الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
الحضانة
في النساء: للأم، ثم أمها، ثم جدة الأم لأمها، ثم الخالة، ثم الجدة للأب، ثم جدة لأبيه، ثم الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخت ....
تصوره ظاهر، وقدم بعضهم على بعض على نحو ما ذكره المصنف، لقوة الشفقة في المقدم، ولهذا قال اللخمي: لو عُلِمَ مِمَّنْ قدمناه قلة الحنان، والعطف لخلق بجفاء أو قسوة أو لأمر بينها وبين أم الولد أو أبيه، وعُلِمَ من أحدٍ مِمَّنْ أخرناه الحنان والعطف، لقدم على من علم منه القسوة أو غير ذلك.
وذكر المصنف بينت الأخت، وأسقط بينت الأخ، وهي التي في التهذيب وفي اختصار ابن يونس بعد الأخت، ثم بنت الأخت ثم العمة ثم بنات الأخ، ولم يجعل لبنت الأخت ولا لبنت الخال، ولا لبنت العمة ملك في الواضحة حقاً في الحضانة.
اللخمي: ومعناه في العصبة وإلا فهم أحق من الأجنبيين، واستبعد ابن محرز وابن رشد وغيرهما ما في الواضحة لأن بنت الأخت رحم محرم، ولهذا قيل: بل تقدم بنت الأخ عليها للاتفاق عليها. وقيل: هما [426/ب] سواء ينظر في أحرزهن وَأَكْفَئِهِنَّ. ونص عبد الوهاب واللخمي وصاحب المقدمات وغيرهم أن الأخت الشقيقة مقدمة على التي للأب، وكذلك الخالة والعمة، وكذلك يقدم الأخ للأم على الذي للأب، بل قيل إسقاط الأخ للأب، وروي عن مالك وابن القاسم في كتب المدنيين أنه لا حق للأخت للأب، لأن التعاطف بين الأختين للأم، والشنآن بينهما إذا كانتا للأب لاختلاف ما بين أمهاتهم. قال في المقدمات: وإنما تستوجب الحضانة بوصفين:
الأول: أن تكون ذات رحم. والثاني: أن تكون محرمة عليه. فإن كانت ذات رحم منه ولم تكن محرمة عليه كبنت الخالة، وبنت العمة وما أشبههما لم يكن لها حق في الحضانة، وكذلك إن كانت محرمة عليه، ولم تكن ذات رحم منه كالمحرمة عليه والمصاهرة والرضاع.
وفي إلحاق خاله الخالة بالخالة قولان
يعني: اختلف على قولين: هل لخالة الخالة حق في الحضانة أو لا؟ وهي أخت الجدة للأم، قيل: وكذلك عمة العمة، وهي أخت الجدة للأب. ومذهب ابن القاسم إلحاق خالة الخالة بالخالة، وقدمها على الجدة للأب، واستشكله اللخمي.
ابن عبد السلام: وفي عبارة المؤلف قلق، لأن القول بعدم إلحاق خالة الخالة لا يلزم منه سقوط حقها مطلقاً، لما علمت أن عدم إلحاقها بالخانة أعم من سقوطها بالكلية.
وفي المذكور: للأب ثم الأخ ثم الجد ثم ابن الأخ ثم ابن العم ثم المولى الأعلى والأسفل على المشهور فيهما ....
الترتيب بين الحاضين على ثلاثة أوجه بين النساء بانفرادهن، وبين الرجال بانفرادهم، وبينهما. ولما تلكم على الأول أتبعه بآخرين.
والترتيب الذي ذكره المصنف ذكره ابن المواز أن أحق العصبة الأخ بعد الأب، ثم الجد ثم ابن الأخ ثم العم. قال في المقدمات: فيحتمل أن يريد أن الجد وإن علا أحق من ابن الأخ والعم، ويحتمل أن يريد أن أحق الناس بالحضانة من العصبة الأخ، ثم الجد الأدنى ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم وإن سفل الأقرب فالأقرب ثم أبو المجد ثم عم العم ثم ابن عم العم، وإن سفل الأقرب فالأقرب ثم جد الجد، ثم ولده ثم ولد جد الأب، ثم ولده على هذا الترتيب.
قال: فترتيب الحضانة يسن لحي على ميراث المال ولا على ميراث الولاء، والصلاة على الجنائز لأن الجد وإن علا أرفع مرتبة في الميراث من الأخ، ولأن بني الإخوة يسن لهم حق مع الجد وإن علا، وابن الأخ في باب الولاء أحق من الجد
اللخمي: ولم أر للجد للأم في الحضانة نصاً، وأرى أن له في ذلك حقاً، لأن له حناناً، ولهذا غلطت الدية فيه، وأسقط عنه القود، وفي الوثائق المجموعة: إن اجتمع الجدان فالجد للأب أولى من الجد للأم. وهو قول ابن العطار، ونص في المقدمات على أنه لاحق له، ثم المولى الأعلى- أي بعد العصبة- وهو المعتق والأسفل يريد بعد الأعلى نص على ذلك اللخمي: على المشهور فيهما، أي في الأعلى والأسفل.
والمشهور مذهب المدونة إثبات الحضانة لهما. وقال ابن محرز: لا حق في الحضانة للمولى الأعلى إذ لا رحم له. وعلى قوله فلا حق للأسفل من باب الأولى.
اللخمي: ومن شرط من له الحضانة من الرجال وجود الأهل من زوجة أو سرية، قال: وهذا في الذكر، وأما الأنثى فحق الأولياء في حضانتها على ثلاثة أقسام: ثابت، وساقط، ومختلف فيه. فيثبت فيمن بينهن وبين محرم كالأخ وابنه والجد، ويسقط في كل من ليس بمحرم إذا كان غير مأمون أو مأموناً، ولا أهل له، لقوله عليه الصلاة والسلام:((لا يخلُ رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم)).
واختلف إذا كان مأموناً وله أهل، فقال في الموازية في الصبيةِ تتزوجُ أمُها، ولها جد وعم لهما أن يأخذاها، وأما الوصي فليس بينه وبينها محرم، وتكون مع زوج أمها لأنه صار كالمحرم منها إلا أن يخاف عليها عنده، فيكون الوصي أولى بها.
وقال أصبغ: الوصي أولى بها من الأم إذا تزوجت، ومن العم فالإناث وإن كن قد بلغن أبكاراً، والأولياء إذا لم يكن بينهم وبينها محرم كالأوصياء. وقول مالك أصوب، لأنه لا ينفك مَنْ تكون في ولايته أن يطلع منها على ما لا يحل، لأن طول الصحبة والتربية يسقط التحفظ، وهذا فيمن بلغ منهن حد الوطء، وأما فيمن كان صغيراً فيصح أن يقال يكفلها الوصي إلى أن تبلغ حد الوطء فتزوج، ويصح أن يقال بمنع ذلك لما عليها من الضرر في التنقل من قوم إلى قوم لأنها يشق عليها نقلها عمن ألفته، وما ذكره من أول
الفصل أن شرط الرجل في الحضانة أن يكون له أهل هو قول مالك في مختصر ابن عبد الحكم إذا تنازع الأب والخالة في الحضانة، الأب أولى إذا كان عنده من يحضنه فراعى أهله لأنهن العمدة في القيام بالأطفال، والغالب من الرجال التصرف، فإذا لم يكن لهم من يكفلهم ضاعوا، انتهى.
وقول مالك: (إذا كان عنده من يحضنه) أحسن من قول اللخمي: (إذا كان عنده زوجة أو سرية)، لصدق كلام مالك على ما إذا كانت أمة للخدمة أو قرابة، لأن الغرض من يقوم بمصالح الصبي. المتيطي:[427/ا] ولمالك في المدونة: الوصي أحق بالولد إذا نكحت الأم وليس له جدة ولا خالة.
بعض القرويين: أراه يريد الولد الذكر. قال في الموازية: ولا يأخذ الأنثى إذ ليس بينه وبينها محرم. فجعل بعض شيوخنا ما في الموازية تفسيراً لظاهر المدونة، وظاهر المدونة محتمل، لأن لفظ الولد والصبيان يقع على الذكور والإناث.
والأم ثم أمها أولى من الجميع
هذا هو الوجه الثالث، أعني إذا اجتمع الرجال والنساء، وقوله من الجميع، أي جميع الرجال والنساء، وحكى اللخمي والمتيطي وابن رشد وغيرهم الاتفاق على ذلك.
وفي الأب مع بقيتهن. ثالثها المشهور: يقدم على من بعد الجدة للأب
القول بتقدمة الأب على من عدا الأم وأمها لمالك في الموازية، والقول بتقدمة الجميع عليه لمالك في الواضحة. والمشهور مذهب المدونة: يقدم على من بعد الجدة للأب، فيقم على الأخت وما بعدها، وتقدم الجدة عليه، ولو كانت نصرانية. وزاد اللخمي رابعاً لابن القاسم في كتب المدنيين أن الخالة تبدأ على الأب ويبدأ هو على أمه. وزاده غيره خامساً أن الأب يقدم على من عدا الأم، والجدة إن لم يكن مسلمات، وإن كن قدمن عليه، ونقل عن
أشهب. وذكر في المقدمات في تقديم الأب على جميع قرابته أو تقديمهن عليه أو تقديمه على من عدا الجدة من قبله ثلاثة أقوال.
وقيل: الأب أولى من الأم عند إثغار الذكور
يعني: فأحرى أن يكون مقدماً على غيرها، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك، ووجهه أن احتياج الولد إلى أبيه بعد الإثغار أكثر، لأنه يحتاج حينئذ إلى التربية والتعليم. واستحسن ابن القصار وابن رشد وغيرهما من الشيوخ استهام الأبوين على الذكر إذا أثغر على ما وقع في بعض الآثار، وذهب إليه بعض العلماء خارج المذهب، وذهب الشافعي إلى أن الولد الذكر يخير بين أبويه، واختاره بعض الشيوخ، وترجح في الأنثى إذا كانت عند غير الأم.
وبقية النساء أولى من بقية الذكور
ابن عبد السلام: لا خلاف في هذا في المذهب. اللخمي: وكل من ذكر أنه له حظاً في الحضانة فليس ذلك بواجب عليه، وهو في ذلك بالخيار من أب أو غيره، لأن لكل حناناً وعطفاً، ما خلا الأم. واختلف هل تخير أم لا؟ أي بناء على أنه حق لها، أوله ابن محرز، والصواب عندي أنه حق مشترك بين الحاضن والمحضون.
وأم الولد تعتق كالحرة الأصلية على الأصح
يعني: إذا عتق أم ولده- وله منها ولد- فإنها أحق بحضانة ولدها على الأصح. والأصح هو مذهب المدونة، ووجهه أن الفرقة حصلت بين الأبوين بالعتق هنا، كما حصلت بالطلاق. وقال ابن وهب: لا حضانة لها. قال: وإنما ذلك للحرة يطلقها زوجها.
كالأمة المتزوجة في ولدها الحر يعتق
قوله: (يعتق) - بالياء المثناه من تحت- عائد على الولد، قال في المدونة: وإذا أُعتق ولد الأمة وزوجها حر فطلقها فهي أحق بحضانة ولدها، إلا أن تباع إلى بلد غير بلد الأب، فالأب أحق به، أو يريد الأب انتقالاً إلى غير بلده فله أخذه.
محمد: وكذلك أيضاً إذا تزوجت الأم فالأب أحق به. قيل: وظاهر المدونة خلافه، وفيه نظر، وليس في المدونة ما يؤخذ منه أنها إذا تزوجت لا تسقط حضانتها، وإذا سقطت حضانة الحرة بالتزويج فالأمة أولى، وأسقط المصنف حرف العطف من قوله:(كالأمة) لأنه قصد بذلك الاستدلال على مسألة أم الولد، وذلك لأن الأمة المطلقة إذا لم يسقط حقها في الحضانة فالحرة التي كانت أم ولد وعتقها سيدها أَولى لأن الحرة أقوى على صيانة ولدها من الأمة.
واستشكل اللخمي وجوب الحضانة للأمة، لأنها مقهورة مشغولة بحق ساداتها، وإذا سقطت حضانة الحرة بالتزويج لما يتعلق بها من حقوق الزوجية، فالأمة أولى لأن سلطنة الرق أقوى من سلطنة الزوجية. وقد جنح مالك إلى هذا المعنى في مختصر ما ليس في المختصر، فقال: إذا أُعتق الصغير وأمه مملوكة وأمها حرة فتنازعاه، فأمه أحق به- دنيا-، إلا أن يكون ذلك مضراً به. فقوله:(مضراً به) جنوح منه إلى النظر فيمن كان في الرقم. وإلى هذا الإشكال أيضاً ذهب ابن رشد، فقال: القياس أن تكون الجدة الحرة أحق بالحضانة من الأم من أجل سيدها، كما إذا تزوجت الأم. قال: وإنما جعل الأم أحق، أي: في مسألة المختصر، لأنه رأى ألا يفرق بينه وبين أمه ورآها أحق بحضانته من الجدة الحرة، لأن سيده هو الذي ينفق عليه من أجل أنه أعتقه صغيراً، ألا ترى أن من قول مالك وغيره في المدونة وغيرها أن من أعتق صغيراً وأمه عنده أنه لا يبيعها إلا ممن يشترط عليه نفقته ليكون مع الأم في نفقة سيدها.
ابن هارون وابن عبد السلام: إنما يتم هذا لو كان زمان الحضانة هو الزمان الذي ينفق فيه السيد على عبده، والزمان الذي لا يعرف بينه وبين الأم وولدها المعتق، وهي أزمنة ثلاثة: زمان الحضانة في الذكر إلى الاحتلام، وزمان النفقة على هذا المعتق أقل الأجلين، إما بلوغ الحلم، وإما بلوغه قدر ما يسعى فيه على نفسه، والزمان الذي لا يفرق فيه بين الأم [427/ب] وولدها الإثغار على ما عرف في المذهب. فالجواب على إشكال اللخمي أن المرأة إذا تزوجت حصل بين زوجها الثاني وبين مطلقها بعض العداوة له ولولده فَنُزعَ الولد من الأم لهذا المعنى بخلاف الأمة فإنها وإن شغلت بخدمة ساداتها لا يبغضون ولدها كما يبغضه الزوج، ولا سيما إن كانوا هم الذين أعتقوه. وينبهك على ما أشرنا غليه من البغض ما لمالك في الموازية: إذا نكحت الأم فالجدة للأم أولى بحضانة الولد إذا كان لها منزل تضمهم فيه، ولا تضمهم مع أمهم. وقال سحنون في أسئلة ابن حبيب: إذا كانت الجدة لا زوج لها وهي ساكنة مع ابنتها في دار زوجها الثاني لم يلزمها الخروج من الدار، ولم يكن للزوج حجة في بقاء الولد مع الأم والزوج الثاني في موضع واحد.
ابن هشام: وبما في الموازية أفتى ابن العواد، وهي الرواية المشهورة عن مالك وأصحابه، ولعل سحنوناً أراد الصبي لأنه لا كشفة فيه، وقد يقول في الصبية الكبيرة أن أباها يكره اطلاع زوجها عليها، ويمكن أن يكون ما قاله مالك في الموازية ليس معللاً بالبغض، بل لأن للأب كما قال في المدونة تعاهد الولد عند الأم وأدبهم وبعثهم إلى المكتب، ولا يبيتون إلا عندها، فإذا سكنت الحاضنة عند أمهم لم يكن للأب تعاهدهم عندها بسبب ما يحدث بذلك مما لا يخفى.
والأب والوصي أولى من جميع العصبة على المنصوص، ويسافر بهم سفر نقله، وقيل: كولي النكاح ....
يعني: أن الذي نص عليه في الرواية أن الوصي أولى من سائر العصبة.
ابن بشير: وينبغي أن يجرى الأمر على قولين، هل يكون مقدماً أو غير مقدم. وقد قدمنا في الصلاة على الميت وفي ولي النكاح ما يقتضي الخلاف في هذا الأصل، وهي أن هذه الحقوق هل تكون كالحقوق المالية، فلمالكها أن يتصرف فيها وينقلها إلى غيره، أو لا تكون كالحقوق المالية لأنه إنما ملك بسبب موجود فيه، لا في المنقول إليه؟
وهذا معنى قوله (وقيل: كولى النكاح) وعلى هذا فيكون قوله: (وقيل: كولى النكاح) مقابل المنصوص، وكان ينبغي أن يبين أن هذا القول مخرج، وعلى هذا فقوله أولى على المنصوص، أي: ومقابله لاحق له في الولاية، وإن كان لفظه يحتمل أن له حقاً في الولاية، وليس بأولى لكن لم أرَ ذلك. وكذلك يحتمل أن يكون قوله:(وقيل: كولي النكاح) اختلاف طريقة، ويكون أشار بذلك على أنه هل يكون أولى من الولي أو الولي أولى منه، أو هما سواء، أو كالأجنبي؟ لكن لم أر نقلا يساعده.
وقوله: (ويسافر بهم سفر نقلة) ظاهر لأنه إذا كان للولي السفر بالطفل والوصي أولى منه، كان الوصي أولى بذلك.
بعض الشيوخ: وإنما يقدم الوصي على الأولياء، ما لم يعلم أن ذلك من الأب، لشنآن بينه وبين جد الولد أو أخيه، فيقدمان على الوصي. قال: ولو كان الشنآن بينه وبين عم الولد أو ابن عمه لتقدم عليه الوصي، لأنهما يتهمان في عداوته والإساءة له لعداوة الأب.
وإذا اجتمع المتساوون رجح الشقيق ثم بالصيانة والرفق
وقع في بعض السخ: (الشقيق) من الشقاقة، وهو صحيح، وقد تقدم، وفي بعضها (الشفيق) من الشفقية وهو أيضاً صحيح ظاهر المعنى، وثم يرجح بالصيانة ثم بالسن لأن الغالب أن الأسن أقرب إلى الرفق والصبر من غيره.
فإن غاب الأقرب، فالأبعد لا السلطان
هذا ظاهر، ولا مدخل له هنا، بخلاف النكاح.
وشرط الحضانة: العقل، والأمانة، والكفاية، وحرز المكان في البنت يخاف عليها، ولو كان أباً أو أماً، ويأخذها منهم الأبعد
…
لمن يستحق الحضانة شروط:
أولها: العقل، فلا حضانة لمجنون ولو كان غير مطبق، ولا لمن به طيش.
ثانيها: الكفاية، فلا حضانة لمن به زمانة، أو بلغ به المرض أو الكبر ما لا يملكه معه التصرف.
اللخمي: أو يمكنه بمشقة.
ثالثها: الأمانة، فلا حضانة لمن يبذر ما يأخذه من نفقة المحضون، أو كان غير مأمون في دنيه، لأن من هذا حاله يخاف أن يدخل على المحضون فساداً.
فرع:
ويحتاج الحاضن أن يثبت الأمانة على ما ذكره ابن العطار وابن الهندي وغيرهما من الموثقين، واحتجوا لذلك بما في إرخاء الستور من المدونة: أن الحضانة يستحقها من الأولياء من كان في كفاية وحرز وتحصين، وقد يكون الأب غير مأمون، فرب أب شريب يذهب يشرب ويترك ابنته أو يُدخل عليها الرجال، فهذا لا تضم إليه.
ابن القاسم: وينظر لها السلطان. المتيطي: فيما قيده الموثقون نظر عندي، والواجب أن يحمل على الأمانة فيهم، ولا يكلف بينة حتى يثبتوا عليه ذلك.
رابعها: المكان في البنت التي يخاف عليها، بخلاف الصبي والصغيرة التي لا يخاف عليها.
وقوله: (ولو كان أباً) يعني: أن هذه الشروط تعتبر في الحاضن مطلقاً، ولو كان أقرب الحاضنين أو الحاضنات، ولا يقال أن قربه يسقط بعض هذه الأوصاف.
واختلف في السفيهة، فقيل: لها الحضانة، وقيل: لا. وهو قوله في الموازية، قال: ولا حضانة لسفيهة، [428/أ] ابن القاسم في وثائقه: ويلزم عليه العمى والصمم والقعد والخرس، وقال اللخمي: إن كانت سفيهة في عقلها ذات طيش وقلة ضبط، لا تحسن القيام بالمحضون ولا أدبه، أو كانت سفيهة فيما تقبضه، تبذره قبل انقضاء الأمر، فلا حق لها في الحضانة، بخلاف ما إذا كانت سفيهة مولى عليها ذات صيانة وقيام، ويشترط في الحاضنة ألا تكون جذماء ولا برصاء، وإن كان خفيفاً لم يمنع، وإذا كانت الحضانة لرجل روعي ذلك فيمن يتولى الحضانة من نسائه في القيام، ودفع المضرة.
قوله: (ويأخذه منهم الأبعد) أي: إذا عدم من الأقرب بعض هذه الصفات أخذه الأبعد، وهو ظاهر.
وخلو المرأة من زوج دخل بها إلا جد الطفل على الأصح
لما ذكر الشروط المطلوبة ذكر أن الحاضنة يشترط فيها أن تكون خالية من الزوج، لقوله عليه الصلاة والسلام:((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) وسقطت حضانتها بالزواج لاشتغالها بحقوق الزوج عن المحضون، وهذا هو المعروف. وفي المتيطية عن مالك أنه ليس للوالد أخذ الولد من الأم، وإن تزوجت ودخل بها زوجها إذا كان الابن في كفاية.
قوله: (إلا جد الطفل) أي: فإن تزوج الحاضنة به لا يسقط حضانتها لشدة حنوه على الولد.
واعلم أن تزويج الحاضنة بجد الطفل لا يمكن أن يتصور ذلك في حق الأم لاستحالة أن يتزوج أم الولد بجده، وإنما يتصور في جدة الطفل ونحوها، والأصح مذهب المدونة، ومقابله لابن وهب أنه لا يستثنى عنده أحدٌ من الأزواج، بل مطلق التزويج عند مُسقط نظراً لقوله عليه الصلاة والسلام:((ما لم تنكحي)).
وقوله: (جد الطفل) الأحسن جد المحضون، لأن الذي يتبادر إلى الذهن في العرف من الطفل أنما هو الواحد الذكر، وإن صح إطلاقه على أكثر من واحد لقوله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31].
تنبيه:
قوله: (إلا جد الطفل) نحوه لابن شاس وابن بشير: إن تزوجت الأم أو من لها الحضانة، فإن لم يكن ولياً للطفل فقد سقطت حضانتها، وإن كان ولياً فقولان، المشهور ثبوت حضانتها، فأطلق في الولي. ونحوه للخمي وصاحب المقدمات ففي المقدمات: وإن زوجها ذا رحم من المحضون، فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون محرماً، والثاني: ألا يكون محرماً، فإن كان محرماً عليه فسواء كان ممن له الحضانة كالعم والجد للأب، أو ممن لا حضانة له كالخال، والجد للأم لا تأثير له في إسقاط الحضانة. وأما إن كان غير محرم عليه فلا يخلو أن يكون ممن له الحضانة كابن العم أو ممن لا حضانة له كابن الخال، فإن كان ممن له الحضانة فهي أحق ما لم يكن للمحضون حاضنة أقرب إليه منه فارغة من زوج، وإن كان ممن لا حضانة له سقطت حضانتها بكل حال، كالأجنبي سواء.
وإن كانت وصية فقولان
يعني: اختلف هل يستثنى من النساء إذا تزوجن المرأة الموصاة أم لا؟ قولان، وهما لمالك، وروي عن أشهب وابن نافع: إذا أرادت النكاح له أن ينتزع الولد منها إن نكحت، لأن المرأة إذا تزوجت غلبت على جل أمرها حتى تعمل ما ليس بصواب. وقال في موضع آخر: إن أفردت لهم بيتاً مع من يخدمهم، وأحسنت النظر لم ينزعوا منها.
فائدتان:
قال غير واجد: لا يُسقط التزيجُ بالأجنبي الحضانةَ في ست مسائل هذه على أحد القولين: وإذا كان الولد رضيعاً لا يقبل غير أمه، وإذا قبل وقالت الظئر لا أرضعه إلا
عندي، لأن كونه في رضاع أمه- وإن كانت متزوجة- أرفق له من أن يسلم لأجنبية- وإذا كان من بعدها ممن له الحضانة غير مأمون، وإذا كا من بعدها عاجزاً أو غائباً، وإذا لم يكن للولد قرابة من الرجال ولا من النساء، ويزاد سابعة وهي: إذا كان الأب عبداً والزوجة حرة، فلا يكون للأب أن ينتزعه منها إذا تزوجت.
ابن القاسم في الموازية: إلا أن يكون مثل العبد القيم بأمور سيده، أو التاجر الذي له الكفاية، فيكون أولى بولده إذا تزوجت الأم، وأما العبد الذي يخرج في الأسواق ويبعث في الأسفار فلا.
الفائدة الثانية: قال في المقدمات: اختلف بماذا يسقط الزوج الأجنبي حضانة زوجته، فقيل بالدخول، وقيل: بالحكم عليها، وقيل: بأخذ الولد منها. وعلى هذا يأتي اختلافهم فيمن طلق امرأته وله منها ولد، فتزوجت ولم يعلم بتزويجها حتى مات عنها أو طلقها أو علم بذلك ولم تطل المدة، هل له أن يأخذ الولد منها عبد خلوها من الزوج أم لا؟
وأما إن علم بتزويجها ولم يقم حتى طالت المدة ثم طلقها الزوج أو مات عنها فليس له أن يأخذ الولد منها، لأنه يعد بذلك تاركاً لحقه على الخلاف في السكوت، هل هو بمنزلة الإقرار أم لا؟
ولا يشترط الإسلام على المشهور، وتضم إلى ناس من المسلمين ولو كانت مجوسية أسلم زوجها ....
لا يشترط في الحاضن والحاضنة أن يكونا مسلمين على المشهور، وهو مذهب المذونة، والشاذ لابن وهب: لا حق لكافرة لأنه إذا لم يكن لمن أثنى عليه بشر حضانة، فالكافر أولى، واستحسنه [428/ب] اللخمي.
وقوله: (وتضم إلى ناس من المسلمين) ظاهره أنها تضم مطلقاً. وفي المدونة: والذمية إذا طلقت والمجوسية يسلم زوجها وتابى هي الإسلام فيفرق بينهما، ولهما من الحضانة ما للمسلمة، وتمنع أن تغذيهم بخمر أو خنزير، وإن خيف أن تفعل ذلك ضمت إلى ناس من المسلمين ولا ينتزعوا منها، فلم يقل إنها تضم، إلا إذا خيف منها.
ولا تعود بعد الطلاق أو الإسقاط على الأشهر إلا في إسقاطه لعذر
يعني: فلو تزوجت الأم أو غيرها من الحاضنات أو أسقطه هي فهل لها أن تعود في الطفل فتأخذه إذا طلقت أو مات زوجها. فالشهر وهو مذهب المدونة أنها لا تأخذه ولا تعود لها الحضانة، والشاذ لابن وهب أنها تأخذه. وزاد في المقدمات ثالثاً: أنها تسقط حضانتها في حال تزويجها، فإن طلقها الزوج أو مات عنها رجعت في ولدها. وفيه نظر، لأن هذا القول هو قول ابن وهب لأن ابن وهب لا يقول أن لها الحضانة وهي متزوجة.
وهكذا قال ابن عبد السلام: صاحب المقدمات وغيره. هذا الخلاف إنما هو على مذهب من يرى أن الحضانة حق للحاضنة، وأما على قو ابن الماجشون الذي يرى أن الحق في الحضانة للمحضون فلها أن تأخذ الولد متى خلت من الزوج.
ابن عبد السلام: واختلف في سكوت الحاضن الأقرب عن الحاضن الأبعد يأخذ الطفل أو غيره ممن كان له في الحضانة حق فتزوج مثلاً، وبقي الطفل بيده هل يكون سكوته تركاً لحقه في الحضانة؟ على قولين، إلا في إسقاطه لعذر كمرض أو لسفر حجة الفريضة ونحو ذلك، فإن لها الحضانة إذا زال عذرها.
فرعان:
أولهما: قال في الموازية: وإن تزوجت الأم فأخذتهم الجدة للأم ثم فارق الأم زوجها فللجدة أن تردهم عليها، وليس للأب في ذلك حجة. ابن محرز والمتيطي: أما لو ماتت الجدة وطلقت المرأة فهي أحق من الأب.
الثاني: قال أشهب عن مالك فيمن توفي زوجها فتركت أولادها خمسة أشهر أو سبعة ثم قيل لها: أنت أحق بهم ما لم تنكحي. فقالت: والله ما علمت بهذا. قال: الثاني في هذا قريب، وهو يجهل السنة. وقد سئل عمن فارق زوجته وله منها بنت فطرحتها وألحقت بأهلها، فقامت عندهم ما شاء الله ثم تزوجت لا تتعرض لبنتها ولا تريدها حتى ماتت، فقامت أمها تطلب ابنة ابنتها، فقال: إن كان لذلك سنة فأكثر فلا شيء لها، فقد تركوها ورفضوها، فإن كان لذلك سنة إلا يسيراً فارى لها أخذها، وإن تزوجها تزويجاً فاسداً لا يُقران عليه، ودخل بها الزوج، ونزع منها الولد ثم علم بفساد النكاح ففسخ، فقال بعضهم: يرجع إليها الولد. وغيره: لا يرجع.
