الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرايا:
وبيع العرايا مستثنى من الربا، والمزابنة، وبيع الطعام نسيئة
(العرايا) جمع عرية كعطية وعطايا، وسميت بذلك، لأن نخيلها معراة عن المساومة عند البيع، وفعله رباعي أشار غليه صاحب العين، وقيل: لأن الثمرة معراة عن السوم عند البيع، وقيل: هي اسم للثمرة المطلوبة من عروت الرجل أعروه، أي: طلبته، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما دخلت فيها الهاء لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة والأكيلة، وقيل: سميت بذلك لأن الذي عريها يختلف إليها ويحل بأهلها لاجتناء ثمرتها، وهو قريب مما قبله، وقيل: سميت بذلك لتخلي مالكها عنها من بين ماله كأنها عرية من جملة النخل، فهي على هذا بمعنى فاعلة، وقيل: هي عرية من تحريم المزابنة، وخلت من ذلك، ويرد على هذا تسميتها قبل ورود الشرع المحلل والمحرم، وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن يع التمر بالتمر، وقال:((ذلك الربا والمزابنة))، إلا أنه أرخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذهما أهل البيت بخرصهما تمراً ليأكلوها رطباً.
وذكر المصنف أنها مستثناة من الربا- أي: ربا التفاضل وربا النساء- ومن المزابنة، لأنه بيع معلوم بمجهول من جنسه، وهي أيضاً مستثناة من رجوع الإنسان في هبته.
وهي ثمرة نخل أو شجر مما ييبس ويدخر كالتين والزيتون واللوز يهبه من حائطه ....
هذا تعريف العرية المرخص في جواز بيعها بخرصها، وإلا فالعرية حيث هي جائزة في كل شيء.
فيجوز شراء المعري أو من يتنزل منزلته ببيع أو ميراث أو هبة من المعري أو من يتنزل منزلته بعد صلاحها بخرصها من نوعها يدفعه عند الجذاذ لا قبله في ذمته لا في معين، فقيل: لدفع الضرر، وقيل: بقصد المعروف، وعلل مالك وابن القاسم بهما، فعلى الأول لا يشتري بعضها ولا جميعها إن كانت كل الحائط، ولا من شريط حصته. وشرطه: خمسة أوسق فأدنى، وقيل: أدنى
اعلم أنه لا يجوز شراء العرية بخرصها إلا بشروط:
الأول: وهو متفق عليه، أن يكون مشتريها هو معريها أو من يتنزل منزلته، إما ببيع أو هبة أو ميراث من المعرى، أو من يتنزل منزلته.
الثاني: وهو متفق عليه أيضاً، أن يبدو صلاحها للنهي عن بيع الثمرة قبل ذلك قصراً للرخصة على محلها.
الثالث: عياض: وهو متفق عليه أيضاً، أن يشتريها بخرصها بكسر الخاء، أي: بكيلها، وأما بفتحها فهو اسم للفعل، لما في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق. فشك الراوي في ذلك، وفيه نظر، فإنه روي عن مالك جواز شرائها بغير حرصها.
الرابع: وهو متفق عليه أن يشتريها بنوعها، إن صيحانيّاً فصيحاني وإن عجوة فعجوة، وأجاز القابسي أن يتراضيا عند الأجل على ثمر من غير صنفها، وشبهه بالقرض بجامع المعروف، وألزم على شبهه أن يجوز بيعه قبل القبض كما في المشبه به، وأجيب بأن جواز البدل بغير الصنف لا يلزم منه جواز بيعه قبل قبضه كالسلم، ورد بأن الإلزام للتشبيه بالقرض لا على وجه البدل، وأجراها ابن يونس في البدل مجرى السلم، وبالجملة فقد اختلف الأشياخ في إجراء العرية مجرى البيع أو القرض.
الخامس: يشترط أن يكون العوض مؤخراً إلى الجذاذ، ولا يجوز بشرط التعجيل، وحكى عياض الاتفاق عليه، وحكى ابن يونس عن مالك أنه لا يجوز شراء العرية بخرصها وإن [491/ب] جذها مكانه.
أصبغ: ويفسخ إن نزل حتى يبقى فيها ما يحل بيعه، فإن فاتت رطباً رد مثلها إن وجد وإلا قيمتها، قال أصبغ: وإن اشترى ما أعرى من رطب الفواكه التي لا تيبس، وقد أزهت بخرصها يدفعه من غيرها نقداً أو إلى تناهيها لم يصح ذلك، فإن لم يفت ذلك رد وإن فات أنفذ ولم يرد، وكذلك في كل عرية ما كانت يدخلها رخصة العرية ورفقها. قال: ولو أجيزت للرب من غير كراهة هي لم تكن لأجنبي، ولو أجيز هذا ابتداء لم يكن خطأ، لأن النقد أبلغ في المعروف.
وفي بعض النسخ: (يوفيه في يده). ولا حاجة إلى هذه الزيادة، قال في الواضحة: وإن تطوع له بتعجيل قبل الجذاذ من غير شرط جاز له، وهل يجبر الموهوب على جذها؟ أشار ابن يونس إلى أنه يتخرج على القولين في أنها هل هي كالقرض أو كالبيع؟
السادس: أن يكون العوض في ذمة المعري لا في حائط معين إتباعاً للرخصة، فإن وقع التعيين، فقال المازري: الأظهر على المذهب الفسخ لكونه بيعاً فاسداً. وفي المبسوط يبطل شرط التعيين ويكون في الذمة.
السابع: أن يشتري جملة العرية لا بعضها، ولما أراد المصنف الكلام على هذا الشرط قدم قبل ذلك ما هو مرتب عليه، فقال:(فقيل: لدفع الضرر .... إلخ) يعني أنه اختلف في علة الجواز بالشروط المتقدمة على ثلاثة أقوال:
أحدها لابن الماجشون: أنها دفع الضرر عن المعري بسبب دخول المعري عليه في حائطه واطلاعه على أهله وشبه ذلك.
الثاني: أنها قصد المعروف.
الثالث: لمالك وابن القاسم التعليل بهما، أي: على طريق البدل لا على الجمع، ثم فرع على هذه فقال: (فعلى الأول
…
إلخ) وتصوره واضح.
ومعنى قوله: (ولا من شريك حصته) أنه لو أعرى جماعة رجلاً بعض حائطهم فلا يجوز لأحدهم على التعليل بالضرر شراء حصته لبقاء الضرر بسبب دخول المعرى لما بقي له.
الثامن: أن يكون خمسة أوسق فأقل، وهو المشهور، وروى أبو الفرج عن مالك: لا تجوز في أقل من خمسة أوسق وهو أظهر، لأنه المحقق والخامس مشكوك فيه، ولما في أبي داود قال: وحديث جابر إلى أربعة أوسق.
التاسع: أن يكون مما ييبس، وهو مأخوذ من كلام المصنف أولاً، وليس ذلك خاصاً بالتمر والعنب على المشهور، وكلام المصنف يدل عليه تشبيهه باللوز، ولمالك في الموَّازيَّة: لا يشتري بخرصه إلا التمر والعنب، ثم رجع إلى ما في المدونة.
العاشر: أن يكون بلفظ العرية على المشهور، ولو أعطاه بلفظ الهبة والمنحة لم يجز له الشراء اتباعاً للفظ الحديث، خلافاً لابن حبيب وغيره، وهذا لا يؤخذ من كلام المصنف، إلا أن يقال: قوله: (المعري) يدل على أن هذا لا يجوز إلا للمعري.
ولو أعراه عرايا من حوائط ففي شراء أكثر من عريته ثالثها: إن كانت بلفظ واحد منع ....
يعني: فإن اتحد المعري والمعرى لكنه أعراه عرايا في حوائط متعددة في مرة أو أكثر في كل خمسة أوسق فأقل، ثم أراد شراء عشرة أوسق من حائطين فقال ابن القاسم يجوز في الوجهين، أعني: سواء كان في مرة أو مرات: وقال يحيي بن عمر وابن أبي زيد
وغيرهما: لا يجوز فيهما بناء على أن العقد هل يتعدد بتعدد المعقول عليه أم لا؟ وتأول المدونة على نحو قوله، وفرق ابن الكاتب فمنع في الأول وأجاز في الثاني، ورجحه ابن يونس لقول مالك فيمن اشترى حوائط فأصابتها جائحة أنها إن كانت في صفقة واحدة اعتبر ثلث الجميع، وإن كانت في صفقات اعتبر ثلث كل واحد.
وبيعها على مقتضى الشرع للمعري وغيره قليلة أو كثيرة جائز
أي: أن ما تقدم من الشروط إنما هو في بيعها بخرصها، وأما بيعها بغير خرصها فهو جائز على مقتضى البيوع لرب الحائط وغيره، فيجوز شراؤها بالدنانير والدراهم وبطعام يخالفها إذا حصلت المناجزة في الطعام، وهكذا قال في المدونة وغيرها، وفي الإكمال: المشهور من قول مالك قصر جواز بيعها من ربها بخرصها تمراً إلى الجذاذ، وذلك بعد صلاح العرية، وروي عنه لا يجوز بحرصها ويجوز بغيره، وعنه أنه يجوز بخرصها وبغيره وبالعروض وبالطعام، ويريد على الجذاذ، وروي عنه أنه لا يجوز شراؤها إلا بخرصها ولا يجوز بغير ذلك من دنانير أو دراهم أو غير ذلك، لأنه من باب العود في الهبة وبالخرص رخصة لا تتعدى، قال: واختلاف قوله في ذلك على اختلاف أهل الأصول في تقديم خبر الواحد على القياس، أو تقديمه عليه، وعلى أن الرخص لا تتعدى بها مواضعها، ثم قال: وأما مشهور فإنه لا يجوز إلا بخرصها عند الجذاذ، فلم ير تعدي الرخصة عن وجهها، وهو أظهر. انتهى. فانظره مع ما في المدونة.
