْ فِي مَكَانِ الْمَوْتِ إِنْ شَاءَ وأَمْكَنَ ....

يعني: وإن سافر بها في غير الحج فإن ذلك على وجهين: أحدهما: أن يخرج لا للسكنى بل ليقيم شهراً أو شهوراً كما لو خرج لرباط أو زيارة أو تجارة. والثاني: أن يخرج للإقامة رافضاً لسكناه بمحله. وذكر المصنف أنها في الوجه الأول ترجع وأطلق، ونص في المدونة على أنها ترجع ولو وصلت إلى المكان الذي خرجت إليه. واختلف إذا قامت بالمكان الذي خرجت إليه الأشهر أو السنة، فذكر التونسي وغيره قولين: أحدهما: أنها ترجع، وهو ظاهر المدونة. والثاني: أنها لا ترجع، وهو قول مالك في الموازية. ابن عبد الحكم: والأول أحسن. وقال اللخمي: الثاني أحسن.

وقوله: (وَإِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ .... إلخ) يعني: وحيث أمرناها، إنما ذلك حيث يكون لرجوعها فائدة بأن تعتد في منزلها، وأما إن كانت لو رجعت لا تدرك منزلها إلا بعد فراغ العدة فلا ترجع لعدم الفائدة حينئذ في الرجوع. وظاهر كلامه إذا بقي من العدة شيء أنها ترجع ولو أدركت يوماً واحداً، وهو ظاهر المدونة، لكن قيد ذلك اللخمي بأن تدرك ما له قدر، وقال: وإن لم يبق من العدة إلا ما لا قدر له لم ترجع، وتعتد في موضعها إن كانت

ص: 72

في مستعتب أو تنتقل إلى أقرب المواضع إليها وإن كانت في غير مستعتب، ولا مستعتب دون الموضع الذي خرجت إليه فيكون لها أن تبلغه، وإن كان انقضاء العدة قبله، ولا إشكال في التقدير في ذات الأشهر، وأما ذات الحيض فالتقدير في حقها بما عرفته من عادتها. ثم أخذ المصنف يتكلم على القسم الآخر وهو ما إذا كان خروجه للانتقال، فقال: وإن كان السفر للانتقال

إلخ. والضمير في أقربهما أو أبعدهما عائد على المكان الذي خرجت منه والذي خرجت إليه. وحاصل كلامه أنها تخير في أحد ثلاثة أمور: أن ترجع [410/ب] إلى المكان الأول، أو تذهب إلى المكان الذي خرجت إليه، أو تقييم بالمكان الذي مات فيه زوجها.

قوله: (وأَمْكَنَ) الظاهر عوده على الثلاثة، ويحتمل من جهة اللفظ أن يعود إلى قوله:(أَوْ فِي مَكَانِ الْمَوْتِ) وما ذكره من التخيير في الثلاثة نحوه في المدونة، وعلل ذلك فيها بأنه مات ولا قرار لها لرفض قراره ولم تصل بعد إلى قراره، ونص فيها على أن المطلقة طلاقاً بائناً أو رجعياً كذلك.

اللخمي: ولها أن تعتد في موضع الموت وإن مات في مستعتب، أو تنتقل إلى غيره إذا كان مأموناً، ولا تبعد لأنها وإن كانت لا تتعين عليها العدة في مسكن فلا يسقط خطابها بما تخاطب به المعتدة من الحفظ، وأن لا تبيت عن المسكن الذي تبيت فيه، وإذا كان كذلك لم يكن لها أن تجعل عدتها في أسفار ومناهل وقفار، وإن مات الزوج بعد وصوله إلى البلد الذي أراد سكناه ثم مات قبل أن يتخذ لها مسكناً كالزوجة التي لا مسكن لها، وكانت بالخيار بين أن تعتد في الذي مات فيه أو بغير ذلك من تلك المدينة أو غيرها إذا كانت قريباً، ولو اكترى منزلاً فلم ينتقل إليه حتى مات كانت بالخيار أيضاً حسبما تقدم لو لم يكثر، فإن انتقل إليه تعين عليها فيه العدة. انتهى.

ص: 73

وقول اللخمي: (لم يكن لها أن تجعل عدتها في قفار .... إلخ) ظاهر، ويلزم عليه أن لا تكون مخيرة في أن تذهب إلى أبعد المكان بل يلزمها أن تذهب إلى الأقرب. وفي قوله أن لها إذا وصل بها إلى البلد الذي أراد سكناه ولم يتخذ لها به مسكناً أن تخرج من تلك المدينة نظر، وقاله ابن عبد السلام.

وَتَنْتَقِلُ الأَمَةُ مَعَ ساَدَاتِهَا

نحوه في المدونة. وسواء كانت معتدة من طلاق أو وفاة.

حمديس: وهو خلاف ما وقع في المدونة أنه لا يجوز بيعها إلا ممن لا يخرجها في العدة، وإذا لم يجز لمشتريها ذلك فبائعها أولى. ونص ابن القاسم في الموازية على أنها إن تبوأت مع زوجاً بيتاً فليس لسادتها الانتقال بها. وجمع غير واحد بين مسألتي المدونة على ما في الموازية، فالتي لا تباع إلا ممن لا ينقلها هي التي تبوأت، والتي تنتقل مع سادتها هي التي لم تتبوأ، وإليه أشار أبو عمران بقوله: إن ما في الموازنة لا خلاف فيه. وأجاب ابن يونس عن معارضة حمديس، وقال: لا يلزم هذا ابن القاسم، لأن بائعها لا يخرجها إلا أن يضطر إلى الخروج، وليس هو بمضطر في بيعها أن يبيعها ممن يخرجها وهو يجد من لا يخرجها لأن المشترين كثير، ولو اضطر بعد شرائه إلى الخروج لأمر حدث لجاز له أن يخرجها كسيدها.

وَلِلْبَدَوِيَّةِ الرَّحِيلُ مَعَ أَهْلِهَا لا مَعَ أَهْلِ زَوْجِهَا

نحوه في المدونة، واحترز من الحضرية فإنها لا تنتوي ولو انتوى أهلها. قال في المدونة: ولا تنتوىي. ونص يحيي بن عمر على أن نساء أهل الخصوص يعتددن في البيوت التي كن فيها قبل الطلاق والوفاة. وعلى هذا فالمراد هنا بالبدوية ساكنة العمود، فسره الباجي.

ص: 74

ابن عبد السلام: وقال اللخمي، وعياض، وابن راشد: المراد سكانة الخصوص والعمود.

خليل: وكلام الباجي أصح لأن أهل الخصوص تلزمهم إقامة الجمعة على الأصح، فدل على أنهم في حكم الحاضرين. وما ذكره المصنف من أنها تنتقل مع أهلها لا مع أهل زوجها إنما ذلك إذا كان لها ولزوجها أهل، وأما إن لم يكن لها أهل فإنها تعتد حيث كانت مع أهل زوجها وترحل معهم.

تنبيهان:

الأول: قوله: (تنتوي) أي: ترحل وتبعد، من النوى وهو البعد، وهو يدل على ما أشار بعض الشيوخ إنما يكون لها أن تنتوي مع أهلها إذا كان رحيلهم لغير القرب لانقطاعهم عنها وانقطاعها عنهم، وأما إذا كان على قرب بحيث لا تنقطع عنهم وترجع إليهم عند تمام عدتها فتقيم مع أهل زوجها.

الثاني: قوله: (لا مَعَ أَهْلِ زَوْجِهَا).

ابن عبد السلام: إن كان المراد أن الحكم بذلك رخصة وأن الأصل كان أن تنتوي مع أهل زوجها لولا مع عارضه من مشقة الرجوع إلى أهلها عند انقضاء عدتها فظاهر، وإن كان المراد أن هذا هو الأصل عند مالك وأنها لو ارتكبت تلك المشقة وارتحلت مع أهل زوجها لما كان لها ذلك، فلا يتبين وجهه. وعلى الاحتمال الأول فهمها الشيوخ.

وَلَهَا مُفَارَقَةُ الْمَسْكَنِ بِعُذْرٍ لَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ لِخَوْفِ سُقُوطٍ أَوْ لًصًوصٍ، ثُمَّ تَلْزَم الثَّانِيَ والثَّالِثَ كَذَلِكَ ....

يعني: أنه يجب على المعتدة الاعتداد في البيت الذي هي فيه في الطلاق والوفاة إلا أن لا يمكنها المقام لعذر فلها حينئذ مفارقته، وذلك إما لخوف سقوط الدار أو خوف لصوص.

ص: 75

اللخمي: أو خوف جار سوء على نفسها، أو وجدت وحشة لانتقال من حولها أو خشية الانتقال من جيرانها. قال في المدونة: وإن كانت في مدينة فلا تنتقل لضرر جواز ولترفع ذلك إلى السلطان.

اللخمي: وإن حصل الشرك بينها وبين من تسكن معهم وكان الشر منها ارتحلت عنهم، وفي مثل هذا جاء الحديث في فاطمة بيت قيس، وإن كان الشر من غيرها أخرجوا عنها، [411/أ] وإن أشكل أقرع أيهم يخرج، ثم إن انتقلت إلى موضع لمانع صار الموضع الثاني في لزوم السكنى كالأول، ثم إن حصل مانع في هذا الثاني كالأول، وهذا معنى قوله:(ثم تلزم الثاني والثالث كذلك).

ابن عبد السلام: كالحالف أن لا يرتحل من موضعه إلى انقضاء سنة مثلاً فعرض له مانع من سكناه. بل مسألة العدة جعلوها أصلاً لمسألة اليمين.

وَإِذَا انْتَقَلَتْ لِغَيْرَ عُذْرٍ رُدَّتْ بِالْقَضَاءِ

سواء أذن لها المطلق أم لا، لأن بقاءها في بيتها حق لله تعالى.

وَلَا كِرَاءَ لَهَا فِيمَا أَقَامَتْ فِي غَيْرِهِ

نحوه في المدونة، ومعناه أن المعتدة إذا خرجت من موضع اعتدادها وسكنت غيره هروباً منه فردها القاضي إلى الأول، أو لم يردها وطلبت كراء البيت الذي هربت إليه، فلا كراء لها لأنها تركت ما كان واجباً لها فلا يلزم غيرها عن ذلك عوض.

وأقاموا من هذه المسألة مسألتين: الأولى: إذا كان له ولد فهربت به إلى موضع لا يعلمه، ثم أتت بعد ذلك تطلب ما أنفقت عليه أنه لا شيء لها.

الثانية: أقام منها ابن الشقاق أنه لا نفقة للناشزة مدة نشوزها ولا رجوع لها بذلك خلاف ما لمالك في الموازية. وفرق بينهما بوجهين: أولهما لابن رشد أن الكراء

ص: 76

تعين لها في ذلك المسكن لا في ذمة الزوج بمنزلة ما لو دفع النفقة فأتلفتها، ونحوه لأبي بكر بن عبد الرحمن.

ثانيهما لأبي عمران أن البقاء في المنزل حق لله فشدد عليها فيه حتى لا تسقطه، بخلاف بقائها مع الزوج فإنه حق له. وظاهر المدونة وقول المصنف لا كراء لها فيما أقامت في غيره أنه لا فرق في ذلك بين أن يكري المنزل الذي هربت منه أو يتركه خالياً. وقال اللخمي: إن خرجت لغير عذر فطلبت كراء المنزل الذي انتقلت إليه لم يكن لها ذلك إن خرجت عن مسكن يملكه الزوج أو اكتراه وحبسه ولم يكره بعد خروجها، وإن أكراه رجعت بالأقل مما اكترت أو أكرى.

وَتَخْرُجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَاراً وطَرَفَيِ اللَّيْلِ

يعني: أن السكنى التي تلزم المعتدة هي أن تلزم مسكنها بالليل، وأما النهار فلا بأس أن تتصرف فيه وكذلك في طرفي الليل. قال في المدونة: ولها التصرف نهارها والخروج سحراً قرب الفجر وترجع فيما بينها وبين العشاء الآخر. وهذا هو مراد المصنف بطرفي الليل.

ابن عبد السلام: قال بعضهم: ويدخله قول ابن القاسم أن لها الرجوع إلى ثلث الليل. ورواية مطرف وقول محمد إلا قدر هدوء الناس، قال: ويدخله قول إلى نصف الليل دليله ما في كتاب الحج لأنه قال: لا دم على من بات في ليالي منى بغير منى إلا ليلة كاملة أو جلها. واختار اللخمي أن تؤخر الخروج لطلوع الشمس وترجع لغروبها، قال: وهذا في بعض الأوقات أو عند الحاجة، وليس لها أن تجعل هذا عادة تكون سائر النهار في غير الموضع الذي تعتد فيه. مالك: ولا أحب أن تكون عند أمها النهار كله.

فرع: وتسكن في البيت على حسب ما تسكن فيه مع زوجها وإن كان في الدار بيوتٌ كثيرةٌ وكانت تسكن بيتاً منها وفيه كان متاعها، فقال مالك: لا تبيت إلا فيه في بيتها أو أسطوانها أو حجرتها التي كانت تتصرف فيها أو تتقيظ.

ص: 77

ابن القاسم: ومعنى ذلك أن جميع المسكن الذي كانت فيه تبيت فيه حيث شاءت.

ولم يرد أنها لا تبيت إلا في الذي كان فيه متاعها. وقال بعض القرويين: معنى ذلك أن تبيت في كل ما لو سرقت منه من دار زوجها لم تقطع.

عياض: وفيه نظر. قال في المدونة: وإن كان في الدار مقاصير فلا تبيت إلا في مقصورتها.

الباجي وغيره: يريد أن تلك المقاصير لغيرها. وذهب الأبهري وابن القصار إلى أنها لا تبيت إلا حيث كانت تبيت. عياض: وهو استحسان. ولعل كلامه في الكتاب على هذا، واخلف لفظه على المستحب.

وَالْمُعْتَدَّةُ أَحَقُّ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاِء بِالْمَسْكَنِ الْمَمْلُوكِ لَهُ والْمَنْقُودِ كِرَاؤُهُ

لما قدم أن للمعتدة السكنى في الطلاق والوفاة أخذ يذكر المحل التي تكون فيه أحق في الوفاة، ولا شك في عدة الطلاق أن عليه ألا يخرجها من المنزل، وأما في الوفاة ففي المدونة وغيرها كما قال المصنف أنها أحق من الورثة والغرماء بالمسكن المملوك لزوجها أو المنقود كراؤه. وإنما ألحق المنقود كراؤه بالمملوك، لأنه إذا نقد كراؤه صار يملك السكنى فيه. وقيد أبو عمران المنقود كراؤه بما إذا انتقلت إليه، وأما إذا لم تنتقل إليه فلا شيء لها.

ابن زرقون: وروى ابن دينار عن ابن القاسم في المدونة: إن كان المنزل له فلها السكنى، وإن كان بكراء فلا سكنى لها. وحكى ابن خويز منداد عن مالك أنه لا سكنى لها وإن كان المنزل له، فإن نقد بعض الكراء كانت أحق بمقدار ما نقد، وحكمها في الباقي حكمها فيما لم ينقد.