ابن يونس: وهو أصوب، وفسخ نكاحها كطلاق زوجها في النكاح الصحيح.
ويسقط حق الأم وغيرها من الحضانة إذا سافر ولي الطفل الحر أبا أو غيره سفر نقلة ستة برد، ولو كان رضيعاً لا سفر نزهة وتجارة إلا أن تسافر معه
…
يعني: إذا سافر ولي الطفل سواء كان الولي أباً أو غيره، ودخل في قوله:(أو غيره) الوصيُّ وغيره، والحر أولى. يصح أن يقرأ بالخفض صفة للطفل، وبالرفع صفة للولي، لأنه إذا كان الولد أو أبوه رقيقاً لم يكن السفر مسقطاً للحضانة، بل إن كان العبد هو الولد فليس لأبيه إذا سافر كلام، بل هو تحت نظر سيده في الحضن، وكذلك للسيد أن يسافر به، ولأمه اتباعه إن أحبت، وإن كان العبد هو الأب ففي المدونة ليس له حق إذا سافر والأم أحق به، كانت حرة أو أمة، لأن العبد لا قرار له ولا مسكن.
قوله: (سفر نقلة) أي سفر انتقال، وأما إن سافر سفر نزهة أو تجارة فلا حق له، وإليه أشار بقوله:(لا سفر نزهة وتجارة) أي ونحوهما.
وقوله: (ستة برد) هو بيان للسفر المسقط، يعني: وأما لو سافر سفراً قريباً فأن ذلك لا يسقط حضانتها، لإمكان نظر الولي، وهذا التحديد لمالك في الموازية.
وقوله: (ولو كان رضيعاً) مبالغة، وهو المشهور، بشرط أن يقبل غير أمه. ولابن القاسم: ليس له أخذه إلا أن يكون فطيماً قد استغنى عن أمه. ولمالك في الموازية: لا يخرجوا بهم حتى يثغروا.
وقوله: (إلا أن تسافر معه) يعني: أنه تسقط حضانتها بالسفر المذكور إلا أن تتبعه فهي على حضانتها، ولا كلام للولي، وإنما سقطت الحضانة بهذا السفر، لأن نظر الولي لوصية عام، ونظر الأم إنما هو في أمور خاصة، فكان تحصيل ما ينظر فيه الولي أولى من تحصيل ما تنظر فيه الأم، ولهذا كان الوصي مقدماً على الأولياء إذا أراد سفراً بالمحضون.
بعض شيوخنا: وإن كان للولد وليان، وهما في القعد سواء، فسافر أحدهما، فليس له الرحلة بالولد، والمقيم أولى لبقاء الولد مع أمه، وكذلك إن لم تكن له أم، لأنه هو المقدم في نكاحها إن كانت أنثى.
فرعان:
الأول: قال جماعة: يشترط في إسقاط الحضانة بالسفر أن تكون الطريق مأمونة، يسلك فيها بالمال والحريم، وكذلك البلد الذي ينتقل إليه، ولا يشترط أن لا يكون بين البلد الذي سافر إليه الأب وبلد الحضانة بحر على الأصح، قاله ابن الهندي [429/أ] وغيره لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22].
الثاني: إذا قلنا: للولي الانتقال بالولد. فقال ابن أبي زمنين: كان بعض من أدركنا من شيوخنا المقتدى بهم في الفتوى يفتون بأن الولي لا يكون أحق حتى يثبت عند حاكم البلد الذي فيه الحاضنة أنه قد استوطن الموضع الذي رحل إليه. وقال ابن الهندي وابن الفخار وغيرهما: بل له الأخذ إذا أراد الرحيل. واحتجوا بقوله في المدونة: إذا أراد الأب أن يرتحل إلى بلد، أن للأب أن يخرج بولده معه إذا ارتحل، وكذلك الأولياء، فلم يكلفه بينة أنه قد استوطن. وعابوا الأول لأنه يؤدي إل المشقة في الراحل إلى البعيد، وقد آوى إلى إسقاط حقه.
ابن الهندي: ويحلف لقد يريد استيطان ذلك البلد. بعض القرويين: وهذا يحسن في المتهم، وأما المأمون فلا يمين عليه. ووقع لسحنون في أسئلة حبيب أنه كان يكشف عن انتقاله كشفاً شافياً، فإن تبين ضرره منع، وإن كان خروجه حقيقة لا مضاراً بالأم لم يمنع، وقيل للأم: اتبعي ولدك إن شئت. واستدل بعضهم على صدقه بقرائن الأحوال، فإن باع ربعه أو نحو ذلك صدق، وعلى أنه لابد من الاستيطان بمدة غير محدودة، بل يرجع إلى اجتهاد الحاكم. عبد الخالق: ووقع في وثائق ابن الطلاع: تحرير المدة بالعام.
وقال أصبغ: بريدين
قوله: (وقال أصبغ: بريدين) يقتضى ثبوت معطوف عليه، وهو قوله:(ستة برد).
ابن عبد السلام: ولم يثبت قوله (ستة برد) في كل النسخ، ولم أر أنا نسخة إلا وفيها ذلك. وقال أصبغ في الموازية: لأن فيها عنه: ليس للأم أن تنتجع بولدها من الأسكندرية إلى الكريون.
اللخمي وغيره: وبينهما بريدان. وقريب منه ما قاله مالك: في البعيد مرحلتان.
أبو إسحاق: وقول أصبغ ظاهر المدونة، لأنه قال: القريب البريد ونحوه.
ولمالك أن مسيرة اليوم قريب للأم أن تخرج بالولد إليه. قيل: وهو الأقرب قياساً على سفر القصر. ولمالك: حد القريب أن يكون بموضع لا ينقطع خبر الولد منه، من غير أن يحده بأميال. اللخمي: وهو بين، فرب قريب لا ينقطع خبر الولد منه، واستعلام حاله لكثرة تردد أهله بين الموضعين، ورب قريب لا يعرف فيه حال الولد لقلة التصرف فيما بين الموضعين. وقال ابن مغيث: الذي مضت الفتوى به عند شيوخ المذهب ما ذكره المصنف أولاً: ستة برد. وقيل: إذا كان على رأس البريد هو بعيد.
وروى ابن وهب في الموطأ: حتى يرتحل من المدينة إلى مصر. ومثله عن أشهب.
وسفره أو سفر الأم به دون ذلك، لا يسقط. وفيها: كالبريدين
يعني: وسفر الولي أو سفر الأم دون المسافة المسقطة لا يسقط حق الحاضنة، لأن ذلك لا يمنع الولي من النظر في أمر الطفل. وفي المدونة: تحرير القرب بالبريد ونحوه. وقد تقدم أن أبا إسحاق أخذ منه أن البعيد بريدان كما قاله أصبغ، وكذلك قال ابن رشد في قول أشهب: لا يرحل بهم ثلاثة برد. هذا مثل ما في المدونة لا ينتجع بهم إلا في المكان القريب، البريد ونحوه. وما ذكره من تسوية سفر الولي والحاضنة نص عليه اللخمي وغيره.
ابن راشد: وحيث قلنا تخرج بهم الأم فحقهم في النفقة باق على أبيهم في ظاهر المذهب وحكى في الطرر عن ابن جماهير الطليطلي أن الأم خرجت ببنيها إلى الصائفة سقط الفرض عن أبيهم مدة مقامهم، ولو طلبت الانتقال بهم إلى موضع مصر، فشرط الأب عليها نفقتهم وكسوتهم جار ذلك، وكذلك إذا خاف أن تخرج بهم بغير إذنه، فشرط عليها إن فعلت ذلك فنفقتهم وكسوتهم عليها، لزمها ذلك، قاله بعض الأندلسيين.
وفي استحقاق الحاضنة عنها شيئاً قولان بناء على أنه حق له أولها
قوله: (عنها) أي عن الحضانة. وما ذكر المصنف من منشأ الخلاف ذكره صاحب المقدمات وابن بشير، فقالاً: من رأي الحضانة حقاً للمحضون أوجب للحاضن الأجرة على المحضون، ومن رآها حقاً للحاضن لم ير له أجرة. وما قاله ابن عبد السلام من عكس هذا البناء ليس بظاهر. قال في المقدمات: من رأى أن ذلك من حقها لم ير لها سكنى، ومن رأي ذلك من حق المحضون رأى أن لهما كراء المسكن على الأب.
خليل: وفيه نظر، لأن المشهور أن الحق للحاضنة، والمشهور أن على الأب السكنى، وهو مذهب المدونة خلافاً لابن وهب. وعلى المشهور فقال سحنون: يكون السكنى على حسب الاجتهاد. ونحوه لابن القاسم في الدمياطية، وهو قريب لما في المدونة. وقال يحيي
ابن عمر: على قدر الجماجم. وروي: لا شيء على المرأة ما دام الأب موسراً. وقيل: إنها على الموسر من الأب والحاضنة. وحكى ابن بشير قولاً بأنه لا شيء على الأم من السكنى، ورأى اللخمي أن الأب إن كان في مسكن يملكه أو بكراء ولو كان ولده معه لم يزد عليه في الكراء شيئاً، لأنه في مندوحة عن دفع الأجرة في سكناه، وإن كان يزاد عليه في الكراء، وعليها هي لأجل الولد، فعليه الأقل مما يزاد عليه أو عليها لأجله، فإن كان ما يزاد عليها أقل أخذته لأنه القدر الذي أضر بها، وإن كان ما يزاد عليه غرمه لأنه مما لم يكن له بد ولو كان عنده. وفي الطرز: لا سكنى للرضيع على أبيه مدة الرضاع، فإذا [152/ب] خرج من الرضاعة كان عليه أن يسكنه. خليل: ولا أظنهم يختلفون في الرضيع.
فائدة:
في المذهب مسائل اختلف فيها، هل هي على الرؤوس أم لا؟ منها هذه، ومنها أجرة كاتب الوثيقة، ومنها كانس المراحيض، ومنها حارس الأنذر، ومنها أجر القاسم، ومنها التقويم على المعتقين، ومنها الشفعة إذا وجبت لشركاء، ومنها العبد المشترك في زكاة الفطر، ومنها النفقة على الأبوين، ومنها إذا أرسل أحد الصائدين كلباً والآخر كلبين، ومنها إذا أوصى بمجاهيل من أنواع.
وعلى الاستحقاق فإن استغربت أزمانها فنفقة وإلا فاجرة
يعني: وعلى القول باستحقاق الحاضنة على الحضانة أجرة، فإن أشغلها ما يتعلق بالولد في جميع أزمانها وجبت لها النفقة كالزوجة، وإن لم تستغرق أزمانها وجب لها من الأجرة بحسب ما يقرره أهل العرف لها.
اللخمي: وإن كان الولد يتيماً فللأم أجرة الحضانة إن كانت فقيرة والابن موسراً، لأنها تستحق النفقة في ماله، واختلف إذا كانت موسرة، فقال مالك: لا نفقة لها. وقال مرة: لها النفقة إذا قامت عليه بعد وفاة أبيه. وقال أيضاً: تنفق بقدر حضانتها إذا كانت لو تركته لم يكن له بد من الحضانة. فجعل لها في هذا القول الأجرة دون النفقة.
اللخمي: وأرى إن تأيمت لأجلهم وكانت هي الخادمة والقائمة بأمورهم أن لها النفقة، وإن كانت أكثر من الأجرة لأنها لو تركتهم وتزوجت أتى من يقف عليها- وكأن من النظر للولد كونهم في نظرها- وإن لم تكن تأيمت لأجلهم أو كانت في سن من لا يتزوج كان لها الأجرة، وإن كانت دون نفقتها، وإن كان لهم من يخدمهم واستأجرت من يقوم بخدمتهم فإنها هي ناظرة بما يصلح للولد فقط لم أر لها شيئاً.
فرعان:
الأول: إن لمن الولد في حضانتها من أم أو غيرها أن تأخذ ما يحتاج إليه الولد من نفقة أو كسوة وغطاء ووطاء. وإن قال الأب: هو يأكل عندي ثم يعود إليك لم يكن له ذلك، لأن في ذلك ضرراً على الولد وعلى الحاضنة، إذ الأطفال يأكلون في كل وقت، قاله غير واحد.
وكتب شجره إلى سحنون في الخانة الحاضنة إذا قال الأب: إنها تأكل ما أعطيه، وطلب الأب أنه يأكل عنده ويعلمه، فكتب إليه أن القول للأب، فجعل للحاضنة يأوي إليها فقط، والأول هو الأصل، ولعله ظهر صدقه في السؤال، وقد ذكر ابن يونس عن مالك هذا التفصيل نصاً في العتبية.
الثاني: اللخمي: اختلف في خدمة الولد، ففي المدونة: إن كان لابد للولد من خادم لضعفهم عن أنفسهم والأب يقوى على الإخدام أخدمهم. وقال ابن وهب في الدمياطية: ليس عليه أن يخدمهم، وبذلك قضي أبو بكر على عمر رضي الله عنهما.
وتجب على الولد نفقة أبويه الفقيرين- صحيحين أو زمنين، مسلمين أو كافرين- صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، وإن كره زوجها ....
يعني: أنه يجب على الولد أن ينفق على أبويه سواء كان صحيحين أو زمنين مسلمين أو كافرين، صغيراً أو كبيراً، وكذلك أيضاً لو كان هو كافر وهما مسلمان، هذا هو القول
المشهور، وروى ابن غانم عن مالك أنه لا نفقة للأبوين الكافرين، واشترط أن يكونا فقيرين، لأنه لا نفقة لهما إذا كان غنيين.
ابن لبابة: ويحلفه الولد على فقره استبراء للحكم. وقال غيره: لا يحلفه، لأنه من الحقوق، وبه الحكم.
ولا يسقطها تزويج الأم لفقير
أي: إذا تزوجت الأم فقيراً فوجوده كعدمه، ونفقتها مستمرة على الولد، وكذلك أيضاً لو كان الزوج ملياً وافتقر، ولو كان يقدر على بعضها تمم الابن باقي النفقة ولو كان الزوج ملياً. وقال: لا أنفق عليها إن رضيت، وإلا فارقتها، فرضيت الأم. فقال الباجي: ينفق الابن. وقال اللخمي: لا ينفق، إلا أن تكون قد أسنت والزوج على غير ذلك، أو يقوم الدليل على صحة قوله.
فإن كان أولاد موسرون وزعت، وفي توزيعها على الروؤس أو على اليسار قولان
القول بأنها على الرؤوس لابن الماجشون وأصبغ، والقول بأنها على قدر اليسار لابن المواز. وقال مطرف وابن حبيب: على قدر الميراث.
فرع:
إذا كان للأب مال فوهبه أو تصدق به ثم طلب الابن بالنفقة فللولد أن يرد فعله، وكذلك لو تصدق به على أحد ولديه كان للولد الآخر أن يرد فعله، قاله اللخمي.
وكذلك خادمه وخادمها على المشهور
هذا عائد على صدر الفصل، يعني: وكذلك يجب على الولد نفقة خادم الأب وخادم الأم على المشهور، والشاذ لابن عبد الحكم: ليس عليه أن ينفق على خادم أبيه. وفي المدونة: يلزمه أن ينفق على خادم أبيه وخادم زوجة أبيه، لأن خادم زوجة أبيه تخدمه.
ويحتمل كلام المصنف من حيث اللفظة أن يكون قوله: (وكذلك خادمه) راجع إلى مسألة توزيع النفقة، وهو بعيد.
وكذلك إعفافه بزوجة
يعني: وكذلك يجب على الولد أن يعف والده بزوجة، هذا قول أشهب، واختاره ابن الهندي، قيل: وهو المشهور عن مالك وابن القاسم أنه ليس على الولد ذلك. وقاله المغيرة وابن عبد الحكم، وفي رواية [431/أ] ابن نافع وأشهب: إن كان رجلاً نكاحاً يأتي امرأة لها شأن، فما أرى ذلك عليه.
اللخمي: إن كان محتاجاً إلى النساء زوجه، وإن لم يكن محتاجاً لهن ويخدم نفسه لم يكن عليه تزويجه، وإن لم يكن قادراً على خدمة نفسه، أو كان مثله لا يتكلف ذلك، كان تزويجه حسناً. قال ابن راشد: لو تحققنا حاجة الأب إلى النكاح، لا نبغي ألا يختلف في وجوب ذلك على الابن، فالاختلاف إنما هو عائد إلى تصديق الأب فيما يدعيه من الحاجة إلى النكاح.
اللخمي: وينفق الابن على زوجة الأب، سواء كان الأب محتاجاً إليها في الإصابة أم لا، لأنه وإن أسن يحتاج إلى رفق من يقوم به، ولأن عليه مضرة ومعرة في فراق زوجته لعدم النفقة، قال في المدونة: وينفق على زوجة وإخوة لا أكثر. ولا إشكال في هذا إن كانتا أجنبيتين، وأما إن كانت إحداهما أمه، فاختلف في ذلك إذا كانت أم الولد فقيرة، فقيل يلزمه نفقتهما أما الأم فلفقرها، إذ لو فارقها الأب لكان عليه نفقتها، وأما الأخرى، فلأنها لو كانت وحدها لزمتها نفقتها. وقيل: لا يلزمه إلا نفقة أمه.
ابن يونس: وهو أشبه بظاهر الكتاب، إذ ليس عليه أن ينفق إلا على امرأة واحدة، وقال اللخمي: إنما ينفق على أمه فقط، إلا أن تكون أمه قد أسنت، والأخرى شابة. وفي الأبنية فعليه أن ينفق عليهما جميعاً، ونقل ابن عيشون عن ابن نافع أنه ينفق على أربع زوجات الأب.
فرع:
ولا يلزم الولد أن ينفق على زوج أمه الفقير. وقال في الكافي: على الابن أن ينفق عليه. وفي الإرشاد أنه يجب على الابن أن ينفق على زوج الأم إن أعسر، إلا إن تزوجته فقيراً.
فإن كانت له دار لا فضل في ثمنها لم تعتبر كما يأخذ من الزكاة
تصوره ظاهر، واختلف إذا كانت للابن دار يسكنها، وليس للأب مال، فقال ابن القاسم: لا تباع دار الابن لأجل نفقة الأب. وقيل: بل تباع. وعلى هذا فيبيع دار الأب لينفق منها على نفسه أولى.
وشرط نفقة الولد والأبوين- اليسار
يعني: كما يشترط في طالب النفقة الفقر فكذلك يشترط في معطيها اليسار.
الباجي: وتلزم نفقة الأبوين المعسرين، وإن قويا على العمل. وقال اللخمي: إن كان للأب صنعة تقوم به وبزوجته أجبر على عملها، وإن كانت تكفيه لبعض حاجته تمم الابن الباقي.
فرع:
إذا طلب الأب من الابن النفقة وادعى الفقر وأنكر الابن فقر أبيه، وادعى أنه عديم، فقال ابن العطار وابن أبي زمنين: الابن محمول على الملاء حتى يثبت خلافه، وعليه أن يثبت العدم. وقال ابن الفخار: بل على الأب إثبات ملاء ابنه. قال: وإن كان للأب ولد آخر وجب على الابن المدعي العدم إثبات عدمه، لأن أخاه يطالب بالنفقة معه.
ابن العطار: وأما الوالد في نفقة الولد إن لم يثبت أنه ملك شيئاً، فالقول قوله مع يمينه، ومن ادعى أن له ملكاً فعليه البينة.
وتسقط عن الموسر بمضي الزمان بخلاف الزوجة
يعني: لو كان الأب عديماًن والولد موسراً أو العكس، فتحميل الموسر في النفقة زماناً لم يكن له الرجوع بما تحيل على من تجب عليه نفقته لأنها مواساة تدفع لسد خلة المحتاج في وقتها، وإذا انسدت تلك الخلة بوجه سقط الوجوب، بخلاف نفقة الزوجة فإنها واجبة بمعنى المعارضة، ألا ترى أنها تجب لها ولو كانت غنية.
إلا أن يفرضها الحاكم أو ينفق غير متبرع
إلا أن يفرضها الحاكم فيرجع ولو مضى زمانها، وكذلك أيضاً إذا أنفق غير متبرع، فإنه يرجع بما أنفق على الابن.
ولا رجوع بنفقة الآباء والأبناء إذا أيسروا بعد
لأنهم لو أخذوا في الفقر بوصف الاستحقاق فكان ذلك بمنزلة ما لو أخذ الفقير من الزكاة، ثم طرأ غناؤه، ولأنه لو كان له الرجوع لكان المدفوع أولاً سلفاً، والفرض خلافه.
ولا تجب نفقة جد ولا جدة ولا ولد الولد
هذا هو المذهب.
فرع:
اللخمي: ولو كان للابن صنعة فيها فضل عن نفقة لزمته نفقة أبويه، فإن كان له زوجة، فللأب ما فضل عن نفقته ونفقتها، واختلف إذا كان له ولد، فقيل: يقسم الفاضل بينهما، وقال ابن خويز منداذ: يبدأ بالابن.
وتجب نفقة ملك اليمين، وإلا بيع عليه
تصوره ظاهر.
فرع:
إذا تبين ضرره بعبده في توجيعه وتكلفه من العمل ما لا يطيق وتكرر ذلك منه بيع عليه. وسئل ابن حارث عن مملوكة اشتكت إضرار سيدها بها وضربها، فقال: ليس الضرب- وإن صح- بالذي يدل على الضرر، إذ للمالك أن يؤدب مملوكه، وهو مصدق إلا أن يظهر تعديه فيباع، ولا يكلف مملوكه إثبات الضرب إلا أن يكون السيد مشهوراً بالشر والتعدي ويعرف بذلك، وثبت ذلك عليه مع أثر الضرب.
ابن زرب: وروي [430/ب] عن مالك في المملوكة تطلب أن تباع: ينظر في أمرها، فإن كان ما هي فيه ضرر بيعت، وإلا فلا، قال: وكان بعض شيوخ بلدنا يفتون بأن تكرير الشكية منها يوجب بيعها، غير أن هذا إنما يكون في المجهول الحال، وأما إن كان السيد من أهل الخير فلا يجوز بيعها إلا بثبوت الضرر.
وكذلك الدواب إن لم يكن مرعى
أي: إن لم يكن مرعى فتعلق أو تباع، كذلك أيضاً إن كان المرعى لا يكفيها، ولا يكلف الدواب أيضاً فوق طاقتها.
ولا يجوز من لبنها إلا ما لا يضر بنتاجها
تصوره ظاهر.
***
البيوع
أتى بجمع الكثرة لتعدد الأنواع. وحد المازري البيع بأنه: نقل الملك بعوض. وهذا يشمل الصحيح والفاسد، بناء على أن الفاسد ينقل الملك، قال: وإن قلنا أنه لا ينقل لم يشمله، لكن العرب قد تكون التسمية عندهم صحيحة، لاعتقادهم أن الملك قد انتقل على حكمهم في الجاهلية وإن كان لم ينتقل على حكم الإسلام.
خليل: وإن أردت إخراجه بوجه صحيح لاشك فيه فتزيد بوجه جائز.
ابن راشد: ويرد عليه أسئلة.
الأول: أن البيع علة في نقل الملك، فنقول: انتقل الملك لمشتري الدار لأنه ابتاعها، والعلة مغايرة للمعلول فلا يمكن حد البيع بالنقل.
ثانيها: أن النقل حقيقة في الأجسام مجاز في المعاني، والمجاز لا يستعمل في الحدود.
ثالثها: أن الملك مجهول، لأنا إن قلنا: هو التصرف انتفض لتصرف الوصي والوكيل، لأنهما غير مالكين وهما يتصرفان. وقد يوجد الملك ولا تصرف في المحجور عليه، وقد يوجدان معاً في ملك الرشيد. وإذا كانت حقيقة الملك مجهولة، فيكون عرف البيع بما هو أخفى منه. والأقرب ما قاله ابن عبد السلام: أن حقيقة البيع معروفة لكل أحد لا تحتاج إلى حد. وهذا الباب مما ينبغي أن يهتم به، لعموم البلوى.
وقول بعض الناس: يكفي ربع العبادات ليس بشيء، إذ لا يخلو مكلف غالباً من بيع وشراء فيجب أن يعرف حكم الله في ذلك قبل التلبس به.
للبيع أركان: الأول: ما يدل على الرضا من قول أو فعل فتكفي المعاطاة. ويعني، فيقول: بعتك
اللام للاختصاص. والركن: جزء الشيء وهو داخل في الماهية، وذكر للبيع ثلاثة أركان: ما يدل على الرضا، والعاقد- والمراد به البائع والمشتري- والمعقود عليه. وسيأتي كل
واحد منهما. وعلى هذا فقوله: (للبيع أركان) فيه حذف مضاف، أي: ثلاثة أركان. أو على حذف الصفة، أي: أركان ثلاثة. وإنما كان المتعاقدان من أركان البيع، لتوقف البيع عليهما.
وقوله: (الأول) أي: الركن الأول ما يدل على الرضى من قول، كقولك: بعت، وقول المشتري: قبلت. أو فعل كالمعطاة. وقول الشافعية: لا دلالة للأفعال بالوضع فلا ينعقد بها البيع ليس بظاهر، لأنه لا يلزم من نفي الدلالة الوضعية نفي مطلق الدلالة، لبقاء الدلالة العرفية على الرضا وهو المقصود، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منهما، لقوله تعالى {لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وقدم هذا الركن، لأنه الموجود أولاً طبعاً فوجب تقديمه وضعاً، وتاليها السلعة. وقوله:(بعني) فيقول: بعتك، معطوف على المعاطاة، أي: ويكفي قول بعني من المشتري، فيقول البائع: بعتك بعد قوله بعني بقوله، لأنه دال على الرضا.
وفيها: لو وقفها للبيع، فقال: بكم؟ فقال: بمائة، فقال: أخذتها، فقال: لا أرضى، يحلف ما أراد البيع ....
ذكر هذه المسألة إثر الأولى لما بينهما من الارتباط، كما فعل ابن القاسم فيها. قال فيها: فإن قلت لرج: بعني سلعتك بعشرة، فقال: قد فعلت لا أرضى. فقال: قال مالك فيمن وقف سلة للسوم، فقال: بكم هي؟ فقال: بعشرة، فقلت قد رضيت، فقال: لا أرضى أنه يحلف ما أراد البيع، وإن لم يحلف لزمه. قال ابن القاسم: فكذلك مسألتك. وذكر صاحب البيان في هذه المسالة ثلاثة أقوال:
الأول: نفي اللزوم للمدونة إذا حلف. الثاني لمالك في العتبية: اللزوم. الثالث للأبهري: أنه إن كان ذلك قيمة السلعة وكانت تباع بمثله، لزم البيع وإلا حلف ما أراد البيع ولم يلزمه. قال: وهذا الاختلاف إنما هو في السلعة الموقوفة للبيع، وأما إن لقي رجلٌ رجلاً في غير السوق، فقال له: بكم عبدك هذا، أو ثوبك هذا لشي لم يقفه؟ فقال: بكذا. فقال:
أخذته به، فقال: لا أرضى إنما كنت لاعباً وشبه ذلك، فإنه يحلف على ذلك ولا يلزمه البيع باتفاق، إلا أن يتبين صدق قوله فلا يمين عليه باتفاق. وقد ذهب بعض الناس إلى أن الخلاف في ذلك إن لم تكن السلعة موقوفة للبيع.
خليل: وعلى هذا فيتحصل في المسالة أربعة أقوال: الثلاثة الأقوال المتقدمة، والرابع: الفرق بين أن تكون موقوفة للبيع أو لا.
قال في البيان: ومثل هذا المثال في الخلاف لو قال السائم: أنا آخذه بكذا، فقال البائع: قد بعتك، فقال السائم: لا آخذه بذلك.
ابن أبي زمنين: إذا قال البائع: قد بعتك بكذا أو أعطتيك بكذا، فرضي المشتري وأبى البائع، وقال: لم أرد البيع، لم ينفعه ولزمه [431/ا] البيع. وكذلك إذا قال المشتري: قد ابتعت منك بكذا فرضي البائع، لم يكن للمشتري أن يرجع. ولو قال البائع: أنا أعطيكها بكذا أو أبيعها بكذا فرضي المشتري، وقال البائع: لم أرد البيع فذلك له ويحلف. وكذلك لو قال المشتري: أنا أشتريها منك أو آخذها، فرضي البائع ورجع المشتري كان ذلك له ويحلف. قال: فافهم هذه الوجوه، فهي كلها مذهب ابن القاسم وطريقة فتياه.