وتبطل العرية بموت المعري قبل حوزها
لأنها عطية كسائر العطايا، ولا خلاف فيه في المذهب.
وحوزها أن تكون فيها ثمرة وأن يقبضها، وقال أشهب: بالإبار أو تسليم الرقبة، والزكاة على المعري كالسقي بخلاف الواهب، وقال أشهب: على المعري كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو، وعلى الأول: إذا كانت العرية كل الحائط أخرج منه، وعلى الثاني من غيره، ولو كانت دون خمسة أوسق كملت ....
لما كان الحوز شرطاً في تمامها فسره وذكر فيه قولين.
الأول: لابن حبيب قال: وحيازة العرية بوجهين: قبض الأصول [492/أ] وأن يطلع فيه ثمر قبل موت المعري، وإن قبضها ولم يطلع فيها ثمر حتى مات المعري بطلت، وإن طلع الثمر ولم يقبض الشجر حتى مات المعري بطلت، قال مالك، وهو مذهب المدونة عند ابن العطار، وفضلٌ، وجماعة، ثم اختلف هؤلاء في وجه موافقتها لقول ابن حبيب، فقال ابن العطار: العرية والهبة والصدقة سواءٌ لا يتم حوزها إلا بأمرين، وقال ابن زرقون: إنما يوافقه في العرية لا في الصدقة والهبة، وذهب بعضهم إلى أن مذهب المدونة والاكتفاء بحوز الأصل وحده، وإليه ذهب أبو عمران وابن مالك.
والقول الثاني لأشهب الاكتفاء بأحد الأمرين إما ظهور الثمرة بالإبار، وإما بحصول رقاب الثمرة بيد المعْرَى دون رب الحائط، وهذا القول هو الصواب عند ابن يونس، وإن كان لم يصرح بتأويل على أحد التأويلين المتقدمين.
واستدل لهما في كتاب الهبات لابن القاسم إذا وهب ما تلد أمته أو ثمرة نخله عشرين سنة جاز ذلك إذا حاز الأصل والأمة أو حاز له أجنبي، فهذا يدل على خلاف ما قاله ابن حبيب، لأن ثمرة عشرين سنة لم تأت بعد.
(والزكاة على المعري كالسقي بخلاف الواهب، وقال أشهب: على المعرى كالهبة إلا أن يعريه بعد الزهو .... إلخ) يعني أن العرية والهبة إما أن يكونا بعد الزهو أو
قبله، فإن كانتا بعد الزهو فعلى المعري والواهب، وإليه اشار بقوله:(إلا أن يعريه بعد الزهو)، وإن كان قبل الزهو ففي المسألة أربعة أقوال.
ووقع في نسخة ابن راشد ما نصه: (وفي كون الزكاة على المعطي أو المعطى ثالثها لابن القاسم: في العرية على المعري وفي الهبة على الموهوب له، ورابعها لسحنون: على من كانت الأصول بيده) ومنشأ الخلاف: هل العرية والهبة يقتضيان عرفاً التزام الزكاة أم لا؟ ولفظ العرية يشعر بذلك بخلاف الهبة، وذكر ابن المواز أنهم لم يختلفوا في السقي أنه على رب الحائط، وعلى الأول، أي أنها على المعري لو كانت جميع الحائط للزم رب الحائط أن يخرج من غيرها ويأخذها كلها المعرى، وإن كان دون خمسة أوسق كلمت، أي: ضمها رب الحائط إلى ما بيده، انظر لو أعسر المعري فهل تؤخذ من المعرى ولها نظائر.
الجوائح: والثمار من ضمان البائع في الجوائح
لما في مسلم من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. وفيه أيضاً قال: ((لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق)). والحديثان وإن كان ظاهرهما إسقاط الجائحة مطلقاً، لكن من المعلوم أن المشتري دخل على أنه لابد أن يرمي الهواء بعضه وتأكل الطير منه ونحو ذلك، فقد دخل على اليسير، واليسير المحقق ما دون الثلث، والثلث وإن كان في كثير من أبواب الفقه فقد جعل هنا كثيراً، ولأنه روي من حديث أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أصيب ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضيعة)).
وعن ربيعة عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر بوضع الجوائح إذا بلغت ثلث الثمرة فصاعداً) لكن فيهما ضعف. والجوائح جمع جائحة، وهي المصيبة المهلكة.
وقال ابن القاسم: إذا كان بقاؤها لينتهي طيبها، فلو انتهت كالعنب يطيب والبقول والقصيل فلا جائحة كالثمر على النخل، وقال سحنون: فيه الجائحة ....
قسم المصنف على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون الثمرة محتاجة إلى إبقائها في أصولها ليكمل طيبها، ولا خلاف في ثبوت الجائحة فيه، قاله ابن شاس، ونسبة الجائحة لابن القاسم وحده ليست بجيدة.
الثاني: أن ينتهي طيبها، ولكن يحتاج إلى التأخير لبقاء رطوبة كالعنب المشترى بعد بدو صلاحه. وحكى لمصنف فيه قولين.
الباجي: ومقتضى رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يراعى البقاء لحفظ النضارة، وإنما يراعى كمال الصلاح، قال: ويجب أن يُجرى هذا المجرى كل من كان هذا حكمه كالقصيل والقصب والبقول والقَرَظ، فلا توضع جائحة في شيء من ذلك، قال: ومقتضى رواية سحنون أن توضع الجائحة من جميعه.
الثالث: ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه ولنضارته كالثمر اليابس والزرع، فلا جائحة فيه.
وإليه أشار بقوله: كالتمر على النخل، إذ الكاف هنا للقياس والاستدلال. وأما الأولى فهي في كلامه للتمثيل، وما حكاه عن سحنون حكاه غيره، وحكى ابن يونس عن سحنون: إذا تناهى العنب المشتري وحان قطافه حتى لا يكون تأخيره إلا لسوق يرجوها أو لشغل يعرض له فلا جائحة فيه.
ابن عبد السلام: وهذا مخالف لما حكاه المؤلف وغيره عنه، وأشار بعض الأندلسيين إلى إجراء هذين القولين فيما بيع قبل بدو صلاحه أو بعده على أن يجده مشتريه، وهو ظاهر. انتهى.
وفي حمل كلام سحنون على الخلاف بحيث لا يخفي، ونص في المدونة على أنه لو اشترى ثمرة على الجذاذ فيها الجائحة إذا بلغت الثلث، كالثمار لا كالبقول، وسأل ابن عبد الحكم سحنوناً فقال: لم جعل فيها الجائحة ولا سقي على البائع؟ فقال: لأن معناه أن المشتري يأخذ ذلك شيئاً بعد شيء على قدر الجائحة، ولو دعاه البائع أن يأخذه في يومه لم يكن له ذلك، بل يمهل في ذلك، وهو وجه الشأن.
ويشترط أن يكون مفرداً عن أصله في بيع محض بخلاف المهر، وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة ....
[492/ب] أي: يشترط في وضع الجائحة شرطان:
الأول: أن يكون البيع على الثمرة بانفرادها، وأما إن اشتراها على أصولها فلا جائحة فيها، اشتريت قبل بدون الصلاح أو بعده، أما المشتراة قبل فبالاتفاق، وأما المشتراة بعد فهو المشهور، وقال أصبغ: أما ما عظم خطره من الثمرة ففيه الجائحة، ويقبض الثمن على الثمرة وعلى الأصل، لأن المشتري زاد لها في الثمن، واحتج في المدونة للأول بأنه وإن أوجبه الاشتراط فكان كمن ابتاع عبداً ثم استثنى ماله فهلك ماله ثم رد العبد بعيب أو استحق فإنه يرجع بجميع الثمن، ولا يحط بمال العبد منه شيء. وظاهر كلامه أنه لو اشترى الثمرة مفردة عن أصلها أن فيها الجائحة، وإن اشتراها مع غيرها ولو كانت تبعاً كمكتري دار فيها ثمر دون الثلث فقد نص في المدونة على أنها لا جائحة فيها لكونها تبعاً للكراء، واختلف إذا كانت قد أزهت، فقيل: فيها الجائحة، لقوله في المدونة "ولم يطب"، وعلى هذا اختصر ابن يونس المدونة، وقيل: لا جائحة فيها، لأنه قال: ومن اكترى أرضاً فيها سواد قدر الثلث فأدنى فاشترطه جاز ذلك ولا جائحة في ثمره فأطلق، وكلام اللخمي يأتي على الأول، لأنه قال: وإن اكترى داراً فيها ثمرة فاشترطها فإن كانت لم تطب وهي الثلث فأقل فلا جائحة فيها إن سقطت، وإن طابت فأكلها ثم انهدمت الدار
غرم ما ينوبها، وإن كانت الثمرة قد طابت فاستثناها وهي الثلث فأكثر كانت فيها الجائحة، وإن أصيب ثلثها رجع بما ينوبه، واختلف إذا كان جميع الثمرة أقل من الثلث فأصيب جميعها أو الثلث فأكثر، فقيل: فيها الجائحة كالأولى، وقيل: لا جائحة فيها، لأنها تبع، والأول أحسن، لأنها مشتراة وليست ملغاة.
ابن يونس: جعل في الدار التبع دون الثلث وهو لمالك، وجعل في الأرض التبع الثلث، وهو لابن القاسم، وهو أصل اختلف فيه قول مالك في كراء الأرض، قال بعد ذلك: وأخذ ابن القاسم بالقول أنه الثلث فأدنى، وأخذ ابن حبيب وابن المواز بما دون الثلث.