فَإِنْ كَانَ مُكْتَرىً غَيْرَ مَنْقُودٍ فَفِيهَا: لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ فًتًخْرُجَ إِلا أَنْ يَكْرِيَهَا الْوَرَثَةُ كِرَاءً مِثْلَهُ. ورُوِىَ أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَاخْتَارَهُ عَبْدُ الْحَقَّ، وَحَمَلَ الْمُدَوَّنَةَ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ ....

يريد: فظاهر المدونة أنها ليست أحق ولو كان فيها التصريح بما قاله [134/أ] المصنف لم يحسن خلاف الشيوخ في معناها، ولفظها: وإن كانت الدار بكراء ولم ينقد

ص: 78

الزوج الكراء وهو موسر فلا سكنى لها في ماله، وتؤدي الكراء من مالها، ولا تخرج إلا أن يخرجها رب الدار أو يطلب من الكراء ما لا يشبه فظاهر قوله (ولم ينقد الزوج الكراء وهو موسر فلا سكنى لها) أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الكراء مشاهرة أو وجيبة أي مدة معينة، وعلى هذا الظاهر حمله الباجي وغيره، واحتجوا بأن المسألة وقعت لمالك كذلك في الموازية. وذكر في النكت عن بعض القرويين أنه حمل المدونة على المشاهرة، وأما الوجيبة فإنها أحق بالسكنى سواء نقد أم لا، واحتج لذلك بقوله في المدونة: إلا أن يطلب منها صاحب المنزل ما لا يشبه، فإن ذلك يدل على أنه لم يكن الكراء لسنة بعينها لأنه لو أكرى لسنة بعينها لكان الكراء قد لزم بما تعاقداه، وليس لرب المسكن أن يطلب غيره. واحتج لذلك أيضاً في تهذيب الطالب، فإن ابا قرة روى ذلك عن مالك، أي أنها تكون أحق في الوجيبة مطلقاً. وحمل الأولان قول مالك إلا أن يطلب صاحب المسكن ما لا يشبه على أن مدة الكراء قد انقضت.

تنبيه:

قول المصنف إلا أن يكريها الورثة ليس في المدونة، وانتهى ما حكاه المصنف عنها عند قوله:(لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ). وقوله: (فًتًخْرُجَ .... إلخ) هو مفرع عليها.

الباجي: وإن رضى الورثة في مدة الكراء أو أهل الدار بعد انقضاء مدة الكراء أن يأخذوا منها الكراء ويقروها على السكنى لم يكن لها الخروج. قال في المدونة: إلا أن يطلب منها ما لا يشبه من الكراء فلها الخروج ولرب الدار إخراجها. وقيده عياض بما إذا كان إخراجهم لحاجة لهم بالدار من سكنى أو بناء وشبهه، قال: هكذا فسره ابن كنانة في المدونة والمبسوط، قال: وليس لرب الدار إخراجها إلا لعذر مجحف مخافة على داره إن تركت فيها، وليس لهم أن يتزايدوا عليها في الكراء، والسكنى لها بالكراء الذي كان يتكاراه زوجها، ومعنى ذلك عندي أن يكون ذلك من قبل أنفسهم، وأما لو جاء من

ص: 79

يكتريها بأكثر فلهم إخراجها إلا أن تلزم الزيادة هي أو الزوج، ولا خلاف أن أهل الدار متى تركوها بكراء مثلها أنه لازم للزوج في الطلاق ولها في الوفاة.

وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ بَيْعُ الدَّارِ إِلا فِي ذَاتِ الأَشْهُرِ، وفِي الْمُتَوَقَّعِ حَيْضُهَا إِذَا اشْتَرَطَهُ قَوْلانِ

نحوه في الجواهر، وعلل ذلك بأن تأخير القرء والحمل غير معلوم بخلاف الأشهر، وكذلك قرره ابن راشد. والمراد بذات الأشهر الصغيرة واليائسة، وأما المتوفى عنها فستأتي. وإنما جاز هنا لأنه بمنزلة من باع داره واستثنى منفعتها ثلاثة أشهر. والقولان في المتوقع حيضها مبنيان على اعتبار الحال أو الطوارئ، فمن نظر إلى الحال أجاز ومن راعى الطوارئ منع.

وقوله: (وفِي الْمُتَوَقَّعِ حَيْضُهَا) أي: كبنت ثلاثة عشر وخمسين.

وَالْحُكْمُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْجوَازٌ، وقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فَاسِدٌ لِجَوَازِ الرِّيبَةِ

هكذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها:(وقال محمد: فاسد لجواز الريبة) فيكون المراد محمد بن عبد الحكم، لأن هذا القول إنما هو معلوم له لا لمحمد بن المواز.

وقوله: (وَالْحُكْمُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْجوَازٌ) أي: لأن عدتها بالأشهر. وفسر على قول محمد بن عبد الحكم للتعليل الذي ذكره المصنف وهو أنها قد ترتاب فتطول عدتها، وهذه المسألة ذكرها في المدونة في كتاب العدة وكتاب بيع الغرر، وفرضها في بيع الغرماء دار الميت لدين عليه، وفرضها الباجي في بيع دار الورثة.

ابن عبد السلام: وهو ظاهر كلام المصنف. واعترض بعضهم كلام الباجي لما يوهمه من إجازة بيعهم إياها اختياراً، فقال: إنما أجاز ابن القاسم هذا البيع إذا بيعت للغرماء، وأما إذا أراد الورثة البيع في غير دين فلم ينص عليه ابن القاسم. قال: وعندي أنه غير جائز.

ص: 80

خليل: وفي كلام ابن عبد السلام نظر، وذلك أنه إنما قال هذا الكلام لما تكلم على قول المصنف وليس للزواج بيع الدار، فيوهم أن كلامه في المدونة وقول ابن عبد الحكم في المعتدة بالأشهر، وكلامه في المدونة. وقول ابن عبد الحكم وكلام الباجي إنما هو في المتوفى عنها.

ثُمَّ إِذَا بِيعَتْ وارْتَابَتْ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَحَقُّ بِالْمُقَامِ وأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ....

يعني: وإذا فرعنا على المشهور من جواز البيع في المتوفى عنها فارتابت، فقال مالك في الموازية: هي أحق بالمقام، أي: إلى منتهى العدة، لأن ذلك القدر ملك لها لا يجوز لها ولا لأحد إسقاطه، وللمشتري الخيار للضرر الداخل عليه لو ألزم بالبيع. وقال ابن القاسم في العتبية: لا خيار للمشتري. وقال سحنون: لأنه كالذي دخل عليه. ولهذا لم يجز مالك بالخيار فيما حكاه المصنف عنه بل قال: وأحب. وذكره الباجي على أنه من لفظه في المدونة، وعن سحنون أيضاً أن الخيار للمشتري.

وَالبَيْعُ بِشَرْطِ زَوَالِ الرِّيبَةِ فَاسِدٌ خِلافاً لِسَحْنُونٍ

يعني: والبيع بشرط المشتري على البائع أن لا [412/أ] تكون له ريبة أو تكون وتزول في زمن العدة، وإن استمرت فلا بيع بيننا- فاسدٌ، وهكذا في الواضحة، وهو اختيار ابن المواز، ولعل سحنوناً قاس ذلك على اشتراط ري الأرض فإنه جائز إذا لم ينقد الثمن، والفرق أن الضرورة ملجئة في بيع الأرض كذلك بخلاف الدار. وزاد الباجي وغيره في قول سحنون: ولا حجة للمشتري ولو تمادت الريبة إلى خمس سنين. وروى نحوه أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية.

الباجي: وهو عندى على قول من يرى للمبتاع الخيار في الفرع الذي قبل هذا، وأما على قول من يلزمه ذلك فلا تأثير للشرط. واعترض التونسي قول ابن المواز هنا أن البيع

ص: 81

فاسد ورآه مخالفاً لقوله بالخيار إذا بيعت الدار واستثنى مقدار العدة ثم حصلت الريبة. قال: لأنه إذا ملك الخيار في الأخذ أو الترك كان أخذه على أن يسكن بالمرأة إلى انقضاء ريبتها كابتداء الشرط على ذلك إلا أن يكون هذا القول على أحد التأويلين فيمن خير بين شيئين فاختار أحدهما، كمن أمر أن يبيع سلعة بعشرة نقداً فباعها بعشرين إلى أجل فأجاز ذلك رب السلعة بعد فواتها.

ابن عبد السلام: ولا كبير اعتراض فيه إذا تأملته. وقال صاحب البيان: ل لا أدري ما معنى قول التونسي أ، ذلك يتخرج على أحد التأويلين، إذ لا اختلاف فيها أحفظه، كما أنه لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعته بعشرة نقدا أو بخمسة عشر إلى أجل على أن البيع لازم له بأحد الثمنين، وإنما يتخرج جواز ذلك على القول بأن من اشترى سلعاً فاستحق منها جلها على العدد فله أن يتماسك بما بقي بما ينوبه من الثمن، وإن كان مجهولاً لا يعرف إلا بعد التقويم. ويحتمل أن يكون معنى قول محمد يخير بين أن يرد البيع أو يتماسك به على أنه بالخيار في الرد ما لم تنقض الريبة لا على أنه يتماسك به على أن البيع لازم له طالت الريبة أم قصرت. هذا أولى ما حمل عليه قول محمد. انتهى.

ابن عبد السلام: وخرج بعضهم من إجازة بيع هذه الدار لغرماء الميت أن من ترك حاملاً وعليه دين أن عقاره يباع في دينه. وخالف فيه ابن أيمن وقال: لا يباع حتى تضع الحمل. واختلف إذا أوصى بوصية وثم حمل هل يعطى الموصى له الوصية أو حتى تضع؟ واختلف أيضاً في المرأة إذا كانت حاملاً وطلبت ثمنها عاجلاً.

عياض: ولو اشترط أقصى ما تمسك النساء للريبة لم يجز النقد. ثم إن ذهبت الريبة بعد هذا الشرط قبل الأجل كانت الدار بقية الأجل للورثة، ولو كان العقد على أن تزول الريبة قربت أو بعدت لم يجز على كل قول للغرر وجهالة وقت قبض الدار.

ص: 82

وَيُبْدِلُهَا الزَّوْجُ فِي الْمُنْهَدِمِ وِالْمُعَارِ وَالْمُسْتَاجَرِ إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ

يعني: أن المعتدة في الطلاق لا في الوفاة إذا اعتدت في ملك في منزل سواء كان له أو لغيره فانهدم، أو اعتدت في منزل معار له أو مستأجر فانتهت مدة الإعارة أو الإجارة فإن الزوج يبدلها غيره. اللخمي: ولا خلاف أن العدة لا توجب على المكري والمعير إذا ضربا الأجل مدة سوى العدة التي ملكها الزوج، وكذلك إذا لم يضربا أجلاً ولا يلزم المكري والمعير ما لم يعقده على نفسه. وقال ابن القاسم في المستخرجة في رجل أسكن أخاه منزلاً وطلق المسكن زوجته، وقال لها صاحب المسكن: اخرجي، إنما أسكنت أخي. فقال: لا تخرج حتى تنقضي العدة. يريد أن الأخوين يتهمان أن يكونا قصدا إخراج الزوجة خاصة ليس أن ينتزع العارية من أخيه.

فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَكَانَيْنِ وَلَا ضَرَرَ أُجِيبَت الْمَرْأَةُ

نحوه في المدونة، قال: إلا أن تدعوه إلى ما يضر به لكثرة كراء أو سكنى فتمنع، ولو أسقطت الكراء سكنت حيث شاءت. ومعنى ضرر السكنى أن تكون في جوار قوم غير مأمونين أو تسكن بالبعد منه ونحو ذلك، قاله ابن يونس.

اللخمي: والقول قولها إذا دعت على موضع مأمون وكان كراؤه أزيد وتحملت الزيادة.

وقوله: (فإن أسقطت الكراء سكنت حيث شاءت)

ابن يونس: يريد بحيث يعلم أنها معتدة ويبلغه خبرها.

وَامْرَأَةُ الأَمِيرِ الْمُعْتَدَّةُ لا يُخْرِجُهَا الْقَادِمُ فِيهَا

يعني: إذا طلق الأمير امرأته وهي في دار الإمارة فعزل أو مات عنها وقدم آخر قبل انقضاء العدة فليس له إخراج زوجة الأمير السابق حتى تتم عدتها. ولم يجعلوا ما يستحقه

ص: 83

الأمير من السكنى كالأجرة حقيقة، فإنه لو جعلوها كذلك لما استحقت ما زاد على قدر الولاية، وفي معنى زوجة الأمير زوجة القاضي إذا كان ساكناً في موضع القضاء.

وَفِي الْحَبْسِ حَيَاتَهُ تَسْكُنُ عِدَّتَهَا، وَلَوْ خَمْسَ سِنِينَ لأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَيِّتِ

قوله: (وَفِي الْحَبْسِ حَيَاتَهُ) أي: العمرى. وقوله: (تَسْكُنُ عِدَّتَهَا) أي: سواء كانت عدة طلاق أو وفاة. اللخمي: وقولهم في الطلاق ظاهر، لأن حق المحبس عليه قائم لوجود حياته، وأما المتوفى عنها فاستحسان لأن الأجل الذي أعطاه هو حياة المحبس عليه، وقد انقضى كالكراء إذا انقضى أجله إلا أن تكون هنا عادة. وقول المصنف:(وَلَوْ خَمْسَ [412/ب] سِنِينَ)، هكذا قال محمد.

اللخمي: وفيه ضرر على المحبس لأنه لم يرد هذا، ودار الإمارة الأمر فيها أوسع لأنها ليست لأحد.

بِخِلافِ سِنِينَ مَعْلُومَةٍ

يعني: فليس لها أن تزيد عليها وهو ظاهر.

وَكَذَلِكَ حَبْسُ مَسْجِدٍ بِيَدِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: لَيْسَ حَبْسُ مَسْجِدٍ بِيَدِهِ كَالْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ ....

يعني: فليس للإمام الجديد أن يخرجها في مدة العدة، وهكذا قال ابن شبلون. وذكر ابن عادت أنه الذي جرى عليه العمل بقرطبة، ولكن أكثر الشيوخ كعبد الحق والباجي وابن زرقون وابن راشد وغيرهم يقتصرون على ما قاله ابن العطار ويفرقون بينه وبين مسألة الأمير، فمنهم من فرق بأن سكنى الإمام على معنى الإجارة بخلاف الإمارة، وإلى هذا ذهب عبد الحق والباجي وغيرهما، ومنهم من قال لأن أجرة الإمام مكروهة، وإليه ذهب ابن المناصف، ومنهم من قال لأن امرأة الأمير لها حق في بيت المال، ودار الإمارة

ص: 84

من بيت المال بخلاف دار المسجد، وإليه ذهب ابن رشد، وقال ابن زرقون: الذي قاله ابن العطار مقصور على ما إذا كانت الدار حبساً على المسجد حبساً مطلقاً، وأما إن حبست على أئمة المساجد فإن الإمام إذا مات لا تخرج زوجته حتى تنقضي العدة كما في دار الإمارة.

خليل: وإنما يقصد الناس في زماننا هذا في أئمة المساجد الإجارة فيقوى قول ابن العطار. ولعل القول الأول مبني على الغالب من عادتهم في الزمان المتقدم من الاحتساب في ذلك.