وحاصله: التفرقة بين أن تكون الصيغة بلفظ الماضي فيلزم، أو بالمضارع فيحلف. وإتيان المصنف- رحمه الله بمسألة المساومة بعد، يعني: يحتمل الاستدلال ويكون المصنف رأي التساوي بينهما كما رآه ابن القاسم. ويحتمل أن يكون ذكره تنبيهاً على ضعف قياس ابن القاسم كما أشار إليه بعضهم، لأن دلالة اللفظ في الأولى على الرضا أقوى منه في الثانية، لأنه طلب بلفظ صريح في الطلب، وقد أمضى له البائع ذلك بقوله: قد فعلت، فكلامه الثاني لا أرضى يعد ندماً فلا يقبل منه. وأما الثانية: فيتحمل أنه أوقفها ليعلم ما تساوي ولا يبيعها، أو ليعلم ما تساوي ثم يبيعها لآخر طلبها منه.
وقول السائل: (بكَمْ) هو يحتمل أن يريد: بكم اشتريتها أو بكم تبيعها، فإذا قال له السائل: قد رضتيها، فلابد من جواب البائع، لكن لما كان كلامه الأول محتملاً حلفه مالكٌ لرفع الاحتمال، ولعل مالكاً لو سئل عن الأولى ما قبل فيها من المشتري يميناً.
ولهذا الذي أشرنا إليه من أن اللزوم في بعني أقوى، ذكر صاحب البيان بعد أن ذكر الخلاف المتقدم في قوله: بكم، أنه اختلف إذا قال المشتري: بعني بكذا، فلما أراد البائع أن يلزمه ذلك أبى، أو قال البائع: خذها بكذا، فلما أراد المشتري أن يأخذها أبي، فقيل: إن ذلك كالمساومة، يدخل في ذلك الاختلاف المذكور، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، لأنه ساوى بينهما. وقيل: إن قول المشتري بعني، بمنزلة قوله: اشتريت. وأشتريها بكذا، بمنزلة قوله: قد بعت، يلزم ذلك كل واحد منهما إذا أجابه صاحبه بالقبول، وإلا مضى في المجلس قبل التفرق في بابه. والله أعلم.
ابن راشد: فرع: إذا تراخى القبول عن الإيجاب، فهل يفسد البيع أم لا؟ أشار ابن العربي في قبسه إلى الخلاف في ذلك، ثم قال: والمختار جواز تأخيره ما تأخر. وفي شرح الجلاب المنسوب بإفريقية للشار مساحي ما يدل على اعتبار القرب، قال فيه: وإذا نادى السمسار على السلعة فأعطى فيها تاجر ثمناً لم يرض به البائع، ثم لم يزده أحد على ذلك، فإنها تلزمه بذلك الثمن إلا أن تطول غيبته.
وفي المقدمات: الذي يأتي على المذهب أن من أوجب البيع لصاحبه من المتبايعين إن أجابه صاحبه بالقبول في المجلس، لم يكن له أن يرجع. ومقتضى ذلك: أنه إن لم يجب في المجلس أنه لا يلزمه. والظاهر ما قاله ابن العربي، بدليل أن المحجور عليه إذا باع من ماله أن لوليه الإجازة، وإن طال الأمر ولم يحصل غير الإيجاب من المحجور مع قبول المبتاع،
وإيجاب المحجور كالعدم. وكذلك بيع الفضولي، يقف القبول على ربه على المشهور، وإن طال. ويمكن أن يقال: حصل الإيجاب والقبول، ونظر الوصي والمالك أمر جرت إليه الأحكام. انتهى كلام ابن راشد.
الثاني: العاقد، وشرطه: التمييز. وقيل: إلا السكران
أي: الركن الثاني: العقاد، ويعني به: البائع والمشتري. وشرطه التمييز، أي: شرط صحة بيع العاقد وشرائه أن يكون مميزاً، فلا ينعقد بيع غير المميز ولا شراؤه لصغر، أو جنون، أو إغماء، أو سكر. ولا إشكال في الصبي، والمجنون، والمغمى عليه. وأما السكران، فهو مقتضى ما ذكره ابن شعبان وغيره، فإنه قال: ومن الغرر بيع السكران وابتياعه إذا كان سكره متيقناً، ويحلف بالله مع ذلك مع عقل حين فعل، ثم لا يجوز ذلك عليه. وظاهره أنه لا ينعقد، لأنه جعله من الغرر، والذي ذكره صاحب البيان، وصاحب الإكمال: أن مذهب مالك وعامة أصحابه: أنه لا تلزمه عقوده، حتى تأول ابن رشد قول مالك في التعبية في نكاحه: لا أراه جائزاً، على أن معناه: لا أراه لازماً لا أنه فاسد. وقال في موضع آخر: لا يقال في بيع السكران بيع فاسد، وأن مذهب مالك: أنه غير منعقد، وإنما يقال: أنه غير لازم. وإنما لم يصح بيع السكران أو يلزمه، لأنا لو فتحنا هذا الباب مع شدة حرص الناس على أخذ ما بيده وكثرة وقوع البيع، لأدى إلى أن لا يبقى له شيء، بخلاف طلاقه وقتله وغير ذلك مما يتعلق به الحق لغيره، فإنا لو لم نعتبره لتساكر الناس ليتلفوا أموال الناس وأرواحهم.
والشاذ لابن نافع: يلزم بيعه كطلاقه. قال في الجواهر: والجمهور على خلافه. وإليه أشار بقوله: (وقيل: إلا السكران) أي: وقيل يشترط التمييز، إلا أن يكون العاقد سكراناً فلا يشترط فيه التمييز.
وجعل المصنف الخلاف في السكران الذي لا يميز، وكذلك ذرك ابن شعبان والقاضي عياض، وعليه فلا خلاف في لزوم البيع لغير الطافح، وطريقة ابن رشد بالعكس. وقد تقدم في الطلاق. [431/ب].
والتكليف شرط اللزوم
يعني: شرط لزوم البيع أن يصدر من مكلف، وأما لو صدر من صبي فلوليه إمضاؤه ورده، ولا يلزم كل مكلف، إذ قد يقوم به مانع كالسفه وغيره ممن حجر عليه، هذا هو الظاهر هنا.
وقال ابن راشد: عبر بالتكليف عن الرشد والطوع، لأن السفيه لا يلزمه بل لوليه أن يفسخه، وكذلك من أجبر على البيع لا يلزمه البيع، أعني: إذا أجبر جبراً حراماً.
ابن سحنون: وأجمع أصحابنا على أن بيع المكره غير لازم، واحترزنا بقولنا: جبراً حراماً عن المجبر جبراً شرعياً، كجبر القاضي المديان على البيع للغرماء، وجبر العمال على بيع أموالهم، فإنه جائز ويلزمه البيع، سواء كان السلطان يرد المال على من كان أخذه منه أو يأخذه لنفسه، كالمضغوط في دين لزمه، لأن إغرام الوالي العمال ما أخذوه من الناس حقٌ فعله الوالي وعليه أن يرده إلى أهله، فإذا حبسه فهو ظالم في حبسه، نقله ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ.
خليل: وما ذكره من أن المكره غير مكلف صحيح، لأن أهل الأصول نصوا على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف. وأما السفيه فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه ليس مكلفاً بالبيع، فإن قيل: لو كان مكلفاً به لزمه البيع، قيل: يحتمل. ولو قلنا: إنه مكلف بالبيع أن لا نقول بإمضائه للحجر عليه فتأمله.
ولا إشكال في عدم لزوم البيع لمن أجبر جبراً حراماً، فقد نص ابن القاسم على أن الذي يضغط في الخراج فيبيع متاعه، أنه يرد متاعه عليه بلا ثمن إذا كان بيعه إياه على عذاب، أو ما أشبه ذلك من الشدة، قال: لأن أخذ الثمن على ذلك ليس بأخذ.
ابن راشد: وسئل اللخمي عن شاب مراهق أو بالغ نسب إليه أنه جنى جناية فسجنه السلطان وهو يتيم كفله بعض أقاربه، فكفله السلطان أن يغرم مالاً ويخرجه من السجن، فلم يقدر اليتيم على الخلاص من هذا المال بوجه، فباع شيئاً من رباعه بعد خروجه من السجن ليؤدي من ثمنه ذلك المال، وكان هذا الفعل على وجه النظر له، لأنه يبقى عليه لو لم يجب إلى غرم بعض ذلك المال أن ينفيه من البلد، أو يأخذ بعض رباعه فيه، أو يأخذه كلها، أو لا يخرجه من البلد وإنما يسجنه بالضرب والعذاب. فقال: إذا كان الأمر على ما وصفت فبيع ماض، ويغلب على ظني أني رأيت للسيوري نحو ذلك، وقال: المشتري من المضغوط مأجور، لأنه يخلصه من العذاب.
ابن رشد: والمذهب على خلاف ذلك، فقد تقدم قول ابن القاسم في ذلك.
وقال مطرف: سمعت مالكاً يقول: في أهل الذمة يضغطون فيما يعتدى عليهم في جزيتهم حتى يلجئوا إلى بيع متاعهم في ذلك لا يجوز عليهم، وهم أولى بما باعوه أن يأخذوه بلا ثمن ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم.
مطرف: وكذلك في بيع المسلم المضغوط، لأنه أعظم حرمة ولأنه بيع إكراه، والمكره لا يلزمه بيع ما أكره عليه.
ابن حبيب: وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وقالا: هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
مطرف: وسواء دفع المبتاع الثمن للمضغوط ودفعه المضغوط إلى الظالم الذي يضغطه وقبضه الظالم من المبتاع، فللبائع أخذ متاعه إذا ظفر به بيد مبتاعه منه، أو بيد من ابتاعه منه، ويرجع به على من ابتاعه منه ويرجع هو على الظالم. قال: ولو قبضه منه وكيل الظالم فللمبتاع أن يرجع على الوكيل إن شاء، أو على الظالم إذا ثبت أنه أدى المال إليه، أو ثبت أنه أوصى الوكيل بقبضه، وكلاهما ضامن ما خرج به، ولو وجد المضغوط متاعه قد فات،
فله الرجوع بقيمته أو بثمنه الذي بيع به إن كان الثمن أكثر، إن شاء على الوكيل، وإن شاء على الموكل. وقال ابن عبد الحكم، وأصبغ مثل ذلك.
مطرف: ولا قول للوكيل إن قال: كنت مكروهاً على القبض وخفت منه على نفسي إن لم أفعل، لقوله عليه الصلاة والسلام:((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)).
ولو باع متاعه في مظلمة ثم لا يدري هل وصل ذلك الثمن إلى الظالم أم لا؟ نظر، فإن كان ظلمه له وعداه عليه وقهره له معلوماً حين باع متاعه، فيحمل على أن الثمن وصل للظالم حتى يتحقق أن المضغوط صرفه في مصالحه، فلا يصل حينئذ إلى أخذ متاعه إلا بدفع الثمن، وسواء علم المبتاع بأن ما اشتراه للمضغوط أو لم يعلم.
قيل لمطرف: إنهم يخرجون عندنا بغير كبل فيطوفون لبيع متاعهم، فإذا أمسوا ردوا إلى السجن، وقد وكل بهم حراس أو أخذ عليهم حميل والمشتري لا يعلم ذلك أو يعلم، ومنهم من هو في كبل أو عذاب، ومنهم هارب قد أخذ متاعه فباع أو قد أمر بعض أهله ببيعه. قال: كل ذلك سواء وهو إكراه، لأنه أسير مغلوب فلا يبالي بعلم المبتاع أو جهله إلا أن من علم مأثوم، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: وسواء كان عنده عين فتركها وباع خشية أن يزاد عليه أو لم تكن.
مطرف: ومن كان عالماً بحال المضغوط فاشترى شيئاً من متاعه فهو ضامن كالغاصب، وأما من لم يعلم فيشتري في السوق فلا يضمن الدور والحيوان ويضمن ما انتفع به بأكل أو لبس والغلة له، وأما العالم فلا غلة فيه وهو لها ضامن.
قال: وكل ما أحدث [432/أ] المبتاع فيه من عتق أو تدبير فلا يلزم المضغوط، وله أخذ رقيقه من المبتاع سواء علم بحاله أو لم يعلم، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. ولو أعطى المضغوط حميلاً فتغيب فأخذ المال من الحميل لم يرجع الحميل عليه بشيء، ولو
أخذ ما أضغط به من رجل سلفاً، فقال أصبغ: يرجع عليه بما أسلفه، لأن السلف معروف. قال فضل بن سلمة: وعلى أصلها فيرجع الحميل، لأن الحمالة معروف. ولو باع ولد والمضغوط أو زوجته متاع نفسه برسم فدائه فالبيع لازم، لأن هؤلاء الناس لم يضغطوا، ولو لم يبيعوا متاعهم لم يطلبوا، قاله مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ.
حكى جميع ذلك ابن أبي زيد في نوادره ما عدا ما ذكرناه عن اللخمي والسيوري. انتهى كلام ابن راشد.
والإسلام: شرط المصحف والمسلم، وفيها: يصح، ويجبر على بيعه
في هذا الكلام حذف مضافين، أي: شرط جواز شراء المصحف والمسلم، وهذا متفق عليه، فليس الذي في المدونة خلافاً. ويحتمل أن يكون التقدير: شرط صحة شراء المصحف والمسلم، ويدل عليه مقابلته له بما في المدونة. ويكون المصنف قدم الأول، إما لأنه قول سحنون وأكثر أصحاب مالك، وإما لأصحيته بحسب الدليل. قال الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] وهو في معنى النهي، والمذهب أن النهي يدل على الفساد.
والاحتمال الثاني أقرب إلى لفظه، ويرجح الأول: بأن الغالب أن المصنف لا يرجح غير في المدونة.
وصرح المازري: بمشهورية ما في المدونة، لأن الفساد يندفع ببيعه، والشاذ لمالك في الواضحة، قال: ويعاقبان، وينبغي أيضاً على مذهب المدونة أن يعاقب.
اللخمي: وأصل سحنون في كل بيع حرام أن البيع غير منعقد، وهو بعد القبض على ملك البائع. ووقع لمالك في مختصر ما ليس في المختصر مثل ما تقدم له في الواضحة، أنه يفسخ ولو باعه لمسلم وتداولته الأيدي ويترادون الأثمان، فإن هلك عند النصراني ولم يبعه كانت عليه القيمة.
اللخمي: ومحمل قوله في رد البياعات أن ذلك عقوبة لئلا يعود لمثل ذلك، ولو كان البيع عنده لا ينعقد كما قال سحنون لم يضمن قيمته.
ورده ابن عبد السلام بأنه لا مانع من عدم انعقاده مع تعلق الضمان بمشتريه إذا قبضه، لأنه قبضه لحق نفسه قبضاً غير شرعي.
وقيد ابن رشد الخلاف بأن يكون البائع عالماً بأن المشتري نصراني، قال: ولو باعه من نصراني وهو يظنه مسلماً لبيع عليه ولم ينفسخ اتفاقاً.
وعورض مذهب المدونة هنا بما في كتاب المديان فيمن له دين على رجل فباعه من عدوه المديان أنه يفسخ، ولم يقل: يباع على مشتريه. والجامع انتقال الملك إلى العدو في المحلين. وأجيب: بأن الدين يتعذر بيعه غالباً بخلاف المسلم والمصحف، ويلحق بالمسلم والمصحف بيع آلة الحرب للحربي، وبيع الدار لمن يتخذها كنيسة، والخشبة لمن يجعلها صليباً، ونحو ذلك. والإسلام شرط مختص بالمشتري اتفاقاً دون البائع.
وله العتق والصدقة والهبة
وإذا قلنا بمذهب المدونة: أو أسلم العبد، فالغرض خروجه عن ملكه، فله أن يعتقه ويتصدق به ويهبه. وظاهره ولو كانت الهبة لمن يعتصر منه، كما لو وهبت النصرانية المسلم لولدها الصغير من زوج مسلم، وهو قول ابن الكاتب، وأبي بكر بن عبد الرحمن خلافاً لابن شاس.
المازري: بناء على أن من ملك أن يملك، هل يعد مالكاً أم لا، واختار ابن يونس الجواز، واحتج المانع بما في المدونة فيمن ملك أختين فوطئ إحداهما لا يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى، ولا تكفيه هبتها لولده الصغير، لقدرته على الاعتصار.
وأجاب ابن يونس: بأن مالك الأختين مسلم فجاز له الاعصتار، بخلاف النصرانية لا يجوز لها أن تعتصر العبد المسلم، كما لا يجوز لها أن تشتريه. قال: فإن وقع الاعتصار منها بيع عليها. ويجب على قول غير ابن القاسم أن ينقض اعتصارها.
فرع: لو وهب النصراني العبد المسلم للثواب فلم يثبه فله أخذه ليباع عليه، فإن وهب مسلم أو نصراني عبداً مسلماً لنصراني أو تصدق به عليه، جاز ذلك وبيع عليه والثمن له.
بخلاف الرهن ويأتي برهن ثقة، وقيل: بل يعجل
أي: أن البعد المشتري على مذهب المدونة، وكذلك العبد إذا أسلم ليس للسيد الكافر رهنه لكونه باقياً على ملكه، وحذف المعطوف عليه، أي: فيباع العبد ويأتي برهن ثقة. وحذف الشرط، أي: إن أراد الكافر أخذ الثمن، وإلا فلو عجله في الدين لكان له ذلك، وهذا هو مذهب المدونة. وقيده بعض القرويين بما إذا انعقد البيع على رهن مطلق، وأما إن رهنه هذا العبد بعينه ليبيع عليه وحل حقه ولم يكن له أن يأتي فرهن آخر. ابن يونس: وعاب عض أصحابنا هذا القول وهو جيد.
وقيل: بلي يعجل الثمن للمرتهن، وإن أتى الراهن برهن ثقة. ونسبه اللخمي، وابن شاس، وابن راشد لسحنون. وحكى ابن يونس عن سحنون أن ثمن العبد يبقى تحت يد المرتهن ولا يعجل له ولا يلزمه قبول رهن آخر، لأنه قد تحول أسواقه عند الأجل.
[432/ب] وعورض قول ابن القاسم هنا: أنه لا يلزمه تعجيل الثمن، بقوله فيمن أعتق العبد الرهن أنه يعجل الثمن، وإنما يأتي على قول عبد الملك: إن له أن يأتي برهن آخر. وأجاب ابن محرز بأن المرتهن كان عالماً بإسلام العبد فرهنه على ذلك فكان النصراني متعدياً في رهنه لحق العبد دون حق المرتهن، فلذلك كان له أن يأتي برهن آخر، بخلاف الراهن يعتق الرهن فإنه تعدى على المرتهن.
خليل: ولو قيل: إذا ارتهنه منه مسلم وهو عالم بإسلام العبد بطل الرهن لكان له وجه، لأنه دخل على رهن لا يجوز.
وجعل اللخمي محل الخلاف إذا كان الإسلام قبل الرهن، وأما إن أسلم بعد الرهن لم يعجل ثمنه إذا أتى برهن مكانه.
وفي رده عليه بعيب أو الأرش قولان لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه فسخ أو ابتداء ....
أي: وفي رد العبد المسلم على الكافر بسبب عيب كان في ملكه أو تعيين الأرش قولان. والمبنى الذي ذكره ظاهر، فإن قلنا أنه فسخ جاز رده وهو قول ابن القاسم، والقول الآخر لأشهب وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب.
ولو كان الخيار لبائع مسلم ففي منع إمضائه قولان لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه ابتداء أو تقرير ....
أي: لو باع مسلم عبداً كافراً لكافر على أن الخيار للبائع، ثم أسلم العبد في مدة الخيار فهل يمنع المسلم من إمضاء البيع أو لا؟ قولان، منشأهما هل بيع الخيار منحل فيمنع، لأنه كابتداء بيع، أو منبرم فيجوز؟ والظاهر: المنع، لأن المعروف من المذهب انحلاله، والظاهر المنع إن قلنا أنه منبرم، إذا لا فرف بين ما بيد المسلم ورفع تقريره، وبين ابتداء بيعه بجامع تملك الكافر للمسلم في الوجهين. وظاهره: أن القولين منصوصا، وإنما ذكرهما المازري تخريجاً على الخلاف في بيع الخيار.
وقوله: (لبائع) منون، و (مسلم) صفة له، ولا يجوز أن يقرأ بائع مسلم بالإضافة، لأنه يقتضي أن العبد مسلم ويبقى البائع أعم، وليس كذلك.
وتقييده الخيار بالبائع يقتضي أن الحكم بخلاف ذلك إذا كان الخيار للمشتري، كما لو باع النصراني عبداً للنصراني على أن الخيار للمشتري فأسلم العبد، فإن كان المشتري نصراني استعجل استعلام ما عنده من رد أو إمضاء ولم يمهل إلى تمام مدة الخيار، لئلا يدوم ملك الكافر للمسلم. وإن كان المشتري مسلماً.
المازري: فظاهر المدونة أن المشتري يمهل إلى انقضاء أيام الخيار، لتعلق حقه بالتأخير وهو مسلم، ولا يبطله حق مسلم آخر، وهو العبد الذي أسلم. انتهى. أي: فإن رده بيع على ربه.
وفي ابن يونس عن بعض أصحابنا: إن كان المتبايعان كافرين والخيار إلى أجل تعجل، إذ لابد من بيع فلا فائدة في تركه إلى الأجل، وإن كان أحدهما مسلماً لم يعجل الخيار، إذ قد يصير للمسلم منهما.
فرع: إذا أسلم العبد وسيده غائب وهو كافر، فإن كان بعيد الغيبة باعه السلطان، وإن كان قريب الغيبة كتب إليه، لئلا يكون قد أسلم قبله، قاله في المدونة.
فرع: قال المازري: وإذا أسلم عبد النصراني وجب بيعه عليه من مسلم ولا يؤخر إلا بحسب الإمكان. وهل يجوز له أن يبيعه على الخيار له؟ فيه نظر، لأن المبيع على الخيار على ملك البائع وخراجه له، أو يقال: قد يحتاج إلى إثبات الخيار للاستقصاء في الثمن، والعدول عن ذلك تضييق على الذمي، ولا يدفع ضرر بإثبات ضرر.
وفيها: الصغير كالمسلم، وقيل: لا
ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الصغير الكافر لا يباع إلا من مسلم، وأنه إن بيع من كافر أجبر على بيعه، هذا هو حقيقة التشبيه والذي في المدونة.
قال ابن نافع عن مالك في المجوس: إذا مُلِكوا أجبروا على الإسلام، ويمنع النصارى من شرائهم ومن شراء صغار الكتابيين، ولا يمنعون من كبار الكتابيين، فلم يتعرض إلا للمنع ابتداء، وأما إذا وقع فهل يجبر على بيعه؟ لم يتعرض له، ولهذا قال في الجوهر: لما نقل عن المدونة منع البيع قال في العتبية: فإن بيع منه فسخ البيع. قال الإمام: ويتخرج فيه على القول الآخر أنه يباع. فجعل فسخ البيع وصحته والجبر على البيع مفرعاً على ما في المدونة.
قال في تهذيب الطالب: قال مالك: وإذا بيع من النصارى من يجبر على الإسلام بيع عليهم ما اشتروا، إلا أن يتدينوا بدينهم فيتركون، عبد الحق: يعني مثل المجوس.
وتأول صاحب التنبيهات ما في المدونة من بيع الصغار الذين لا آباء لهم، لأنهم إذا لم يكن لهم آباء فهم على دين من اشتراهم، فإذا اشتراهم مسلم لم ينبغ له أن يبيعهم من كافر، سواء وافق الصغير المشترى في الدين أو خالفه.
قال: وعلى هذا تأول المسألة بعض مشايخنا، وتأولها بعضهم على الصغار الذين ليسوا على دين مشتريهم، كصغار اليهود مع النصارى أو العكس، للعداوة التي بينهم، قال: وهو بعيد لتفريقه بين الصغار والكبار.
وقوله: (وقيل: لا). هو قول ابن المواز، قال: لأنا لسنا على يقين من قبوله الإسلام.
وقوله في المدونة: ولا يمنعون من كبارهم، قال في الجواهر: بشرط أن يسكن به في أرض الإسلام، وأما إن كان يخرج به منع، لما يخشى [433/أ] من إطلاعه أهل الكفر على عورة المسلمين.
وفي اليهودي مع النصراني قولان
أي: وفي حكم اليهودي مع النصراني يباع أحدهما من الآخر قولان:
أحدهما: أن ذلك جائز، لأن المالك يشفق على ملكه وليس فيه حق لله تعالى، وإن أداه أمكن تدارك حقه بالمنع أو البيع.
والثاني: عدم الجواز لما بينهما من العداوة. والأول حكاه سحنون عن بعض أصحاب مالك، وهو ظاهر قول مالك من رواية ابن نافع عنه في المدونة، وقد تقدمت. ونسبه اللخمي، والمازري، وابن شاس لابن المواز. والثاني لابن وهب، وسحنون.
اللخمي: وهو أحسن، للعداوة التي بينهم.
وفي الكتابي يشتري غيره، ثالثها: يمنع في الصغير، وخرجت على إجبارهم
يعني: أنه اختلف في جواز بيع المجوسي وغيره ممن لا كتاب لهم من كتاب على ثلاثة أقوال، وهكذا حكى المازري الثلاثة، الجواز مطلقاً: قال: وهو ظاهر المدونة، قال: وفيها ما علمته حراماً وغيره أحسن. قال: وأطلق الجواب في الصغير والكبير. والمنع مطلقاً: وعزاه لابن عبد الحكم. والثالث: الفرق، الجواز في الكبار والمنع في الصغار، وعزاه للعتبية. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بالمجوسي المسبي الذي لا بصيرة له في دينه، وأما الذي ثبت على دينه بين ظهراني المسلمين، فلا خلاف أنه لا يجبر على الإسلام.
وقوله: (وَخرجت) هذا التخريج للمازري، وهو تخريج توجيه، لأن الثلاثة منصوصة على ما تقدم، أي: فعلى القول بإجبارهم مطلقاً يمنع من بيعهم للكفار مطلقاً، وتصوره واضح.
وذكر صاحب البيان في باب الجنائز أنه لا خلاف في جبر الصغير من المجوس، وقد قدمنا كلامه في باب الجنائز، وهو يخالف ما ذكره المازري والمصنف من حكايتهما الخلاف مطلقاً، ويمكن أن يحمل كلام المازري على ما إذا كان مع الصغير أبوه، وكلام ابن رشد على ما إذا لم يكن فيتفق الكلامان. وفسر المازري واللخمي الإجبار هنا بالتهديد والضرب لابالقتل. المازري: لأنه لم يتدين بدين الإسلام ثم ارتد عنه.
الثالث: المعقود عليه طاهر منتفع به مقدور على تسليمه معلوم
أي: الركن الثالث: المعقود عليه، وهو الثمن والمثمون، وشرط فيه أربعة شروط واحترز بكل شرط عما يقابله، فاحترز بالطاهر من النجس، ولا يريد العموم في كل نجس بل ما نجاسته ذاتية أو كالذاتية، وأما إن كانت نجاسته عرضية فلا خلاف في عدم اعتبارها. ثم أخذ- رحمه الله يتكلم على الأول منها فالأول، فقال:
وفيها: منع بيع العذرة، ورد ابن القاسم منع الزبل مخرجاً
هذا ما يتعلق بقوله (طاهر). وظاهر ما نسبة للمدونة التحريم كابن شاس. والذي فيها: وكره مالك بيع العذرة. قيل لابن القاسم: فما قول مالك في زبل الدواب؟ قال: لم أسمع منه فيه شيئاً إلا أنه عنده نجس، وإنما كره العذرة لأنها نجسة فكذلك الزبل أيضاً، ولا أرى أن ببيعه بأساً. قال أشهب في زبل الدواب: والمبتاع أعذر من البائع. فانظر كيف عبر بالكراهة في موضعين، نعم عبر أبو عمران وعياض عن مالك بـ (لا يجوز) وهو موافق للمصنف، ولعل الذي حملهم على ذلك التعليل بالنجاسة.
ونقل اللخمي عن أشهب في تمام كلامه الذي في المدونة: وأما العذرة في خير فيها. ونقل عنه أيضاً أنه قال في الموازية: بيعها للاضطرار والعذر جائز والمشتري أعذرهما.
وقال محمد ابن عبد الحكم: وما عذر الله واحداً منهما وأمرهما في الإثم واحد، ويجوز أن يبيع العذرة، قاله ابن الماجشون. وأجرى اللخمي قولاً لابن القاسم بجواز بيع العذرة من إجازته بيع الزبل، وأنكر ذلك عليه ابن بشير وزعم أنه تخريج في الأصول من الفروع، وهو عكس القواعد. وما قاله اللخمي هو الظاهر، لأنه لا مانع لبيع كل منهما غير النجاسة، وإذا سلم اتحاد العلة وجب وجود الحكم معها حيث وجدت. وما فرق به أبو عمران من أن نجاسة الزبل مختلف فيها ونجاسة العذرة متفق عليها، مبني على مراعاة الخلاف والأصل عدمه، وهذا القدر لا يوجب تخطئة الأئمة على أن هذا الفرق لا ينهض عند ابن القاسم، لأنه لو نهض عنده لما ألزم مالكاً منع بيع الزبل بالقياس على العذرة.