الشرط الثاني: أن تكون الثمرة المفردة في بيع محض فلا ترجع الزوجة على زوجها إذا أصدقها ثمرة وأجيحت، لأنه مبني على المكارمة، واختار ابن يونس وغيره قول ابن الماجشون لأنا نمنع بيع المهر إذا كان طعاماً قبل قبضه أو رد بعيب إلى غير ذلك من أحكام البيوع. ويؤيده قول ابن القاسم بإيجاب الجائحة في العرية مع أنها ليست بيعاً محضاً.
قال ابن القاسم: الجائحة: ما لا يستطاع دفعه لو علم به، فالسرقة ليست بجائحة، وفيها: لو أن سارقاً سرقها فجائحة. ابن الماجشون: الجائحة: الآفة السماوية دون صنع الآدمي. وفيها: الجيش جائحة ....
ما لا يستطاع دفعه عادة ليدخل فيه الجيش، إذ لا يستطاع دفعه بخلاف السارق، لأنه لو علم به لدفع، فإنه إنما يأخذه على وجه الخفية، فالعلم مانع له من السرقة.
وتبع المصنف الباجي في نسبة هذا القول لابن القاسم، قال: هو في الموَّازيَّة. ونقل ابن أبي زيد أن السارق جائحة، واستشكل بأن السابق لو كان جائحة لكان حفظ الثمرة على بائعها كما يكون عليه سقيها. وعلى القول الأول في كلام المصنف الأكثر، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه المشهور. وعلى أن السارق جائحة فالجيش أولى، ولذلك كان الأحسن
بطريقة المصنف في الاختصار أن يقول: وفيها الجيش جائحة. وعلى قول ابن الماجشون لا يكون جائحة. قال الشيخان وغير واحد: وإنما يكون السارق عند ابن القاسم جائحة إذا لم يعرف، وأما إن عرف فيتبعه المشتري مليّاً أو معدماً.
فرع:
فلو لم تهلك الثمرة بل تعيبت كالغبار يعيبها والريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبها فينقص قيمتها، ففي البيان: المشهور أن ذلك جائحة ينظر إلى ما نقص هل الثلث أم لا؟
وقال ابن شعبان: وهو أحد قولي ابن الماجشون. والقول الثاني: ليس ذلك جائحة، وإنما هو عيب، والمبتاع بالخيار بين أن يتماسك أو يرد.
فإن كانت من العطش وضعت كلها
هذا لأن السقي على البائع، فأشهب ما فيه حق توفية، وكذلك لو كانت بعلا، قال في المدونة: لأنه باعها على حياتها من الماء.
وظاهر قوله: (وضعت كلها) ولو كان ما نقص لا خطب له، وهو ظاهر المدونة في كتاب الحوائج، لأنه قال: يوضع عنه قليل ما هلك بسببه وكثيره، ولكن لابن القاسم في كتاب الشفعة ما يوهم خلاف ذلك، لأنه قال: ولا بأس بشراء شرب يوم أو يومين أو شهر أو شهرين يسقي به زرعه في أرضه دون شراء أصل العين.
مالك: فإن غار أصل الماء فنفد أو نقص بقدر ثلث الشرب الذي ابتاع وضعه عنه كجوائح الثمار.
ابن القاسم: وأنا أرى أنه مثل ما أصاب الثمرة من قبل السماء فوضع عنه إن نقص شربه ما عليه فيه ضرر بيِّن، وإن كان أقل من الثلث إلا ما قل مما لا خطب له فلا يوضع لذلك شيء.
فانظر قوله: "إلا ما قل مما لا خطب له" هل مقصور على المشبه وحده أو عليه وعلى المشبه به؟ انتهى كلام ابن عبد السلام.
وجعل ابن راشد هذا فرعاً آخر، وذلك أنه لما ذكر جائحة العطش وأنه توضع مطلقاً قال: تنبيه: ومن اشترى شِرْباً معلوماً، ففي المدونة: لا بأس، ثم ذكر الكلام السابق.
ومن غيره وضع الثلث فما فوقه
أي: من غير العطش، وتصوره واضح، ثم إن وافقه المشتري على أن التالف الثلث فلا إشكال، وإلا فلابد من [493/أ] إثبات ذلك بأن يحضر عدلان في وقت الشراء بحضرة المتبايعين، ثم ينظران بعد الجائحة، ويشهدان أن ما تلف الثلث فأكثر.
وفي البقول ثالثها كالثمار
هي روايات، والمشهور أنها توضع جائحة البقول وإن قلت، لأن إتلافها من العطش. وروى علي بن زياد وابن أشرس عن مالك أن جائحتها لا توضع حتى تبلغ الثلث، وفي الجلاب: لا جائحة فيها قلت أو كثرت.
واختلف في الأصول المغيبة، مثل الجزر واللفت والبصل والإسفنارية، هل هي كالبقول أم لا؟ ومذهب المدونة أنها كالبقول، وألحق ابن القاسم وابن المواز وابن حبيب الموزَ والمقاتي بالثمار، وألحق أشهب المقاتي بالبقول، فيوضع القليل والكثير.
اللخمي: ولا خلاف أن الجوائح توضع في المقاتي.
ابن رشد: وروي عن مالك أن جائحة الموز توضع مطلقاً، وألحقوا الزعفران والريحان والقَرَط والقضب بالبقول، وفي قصب السكر ثلاثة أقوال كالبقول، ومذهب المدونة فيه عدم القيام بالجائحة، وعلله فيها بأنه إنما يباع بعد أن يطيب، واختلف في ورق التوت، فقال ابن حبيب: هو كالثمار. وقال ابن القاسم في العتبية: هو كالبقول. وهذا إذا كانت الآفة فيه، وأما إذا كانت الآفة من غيره كما لو مات دود الحرير، فقال ابن القاسم: الأشبه أنه جائحة. وشبهه بمن اكترى حَّماماً أو فندقاً فجلا ذلك البلد ولم يجد من يسكنه، فقال المتقدمون: له أن ينحل عن الكراء.
ابن يونس: وكذلك عندي من اشترى ثمرة في بلد ثم انجلى أهله لفتنة أو نحوها، فإن مصيبة ذلك من البائع، لأن المشتري إنما اشتراه لمن يبيعه منه.
ويعتبر ثلث المكيلة لا ثلث القيمة مطلقاً عند ابن القاسم، فيحط من الثمن قدر قيمته من قيمة باقيه كانت أقل من الثلث أو أكثر. وقال أشهب: المعتبر ثلث القيمة، فإن كان مما يحبس أوله على آخره كالعنب والرطب فالمكيلة باتفاق ....
لما كانت الجائحة إنما توضع بشرط أن تبلغ الثلث بيَّنه وقسمه قسمين: قسم لا يحبس أوله على آخره، وقسم يحبس أوله على آخره. وذكر في الأول قولين: الأول لابن القاسم: المعتبر ثلث المكيلة لا ثلث القيمة، لأن الجائحة في الثمرة إنما هي في نقص الثمرة لا في نقص ثمنها، لأن الثمرة لو مرضت من غير جائحة لم يكن للمشتري قيام، فلو كان ثلث المكيلة يساوي عشر الثمن وضع، ولو كان دون ثلث المكيلة- وهو يساوي تسعة أعشار الثمن- لم يوضع، كما قال في المدونة فيمن اشترى مقتاتا بمائة درهم فأجيج منها بطن ثم جنى بطنين فانتقصت، فإن كان المجاح قدر ثلث النبات في زمانه، فإن قيل: قيمته ثلاثون لغلاء أوله، والبطن الثاني عشرون، والثالث عشرة لرخص آخره رجع بنصف الثمن.
إلا أنهم اختلفوا في قوت تقويمه على قول ابن القاسم، فقال سحنون وابن أبي زمنين: يقوم يوم البيع بقدر قيمة كل بطن في زمانه لا يوم نزول الجائحة. وقال آخرون: يقوم التالف يوم الجائحة. ثم اختلف هؤلاء: هل يتعجل التقويم فيما بقي من البطون الآن على ما جرى من عرف عادتها، أم يُستأنى حتى يجني جميع بطونها، فتقوم على يقين لا على تخمين، واختاره صاحب النكات؟
وقوله: (مطلقاً) يحتمل كان يطعم بطناً أو بطوناً كالمقاتي والورد والياسمين، ويحتمل بلغ ثلث القيمة أم لا، والقول الثاني لأشهب: أن المعتبر ثلث القيمة، وإن كان
عشر المكيلة. ثم ذكر القسم الثاني أن المعتبر فيه المكيلة، لأنه إذا يحبس أول الثمرة على آخرها فأجزاؤها متشابهة، فلا وجه لاعتبار القيمة.
وحكى جماعة أيضاً هذا الاتفاق، لكنه مقيد بأن يكون صنفاً واحداً، ولو كان أصنافاً كالبرني والصيحاني لجرى على الخلاف.
فإن كانت أجناساً في عقد واحد، فقيل: يعتبر كل جنس على حدة، وقيل: يعتبر ثلث الجميع. وقال ابن القاسم: يعتبر نصاب الجنس بالمكيلة وينسب إلى الجميع بالقيمة فإن فقد أحدهما فلا جائحة ....
يعني: فإن اشتملت الصفقة على أصناف كتمر وتين وعنب وأجيح جنس منها، فقال مالك في رواية ابن حبيب: يعتبر كل جنس منها على حدته بما ينوبه من الثمن بناء على أن العقد يتعدد بتعدد المعقود عليه، فكأن عقد على كل جنس عقداً مفرداً.