وَلأُمِّ الْوَلَدِ- تُعْتَقُ، أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا- السُّكْنَى

هذا مذهب المدونة. وقوله: (السُّكْنَى) أي: مدة استبرائها بالحيضة، لأنها في حقها كالعدة. وكذلك أن قلنا هي استبراء محض لأنه محبوسة بسببه. وقال في الموازية: لا سكنى لأم الولد ولا عليها. وروى أشهب: ذلك لها، وعليها من غير إيجاب. وقال ابن القاسم: إن كانت حاملاً فلها السكنى إن أعتقها، وإن لم تكن حاملاً فلا سكنى لها. هكذا حكى اللخمي، وحكى غيره قولاً آخر بأن السكنى حق لها إن شاءت أخذته وإن شاءت تركته. قال: وقيل: تركها مكروه.

وَلَهَا فِي الْعِتْقِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ وَالسُّكْنَى

لو سكت عن قوله: (السُّكْنَى) لكان أحسن لأنه قد قدمه وكأن لها النفقة لأجل الحمل. وفهم من قوله: (وَلَهَا فِي الْعِتْقِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ) أنه ليس لها ذلك في الموت، وكذلك نص عليه ابن القاسم وأشهب وأصبغ، لأن الحمل وارث فلم تكن له نفقة كما لو توفي عن الزوجة حاملاً. ابن عبد السلام: وحمل بعضهم على المدونة قولين في وجوب النفقة لها في الوفاة إذا كانت حاملاً. فقال ابن القاسم: لها النفقة. وقال غيره وهو عبد الملك: لا نفقة لها. وليس في لفظ التهذيب عندي ما يقتضي أن ابن القاسم يقولك بوجوب النفقة لها فتأمله فيه. وقال ابن محرز: إذا كانت قد ولدت قبل ذلك من سيدها رجوت أن لا يختلف ابن القاسم وعبد الملك في أن لا نفقة لها.

ص: 85

وَلِلْمُرْتَدَّةِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ وَالسًّكْنَى

قال في التهذيب: وللمرتدة الحامل النفقة والسكنى ما دامت حاملاً، فإن لم تكن حاملاً لم تؤخر واستتيبت، فإما أن تقتل أو ترجع إلى الإسلام فيكون ذلك طلقة بائنة ويكون لها السكنى. وقال ابن اللباد: ليس لها السكنى إن لم تتب، لأنه تسجن حتى تضع. فغير البرادعي لفظها لما يعتقده من معناها، ولفظه في الأمهات: قلت أرأيت المرتدة أيكون لها النفقة والسكنى إن كانت حاملاً ما دامت حاملاً: نعم، لأن الولد يلحق بأبيه فمن هناك لزمته النفقة. فقال بعضهم: إنما وقع ذكر السكنى في السؤال لا في الجواب، وإنما جاب عن النفقة فقط، ألا ترى إلى تعليله بلحوق الولد ولم يجب عن السكنى إذ هي محبوسة على ما قاله ابن اللباد. واختصرها المختصرون على أن النفقة والسكنى لها لقوله: نعم في أول الجواب بعد السؤال عنها. وقيل: معنى هذه السكنى أنه غفل عن سجنها.

عياض: وقد يقال ذلك إذا كان الموضع الذي يعتقل فيه يطلب عندهم كراؤه.

فرع:

اللخمي: إذا قال الزوج: حاضت قبل الردة ولم أصبها استتيبت، فإن تابت وإلا قتلت.

وإن قال الزوج لم تحض بعد أن أصبتها وأشكل أمرها هل هي حامل أم لا كان من حق الزوج أن تؤخر حتى تحيض أو تمر لها ثلاثة أشهر من يوم أصاب، فإن لم يظهر حمل قتلت، وهذا لحق الزوج في الماء، فإن أسقط حقه في ذلك ولم يمض للإصابة أربعون يوماً لم تؤخر، لأن الماء حينئذ لم يخلق منه ولد، وإن مضى له أربعون يوماً لم يعجل بقتلها لإمكان أن يكون الولد قد صار علقة، فلا يجوز قتلها حينئذ كما لا يجوز للأم أن تشرب ما تسقطه به. ولو زنت ولا زوج لها رجمت إذا لم تمض لها أربعون يوماً ولا تؤخر، فإن مضت لها أربعون يوماً أخرت حتى يظهر أمرها، وإن أخرت الزوجة حتى ينظر هل هي حامل لم يكن على الزوج في ذلك نفقة عند ابن القاسم، لأن ارتدادها طلقة بائنة، ولا عند

ص: 86

أشهب وعبد الملك وإن كان يريان أن الطلاق مترقب، فإن أسلمت كانت على الزوجية من غير طلاق، لأنها فعلت فعلاً منعت به نفسها، [413/أ] فإن تبين حمل أنفق في المستقبل وأتبعته بالماضي، وتبيت في بيتها على القول بأن الارتداد طلاق ويتحفظ بها فيه، وعلى القول أنه فسخ أو مترقب فإن رجعت إلى الإسلام كانت على الزوجية، فيستحب نقلها إلى موضع تعتد فيه.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تُحْبَسُ بِسَبَبِهِ فِي السُّكْنَى، وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ لإِسْلامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَكَمَنْ نَكَحَ مَحْرَماً ولَمْ يَعْلَمْ وبَنَى ....

هكذا في المدونة أن كل امرأة حبست بسبب شخص في عدة أو استبراء لها السكنى، وإن حصل حمل كانت لها نفقته.

وليس ما قاله في النفقة على إطلاقه، فإن حمل الأمة من حر أو عبد، وحمل الحرة أو الأمة من عبد لا نفقة له، وكذلك حمل الملاعنة، وظابطه كل حمل لو وضعته وجبت نفقته على أبيه فلها عليه النفقة وإلا فلا. وذكر المصنف للضابط الذي ذكره ثلاثة أمثلة:

الأول: إذا فسخ النكاح لإسلام أحد الزوجين بعد البناء فإنه يجب للمرأة السكنى ونفقة الحمل إن كان، وقوله:(بَعْدَ الْبِنَاءِ) يعني وأما قبله فلا لعدم العدة.

الثاني: إذا نكح محرما ولم يعلم وبنى فإن لها السكنى في مدة الاستبراء ونفقة الحمل إن كان. وقيد ذلك بعدم العلم لتتم الشبهة وإلا فلو كان عالماً وهي لم تعلم كان لها أيضاً عليه السكنى ولم يكن لها عليه نفقة الحمل لعدم لحوق الحمل. ثم أشار إلى المثال الثالث بقوله:

وَفِي الْغَالِطِ بِغَيْرِ الْعَالِمَةِ ذَاتِ زَوْجٍ قَوْلانِ

ابن هارون وابن راشد: لم أقف على ما حكاه المصنف. وقال ابن عبد السلام: يعني إذا غلط بامرأة أجنبية يظنها زوجته أو أمته فوطئها فلا حد عليه، وتستبرأ الحرة بثلاث حيض فإن

ص: 87

حملت منه كان لها عليه النفقة والسكنى، ولا أعلم في هذا خلافاً في المذهب. وظاهر كلام المؤلف أنه مختلف فيه فانظره. واختلف المذهب إذا لم تحمل وكانت زوجاً لآخر هل تجب نفقتها على نفسها أو على واطئها؟

وَلامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ خَبَرُهُ دُونَ امْرَأَةِ الأَسِيرِ أَنْ تَرْفَعَ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَيُؤَجَّلُ الْحُرُّ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَالْعَبْدُ سَنَتَيْنِ مُنْذُ يَعْجِزُ عن خَبَرَهُ بَعْدَ الْبَحْثِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ كَالْوَفَاَةِ ....

فقد الشيء عدمه، ومراده المفقود في بلاد المسلمين احترازاً من الأسير فإن حكمه سيأتي، ومعنى كلامه أن لامرأة المفقود أن ترفع امرها سواء كانت مدخولاً بها أم لا إلى الحاكم. وأطلق في (الْحَاكِمِ) فيشمل الخليفة ووالي البلد والقاضي. قال في المدونة: ويجوز ضرب ولاة المياه وصاحب الشرطة الأجل للعنين والمفقود.

أبو الحسن: والمراد بولاة المياه السعاة لأنهم يبعثون عند حصول المياه.

القابسي وأبو عمران: وإن كانت في موضع لا حاكم فيه رفعت أمرها إلى صالحي جيرانها وكشفوا عن خبر زوجها وضربوا لها الأجل، لأن فعل الجماع كحكم الإمام. وقال سحنون: لا يجوز كتاب ولاة المياه إلى قضاة الأمصار الكبار من سائر البلدان. وأنكر ما ذكر عن مالك أن والي المياه يضرب أجل المفقود وهو لا يضرب إلا بعد أن يكتب إلى البلدان، وولاة المياه لا يجوز أن يكتبوا إلى البلدان، فعلى هذا قيل: لا يضرب لها الجيران.

اللخمي: والمعروف من المذهب أن الكشف عن خبره إلى سلطان بلده وإن تولى ذلك بعض ولاة المياه، والمفقود منهم أجزأ. وقال أبو مصعب: لا يجوز في ذلك حكم سلطان إلا الخليفة الذي تمضي كتبه في الدنيا.

ابن عبد السلام: وجعله بعضهم كقول سحنون. وقال ابن الماجشون: إذا كان الإمام الأعظم حاضراً لم يضرب غيره. وقال غير واحد: إذا رفعت المرأة أمرها إلى الحاكم كلفها

ص: 88

إثبات الزوجية والغيبة، فإذا أثبت ذلك سأل زوجته وأقاربه وإخوانه وأهل محلته وسوقه، فإن كان عندهم علم أنه كان يريد بلداً كتب إلى ذلك البلد الذي كان يظن أنه فيه، وإلا كتب إلى بلد الجامع إن لم يظن أنه في بلد بعينه ويعرفه في كتابه باسمه وصفاته ومتجره، ويكتب هو إلى نواحي بلده، وإن كان مطلوباً بدم أو آبقاً لم يقتصر في الكتب على الجهة التي خرج إليها، لأن هذا ينتقل ولا يستقر في بلد بعينه، فإذا جاء الجواب بعدم العلم ضرب له الأجل وهو أربعة أعوام للحر. واختلف في العبد، فالمشهور ما ذكره المصنف أن أجله نصف اجل الحر كالإيلاء والطلاق. ابن عبد السلام: وقيل: أجله كالحر.

خليل: وتنصيف الأجل هنا وفي الاعتراض والإيلاء مشكل، والأظهر الشاذ في الجميع.

وقوله: (مُنْذُ يَعْجِزُ عن خَبَرَهُ) هو المشهور. وقال ابن عبد الحكم: من يوم الرفع، وعليه فلا يكتب إلى البلدان ويضرب له الأجل إذا ثبتت الزوجية والغيبة. وقاله ابن عبد الحكم، وزاد: إلا أن يبلغ سن التعمير. والأصل في التحديد بالأربع سنين ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((أيما امرأة فقد زوجها فلم تدر أين هو فإنما تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشر ثم تحل)).

عبد الوهاب: وأجمع الصحابة عليه لأنه روى أيضاً عن عثمان وعلي وجماعة من التابعين ولم يعلم لهم في عصر الصحابة مخالف. قيل: وحد بالأربعة لأنها [413/ب] غاية الحمل. وقيل: لأنها المدة التي تبلغها الكتابة في بلدان الإسلام ذهاباً وإياباً. وقيل: لا علة لذلك إلا الاتباع لقول عمر. اللخمي: وهو أحسن. واستضعف الأول لقول مالك: أنها لو أقامت عشرين سنة فإنها تستأنف الأجل. ولقولهم إذا كانت الزوجة صغيرة أو الزوج صغيراً أنه يضرب له الأجل وليس هناك ما يخشى منه الحمل، وكذلك إذا كانت يائسة، ولأنه لو كان مبنياً على أكثر الحمل لاختلف فيه على الخلاف.

ص: 89

واستضعف أيضاً الثاني لقول مالك أنها تستأنف الأربعة من بعد الإياس. وقيل: إنما ضرب له أربعة أعوام، لأنه جهل إلى أي ناحية سار من الأربع جهات. وهذا لا معنى له.

وقوله: (ثُمَّ تَعْتَدُّ كعدة الْوَفَاةِ) لقول عمر المتقدم.

ابن عبد السلام: ومن أهل المذهب من ألزمها أقصى الأجلين، وأجراه بعضهم على الخلاف في لزوم الإحداد ولم يبينوا هل هي حيضة واحدة. وهذا إن أراده فقريب كما تقدم في الذي علمت وفاته أو هي ثلاث حيض، ولا يحتاج إذا انقضى الأجل إلى إذن الإمام لها في العدة ولا بعد انقضائها إلى إذنه في التزويج. عبد الوهاب: لأن إذنه حصل بضرب الأجل.

تنبيه:

ما تقدم من أن العبد الآبق والمطلوب بدم لا يقتصر في حقهما على الكتب إلى جهة واحدة، يدل على أن حكمهما حكم المفقود، وقد نص محمد على ذلك. وكذلك قال مالك فيمن أخذ متاع زوجته وهرب أنه: يضرب له أجل المفقود.

وقال اللخمي: أرى أن يطلق على هؤلاء عند رجوع الكشف بعدم العلم بخلاف المفقود لأنهم فروا اختياراً، ومعلوم أنهم قاصدون التخلف عن الرجوع وحالهم بين ميت ومختار للإقامة.

فرعان:

الأول: إنما يضرب له الأجل المتقدم إذا كان له مال ينفق عليها منه وإلا فحكمها حكم زوجة المعسر بالنفقة.

الثاني: إذا غاب عن أم الولد سيدها وطلبت أن يضرب لها أجل لم تمكن من ذلك، وتبقى إلى انقضاء تعميره فتعتق عليه. نقله ابن راشد.

ص: 90

فَإِنْ جَاءَ أَوْ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ قَبْلَ تَزْوِيِجها فَامْرَأَتُهُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لِلثَّانِي، وَفِي رُجُوعِ الأَوَّلِ غَيْرِ الدَّاخِلِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ رِوَايَتَانِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ قَالَ مَرَّةً: الْعَقْدُ فَوْتٌ. ثُمَّ رَجَعَ ....

يعني: أن الحكم نافذ لها ما لم يتبين خلافه، وأما إن تبين خلافه فذلك على أربعة أوجه: الأول: أن يجئ أو يتبين حياته وهي إلى الآن في العدة، فلا خلاف أنها زوجته.

الثاني: أن يتبين ذلك بعد خروجها من العدة وقبل أن يعقد عليها، فالمعروف من المذهب عدم فواتها كالأول. وذكر ابن عيشون الطليطلي عن ابن نافع أنها تفوت. قال في المقدمات: وهو بعيد، لأن الحاكم إذا حكم باجتهاد ثم تبين له أو لغيره أنه أخطأ في حكمه خطأ متفقاً عليه نقض ذلك الحكم بإجماع. فلو قيل على قياس هذا أنها له ولو دخل بها الزوج الثاني كالمنعي لها زوجها لكان له وجه في القياس، ولكنه لم يقوموا ذلك، فأين هذا من قول ابن نافع، إلا أنه يشبه ما روي عن مالك فيمن خرص الخارص عليه في تحلة أربعة أوسق فوجد فيها خمسة أنه يعمل على ما خرص.