والزيت النجس يمنع في الأكثر، بناء على أنه لا يطهر، وفي وقوده في غير المسجد وعمله صابوناً قولان ....
قول الأكثر مبني على عدم تطهيره، وصرح المازري بمشهوريته، ومقابله رواية وقعت لمالك وبها كان يفتي ابن اللباد. وفيه قول ثالث بجواز البيع لغير المسلم، وهو
ضعيف، لأن المسلم لا يبيع ما لا يحل له، وقد تقدم هذا الفرع في باب الطهارة. والمشهور: أنه يستصبح به في غير المساجد ويعمل صابوناً، لكن تطهر الثياب بعد ذلك بالمطلق، ودل كلامه على منعه في المسجد اتفاقاً.
وعظام الميتة، ثالثها: يجوز في ناب الفيل
الخلاف مبني على الخلاف في الطهارة، والمشهور: أنه نجس فلا يباع. والثاني: لابن وهب، لأنه هو القائل بالطهارة. والثالث: نسبه في الجواهر لمطرف وانب المجاشون، ولا عندهما بين أن يغلى أو لا.
اللخمي: وناب الفيل كالقرن يجري ما في القرن فيه، قال: وهو قرن منعكس وليست بأنياب ولا في الفم، وأجرى الخلاف الذي في أطراف القرون في الظفر إذا [433/ب] قطع من موضع لا يألم. وللأبهري قول رابع: بالكراهة. ولابن وهب خامس: بالجواز إذا غليت، والمنع إذا لم تغل.
فائدة: منع مالك في العتبية الخبز المخبوز بروث الحمير، ونصها: وسألته عن الطعام يوقد تحته بأرواث الحمير أيؤكل أم لا؟ فقال لي: أما الخبز الذي ينضج فيه فلا يؤكل، وأما ما طبخ في القدور فأكله خفيف وهو يكره بدءاً، وقال سحنون مثله. وعلل ذلك في البيان بأن ما في القدور لا يصل إليه من عين النجاسة شيء من أجل الحائل الذي بينه وبينه وإنما يكره من أجل دخان الروث، لما في ذلك من الشبهة من أجل من يقول: إن الدخان نجس وإن لم يكن عندنا نجس.
ابن القاسم: ولا أرى أن يوقد بعظام الميتة في الحمامات، ولا أرى به بأساً أن يخلص بها الفضة، وقال في المدونة: لا يطبخ بعظام الميتة أو يسخن بها الماء لوضوء أو عجين، ولا بأس أن يوقد بها على طوب أو حجارة.
عياض: وظاهره جواز الانتفاع بعظام الميتة، بخلاف ما في الموازية أنه لا يحمل الميتة إلى كلابه. وقيل: لعله تكلم بعد الوقوع لا في الجواز ابتداءً. وقيل: لعله وجدها مجتمعة وأطلق النار فيها، فكانت كسوق الكلاب للميتة، وهو بعيد، لأن طبخ الجير لا يتصور إلا بترتيب وعمل، وظاهر المسألة استعمال الطوب والجير في كل شيء، لأنه وإن باشر النجاسة أو داخله من رطوبتها شيء فقد أذهبت النار عينها وأثرها. وكذلك ما طبخ من الفخار بها، بخلاف ما ينعكس فيه دخانه من الطعام، أو يلاقيه من رطوبة الشواء والخبز، وإن كان أبو جعفر الأبهري حكى عن مالك في الفخار يطبخ بالنجاسة: أنه لا يجوز استعماله وإن غسل، وهو قول القابسي وغيره. وقال ابن شبلون: لا تستعمل إلا بعد غسلها وتغلية الماء فيها كقدور المجوس وهو الصواب عندي، بل هي أخف، لأن الدهنية التي دخلت قدور المجوس باقية بخلافها هنا، لأن الدهنية قد أكلتها النار فلم يبق لها عين ولا أثر. انتهى بمعناه.
وقال شيخنا- رحمه الله: ينبغي أن يرخص في الخبز بالزبل في زماننا بمصر، لعموم البلوى به، وأن يراعى فيه قول من رأى النار تطهر، وأن النجاسة إذا صارت رماداً طهرت، ولنا قول بطهارة زبل الخيل، وقول بكراهته منها ومن البغال والحمير، فيخف الأمر مع مراعاة هذا الخلاف، وإلا فيتعذر على الناس أمر معيشتهم غالباً، والحمد لله على خلاف العلماء فإنه رحمة للناس.
وفيها: منع جلود الميتة وإن دبغ، وقيل: يجوز. وفيها: جواز جلد السبع المذكى وإن لم يدبغ، وقيل: لا يجوز ....
القولان في جلد الميتة مبنيان على الطهارة وعدمها بالدباغ، ومقابل المشهور لابن وهب: جواز البيع بعد الدبغ بشرط البيان، وهو قول مالك في المختصر.
ومقابل المشهور في جلد السبع لأشهب: مقيد بعدم الدبغ، وأما إذا دبغ فيجوز. كذا نقله ابن عبد البر عنه. وفرق ابن حبيب بين العادية فيمنع، وغير العادية كالهر والثعلب فيجوز بيعها والصلاة عليها، بناء على أن الذكاة تتبعض.
وفي كلب الصيد والسباع قولان
هذا راجع إلى القيد الثاني، وهو قوله: منتفع به، وكذا قال ابن راشد، أي: وفي منع بيع الكلب أو جوازه، والمشهور: المنع. قال في البيان: وهو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والجواز لابن كنانة وابن نافع وسحنون.
سحنون: أبيعه وأحج بثمنه وشهره بعضهم. وعن مالك ثالث: بالكراهة. وعن ابن القاسم: أفتى بجواز اشترائه ومنع بيعه، حكاه ابن زرقون، وحكى عنه ابن رشد وغيره كراهة بيعه. ولمالك في المدونة: يجوز بيعه في الميراث والدين والمغانم، ويكره بيعه للرجل ابتداء. وهذا الخلاف إنما هو في مباح الاتخاذ، وأما غيره فلا خلاف في عدم جواز بيعه وأن ثمنه لا يحل، نقل ذلك في البيان. وعلى المشهور: فروى أشهب: يفسخ إلا أن يطول، وحكى ابن عبد الحكم: يفسخ وإن طال.
وقوله: (والسباع) قال بعض من تكلم على هذا الموضع: أي وفي الكلب الذي يحرس الماشية من السباع وفي معناه كلب الزرع، فإن اتخاذ الكلب لذلك جائز. واختلف في بيعه كما ذكره المصنف، ونقله الباجي وغيره.
وذكر المازري خلافاً في الكلب الذي يتخذ لحراسة الدور والقياصير والفنادق، وللمنع ذهب ابن القصار، وأجاز فيه شيخنا- رحمه الله وجهاً آخر، وهو أن يريد بالسباع التي في معنى الكلب كالفهد ونحوه، وهو الذي اقتصر عليه ابن راشد، فقال: يعني السباع كالفهود ونحوها، بناء على وجود المنفعة فيها، أو كونها منفعة يسيرة فلا تقابل بالعوض.
ويجوز بيع الهر والسباع لتذكيتها لجلودها، فإذا ذكيت بيعت جلودها وصلي فيها وعليها بخلاف الكلب مطلقاً ....
هذا معنى ما في المدونة في كتاب الضحايا، وعلى القول: أن جلود السباع لا تعمل فيها الزكاة لا يجوز البيع هنا، واستشكل الجواز لوجهين.
أحدهما: لا يدري أيسلم الجلد أم لا؟ وأجيب بأنه يحتاط له من اللحم.
والثاني: لا يدرى أرقيق أم غليظ؟ وأجيب بأنه مما يعلم بالعادة لاسيما القصابون.
ويؤخذ من هذه المسألة جواز بيع الجلد وهو على [434/أ] ظهره الحيوان، لأنه لما كان السبع لا يؤكل لحمه على المشهور، فإذا بيع لجلده فكأن البائع لم يبع إلا جلده فقط.
وحصل في البيان في بيع الجلد قبل الذبح ستة أقوال.
الأول: الجواز. والثاني: الكراهة ويمضي بالثمن. والثالث: الكراهة ويفسخ، إلا أن يذبح البائع الشاة فيمضي بالثمن. والرابع: الكراهة ويفسخ، إلا أن يقبضه المبتاع فيمضي بالثمن. والخامس: يفسخ، إلا أن يقبض المشتري الجلد ويفوت عنده فيمضي بالثمن. والسادس: إن شراءه لا يجوز ويفسخ، فإن فات عند المشتري صح بالقيمة.
وقوله: (بخلاف الكلب مطلقاً) ابن راشد: يعني أن الكلب غير المأذون في اتخاذه لا يجوز بيعه لمن يبقيه حياً أو يذكيه لأخذ جلده، لوجود النهي عن بيعه وعن اتخاذه. خليل: ويدخل في قوله: (مطلقاً) المأذون في اتخاذه.
ولا يباع من في السياق
ابن عبد السلام: من هنا ابتدأ بالكلام على ما يتعلق بقوله: (منتفع به) وما تقدم أولى، لأن النافع إذا كانت ممنوعة شرعاً فهي كالمعدومة حساً، وهو الذي في الجواهر، لأنه تكلم على مسألة الكلب وما بعدها لما تكلم على قوله:(منتفع به) ولأنه لو كان قال ابن
عبد السلام للزم أن يكون الكلام على الكلب داخلاً في مقابل قوله: (طاهر) وليس بجيد، لأن الكلب عندنا طاهر.
وما ذكره المصنف خاص بالرقيق وما لا يؤكل لحمه، لأنه من أكل المال بالباطل وأما مأكول اللحم فيباع ليذكى، فيجوز بيعه لحصول المنفعة به، قاله ابن عبد السلام.
ويجوز بيع المريض المخوف عليه والحامل المقرب على الأصح
إن كان الحيوان مما يؤكل لحمه فيجوز بيعه، لأن المنفعة به حاصلة في الحال، وإن كان مما لا يؤكل لحمه والمرض خفيف فيجوز أيضاً، وإن كان مخوفاً، أو الحامل مقربا من الولادة، فكذر المصنف أن الأصح الجواز وهو الأقرب، وأشار غيره إلى أن الأصح المنع، لأن الموت حينئذ كثير، بدليل منعه ما زاد على الثلث. ولعل الخلاف خلاف في حال.
ولا يباع الطير في الهواء، ولا السمك في الماء، ولا الآبق والشارد، والإبل المهملة لاستصعابها ....
هذا راجع إلى قوله: (مقدور على تسليمه) وتصوره ظاهر.
اللخمي: وبيع الآبق فاسد إن شرط أنه من المشتري، أو على أنه من البائع حتى يقبضه المشتري، أو على أن طلبه على المشتري، أو على البائع بشرط النقد، أو بغير النقد على أنه للمشتري بأي صفة وجد عليها، أو على أنه على صفة كذا ولا يدري متى يجده قريباً أو بعيداً وإن كان البيع بغير نقد، وعلى أن طلبه على البائع، فإن وجده على صفة كذا أو في وقت كذا أو ما يقارب ذلك جاز، لأنه لا يجوز فيما عقد على هذه الصفة.
وقد قال ابن القاسم فيمن قال: اعصر زيتونك فقد أخذت زيته كل رطل بدرهم وكان يختلف خروجه، لا خير فيه إلا أن يشترط إن خرج جيداً، أو أنه بالخيار ولا ينقد وإن عرف مكانه وقبض عليه وسجن وعرف حاله بعد وجوده ولا خصومة فيه وقرب
موضعه، جاز العقد والنقد، وإن بعد جاز العقد وحده، وإن لم تعلم صفته لم يجز عقده ولا غيره، إلا أن يقول: إن وجد على ما كنت أعرفه، أو على أنه إن كان الآن على صفة كذا فيجوز العقد، أو يكون بالخيار فيجوز وإن لم يذكر صفة،
وفي الاستذكار: تحصيل مذهب مالك في بيع الآبق أنه لا يجوز، إلا أن يدعي مشتريه معرفته فيشتريه ويتواضعان الثمن، فإن وجده على ما يعرفه قبضه، وإلا رد الثمن وضمانه من البائع، وإن كان الآبق عند المشتري فإن علم البائع حاله جاز البيع، لأنه قد يزيد وينقص.
مالك: وبيع العبد في إباقة فاسدة وضمانه من بائعه ويفسخ وإن قبض.
وكلام ابن عبد البر مخالف لكلام اللخمي، إذ مقتضاه أنه لا يجوز بيعه إذا كان طلبه على البائع بشرط أن يجده على صفة كذا، أو على أنه بالخيار. وقد صرح المازري وابن بشير: بأن ما قاله اللخمي اختيار له، وما ذكره المصنف في الإبل المهملة نحوه في العتبية من رواية أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يجوز بيع الصعاب من الإبل وما لا يؤخذ إلا بالإزهاق ولا يعرف ما فيها من العيوب.
ابن القاسم: ولا يجوز بيع المهاري والفلاء الصغار بالبراءة ولا يعلم بها عيب أم لا.
قال أصبغ في العتبية: إن بيع الفلاء ونحوها بالبراءة جائز. قال في البيان: وقول أصبغ هو الصحيح. المازري: اختلف في تعليل المنع، فمنهم من أشار إلى لا يمكن قبض الإبل إلا بالإزهاق، ومنهم من أشار إلى كونها لا تعلم صفتها. ويمنع بيع طير الهواء وسمك الماء بشرط التعيين، وأما مطلق السمك والطير فيجوز.
والمغضوب إلا من غاضبه
هو معطوف على الطير. أي: ولا يباع المغصوب إلا من غاصبه، لأنه تحت يده. وجعل ابن رشد وغيره بيع المغصوب من غير غاصبه على ثلاثة أوجه، إن كان مقدوراً
عليه مقراً بالغصب فهو جائز باتفاق. وإن كان ممتنعاً من دفعه وهو ممن لا تأخذه الأحكام مقراً أو غيره لم يجز بيعه من غيره اتفاقاً. وإن كان منكراً وهو ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة فقولان، بناء على القولين في اشتراء ما فيه خصومة.
ابن رشد: والمشهور منهما المنع، لأنه غرر، وأما من بيعه من غاصبه فجعله ابن رشد على ثلاثة أوجه: الأول: أن يعلم أنه عازم على رده. والثاني: أن يعلم أنه غير عازم على رده وإن طلبه ربه. والثالث: أن يشكل أمره. فالأول يجوز باتفاق، والثاني عكسه، والثالث فيه قولان. قال: وإلى هذا ترجع الروايات. انتهى.
وبالفساد قال مطرف ورواه عن مالك، [434/ب] وبذلك حكم القاضي ابن بشير في جارية بقرطبة لم يتم السلطان شراءها حتى طحنت لصاحبها ستة أشهر بعد ردها إليه من الغاصب، لئلا يكون بيع المضغوط، والجواز هو ظاهر قول مالك في العتبية، ورواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب.
ابن عبد السلام: وأكثر نصوصهم أنه لا يجوز البيع للغاصب، إلا بعد أن يقبضه ربه ويبقى بيده مدة طويلة حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر، ورأى أن بائعه إذا باعه على غير ذلك فهو مضغوط، أي: يبيعه ببخس مكرها استخلاصاً لبعض حقه، والذي في المدونة جواز ذلك.
خليل: وكذلك لا يجوز أيضاً أن يبيعه من غير الغاصب إذا كان المشتري يقدر على خلاصه بجاهه، لأنه يأخذه ببخس فيكون من أكل المال بالجاه.
تنبيه: قال في المدونة: ولو باعها ربها من رجل غير الغاصب ممن رآها وعرفها كان نقضاً لبيع الغاصب. أي: إذا اشتراها شخص من الغاصب غير عالم، وظاهره جواز بيعها من غير الغاصب، وهو خلاف ما ذكره المصنف، إلا أن يتأول على أن ربها لم يبعها من غير الغاصب إلا بعد تمكنه من أخذها، ولهذا قال الشيخ أبو الحسن: إن الشيوخ يقولون إن معناها: إذا سلم من شراء ما فيه خصومة.
وفيها: لو باعه الغاصب ثم ورثه فله نقضه، بخلاف ما لو اشتراه من ربه لتسببه، وقال ابن القاسم: البيع تام فيهما ....
أي: إذا باعها الغاصب ثم مات ربها وكان الغاصب وارثه، فله نقض ذلك البيع، لأنه لما باع باع ما لم يكن ملكاً له- وتصور كلامه واضح- كأنه نسب المسألة للمدونة لاستشكاله الفرق بين الإرث والبيع، إذ لا يبعد تخريج النقض في الشراء من الميراث، لأنه إما تمام فيهما أو منتقض فيهما، والتسبب وعدمه وصف طردي لا كبير مناسبة له، والضمير في (فيهما) عائد على مسألة الوارث والمشتري.
ابن عبد السلام: انظر لو اشترى الغاصب السلعة من ربها بأقل مما باعها به للأجنبي، هل يكون له ما بين الثمنين أو لا؟ وقد قال محمد فيمن تعدى على سلعة رجل فباعها بغير أمره، ثم اشتراها بأقل مما باعها للأجنبي ليس له ربح، لأنه ربح ما لم يضمن. أو يفرق بينهما بأن الغاصب هنا كان ضامناً، ولم يكن المتعدي في مسألة محمد ضامناً.
والمرهون يقف على رضا المرتهن
أي: وبيع الراهن الشيء المرهون يصح ويقف لزومه على رضا المرتهن، يعني: بعد القبض والحوز، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في باب الرهن.
وملك الغير على مالكه، وقيل: لا يصح
وقع لفظ الغير- كما ترى- بـ (أل) وكذلك وقع في كلام جماعة من الأئمة، وأنكر ذلك بعض أئمة العربية، وقال: إنها لا تستعمل إلا مضافة في اللفظ، والتقدير: وبيع ملك غيره بغير إذنه ويقف لزومه على رضا مالكه، وهو مذهب أحد بن حنبل، وتعرف هذه المسألة ببيع الفضولي. ودليلنا: ما خرجه الترمذي عن أبي لبيد لما رواه عن عروة البارقي قال: دفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً لأشترى له شاة، فاشتريت له
شاتين، فبعت أحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما كان من أمره، فقال له:((بارك الله لك في صفقة يمينك)) فكان يخرج بعد ذلك إلى الكوفة فيربح الربح العظيم، فكان من أكثر أهل الكوفة مالاً. عبد الحق: وأبو لبيد أثنى عليه أحمد ثناء حسنا، وخرجه البخاري عن شبيب. وظاهر كلامه: أن البيع يصح ولو علم المشتري أنه لغير البائع، وهو ظاهر المذهب. وقال أشهب: لا يصح إذا علم المشتري بالتعدي.
ابن عبد السلام: وبعضهم قيد الخلاف بما إذا لم يكن المشتري عالماً بأنها ملك الغير، وأما إن كان عالماً لم يصح البيع. ومنهم من يرى أن لا فرق. ومنهم من يقول: إنما يلزم هذا لبيع للمشتري إذا كان المالك حاضراً أو قريب المكان، وأما إن كان بعيد المكان فلا يلزمه البيع، لما يلحقه بسبب الصبر من الضرر.
وقوله: (وقيل: لا يصح) أي: ولو أمضاه مالكه، وحكي عن مالك، وهو مذهب الشافعي. وإن قيل: لا يظهر لهذا الخلاف جدوى، لأن البيع على المشهور إنما يمضي برضا البائع، وحينئذ فلا نسلم استناد البيع إلى العقد الأول بل إلى رضا المالك، ولاسيما على المذهب في الاكتفاء بالمعاطاة، فجوابه: أنه لو رضي المالك ولم يرض المشتري للزم على المشهور، وهو واضح.
والعبد الجاني يقف على ذي الجناية فيأخذ الثمن أو العبد، وللسيد أو المبتاع دفع الأرش، وفي كونه عيباً في الخطأ قولان
…
يعني: أن من باع عبده الجاني، فإن إمضاء بيعه يقف على رضا ذي الجناية، أي: المجني عليه، لتعلق حقه بعين الجاني فجاز له أن يأخذه، إلا أن يفتكه السيد، وكذلك له أن يقتص منه إن كان في الجناية القصاص.
وقوله: (فيأخذ الثمن) أي: يأخذ المجني عليه إن شاء الثمن الذي باعه به سيده، وإن شاء فسخ البيع وأخذ العبد، وهذا إذا لم يدفع السيد ولا المبتاع أرش الجناية. وحذف المصنف هذا الشرط، للدلالة عليه بقوله:(وللسيد أو المبتاع دفع الأرش) فإن امتنع السيد من دفع الأرش وادعى عليه المجنى عليه أنه إنما باع لأنه رضي بحمل الجناية، حلف ما أراد حملها، فإن حلف خير المجني عليه بين إجازة البيع وأخذ الثمن، وبين رد البيع، قاله في المدونة. وحيث دفع المبتاع [435/أ] الأرش، فإنه يرجع به على البائع، إلا أن يكون الثمن أقل منه فلا يرجع إلا به.
وقوله: (وفي كونه عيباً) أي: إذا دفع السيد الأرش أو عفا المجني عليه، فهل يكون للمشتري مقال في رده بعيب الجناية؟ إن كان عمدا فله القيام اتفاقاً، وإن كان خطأ فقولان، سببهما: هل ذلك عذر أم لا؟ إذ لا تؤمن منه العودة، وهما في المدونة، ففيها: ولو افتكه البائع فللمبتاع رده بهذا العيب، إلا أن يكون البائع بينه له فيلزمه البيع. قال غيره: هذا في العمد، وأما في الخطأ فلا وهو كعيب ذهب.
وحكاية المصنف القولين يدل على أن قول غيره ليس تقييداً لقول ابن القاسم، وجعله في النكت تقييداً، قال في قوله ابن القاسم: يريد به العمد كما قال غيره، فعلى هذا لا يختلف في الخطأ أنه ليس بعيب، ولا في العمد أنه عيب.
وفيها: قال ابن دينار: من حلف بحرية عبده فباعه نقض البيع وعتق
أجمل في هذه المسألة إذ لم يبين هل كانت يمينه على بر أو حنث، وابن دينار إنما قاله في الحنث، ولو كان على بر لم ينقض البيع.
وصورة المسألة: إذا حلف ليضربن أمته مثلاً ضرباً يجوز له. قال في المدونة: منع من البيع والوطء حتى يفعل، فإن باعها نقض البيع. والمشهور: يرد إلى ملكه، فإن مات قبل
الضرب عتقت عليه في ثلثه. والشاذ لابن دينار: أنه ينقض البيع وتعتق عليه، قال: ولا أنقض صفقة مسلم إلا إلى عتق ناجز وضعف، فإنا ننقض البيع للكتابة والتدبير، وأدخل المصنف هذه المسألة هنا لما كان البائع لا قدرة له على تسليم العبد لأجل يمينه.
وفيها: بيع عمود عليه بناء للبائع وقيده المازري بانتفاء الإضاعة وبأمن الكسر
نسب هذه المسألة للمدونة لإشكالها، لكونه أطلق جواز البيع.
وقوله: (بيع عمود) أي: جواز بيع عمود عليه للبائع بناء. وتقييد المازري لابد منه، وقد سبقه اللخمي للتقيد بالقيدين المذكورين.
وقوله: (بانتفاء الإضاعة) أي: إضاعة المال، فإن إضاعته لا تجوز، كما إذا كان لا يقدر على إخراجه إلا بهدم الغرفة التي فوقه، لأن ذلك من الفساد.
اللخمي: إلا أن يكون قد أضعف له في الثمن، أو تكون الغرفة تحتاج إلى النقض، أو كان عليه بناء يسير، ولم يذكر المصنف من عليه النقض، والمنصوص لمالك أنه على البائع. ذكر المازري عن بعض الأشياخ أنه استبعده، قال: ولا وجه لاستبعاده. وفي المدونة: ولا بأس بشراء صل سيف دون حليته وينقض البائع حليته.
ابن يونس: ولو اشترى الحلية دون النصل لكان على المشتري، كاشتراء الصوف على ظهور الغنم جزافا، واشتراه التمر في رءوس النخل جزافا.
وجعل اللخمي نقض الحلية على البائع إذا باعها كما في بيعه النصل، قال: لأن على كل بائع أن يمكن من المبيع، واختلف في هذا الأصل، فقيل: فيمن باع صوفا على ظهور الغنم، أو تمراً في رءوس النخل على البائع، وقيل: على المشتري
وأشار المازري أيضا إلى هذا الإجراء، قال ولو باع شاة واستثنى جلدها، فظاهر المذهب أن الذبح على المشتري.
اللخمي: وأرى أن يكون الذبح عليهما، لأن التذكية منفعة لهما، ثم يختلف هل تكون الأجرة عليهما على السواء، أو على قدر ما لكل واحد منهما ويكون السلخ على صاحب الجلد لأنه على صاحب الجلد لأنه على اللحم، فعلى من له الأعلى أن يزيله.
المازري: وعندي أنه يختلف في السلخ، فإن قلنا: أن المستثنى مشترى جرى على القولين في شراء صوف الغنم، وإن قلنا: أنه مبقى على ملك البائع فالسلخ على البائع.
وفيها: بيع هواء فوق هواء ويبني البائع الأسفل وقيده بوصف البناء
صورتها: أن يقولك له بعني عشرة أذرع فوق سطحك. فيقول: وأنا محتاج إيضاً إليها. فيقول له: فبعها لي فوق ما تبينه. فيشترط في جواز ذلك وصف البناء الأسفل والأعلى، وهل بآخر أو حجر إلى غير ذلك. وظاهرة: أن التقييد في هذه المسألة للمازري، وبه صرح ابن شاس. وهذا التقييد في المدونة في كتاب الغرر فلا حاجة إلى المازري، على أنه يمكن أن يعود الضمير في كلام المصنف على مالك كما مشاه ابن عبد السلام.
فائدة:
قال علماؤنا: من ملك أرضاً أو بناءً مالك هواها إلى أعلى ما يمكن، واختلفوا هل يملك باطنها أو لا؟ على قولين. ورجح بعضهم الملك، لقوله عليه الصلاة والسلام:(من غصب قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين)). وفيه نظر. وقال القرافي: ظاهر المذهب عدم الملك.
فرع:
وفرش السقف بالألواح على من شرط عليه، وإن سكت عنه، فقيل: على المبتاع لأنها أرضه، وقيل: على البائع لأن السقف سقفه.
ابن القاسم: الموثق وهو الأصح، قال: ولا يجحوز للمبتاع بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع، لأن الثقل على حائطه.
وفيها: غرز جذع في حائط، فقال: إن ذكر مدة فإجارة تنفسخ بانهدامه، وإلا فمضمون ....
يعني: يجوز لك أن تشتري من غيرك قدر ما تضع عليه خشبة أو أكثر من جداره، فإن ذكرت مدة فهو إجارة تنفسخ بانهدام الجدار، لأنه قد هلك ما يستوفى منه المنفعة. وإن لم تتعين المدة فهو مضمون، فعليه أن يعيده لتستوفي منفعتك، كما على صاحب [435/ب] السفل لصاحب العلو. وفاعل (قال) عائد على المازري، لأنه هو الذي قيد الكلام الذي نقله المنصف عن المدونة فلا يرد ما قاله ابن عبد السلام: إنه كلام حسن في إجرائه على المذهب، وأما نسبته إلى المدونة فليس بصحيح، لأنه فهم أن فاعل (قال) عائد على مالك.
والجهل بالثمن والمثمون جملة وتفصيلاً مبطل، كزنة حجر مجهول، وكتراب الصواغين ....
هذا راجع إلى قوله: (معلوم). وقوله: (والجهل بالثمن) يحتمل أن يريد بقدر الثمن، ويحتمل بشأنه، ليندرج قدره وصفته وعينه. ومراده بـ (الجملة) مجموعة، وبـ (التفصيل) أجزاؤه. والصور المقدرة بحسب الجهل بالثمن والمثمون والعلم بهما أو بأحدهما أربع: مجهولان، ومعلومان، وأحدهما مجهول، والآخر معلوم، ولا يجوز منها إلا صورة واحدة وهي المعلومان.
وقوله: (كزنة حجر مجهول) يحتمل في الثمن، ويحتمل في المثمون، ولا إشكال في هذا الحضر حيث لا تعدم الموازين.
ابن عبد السلام: وأما في البوادي، فقد يتخرج الجواز فيه على البيع بمكيال لا يعرف المشتري قدره. فإن قيل: الفرق أن الجهالة في الكيل هناك في جانب المشتري فقط، وهنا في
جانب البائع والمشتري معاً. قيل: فلنا أن نفرض الجهالة هنا في جان المشتري وحده. (وكتراب الصواغين) لأنه لا يدري هل فيه شيء أم لا، كثير أم قليل.