والقول الثاني أن المعتبر ثلث الجميع، فإن بلغ ما أجيح ثلث الثمرة وُضع من غير اعتبار بقدر الجائحة من الثمن. هكذا ذكر صاحب البيان هذا القول وعزاه لأشهب، وهو مبني على أن العقد لا يتعدد بتعدد المعقول عليه. وقال ابن القاسم: إن المجاح من الجنس إنما يوضع بشرطين:
أحدهما: أن تكون قيمة ذلك الجنس الثلث بالنسبة إلى قيمة جميع الأجناس.
الثاني: أن يكون أجيح منه ثلث مكيلته، فإن فقد أحدهما فلا يوضع، ونسبه المصنف لابن القاسم كالباجي، ونسبه ابن يونس لابن المواز قال: وهو كقول ابن القاسم أكترى داراً وفيها ثمر طابت فاشتراها المكتري، وهي أكثر من الثلث فذلك جائز، فإن أصيب منها أقل من ثلث الثمرة في عين المسألة، وقد [493/ب] ذكر ابن يونس أنه طالع الأمهات في هذه المسألة وعول عليها.
والضمير في ينسب عائد على الجنس لا على المصاب منه، قال في البيان: أما لو اشترى حوائط في صفقة واحد فحكمها في الجائحة حكم الحائط الواحد إن بلغ المجاح ثلث ثمرة الجميع وضع عن المبتاع ثلث الثمن، كان الذي أجيح بعض حائط أو من كل حائط، هذا إن كان الثمر من صنف واحد متساوياً في الطيب أو قريباً بعضه من بعض، واختلف إذا كان بعضه أفضل أو أطيب على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا قيمة في ذلك، وإنما يعتبر ثلث الثمر، وهو قول ابن القاسم.
والثاني: إن بلغ المجاح ثلث الثمر أو أكثر وضع عن المشتري ما ينوب ذلك من الثمن، وإن أجيح أقل من الثلث لم يوضع عنه شيء وإن كان ذلك من الثمن أكثر من الثلث، وهو قول أصبغ.
والثالث: إن أجيح ما قيمته من ذلك الثلث فصاعداً وضع، وإن كان عشر الثمرة، وإن كان قيمة الذي أجيح أقل من الثلث لم يوضع، وإن كان تسعة أعشار الثمرة، وهو قول أشهب.
ويلزم المشتري ما بقي وإن قل بخلاف ما استحق من الطعام لدخوله عليها
يعني: إذا بقي بعد الجائحة شيء يلزم المشتري بما ينوبه من الثمن ولو قل، بخلاف ما إذا استحق بعض المبيع على ما تقدم. وفرق المصنف بينهما بأن الجوائح متكررة، والمشتري قد دخل عليها فيلزم ما بقي لدخوله عليها، بخلاف الاستحقاق فإنه لندوره مما لم يدخل عليه.
ومن اشترى عريته ففيها الجائحة، خلافاً لأشهب
هذه أحسن مما في بعض النسخ- عرية بغير إضافة- فإن الخلاف إنما هو إذا اشتراها المعري أو من يتنزل منزلته، فوجه المشهور أنه مشترٍ، ووجه قول أشهب أنه معروف، وأطلق الخلاف وهو مقيد بوجهين:
أولهما: أن يكون اشتراها بخرصها، إذ لو اشتراها بغيره لكانت كسائر البيوعات.
ثانيهما: أن يكون على ثمر نخلة معينة، ذكره الباجي، إذ لو كانت أوسقاً من حائط فلم يبقَ إلا مقدار تلك المكيلة لزم المبتاع أداؤها، بمنزلة من أوصى بثمرة حائطه يعطي إنساناً، ولآخر منه بخمسة أوسق فتلفت الثمرة إلا خمسة أوسق فإن جميعها له دون من أوصى له بسائر الثمرة. قاله في المبسوط.
ومن استثنى من الثمرة مكيلاً معلوماً فأجيحت بما يعتبر وضع من المستثنى بقدره، وروي: لا يوضع شيء ....
قوله: (مكيلاً معلوماً) أي: الثلث فأدنى- كما تقدم- مثاله: لو استثنى عشرة أرادب من ثلاثين فأجيح ثلث الثمرة، فلا خلاف أنه يحط عن المشتري مقابل المجاح من الثمن. واختلف: هل يحط ثلث العشرة؟ في ذلك روايتان.
الأولى: أنه يحط. قال في البيان: وهي رواية ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك، وبها أخذ ابن القاسم وأصبغ، وهذا على القول بأن المستثنى بمنزلة المشتري، لأنه إذا باع حائطاً واستثنى منه عشرة أرادب، فكأنه في التمثيل على هذا القول قد باع جميع الثمرة، وفيها ثلاثون إردباً بعشرة دنانير، وبعشرة أرادب التي استثنى، فإن أجيح من ثمر الحائط نصفه سقط عن المشتري نصف الثمن، وهو نصف العشرة دنانير، ونصف العشرة أرادب المستثناة، لأنها من ثمرة الحائط، وكذلك على هذا القياس.
والثانية: رواية ابن وهب: لا يوضع من العشرة أرادب شيء. وقال في البيان: لأن المستثنى مبقى، لأنه على هذا القول إنما باع من حائطه ما بقي بعد ما استثنى، لأن الذي استثناه أبقاه على ملكه لنفسه ولم يبعه.
وقوله: (فأجيحت بما يعتبر) احترز به مما دون الثلث، إذ لا يوضع حينئذٍ من المستثنى بقدره، ويأخذ البائع جميع ما استثنى.
فإن اشترى الثمرة مع الأصل فلا جائحة
هذا ظاهر، وهو مفهوم مما تقدم من قوله:(ويشترط أن يكون مفرداً عن أصله)، ولعله أعاده ليرتب عليه ما بعده.
ولو اشترى الثمرة بعد صلاحها ثم الأصل ففيها الجائحة
أي: لوجوبها بشراء الأصل، ويمكن أن يجرى فيها قول بسقوطها من أحد القولين في أن اللاحقات للعقود تقدر واقعة فيها. أما لو اشتراها أولاً قبل بدو الصلاح على القطع ثم اشترى الأصل فله إبقاؤها ولا جائحة.
ابن يونس: وتحصيل المسألة أنه إن اشترى الأصل والثمرة وهي مزهية فاشتراها بعد الأصل قولان، أو غير مزهية تبعاً أو غير تبع فلا جائحة في الثمرة. وإن اشتراها بعضها بعد بعض وهي غير مزهية فكذلك لا جائحة فيها، وإن كانت مزهية فاشتراها بعد الأصل فقولان.
فإن اشترى الأصل ثم الثمرة بعد صلاحها فقولان
هذه عكس التي قبلها، وهي أن يشتري الأصل أولاً ثم الثمرة، فإن اشتراها قبل بدو صلاحها فاختلف في جواز شرائها على قولين، فإذا فرعنا على الجواز فلا جائحة فيها. انتهى.
وعن هذه الصورة احترز المصنف بقوله: (بعد بدو صلاحها). وهذه المسألة يتصور إذا استثنى البائع الثمرة قبل زهوها. خليل: وهي تأتي على المشهور أن المستثنى مبقى، وأما على القول بأنه مشترى فلا يجوز للبائع الاستثناء. والقولان اللذان حكاهما المصنف إذا اشتراها بعد بدو صلاحها لابن القاسم، ومذهب المدونة سقوط الجائحة كما لو اشتراها مع الأصل بعد بدو الصلاح. والقول بثبوتها لابن القاسم في الأَسْدِيَّة والموَّازيَّة.
ابن يونس: كأنه يقول: السقي على البائع فحق التوفية باقٍ عليه.
وإذا اختلف المتبايعان في جنس الثمن تحالفا وتفاسخا اتفاقاً
يدخل تحت لفظ [494/أ] المتبايعين كل متبايعين نقداً أو نسيئة، سلماً أو غيره، والأصل فيه ما رواه مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أيُّما بَيِّعين تبايعاً فالقول ما قال البائع أو يترادان)).
وذكر أبو عمر أنه مشهور عند العلماء تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيراً من الفروع، فقد اشتهر عندهم بالحجاز والعراق شهرة يستغنى بها عن الإسناد، كما اشتهر حديث:((لا وصية لوارث)). وليس في الحديث ذكر التحالف، إلا أن أهل العلم تأولوه على ذلك.
وحكى المصنف وغيره الاتفاق على التحالف والتفاسخ، يعني أنه ليس قول أحدهما أولى من قول الآخر، ولم يقر البائع بإخراج سلعته بما قال المشتري جملة ولا تفصيلاً.
وحكى ابن حبيب وغيره عن ابن القاسم في الكراء أن القول قول الساكن إن خرج، فُيخرَّج عليه قول في البيع أن يكون القول قول المشتري إن فات المبيع. وخرج عبد الحميد قولاً بأن يكون القول للبائع مما في المدونة فيمن صبغ الثوب أسود فادعى ربه أنه عقد معه على أن يصبغه أحمر أن القول قول الصباغ مع اختلافهما في الجنس، لأن الصباغ يدعي أنه باعه سواداً، ورب الثوب يدعي أنه اشترى معصفراً. وفرق المازري بأن صاحب الثوب لما دفع ثوبه إليه فكأنه ائتمنه عليه، وبأن صاحب الثوب يدعي على الصباغ تعدياً يوجب عليه تعمير ذمته بقيمة الثوب، والأصل عدمه.