أبو عمران: وتآليف ابن عيشون مختلفة، ونقله ضعيف. وروى اللخمي مثل قول ابن عيشون، قال: لأن الحاكم أباحها للأزواج مع إمكان حياته، وما كشف الغيب أكثر مما كان يظن. وقول المصنف: فإن جاء أو ثبتت حياته قبل تزويجها فامرأته، يشمل هذين الوجهين الوجه الثالث أن يدخل بها الثاني والحكم أنها تفوت على الأول وتكون للثاني. وإلى هذا أشار بقوله: وبعد الدخول للثاني.

اللخمي: ولم يختلف قول مالك أن الدخول فوت. وخرج فيها قول بعدم الفوت بالدخول على أحد القولين في النصرانية تسلم وزوجها غائب، فإن ابن الماجشون قال: إن ثبت أنه أسلم قبلها أو بعدها في العدة كان أحق بها وإن ولدت من الثاني.

ص: 91

ابن راشد: وفيه نظر، لأن امرأة المفقود اجتهد لها الحاكم بعد الكشف وضرب الأجل وأذن لها في النكاح بخلاف النصرانية تسلم.

فرع:

فإن دخل بها الثاني في نكاح فاسد فالأول أحق بها إن فسخ بغير طلاق لا إن فسخ به. نص عليه الباجي وغيره.

قوله: (وَفِي رُجُوعِ الأَوَّلِ غَيْرِ الدَّاخِلِ .... إلخ).

اعلم لولا أنه اختلف إذا فقد الزوج قبل البناء وضرب الحاكم الأجل، وفرق بينهما سواء تزوجت أم لا، فعن مالك أنها تعطى جميع الصداق، وبه قال سحنون.

ابن بطال: وبه القضاء. وفي الجلاب أنها تعطى نصف صداقها فقط، فإن ثبتت بعد ذلك وفاته أكمل لها صداقها، وكذلك إن مضى عليها من السنين ما لا يحيي إلى مثله. وقاله عبد الملك وابن دينار.

وقال جماعة: إن لم تكن قبضته لم تعط إلا نصف صداقها، وإن كانت قبضته لم ينزع منها. وقيل: لا تأخذ النصف إلا بعد إلزامه الطلقة، وذلك عند عقد الثاني أو عند دخوله على الخلاف. ابن محرز: والقياس أن يكون لها النصف إلا على مذهب من يرى أن المرأة تستحق الجميع بالعقد. وعلى أنها تأخذ الجميع فقال مالك: يعجل لها [414/ا] المعجل ويبقى المؤجل إلى أجله. وقال سحنون: بل يعجل لها الجميع.

ومنشأ الخلاف أن هذه المرأة فيها شائبتان، شائبة الموت بدليل أنها تعتد عدة الوفاة، وشائبة الطلاق بدليل أن دخول الثاني يوقع على الأول طلقة، فمن غلب الشائبة الأولى أوجب لها الجميع، ومن غلب الثانية لم يوجب لها إلا لنصف.

وكلام المصنف مبني على القول بأنها لا تأخذ الجميع، لأن ذكره الخلاف في رجوع الأول بنصف الصداق فرع عن أخذها الجميع. والروايتان اللتان حكاهما المصنف

ص: 92

حكاهما ابن الجلاب وهما مرويتان عن ابن القاسم، والذي رجع إليه أنها لا ترد شيئاً كالميت. والمعترض بعد التلوم، قيل: وبه العمل لأنه حكم مضى. وقال ابن راشد: الأول أصح. وهو الخيار اللخمي لأنه طلاق قبل الدخول، والفرق بينه وبين المعترض أن المعترض قد استمتع بها وأخلف شورتها.

الوجه الرابع: أن تتبين حياته أو موته بعد عقد الثاني وقبل دخوله، ففيه القولان اللذان حكاهما المصنف بقوله:(قَالَ مَرَّةً: الْعَقْدُ فَوْتٌ. ثُمَّ رَجَعَ). وبالفوات قال المغيرة وابن كنانة وابن دينار، وبعدمه قال ابن القاسم وأشهب. قال في الكافي: المرجوع إليه أصح من طريق الأثر. وليست مسألة نظر لأنا قلدنا فيها عمر رضي الله عنه.

فرع:

أبو عمران: وإذا اعتدت أو مضى بعض العدة لم يكن لها أن ترجع إلى عصمته، وقد وجبت عليها العدة والإحداد، فليس لها أن تسقط ما وجب عليها باختيارها، وأما في الأربع سنين فلها ذلك لأنها لم تجب عليها عدة. قال: ومتى رجعت بعد ذلك أبتدأ لها الضرب. أبو بكر بن عبد الرحمن: وإذا ضرب لها الأجل واعتدت ثم أرادت أن تبقى على عصمة المفقود فليس لها ذلك، لأنها قد صارت مباحة للأزواج فلا حجة لها أن لو قدم كان أملك بها لأنها إنما أمرت بالعدة للفراق فتجري على ذلك حتى تظهر حياته، ألا ترى أنها لو ماتت بعد العدة لم يوقف لها منها ميراث، وإن كان لو علمت حياته ردت إليه.

وَعَلَيْهِمَا لَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بَيْنَهُمَا، بِخِلافِ مَا قَبْلَهُمَا فَإِنَّهَا كَغَيْرِهَا

يعني: وعلى القولين في فواتها بالعقد إذا ثبت أنه مات بينهما، أي: بعد العقد وقبل الدخول. فإن قلنا أن العقد مفيت مضت زوجة للثاني، وإن قلنا ليس بفوت فسخ لأنه تزوج زوجة الغير. وبالجملة موته كقدومه بخلاف ما لو ثبت موته قبل العقد والدخول، فإن هذه المرأة كغيرها من النساء، فإن عقد الثاني بعد خروجها من عدة الأول صح نكاحه، وإن عقد قبل خروجها من العدة فهو كالنكاح فهيا، وإليه أشار بقوله:

ص: 93

وَفِيهَا: لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فِي عِدَّةِ مَوْتِ الأَوَّلِ فَنِكَاحٌ فِي عِدَّةٍ يُفْسَخُ، وَتَحْرُمُ بِالدُّخُولِ أَبَداً ....

تصوره ظاهر. وقوله: (وَتَحْرُمُ بِالدُّخُولِ) أي: في العدة، وأما لو لم يدخل إلا بعد العدة لجرى على الخلاف المتقدم في باب النكاح. ولعل المصنف نسب المسألة للمدونة لإشكالها، وذلك أن الزوج الثاني استند في عقده إلى حكم حاكم فلم يستعجل وليس هنا اختلاط أنساب فكان تأبيد التحريم مشكلاً، ولهذا روى البرقي عن أشهب أنه إذا دخل بها الثاني في عدة الأول لم يفسخ نكاحه وثبت ولم تحرم عليه.

ابن المواز: ولو دخل بها الثاني ثم علم أن المفقود مات قبل دخول الثاني فنكاح الثاني مفسوخ لأنه كالناكح في العدة، إذ مرة لها زمان العدة وهي معقود عليها كالرامي من الحل تخرق رميته الحرم ويصيب في الحل.

ابن يونس: وقد تقدم لابن المواز ما يدل على خلاف هذا، قال: إذا اعتدت المنعي لها زوجها وتزوجت ودخل بها ثم تبين أن الأول مات بعد عقد الثاني وقبل دخوله فليفرق بينهما ويؤمر التورع عنها، وهي أخف ممن نكح في العدة ودخل بعدها، وهي كمن واعد في عدة ونكح بعدها، لأنه عقد نكاحها وهي ذات زوج فعقده كلا عقد، فلينتزه عنها أحب إلى.

ابن يونس: وما تقدم أقيس لأنه عقد لو قدم بعد الدخول فيه لم ترد إليه وليثبت ذلك العقد. وإن كانت يوم العقد ذات زوج فإذا مات الأول قبل دخول الثاني فقد صادفتها العدة وهي معقود عليها فهي كمن عقد في العدة ودخل بعدها، أصله الرامي من الحل تخرق رميته الحرم ثم يصيب في الحل، والله أعلم.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَرِثَتْهُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَرِثْهُ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا الْقَوْلانِ

لأنه إذا مات قبل العقد فهي زوجة، ويأتي على ما حكي عن ابن نافع أنها لا ترثه إذا خرجت من العدة، فإذا ثبت أنه مات بعد دخول الثاني فليست له زوجة، لأنها فاتت على

ص: 94

الأول بالدخول. وإن مات بعد عقد الثاني وقبل دخوله فالقولان، فعلى الفوات لا ترث منه، وعلى مقابله ترث. اللخمي: وإن جهلت التواريخ وقد دخل الثاني لم يفسخ نكاحه ولم ترث الأول، لأنه لا يفرق بينها وبين الثاني بالشك، ولا ترث الأول أيضاً بالشك.

وَعَلَى الثَّانِي: لا يَقَعُ الطَّلاقُ إِلا بِالدُّخُولِ

ويعني: وعلى قول مالك المرجوع إليه من أنها لا تفوت إلا بالدخول لا يقع طلاق على الأول إلا بدخول الثاني، وأما على الفوات بالعقد فالطلاق [414/ب] يقع بنفس العقد، ابن رشد، واختلف متى تقع الطلقة عليه، فقيل: أنها تقع عليه بالدخول أو بالعقد على الاختلاف في ذلك، وقيل: إنما تقع عليه يوم أبيحت للأزواج ويكشف ذلك العقد أو الدخول، وفائدة هذا الاختلاف، لو كان هذا الأول طلقها اثنتين ثم تزوجت وقدم زوجها الأول بعد أن دخل بها هذا الثاني، هل يحلها هذا الزوج للقادم أم لا؟ والظاهر أنها تحل بفراغ العدة ولو كان الطلاق إنما يقع بعقد الثاني أو بدخوله لكان نكاحه فاسداً.

وِلَوْ طَلَّقَهَا الثَّانِي بَعْدَ الُّدخُولِ وَكَانَ الأَوَّلُ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ لَحَلَّتْ لَهُ، أَصْبَغُ: لا تَحِلُّ بِذَلِكَ لأَنَّهَا لَمْ تُنْكَحْ بَعْدَ الطَّلاقِ، وَرَدَّهُ اللَّخْمِيُّ

يعني: لو كان المفقود طلقها طلقتين قبل فقده ثم فقد وأباح لها الحاكم التزويج وتزوجت ثم طلقها الثاني بعد دخوله، فهل تحل للمفقود قبل زوج وهو قول مالك وبه قال أشهب، وقال أصبغ: لا تحل، وصوبه أبو عمران بما حكاه المصنف عن أصبغ بقوله:(لأَنَّهَا لَمْ تُنْكَحْ بَعْدَ الطَّلاقِ)، يعني أن الطلقة الثانية إنما تقع بدخول الثاني ولم يحصل بعدها نكاح وحليتها مرقوفة على حصول نكاح بعد الثلاث، ورده اللخمي بما تقدم من أن الظاهر أن الطلاق وقع قبل العقد وقبل الدخول وإلا لزم فساد النكاح.

ص: 95

فرع:

محمد: ولو قدم المفقود بعد أن خلال بها الثاني، فقال للأول: ما قربتها، لحرمت على الثاني، لأنه أقر أنها زوجة للأول، ولم تحل للأول لظهور الإفاتة إلا أن يخطبها بعد ثلاث حيض، وجعل اعترافه كالطلاق، وإن لم يطلق فتحل لذلك الزوج ولا تحل لغيره وإن اعترفت أن الثاني لم يصبها لأنها مقرة أنها زوجة للأول، وإن ادعت أنه أصابها حلت له ولغيره لأنه يعد ذلك منه طلاقاً، وإن أنكرت أن يكون أصابها ولم يصدقها الأول ولا راجعها كان لها أن ترفع أمرها إلى السلطان فيطلقها على الأول لأنها تقول: لا أبقى بغير نفقة، ولو أنفق عليها لكن لها أن تقوم بعدم الإصابة لأن إنكار الأول أن تكون صدقت، وقوله أولاً: لا علم عندي لا يكون طلاقاً.

وَالَّتِي تَعْلَمُ بِالطَّلاقِ وَلَا تَعْلَمُ بِالرَّجْعَةِ كَذَلِكَ

يعني: أن من طلق امرأته طلاقاً رجعياً فاعتدت وتزوجت غيره، فأثبت هو أنه ارتجعها قبل نكاح الثاني فكذلك، أي إن اطلع على ذلك قبل دخول الثاني فالأول أحق على قول مالك، الثاني: وإن دخل فالثاني أحق بها، ورأي اللخمي أنها لا تفوت بالدخول، وفرق بينها وبين امرأة المفقود بأن هذه لم يكن فيها قضية من حاكم.

وفي قوله: (كَذَلِكَ) إشارة إلى إجراء حكم هذه المسألة على المتقدمة في الميراث، وبذلك صرح في المدونة، عبد الملك: وهذا إذا أقام بينة أنه ارتجع قبل عقد الثاني، وأما قوله بعد عقد الثاني ارتجعت قبل عقده فلا يقبل.

مالك: وإن كان حاضراً فلم يعلمها برجعته ورآها تزوجت ودخلت فإنها تمضي زوجة.

اللخمي: وليس ببين لأنه لو رأي أن الزوجة تزوجت ولم ينكر عليها لم يكن ذلك طلاقاً.

ابن عبد السلام: وكلام اللخمي ظاهر إن قامت له بينة أنه ارتجع قبل ذلك، وهو الذي أراد كما قاله عبد الملك. خليل: وقد يجري ما قاله مالك في هذه المسألة على أحد الأقوال فيمن

ص: 96

باع زوجته أو زوجها إلا أن يقال أنه إذا باعها أو زوجها فعل فعلاً محققاً يدل على تمليكها لغيره بخلاف هنا فإنه سكت وهو أضعف.

وَأَمَّا الْمَنْعِي لَهَا زَوْجُهَا تَتَزَوَّجُ فَيَقْدَمُ فَلَيْسَتْ كَامْرَأَةِ الْمَفْقُودِ عَلَى الْمَشْهُورِ، بَلْ تُرَدُّ وَلَوْ وَلَدَتِ الأَوْلادِ إِذْ لَا حُجَّةَ لَهَا بِاجْتِهَادِ الإِمَام ....

عياض: يقول الفقهاء: المنعى بضم الميم وفتح العين، وهو عند أهل العربية خطأ، وصوابه عندهم المنعي بفتح الميم وكسر العين وتشديد الياء، وهي التي أخبرت بموت زوجها فاعتمدت على الأخبار وتزوجت ثم قدم زوجها، فالمشهور وهو مذهب المدونة أنها ترد إلى الأول، والفرق بينها وبين المفقود عنها ما ذكره المصنف بقوله:(إِذْ لَا حُجَّةَ لَهَا بِاجْتِهَادِ الإِمَام)، وقال القاضي إسماعيل، وأبو عمران: أنها كامرأة المفقود في اختلاف قول مالك، وتتنزل البينة منزلة حكم الحاكم لامرأة المفقود هكذا ذكرها ذا القول صاحب تهذيب الطالب، وظاهره أنه يختلف إذا عقد عليها الثاني ولم يدخل، وقال ابن راشد: إن لم يدخل الثاني بها فهي للأول اتفاقاً، قال: وفي المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أنها تفوت بالدخول، قاله مالك في كتاب القاضي إسماعيل، والثاني: أنها لا تفوت وترجع إلى الأول وهو قول محمد، وسواء حكم بموته حاكم أم لا، وهو المشهور، وثالثها: التفرقة فإن حكم بموته حاكم فاتت وإلا لم تفت، قاله القاضي إسماعيل.