فرعٌ مرتبٌ:
فإن وقع بيع التراب فسخ، وإن فات بذهاب عينه فقيمته يوم قبض على غرره إن كان على حاله، وإن خلصه المشتري رده على المشهور.
وقال ابن أبي زيد القيرواني: على المشتري قيمته على غرره، وعلى المشهور فله أجر تخلصيه.
وأجرى الأشياخ ذلك على الخلاف فيمن اشترى أشجاراً بوجه شبهة فسقى وعالج ثم ردت إلى ربها، أو اشترى أبقاً فأنفق على رده نفقة ثم فسخ البيع ورد إلى ربه، هل يرجع بالنفقة في جميع ذلك أم لا؟ وأصل ذلك: أن النفقة إن كان لها عين قائمة رجع بها بلا خلاف، وإن لم تكن لها عين قائمة، فقال ابن القاسم: يرجع. وقيل: لا.
وصرح ابن بشير بأن المشهور الرجوع بنفقة الآبق، حيث قلنا: إن المشتري يرجع بأجرة عمله فزادت الأجرة على قيمة الخارج، فهل يرجع بها، أو إنما يرجع بها ما لم تزد على أجرة الخارج؟ أجرى ذلك ابن محرز على القولين فيمن أنفق على الثمرة، هل يرجع بجميع النفقة، أو إنما يرجع بها ما لم تزد على قيمة الثمرة؟ واقتصر ابن يونس على أنه إنما يرجع بها بشرط ألا تزيد على الخارج. وعلى هذا فلا تكون له أجرة إذا لم يخرج شيئاً، وعلى الأول تكون الأجرة في ذمة البائع.
بخلاف معادن الفضة، وفي معادن الذهب قولان
أي: بخلاف تراب معادن الفضة فيجوز بيعه، لأنه يحزر ما فيه من الفضة لقلة ترابه، والمشهور في معادن الذهب قولان: الجواز نص عليه المازري. والشاذ لابن حمدون.
ومنشأ الخلاف فيه خلاف في حال، هل يمكن حزره كالفضة أو لا؟ وروى ابن القاسم عن مالك: جواز قسمة تراب المعادن، ومنع ذلك يحيي بن عمر.
وكرطل من شاة قبل سلخها على الأشهر، بخلاف بيعها قبله
هذا معطوف على (كزنة حجر) وكلما عطف هنا بالكاف فهو ممنوع، إلا قوله:(وكذلك الدقيق) وكلما عطف بخلاف فهو جائز، يعني: أن بيع رطل لحم من شاة قبل سلخها لا يجوز على الأشهر، لأنه لا يدري على أي صفة يأخذه، وأما من أي موضع فلم يشترطوه في السلم.
وقوله: (بخلاف بيعها قبله) أي: فيجوز بيع جميعها قبل السلخ قياساً على بيع الحي الذي لا يراد إلا للذبح، ولأنه لما لم يقصد شيئاً معيناً خف الغرر في الجميع ولم يخف في الرطل. قال في البيان: والأصل في هذا أن كل ما يدخل بالعقد في ضمان المشتري فليس من بيع اللحم المغيب كالشاة المذبوحة وما لا يدخل في العقد في ضمانه كالرطل فهو بيع اللحم المغيب.
قال شيخنا- رحمه الله: وقد يعكس لكثرة الغرر في الجميع وخفته في الرطل. واعترض ابن عبد السلام كلام المصنف بوجهين، أحدهما: أن مقابل الأشهر قول أشهب بالكراهة لا الإباحة، كما هو ظاهر كلامه. وثانيهما: إن عنى بقبلية السلخ في الموضعين بعد الذبح فلا يصح، لأن أشهب نص على أن ذلك قبل الذبح. وإن عنى الأعم فيلزمه أن ينسب لابن القاسم جواز بيع لحم شاة وهي حية، لقوله بخلاف بيعها قبله، وهذا لا يوجد إلا في مسائل الاستثناء. وأجيب عنهما: بأن غير الأشهر حكاه ابن شعبان، فاقل: واختلف في بيع اللحم والبهيمية قائمة على الحبس أو بعد ذبحها أو نحرها وقبل الكشف عنها فكرهه أشهب في المدونة، وإن حبسها وعرفها وشرع في الذبح جاز. زاد أشهب في الموازية: وإن كان بعد يوم أو يومين فسخ.
فظاهر ما حكاه ابن شعبان: الجواز من غير كراهة كما ذكر المصنف. وعن الثاني: بأن مراده بقبلية السلخ الأعم، أي: قبل الذبح وبعده، وقد ذكر ابن شعبان الخلاف مطلقاً. ولا يلزم أن يحمل مقابل الأشهر على قول أشهب، ولو سلم حمله عليه فلا فرق بين ما نص عليه وهو قبل الذبح، وبين ما سكت عنه وهو بعده وقبل السلخ.
وأما ما ألزمه أن ينسب لابن القاسم فهو مذهبه في العتبية من رواية عيسى عنه، قال: وما لا ينتفع به إلا اللحم، مثل الداجن كدجاجة لا تبيض، لا بأس أن تباع بما لا يستحيى من الطير على التحري.
واعترض على المصنف بأن قوله: (وكرطل) يقتضي أنه مثال للمجهول جملة وتفصيلاً لأنه عطف على ما قبله وليس كذلك بل هو معلوم الجملة، [436/أ] وإنما الجهل حصل في صفة اللحم، قال: ويحتمل أن يكون إنما شبه في المنع خاصة.
وبخلاف بيع الحنطة في السنبل والتبن، والزيت في الزيتون على الكيل والوزن
أي: فيجوز لمعرفة الصفة بفرك بعض السنبل وتذرية بعض التبن عنه.
الباجي: ولا خلاف في الجواز، أعني: إذا كان على الكيل، وهذا ظاهر إن اشترى من المجموع كيلاً معلوماً. وأما إن اشترى الجميع على الكيل، فيخرج على قول من منع بيع جميع الصبرة على أن كل قفيز بكذا ها هنا المنع، بل أولى لعدم رؤية الجميع هنا. أبو الحسن، أي: تأخر تمام دراسه وليس يعني تأخير المزروع. وقد اختصره ابن يونس: وإن كان مكثه في حصاده ودراسه وذروه إلى عشرة أيام أو خمسة عشر فهذا قريب.
وشرط في المدونة في جواز الزيت أن يكون خروجه لا يختلف، قال فيها: وإن اختلف لم يجز إلا أن يكون مخيراً فيه ولا ينقده، ويكون عصره قريباً إلى عشرة أيام ونحوها.
بعض الأندلسيين: وينبغي أن يشترط الخيار لهما معاً، وإلا لم يجز إذا كان يختلف وذهب اللخمي إلى أنه لا يلزم، وهو ظاهر ما اختصر عليه المختصرون. قال: فإن هذا من الباب الذي حكاه سحنون في كتاب الغرر عن جل أصحاب مالك في البيع على أنه بالخيار إذا رأى وهي المسألة بعينها، وعلى ما ذكر البغداديون أنه غير جائز.
وقوله: (على الكيل والوزن) أي: الكيل راجع إلى القمح، والوزن راجع إلى الزيت، ولا يصح جعلهما للقمح والزيت، فإنه نص في المدونة على منع بيع القمح بالوزن.
اللخمي: ويجوز فيه الوزن بمصر، لأن ذلك العادة عندهم في الدقيق يبيعونه وزنا، ويسلمون القمح للطحان بالوزن، وكذلك نص على جواز بيع الزيت بالكيل والوزن إذا كان العرف جارياً بذلك. وعلى هذا فلا يبعد أن يعود قول المصنف على الكيل والوزن إلى كل واحد من القمح والزيت.
وكذلك الدقيق قبل الطحن على الأشهر
قال: (وكذلك) ولم يقل: وكالدقيق، لئلا يتوهم عطفه على (كزيت) فيكون الأشهر فيه المنع وليس كذلك، فإن الأشهر فيه الجواز. ثم له حالتان، تارة يقول: آخذ منك من دقيق هذا القمح صاعاً بكذا، فهو في ضمان البائع حتى يوفيه مطحوناً. وتارة يقول: أشتري منك هذا الصاع على أن تطحنه، فإذا وفاه إياه حباً خرج من ضمانه، وهو بيع وإجارة.
والمصنف إنما أراد الأول، فوجه الأشهر أن الطحن متقارب، ورأي مقابله أنه مما يختلف ولا يدري كيف يخرج، هل هو فاخر أو لا؟
وبخلاف صاع، أو كل صاع بدرهم من صبرة معلومة الصيعان، أو مجهولتها فيهما .....
الضمير في فيهما عائد على الصورتين، أي: صورة صاع، وكل صاع. أما مسألة: صاع بكذا فلا إشكال فيها. وأما مسألة: كل صاع بكذا، فثلاثة أحوال، إن قال: أشتريها
كل صاع بكذا وهي معلومة الصيعان فلا إشكال أيضاً في جوازها. وإن كانت مجهولة الصيعان فالمذهب أيضاً الجواز، وحكى أبو عمران عن بعض أصحابنا الكراهة. ومنعها بعض الأئمة خارج المذهب.
وإن قال: أخذت منك منها كل صاع بكذا، فاختلف الشيوخ في ذلك- سواء كان عدد صيعان الصبرة معلوماً أو مجهولاً- فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. واختار ابن عبد السلام المنع، قال: لأن (من) هنا لا شك أنها للتبعيض وهو يقل ويكثر. ومال أيضاً المازري إليه، بشرط أن يريد المتعاقدان بـ (من) التبعيض. وأما إن أرادا بيان الجنس، والقصد أن يقول: أبيعك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فلا.
وقال ابن راشد: إذا قال أبيعك من هذه الصرة حساب كل عشرة أقفزة بدينار ولم يبين ما باعه منها، فقال القاضي أبو محمد: ما علمنا فيها نصاً. وقال بعض المعاصرين: البيع فاسد، وهو قول الشافعي. القاضي: ويحتمل أن تكون (من) زائدة فيحمل على ذلك، وهو أولى من حمله على الفساد، ويحتمل أن يلزمه البيع في مقدار ما علق البيع عليه، وهو عشرة أقفزة على ما رواه عبد الملك فيمن قال: اكتريت منك هذه الدار حساب كل شهر بكذا، أن الإجازة تلزمه في شهر واحدٍ.
فإن جهل التفصيل، كعبدين لرجلي بثمن واحد، فقولان
لما ذكر المجهول جملة وتفصيلاً، والمجهول الجملة المعلوم التفصيل كالصبرة، أعقبه بالمجهول التفصيل المعلوم الجملة ومثله بالعبدين. وكلامه يصدق على ثلاثة صور، إذا كان لكل واحد منهما عبد. أو لأحدهما عبد لا شركة فيه والآخر مشترك. أو هما مشتركان بينهما على أجزاء متفاوتة. وأشهر قولي ابن القاسم المنع. قال في البيوع الفاسدة من المدونة: لأنه لا يدري بما باع، ثم قال: وأجازه أشهب وقد كان ابن القاسم يجيزه، فإن وقع على المشهور من قول ابن القاسم فسخ. وإن فات، ففي الموازية: يمضي بالثمن
مفضوضا على القيم. وفي غير الموازية: أنه يمضي بالقيمة كالبيع الفاسد. التونسي: وهو أشبه. فإن قلت: كلامه معترض لأنه يصدق على ما إذا كانا مشتركين بينهما [436/ب] على السواء، وهي جائزة اتفاقاً. فالجواب: لا نسلم دخولها، لأنه جعل العبدين مثالاً لمجهول التفصيل، وإذا حصلت الشركة على السوية فالثمن معلوم التفصيل.
وقوله: (بثمن واحد) ظاهره لو سمى لكل واحد ثمناً جاز، وكذا قال ابن لبابة، وأحسبهم يجيزون إن سميا لكل سلعة ثمناً، كالمرأتين في النكاح. وأشار غيره إلى أنهما إذا قوما أو دخلا على المساواة فلا يختلف في الجواز.
ابن عبد السلام: إن كان دخلوهما على المساواة بعد التقويم فظاهر، وإن كان باتفاقهما فقط لا يفيد، لأن المذهب أن المتبايعين إذا سميا لكل سلعة ثمناً ثم طرأ عيب أو استحقاق لا يلتفت إلى تلك التسمية.
وأشار التونسي إلى أن هذا الخلاف إنما هو إذا علم المشتري بذلك، وأما إذا لم يعلم وظهر أنهما شريكان في السلعتين جميعاً فإنه لا يفسخ البيع، لأن الفساد من جهة أحد المتبايعين لا من جهتهما.
وقال المازري: إذا لم يعلم المشتري يجري ذلك على الخلاف في علم أحد المتبايعين بالفساد. ولو قال المصنف: كشيئين مكان عبدين لكان أصوب.
بخلاف سلة وخمر على الأصح
أي: إذا اشتمل على ما لا يجوز وما يجوز كما مثل به، فالأصح بطلان الجميع وهو مذهب المدونة، لأنه إذا بطل بعض الصفقة بطلت كلها. وأشعر كلام المصنف بأن الأصح البطلان لذكره الخمر، فإنه إنما يناسب الإبطال، ومقابل الأصح إبطال الحرام وإمضاء الحلال بما يقابله، ذكره ابن القصار تخريجاً.
المازري: وتعلق فيه بقول ابن القاسم فيمن اشترى شاتين فوجد إحداهما غير ذكية وهما متكافئتان، يلزمه البيع في الذكية، وهو صحيح إن كان مراد ابن القاسم أن العقد وقع والمتعاقدان عالمان بغير الذكية، وأما إن لم يعلمها فهذا مما اضطرب فيه المذهب، هل يفسخ العقد أو يمضي الحلال ويفسخ الحرام، ويكون ما ظهر أنه حرام كالمستحق من الصفقة التي اعتقد أنها لبائعها ثم ظهر أن بعضها ليس له، وكمن تزوجت على عبد ثم ظهر أنه حر، وكمن باع خلاف ثم ظهر أنها خمر.
وخرج بعض المتأخرين الاختلاف من رواية ذكرها ابن عبد الرحمن بن زياد الأندلسي عن مالك أنه قال فيمن أسلم مائة دينار وقبض خمسين وتأخر خمسون: أنه يبطل السلم في مقدار ما تأخر وهذا أيضاً فيه نظر، فإن التأخير بغير شرط لا يفسد السلم على أحد القولين ولو تأخر جميع رأس المال، فيمكن أن يكون راعى هذا الاختلاف. انتهى.
وعلى الصحة يقسط الثمن فيهما
أي: إذا فرعنا على الصحة في هذا الفرع وفي الذي قبله، فيقسط الثمن في المسألة الأولى على السلعتين، ليأخذ كل بائع ما ينوب سلعته، وقسط الثمن في المسألة الثانية، فأخذ البائع منه ما قابل السلعة وبطل ما قابل الخمر.
فإن باع ملكه وملك غيره فرد وكان وجه الصفقة فللمشتري الخيار
يعني: لو باع سلعتين إحداهما له والأخرى لغيره، فهو في التي لغيره فضولي، فإن أمضى غيره البيع لزم ذلك المشتري ولا مقال له، وإن رد فكان المردود وجه الصفقة، فإن المشتري يخير في التمسك بالباقي بما يخصه من الثمن أو رده، وهذا قول ابن حبيب. والمشهور خلافه، أنه إذا رد وجه الصفقة الانتفاض في الجميع وليس له التمسك بالباقي.
ويجوز بيع الشاة واستثناء أربعة أرطال فأدنى، وإليه رجع بد منعه ابن القاسم، وسنه أشهب، وقدر الثلث كالصبرة والثمرة باتفاق ....
هذا يشبه المعلوم جملة والمجهول تفصيلاً، لكن باعتبار الثمن، وقد تقدم أنه لا يجوز بيع رطل من شاة قبل سلخها على الأشهر، لكن أجاز مالك هذه على وجه الاستثناء بشرط اليسارة، وإلى هذا رجع مالك بعد أن كان يمنعه. ووجهه: أن المستثنى إما مشترى فلا يجوز، لأنه شراء لحم مغيب. وإما مبقى فيكون ما عداه مشترى وهو مغيب. ثم ذكر في حد اليسير ثلاثة أقوال.
ابن عبد السلام: والثلاثة أرطال رواها ابن المواز، والذي في المدونة أربعة أرطال.
خليل: قد جاء في المدونة الثلاثة على رواية ابن وضاح كما ذكره المصنف، وفي بعض الروايات جواز استثناء الثلث، والذي نقله ابن يونس عن الموازية: جواز الخمسة والستة لا الثلاثة كما نقله ابن عبد السلام.
ابن راشد: واتفق على أن ما زاد على الثلث كثير.
ابن عبد السلام: وقيد الاتفاق راجع إلى الثمرة، لأن الخلاف في الصبرة، فقد روى ابن الماجشون وقال به: أنه لا يجوز أن يستثني من الصبرة قليلاً ولا كثيراً، كيلاً ولا جزءاً مشاعاً، لأن الجزاف إنما بيعه للضرورة، وهي مشقة الكيل والوزن، فإذا استثنى منها جزءاً فلابد من الكيل، فلم يقصد بالجزاف إلا المخاطرة، والثمرة لا يتأتى فيها الكيل فافترقا، وعلى هذا فالثمرة مبتدأ خبره محذوف، أي: يجوز فيها استثناء الثلث باتفاق، يريد: على رءوس الأشجار.
وقال بعض من تكلم على هذا الموضع: بل هو راجع إليهما، والمقصود به الاستدلال على ابن القاسم بما اتفقا عليه. وقد حكى ابن المواز ذلك، فقال: واتفق ابن القاسم وأشهب على جواز الاستثناء من الصبرة والثمرة كيلاً قدر الثلث فأقل.
[437/أ] وفرق المازري لابن القاسم بأن الصبرة مرئية فخف الغرر، وعلى الجواز في الثمرة، فقال أشهب: يجوز، سواء كان ذلك تمراً أو رطباً أو بسراً، وهو ظاهر على أن المستثنى مبقى، وفيه نظر على أنه مشترى، فإن كانت الثمرة أنواعاً فاستثنى من نوع منها أكثر من ثلثه إلا أنه أقل من ثلث الجميع، فاختلف فيه قول مالك بالإجازة والمنع، وأخذ ابن القاسم وأشهب بالمنع.
ويجيز على الذبح، وقيل: إن كانت معلولة
ما صدر به المصنف، قال المازري: وهو المعروف، لأن المشتري دخل على أن يدفع للبائع لحماً ولا يتوصل إليه إلا بالذبح، وحكى بعضهم الاتفاق عليه.
وقوله: (وقيل: إن كانت معلولة) وقع في بعض النسخ: معلوفة بالفاء، وظاهره: أنها إذا كانت كذلك أجبر، وينبغي أن يقدر إن كانت معلولة لم يجبر على الذبح ليوافق المنقول. ففي الواضحة من رواية مطرف عن مالك: فيمن باع جزوراً واستثنى رأسها أو أرطالاً يسيرة من اللحم، فإن أخرها المبتاع حتى ماتت أو صحت وكانت مريضة، قال: إذا بيعت لمرض أو علة فخيف عليها الموت فبيعت لذلك بيسير الثمن ولولا ذلك لبيعت بدنانير كثيرة، فإن أخرها عامداً فهو ضامن لما استثنى عليه منها، وإن صحت وذهب ما كان بها من مرض فعلى المبتاع شراء ما استثنى عليه البائع أو قيمته، ولا يجبر على نحرها، لأنه كان ضامناً لما استثنى عليه. وإن كانت حين البيع صحيحة فتربص بها المبتاع الأسواق فزاد ثمنها أو سمنت فكره المبتاع نحرها، فالبائع شريك بقدر ما استثنى منها.
وانظر كيف لم يجعله في هذه الرواية شريكا إذا كانت مريضة وجعله شريكاً إذا لم تكن مريضة وزادت أسواقها، ولعل ذلك لأنها إذا كانت مريضة لا يكون لها كبير ثمن، فإذا صحت ارتفع ثمنها فصارت الرأس المبيعة وهي مريضة كأنها قد فاتت. والله أعلم.
ولا يأخذ منه لحماً على الأصح
أي: لو اتفقنا على أن يعطي المشتري البائع لحما عوضاً عن المستثنى، فالأصح وهو مذهب أشهب منعه. وصححه المصنف لما ذكره ابن المواز أنه يدخله بيع اللحم بالحي، ولذلك قال: بخلاف الجلد، أي: فيجوز. والجواز ظاهر قول مالك في رواية مطرف. وفي المدونة ما يقتضيه، وهو قوله: فيمن استثنى الجلد أو الرأس، أو أبى المشتري من الذبح أن عليه شراء جلده أو قيمته، فلم يجعله من بيع اللحم بالحيوان فاعلمه.
واختلف هل للبائع أن يبيع ما استثناه بناء على أنه مبقى، أو لا بناء على أنه مشترى فيدخله بيع الطعام قبل قبضه، على قولين.
ولو استثنى جزءاً جاز، ولو كان على الذبح
كما لو باع شاة والمستثنى نصفها أو ثلثها أو غير ذلك من الأجزاء. المازري: ولا خلاف فيه. قوله: (ولو كان) مبالغة في الجواز، وهو ظاهر.
وفي جبر من أباه حينئذ قولان
قوله: (حينئذ) أي: حين باع على الذبح. ابن عبد السلام: والظاهر الجبر لدخوله على ذلك، والمؤمنون عند شروطهم.
وقال ابن يونس: الصواب عدمه، لأنهما قد صارا شريكين، فمن دعا إلى الذبح فذلك له، قال: فإن قيل قد قال ابن القاسم: يجبر على الذبح إذا استثنى أرطالاً فما الفرق؟ قيل: لأنه هنا إذا تشاحا بيعت عليهما ووقع لكل واحد منهما ثمن معلوم، بخلاف الأرطال. انتهى. واقتصر اللخمي على القول بعدم الجبر.
المازري: وهو الذي نص عليه الأشياخ.
خليل: ويدل عليه قولهم: يجوز ولو كان على الذبح، إذ لو كان يجبر فإن فيه شراء اللحم المغيب. والله أعلم. وحكى بعضهم الأول ولم يعزه. وذكر ابن يونس والمارزي أن بعض الشيوخ توقف في الجبر وعدمه.
ولو استثنى الجلد والرأس، فثالثها: المشهور يجوز في السفر لا في الحصر
أي: لو باع شاة واستثنى جلدها أو رأسها، فثلاثة أقوال، الجواز في الحضر والسفر: حكاه فضل عن ابن وهب وعيسى. والمنع فيهما: حكاه الأبهري رواية عن مالك. والثالث المشهور: يجوز في السفر دون الحضر، ودليله ما رواه أبو داود في مراسله عن عروة بن الزبير: أن النبي- عليه الصلاة والسلام حين خرج هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدين مرَّ براعي غنم اشترى منه شاة وشرط له سلبها. ولا يقاس الحضر عليه، لأنه إنما جاز في السفر لكونه لا قيمة له هناك فخف الغرر.
تنبيه:
جعل المصنف المشهور عدم الجواز في الحضر، والذي في المدونة: أجاز مالك استثناء الرأس والجلد في السفر إذ لا ثمن له هناك، وكرهه للحاضر إذ كأنه ابتاع اللحم، فظاهره الكراهة فقط، وبذلك فسرها أبو الحسن فاحتج بقول ابن حبيب: خفف مالك ذلك في السفر وكرهه في الحضر، إذ له هناك قيمة، ولا يفسخ إن نزل.
لكن أضاف المازري إلى المذهب المنع كما فهم المصنف، فقال: وأما استثناء جلد الشاة المبيعة في الحضر فمنعه في المذهب وأجازه ابن وهب، وأما في السفر فعن مالك روايتان: الجواز وهو المشهور، والمنع ذكره الأبهري وغيره.
وقال القاضي أبو محمد: إن المحققين من أصحابنا نزَّلوا هاتين الروايتين على اختلاف حالين، فالمنع في السفر إذا كان للجلد قيمة، والجواز إذا لم تكن له قيمة.
وأشار ابن حبيب إلى منع هذا التأويل وأجاز استثناء الجلد والأكارع حيث تكون لها قيمة، واعتل بأنه شيء معين. وتردد الأبهري في الإجازة في السفر إذا كانت له قيمة، فقال: يحتمل أن لا يجوز ويحتمل أن يجوز، لأن الحكم للأغلب، والأغلب ألا قيمة له هناك، والاحتمال الثاني أوضح والأول أقيس.
ابن يونس: والصواب جوازه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أجازوه ولم يعللوا لم جاز. قال: وأما استثناء الرأس والأكارع، فلا يكره في سفر ولا حضر، كمن باع شاة مقطوعة الأطراف [437/ب] قبل السلخ.
ولا يجبر على الذبح على الأصح
أي: حيث قلنا بإجازته، فالمشهور- قال المصنف: وهو الأصح- عدم جبره على الذبح إذا أباه ارتكاباً لأخف الضررين، إذ أمر الجلد والرأس يسير وقيمته أو مثله تقوم مقامه، وفي إجبار المشتري على الذبح إفساد مال. ومقابل الأصح ليس منصوصاً، وإنما قال المازري: إنه التحقيق، لدخوله على ذلك اللحم.
وقد حكى عياض الاتفاق على الأول، فقال: لا يختلف في أن المشتري يخير أولاً في أن يذبح ويعطي الجلد، أو يمسك فيعطي مثله أو قيمته. انتهى.
وهذا الكلام مخالف أيضاً لما صححه المصنف من تحتم القيمة على القول الذي صححه بقوله:
وعليه القيمة لا المثل على الأصح
إذ معناه: أنا إذا فرعنا على عدم الجبر، فهل يقضى عليه بقيمة الجلد والرأس، أو بمثلهما؟ قولان، والأصح القضاء بالقيمة، لأنهما من المقومات. ولم ار من صرح بهذا القول الذي حكاه المصنف.
والذي حكاه ابن يونس وغيره عن ابن القاسم بعد أن حكى عنه التخيير بين القيمة والمثل، والقيمة أعدل، ابن يونس وغيره، وقاله سحنون. وكذلك أيضاً ظاهر كلامه أن مقابل الأصح القضاء بالمثل فقط، وليس كذلك، بل التخيير بينهما، وهو مذهب المدونة.
واختلف الشيوخ فيمن له هذا التخيير، فقيل: للمشتري لأنه الذي جعل له الخيار أولاً بين أن يذبح ويعطي الجلد. وقيل: للبائع لأنه صاحب الحق. وقيل: للحاكم، وهو أضعفها.
فلو مات ما استثني منه معين، فثالثها: يضمن المشتري الجلد والرأس دون اللحم ....
مراده بالمعين: خلاف الجزء الشائع، كالثلث والربع فإنه لا ضمان عليه في ذلك.
وحاصل ما ذكره: أنه اختلف في مسألة الأرطال والجلد والرأس، فقيل: يضمن في الجميع بناء على أنه يجبر، أو يضمن في مسألة الجلد والرأس بناء على عدم جبره، دون مسالة الأرطال فإنه يجبر، ثلاثة أقوال، والثالث هو مذهب المدونة.
ونسب ابن يونس وغيره القولين في ضمان الجلد لابن القاسم، فعنه في العتبية: أنه لا ضمان عليه في الجلد. وروى عنه أصبغ أنه ضامن.
خليل: والرأس في معناه. وذكر صاحب البيان عن ابن دحون: أنه حمل القول بعدم الضمان على ما إذا لم يفرط، وأما إن تواني في الذبح فيضمن، وهو معنى الرواية بالضمان، وعلى هذا فلا خلاف في المسألة.
قال ابن دحون: إنما جعل المصيبة من المشتري، لأنه إنما جاز أن يشتري بهذا الاستثناء في السفر، لأنه لا قيمة للمستثنى في السفر، فكأنه اشترى الجميع.
قال في البيان: وهو كلام غير صحيح، إذ لا معنى للتفرقة بين أن يفرط أو لا، وإن كان ابن حبيب نحا إلى هذا، ورواه أبو قرة عن مالك فيمن باع بهيمة واستثنى رأسها فلم يذبحها حتى ماتت، فعليه قيمة رأسها الذي فرط فيه، لأنه ترك ما اشتراها له من الذبح. وإن حسبها بإذن البائع حتى هلكت فلا شيء عليه. وإن صحت فأبى أن يذبحها فعليه قيمة رأسها، وإن استحياها بإذن شريكه فهو شريك معه، وهو استحسان على غير قياس، إذ لا يخلو أن يكون للبائع على المشتري حق توفيه أو لا. فإن كان فلا يسقط عنه ترك التفريط، وإن لم يكن فلا يجب عليه التفريط.