وفي نوعه كذلك، وقيل: كمقدار الثمن
أي: وإذا اختلفا في نوع الثمن فقال البائع: بعتك بقمح، ويقول الآخر: بشعير، فالمشهور أنهما يتحالفان ويتفاسخان. قال في الجواهر: قيل: يجري الاختلاف في قدر الثمن. وهذا هو القول الثاني في كلام المصنف.
اللخمي: وذهب ابن الماجشون إلى أنهما لا يتحالفان، قال: لأنهما اتفقا على جنس واحد، واختلفا في جودته.
ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد المصنف ما لو ادعى أحدهما سمراء والآخر محمولة، فقال ابن حبيب: هو كما لو ادعى أحدهما جيداً والآخر رديئاً، وكما لو اختلفا في القدر. وذهب فضل بن مسلمة أن التحالف والتفاسخ، فحمله بعضهم على أنهما عنده كالجنسين، وبعضهم على أنهما كالجنس الواحد. إلا أنه على القول بالتحالف والتفاسخ مطلقاً. ولو كان السلم والبيع بالنقد بالخيار، فقال أحدهما: إنا عقدنا على ذكران. وقال الآخر: على إناث. فرده المازري للاختلاف في الجنس لتباين الأغراض، فإن الإناث تراد للنسل. قال: بخلاف ما لو كان الاختلاف في ذكران البغال أو إناثها، فإن ذلك راجع إلى الاختلاف في الصفة، لأن إناث البغال لا تراد للنسل.
وإذا اختلفا في مقدار الثمن فأربع: ابن وهب: يتحالفان ويتفاسخان ما لم يقبض المشتري السلعة فيصدق مع يمينه لليد. ابن وهب أيضاً: ما لم يبن بها للبينونة. المدونة: ما لم تفت في يد المشتري للفوات. أشهب: مطلقاً، وإن فاتت فالقيمة. واختاره المازري ....
أي: فأربع روايات، ولذلك أسقط التاء. وتصور الأولى واضح، و (اليد) يريد بها الحوز. وتبع المصنف في نسبتها لمالك ابن شاس. ابن عبد السلام: وقد حكى ذلك غير واحد، وهو خلاف ما ذكره ابن أبي والباجي وسند عن ابن المواز أن مالكاً لم يختلف قوله قبل التفرق أنهما يتحالفان ويترادان.
وقوله: (فيصدق مع يمينه)، قال في الموازية: إلا أن يدعي ما لا يشبه. وكذلك تصور الثانية ظاهر.
وارتفع ابن وهب إما بفعل مضمر، أي: وروى ابن وهب، أو على حذف مضاف على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الثانية رواية ابن وهب. وما في المدونة هو المشهور، وسيأتي تفسير الفوات. زاد في المدونة: إذا أتى المشتري بما يشبه من الثمن، قال: وفي تضمين الصناع منها: وثبت مالك على هذا. زاد في الواضحة: وما عملت أن أحداً اختلف قوله فيها من أصحابه المدنيين.
ابن عبد السلام: الرواية الرابعة للمازري: وبها كان يفتي شيخنا، وأنا أفتي، وهو معنى قوله:(واختاره المازري) لعموم الحديث في قوله: (يتحالفان ويتفاسخان).
ابن بشير: وحكى بعضهم عن كتاب ابن حبيب قولاً خامساً أن القول قول المشتري ولم يوجد فيه، وتقييده في المدونة الفوات بيد المشتري، مفهومه أنه لو فاتت في يد البائع لم يكن القول قوله. ووقع لابن القصار ما يقتضي أن القول قول المشتري ولم يوجد فيه، فإنه سوى بين فواتها بيد المشتري أو بيد البائع في أن ضمانها منه.
وللقاضي إسماعيل ما يقتضي أنهما يتحالفان. المازري: وخرج الأصحاب ما إذا فاتت بيد البائع على اختلاف قول مالك في المحبوسة في الثمن، فإن قلنا ضمانها من البائع لا يكون القول قول المشتري، إذ لا غرامة عليه. وإن قلنا ضمانها من المشتري ترجح قوله كما لو كانت في يده. قال: ويعرض هنا بحث آخر، وهو أن المشتري الذي صار راهناً لا في مبلغ الدين إذا ادعى أقل من قيمة الرهن، والمرتهن لا يعمر ذمة الراهن بما لم يقر أنه رهن به، وإنما له حبس السلعة، والرهن شاهد على نفسه لا على الذمة على مشهور المذهب، فإن كان المبيع جارية وحدث بها في أيام احتباسها عور- وهو ربع قيمتها- صار هذا الربع قد فات بيد المشتري، فيصدق في [494/ب] مقدار ثمنها كما يصدق في ثمن السلعة جميعها في يده، ويتحالفان في ثلاثة أرباع الجارية التي بقيت منها، ويقع فيها التفاسخ، فيحلف المشتري لينفي عن ذمته ما يطلب البائع منه، ويحلف البائع لئلا يؤخذ
من يده الرهن بما لم يقر به مما هو مصدق في كون الرهن ليس برهن فيما هو أقل منه. وإلى تصديق المشتري في ثمن ما فات والتحالف في ما لم يفت ذهب ابن عبدوس.
ويدل على اعتباره ما رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع)).
ومفهومه: إن لم تكن قائمة لم يترادَّا فينبغي التحالف.
ويعتبر الأشبه عند الفوات اتفاقاً، ولا يعتبر وهي قائمة وهي قائمة على المشهور. وفي الفوات بحوالة الأسواق قولان ....
إذا ادعى أحدهما ما يقرب من الصدق وادعى الآخر ما لا يشبه فإن كانت السلعة فاتت فالقول قول من ادعى الأشبه اتفاقاً، لأنه أتى بشاهد العرف على بطلان دعوى صاحبه، فيحلف معه، كما لو قام له شاهد واحد، فإن كانت قائمة فهل يترجح مدعي الأشبه كالفوات؟ وهو قول مطرف وابن الماجشون، وصوبه الأشياخ أولاً لقيام السلعة، وهو المشهور، والقولان لمالك.
ابن بشير: وهذا ينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن ادعى أحدهما الأشبه، فينبغي ألا يُختلف أن القول قول من ادعى الأشبه، وإن ادعى الآخر ما هو ممكن ويتغابن الناس بمثله، فلا يلتفت إلى الأشبه.
وحيث قلنا: إن القول قول مدعي الأشبه عند الفوات فالفوات يكون بذهاب العين أو بتغيُّر الذات. وهل يكون بحوالة الأسواق وهو مذهب المدونة حتى في المكيل والموزون، أو لا وهو قول أشهب وعبد الملك؟ والأقرب مذهب المدونة، لأن سكوت البائع عن طلب الثمن وعن بيان مقداره حتى تتغير سوقها دليل على الكذب.
وفي البداية ثالثها بالقرعة، والمشهور تقدمة البائع
تصور كلامه ظاهر، فوجه المشهور وهو قوله في المدونة: قوله عليه الصلاة والسلام: ((القول ما قال البائع))، لأن الأصل استصحاب ملكه، والمشتري يدعي أخراجه بغير ما رضي به.
والثاني: رواه يحيي عن ابن القاسم في العتبية، ووجه مقابله أن البائع مقر بالبيع ونَقْل الملك للمشتري، ومدعٍ لزيادة والأصل عدمها.
والثالث: ابن عبد السلام: للأشياخ ولبعضهم أن الحاكم مخير في تعيين المبدأ منهما.
فإن قلت: فهل قوله في المدونة في تضمين الصناع إذا جهل ورثة البائع والمشتري الثمن فيبدأ بورثة المشتري مخالف للمشهور؟
فالجواب: لا، لأن الجهل عندهم يتنزل منزلة الفوات. قال في البيان: ولو اتفق المتبايعان على مقدار الثمن واختلفا في مقدار المثمون لبدِئ بالمشتري، لأنه بائع للثمن. ومثله في العتبية، وحكى عن شيوخه خلاف ذلك.
وفي كونه أولى أو واجباً قولان
أي: في كون تقدمة البائع على جهة الأولوية أو الوجوب قولان، والأقرب الوجوب، لأن الحاكم يحكم بتقدمة البائع ولا يحكم بالمندوبات. وهذا القولان ذكرهما ابن بشير وابن شاس ولم أقف عليهما، ولعلهما أخذا القولين من الخلاف المذكور في تناكلهما.
ولو تناكلا فقال ابن القاسم: يفسخ كما إذا تحالفا. وقال ابن حبيب: بما قال البائع بناء على أن تقديمه أولى أو واجب ....
أي: إذا نكل كل واحد منهما عن اليمين فقال ابن القاسم في المدونة: ينتقض البيع كما ينتقض إذا تحالفا لاستوائهما، وذكره في المدونة عن شريح قاضي علي بن أبي طال رضي الله عنهما. وقال ابن حبيب: يمضي البيع بما ادَّعاه البائع.
ابن يونس: ووجهه أن البائع أقوى، لأنه المبدأ باليمين، والأصل في كل من كان القول قوله فنكل عن اليمين أن يحلف الآخر، ويكون الأمر على ما قال، فإن نكل كان الأمر على ما قاله الأول. انتهى.
وفرق بأن يمين المدعى عليه تُسقط دعوى المدعي، ونكوله عنها يوجب يمين المدعي. وإذا نكل المدعي ترجح قول المدعى عليه، ولا يحتاج إلى يمين، لأنه قد نكل عنها أولاً، بخلاف يمين البائع فإنها تُسقط دعوى المشتري، بل يبقى مطلوباً باليمن مثلما كان البائع مطلوباً، فلا يلزم من نكوله بعد نكول البائع أن تترجح دعوى البائع عليه. وذكر عبد الوهاب قولاً آخر أن القول إذا تناكلا قول المشتري بناء على أنه مقدم باليمن. وبنى المصنف تبعاً لابن بشير وابن شاس قول ابن القاسم على أن تقديم البائع أولى، وقول ابن حبيب على أنه واجب، وفيه نظر، فإن نمنع استلزم الوجوب لقبول قول البائع، ونمنع استلزام الأولوية للفسخ.