ابن عبد السلام: والأقرب أن البينة إن كانت رفعت إلى القاضي فقبلها أو عدلت عنده فهي كامرأة المفقود، وإن كانت اعتمدت هي على أخبار البينة دون رفع القاضي فليست كامرأة المفقود، وإذا فرق بينها وبين الآخر على المشهورة، ففي المدونة لا يقربها الأول حتى تحيض أو تضع حملها إن كانت حاملاً، وتعتد في بيتها الذي كانت تسكن فيه مع الآخر ويحال بينه وبين الدخول [415/أ] عليها.

ص: 97

عياض: ولا إشكال في منع مائه زرع غيره، وأما ما عداه من الاستمتاع فمباح لأنها زوجته، وإنما حبست عنه لأجل اختلاط النسبين كما لو استبرأها من زنا أو غصب، وبدليل لو كانت المغصوبة ظاهرة الحمل من زوجها لجاز له وطؤها إذ الولد ولده عند ابن القاسم وغيره، وكرهه أصبغ كراهة تنزيه لا تحري.

أَبُو عِمْرَانَ: ولَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ عِنْدَهَا بِرَجُلَيْنِ فَتَزَوَّجَتْ، وَلَمْ يَظْهَرْ خِلافُهُ لَمْ يُفْسَخْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ إِلَّا بِقَوْلِهِا فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إِنْ تَبَّيَن أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ حُكِمَ بِهِ، وَفُسِخَ كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ

قوله فيما نقل عن أبي عمران (فَتَزَوَّجَتْ) لا يؤخذ منه جواز ذلك ابتداء، ونقل عنه ابن يونس وغيره أنه يجوز لها أن تتزوج بخبر العدلين وليس عليها أن ترفع إلى الحاكم ولا يفسخ.

أبو عمران: وإنما يفسخ إذا كانت البينة غير عدول أو لم يعلم ذلك إلا من قولها إذ ليست على صحة من استباحتها.

قوله: (ثم إِنْ تَبَّيَن أَنَّهُ) أي النكاح المفسوخ (وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ) لثبوت موت الزوج الأول أو طلاقه أو انقضاء العدة منه، فإن هذه المرأة ترد إلى الذي فسخ نكاحه ويفسخ ما بعد ذلك ولو تعددت الأنكحة، وإلى ذلك أشار بقوله:(وَفُسِخَ كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ).

ابن عبد السلام: وليس هذا موضع قوله (كُلُّ عَقْدٍ بَعْدَهُ)، وإنما يحسن مثل هذه العبارة في البيوع، أي لأنها لا تكون إلا في عصمة زوج فكان ينبغي أن يقول: وفسخ ما بعده.

وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَتِ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ فِي الْعِدَّةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَهُ وَقَعَ عَلَى الصِّحَّةِ فَقِسْ عَلَيْهِ ....

هذا أيضاً من كلام أبي عمران، ومعناه إذا تزوجت امرأة المفقود في أثناء العدة ففسخناه، ثم ثبت أن المفقود عنها انقضت عدتها منه إما من وفاة أو طلاق قبل أن يتزوجها الثاني فإنا نردها إلى الثاني ولو تزوجت زوجاً ثالثاً ودخل بها كالمنعي لها زوجها.

ص: 98

فرع:

لو تزوجت في العدة ففسخناه حرمت على الثاني إلا أن يثبت أن الأول حي فلا تحرم عليه، محمد: لأنها صارت زوجة للمفقود بغير طلاق ولا وفاة.

وقوله: (فَقِسْ عَلَيْهِ) أي قس على هذه المسألة والتي قبلها ما يشبهها في المعنى كما لو تزوجت امرأة المفقود في الأربعة أعوام وفسخ ثم ثبت أنه على الصحة.

وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ نِسَاءٍ مَفْقُودٍ رَفَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: أَرَى إِنْ ضُرِبَ الأَجَلُ لِلْوَاحِدَةِ ضُرِبَ لِجَمِيعِهِنَّ ....

زاد يحي بن عمر وهو راوي هذه المسألة عن ابن القاسم: وأبي سائرهن.

وكذلك نقل ابن شاس، وهو أحسن من كلام المصنف لاحتمال كلام المصنف أن يكون سائر النساء سكتن، وحكى ابن الفخار وابن يونس عن مالك مثله.

بعض القرويين: كما أن تفليس الواحد للمديان تفليس لسائر الغرماء، وقال أبو عمران: ليس ضرب القاضي الأجل لواحدة ضرب لجميعهن بل حتى ترفع كل واحدة، قال: ولا يحتاج إلى الكشف للمرأة الثانية لأنه قد كشف أول مرة، ابن يونس: وهو واضح.

وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ فِي الأَجَلِ دُونَ الْعِدَّةِ

لها النفقة في الأجل لأنها محكوم لها بحكم الزوجة، وأما في العدة فلا نفقة لها لأنها عدة وفاة، ولا نفقة للمتوفى عنها. ابن عبد السلام: فإن قلت، قد قيل إنها عدة طلاق، وقد تقدم عن المدونة وغيرها أن دخول الثاني طلاق، فينبغي أن ينفق عليها في تلك العدة، قيل: ولو سلم أنه طلاق لكان طلاقاً أوقعه القاضي، والأصل فيه البينونة، وفي هذا الجواب نظر، والأولى منع كون الفرقة طلاقاً حقيقياً لايجابهم عدة الوفاة، وأصل المسألة مشكل فلذلك أشكلت الفروع المبينة عليها، وظاهر كلام المصنف أن النفقة واجبة

ص: 99

للمدخول بها وغيرها، وكذلك أطلق في المدونة كالمصنف، وقال المغيرة: لا نفقة لغير المدخول بها إلا أن يكون فرض لها قبل ذلك، قال في المقدمات: والصواب أن لها النفقة لأنها كزوجة الغائب.

ولم يختلف أن من غاب عن زوجته قبل دخوله بها أن لها النفقة، وإنما اختلف في الغيبة القريبة، وظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن لها النفقة إذ لم يفرق فيه بين قرب الغيبة وبعدها.

فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَخَذَتْ شَيْئاً بَعْدَ وَفَاتِهِ رَدَّتْهُ وَكَذِلكَ أَوْلادُهُ

يعني: فإن ثبت بعد أخذها النفقة أنها أخذت شيئاً بعد وفاة المفقود ردته لأنها أخذت ما لا يجب لها إذ النفقة تسقط بالموت، وكذلك قوله:(وَكَذِلكَ أَوْلادُهُ)، يعني: إن ثبت أنهم أخذوا شيئاً بعد وفاته ردوه كالزوجة، وهكذا نص عليه ابن القاسم في المدونة، وينفق عليهم ما داموا صغاراً فقراء، وتأول سحنون ذلك على أن الأيتام كانت لهم أموال.

أبو عمران: إن لم يتأول على ما قاله سحنون وإلا فهو خلاف لقول ابن القاسم في مسألة الوصي ينفق علي اليتيم من مال أبيه ثم يطرأ دين يغترق المال، أنه لا يرجع على اليتامى بما أنفق عليهم إن لم يكن لهم مال، ويكون وفاقاً لقول المغيرة وأشهب بالرجوع عليهم مطلقاً.

وفرق بعض المتأخرين بأن الورثة تتعلق حقوقهم بالذمة لا بالعين، ومن تعلق حقه بعين شيء فأتلف عليه فله [415/ب] المطالبة بخلاف ما يتعلق بالذمة، واعترض فضل تأويل سحنون بأنه لو كانت لهم أموال لم ينفق عليهم إلا أن يقال إنما ظهر لهم المال ولم يكونوا عالمين به.

أبو عمران: يستغنى عن قول فضل هذا لأن هذا المال الذي ورثوه من أبيهم هو مال استوجبوه من يوم الموت، وإنما انكشف لنا ذلك الآن. ومعنى قوله:(يرجع عليهم) أنه يقاصهم بما أنفق عليهم من ميراثهم.

ص: 100

عياض: ولا يستغنى عنه بهذا إذ قد يكون ما أنفق عليهم أضعاف ما يجب لهم من التركة لكثرة الورثة معهم، قال في المدونة: ولا يؤخذ من الزوجة والأولاد حميل بهذه النفقة.

وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ إِلا بَعْدَ التَّعْمِيرِ عَلَى الْوَارِثِ حِينَئِذٍ

يعني: أن المال ليس حكمه حكم الزوجة في أنه يقسم بعد الأربعة أعوام بل يوقف حتى يتبين موته أو يأتي عليه سن التعمير إذ لا إرث بشك، وكان الأصل في الزوجة أن لا تباح إلا كذلك لكن غرضنا قوة الضرر، وحكى ابن راشد قولاً أنه يقسم ماله بعد الأربعة أعوام، قال: واختلف في حد التعمير على ستة أقوال: أحدها أنه سبعون، قاله مالك وابن القاسم وأشهب. عبد الوهاب: وهو صحيح لحديث معترك المنايا.

ثانيها: خمس وسبعون، وبه أفتى ابن زرب، الباجي في سجلاته، وبه القضاء.

ثالثها: ثمانون، رواه ابن الماجستون وابن حبيب عن مالك، وبه أخذ ابن القاسم ومطرف، واختاره الشيخان أبو محمد وأبو الحسن، وبه كان يفتي القاضي ابن السليم.

ورابعها: أنه الثمانون أو التسعون، قاله ابن القاسم أيضاً.

وخامسها: مائة، قاله أشهب، ابن حبيب وابن الماجشون: وإليه رجع مالك.

وسادسها: أنه مائة وعشرون، وحكاه الداودي عن ابن عبد الحكم، وبه المتيطية: إن غاب وهو ابن الثمانين عمر إلى انقضاء التسعين، وإن غاب وهو ابن التسعين عمر إلى انقضاء المائة، وإن غاب وهو انب المائة عمر بأعوام يسيرة بقدر الاجتهاد، وقيل: يتلوم بالعشرة، وقيل: بالعام والعامين، وإن غاب وهو ابن مائة وعشرين تلوم بعام واحد، قال في المقدمات: ولم يختلف فيمن عمر بمائة وعشرين أنه يتلوم له بالعام ونحوه.

وقوله: (عَلَى الْوَارِثِ حِينَئِذٍ).

أي: حين انقضاء التعمير.

ص: 101

وَلَا يُضْرَبُ لِلأَسِيرِ أَجَلٌ وَتَبْقَى زَوْجَةٌ

أي: لا يضرب لمن أسره العدو أجلاً، وتبقى زوجة حتى يثبت موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله، قال في المدونة: وسواء علم موضعه أم لا لأنه معلوم أنه قد أسر ولا يصل الإمام من كشف حاله إلى ما يصله في المفقود.

قيل: وإذا هرب الأسير من أرض الحرب وثبت هروبه ثم جهل خبره فإن ثبت دخوله بلاد الإسلام فكالمفقود، وإن لم يثبت فكالأسير لاحتمال عدم خروجه من بلاد الحرب، وخرج اللخمي قولاً بأن امرأة الأسير تطلق عليه قياساً على قطع ذكره، وذكر ابن حارث أنهم اتفقوا على الأسير يعرف مكانه وحياته أنه لا تتزوج امرأته حتى يموت، واختلف إذا لم يعرف فقال أصبغ: قال قوم هو كالمفقود في أرض الإسلام، وقال آخرون كمذهب مالك، وقال ابن حارث: إن كان لا يدخلها التجار ولا الطوافون فهو هكذا وإن كانوا يدخلونها فهو كالمفقود.

فَلَوْ تَنَصَّرَ الأَسِيرُ وَجُهِلَ طَوْعُهُ وَإِكْرَاهَهُ فَهُوَ كَالطَّوْعِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيُوقَفُ مَالُهُ ....

يعني: إذا تنصر الأسير فإن علم إكراهه فكالمسلم، وإن علم طوعه فكالمرتد، وإن لم يعلم طوعه من إكراهه فالمشهور وهو مذهب المدونة ما ذكره المصنف أنه محمول على الطوع لأنه الأصل في الأفعال الواقعة من العقلاء والغالب أيضاً، وروي عن مالك أنه محمول على الإكراه لأنه الغالب من حال المسلم.

واختلف إذا تزوجت زوجته ثم ثبت أنه تنصر مكرهاً فقيل: حاله في زوجته كالمفقود، وقيل: كالمنعي لها زوجها، قيل: وإن شهدت بينة بالطوع والأخرى بالإكراه، فبينة الإكراه أعمل لأنه علمت ما لم تعمل الأخرى.

ص: 102

وقوله: (وَيُوقَفُ مَالُهُ)، قال في المدونة: فإن مات مرتداً كان ماله للمسلمين وإن أسلم كان له.

فرع:

واختلف إذا تنصر، فقال ابن القاسم: يتفق على ولده من ماله، وقال أصبغ: لا ينفق عليه من ماله إذا تنصر طائعاً.

وَمَفْقُودُ الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِيَن تَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ بَعْدَ انْفِصَالٍ الصَّفَّيْنِ، وَرُوِيَ: بَعْدَ التَّلَوُّمِ بِالاجْتِهَادِ، ورُوِيَ: بَعْدَ سَنَةٌ، ورُوِيَ: سَنَةٌ فِيهَا الْعِدَّةُ، وفِي قَسْمِ مَالِهِ أَوْ وَقْفِهِ قَوْلانِ، وِرُوِيَ: إِنْ كَانَ بَعِيداً فَكَالْمَفْقُودِ فَيُوقَفُ مَالُهُ

المفقود على أربعة أقسام: مفقود في بلاد المسلمين وحكمه ما تقدم، ومفقود في أرض الشرك فكالأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يثبت موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله في قول أصحابنا إلا أشهب فإنه حكم له بحكم المفقود في المال والزوجة، ومفقود في قتال المسلمين للكفار وسيأتي، ومفقود في الفتن الواقعة بين المسلمين، وكلام المصنف [416/أ] الآن فيه، وحكى فيه أربعة أقوال: الأول لمالك وابن القاسم: أن زوجته تعتد من يوم التقى الصفين، وكان أشباه ذلك في ما مضى يوم صفين والحرة. الثاني لأصبغ: يضرب لامرأته بقدر ما يستقصى أمره ويستبرأ خبره، وليس لذلك حد معلوم.

ابن عبد السلام: وجعله المصنف خلافاً للأول، وجعله بعضهم تفسيراً له.

الثالث لابن القاسم: تتربص زوجته سنة ثم تعتد.

الرابع: أن العدة داخلة في السنة، قال في المقدمات: وهو الصواب لأنه إنما تلوم له مخافة أن يكون حياً، فإذا لم يوجد له خبر حمل على أنه قتل في المعترك.