وأما قوله: (وقيل: إنما جعل المصيبة من المشتري) إلخ. فهو كلام متناقض، لأن كون الجلد لا قيمة له في السفر يقتضي أن البيع لم يقع عليه وأن المشتري لا يكون ضامناً له. فالصحيح في المسألة: أن قولي ابن القاسم محمولان على الخلاف، وأن الخلاف في ذلك هل هو مبقى فلا يكون على المشتري ضمان، أو مشترى فيكون عليه الضمان فكأن البائع باع جميع الشاة بعشرة وبجلدها، فإذا كانت قيمته درهمين رجع عليه بسدس قيمة الشاة، كأنه بمنزلة من باع شاة بعشرة وعرض. انتهى.
وفي تهذيب الطالب، وابن يونس عن بعرض القرويين: إنه لم يختلف في مسألة استثناء الأرطال أنه لا ضمان على المشتري، ولا يدخل في ذلك الخلاف الذي في الجلد، لأنه لما لم يجبر في الجلد على الذبح كان الجلد في ذمته لا في معين، بخلاف مسألة الأرطال فإنه مجبور على الذبح. وهذا بخلاف ما حكاه المصنف من تعميم الخلاف في جعله الثالث تفصيلاًز
وفي اشتراء البائع مال العبد المبيع بماله، قولان لابن القاسم وأشهب
هذه المسالة مشكلة حكماً ونقلاً. أما الحكم: فظاهر كلامه أن أحد القولين جواز اشترائه، وإن كان فيه طعام ونقد ودين بما شاء من الثمن، وفي ذلك من وجوه المنع ما لا خفاء فيه، حتى قال ابن عبد السلام: إنه لا يعلم خلافاً أن البائع فيها كالأجنبي.
قال شيخنا- رحمه الله: ويمكن لو ساعده النقل التفرقة بين البائع وغيره، فإن البائع عالم بمال عبده غالباً بخلاف غيره، قياساً على ما أجازوه للبائع أن يستثني أربع نخلات من حائطه. وأما النقل: فقد بحث ابن عبد السلام وغيره عن هذه المسالة في مظانها فلم يجدها. ثم اختلف الأشياخ، فمنهم من وهمه، ومنهم من حسن الظن به وتكلف له جواباً، ثم لهم في ذلك وجوه:
أولها: أنها على ظاهرها، والشراء محمول على الإقالة، أي: أراد البائع أن يستقيل المشتري في مال العبد بما ينوبه من الثمن، فإن عددنا الإقالة حل بيع جاز، وإن عددناها [438/أ] ابتداء بيع كان ما يخص مال العبد من ثمنه غير معلوم، إذ لا يعلم إلا بعد تقويم رقتبه على انفرادها وماله على انفراده، ويكون هذا كالثمن المعلوم جملة دون تفصيل، ويكون المصنف غير لفظ الإقالة بلفظ الشراء تنبيهاً على سبب القول بالمنع، لأنه لو عبر بالإقالة لم يفهم السبب المقتضي للمنع، وفيه نظر، لأن المعلوم جملة المجهول تفصيلاً منعه ابن القاسم وأجازه أشهب، عكس ما نسب المصنف، إلا أن يقدر: وفي منع، وهو تأويل ابن عبد السلام.
ثانيها: أن المسألة على ظاهرها، والخلاف فيها بالأحرى على قولي ابن القاسم وأشهب في العبد إذا باعه بدون ماله، ثم أراد المشتري أن يزيد البائع شيئاً ويلحق المال بالبيع، فروي عن مالك جوازه وبه أخذ ابن القاسم، وروي عنه منعه وبه أخذ أشهب وابن وهب وابن عبد الحكم، ولابن القاسم ثالث بالجواز إذا كان بحضرة البيع.
قال في المبسوط: ومعنى القرب، أن لا يدخل المال زيادة ولا نقص، بناء على أن الملحقات بالعقود، هل تقدر واقعة في أصل العقد فيجوز، أولا تقدر واقعة فيه فيمتنع في الصورتين. ونسب المصنف القولين لهما، بناء على أن لازم القول قول، وهو تأويل ابن راشد.
ثالثها: أن اشتراء، مصدر وهو مضاف إلى المشترى منه. والفاعل محذوف، وهو المشتري، أي: وفي اشتراء المشتري من البائع مال العبد المبيع بماله، أي: بمال المشتري. والخلاف فيها منصوص لابن القاسم وأشهب، كما ذكره في الوجه الثاني، وفيه تعسف.
رابعها: أن البائع بمعنى المشتري، لأن كلام منهما بائع في المعنى، واشترى بمعنى باع، وضمير (ماله) يعود على المشتري، وفيه تعسف، وإن كان البائع يطلق في اللغة على المشتري لكن الفقهاء لا تستعمله، وإنما يستعمله من يريد الألغاز.
تنبيه:
ما تقدم من تمشية ابن راشد من خلاف ابن القاسم وأشهب، إنما ذلك إذا اشترى المال على وجه لو انفرد المال لم يجز، كما لو كان المال عيناً وعرضاً واشتراه بعين، وأما لو اشتراه على وجه لو انفرد جاز فلا خلاف في الجواز.
والمتعين ولا غرض في عدده، أو قل ثمنه يجوز جزافاً
لما ذكر أن من شرط البيع أن يكون معلوماً خشي أن يتوهم منع الجزاف، فذكره ليعلم أن حكمه الجواز. وأن الحزر أقيم فيه مقام العلم. وقوله:(والمتعين) أي: المشاهد المرئي، بذلك فسره ابن راشد، وتفسير ابن عبد السلام المتعين بالمقوم بعيد جداً. وذكر علماؤنا لبيع الجزاف شروطاً:
أولها: أن يكون مرئياً، فلا يجوز بيع غائب جزافاً، إذ لا يمكن حزره.
ثانيها: ألا تكون آحاده مقصودة، كالجوز واللوز والعصافير وصغار الحيتان، فلا يجوز بيع الرقيق والحيوان والثياب جزافاً، وإليه أشار بقوله:(ولا غرض في عدده).
وفي الواضحة: جواز بيع الأترج والبطيخ جزافاً وإن اختلفت آحاده في الكبر والصغر.
المازري: وهو لا يأتي على ما أصلناه من المنع فيما يراد آحاده، إلا أن يكون الثمن لا يختلف عند المتعاقدين بالصغر والكبر.
ثالثها: أن يكون مما يتأتى حزره، فإن كان من الكثرة بحيث لا يتأتى حزره لم يبع جزافاً، لكثرة الغرر، ذكره الباجي وغيره.
رابعها: جهل المتعاقدين بكميته. وسيأتي هذا الشرط من كلام المصنف.
خامسها: أن يكون عالمين بالحزر. اللخمي: فإن كان قوم لا يعتادون ذلك أو اعتاده أحدهما لم يجز، لأن الغرر يعظم.
سادسها: أن يكون في أرض مستوية، ذكره جماعة.
وقوله: (أو قل ثمنه) ظاهره ولو قصدت آحاده، وبذلك صرح ابن راشد، ومثل ذلك بالبيض والرمان والقثاء واللوز والأترج والبطيخ. وكذلك قال ابن عبد السلام، فإنه قال: الفقوس والبطيخ والرمان وشبهه من المعدود الذي تقصد آحاده ولا يتعلق الغرض بعدد عندهم يجوز بيعه جزافاً.
ابن عبد السلام: ويقع في بعض النسخ (أو قل عدده) موضع (ثمنه) وذكر الثمن هو الصواب، وأما قلة العدد فإنما تناسب المنع، لأنه لا كبير كلفة في عدده، إذ هو مما تقصد آحاده ويتعلق الغرض بعدده، فإن قل ثمنه قام ذلك مقام كونه لا تقصد آحاده. انتهى. وقد صرح ابن أبي زيد: بأن ما قل ويمكن عده بلا مشقة لا يجوز بيعه جزافاً. ومنع ابن القاسم في العتبية شراء الخشب الملقى بعضه على بعض جزافاً، لأنه تخف مؤنة عده بمنزلة الغنم. قال: ولا باس بشراء صغار الخشب جزافاً.
تنبيه:
ما قدمناه من بيع العصافير جزافاً نص عليه مالك، وأوله ابن القاسم على أن ذلك بعد الذبح، وأما قبله في الأقفاص فلا، لأن بعضها يدخل في بعض فلا يمكن حزره.
وكذلك نص ابن حبيب على الجواز بعد الذبح وعلى عدمه قبله. وفي الموازية لا باس ببيع برج الحمام فيما فيه جزافاً.
وفي الطرر ذكر القاضي أبو الوليد في كتابه الكبير: أن بيع الطير في القفص جزافاً غير جائز باتفاق، وفي بيع الحمام في الأبراج قولان بالجواز والمنع، بناء على أن عدها ممكن أو لا.
وفرق بين ظرف مملوء، وملئه وهو فارغ ابتداء، أو بعد أن اشتراه جزافاً وفرغه
[438/ب] أي: ولأجل اشتراطنا في الجزاف أن يكون مرئياً، فرق بين ظرف مملوء فيجوز بيع ما فيه جزافاً. وبين ملئه وهو فارغ ابتداء، وبين ملئه ثانياً بعد أن اشتراه أولاً جزافاً فلا يجوز فيهما لعدم الرؤية. وكذا نص عليه ابن القاسم وأصبغ ومحمد وغيرهم.
المازري: وقد يهجس في النفس أنه لا فرق بين ما أجازوه ومنعوه، إذ لا يختلف حزر الحازر لزيت في قارورة أو لمقدار ملئها زيتا. ولهذا اختار بان يونس جواز شراء ملء هذه القارورة، قال: ولو قاله قائل في الغرارة لما بعد وهو في القارورة أبين، لأن ملئها لا يختلف. ولا يقال: يرد على التفرقة التي ذكرها المصنف ما أجازه في العتبية من شراء سلة تين ثانياً بعد أن اشتراها أولاً، لقوله: بخلاف غرارة القمح، ألا تراه لا يسلم في غرارة القمح ويسلم في سلتين تينا لأنه معروف. فإنه أشار في تعليل المسالة على أن السلة في التين مكيال له كالويبة بالنسبة إلى القمح، فصار كأنه إنما اشترى شيئاً معلوماً، وأكد ذلك بقوله: بخلاف غرارة القمح.
فرع:
واختلف أصحابنا إذا وقع التبايع بمكيال مجهول. قال أشهب: لا يفسخ وجعله بمنزلة الجزاف. ورأى غيره: أنه يفسخ، لأن العدول عن المعتاد له من المكيال إلى المجهول غرر.
فأما الغائب ونحو القمح في التبن قولان
أي: ولا يجوز بيع الجزاف غائباً. وعطفُ القمحِ في التبن على الغائب، إما من باب عطف الخاص على العام، وإما أنه ليس غائباً حقيقة ولكنه في حكم الغائب. ولا خلاف فيما ذكره المصنف، قاله صاحب الإكمال.
بخلاف الزرع قائماً، وكذلك المحصود على الأشهر
لا خلاف عندنا في جواز القائم، لما في الصحيح: أنه- عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري. والأشهر في المحصود الجواز قياساً على القائم. وقيل بالمنع قياساً على ما كان منه حال الدرس، وهو قول التونسي.
وظاهر كلامه: أن الجواز أعم من أن يكون حُزماً أو لا. وينبغي أن يقيد بما إذا كان حُزماً، فقد قال صاحب الإكمال: لا خلاف أنه لا يجوز بيعه إذا خلط في الأندر للدارس، أو كدس بعضه على بعض قيل تصفيته. واختلف عندنا إذا كان حُزماً أو قطعاً يأخذها الحزر والتحري على قولين. ولو رأى المشتري ما في الأندر وهو قام قبل أن يحصد جاز، لأنه علم حزره وهو قائم.
ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون خلافاً في حال، فإن لم يختلط وبقي السنبل إلى جهة واحدة، فالنفس أميل إلى الجواز ولا يحاط به مع ذلك كما يحاط بالقائم، وإن كان على خلاف هذه الحال فلا شك في المنع.
خليل: وقد يمشي كلام المصنف على ظاهره، ويعتمد في ذلك ما نقله الباجي، فإنه قال: روى القاضي إسماعيل أنه يجوز بيعه في أندره وقبل درسه. وروى عن ابن نافع أنه لا
يجوز بيعه إلا إذا كان حُزَماً يرى سنلة وينظر إليه. فعطفة قول ابن نافع على رواية القاضي دليل على أنه يجوز على وراية القاضي وإن لم يكن حُزَماً.
والمسكوك، والتعامل بالوزن يجوز جزافاً، وبالعدد لا يجوز، وقيل: فيهما قولان
احتزر بالمسكوك من التبر والمصوغ ونحوهما، فيجوز جزافاً، المازري: ولو كان الحلي محشواً، إذا عرف قدر الساتر للمحشو من الذهب والفضة بأن تعلم رقته من غلظة وأمكن حزره. وشمل قوله:(المسكوك) الفلوس، وهو صحيح نص مالك في الموازية عليه.
قوله: (والتعامل بالوزن) أي: كدراهم مصر، وهي المجموعة يجوز بيعها جزافاً. وإن كان التعامل بالعدد كدراهم المغرب فلا يجوز بيعها جزافاً.
وحكى ابن بشير، وابن شاس عن القاضي أبي الحسن الكراهة إذا كان التعامل بالعدد. واعلم أنه نص في المدونة على منع بيع الدراهم والدنانير جزافاً وأطلق، وحملها اللخمي على الإطلاق ولم يذكر في المنع خلافاً إذا كان التعامل بالعدد، وحكى عن ابن القصار الكراهة فيما إذا كان التعامل بالوزن. قال المازري: اختلف البغداديون في معنى المنع، فقال ابن القصار: إنه كرهه، وإليه أشار ابن عبد الحكم بقوله: لم أر أحداً من أصحابنا يجترئ على فسخ بيع الدراهم والدنانير جزافاً. وذهب الأبهري وعبد الوهاب على أن المنع على التحريم. فمقتضى قول ابن القصار عدم الفسخ، لأنه مكروه. ومقتضى قول الأبهري وأبي محمد الفسخ إذا لم يراعيا الخلاف.
واختلف في علة المنع، فقال ابن مسلمة: لكثرة ثمن العين فيكثر الغرر وهو منقوض، لإجازتهم بيع الحلي جزافاً، واللؤلؤ إذا لم تقصد آحاده، وإن كان القاضي أبو محمد أطلق عدم جواز بيع الجواهر جزافاً، لكن التحقيق ما قلته.
وعلل الأبهري وأبو محمد المنع: بأن الغرر هنا من وجهين، من جهة الكمية، ومن جهة الآحاد، لأنه يرغب في كثرة آحاده ليسهل شراء السلع اليسيرة الثمن، بخلاف
غيره من المبيعات، فإن الغرر فيها إنما هو من جهة واحدة وهي جهة الكمية. انتهى كلام المازري.
وقول المصنف: وقيل فيهما قولان، أي: سواء كان التعامل بالوزن أو بالعدد، هذه طريقة الباجي، وبنى الخلاف في ذلك على الخلاف في الدنانير والدراهم، [439/أ] هل تتعين بالعقد أول لا؟ فإن قلنا: إنها لا تتعين بالعقد لم يجز بيعها جزافاً، لأن العقد عليها يتناول الذمة والجزاف لا يصلح أن يثبت في الذمة. وإن قلنا: تتعين جاز بيعها كسائر الموزونات والمكيلات. وهذا فهم حسن من المصنف لكلام الباجي، وإن كان ابن بشير إنما نقل عن الباجي أنه قال: إن كان التعامل بالعدد لم يجز المجازفة باتفاق، وإن كان وزناً فقولان. فإن كلام الباجي لا يؤخذ منه الاتفاق فيما إذا كان التعامل بالعدد، وتعليله بالتعيين وعدمه ينافيه.
خليل: ولكن في كلام الباجي نظر من جهة أخرى، وذلك أنه ينبغي إن قلنا: إن الدراهم والدنانير لا تتعين، فينبغي أن يتفق هنا على تعيينها لأنها جزاف، والجزاف مجهول والذمة لا يكون فيها مجهول. والله أعلم.
وشرط الجزاف استواؤهما في الجهل بقدره
أي: وشرط جواز بيع الجزاف استواء البائع والمبتاع في الجهل بقدر المبيع، لأنهما لو اشتركا في العلم بقدره لم يكن جزافاً، وإن انفرد أحدهما لم يجز العقد عليه، ولاسيما إن أعلمه بعلمه، لأنهما تعاقدا على مخاطرة وغرر، وهذا أولى من كلام ابن عبد السلام.
فرع:
لا إشكال فيما ذكره المصنف في المكيل والموزون والمعدود الذي لا تختلف مقاديره بالكبر والصغر. وأما المختلف كالقثاء والبطيخ، فقد روى ابن وهب عن مالك في
المبسوط: جواز بيعه ممن يعرف عدده جزافاً. وقال ابن المواز: إذا عرف أحد المتابعين العدد لم يجز بيعه جزافاً.
ووجه الباجي الرواية الأولى بأن الغرض في مبلغه دون عدده، فإذا انفر بمعرفة عدده فلم ينفرد بمعرفة المقدار المقصود منه، كما لو انفرد بمعرفة عدد القمح أو معرفة وزنه.
فإن علم المشتري بعلمه بعد العقد فله الخيار
فإن علم المشتري بعلم البائع بقدر المبيع جزافاً بعد العقد فللمشتري الخيار، كما لو اطلع على عيب دلس به البائع.
وحكى عبد الوهاب عن ابن القصار استشكال كون هذا عيباً، لأن العيب إذا أعلم به البائع جاز للمشتري الرضا به، ولو أعلم البائع المشتري بأنه عالم به ورضي كان فاسداًن نص على الفساد في كتاب محمد. وحكي سحنون أن البيع جائز، واستبعده ابن عبد السلام.
خليل: ويمكن أن يجاب عما أورده ابن القصار، بأنه هنا إذا أخبره بأنه عالم بكيله ثم اشترى منه بعد ذلك، فقد خل معه على المغامرة والمخاطرة، بخلاف غيره من سائر العيوب.
وأجاب القاضي أبو محمد على الإشكال بأنه: لا ملازمة بين أن يكون الشيء يفسد به العقد إذا قارنه، ولا يفسد إذا اطلع عليه بعد ذلك، لدخوله في الأول على الغرر دون الثاني، كما قال سحنون فيمن باع أمة وشرط أنها مغنية أن البيع فاسد، ولو اطلع على ذلك لم يفسد وكان له الخيار.
خليل: وعلى هذا فلا يصح بيع المغنية مع التبيين بعد العقد، وإنا يجوز بيعها بشرط عدم التمييز ثم يبين بعد العقد، وفيه نظر. وينبغي أن يقيد ما قالوه: من أنه ذكر أنها مغنية لم يجز شراؤها بما إذا كان القصد من ذلك زيادة الثمن، وأما إن كان القصد التبري فيجوز.
وقوله: (فإن علم المشتري) يريد: وكذلك العكس، فقد ذكر المازري أن المعروف من المذهب مساواة البائع في ثبوت الخيار له إذا اطلع على علم المشتري كالعكس. قال: ورأيت بعض أصحابنا حكى فيه عن بعض أهل المذهب خلافاً، وأن البائع لا خيار له.
ابن رشد: فإن فات المبيع في مسالة الجزاف التي حكموا فيه بتخيير المشتري لزم فيه الأقل من الثمن أو قيمة الجزاف، وفي مسالة الجاف التي حكموا فيها بفساد البيع إن فاتت الصبرة ففيها القيمة ما بلغت. قال: وإن أراد المبتاع أن يصدق البائع في الكمية وردها له لا نبغى ألا يجوز على أصولهم في الاقتضاء من ثمن الطعام طعاماً.
فرع:
وهل يجوز أن يجمع مع الجزاف غيره في عقدة واحدة؟ اعلم أولا أن من الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلاً جزافاً كالحبوب. ومنها: ما يباع جزافاً ويجوز كيلاً كالأرضين والثياب. ومنها: عروض لا يجوز بيعها كيلاً ولا وزناً كالعبيد والحيوان.
فالجزاف مما أصله أن يباع كيلاً كالحبوب لا يجوز بيعه مع المكيل منه، ولا مع المكيل مما أصله أن يباع جزافاً كالأرضين والثياب باتفاق.
والجزاف مما أصله أن يباع جزافاً لا يجوز أن يباع مع المكيل منه باتفاق أيضاً، واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلاً على قولين، أحدهما: الجواز، وإليه ذهب ابن زرب وأقامه من إجازته في السلم الأول من المدونة أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة. ولا خلاف في جواز بيع المكيلين صفقة واحدة وكذلك الجزافان، ويجوز بيع الجزاف مع العروض صفقة واحدة إلا عند ابن حبيب، فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلاً لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة وهو بعيد، قاله صاحب المقدمات.
وقال المازري: لا إشكال في جواز بيع الجزافين من الحبوب. واختلف في جزاف ومكيل، فمن أجاز رأى أن الغرر لم يكثر بإضافته هذا [439/ب] المكيل إلى الجزاف، ومن
منع رأى أن المكيل معلوم مبلغه والجزاف مظنون، واجتماع معلوم ومظنون في عقد واحد يصير في المظون غرراً لم يكن فيه. وكذلك اختلف إذا ضم إلى المكيل ثوب أو عرض.
خليل: وحكاية المازري الخلاف في الفرع الأول خلاف ما في المقدمات. قال في المقدمات: أما بيع الجزاف على الكيل، فلا يضاف إليه شيء في البيع بحال على الصحيح من الأقوال، وهو مذهب ابن القاسم. وأما بيع الجزافين على الكيل، فإن كانا على صفة واحدة وكيل واحد جاز باتفاق، وإن اختلف الكيل والصفة جميعاً لم يجز باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر جاز عند أشهب ولم يجز عند ابن القاسم.
ورؤية بعض المثلى كالقمح والشعير، والصوان كقشر الرمان والبيض كافية
يعني: ليس من شرط البيع عندنا أن يرى جميع المبيع، بل رؤية بعض المثلي كافية في جواز العقد على الجميع لتماثل آحاده كالقمح والشعير، ولا فرق في ذلك بين ما كان حاضراً بالبلد أو غائباً، وينبغي الاحتفاظ على المعين فيكون كالشاهد عند التنازع.
وقوله: (والصوان) أي: ورؤية ما له صوان كافية عن المصون. والصوان بكسر الصاد وضمها: الوعاء الذي يصونه ويحفظه، ونقل الجوهري ثالثة وهي صيان.
وتقييد المصنف بالمثلى يدل بمفهومه أنه لا يكفي ذلك في المقوم، وهو ظاهر المذهب، وهو مفهوم المدونة في بيع الخيار. وممن نص على عدم اللزوم في المقوم الشيخ أبو محمد، وابن شلبون، وعبد الحق وغيرهم من الشيوخ. الشيخ: ولو قال قائل أنه كالمثلى يلزم باقيه إذا كان على الصفة ما بعد.
خليل: وهو مقتضى ما في سماع ابن القاسم من العتيبة، قال: ومن باع أعدالاً من كتان أو بز ونظر إلى ثوب أو ثوبين، أو رطل أو رطلين، ثم وجد الباقي لا يشبه، فأما ما هو قريب مما رأى فلا رد له، وكذلك القمح والتمر في بيت يكون أوله خيراً من داخله. وأما التغيير القريب فلا حجة له، وأما الأمر الفاسد فليرد. انتهى بمعناه.
ابن رشد: وهي مسالة صحيحة مبينة لما في المدونة وغيرها.
قال في المدونة: وإن خرج آخر الحنطة مخالفاً لأولها، لم يلزم المشتري من ذلك شيء وله رد الجميع إن كان الاختلاف كثيراً، وليس للمبتاع أن يقبل ما رضي بحصته من الثمن ويرد ما خرج مخالفاً إلا أن يرضى البائع، ولا البائع أن يلزمه ذلك إذا أبى المبتاع وكان الاختلاف كثيراً، وكذلك في جميع ما يوزن أو يكال.
عبد الحق: وإنما يلزم الباقي إذا وافق، بشرط ألا يكون الأول معيباًن لأنه يقول: ظننت أن الباقي سليم فاغتفرت العيب فيما رأيت أولاً.
وقوله: (إن كان الاختلاف كثيراً). أبو الحسن: اختلف في حد الكثير، فقال أبو محمد: النصف، وقال أبو إسحاق: الثالث، وقال ابن يونس: الربع.
وقد ذكر ابن رشد أن وجود العيب بالطعام على خمسة أوجه، وقد ذكرت كلامه عند قول المصنف: وتلف بعضه أو استحقاقه كرده بعيب، فانظره.
والرؤية تتقدم بمدة لا يتغير فيها كافية
أي: يجوز العقد على سلعة غائبة برؤية متقدمة إذا مضت مدة لا تتغير فيها إلى وقت العقد.
ومفهوم كلامه: أنه لو مضت مدة تتغير فيها لا يجوز العقد، وبذلك صرح ابن شاس، فقال: وأما البيع على رؤية متقدمة فيشترط في صحته ألا تطول مدة الرؤية طولاً يتوقع فيه تغير المبيع عادة. وكذلك يفهم من كلام بعضهم.
وفي ابن يونس: وأن رأى عبداً منذ عشرين سنة ثم اشتراه على غير صفة. قال: إذا طال ذلك وتقادم ما يتغير العبد في مثله فالبيع فاسد إلا بصفة مستقبلة. وفي كتاب محمد: البيع جائز إذا علم البائع أن المشتري قد كان رآه، لأنه إنما باعه على تلك الصفة التي كان رآها. زاد أبو محمد: ولا ينقده. انتهى.
وفي اللخمي: وإن بعدت الرؤية بما يمكن أن تتغير فيه لم يجز بشرط النقد، وإن لم يشترط النقد جاز، وهو الذي يأتي على ما ينقله المصنف عن المدونة أنه يجوز الشراء من غير صفة.
والقول قول البائع في بقائه خلافاً لأشهب
أي: إذا حصل العقد برؤية متقدمة، فلما رأى المشتري المبيع عند القبض زعم أنه تغير عن حالته الأولى على ما هو دون، فقال ابن القاسم: القول للبائع. وقال أشهب: القول للمشتري، بناء على أن الأصل بقاء ما كان على حاله أو براءة ذمة المشتري من الثمن. أما لو تنازعا في عين السلعة، فالقول للمشتري بالاتفاق مع يمينه، لأنه لم يرد نقض بيع في سلعة اتفقا على البيع فيها.
وقيد اللخمي الخلاف بأن يكون ما مضى من المدة يشكل الأمر، هل يتغير فيه أم لا؟ أما إن قرب ما بين الرؤيتين بحيث لا يتغير في مثله، فالقول البائع اتفاقاً، وكذلك العكس إذا بعد ما بينهما مما يقال أن المبيع يتغير فالقول للمشتري.
قال: وتسقط اليمين علن البائع حيث يقطع بكذب المشتري، كما إذا اشترى زيتاً أو قمحاً بالأمس، ويقول: اليوم قد تغير الزيت واحْمَرَّ وتسوس القمح.
ويشترط في لزوم بيع الغائب وصفه بما يختلف الثمن به، وفيها صريح في الجواز من غير صفة، وللمشتري خاصة الخيار، وأنكره بعضهم ....
قوله: (ويشترط في لزوم) ظاهره أن الجواز لا يشترط فيه ذلك ويخير في أخذه وتركه، وهو معنى ما ذكره عن المدونة، فكان ينبغي أن يقول: ويشترط في جواز، ليكون ما في المدونة خلافاً. والقول الأول نسبه في المدونة لبعض كبار أصحاب مالك. وما في المدونة مقيد بما إذا انعقد البيع على أن [440/أ] المشتري بالخيار، وأما إن انعقد على الإلزام أو سكتا عن شرط الخيار فالبيع فاسد.
وكلام المصنف لا يقتضي أن ذلك من شرط الصحة، لاحتمال أن يكون قوله:(وللمشتري خاصة الخيار) من نتائج العقد لا أنه مشترط وليس كذلك.
ابن عبد السلام: وظاهر ما في السلم من المدونة، أنه لا يشترط ذكر جنس المبيع بالكلية. وأنكر الأبهري، وابن القصار، وعبد الوهاب ما وقع في المدونة، وزعم بعضهم أن هذه المسألة إنما هي من كلام الحنفية، لأن أسد بن الفرات سألهم أولاً ثم أخذ بمذهب مالك، وأن أسد بن الفرات أبقاها في المدونة وهو باطل، لأن نسبة الوهم بغير دليل إلى أسد وسحنون لا يجوز.
المازري: وما في المدونة هو المعروف، ونقله اللخمي عن جل الأصحاب. وقال في المقدمات: وفي المدونة في كتاب الغرر دليل على أنه لابد من الوصف، وهو الصحيح الذي يحتمله القياس.
وأن لا يكون بعيداً جداً كإفريقية من خراسان
هذا شرط ثان لبيع الغائب، وهو معطوف على وصفه، أي: ويشترط في جواز بيع الغائب كونه غير بعيد جداً، لكثرة الغرر فيه.