وفي تحليفه على دعواه قولان
هذا تفريع على قول ابن حبيب، أي: إذا قلنا: البيع يمضي بما قاله البائع. فقال أكثر الشيوخ: يقضى للبائع بغير يمين. وهو مقتضى إلحاقه بسائر الدعاوى كما تقدم. وقال الباجي: لابد من اليمين الأولى لا يستحق بها ما ادعاه، لأن للمبتاع إسقاطها بيمينه، فلما نكل عنها ثم نكل المشتري لم يكن بد من يمين آخرى. قال في البيان: وهو الصواب.
وإذا حلفا افتقر على الفسخ خلافاً لسحنون
[495/أ] قال في المدونة: وإذا تحالفا ولم يحكم بالفسخ فللمشتري قبولها. وقال سحنون: بل بنفس التحالف ينفسخ العقد كاللعان. وذكر بعضهم ثالثاً: وهو بقاء العقد بينهما إلا أن يفسخاه بتراضيهما
ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يعد ثالثاً، ولا ينبغي أن يختلف فيه، وإذا تراضيا فهو كحكم الحاكم أو أشد، وهو ظاهر من كتاب الإجارات. وقيل: إن كان تحالفهما بأمر الحاكم لم يفسخ حتى يفسخه الحاكم، وإن كان بتراضيهما وقع الفسخ بمجرد أيمانهما. وقيل بعكس هذه التفرقة. ورفع عبد الحميد الخلاف بين الأولين، فحمل الأول على أن يمينهما كانت لنفي الريبة عن أنفسهما وصدقهما في دعواهما، والثاني على أن يمينهما كانت لينفسخ البيع بينهما.
وثمرته أن يرضى أحدهما بقول الآخر
أي: وثمرة الخلاف. وتصوره ظاهر.
وذكر الباجي ثالثاً أن للمبتاع أن يلزم البائع بما قال دون العكس، وحمل المدونة عليه لقوله فيها: إلا أن يشاء المبتاع.
وينفسخ ظاهراً وباطناً على الأصح
أي: إذا قلنا بالفسخ بالحكم أو بالتحالف فاختلف: هل ينفسخ العقد في الظاهر والباطن ويأثم الظالم منهما، أو في الظاهر خاصة؟ وهو في نفس الأمر منعقد على ما ادعاه المحق. وما صححه المصنف ذكر سند أنه ظاهر المذهب، ورجح الثاني بأن أصل المذهب أن حكم الحاكم لا يحل حراماً، وسيأتي بيان ذلك في الأقضية. وأجيب بأن مسألة البيع قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيها رد البيع، ورد المبيع يوجب انتقاضه، وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها في الظاهر.
فرع:
إذا بنينا على أنه إنما يفسخ في الظاهر فمن حجة البائع أن يبيع السلعة، لأنه يقول: لي في ذمة المشتري دين منعني منه، وقد عثرت على سلعة له، ولا يمكن أخذها من ديني إلا بعد بيعها، فإن ساوت مثل الثمن فلا كلام، وإن ساوت أقل بقي باقي الثمن ديناً لي عليه،
وإن ساوت أكثر رد الفضلة. وبين أصحاب الشافعي اختلاف: هل يبيع ذلك لنفسه لأجل تعذر الرفع إلى الحاكم في مثل هذا أو يتولى الحاكم البيع؟ والأشبه بظاهر مذهبنا رفعه إلى الحاكم ليتولى البيع عليه، قاله المازري. ابن عبد السلام: والذي أفهم أنا من قواعد مذهبنا أنه لا يلزمه ذلك، بل له أن يتولى البيع بنفسه.
وثمرته حل الوطء وغيره
أي: فعلى الأصح يحل للبائع الانتفاع بالمبيع وطأً وغيره، ولا يحل ذلك على القول الآخر، لأنه على ملك المشتري، إما بما ادعاه هو أو بما ادعاه البائع، وإنما بقي له دين في ذمة المشتري.
ويحلف على نفي دعوى خصمه، وقيل: مع تحقيق دعواه، فإن نكل فلابد من الثاني، ولهذا قال اللخمي: له أن يجمعهما ....
مثاله: لو ادعى البائع أنه باع بعشرة وادعى المشتري أنه اشتراها بثمانية، فيحلف على نفي دعوى خصمه، فيقول البائع: والله ما بعته بثمانية. إذا المقصود نفي دعوى الخصم، وهذا القول حكاه اللخمي، واقتصر عليه صاحب البيان، وأنكره المازري، والمشهور هو القول الثاني، وهو أن كل واحد منهما يحلف في يمين واحدة على نفي دعوى خصمه وإثبات دعواه، فيحلف البائع ما بعته بثمانية ولقد بعته بعشرة. نص عليه فيها في تضمين الصناع، وعلى هذا ففي تقديم المصنف للأول نظر.
وقوله: (فإن نكل الثاني) وهو المشتري على المشهور (فلا بد من الثاني) أي: أن يحلف البائع على إثبات دعواه، إذ لا يلزم من نفي البيع بثمانية أن يكون حصل بعشرة لجواز أن يكون وقع بتسعة. وكذلك إذا بنينا على تبدية المشتري، فإذا حلف المشتري ما اشتريت بعشرة، ونكل البائع أن يكون باعها بثمانية، فلا بد للمشتري بعد ذلك أن يقول:
ولقد اشتريتها بثمانية. ولما كان في كل من القولين راجحية من وجه ومرجوحية من آخر، فأما راجحية الأول فلأنه لم يلزم الحالف إلا بالقدر المضطر إليه، وأما مرجوحيته فلكونه ألزمه اليمين مرتين. وأما راجحية الثاني فلكونه ألزمه اليمين مرة واحدة، وأما مرجوحيته فلأنه ألزمه أولاً بنفي ما لم يلزمه. قال اللخمي: الخيرة في ذلك للحالف، فإن شاء قلل الأيمان على نفسه فجيمعها أولاً، وإن شاء التزم تكرار اليمين فيحلف أولاً على النفي ويؤخر يمين الإثبات حتى ينكل صاحبه.
والاختلاف في الرهن والحميل كذلك
أي: كالمقدار. فتجئ الأربعة الأقوال وما يتعلق بذلك من الفروع، لأن الثمن يزيد بعدمهما ويقل بوجودهما، وهذا هو الظاهر. وإن كان وقع في المذهب ما يدل على أن الرهن لا حصة له من الثمن، كما سيأتي في باب الرهن.
وإذا اختلفا في تعجيله وتأجيله حكم بالعرف، فإن لم يكن فكذلك، وقيل: القول قول البائع. وقيل في البعيد والقريب كذلك ....
أي: قال البائع بعته بنقد، وقال المشتري: بل بنسيئة، فالقول قول من ادعى العرف مع يمينه إن كان عرف، وإن لم يكن عرف فكذلك، أي: يتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت، هكذا نقل ابن بشير هذا القول، وقال: إنه الأصل. وعلى هذا فكلامه يشتمل على ثلاثة أقوال. ويحتمل [495/ب] أن يريد بقوله: وإن لم يكن عرف فكذلك، أي: كالاختلاف في الثمن فتأتي الأربعة الأقوال.
وعلى هذا الوجه اقتصر ابن عبد السلام، ويكون قوله:(وقيل) قولاً خامساً.
ويترجح هذا بأن الغالب من كلام المصنف إذا قال كذلك أنه يريد الاختلاف في قدر الثمن، ويرجح الأول موافقة ابن بشير، وأيضاً فلأن قوله في القول الآخر، وقيل: في
البعيد والقريب كذلك، إنما يمكن فهمه على أن المراد يتحالفان ويتفاسخان، ولا يمكن أن يريد فتأتي الأربعة الأقوال، لأنه يقال: إن في قوله تفصيلاً مشتملاً على أربعة أقوال.
وقوله: (وقيل: القول قول البائع). ابن عبد السلام: ظاهره سواء كانت السلعة قائمة أو فائتة، وسواء كان فيها عرف أو لم يكن، وهذا يشبه قول ابن القاسم في كتاب الرهن. انتهى. وهو منصوص لمالك في الواضحة من رواية مطرف أن البائع مصدق مع يمينه فاتت السلعة أو لم يفت.
قوله: (وقيل في البعيد) أي: وقيل: إن القول قول البائع في الأجل البعيد، وأما القريب فكذلك، أي: فيتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت كالاختلاف في قدر الثمن، هكذا نقل ابن بشير وصاحب الجواهر هذا القول.
تنبيه:
مقتضى كلام ابن بشير وابن شاس أن القول الثاني ليس خلافاً للأول، لأنهما لما قالا: وقيل: القول قول البائع. وهو بناء على أن العادة التعجيل.
واعلم أن مسائل الأجل ثلاثة:
الأولى: أن يختلفا في أصل الأجل، وهي هذه المسألة.
الثانية: أن يتفقا عليه ويختلفا في انقضائه، وهي الآتية، أعني قوله:(وإذا اختلفا في انتهائه).
والثالثة: أن يختلفا في مقداره، كما لو قال: بعتك إلى شهر. وقال المشتري: بل إلى شهرين.