ص: 103

وفي العتبية خامس بالقرب فيما قرب من الديار يتلوم الإمام لزوجته باجتهاد بعد انصراف من انصرف وانهزام من انهزم ثم تعتد وتتزوج، وما بعد مثل إفريقية ونحوها تمكث زوجته سنة فإذا خلت نظر الإمام في ذلك، وفرق بين القرب والبعد.

وفي الموازية سادس: إن كان بعيداً حكمه كالمفقود تتربص أربعة أعوام.

اللخمي: من قال إن العدة من يوم التقاء الصفين ورث ماله حينئذ، ومن جعل لزوجته التربص أربع سنين وقف ماله إلى التعمير، واختلف على القول أن زوجته تتربص سنة، فقيل يورث ماله ذلك الوقت، وقيل: يوقف ماله إلى التعمير، قال في المقدمات: وهذا الخلاف إنما هو إذا شهدت البينة العادلة أنه شهد المعترك، وأما إن كان رأوه خارجاً عن العسكر ولم يروه في المعترك فحكمه حكم المفقود في زوجته وماله باتفاق.

وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ والْكُفَّارِ: ثَلاثَةٌ- كَالأَسِيرِ وَكَالْمَفْقُودِ، وَتَعْتَدُّ بَعْدَ سَنَةٍ بَعْدَ النَّظَرِ ....

أي: ثلاثة أقوال، والقول بأنه كالأسير لمالك في العتبية، أي أن زوجته لا تتزوج ولا يقسم ماله حتى يعلم موته أو يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش إلى مثله، والقول بأنه كالمفقود في ماله زوجته حكاه ابن المواز وعابه، أي لأنهم يأسرون المسلمين ولا يستطاع البحث عنهم كما في بلاد المسلمين.

اللخمي: وروى عنه أشهب أنه قال فيمن فقد بين الصفين في أرض الإسلام أو في أرض الحرب تتربص زوجته سنة من يوم ينظر السلطان في أمره ثم تعتد، وهذا هو القول الثالث في كلام المصنف.

وقوله: (بعد النظر)، يريد بعد الرفع، هكذا صرح به في المقدمات في هذه الرواية، وعمل أهل قرطبة بهذه الرواية الثالثة.

ص: 104

فرع:

اللخمي وغيره: يحمل من فقد من بلد زمن الطاعون أو في بلد توجه إليه وفيه الطاعون على الموت، وذكر أصحاب مالك أن الناس أصابهم سنة بطريق مكة سعال، فكان الرجل لا يسعل إلا قليلا ثم يموت، ففقد ناس ممن خرج إلى الحج فلم يأت لهم خبر حياة ولا موت، فرأى مالك أن تقسم أموالهم ولا يضرب لهم أجل المفقود ولا غيره للذي بلغه من موت الناس من ذلك السعال، وكذلك الشأن في أهل البوادي في الشدائد ينتجعون من ديارهم إلى غيرها من البوادي ثم يفقدون أنهم على الموت، وقد علم ذلك من حالهم إذا توجهوا إلى البلد الذين يمضون إليه تبلغهم الضيعة والموت.

***

ص: 105

الرَّضَاع: شَرْطُ المُرْضِعُ أَنْ تَكُونَ آدَمِيَّةً أُنْثًى بِلَبَنٍ فَلَوْ كَانَ مَاءً غَيْرَ لَبَنٍ لَمْ يُعتَبَرْ

يقال إرضاع ورضاع ورضاعة بفتح الراء وكسرها.

الجوهري: ويقال رضع الصبي أمه يرضعها رضاعاً مثل سمع يسمع سماعاً، وأهل نجد يقولون رضع يرضع رضعاً مثل ضرب يضرب ضرباً.

عياض: وارتفعت أمه وامرأة مرضع أي لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت مرضعة. وذكر أهل اللغة أنه لا يقال في بنات آدم لبن وإنما يقال فيهن لبان واللبن لسائر الحيوان غيرهن، وجاء في الحديث كثيراً خلاف قولهم.

وشرط المصنف في المرضعة التي ينتشر التحريم برضاعها ثلاثة أوصاف:

الأول: أن تكون آدمية، فلا يحرم لبن غيرها من سائر الحيوانات، ولا خلاف في ذلك.

الثاني: أن تكون أنثى، فلا يعتبر لبن الذكر إذا در، وهذا هو المشهور لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء23] ولا يستحق وصف الأموية إلا الآدمية الأنثى. وقال ابن اللبان الفرضي: يقع بلبن الذكر الحرمة.

اللخمي: وبه قال بعض شيوخنا. وقال ابن شعبان: وروى أهل البصرة عن مالك والشافعي أنهما كرها له نكاحها. ووجه القول بالتحريم أن الحرمة إذا حصلت باللبن الناشئ عن وطئه فلأن تحصل بلبانه من باب الأولى، والآية خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها.

الثالث: أن يكون ذلك بلبن، فإن أرضعته بغيره لم يحرم. وفي كتاب ابن سحنون: لو حلب من ثدي المرأة ماء أصفر لم يحرم ما يحرم منه إلا ما كان غذاء يغني عن الطعام، ولا يقال كان ينبغي أن يستغنى بقول (آدَمِيَّةً) عن قوله (أُنْثًى) لاحتمال أن يكون المراد نفساً آدمية والنفس تطلق على الذكر والأنثى.

ص: 106

ويُعْتَبَرُ اللَّبَنُ وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ وَلَمْ تُوطَا

يعني: إذا در للبكر لبن فإنه ينشر الحرمة لدخولها [416/ب] في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} . قال في الجلاب: وإذا أرضعت المرأة التي لم تلد أو العجوز التي قعدت عن الولادة صبياً فرضاعها يحرم.

وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ عُلِمَ

أي: ويعتبر لبن الميتة، والمشهور مذهب المدونة لدخولها تحت قوله:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} والشاذ حكاه صاحب الجواهر وغيره. وذكر ابن بشير أن الشاذ مما جرى في المذاكرات وعلله بأن الحرمة لا تقع بغير المباح، فإن قيل: لم أوقعتم التحريم برضاع الميتة على المشهور وظاهر قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ ْ} يخرجها، لأن الميتة لا توصف بأنها أرضعت فجوابه أن الإرضاع خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وأيضاً فإنه منقوض بما لو حلب غيرها من ثديها كرهاً وأرضع به صبياً أو رضع منها الصبي وهي نائمة، قال في المدونة: وإذ حلب من ثدي المرأة في حياتها أو بعد وفاتها فوجر به صبي أو دَبَّ فرضعها وهي ميتة وعلم أن في ثديها لبان فالحرمة تقع بذلك، ولا يحل اللبن في ضروع الميتة. قيل: فلم أوقعتم الحرمة به؟

قيل: لأن من حلف ألا يشرب لبناً فشرب لبن الميتة أو لبناً ماتت فيه فأرة حنث إلا أن ينوي اللبن الحلال، ويحد من وطئ ميتة.

وأخذ من هنا أن مذهبه نجاسته، وهو خلاف ما دل عليه ماله في كتاب الجنائز فيخرج من الكتب قولان.

اللخمي: وإنما وقعت به الحرمة لأن تنجيسه لا يخرجه عن كونه غذاء.

ص: 107

وقوله (ويحد من وطئ الميتة) استدلال منه على الحرمة أي كما يجب الحد بوطء الميتة وكذلك يحرم لبنها. وقوله (ويحرم من وطء الميتة يريد ولا صداق لها) نص عليه محمد وغيره.

قال في النكت: وإنما قالوا بالحد ولم يوجبوا لها صداقاً لأن الصداق من حقوق الآدميين فلما وجدناه لو قطع لها عضواً لا قصاص فيه ولا دية فكذلك هنا. وأما الحدود فمن حقوق الله تعالى فيجب عليه لعظم ما انتهكه، ولا إشكال في وجوبه إن كانت الموطوءة أجنبية على المعروف من المذهب كما سيأتي في باب الزنى إن شاء الله تعالى.

واختلف في الزوجة هي يحد على قولين: عياض وإلى الإسقاط قال أكثرهم والمحقق منهم. قال في النكت: وعاب بعض شيوخنا وجوب الحد عليه، قال: ألا ترى أنه يغسلها مجردة وينظر إليها فأي شبهة أعظم من هذا؟ وقول المصنف (إِنْ عُلِمَ).

ابن عبد السلام: لا يظهر له في كلام المصنف كبير فائدة بخلافه في المدونة.

وَفِي لَبَنِ مَنْ نَقَصَتْ عَنْ سِنِّ الْمَحَيْضِ: قَوْلانِ

يعني: أن لبن من لم تحمل على ضربين: إن كانت ممن تحيض حرم.

ابن بشير: بلا خلاف. وقد قدم المصنف ذلك بقوله ويعتبر اللبن وإن لم تحمل ولم توطأ، وإن كانت ممن نقصت عن سن المحيض فقولان حكاهما المصنف تبعاً لابن بشير وابن شاس. وفي المدونة: وإذ درت بكر لا زوج لها أو يئست من المحيض فأرضعت صبياً فهي أم ولد.

وفي الجلاب: وإذا حدث للصبية الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لبن فأرضعها صبي لم تقع به حرمة، وحملها اللخمي على الخلاف وهو ظاهر كلام ابن يونس وهو مقتضى ما نقله المصنف وابن بشير وابن شاس.

ص: 108

خليل: ولا يبعد أن يحمل ما في المدونة على ما إذا كانت في سن من يوطأ مثلها، ولا يكون ما الجلاب خلافا لما في المدونة والله أعلم.

ولا يُعْتَبَرُ لَبَنُ الذَّكَرِ إِذَا دَرَّ عَلَى الْمَشْهُورِ

هذه المسألة وقعت هنا في بعض النسخ، وقد تقدم الخلاف فيها فأغنى عن إعادتها.

وَشَرْطُ الرَّضِيعِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجَاً لِلَّرضَاعَ، وَصَلَ اللَّبَنُ إِلَى جَوْفِهِ صِرْفاً أَوْ مَخْلُوطاً، وَفِي لَغْوِ المْغَلُوبِ بِالْمُخَالَطَةِ قَوْلانِ، لابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ....

قوله (محتاجاً) أي فلا يعتبر رضاع الكبير لما في الصحيحين وغيرهما: ((إنما الرضاع من المجامعة)). وفي الصحيح أيضاً من حديث سهلة قالت عائشة: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ((يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير)) وفي رواية أخرى: ((أرضعيه خمس رضعات تحرمي عليه)) وفي رواية أخرى: ((وأبي سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام أن يدخلن عليهن أحد بتلك الرضاعة)) وقلت لعائشة: ما نرى هذه إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وأخذت عائشة بحديث سهلة وكانت إذا أحبت أن يدخل عليها أحد من الرجال تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر وبنات أخيها أن يرضعن من أحب دخوله.

المازري: والجمهور حملوا الحديث على الخصوص. الباجي: وقد انعقد الإجماع على أن رضاع الكبير لا يحرم.

ص: 109

ابن المواز: ولو أخذ بحديث سهلة: ((أرضعيه خمس رضعات)) في الحجاب خاصة لم أعبه وتركه أحب إلي، ولا فرق في التحريم باللبن بين أن يصل صرفاً أو مخلوطاً كما [417/أ] قاله المصنف، وهذا إن لم يغلب اللبن بالمخالطة وأما إن كان مغلوباً فقال ابن القاسم: لا ينشر الحرمة وهو مذهب أبي حنيفة. وقال أشهب وابن الماجشون: يحرم وهو قول الشافعي، وهذا معنى قوله (وَفِي لَغْوِ المْغَلُوبِ بِالْمُخَالَطَةِ قَوْلانِ) لأن تقديره وفي لغو المغلوب بالمخالطة وعدم لغوه قولان لابن القاسم وابن الماجشون، فابن القاسم يلغيه وابن الماجشون لا يلغيه.

وقوله: (كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ) الأول للأول والثاني للثاني، والأقرب قول عبد الملك إذ لو انفرد اللبن لحرم، وهو الذي رجحه ابن محمد السوسي واللخمي وغيرهما، ونظيرها إذا حلف ألا يأكل خلاً فأكل طعاماً فيه خلاً مستهلكاً، وهذا إنما هو إذا كان اللبن مخلوطاً بغير اللبن. وأما إن اختلط لبن امرأتين فقال مالك والشافعي: تحرم المرأتان معاً. وقال ابن يوسف: الحكم للغالب منهما. وأخذ عياض من المدونة التحريم من مسألة من حملت من زوج آخر أن اللبن يكون للزوجين. قال: وتردد بعضهم: هل يقول ابن القاسم بلغو المغلوب بلبن آخر كالطعام أم لا أو يفرق بين اللبن والطعام، انتهى. وحكى بعضهم الاتفاق على التحريم.

وَالرَّضَاعُ وَالْوَجُورُ- قَلِيلُهُمَا وَكَثِيرُهُمَا وَلَوْ مَصَّةً- سَوَاءٌ

(وَالْوَجُورُ) بفتح الواو ما يدخل في وسط الفم، وقيل ما يصب في وسط الحلق، وفعله وجر وأوجر واللدود ما صب تحت اللسان، وقيل ما صب في جانب الفم واللديدان جانبا الفم، يعني أنه لا فرق في التحريم بين الرضاع والوجور، ونبه بذلك على قول داود القائل بعدم التحريم إلا بما يرضع من الثدي. ومذهبنا أن المصة الواحدة كافية في التحريم لظاهر قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .

ص: 110

وَفِي الْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ وَشِبْهِه يَصِلُ إِلَى الْجَوفَ ثَالِثُهَا يَخْتَصُّ السَّعُوطُ

(الْحُقْنَةِ) معلومة، (وَالسَّعُوطِ) بفتح السين. قال الجوهري: هو الدواء يصب في الأنف.

قوله (وَشِبْهِه) أي وشبه ذلك ولذلك ذكر الضمير، وأراد بالشبه الاكتحال والصب في الأذن. وحكي في الجميع ثلاثة أقوال وتصورها من كلامه ظاهر.

أما الحقنة ففي المدونة: إن وصل إلى جوفه حتى يكون له غذاء حرم وإلا لم يحرم.

ابن المواز: معناه حتى يكون غذاءً له لو لم يطعم ولم يسق فحينئذ يحرم وإلا فلا. وأطلق ابن حبيب التحريم بالحقنة. ابن يونس: وقول ابن القاسم أصح. وفي الجلاب أن الحقنة لا تحرم وأما السعوط ففي المدونة: يحرم إن وصل إلى جوفه، قال فيها: وكان عطاء الخراساني لا يحرم السعوط ولا الكحل باللبن.

ابن يونس: وأطلق ابن حبيب التحريم به وقول ابن القاسم أصح، لأن الاعتبار في الرضاع ما يقع به الاغتذاء وهو إذا لم يصل إلى الجوف كان وصوله إلى الدماغ كجريانه في ظاهر البدن. وأما لعين فقال ابن حبيب: إن به اكتحل الصبي بكحل فيه لبن، فإن كان دواء ينفذ مثل المر والصبر والعنزروت وشبهه حرم، وإن كان مما يبقى في العين ولا يصل إلى الجوف كالإثمد وشبهه فلا يحرم.