ولا قريباً جداً تمكن رؤيته بلا مشقة على الأشهر
هذا شرط ثالث، وهو شرط في الجواز كالثاني، لأن عدولهما عن الرؤية مع إمكانها إلى الصفة ضرب من الغرر. وما ذكر أنه الأشهر هو مذهب الموازية، ومقابله مذهب العتبية، فقد أجاز فيها بيع ما في صندوق بين أيديهما على الصفة، وظاهر المدونة في خمسة مواضع.
ففي آخر السلم الثالث: وإن ابتعت من رجل رطل حديد بعينه في بيته ثم افترقتما قبل قبضه ووزنه جاز ذلك.
وفي الرد بالعيب: وإن ابتعت سلعة حاضرة بسلعة في بيتك أو بموضع قريب يجوز فيه النقد ووصفتها جاز ذلك.
وفي بيع الغرر: وإن استأجرت منه داراً بثبوت في بيتك ووصفته ثم اشتريته منه وهو بيدك بعين أو بثوبين من صفته أو بسكنى دار لك فجائز.
وفي آخر الجعل: لما ذكر بيع الزرع على أن الدرس على البائع، قال: وليس ذلك كحنطة في بيتك، تلك لابد فيها من صفة أو عيان.
وفي أكربة الدور: وإن أكريته داراً بعبد بعينه على أن تقبضه فمات بيد المكتري، فهو منك والكراء يلزمك كالبيع، وإن كان بثبوت بعينه في بيت المكتري وقد وصفه كان منه وانتقض الكراء.
فهذه المواضع تدل على أن الأشهر الجواز، لكن ذكر ابن شاس: أن الأصحاب نزلوا ما في المدونة من تجويز العقد بالسوق على سلعة في البيت على ما إذا كان في رؤيتها مشقة وكلفة.
فإن كان بمشقة جاز على الأشهر
أي: فإن كان إمكان رؤية الغائب بمشقة جاز بيعه على الصفة على الأشهر، فهذا كبيع الأعدال على البرنامج وكبيع الغائب على مسافة يوم، والأشهر مذهب المدونة والموطأ، ومقابله في مختصر ابن شعبان منعهما.
وفيها: ويجوز بيع الأعدال على البرنامج، بخلاف الساج المدرج وشبهه، فرق بينهما عمل الماضين وأجازهما، وذا مسافة يوم مدة ومنعها مدة
ذكر مسألة المدونة استدلالاً على ما ادعاه من الأشهر. والبَرنامِج بفتح الباء وكسر الميم، وهي لفظة فارسية استعملتها العرب، والمراد بها الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل.
والساج المدرج: طيلسان مطوي. والمراد بشبه الساج، الثوب المدرج في طيه ولم يكن رفيعاً كما في الساج.
والضمير في: (أَجَازَ) عائد على مالك، والضمير في:(هُمَا) عائد على الساج المدرج والبرنامج. (وذَا) معطوف على مفعول أجاز، أي: وأجاز ذا مسافة يوم مرة، وهو قوله في الموازية، ومنع الجميع، وهو قوله في مختصر ابن شعبان.
وحاصل ما ذكره في البرنامج، والساج، وذا مسافة يوم، ثلاثة أقوال، يفرق في المشهور فيجوز في البرنامج، وما على مسافة يوم، ويمنع الساج وهو مذهب المدونة.
فرع: ولا يشترط في جواز البيع على الصفة أن يصفه غير البائع على ظاهر المذهب، وأخذه جماعة من المدونة. ابن العطار: وبه العمل. وفي الموازية والعتبية: اشترط ذلك لأن البائع لا يوثق بصفته، إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لينفق سلعته. وذكر المتيطي أن الشيوخ اختلفوا في تأويل المدونة على القولين، وجعل اللخمي وصاحب المقدمات ذلك شرطاً في جواز النقد.
اللخمي: ويشترط في البيع على الصفة أن يكون المشتري ممن يعرف ما وصف له.
ثم إن صحت الصفة فلا خيار
أي: فإن اتفق المتبايعان، أو شهدت بينة عند اختلافهما أن المعقود عليه موافق للصفة التي وقع العقد عليها، لزم البيع ولا مقال لواحد منهما، ونبه به على خلاف أبي حنيفة، فإنه يرى الخيار للمشتري ولو وافقت الصفة.
والقول قول المشتري
أي: عند تنازعه مع البائع، هل صفة المبيع الآن هي التي وقع عليها التعاقد أم لا؟ والفرق بينه وبين ما تقدم من أنه إذا انعقد على رؤية متقدمة وتنازعا، فالقول قول البائع على الأشهر أن البيع في مسألة الرؤية معلق على بقاء صفة المبيع والأصل بقاؤها، فمن
ادعى الانتقال فهو مدع وهو المشتري، بخلاف البيع على الصفة فإن الأصل عدمها وهو موافق لقول المشتري.
ويرجع في كونه عليها لأهل المعرفة
أي: إذا اتفقا على أن البيع وقع [440/ب] على الصفة واختلفا في المبيع، هل هو عليها أم لا؟ نظر أهل المعرفة، فإن قالوا: إنه عليها لزمه، وإلا فلا. وانظر هل يكتفي بواحد أو لابد من اثنين؟ وانظر إذا اختلف أهل المعرفة.
والأعمى يصح بيعه وشراؤه بالصفة، وقيل: إلا الأصلي
ذكر الأعمى في بيع الغائب، لكونه لما كان لا يبصر وإنما يشتري على الصفة شابه شراؤه شراء الشيء الغائب، والظاهر أن الصحة في الأعمى أظهر منها في بيع الغائب على الصفة، لأن الأعمى أعذر، إذ لا يمكن في حقه إلا ذلك. فإن قيل: يمكنه التوكيل، قيل: لا يمكنه ذلك في كثير من الصور.
وحاصل ما ذكره المصنف فيه: أنه إن تقدم منه إبصار صح بيعه وشراؤه اتفاقاً. وإن لم يتقدم، فقال عبد الوهاب: يصح بيعه وشراؤه، ومنع ذلك أبو جعفر الأبهري. هكذا نقل اللخمي.
ابن عبد السلام: وفي معنى من لم يتقدم له إبصار من تقدم له إبصار في سن الصغر حتى لا يتخيل الألوان، قال: وينبغي أن يكون الخلاف في الصفات التي لا تدرك إلا بحاسة البصر، وأما ما يدرك بغير ذلك فلا مانع. والأصلي: هو الأكمة.
والنقد في الغائب بغير شرط جائز
أي: وبشرط لا يجوز، لأنه يؤدي إلى أن يكون تارة مبيعاً وتارة سلفاً، وهذه المسالة في منع النقد بشرط وجوازه بغيره. المبيعُ على عهدة الثلاث، والأمة المتواضعةُ والمبيعُ على
الخيار، والأرض المبيعة على المزارعة، ومسائل الجعل. وإذا اشترط في الأجير المعين والدابة المعينة أن تقبض منفعتها بعد شهر. وإنما جاز النقد مع عدم الاشتراط، لضعف التهمة، وظاهر كلام المصنف- وهو ظاهر المدونة- على ما نص عليه عياض: أن نقد الثمن في الغائب بغير شرط جائز في كل شيء. وذهب ابن محرز إلى أنه يجوز التطوع في المثلي من المكيل والموزون، لأن الغائب إن هلك أو وجد على غير الصفة وانحلت العقدة رد مثله فلم يكن على أحد ضرر، بخلاف السلع والرباع فإنها قد تتغير فيردها ناقصة فيضر ذلك بالبائع، أو تهلك فيغرم المشتري قيمتها، فكأن البائع يدفعها على أنه إن سلمت الصفقة كانت للمشتري وإن انحلت رد القيمة. قال: ولو دفع العروض على أن البيع إن انحل رد مثلها جاز، ولو كان الثمن سكني دار لم يجز نقدها بشر ولا طوع.
وقال اللخمي: إنما يجوز النقد إذا كان الثمن مما يصح فرضه، لأن تعجيل الثمن بغير شرط فرض، فإن كان الثمن داراً أو جارية أو جزافاً فلا يصح تعجيله.
قال: وإن تطوع المشتري بالنقد في هذا لم يصح البيع ويرجع بمثل ما دفع لا بقيمته، لأنه قرض فاستوى فيه المكيل والموزون والعبيد والثياب، ولو عجل الثمن على أن يرجع بالقيمة إن لم يجد المبيع لم يجز، لأنه بيع على قيمة مجهولة. وإن لم يشترطا في حين التعجيل الرجوع بالقيمة ولا المثل وكانا يظنان أن الحكم الرجوع بالقيمة، حُمل على ذلك ويرجع بالقيمة- كالبيع الفاسد- إذا كان الثمن عبداً أو ثوباً. انتهى.
ابن راشد: وقوله: إذا تطوع المشتري بتعجيل ذلك فسد البيع، فيه نظر. وكيف يفسد البيع بشيء وقع منفكاً عنه، وإنما ينبغي أن يفسد القرض خاصة، فتأمله.
فإن شرط في العقار وشبهه جاز وإن بعد خلافاً لأشهب
يعني: وإن وقع البيع في العقار وشبهه، والمراد، بـ (وشبهه) الأشجار وعيون الماء، جاز شرط النقد ولو كان بعيد الغيبة.
الباجي: وهو المشهور لغلبة الأمن فيها. ونقل الباجي عن أشهب ما نقله المصنف، من أنه منع اشتراط النقد مع البعد، وإنما يجوز اشتراط النقد على المذهب إذا لم يشترها بصفة صاحبها، كذا روى أشهب عن مالك.
ابن رشد: وهو تفسير لما في المدونة وغيرها. والعقار بفتح العين، الجوهري: الأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم: ماله دار ولا عقار.
تنبيه: وهذا الخلاف إنما هو إذا بيع العقار جزافاً، وأما إن بيع مذارعة فلا يصح النقد فيها، قاله أشهب في العتبية. وكذلك قال مالك: من اشترى داراً غائبة مذارعة لم يجز النقد فيها، قاله أشهب في العتبية. وكذلك قال مالك: من اشترى داراً غائبة مذارعة لم يجز النقد، وكذلك الحائط على عدد النخل، قال مالك في العتبية: وضمانها من بائعها.
وفيما قرب من الحيوان قولان
أي: وفي جواز شرط النقد فيه قولان، قال في المدونة: ومن باع عروضاً، أو حيواناً، أو رقيقاً، أو ثياباً بعينها خاصة حاضرة أو قريبة الغيبة مثل يوم أو يومين جاز ذلك، وجاز النقد فيه بشرط. والقول بالمنع لابن عبد الحكم.
وفي قربه خمسة أيام، ويومان، ونصف يوم، وبريد وبريدان
أي: وفي حد القريب. وكان ينبغي أن يقول: يوم ونحوه، فإنه كذلك روي عن مالك في المدونة، والقول باليومين مذهب المدونة كما تقدم. ونصف اليوم نقله ابن شاس ولم يعزه، ولعله راجع إلى البريد. والقول بالبريدين لمالك أيضاً- والبريد اثنى عشر ميلا- ونقل اللخمي عن ابن وهب: أنه كره النقد في الطعام وإن كان على نصف يوم، قال: لأنه يسرق ويفسد بالمطر إلا أن يكون قريباً جداً.
وفيما قرب من غيرهما الجواز باتفاق
أي: غير الحيوان والعقار. واتفقا هنا على جواز اشتراط النقد دون الحيوان، لأن الأمن في العروض أقوى منه في الحيوان.
ابن راشد: وما ذكره من الاتفاق لا يصح، فقد قال ابن راشد: وأما النقد في السلعة الغائبة بالشرط فلا يجوز في بعيد الغيبة، واختلف قول مالك في قريب الغيبة.
وفي ضمان الغائب بعد العقد، ثالثها: من البائع إلا أن يشترطه. ورابعها: إن كان عقاراً فمن المشتري ....
[441/أ] احترز بـ (بعد العقد) من ضمانه قبله فهو من البائع اتفاقاً، حكاه صاحب البيان والمقدمات. وظاهر كلامه أن الأول من الأربعة، الضمان من البائع ولو اشترطه على المشتري. والثاني: عكسه. والثالث: أنه من البائع إلا أن يشترطه على المشتري. والرابع: الفرق، ففي العقار من المشتري ولو اشترطه، وفي غيره من البائع ولو اشترطه على المشتري.
ابن عبد السلام: ولا وجود للأولين في المذهب أصلاً. وتردد في الرابع، قال: والذي حكاه الناس أن مالكاً قال أولاً: إن الضمان من المشتري إلا أن يشترطه على البائع، ثم رجع إلى العكس أنه من البائع إلا أن يشترطه على المشتري، وهو الذي في المدونة. ثم هل القولان في الرباع، أو الرباع من المشتري اتفاقاً؟ طريقان، والثانية لابن حبيب. وألحق بالعقار أيضاً ما قرب في أن ضمانه من المشتري باتفاق. والصواب أن له قولاً في الرباع بأن ضمانها من البائع. وقد يجاب بأن الأول، وهو أن الضمان من البائع مطلقاً قد أقامه اللخمي من العتبية، فقال: واختلف على القول بأن المصيبة من البائع هل يجوز أن يشترطها من المشتري؟ فأجازه في المدونة، وقال في العتبية: لا يجوز بيع الطعام على شرط إن أدركته الصفة، مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد ورآه بمنزلة من اشترى ما فيه عقد إجارة، لأن الإجارة تمنع من التصرف في الحاضر كمنع التصرف للغيبة.
وأما الثاني: على ظاهره من أنه من المشتري مطلقاً، فهو متعذر الوجود، لكن يمكن أن يقدر على أنه من المشتري إلا أن يشترطه على البائع، عكس الثالث. وأما الرابع: فهو
لمالك في الموازية، ففيها وقال أيضاً: الديار والعقار من المشتري وما سوى ذلك من البائع، وهذا هو الذي يؤخذ من كلام المصنف لا على ما زاده ابن عبد السلام فيه.
فرع:
واختلف إذا لم يشترط أحدهما على الآخر الضمان ثم أراد أن يشترطه على الآخر بعد العقد، فقولان: بالجواز والمنع.
واستشكل اشتراط نقل الضمان من أحدهما إلى الآخر، فإنه ضمان بجعل، لأن له حصة من الثمن. وأجيب: بأنه إنما اشترط كل واحد منهما على صاحبه ما يلزمه على قول، وحاصله: مراعاة الخلاف.
تنبيه:
وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يكن في المبيع حق توفيه، وأما إن بيعت الدار مذارعة فالضمان من البائع بلا إشكال.
وعلى تضمين المشتري لو تنازعا، فقولان لتعارض أصلي السلامة وانتفاء الضمان
أي: إذا فرعنا على تضمين المشتري فتنازعا في أن العقد صادفها باقية، أو هالكة، أو سالمة، أو معيبة، فقال ابن حبيب: ضمانها من المشتري. وذكر اللخمي: أنه مثل قول ابن القاسم في كتاب محمد، بناء على أن الأصل السلامة إلى حين العقد. وقال ابن القاسم في المدونة: ضمانها من البائع. ولو قال المشتري: لا أعلم متى ماتت، فلا يمين على المشتري، بناء على أن الأصل انتفاء الضمان عن المشتري فلا ينتقل إلى ضمانه إلا بأمر محقق. وهكذا كان شيخنا وغيره يمشون هذا المحل، وكذلك مشاه ابن راشد، وهو أولى مما قاله ابن عبد السلام.
ولو تنازعا في الثمن فطلب البائع تعجيله وطلب المشتري التأخير، فهل يكون القول قول البائع ويجبر له المشتري وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن، أو لا وهو قول أبي عمران وابن محرز وابن القصار.
وقد نبه ابن القصار على الخلاف في ذلك، وذكر أن الصحيح من مذهب مالك فيما اختاره أبو عمران إلا أن يشترط ذلك في العقد.
واستشكل ابن عبد السلام- رحمه الله على ما فهمه منشأ الخلاف المذكور، واعترض عليه أيضاً بناء على ما فهمه بما حاصله: أن هذا الخلاف الذي بين أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران إنما هو في العقار، وأما في غيره فلا يلزم نقد الثمن باتفاق.
وقال المصنف: وعلى تضمين المشتري لأنا لو بنيا على تضمين البائع لكان الضمان منه بلا إشكال.
فرع:
ذكر اللخمي أن من اشترى غائباً فعليه أن يخرج لقبضه ولا يكون على البائع أن يأتي به.
ويحرم الفضل والنساء فيما يتحد جنسه من النقود، ومن المطعومات الربوية، فلابد من المماثلة والمناجزة ....
لما قدم الكلام على أركان البيع أتبع ذلك بشروط وموانع ليست عامة في جميع المبيعات. والفضل: الزيادة. والنساء: ممدود مهموز التأخير، نقله الجوهري وغيره.
وحاصله: أنه إن اتحد الجنس من النقود أو المطعومات الربوية دخل ربا الفضل فلا يجوز شيء منها بأكثر منه، وربا النساء فلا يجوز شيء منها ولو بمثله نسيئة.
وقوله: (فلابد من المماثلة) أي: لينتفي ربا الفضل والمناجزة، لينتفي ربا النساء.
ويحرم النساء خاصة فيما يختلف من النقود ومن المطعومات كلها
أي: ويحرم التأخير فقط فيما اختلف نوعه من النقود كالذهب والفضة، وفيما يختلف من المطعومات كلها، أي: لا يختص ربا التأخير بالربوي، بل لا يجوز طعام بطعام إلى أجل، سواء كانا ربويين أو لا. ولابد من إثبات (من) في قوله:(ومن المطعومات) كما
فعله، لئلا يتوهم تحريم النساء بين النقود والمطعومات. والأصل فيه ما في مسلم عن عبادة بن الصامت، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((الذهب بالذهب، والفضة بالفضلة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف [441/ب] فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)).
النقود العلة غلبتها في الثمنية، وقيل: الثمنية وعليهما في الفلوس، ثالثها: يكره ....
نحوه في الجواهر. والمراد بالنقود: الذهب والفضة على أي صفة كانا، مسكوكين أو مصوغين أو لا. واختلف في العلة، فقيل: الثمنية. أي: مطلق الثمنية من غير تقييد بالغلبة. أي: مطلق التعامل من غير اعتبار الغلبة، وعليه فيدخل الربا في الفلوس. وقيل: الغلبة في الثمنية، أي: كونها أصول الأثمان غالباً فلا تدخل الفلوس، وإلى هذا أشار بقوله:(وعليهما في الفلوس، ثالثها: يكره) أي: للتوسط بين الدليلين، وجعل قول مالك فيها الكراهة.
وما ذكره المصنف هنا من أن العلة هل هي الثمنية، أو الغلبة فيها أولى من قول من قال: إن القول بعدم جريان الربا في الفلوس مبنى على أن الربا في الذهب والفضة غير معلل، بل معلق بما يسمى ذهبا وفضة، لأن المازري أنكره ونقل اتفاق العلماء على تعليل الحكم هنا، وإنما اختلفوا في العلة.
والمفارقة اختياراً تمنع المناجزة، وقيل: إلا القريبة
المشهور الأول. وقد قال مالك في المدونة في الذي يصرف ديناراً من صيرفي فيدخله تابوته ثم يخرج الدراهم: لا يعجبني. وإذا قال هذا في التأخير اليسير فما بالك بغيره.
وقوله: (وقيل: إلا القربية) ليس هذا القول على إطلاقه، بل مقيد بما إذا كانت المفارقة القريبة بسبب يعود بإصلاح العقد، كما لو فارقه الحانوث أو الحانوتين لتقليب ما
أخذه أو وزنه، وهو مذهب الموازية والعتبية. وحمله اللخمي على الخلاف كالمصنف. وتأوله صاحب البيان على الوفاق، فقال: وقد قيل إن ما في العتبية مخالف لما في المدونة وليس هو عندي خلافاً، لأنهما في مسألة المدونة قاما بعد عقد التصارف وقبل التقابض من مجلس إلى مجلس ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومسألة العتبية إنما قاما فيها بعد التقابض للضرورة.
وفي الغلبة قولان
أي: وفي الفرقة الواقعة بين المتصارفين بسبب الغلبة من أحدهما أو من غيرهما قولان، أحدهما: أنها كالاختيار فيفسد. والثاني: أنها لا تفسد.
الباجي: والظاهر من المذهب فساد البيع إذا غلب أحدهما على الفرقة. والقول بعدم الفساد لمالك في العتبية والموازية، ففيهما: إذا اشترى قوم قلادة من ذهب وفيها لؤلؤ فلم ينقدوا حتى فصلت القلادة وتقاوموا اللؤلؤ وباعوا الذهب، ثما أرادوا نقض البيع لتأخر النقد، ولم يرض بتأخيره، وإنما هو رجل مغلوب.
وتأول أبو بكر بن عبد الرحمن هذه الرواية على أن المذهب فيها يسير تابع للحجارة، وأما إن كانت الحجارة يسيرة والذهب كير فيفسخ البيع.
ابن يونس: وفيه نظر، لأنه لو كانت العلة ما ذكر لبينها مالك وابن القاسم، وإنما لم يبطله مالك، لأن البائع مغلوب- كما ذكر- واتهم المشتري على قصد البطلان فعوقب بنقيض قصده.
ابن عبد السلام: والنفس أميل إلى عدم الفساد.
وذكر اللخمي الخلاف في الغلبة، سواء غلبا معاً أو غلب أحدهما. وجعل ابن شاس ذلك خلافاً مركباً، هل يصح إذا غلبا معاً أم لا؟ وعلى البطلان فيما إذا غلبا، فهل يبطل إذا غلب أحدهما، قولان. قال: والصحيح في الصورتين ما اختار أبو بكر.
ولو وكل فقولان
هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، أي: وكل على القبض وهو ظاهر، ولا إشكال في الجواز إذا وكله على العقد والقبض، كما لو تولاهما بنفسه. أما إذا تولى في أحدهما ووكل في الآخر ولم يغب، وليس فيها إلا أن العاقد غير القابض، فذكر المصنف قولين، وظاهرهما الجواز والمنع.
وأضاف المازري إلى ابن القاسم أنه قال: لا خير فيه. قال: وأمضاه أشهب إن وقع، وقال يفسخ إذا افترقنا قبل قبض الوكيل.
وقال ابن وهب: لا بأس به. قال: وبعض الشيوخ ينسب لابن القاسم أن من شرط صحة الصرف أن يكون العاقد هو القابض، وغيره إنما يشترط في صحته حصول القبض على الفور فقط من غير اعتبار كون العاقد هو القابض.
ولو وكل في القبض وغاب، فالمشهور المنع
يعني: ولو وكل أحدا لمتصارفين بعد انعقاد الصرف على قبض ما وجب له وغاب الموكل، فالمشهور المنع.
ابن عبد السلام: وهو ظاهر الروايات ونص عليه أشهب. وحمل اللخمي ما وقع في المذهب من المنع على الكراهة، وإن كان ظاهراً من جهة الدليل- لأن المناجزة المطلوبة قد حصلت ولم يقم دليل على اشتراط اتحاد العاقد والقابض- لكن ظاهر الروايات يأباه.
المازري: ولا خلاف في المذهب منصوص في النهي عن ذلك وفسخه إن وقع، لكن بعض أشياخي يحمل المنهي عن ذلك عن الكراهة، وعلى هذا فمقابل المشهور من كلام المصنف هو قول اللخمي. والله أعلم.
وفي غيبة النقد، المشهور المنع
يمنكن حمله على مسألة التسلف، ويرد هذا الوجه أن هذه المسألة ستأتي. وحمله ابن عبد السلام على أن المجرور معطوف على المجرور في الكلام الأول، أي: ولو وكل في غيبة النقد، قال: ولكن ذكره للأولى مغن عن هذه، لأنه إذا امتنع الوكيل مع حضور النقد على المشهور فأحرى مع غيبته.
ابن عبد السلام: ولا يصح حملها على الوديعة، لأنه سيتكلم عليها بعد ذلك، وحمله بعضهم على أنه قاعدة لما بعدها من الفروع المشتملة على غيبة النقد.
ورد بأن الفروع التي بعده مختلفة في المشهور كما [422/ا] سيأتي. والأقرب هنا ما قاله بعضهم من حمله هنا على ما إذا كان النقد غائباً عن موضع العقد غيبة قريبة كداره وحانوته، وفيهما قولان- كما ذكر- مشهور هما المنع.
ورد بأن مذهب المدونة في هذا الكراهية، ففيها: وأكره للصيرفي أن يدخل الدينار تابوته أو يخلطه ثم يخرج الدراهم، ولكن يدعه حتى يزن الدراهم فيأخذ ويعطي. وقد يقال: البعد في الدار والحانوت أكثر من البعد في إدخال الصيرفي الدينار التابوت فلا يكون ما في المدونة مخالفا.
وفي المواعدة مشهورها المنع
أي: في المواعدة على الصرف ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والكراهة.
ابن راشد: والمنع ظاهر المذهب. ابن عبد السلام: وهو المشهور، لأن فيها: ولو قال له المبتاع اذهب بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جياداً أخذتها منك كذا وكذا درهماً بدينار لم يجز، ولكن يسير معه على غير مواعدة.
ابن راشد: وهو عندي نص في المنع. وكذا قال ابن بشير: الكراهة محمولة على المدونة وظاهرها المنع.
ونسب اللخمي الكراهة لمالك وابن القاسم، وصرح المازري بأنها المشهور من المذهب. والجواز لابن نافع وابن عبد الحكم، والمنع لأصبغ.
أصبغ: ويفسخ إن وقع، وقاله ابن القاسم في سماع أصبغ. وقال في سماع يحيي: إن وقع لم يفسخ.
اللخمي: ورأى أصبغ أن الصرف فاسد، وقاسه على المواعدة في العدة، لأن كليهما مبايعة.
واستبعد ابن عبد السلام التحريم. واستحسن اللخمي الجواز، وفرق بين هذا والمعتدة، بأن المعتدة إنما منعت مواعدتها خيفة أن تكون حاملاً حفظاً للأنساب. وأجاز ابن شاس هنا التعريض، وهو صحيح، لأنه إذا جاز التعريض في النكاح فهو هنا أولى.
والتأخير كثيراً كالمفارقة
يعني: أن طول المجلس بعد التعاقد وقبل التقابض مثل المفارقة، يعني: اختياراً بالأبدان في إفساد الصرف، لقوله عليه الصلاة والسلام:((إلا هاء وهاء).
يعني: وفي الخيار، المشهور: المنع
أي: المشهور منع عقد الصرف على الخيار، والشاذ الإجازة وهو لمالك في الموازية، لأن فيها: في رجل اشترى سواري ذهب بمائة درهم على أن يذهب بهما إلى أهله، فإن رضوهما رجع فاستوجبهما، قال أرجو أن يكون هذا خفيفا. محمد وغيره: هذا من قول مالك.
الباجي: وتحتمل هذه الرواية أن يكون المراد بها المواعدة وتقرير الثمن دون عقد، ولذلك قال: إن رضيهما أهله رجع فاستوجبهما، فذكر أن الإيجاب لم يقع بعد وإنما كان ذلك على سبيل تقرير الثمن إن رضيهما أهله. المازري: وهذه الرواية وإن كان فيها احتمال، لكن ما
نقله ابن شعبان من اختلاف قول قول مالك بالإجازة والمنع عليه يعول في نقل الخلاف في المذهب. وصرح الباجي والمازري بالمشهورية كالمنصف، وبنى المازري الخلاف على الخلاف المعلوم في عقد الخيار هل هو منحل أو منبرم؟ وهكذا حكى ابن شاس هذا الخلاف، وقال في المقدمات: لا خلاف أن الصرف فاسد سواء كانا جميعاً بالخيار أو أحدهما، لعدم المناجزة بينهما بسبب الخيار.
والصرف في الذمة وصرف الدين الحال يصح خلافاً لأشهب
قال شيخنا- رحمه الله: إن جعلنا قوله: (والصرف في الذمة) ترجمة كما في بعض النسخ فلا إشكال، وإن أثبتنا الواو فصرف ما في الذمة تطارح ما في الذمتين، وهو أن يكون لواحد على الآخر دنانير وللآخر عليه دراهم فيتصارفان بما في ذمتهما، وصرف الدين الحال إذا كان من جهة واحدة فالمعروف من المذهب جوازه. قال في الجواهر: وحكى المتأخرون عن أشهب الإبطال فيه.
ومقتضى كلام المصنف: أن أشهب- رحمه الله يخالف في المسألتين، وبذلك صرح ابن راشد وهو ظاهر، لأنه إذا منع أشهب فيما إذا كان الدين من أحدهما فأحرى إذا كان من جهتهما.