المازري: فيجري فيه الخلاف الذي في مقدار الثمن. قال: ولم يختلف المذهب في هذا، وحصل في البيان المسألة على غير هذه الطريقة، وجمع في المسائل الثلاث ثمانية أقوال:
أحدها: رواية ابن وهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها إلى المبتاع كان القول قوله سواء أقر بأجل أو لم يقر به، وهو اختيار سحنون.
الثاني: يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها إلى المبتاع كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل، والقول قول المبتاع إن أقر به.
الثالث: يتحالفان ويتفاسخان، وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل، وقول المبتاع إن تقاررا على الأجل أو اختلفا فيه، وهذا أحد قولي مالك وابن القاسم، وهو المشهور عنه.
الرابع: يتحالفان ويتفاسخان، وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت، فإن فاتت فالقول قول المشتري وإن لم يقر المبتاع بالأجل، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ.
الخامس: أن القول قول المشتري إذا ادعى من الأجل ما يشبه- كانت السلعة قائمة أو فائتة- وروى هذا عن ابن القاسم.
السادس: أن البائع إن لم يقر بأجل كان القول قوله ما لم يدفع السلعة، فإن دفعها كان القول قول المشتري.
السابع: أن البائع إذا لم يقر بأجل فالقول قوله، وإن دفع السلعة ما كانت قائمة فإن فاتت كان القول قول المشتري، وروى أيضاً هذا القول عن ابن القاسم، وهو قول العراقيين.
الثامن: أن القول قول البائع إن لم يقر بأجل كانت السلعة قائمة أو فائتة، وإن أقر بأجل كان القول قول المشتري كانت السلعة أيضاً قائمة أو فائتة فلا يتحالفان ولا يتفاسخان في شيء، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه.
وإذا اختلفا في انتهائه فقط فالقول قول منكر التقضي
أي: إذا اتفقا على الأجل واختلفا هل انقضى أم لا؟ كما لو اتفقا أن البيع وقع إلى شهر واختلفا هل انقضى أم لا؟ وذلك مستلزم لاختلافهما في أوله، وكان القول قول منكر التقضي، لأن الأصل ألا معاملة بينهما إلا بعد الثبوت. وفي تضمين الصناع: وإن تصادقا على أن الأجل شهران وادعى البائع حلوله وأنكر المبتاع حلف المبتاع وصدق. زاد في الواضحة عن ابن القاسم: وكذلك إن اختلفا في مقداره.
واعلم أن قول المصنف: (منكر التقضي) أعم فائدة من قول غيره "قول المبتاع"، لأن المبتاع كما ينكر التقضي كذلك أيضاً قد ينكر المسلم التقضي، فيكون القول قوله، وكذلك يتصور فيما فيه ضمان.
وإذا اختلفا في قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما، ويحكم بالعرف في بعضها كاللحم والبقل إذا بان به، وكغيرها إذا طال الزمان طولاً يقضي العرف بخلافه، ويرجع إلى العوائد ....
يعني: إذا اختلف المتبايعان في قبض الثمن بأن يقول البائع: ما قبضته، ويقول المشتري: بل أقبضتكه، أو السلعة بأن يقول المشتري: لم أقبض السلعة، ويقول البائع: أقبضتها لك- فالأصل بقاؤهما، أي: بقاء الثمن في ذمة المشتري وبقاء السلعة في يد البائع، لأن الأصل عدم خروج الثمن من ذمة المشتري إلا ببينة أو إقرار، وكذلك المثمون الأصل بقاؤه بيد البائع، ثم ذكر أن العرف أن العرف يقدم على الأصل في مثل اللحم والبقل، وشبه هذه الأشياء في المدونة بالعرف، إذ العرف في مثل هذه الأشياء إعطاء الثمن قبل التفرق.
وحكى المازري الاتفاق على اعتبار العادة هنا، وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في هذه الأشياء [496/أ] بين أن تكثر أو تقل، وهو قول ابن أبي زمنين، ونقله عن ابن القاسم، وأنكر ذلك يحيي بن عمر فيما كثر، وجعله كسائر السلع القول فيه قول البائع.
وقيد المصنف كون القول قول المشتري بالبينونة كالمدونة لاتفاق المذهب على رجحان قول المشتري حينئذٍ، ومفهومه أنه لا يقيد قبلها، وفيه تفصيل إذا قال: دفعته إليه بعد قبض الرطب، فالقول قول الرطَّاب باتفاق، وإن قال: دفعته قبل قبض الرطب فثلاثة أقوال:
أحدها: أن القول قول البائع، وهو ظاهر قول مالك في العتبية.
والثاني: أن القول قول المبتاع، رواه ابن القاسم في الموَّازيَّة.
الثالث: أن القول قول المشتري في كل ما الشأن فيه قبض ثمنه قبل قبض المثمون، وهو قول ابن القاسم في الموَّازيَّة، حكاه ابن رشد. وحكى غيره في المسألتين قولين سواء قال: دفعته قبل قبض الرطب أو بعده، أما إن لم يقبض المشتري المثمَّن وادعى أنه دفع الثمن فلا خلاف أنه لا يعتبر قوله:
وقوله: (وكغيرهما) أي: وكذلك القول قول المشتري في غير البقل واللحم كالدور والعروض مما لم يجر العرف فيه بالقبض، بشرط الطول لشهادة العرف حينئذٍ، لأن البائع لا يصبر إلى مثل هذا الزمان، وهذا هو الأصل أنه يرجع إلى العرف، ووقع في الرواية التحديد بالزمان، فمن ذلك ما قاله ابن حبيب: أما الرقيق والدور والدواب والرباع وشبه ذلك مما لا يباع على الدين ولا على التقاضي، فالقول قول البائع في عدم القبض ما لم يمض لذلك السنة والسنتان، فالقول قول المبتاع ويحلف.
وأما التجارات مما يباع على التقاضي والأجل فالقول قول البائع، ما لم يمض لذلك عشر سنين أو أقل من ذلك مما لا يباع ذلك إليه، فيصدق المبتاع ويحلف. وروى ذلك مطرف وقال به. وساوى ابن القاسم بين البز والربع وغيره مما عدا الحنطة والزيت، وجعل القول قول البائع في ذلك كله وإن بعد عشرين سنة حتى يجاوز الوقت الذي يجوز البيع إليه.
ابن محرز وابن يونس وغيرهما: والأصل في هذا أن يحمل على العرف في تلك السلعة ويقضي به، وإلى هذا أشار المصنف بقوله:(ويرجع إلى العوائد). وكذلك قال ابن بشير: إن حظ الفقيه أن يحيل على العوائد.
والمثمون كذلك
يحتمل أن يريد: وإن اختلفا في قبض المثمون فكذلك، أي: الأصل بقاؤه. لكنه تكرار لقوله في صدر المسألة: (أو السلعة).
والظاهر أنه يريد: والاختلاف في قدر المثمون كذلك، أي: ففيه الأربعة الأقوال، وهكذا نص عليه المازري. ويؤيده أن الإشارة في كلامه بـ (ذلك) غالباً إنما هي في الخلاف. ويؤيده أيضاً قوله بعد هذا: والاختلاف في قدر المسلم فيه كالاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع. فشبه بقدر المبيع، ولم يتقدم له ذكر إلا في هذا الموضوع على هذا الحمل. ولا يقال: التشبيه في كلامه لإفادة الحكم، لأنه قد يفعل ذلك لأنا نقول: التشبيه على ما تقدم هو الأغلب فهو أولى، والله أعلم.
وإشهاد المشتري بالثمن مقتض لقبض المثمون عرفاً على المشهور
أي: إذا أشهد المشتري على نفسه بتقرر الثمن في ذمته فذلك موجب لقبض السلعة لشهادة العرف بذلك، فإذا ادعى بعد ذلك أنه لم يقبض السلعة فالقول قول البائع على المشهور، وهل يحلف؟ قال أشهب في العتبية: يحلف إن كان بحضرة البيع والإشهاد.
قال: وأما إن كف حتى حل الأجل، فقال: لم أكن قبضت السلعة، فلا قول له ولا يمين، والشاذ لابن عبد الحكم أن القول قول المبتاع في عدم القبض.
فرع:
يشبه هذا في ترجيح الفرق إذا أشهد البائع على نفسه بقبض الثمن. ثم قام يطلبه وقال: إنما أشهدت على نفسي ثقة مني بالمشتري. فهل يحلف المشتري له؟ فقال ابن المواز:
يحلف، وأطلق. وروى ابن حبيب عن مالك وأصحابه أنه لا يحلف. وقال ابن حبيب: إلا أن يأتي بسبب يدل على ما ادعاه أو يتهم فيحلف.
والأكثرون على أن البائع إن قام على المشتري بقرب البيع حلف، وإلا فلا، إلا أن يكون بين المتبايعين قرابة أو صداقة تشبه معها دعوى البائع، فيحلف له المشتري، وإلا لم يحلف.
خليل: وانظر هل يتخرج قول ابن عبد الحكم هنا، أو تتخرج الأقوال التي هنا في اليمين في المسألة السابقة أم لا؟
وإذا اختلفا في الخيار فثلاثة: البت المشهور، والخيار، وكالثمن
أي: إذا ادعى أحدهما أنه وقع على البت والآخر على الخيار فثلاثة أقوال:
المشهور: أن القول قول من ادعى البت، لأنه الغالب من بيوع الناس.
الثاني لأشهب: أن القول قول مدعي الخيار، لأن الأصل عدم انتقال الملك. ابن بشير: وبه كان يفتي من حقق النظر من أشياخي.
والثالث لبعض الشيوخ: أن ذلك كاختلاف المتبايعين في مقدار الثمن، لأن الثمن يختلف بالكثرة والقلة لاختلاف أحوال البيع من بت وخيار.