ابن يونس: وسواء عند ابن القاسم كان مما ينفذ أم لا فإنه لا يحرم، لأنه لا يكون منه غذاء وقد دخل من غير مدخل الطعام والشراب فلا يحرم حتى يكون للصبي غذاء كما قال في الحقنة. ابن رشد. وعلى هذا يجئ الجواب فيما صب من الأذن.

ابن بشير: وإن استدخل اللبن من الإحليل فهو لا يصل إلى محل الطعام فلا تقع به حرمة، وكذلك إن عمل منه فتائل.

ص: 111

تنبيهات:

الأول: جعل المصنف محل الخلاف إذا وصل من هذه المنافذ، ومفهومه أنه لو لم يصل لم يحرم. وقد قدمنا أن ابن حبيب قال بالتحريم في الحقنة والسعوط وإن لم يصل على ما ذكره ابن يونس، وكذلك ذكر الباجي واللخمي عنه.

الثاني: مقتضى كلامه أن في المذهب قولاً بأن السعوط لا يحرم مع الوصول وذكره بعضهم.

ابن عبد السلام: وأنكر عبد الوهاب أن يكون في المذهب من يقول إن السعوط لا ينشر الحرمة إذا علم وصوله على الجوف.

الثالث: يشترط على مذهب المدونة في انتشار الحرمة بالحقنة ألا يكون اللبن مغلوباً، لأنه إذا اشترط ذلك فيما يصل من الفم فهنا أولى، قاله عياض وغيره.

الرابع: ما ذكره من القول بالتفصيل هو مقتضى ما في الجلاب لأنه نص على أن السعوط يحرم ونص على أن الحقنة لا تحرم، وإذا لم تحرم الحقنة فالعين ونحوها أولى.

الخامس: قال اللخمي: ومحمل قول ابن القاسم في المدونة من التحريم بالسعوط إن وصل يريد أن صوله مشكوك فيه، فقوله ذلك عبارة عن الوقوف وكأنه إنما تقع الحرمة إذا وصل ولا يدري هل وصل لأنه ليس بكثير فيحس بوصوله، ورده ابن بشير بأنه ليس بشك وإنما أحل الأمر فيه على تحقيق الوصول وعدمه.

السادس: فإن قلت: لم اشترط ابن القاسم هنا في الحقنة أن تكون غذاء ولم يشترط ذلك في الصوم؟ قيل: إن المراعاة في الرضاع ما ينبت اللحم وينشر العظم ولا يشترط هذا في إفطار الصائم، بل ما [417/ب] يصل إلى محل الطعام والشراب.

فَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ قَريبَةٍ وَهُوَ مُسْتَمِرُّ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنْ فِصَالِهِ اعْتُبِرَ، وَفِي الْقَرِيبَةِ أَقْوَالٌ- أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ وَشَهْرٌ، وَشَهْرَانِ، وَثَلاثَةٌ

لما قدم أن شرط المرضع أن يكون محتاجاً وأنه لا عبرة برضاع الكبير أخذ يذكر الزمان الذي تنشر الحرمة فيه، وذكر أن الرضاع إما أن يكون بعد الحولين أو فيهما، فإن

ص: 112

كان بعدهما بمدة قريبة وهو مستمر الرضاع أو بعد يومين من فصاله نشر الحرمة لأنه لو أعيد إلى اللبن لكان له غذاء وعشاء وهذا هو المشهور، وروي عن مالك أنه يعتبر الحولان من غير زيادة.

وعلى المشهور فاختلف في حد القرب على خمسة أقوال حكاها اللخمي وغيره، قال في الحاوي: مثل نقصان الشهور وإليه ذهب سحنون. وقال في المختصر: الأيام اليسيرة. وقال ابن القصار: يحرم مثل الشهر، قال وليس بالقياس لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] يريد أن القياس لا يزاد على الحولين، وروى عنه عبد الملك أنه لا يزاد على الشهر ونحوه، وقال في المدونة: الشهر والشهرين. وروى عنه الوليد بن مسلم ثلاثة أشهر. اللخمي: وهو أحسن.

ومحمل الآية في السنتين أنها كافية للمرضع ليس أنه لا منفعة فيما زاد لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام)) وهذا حديث صحيح ذكره الترمذي، فعلق التحريم بما كان قبل الفطام وقبل أن ينتقل غذاؤه من اللبن، وهذا لم يفطم واللبن قوام جسمه يشبع لوجوده ويجوع لعدمه، ولم يقع القول الأول في كل النسخ ووقع في نسخة ابن راشد وسقط في نسخة ابن عبد السلام.

فَلَوْ كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَقَوْلانِ

يعني: إذا فصل في الحولين فإن لم يستغن نشر الحرمة باتفاق، وإن استغنى فإما بمدة قريبة أو بعيدة، فإن كان بمدة بعيدة لم يعتبر وإن كان بمدة قريبة فقولان، المشهور وهو مذهب المدونة أنه لا يحرم، قال في الجواهر: إلا أن يكون زمن الرضاع قريباً من زمن الاستغناء. والثاني لمطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة يحرم إلى تمام الحولين.

وقال بعض الشيوخ: إن كان الرضاع مصة أو مصتين لم يحرم، وإن أعيد إلى الرضاع وأسقط الطعام حرم، ولم يتعرضوا في هذا القسم إلى تحديد القريبة كالقسم الأول، ولعل لأنهما متقاربان.

ص: 113

وَيَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ

والأصل فيه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والمحرمات بالنسب سبع: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. فالرضاع كالنسب فأمك كل من أرضعتك أو أرضعت بواسطة أو بغيرهما وأمهاتهما، وبنتك كل من أرضعتها زوجتك بلبنك أو أرضعتها ابنتك من نسب أو رضاع، وأخواتك كل من ولدت من أرضعتك أو ولد لفحلها فإن أتى من أمك وفحلها ولد فهو أخ شقيق من الرضاعة وإن ولد لأمك من غير ذلك الفحل فهو أخ لأمك وإن ولد لأبيك من غير أمك أماً من زوجة أخرى أو سرية فهو أخوك لأبيك، وأخوات الفحل عمات الرضيع وأخوات أم الرضيع خالات له، ولا يخفى عليك بنات الأخ وبنات الأخت.

لكن استنثى العلماء من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((يحرم الرضاع ما يحرم النسب)) مسائل يحرمن من النسب وقد لا يحرمن بالرضاع:

الأولى: أم أخيك وأم أختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلتاهما حرام، ولو أرضعت أجنبية أخاك لم تحرم.

الثانية: أم نافلتك والنافلة ولد الولد مطلقاً ذكراً كان أو أنثى، لأنها إما بنتك أو زوجة ابنك وهما محرمان، وفي الرضاع قد لا تكون ابنتك ولا زوجة ابنك بأن ترضع أجنبية نافلتك.

الثالثة: جدة ولدك من النسب إما أمك أو أم زوجتك وهما حرامان، وفي الرضاع قد لا تكون أماً ولا أم زوجة كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فهي حلال لك وأمها وإن كانت جدة ولدك إذ ليست بأمك ولا أم زوجتك.

ص: 114

الرابعة: أخت ولدك في النسب حرام لأنها إما بنتك أو ربيبتك ولو أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك فليست ببنت ولا ربيبة.

الخامسة: يجوز للرجل أن يتزوج أم عمه وعمته من الرضاع بخلاف النسب.

السادسة: يجوز للرجل أن يتزوج أم خاله وخالته من الرضاع بخلاف النسب.

فَيُقَدَّرُ الطِّفْلُ خَاصَّةً وَلَداً لِصَاحِبَةِ اللَّبَنِ، وَصَاحِبِهِ إِنْ كَانَ- فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُوهُ نَسَباً أُخْتَه وَأُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ ....

يعني: أن الحرمة إنما تنتشر بين الرضيع ومن تقدم خاصة دون أحد من قرابته، وقال (وصاحبه إن كان) لأنه قد تقدم أن البكر إذا درت على صبي ورضعها أن الحرمة تنتشر بذلك.

ابن عبد السلام: وانظر إذا كانت البكر معقودة النكاح ولم يدخل بها زوجها هل تنتشر الحرمة بين [418/أ] الرضيع والزوج؟

خليل: والمذهب في هذا أنه لا يعتبر وسيذكره المصنف في الفرع الذي يلي هذا، ولأجل أن التحريم إنما يعتبر بين الرضيع وأبويه لا في أحد من قرابته جاز لأخيه من النسب أن يتزوج الطفلة التي رضع معها أخوه والأم التي أرضعت أخاه لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع، وكذلك يجوز لصاحب اللبن أن يتزوج أخت ابن من الرضاعة. واعلم أن أخت الأخ قد لا تحرم من النسب كما لا تحرم من الرضاع، وصورتها أن يكون لك أخ من أب وأخت من أم فيجوز لأخيك من الأب نكاح أختك من الأم.

وَيُعْتَبَرُ صَاحِبُهُ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ

ويعني: أن الحكم فيما بين الرضيع والمرضعة ظاهر، وأما فيما بينه وبين الفحل فإنما يعتبر من حين وطئه. وقوله (مِنْ حِينِ الْوَطْءِ) يدل على أنه لا يعتبر اللبن فيما بين الفحل وبين الرضيع في الفرع الذي جعله ابن عبد السلام محل نظر وهو مقتضى كلام اللخمي

ص: 115

وابن رشد وابن بشير وابن شاس، وبذبك صرح صاحب النكت، قال: إنما يكون له اللبن إذا دخل وأما قبل بنائه فلا.

وقد صرح ابن راشد بالاتفاق على ذلك فقال: إذا تزوج الرجل امرأة لا لبن لها ثم درت فرضعها طفل فإن لم يكن وطئها قبل رضاعه لم يكن أباً، وإن كان وطئها فهو له ولد، ولو لاعب أو قبل أو باشر أو وطئ ولم ينزل فدرت لم يكن بذلك أباً بلا خلاف.

فَإِنْ كَانَ مِنْ وَطْءٍ يُحَدُّ فِيهِ فَقَوْلانِ

يعني: فإن كان اللبن نشأ عن وطء يحد فيه فهل ينشر الحرمة بين الرضيعة والفحل؟ قولان. وأما بين الرضيعة والمرضعة فإنه ينشر الحرمة على كل حال، والقولان حكاهما ابن حبيب عن مالك. ونص ما نقله ابن يونس عنه، قال ابن حبيب: اللبن في وطء صحيح أو فاسد أو حرام أو زنا تقع به الحرمة من قبل الرجل والمرأة، وكما لا تحل له ابنته من الزنا فكذلك لا تحل له من أرضعتها المزني بها من ذلك الوطء، لأن اللبن لبنه والولد ولده وإن لم يلحق به الولد. وقد كان مالك يرى أن كل وطء لا يلحق فيه فلا يحرم لبنه من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم وهو أصح وقاله أئمة من العلماء، وبالتحريم قال سحنون وغيره وهو ظاهر من المذهب، قاله ابن عبد السلام. قال: وأجرى غير واحد القولين على القولين في المخلوقة من ماء الزاني هل يحل له نكاحها أم لا؟ وهو مناسب لولا أن ابن المواز منع الزاني من نكاح المخلوقة من مائه وكره له نكاح هذه، وإن وقع لم يحكم بفراقها. قالوا: وأما إن تزوج من لا يحل له نكاحها جاهلاً فلحق به الولد فإنه يحرم الرضاع من جهة الفحل كالنكاح في العدة، وكذلك إن كان عالماً على القول بأنه لا حد عليه.

ص: 116

وَالْمَنْكُوحَةُ إِذَا وُطِئَتْ بِاشْتِبَاهٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ مُحْتَمَلٍ فَلَبَنُهَا لِمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْوَلَدُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُمَا .....

مثاله لو وطئ السيدان الأمة في طهر واحد وألحقته القافة بأحدهما فعلى المشهور إنما تنتشر الحرمة بين الولد وبين من لحق به، وعلى قول محمد تنتشر الحرمة بين الرضيع والواطئين وإن كان الولد إنما يلحق بأحدهما، لأن اللبن ليس هو مبنياً على لحوق الولد بدليل التحريم على ظاهر المذهب في الفرع السابق وإن كان الولد فيه غير لاحق، ومثاله أيضاً في النكاح لو نكحت المعتدة وأتت بولد محتمل لهما.

وَلَبَنُ الدَّارَّةِ لِصَاحِبِهِ إِلا أَنْ يَنْقَطِعَ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَقِيلَ: إِلى أَنْ تَلِدَ وقيل: وَإِلى أَنْ تَحْمِلَ، وَقِيلَ: إِلى أَنْ يَطَأَهَا زَوْجٌ ثَانٍ ....

يعني: أن لبن المرأة منسوب لواطئها عند ابتداء وجود اللبن، ولا إشكال في ذلك إذا لم تزل في عصمته أو رقه، وإن فارق الزوجة وتزوجت غيره فأربعة أقوال: الأول أنه محكوم به للأول إلى أن ينقطع، وهو مذهب المدونة لقوله: وإذا تزوجت المرضع المطلقة فحملت ثم أرضعت صبياً فإنه لبن للزوج الأول. والثاني إن كان لبن الأول لم ينقطع لكن لم يقل فيها ولو بعد سنين كثيرة كالمصنف، ولم أر ذلك مصرحاً في الروايات لكن هو ظاهر المدونة والموازية، وتبع المصنف ابن شاس فإنه قال: ولو بعد عشر سنين.

والقول بأنه ينقطع بالولادة في مختصر الوقار، ورواه ابن نافع، وحكى ابن المنذر أن عليه إجماع العلماء، والقول بأنه ينقطع بالحمل ذكره ابن بشير وابن شاس ولم يعزواه، والقول بأنه ينقطع بوطء الثاني لابن وهب، ولسحنون خامس: أن اللبن محكوم به للأول إلى أن تمضي خمسة أعوام أقصى مدة الحمل من فراق الأول، أما لو انقطع اللبن لسقط حكم الأول.

ص: 117

اللخمي: إلا أن ينقطع ثم يعود فيكون الحكم فيه للثاني إن عاود الإصابة. قال: وإن أصاب الرجل زوجته وهي ذات لبن من غيره ثم أمسك عنها أو غاب وطالت غيبته أو مات وعاد اللبن إلى ما كان عليه سقط حكم الوطء.

وَحَيْثُ لَمْ يُحْكَمْ بِانْقِطَاعِهِ فَالْوَلَدُ لَهُمَا لأَنَّ الْوَطْءَ يُدِرَّ اللَّبَنَ

يعني: إذا لم يحكم بانقطاعه فالولد محكوم له بأنه ابن للأول والثاني من الرضاع، لأن هذا اللبن لهما، إذ أصله من الأول وتكثيره من الثاني، لأن وطئه يدر اللبن.

وَالْغَيْلَةُ: وَطْءُ الْمُرضِعِ، وَقِيلَ: إِرْضَاعُ الْحَامِلِ

الأكثر على [418/ب] ضبط هذه اللفظة بكسر الغين.

عياض: ولا تفتح إلا مع حذف الهاء وأصله من الضرر، وقيل: من الزيادة. وقيدها بعض شيوخنا بفتح الغين في غير المدونة وكذلك عبد الحق في المدونة، والقول الأول هو مذهب الموطأ والمدونة وهو قول الأصمعي.