وإذا اختلفا في الصحة، ففيها: القول قول مدعيها، وقيل: إن غلب الفساد فالقول قول مدعيه، وكذلك قال سحنون في المغارسة: القول قول مدعي الفساد ....
إذا اختلفا في الصحة والفساد فالمشهور وهو مذهب المدونة أن القول قول مدعي الصحة مطلقاً، وقيده ابن أبي زيد وغيره بأن يكون اختلافهما في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في مقدار الثمن، كقول أحدهم: البيع وقع [496/ب] يوم الجمعة، والآخر ينكره، وأما إذا أدى إلى الاختلاف فيه فيجري على حكم الاختلاف في الثمن.
وفي ابن بشير: إن لم يؤد إلى الاختلاف في مقدار الثمن فالقول قول مدعي الصحة. وإن عده بالاختلاف في مقدار الثمن فطريقان:
إحداهما: أنه يعطى حكم الاختلاف في الثمن.
والثانية: حكم الاختلاف في الصحة والفساد.
وإذا قلنا أنه كالاختلاف في الثمن فهل يتحالفان أو يحلف أحدهما؟ قولان: ظاهر ما في الموَّازيَّة أنهما يتحالفان كالاختلاف في قدر الثمن. وقال المتأخرون: بل تقال الأيمان. وإذا قلنا بهذا فهل يبدأ بيمين مدعي الصحة رجاء أن ينكل فيفسخ البيع، أو يبدأ بيمين مدعي الفساد فإن نكل تم البيع من غير يمين؟ لهم في ذلك طريقان. وغرض الجميع تقليل الأيمان. انتهى.
وكان القول لمدعي الصحة، لأنها الغالبة في التعامل بين المسلمين، أو لأن البيع الصحيح هو الحقيقة. وعلى الأول فينبغي أن يكون القول الثاني تقييداً للأول ليس بخلاف، وهو قول عبد الحميد. واحتج بقول سحنون في المغارسة: القول قول مدعي الفساد فيها، لأن الغالب فسادها في زمانه. وبقول ابن القاسم في المدونة في الزوجة إذا أرخى الستر وادعت أنه وطئها فالقول قولها، ولو كان ذلك في نهار رمضان الذي لا يحل الوطء فيه، لأن الغالب مبادرة الزوج حينئذٍ إلى الوطء. ولأن ابن القاسم وافق على مسألة المغارسة في رواية حسين وأبي زيد، ولم ينقله في الجواهر على أنه خلاف كما فعل المصنف، والله أعلم.
تنبيه:
اعلم أن في اختلاف المتبايعين طريقين:
الأولى: للمتأخرين، وهي ما حكاه المصنف.
والثانية: لابن القصار سوى فيها بين اختلافها في مقدار الثمن والمثمون وبين الاختلاف في الأجل والرهن والكفيل والبت، وذكر في الجميع ثلاث روايات، وأسقط من الأربعة المتقدمة رواية ابن وهب الثانية اعتبار البينونة مع القبض، ورواها الطرطوشي.
والاختلاف في السلم كذلك إلا أن المسلم إليه في قبض رأس المال إن كان عرضاً كالمشتري في النقد في قبض السلعة وفي فواتها ....
يحتمل أن يشير بذلك إلى اختلافهما في الصحة والفساد، أو اختلافهما في مقدار الثمن، أو إلى جميع ما تقدم، وعلى هذا فيحلف إذا اختلفا في القدر ويتحالفان ويتفاسخان إذا اختلفا في الجنس، وقد صرح في المدونة بذلك، وعلى هذا فلا بد من تخصيص كلامه بما عدا الاختلاف في مقدار المسلم فيه، فإن المصنف سيذكره، وهذا هو الظاهر. ولما كان التشبيه يقتضي أن المسلم هو المشتري وأن المسلم إليه هو البائع، بين أن الأمر هنا على العكس، فبين أن المسلم إليه هنا كالمشتري والمسلم كالبائع.
وإنما قلنا: إنه جعل المسلم إليه هنا كالمشتري، لأنه ذكر أنه يترجح قوله بالقبض، ثم شرط في قبض رأس المال المرجح لقول المسلم إليه أن يكون عرضاً، ثم بين ما يلحق فيه، فقال:(في قبض السلعة وفواتها). وفي اقتصاره على هذين القولين نظر، بل ينبغي أن يقول: فتأتي الأربعة الأقوال، وفيه أيضاً نظر آخر، لأن تقييده بالعرض يوهم أن العين ليس كذلك، فعلى هذا لو قبض المسلم إليه رأس المال وهو عين لاتفق على أنه لا يكون القول قوله وليس كذلك، بل القول قوله على رواية ابن وهب في الترجيح بالقبض، وتأتي بقية الأقوال وقد نص على ذلك المازري وسند، ولا خلاف بين العرض وغيره إلا فيما يقع به الفوات، ففي العرض بحوالة الأسواق فأعلى، وفي العين خلاف نبه عليه بقوله:
وإن كان عيناً ففي وقت فواته ثلاثة: طول الزمان الكثير، أو طول ما أو غيبته عليه ....
الأول من الثلاثة هو المشهور، والثاني ذكره ابن رشد، والثالث للتونسي، قال: والأشبه أنه لا فرق في الدنانير والدراهم بين كثير الطول وغيره، لأن الغيبة عليها تُفِيت عينها.
والاختلاف في قدر المسلم فيه كالاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع ....
أي: إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في قدر المسلم فيه مع اتفاقهما في جنسه وصفته فذلك جار على الاختلاف في قدر الثمن في النقد أو قدر المبيع، فإن كان قبل قبض رأس المال تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعد قبضه فالأربعة الأقوال، وفي المدونة: القول قول المسلم إليه عند حلول الأجل إذا ادعى ما يشبه، وإلا فللمشتري إن ادعى ما يشبه، فإن ادعيا ما لا يشبه فقال ابن القاسم في المَّوازيَّة: يحملان على الوسط من سلم الناس يوم تعاقدا.
المازري: وهو المشهور. وقال في الأَسْدِيَّة مرة بهذا مرة بهذا وأخرى بأنهما يتحالفان ويتفاسخان.
تنبيه:
وقوله في المدونة القول قول المسلم إليه عند حلول الأجل، قال ابن المواز: وأما إن اختلفا بقرب مبايعتهما فيتحالفان ويتفاسخان.
وقال ابن حبيب: إذا اختلفا قبل الأجل في كيل الطعام صدق البائع إلا أن يأتي بما لا يشبه فيصدق المبتاع وإلا حمل على الوسط.
ابن يونس: ظاهر هذا خلاف قول محمد، إذ قد يكون اختلافهما بقرب مبايعتهما وقد لا يكون، وابن حبيب لم يفصل وابن أبي زيد حمله على الوفاق.
وإذا اختلفا في الموضوع صدق مدعي موضع العقد، وإلا فالبائع لأنه كالأجل، فإن تباعدا ولم يشبه واحد منها تحالفا ....
[497/أ] أي: فإن اختلفا في الموضع الذي يقبض فيه السلم، فإن ادعى أحدهما موضع العقد فالقول مع يمينه مطلقاً على المشهور، وهو مذهب المدونة، وقال سحنون: القول للبائع، ولو ادعى خلافه لأنه غارم. وقال أبو الفرج: يتحالفان ويتفاسخان إذا ادعيا ما يشبه، ولو ادعى أحدهما موضع التعاقد. وهذا إنما إذا كان اختلافهما بعد فوات رأس المال، وإلا تخافا وتفاسخا، نص على ذلك المازري وغيره وقد أهمله المصنف.
وما هو الفوات؟ فسره المازري بطول الزمان، فقال: فإن وقع الفوت بطول الزمان وفسره سند بالقبض، وهو ظاهر المدونة في هذه المسألة، ونصها: قلت أرأيت إن اختلف المسلم إليه ورب السلم في الموضع الذي يقبض الطعام فيه فقال المسلم إليه: إنما قبضت منك دراهمك على أن أعطيك الطعام في الفسطاط، وقال الذي له السلم: إنما دفعت إليه على أن أقبض منك في الإسكندرية، فالقول قول البائع، لأن الموضع كالآجال. وظاهره اعتبار القبض.
قوله: (وإلا) أي: وإن لم يدَّع منهما واحد موضع العقد فالقول للبائع، هو المسلم إليه، لأنه غارم كما أن القول قوله إذا اختلفا في الأجل، لأن اختلاف البلدان كاختلاف الآجال خلافاً لأبي الفرج، وإنما يكون القول قول البائع إذا أشبه قوله فقط أو أشبه ما قال كل واحد منهما، وأما إن لم يشبه إلا قول المشتري وحده فيعمل على قوله، وأما إن ادعيا معاً ما لا يشبه فقد نبه عليه بقوله:(فإن تباعدا) ولم يشبه قول واحد منهما، أي: وإن تباعدا في دعواهما فإن ادعى كل واحد منهما موضعاً بعيداً تحالفاً وتفاسخا. قاله في المدونة والموَّازيَّة والواضحة، لأنه وإن كان الأصل أن يعمل على قول المسلم إليه إلا أن العرف كذبه.
تنبيه:
ما ذكره من قوله: (وإلا فالبائع) لأنه كالأجل صحيح، وقد نص عليه في المدونة كما ذكرنا، لكن يبقى في كلام المصنف نظر، لأنه لم يقدم في الأجل أن القول قول البائع إلا على القول الشاذ فلا تصح الإحالة عليه.
…
انتهى المجلد الخامس
من كتاب التوضيح
للشيخ خليل بن إسحاق الجندي
ويليه المجلد السادس وأوله
كتاب السلم