وقوله: (وَطْءُ الْمُرضِعِ) ابن حبيب: وإن لم ينزل. وقال أبو عمران: إنما الغيلة الوطء مع الإنزال، والقول الثاني ذكره في المدونة أيضاً وهو قول الأخفش، والأول هو الظاهر، لأن المشاهدة تدل على أن إرضاع الحامل مضر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نفى عن الغيلة الضرر. ففي الموطأ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال:((لقد هممت أن أنهى الناس عن الغيلة حتى ذكرت أن فارساً والروم يصنعون ذلك، فلا يضر ذلك أولادهم)).

وَمَنْ أَرْضَعَتْ طِفْلاً كَانَ زَوْجَهَا حَرُمَتْ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ، لأَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ

هذا الفرع وقع لابن القاسم في العتبية، ومعناه إذا عقد أبو الرضيع له على امرأة ثم خالع له وتزوجت غيره وحدث لها لبن فأرضعت به الطفل الذي كان زوجها، فصار هذا الطفل ولداً لها ولزوجها الثاني فتحرم على زوجها، لأنها حليلة ابنه، إذ لا يشترط في

ص: 118

حليلة الابن دوام الوصف بدليل أن الابن لو تزوج امرأة فمات عنها أو طلقها لم يجز لأبيه أن يتزوجها، لأنها من حلائل أبنائه.

وَمَنْ أَبَانَ صَغِيَرًة حَرُمَتْ عَلَيْهِ مَنْ تُرْضِعُها، لأَنَّها أُمُّ زَوْجَتِهِ وَعَكْسُهُ بِنْتُ زَوْجُتِهِ وَلا يُنْظَرُ للتَّارِيخِ فِي مِثْلِهِ ....

يعني: إذا تزوج رضيعة ثم طلقها فأرضعتها امرأة حرمت عليه تلك المرأة، لأنها أم زوجته، ولو أبان امرأة لها لبن فأرضعت صبية حرمت عليه تلك الصبية، لأنها بنت زوجته، وهذا معنى قوله:(وَعَكْسُهُ .... إلخ).

ابن راشد قال: ولا ينظر إلى التاريخ في مثله ليعم هذا الفرع والفرعين قبله وما في معناهما أنه لا ينظر إلى أن تكون المرضعة في حالة الرضاع زوجته، بل ولو بانت.

وَمَنْ تَزَوَّجَ رضيعتين أَوْ أَكْثَرَ فَأَرْضَعَتْهُمُ امْرَأَةٌ اخْتَارَ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتِ الأَخِيرَةَ

اختار واحدة لأنهما صارتا أختين. قال في المدونة: ولا يفسد نكاحها كما يفسد عند من تزوج الأختين في عقد واحد لفساد العقد فيهما وصحته في هاتين، وهذا هو المشهور. وقال ابن بكير: لا يجوز أن يختار واحدة، ورأى ذلك بمنزلة من تزوج الأختين في عقدة واحدة.

تنبيه:

لمرضعة الصغيرتين ثلاث صور: الأولى: أن تكون المرضعة أجنبية وحكمها ما تقدم. الثانية: أن تكون أماً للزوج أو أختاً أو نحو ذلك فلا يجوز له أن يتمسك بواحدة منهما بالاتفاق لصيرورتهن أخوات أو بنات أخوات. الثالثة: أن تكون المرضعة أيضاً زوجة له وإليها أشار بقوله:

ص: 119

فَلَوْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ زَوْجَتَهُ وَلَمْ يَبْنِ بِهَا حَرُمَتْ مَعَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَنَى حَرُمَ الْجَمِيعُ ....

حرمت الكبيرة للأبد بالعقد على ابنتها.

وقوله: (مَعَ ذَلِكَ) أي مع تحريم إحدى الرضيعتين وإن بنى بالكبيرة حرم الجميع، أما الكبيرة فللعقد على بناتها، وأما الصغيرتان فلأنهما بنتان لزوجة مدخولاً بها.

وَتُؤَدَّبُ الْمُتَعَمِّدَةُ للِإفْسَادِ وَلا غُرْمَ عَلَيْهَا

نحوه في المدونة، يعني أن الكبيرة التي أرضعتهن سواء كانت زوجة أو أجنبية إن لم تكن معتمدة للرضاع فلا أدب عليها، وإن كانت متعمدة أدبت لإفسادها عصمة أو أكثر على الزوج. ابن عبد السلام: وهذا بين إن كانت عالمة بالحكم وفي الجاهلة نظر.

قوله: (وَلا غُرْمَ عَلَيْهَا) لأن الزوج لا غرم عليه وهذا على المشهور، أما على قول ابن حبيب ومحمد فلا. وقد تقدم الكلام على ذلك كله عندما تكلم المصنف على هذه المسألة في فصل إسلام المجوسي، وتقدم أيضاً عن ابن القابسي أن الفسخ على قول ابن القاسم فسخ بغير طلاق.

وَإِذَا اتَّفَقَ الَّزْوَجانِ عَلَى الرَّضَاعِ فُسِخَ وَلا صَدَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْمُسَمَّى بَعْدَهُ

يعني: إذا تزوج امرأة ثم اتفق هو وإياها على أنها أخته من الرضاع، فإن كان ذلك قبل بنائه بها فسخ ولم يكن لها شيء كسائر الفسوخات، وإن كان بعد البناء فسخ أيضاً وكان لها المسمى لها بما استحل من فرجها.

والذي نص عليه ابن الكاتب وغير واحد أنه إنما لها بعد البناء ربع دينار كالتي غرت من نفسها وتزوجت في العدة ورجع عليها بالصداق إلا بالربع، زاد عبد الحق إلا أن

ص: 120

تعذر بسبب ما مما يسقط كونها غارة فلا يرجع عليها بشيء. وقال اللخمي: أو يكون الزوج عالماً فيكون لها الصداق إذا وقع الدخول.

وحمل ابن عبد السلام قول المصنف: (ولَهَا وَالْمُسَمَّى بَعْدَهُ) على ما إذا لم تكن عالمة، قالوا: أما إن كانت عالمة حين العقد فيسقط جميع المسمى إلا ربع دينار إن لم يكن الزوج حين العقد والدخول عالماً وكانت كالغارة، قالوا: ولها ربع دينار، وعلى هذا فيحمل كلام ابن الكاتب وغيره على ما إذا كانت عالمة حين العقد، وكلام المصنف على ما إذا لم تكن عالمة.

وَإِنِ ادَّعَاهُ فَأَنْكَرَتْ أَخَذَ بِإِقْرَارِه، وَلَهَا نِصْفُهُ

(أَخَذَ بِإِقْرَارِه) أي يفرق بينهما لإقراره بذلك كالطلاق، فلذلك كان لها نصفه إن كان إقراره بذلك قبل البناء، وجميعه إن كان ذلك بعده.

فَإِنِ ادَّعَتْ فَأَنْكَرَهُ لَمْ يَنْدَفِعْ وَلا تَقْدِرُ عَلَى طَلَبِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ

يعني: وإن ادعت المرأة أنهما أخوان من الرضاع وأنكر ذلك الزوج [419/أ] لم يسمع منها ذلك، لأنه تتهم على فسخ النكاح فلا يفسخ، وهو معنى قوله:(لَمْ يَنْدَفِعْ وَلا تَقْدِرُ عَلَى طَلَبِ الْمَهْرِ) ولا شيء منه قبل البناء لإقرارها بفساد العقد.

فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ حُكِمَ عَلَيْهِمَا

هكذا في المدونة. ولا فرق بين أن يدعي ذلك أحد الزوجين أو لا يدعيه، وقامت البينة على وجه الاحتساب، ولا إشكال إن قامت البينة على إقرار الرجل لأن إقراره بعد العقد كافٍ في وجوب التفرقة، فأحرى هنا، ولهذا سقط الصادق عنه هنا مع قيام البينة بخلاف ما لو تقم، وأما إن قامت على إقراره المرأة فيجب قبول قولها، لأن المانع من قبوله مفقودة وهو تهمتها على فسخ النكاح.

ص: 121

وَإِقْرَارُ الأَبَوَيْنِ قَبْلَ النِّكَاحِ كَإِقْرَارِهِمَا، وَلا يُقْبَلُ بَعْدَهُ

يعني: أن إقرار مجموع أبوي الزوجين كإقرار الزوجين، وسيتكلم على ما إذا أقر أحد الأبوين. وقوله:(كَإِقْرَارِهِمَا)، أي ويفسخ النكاح. ابن حبيب: وعلى هذا اجتمع مالك وأصحابه، فأما بعد الدخول فلا يقبل إلا أنه يتنزه عنها.

وَيَثْبُتُ الرَّضَاعُ بشاهدين أو بامرأتين إِنْ كَانَ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِلا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمَشْهُورِ ....

يعني: ويثبت الرضاع بشاهدين ولا خلاف في ذلك، وبامرأتين، لأن هذا من الأمور التي لا يطلع عليها غالباً إلا النساء.

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه متفق على ذلك. وقد صرح بذلك غير واحد. ونقل بعضهم عن ابن الجهم أنه لا يقبل في ذلك إلا أربع نسوة.

وقوله: (إِنْ كَانَ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِمَا) عائد على المرأتين فقط، وأما الرجلان فلا يشترط فيهما ذلك.

قوله: (وَإِلا) أي وإن لم يكن فاشياً لم يقبل قولهما على المشهور.

والمشهور مذهب المدونة، والشاذ لمطرف وابن وهب وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ. اللخمي: وهو أبين. وقد يكون سكوتهما، لأنه لم يحتج إلى شهادتهما، فلو توجه الأداء عليهما لشهدتا إلا أن ينعقد النكاح بحضرتهما ولم ينكرا. وقال غيره: الأول أصح، لأن من شأن النساء التحدث بمثل ذلك، فإن لم يسمع ذلك منهما إلا بعد العقد كان ذلك تهمة توجب رد شهادتهما.

ص: 122

وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُمَا

أي: يشترط الفشو على المشهور. واختلف الشيوخ هل يشترط العدالة مع الفشو، أو إنما تشترط مع عدم الفشو على مذهبين، وإلى الثاني ذهب صاحب البيان، والأول مقتضى كلام اللخمي. ابن عبد السلام: وهو ظاهر إطلاقاتهم.

وَفِي الْوَاحِدَةِ فَاشِياً مِنْ قَوْلِهِما، قَوْلانِ

المشهور عدم القبول، ويستحب التنزه وهو مذهب المدونة، والقول بالقبول أيضاً لمالك، ورأى أيضاً أن الفشو يقوم مقام شاهد آخر.

وَفْي انْفِرَادِ أُمِّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَبِيِهِ إِذَا لَمْ يَتَوَلَّ الْعَقْدَ، قَوْلانِ

تصور كلامه ظاهر، ومراده إذا أقر بذلك قبل العقد وإلا فقد تقدم أنه لا يقبل إقرارهما معاً بعده. وما ذكره المصنف نحوه في ابن بشير وابن شاس، قالا: واختلف في أم الزوج أو الزوجة هل هي كالأجنبية في هذا أو أرفع فتقع الفرقة بقولها، لأنه لا يعرف إلا بقولها ولنفي التهمة.

وكذلك اختلف في أب الزوجة أو الزوج هل هو كالأجنبي؟ وذلك إذا لم يكن هو متولٍ عقد النكاح، فإن كان متوليه كان كالزوج أو الزوجة، وإذا أخبر ثم تولاه فسخ، فإن لم يفسخ حتى كبر الولد وصار الحكم إليه فهل يفسخ نظراً إلى توليه أو لا يفسخ ويكون شاهداً نظراً إلى الحال؟ فيه خلاف.

ومذهب المدونة التفرقة بين إقرار الأب والأم، ففيها: وإذا قال الأب رضع فلان أو فلانة مع ابني الصغير أو مع ابنتي، ثم قال: أردت الاعتذار، لم يقبل منه، وإن تناكحا فرق السلطان بينهما. وفيها: وإن قالت الأم لرجل: أرضعتك مع ابنتي، ثم قالت: كنت كاذبة أو معتذرة، لم يقبل قولها الثاني، ولا أحب له أن يتزوجها.

ص: 123

أبو محمد: فإن تزوجها لم يفرق القاضي بينهما، فانظر كيف فرق بين إقرار الأب وإقرار الأم.

ونقل ابن حبيب عن مالك عدم التفرقة فقال ما نقله اللخمي عنه، قال مالك وأصحابه: إذا قالت ذلك في ابنتها أو ابنها أو قاله الأب في ولده أن التفرق تقع بينهما بذلك، ويحكم بالفراق إذا قالوه قبل النكاح. وقال الشيخ أبو إسحاق: الأقرب ما في المدونة إلا أن تكون الأم وصية، أي لأنها تصير كأنها العاقدة للنكاح فكانت كالأب.

عياض: وقيل: لا فرق بين أن تكون وصية أو غيرها بخلاف الأب. قال في النكت: وينبغي أن يلحق الوصي بالأب، لأن عقد النكاح إليه فهو كالأب.

عياض: واختلف إذا فسخ نكاحهما بقول الأب، ثم كبر الابن ورشد هل ذلك القضاء تحريم وكالحكم بصحة رضاعهما، وهو قول غير واحد، وإنما هو حل للعقد لاعتراف عاقده وهو الأب بفساده ولا يسرى ذلك إلى تحريم النكاح فيها بعد إذا لم يثبت.

قال في النكت: ولو كان الأب إنما قال ذلك في ابنته الثيب أو ابنه الكبير لم يقبل ذلك لا يعقد عليها كرهاً، ولو قال ذلك في صغر الابنة، ثم كبرت وصارت ثيباً فنكحته أمر الزوج بالفراق ولا يقضى عليه به.

ابن عبد السلام: وقال بعضهم فيما إذا قال ذلك في صغر الابن أو البنت ثم كبرا فنكحا قولين: أحدهما: أنه يقضى عليه بالفراق، والثاني: أنهما يؤمران به من غير جبر. قال: وقد قيل [419/ب] أيضاً يدخل فيه قولان إذا كان كبيرين وإن لم يتقدم له قول في حال صغرهما.

وَيُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ وَلَوْ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَمْ يَفْشُ مِنْ قَوْلِهَا

يعني: أنه حيث لم توجب الشهادة الحكم بالتفرقة، إما لأنه قول رجل أو امرأة أو امرأتين ولم يفش من قولهما، أو أم أحد الزوجين على القول بعدم إيجاب الفراق بذلك،

ص: 124

فيستحب التنزه ولو كانت الشهادة أضعف الشهادات وهي شهادة الأجنبية التي لم يفش ذلك من قولها، لأن الصداق ممكن ولا ينبغي لشخص أن يقدم إلا على فرج مقطوع بحليته، وفي الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج بنتاً لأبي إهاب فجاءت أمة سوداء وقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال:((كيف وقد زعمت)) وفي رواية: ((دعها عنك)) ففارقها ونكحت زوجاً غيره. وقوله: ((دعها)) ظاهر في وجوب التفرقة لكن قوله: ((كيف وقد زعمت)) ظاهر في حمل ذلك على الاستحباب.

وَيُعْتَبَرُ رَضَاعُ الْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ

يعني: كالنسب، فكما أن النسب لا يرتفع بالإسلام فكذلك الرضاع ولا خلاف فيه.

***

ص: 125