وقد نقل في الإكمال عن مالك وأصحابه جواز المسالتين، أعني: إذا صرف ما في ذمتهما أو في ذمة أحدهما، وهكذا مشى ابن راشد وغيره هذا الموضع، وهو الذي يؤخذ من كلامه في الجواهر. وطول ابن عبد السلام ها هنا بما ليس فيه كبير فائدة للفقيه.
والمؤجل، المشهور: المنع
أي: وصرف الدين غير الحال يمتنع على المشهور، بناء على أن المعجل لما في الذمة يعد مسلفاً، وإذا حل الأجل يقتضي من نفسه فلم يحصل التناجز، وعلى الشاذ بالبراءة يجوز الصرف هنا.
فإذا تسلفا أو أحدهما وطال بطل اتفاقاً، وإن لم يطل صح خلافاً لأشهب
هذه المسألة يلقبونها بالصرف على الذمة. قال في التهذيب: وإن اشتريت من رجل عشرين درهماً بدينار وأنتما في مجلس، ثم استقرضت أنت ديناراً من رجل إلى جانبك واستقرض هو الدراهم من رجل إلى جانبه، فدفعت إليه الدينار وقبضت الدراهم، فلا خير فيه. ولو كانت الدراهم معه واستقرضت أنت الدينار، فإن كان أمراً قريباً كحل الصرة ولا تبعث وراءه ولا تقوم لذلك جاز، ولم يجزه أشهب.
والحاصل منه: أنهما إن تسلفا، فاتفق ابن القاسم وأشهب على الفساد، لأن تسلفهما مظنة الطول فلا يجوز وإن لم يطل، لأن التعليل بالمظان لا يختلف الحكم فيه عند تخلف العلة كالقصر في الصلاة للمملوك.
ابن راشد: وإن تسلف أحدهما وطال فكذلك، وإن لم يطل فالخلاف. وعلى هذا ففي كلام المصنف مناقشة، لإيهامه أن خلاف أشهب جار [422/ب] في تسلفهما معاً، إلا أن يجعل قوله:(وطال) قيد في تسلف أحدهما.
واختلف الشيوخ هل الخلاف في تسلف أحدهما مقيد بما إذا لم يعلم الذي عقد على ما عنده أن الآخر لم يعقد على ما ليس عنده، وأ/اإن علم ذلك فيتفق على البطلان أو الخلاف مطلقاً علم أو لم يعلم؟ على طريقين حكاهما المازري.
والمغضوب الغائب إن كان مصوغاً، فالمشهور: المنع
وجه المشهور: أنه متعين فيقع الصرف من غير قبض في الحال. ووجه الجواز: كونه في الذمة فأشبه الحاضر، هذا معنى كلام المصنف.
ابن عبد السلام، وقال غيره: إن علم وجود المغصوب حين التعاقد فالقولان، وهما جاريان على صرف الوديعة الغائبة عن موضع التعاقد، وإن لم يعلم وجوده حينئذ فلا تجوز
المصارفة عليه، لاحتمال أن كيون قد تلف فيلزم الغاصب القيمة والمصارفة بجنسها فيؤدي إلى التفاضل.
فإذا دهب فعلى خلاف صرف الدين، لأنه يضمن قيمته أو زنته
أي: فإن ذهب هذا المصوغ وجب ضمانه على الغاصب، جازت المصارف عليه حينئذ على المشهور في جواز صرف ما في الذمة، ثم ينظر فيما يتعلق بذمة الغاصب هل قيمته أو مثله، والمشهور القيمة، بناء على أن الشيء إذا كان مثلياً ثم دخلت فيه صنعة، هل يصير من المقومات أو المثليات كالغزل؟
قال شيخنا- رحمه الله: وصرفه على القولين مشكل، لأنا إذا قلنا بالقيمة، فقد يكون وزنه خمسة دنانير ويساوي الآن مائة وعشرين لصنعته وصرف الدينار عشرين، فيأخذ ستة عن خمسة وهو ربا فضل ونساء.
وإن قلنا: يأخذ مثله كسوار مثلاً، فإنه يأخذ عن ذهب فضة أو بالعكس وذلك صرف مستأخر. ودليله: أنهم قالوا فيمن استهلك طعاماً فلا يأخذ عنه طعاماً من غير جنسه، إذ هو طعام بطعام إلى أجل فاعرفه.
فإن بقي على حال خيار أخذ العين أو التضمين، فعلى خلاف إحضار العين وخلاف صرف الدين ....
أي: فإن لم تذهب عينه بالكلية، ولكنه تعيب عيباً يوجب لصاحبه الخيار في أخذه أو تضمينه الغاصب، وإن اختار أخذه فإن أحضره ثم صارفه عليه جاز اتفاقاً، وإن لم يحضره فالمشهور المنع، وإن اختار أخذ القيمة فهي دين له في ذمة الغاصب، فإن أراد مصارفته عليها جاز على المشهور.
وقال في الجواهر: والمشهور جار على أن من خير بين شيئين لا يعد منتقلاً، بل يعد كأنه لم يستحق غير ما اختار، وأما إن عددناه منتقلاً فلا يجوز صرف أحدهما.
فإن كان مسكوكاً، فالمشهور: الجواز
هذا قسيم قوله: (مصوغاً) أي: وإن كان المغصوب مسكوكاً، فالمشهور جواز صرفه، وفي معناه ما لا يعرفه بعينه من المكسور والتبر.
قال الباجي: بناء على أن النقود لا تتعين
أي: أن الباجي أجرى القولين في إجازة الصرف ومنعه على القولين في أن الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ فمن رأى عدم التعيين أجاز، لأنها حينئذ تتعلق بذمته وإبراؤه منها قبض. وإن قلنا: تتعين امتنع كما في المصوغ.
ورده ابن بشير بأن المشهور: تتعين، وبالاتفاق في ذوي الشبهات
أي: رد ابن بشير كلام الباجي بوجهين، أحدهما: أن الدراهم والدنانير في الصرف تتعين على المشهور فكيف ينبني المشهور على الشاذ. والثاني: أنهم اتفقوا أنها تتعين بالنسبة إلى من كان ماله حراماً أو كان في ماله شبهة، فإذا أراد من هو من أهل الخير أخذ عين دنانيره ودراهمه من الغاصب الذي ماله حرام أو فيه شبهة مكن من ذلك اتفاقاً، ويكون وجه الرد على الباجي من هذا الوجه: أنه بنى المشهور على وجه اتفق على عدمه. ونبه المصنف بالأدنى وهو ذو الشبهة، على الأعلى وهو من كان ماله حراماً. وما حكاه المصنف عن ابن بشير تبع فيه ابن شاس وليس هو فيه تنبيهه، فلعلهما اطلعا على ذلك في غيره. وانظر الاتفاق الذي حكاه المصنف مع قول ابن الجلاب: ومن غصب دراهم فوجدها ربها بعينها فأراد أخذها وأبى الغاصب أن يردها وأراد رد مثلها، فذلك للغاصب دون ربها، قاله ابن القاسم.
فائدة: الدراهم والدنانير تتعين في ذوي الشبهات على المشهور، نقله ابن عبد السلام وتتعين في باب الصرف على المشهور حرصاً على المناجزة، نقله ابن بشير. وكذلك نقل
صاحب المقدمات، فقال: مذهب مالك وجمهور أصحابه في الصرف أنها إن عينت تعينت، وإن لم تعين فإنه تعين إما بالقبض أو المفارقة.
وحكى المازري الاتفاق على أنها تتعين بالمفارقة. وقال ابن القصار: الظاهر من المذهب أنها لا تتعين.
المازري: وفي كونه الأظهر نظر، لأن في المدونة ما يدل على اختلاف قول ابن القاسم في هذا، ففي السلم: أنها لا تتعين، لأن فيه: إذا أسلمت إليه في طعام أو غيره ثم أقالك قبل التفرق ودراهمك في يده فأراد أن يعطيك غيرها، فذلك له وإن كنت اشترطت استرجاعها بعينها.
وفي كتاب كراء الرواحل: من اكترى بدنانير معينة ولم يشترط النقد ولا كانت العادة النقد، فإن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف.
وقال أشهب: لا يفتقر إلى هذا الشرط، والحكم يوجب الخلف. فهذا من ابن القاسم ذهاب إلى أنها تتعين، لأنه لم يلزم خلفها إذا ضاعت إلا بالاشتراط.
وبعض أشياخي يشير إلى أن المذهب على ثلاثة أقوال، التعيين، وعدمه، والثالث: يتعين في جانب [433/أ] المشتري دون البائع. فالأوليان مبنيان على الخلاف في الوفاء باشتراط ما لايفيد، ورأى في الثالث أن المشتري إذا اشترط التعيين كان له غرض صحيح في اشتراط تعيينها، لأنه يمكن ألا يكون عنده سواها فيشترط تعيينها لئلا يكلف خلفها إن ضاعت، بخلاف البائع فإنه لا يظهر لاشتراطه فائدة. انتهى.
وعلله بأن الأصل تعلقها بالذمة ولا تعرف بعينها
لما رد ابن بشير توجيه الباجي ذكر هو توجيهاً حاصله: أنا وإن قلنا أنها تتعين، فهي مضمونة بوضع اليد عليها ولا تعرف بعينها، وإذا كانت لا تعرف شابهت الدين،
والمشهور جواز صرفه. ولا يريد ابن بشير أن كل واحد منهما علة مستقلة، وإلا لزم جواز صرف المصوغ لتعلقه بالذمة بوضع اليد.
والرهن، والعارية، والمستأجر، والوديعة إن كان مصوغاً فكالمغضوب، وإن كان مسكوكاً، فالمشهور: المنع ....
قوله: (فكالمغضوب) يعني: إما أن يبقى على حاله أو يتلف، أو يبقى على حال خيار كما في المغضوب، غير أن الوديعة لا ضمان فيها وكذلك المستأجر. فمعنى (فكالمغضوب) أنه إذا كان حاضراً جاز، وإن كان غائباً فالمشهور المنع، وإن وجبت القيمة جاز على المشهور.
قوله: (وإن كان) أي: الغائب مسكوكاً، فالمشهور: المنع. والفرق بين هذه المواضع والمغضوب، أنه في هذه غير متعلق بالذمة ولم يزل في ملك ربه، والمغضوب قد تعلق بذمة الغاصب بوضع يد العداء عليه، فلذلك تعاكس المشهور. وظاهر قوله:(وإن كان مسكوكاً) يقتضي أن المسكوك تتصور فيه الإجارة والعارية. وقد قال المصنف في الإجارة: المشهور منع إجارتها، وقيل: إن لازمها ربها صح. وقال في العارية: لا تصح إعارة الدنانير والدراهم وأن إعارتها قرض. ويجاب عنه: بأن هذا من باب صرف الكلام لما يصلح له وحذف ذلك للعلم به، ولما سيأتي، وشهرته عند طلبة العلم. وكلامه في الجواهر أحسن من كلام المصنف، لأنه لا يرد عليه هذا، لأنه قال بعد ذكر مسائل: المسالة الرابعة صرف المرهون، فإن كان مصوغاً ففيه قولان، المنع حتى يحضر، والجواز نظراً إلى مكان التعلق بالذمة، وإن كان مسكوكاً فأجيز في رواية محمد ومنعه ابن القاسم. والجواز لاحدى علتين، حصول المناجزرة بالقبول، والالتفات إلى إمكان التعلق بالذمة فأشبه المغصوب، إذ هو على الضمان إن لم تقم بينة على تلفه، وقولان إن قامت، والمنع نظراً إلى الحال وهو على ملك ربه، وإنما يقبضه لنفسه عند حضوره فأشبه صرف الغائب.
الخامسة: صرف الوديعة، وفي الكتاب المنع منه، وروى أشهب الجواز في المسكوك منها. واختلف في تعليله على طريقين، إحداهما: أنه مبني على أن يعقد المودع التسلف ثم يصارف، قاله الباجي. قاله الباجي: ويجب على هذا ألا يجوز في الحلي باتفاق.
والطريق الثاني: النظر إلى حصول المناجزة بكمال القول والشيء تحت يده، فعلى هذا يجري الخلاف في المصوغ، وقد ظهر تعليل بما قدمناه في المرهون.
فرعان:
أحدهما: العارية وحكمها حكم الرهن، قاله الباجي. قال بعض المتأخرين: وهو ظاهر.
الثاني: المستأجر وحكمه حكم الوديعة. انتهى كلامه في الجواهر.
والصرف على التصديق في الوزن والصفة ممتنع خلافاً لأشهب
أي: إذا تصارفا وصدق أحدهما أو كل منهما الآخر في الوزن أو الصفة، فالمشهور المنع، وعلل بمراعاة الطوارئ، إذ يحتمل أن يوجد على غير تلك الصفة فيصير العقد مترقباً حله. وما عزاه المصنف لأشهب تبع فيه اللخمي والمازري، وعزا صاحب البيان إليه المنع.
ووجه الجواز: أن النفوس مجبولة على حب المال، فلا يصدق المخبر إلا إذا كان من أهل الدين أو قامت قرينة فلا يتهم على تضييع حق الله تعالى. ومن هذا تبادل الطعامين، فابن القاسم منعه على التصديق، وحكى عنه الإجازة في بدل الطعامين دون الصرف. وعلى جواز التصديق في الصرف يجوز في تبادل الطعامين بل هو أولى، ومنعه ابن نافع في تبادل الطعامين فأحرى في الصرف.
فائدة:
قال بعضهم: لا يصدق في الوزن والكيل في مسائل، المبادلة: فلا يصدق فيها في وزن ولا عدد لئلا يوجد نقص فيدخله التفاضل والتأخير. والطعام الربوي بجنسه أيضاً. والقرض:
لئلا يوجد نقص فيلتزمه المقترض عوضاً عن معروفه فيجر نفعاً. والطعام المبيع إلى أجل: لئلا يلتزم النقص لأجل تأخيره، ورأس مال السلم، والمعجل قبل أجله، والصرف.
ونقص المقدار بالحضرة إن رضي به أو بإتمامه ناجزاً صح
لما قدم الكلام على الافتراق أتبعه بما يطرأ على العقد من نقص أو استحقاق. والباء للظرفية، والمجرور في محل حال، وتقدير كلامه: إن رضي الأخذ بالنقص أو رضي الدافع بإتمامه، فحذف رضي من الثاني لدلالة الأول عليه، فهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات.
وقوله: (ناجزاً) من تمام الثانية، ويدل على محذوف مثله في الأول.
وإن لم يرض وكان غير معين أجبر الممتنع، وفي المعين قولان
أي: وإن لم يرض الدافع بالإتمام ولا الأخذ بالنقص، فإن كان العقد وقع على دراهم أو دنانير غير معينة أجبر من امتنع منهما على إتمام ما دخلا عليه. واختلف: هل يجبر الممتنع إن دخلا على معين. ولعل سببهما الخلاف في الدراهم [433/ب] والدنانير هل تتعين بالتعيين أو لا؟
وإن كان بعد المفارقة أو الطول، فإن قام به انتقض على المنصوص كتأخير البعض، وإن لم يقم، فثالثها: إن كان قليلاً صح ....
يعني: فإن وجد نقص المقدار بعد افتراقهما من المجلس أو بعد طوله، فإن أقام به وأخذ النقص بنقصه، فحكى الباجي والمازري: أنه لا خلاف في نقض الصرف. وأجرى ابن شاس فيه قولاً بالصحة من الشاذ في تأخير البعض بل هنا أولى، لعدم الدخول عليه. واعلم أن تأخير البعض له صور:
الأولى: أن يقع بشرط، ففي المقدمات: الاتفاق على بطلان الجميع. وخرج ابن القصار قولاً بإمضاء المتناجز فيه من أحد القولين في الصفقة إذا جمعت حلالاً وحراماً، وذكره اللخمي قولاً صريحاً.
الثانية: أن يدخلا على قبض الجميع ثم يؤخرا شيئاً، ففي المقدمات: ينتقض الصرف فيما وقع فيه التأخير باتفاق، إن كان درهماً انتقض صرف دينار ما بينه وبين أن يكون الذي فيه التأخير أكثر من صرف دينار، فينتقض صرف دينار آخر ثم كذلك.
واختلف فيما وقعت فيه المناجزة، فمذهب ابن القاسم في المدونة بطلانه، وهو قول محمد، ولابن القاسم في الموازية قول بصحته.
وخص المازري، وابن شاسن وابن بشير هذا الخلاف بما إذا كان المؤخر أقل الصفقة، وأما إن كان أكثر الصفقة فينتقض بالاتفاق، إلا ما خرجه ابن القصار، وجعل ابن بشير النصف كالكثير في الاتفاق عليه.
وقال المازري: علم من المذهب قلة النصف في العروض، وأما الطعام فالنصف فيه عند ابن القاسم في حكم الكثير، وقال أشهب: الطعام كالعروض.
وظاهر ما قاله في المدونة: إن النصف في الدراهم والدنانير في حكم القليل، لقوله فيمن صرف مائة دينار بألفي درهم فلم يجد إلا خمسين: إن الصرف ينتقض، بخلاف ما لو وجد الخمسين زيوفاً، فإنه إنما ينتقض بقدرها، لكون الزيوف لا يفسد الصرف بوجودها. انتهى.
الصورة الثالثة: أن ينعقد الصرف بينهما على المناجزة فيتأر شيء مما وقع الصرف عليه بنسيان، أو غلط، أو سرقة من الصراف، أو ما أشبه ذلك مما يغلبان عليه، أو أحدهما، فيمضي الصرف فيما وقع فيه التناجز ولا ينتقض باتفاق.
ابن رشد: واختلف هل ينتقض فيما لم يحصل فيه التناجز إن تجاوز النقصان، مثل أن يصرف منه ديناراً بدراهم فيجد في الدراهم درهماً ناقصاً، فيقول: أنا أتجاوزه، أو لا ينتقض من الصرف شيء، على قولين، أحدهما: أن ذلك لا يجوز وينتقض من الصرف صرف دينار، إلا أن يزيد النقص عليه فينتقض ديناران. والثاني: أن الصرف يجوز ولا ينتقض منه شيء إن تجاوز النقصان كالزائف إذا رضي به.
قوله: (وإن لم يقم) أي: فإن رضي الأخذ بالنقص ولم يقم به، فحكى المصنف تبعاً للمازري وابن شاس ثلاثة أقوال. المازري: وهو روايات:
الأولى: يفسخ جميع الصرف، لكون الفساد قد دخل بعضه فسرى إلى كله.
والرواية الثانية: أنه يمكن من ذلك ولا يفسخ ما تناجزا فيها، كما يمكن من الرضى بالزيوف.
والثالثة: تمكينه من ذلك إن كان النقص يسيراً، والمنع منه إن كان كثيراً.
ابن عبد السلام: وأكثرهم على أنه لا يفسخ.
خليل: والأقرب هو الثالث، لأنه الذي تسمح به النفوس، والمشهور: جواز الرضى مطلقاً، لكن بشرط أن يكون النقص في الوزن، وأما إن كان النقص في العدد فإنه لا يجوز الرضى على المشهور.
والقليل: ما تختلف به الموازين. وقيل: دانق في دينار، ودرهم في مائة
هذا فرع على القول الثالث، وجعل صاحب المقدمات اختلاف الموازين توفيقاً بين قولي ابن القاسم، فإنه روى اغتفار الدانق والدانقين مرة وعدم اغتفارهما مرة، وأنه رأى في الأولى: أن ذلك القدر مما تختلف به الموازين. وفي الثانية: أنه مما لا تختلف به، وأنه لا خلاف في اغتفار ما تختلف به الموازين.
قال شيخنا- رحمه الله تعالى-: وليس المراد بالدانق في القول الثاني ما سيأتي وهو السدس، بل الدانق في اصطلاح الْحُسَّابِ: أن الدينار أربعة وعشرون قيراطاً وكل قيراط أربعة دوانق، فيكون الدانق جزءاً من ستة وتسعين جزءاً ليكون مناسباً للدرهم في مائة.
قيل: وتبع في قوله: (ودرهم في مائة) ابن شاس، والمنقول إنما هو الدرهم في الألف. وروى أصبغ عن ابن القاسم في الموازية: إن نقصت الألف درهم مثل الدرهم فهو خفيف. والدانق بفتح النون وكسرها، الجوهري: وربما قالوا داناق.
ونقص الصفة إن كان كرصاص، فكالمقدار على الأظهر
لما كان النقص قسمين، نقص مقار، ونقص صفة. وتكلم على نقص المقدار اتبعه بالكلام على نقص الصفة. وإدخاله ما كان كالرصاص في نقص الصفة فيه تجوز والعلاقة المشابهة، فإنه شابه الزائف في وجوده حساً، والقولان للمتأخرين، قاله ابن بشير.
وقوله: (كالمقدار) أي: إن رضي به أو بإتمامه
…
إلخ. التفصيل: ووجه الأظهر أن وجوده كعدمه. ورأى مقابله أن هذا هنا مقبوض، وكونه لا قيمة له لا يضر كما في المشغوش.
وإن كان مغشوشاً فإن رضي به صح
كالمعاير بمصر، وتسميه المغاربة النحاس، وفي المدونة الستوق. الباجي، والمازري: ولا خلاف فيه، لأن القبض في المقدار المعقود عليه حصل، وإنما وقع النقص في صفته فله الرضى به كسائر العيوب.
وإن لم يرض وكان غير معين، فقولان: النقص، وجواز البدل. وفي المعين طريقان: جواز البدل، والقولان
…
[444/أ] أي: وإن لم يرض قابض المغشوش به، فإن كان الصرف بينهما على دراهم ودنانير غير معينة، كما لو قال: بعني عشرة دنانير بمائتي درهم، فقولان، أحدهما: النقض.
المازري: وهو المشهور. والثاني: جواز البدل لابن وهب. وحكى اللخمي هذين القولين فيما إذا وقع التعيين من جهة دون أخرى، ولم يحك في البطلان إذا لم يحصل التعيين خلافاً. وبنى المازري وغيره الخلاف على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فلا يجوز لعدم المناجزة، أو نقض له الآن وابتداء مبايعة فيجوز.
وإن كان الصرف بينهما على شيء معين، كما لو قال: بعني هذا الدينار بهذه العشرين درهماً، فحكى المصنف طريقين، إحداهما للخمي، وأصلها لأبي بكر بن عبد الرحمن: أن المذهب كله على إجازة البدل، لأنهما لم يفترقا وفي ذمة أحدهما شيء، فلم يزل مقبوضاً إلى وقت البدل لأنهما لم يفترقا، بخلاف غير المعين فإنهما تفرقا وذمة أحدهما مشغولة.
والثانية، قال في الجواهر: هي لجل المتأخرين، وأصلها لابن الكاتب أن القولين في هذه كالتي قبلها، ولا فرق بين التعيين وعدمه، ولذلك أدخل المؤلف الألف واللام التي للعهد على القولين، وهذه الطريقة أشد، لتقدم الخلاف في الدنانير والدراهم، هل تتعين بالتعيين أم لا؟
ابن عبد السلام: ولم يتعرض المصنف في هذا الفصل للنقض، هل هو في القليل أو الكثير كما تعرض لذلك في الذي قبله، ومسائلهم تدل على تخصيص القليل.
وإذا قيل بالنقض للنقص مطلقاًن فخمسة: فقيل ينقض الجميع مطلقاً، وقيل: إن لم يسم لكل دينار. وقيل: دينار. وقيل: أو كسر إن كان النقص مقابله أو أقل. وقيل: ما قابل النقص
…
أي: وإذا انتقض الصرف لأجل النقص مطلقاًن أي: في المقدار، والصفة، والتعيين وعدمه، فخمسة أقوال- ولذلك أتى بالتاء-:
الأول: ينتقض الجميع، وعزاه اللخمي لابن القاسم في العتبية، لأن الصفقة إذا بطل بعضها بطل كلها.
والثاني: ينتقض الجميع إن لم يسم لكل دينار شيئاً، كما إذا قال: هذه العشرة دنانير بمائتي درهم. وأما إن سمي، كقوله: كل دينار بعشرة، فإنما ينتقض في دينار إن لم يقابل الزائف أكثر منه، وهو للقاضي إسماعيل، وابن الجلاب، وعبد الوهاب.
وزعم الباجي: أن الخلاف يرتفع إذا سمى لكل دينار وأنه لا ينتقض إلا دينار، وإنما الخلاف إذا لم يسم. ورد عليه المازري: بأن الروايات وقعت مطلقة وإنما فصل هذا التفصيل من تقدم ذكرهم.
والقول الثالث: إنما ينتقض دينار واحد سمي أو لا، المازري، وابن راشد، وابن عبد السلام وغيرهم، وهو المشهور.
والقول الرابع: أنه ينتقض صرف أصغر الدنانير. والفرق بينه وبين الثالث، أنه على الثالث ينتقض صرف دينار كامل ولا ينتقض على الرابع إلا صرف أصغر الدنانير، وتبع في هذا ابن شاس، وابن بشير. وفي نقلهم نظر، لأن المازري وغيره إنما ذكروا أربعة أقوال وجعلوا القول بنقض الدينار أو أقل منه قولاً واحداً، ونحوه لابن يونس.
المازري: وإذا تقرر أن المذهب المشهور اختصاص الفسخ بدينار، فإنه يقتصر في ذلك على أقل ما يوجد في الدنانير. ونقله الباجي أيضاً عن ابن القاسم فقال، قال ابن القاسم: يرد منها أصغر قرض.
الخامس: على نقل المصنف ينتقض ما قابل النقص. اللخمي، والمازري: وهذا بناء على القول بجواز أن يصرف بعض دينار. وسبب الخلاف، هل المجموعة في مقابلة الأجزاء، أو الأجزاء في مقابلة الأجزاء، أو يفصل بين أن يسميا شيئاً أو لا، لأنهما إذا سميا لكل دينار شيئاً صارت كأنها عقود متفرقة.
تنبيه:
جعل اللخيم محل هذا الخلاف إذا وقع الصرف على غير معين، وأما إن وقع على معين، فإن قابل الزائف دينار واحد أو وجد العيب بدينار واحد، ينتقض صرف دينار واحد بالاتفاق.
فرع:
ولو كان في الصرف سكك مختلفة، فقال أصبغ: يختص الفسخ بالدينار الأعلى والأطيب. وقال سحون بفسخ الجميع.
وشرط البدل: الجنسية، والتعجيل خلافاً لأشهب فيهما
قرره ابن راشد على ظاهره. وقال بعض من تكلم على هذا الموضع: هذا الخلاف الذي ذكره لا يعرف في البدل، وكيف يكون في البدل ومذهب ابن القاسم وأشهب منعه، وإنما هو في الصلح عن القيام بالعيب، ولذلك قال ابن عبد السلام: إنما يعرف هذا الخلاف لابن القاسم وأشهب في مسألة الطوق المذكورة أول الصلح. وقد ذكرها المصنف في الصلح، وسيأتي الكلام عليها.
خليل: ولعل المصنف بنى على أن لازم القول قول، فنسب لابن القاسم وأشهب ما ذكره. وقد خرج اللخمي قولي ابن القاسم وأشهب من مسألة الطوق في هذه المسألة ونصه: وإن لم يرد، أي: الزائف، وصالح على الزائف بعين أو عرض، فأجاز ذلك محمد ومنعه ابن شعبان، قال: إلا أن يتفاسخا ثم يعملا على ما يجوز، واستشهد بمسالة كتاب الصلح في الطوق، واختلف فيه على ثلاثة أقوال، فأجاز ابن القاسم أن يرضيه على شيء يدفعه إليه نقداً ولا يرده إلى أجل. وأجازه أشهب نقداً وإلى أجل. ومنعه سحنون إذا افترقا فيهما.
وعلى هذا يجري الجواب في الدينار، فيجوز على قول ابن القاسم إذا نقد ذلك، وعلى قول أشهب يجوز وإن كان إلى أجل، ولا يجوز على قول سحنون إذا افترقا لا نقداً ولا إلى أجل، والجواز أحسن.
وفي ابن يونس: إذا باع طوق ذهب بألف درهم، ثم وجد بالطوق عيباً فصالحه بائع الطوق على دنانير أو دراهم، فقال ابن القاسم: يجوز ذلك إن كانت الدراهم من نوع الدراهم [444/ب] التي قبض منه، وإن كانت من غير سكة ما قبض منه لم يجز، وكذلك لو صالحة على نقرة، وقال أشهب: لا باس بذلك كله.
والمزيد بعد الصرف كجزئه، وقيل: كالهبة
أي: من صارف رجلاً ديناراً مثلاً بدراهم، ثم زاد أحدهما صاحبه زيادة لأجل الصرف، فإنه إذا فسخ الصرف لفساد في العقد، فإنه يرد جميع ما أخذ مع المزيد، وهذا معنى قوله:(كجزئه) وقيل: كالهبة، فلا يرد إلا المدفوع أولاً ولا يرد المزيد، ويحتمل أن يريد بقوله:(كجزئه) أنه اطلع على عيب في المزيد أن له القيام ونقض الجميع. (وقيل: كالهبة) فلا قيام له إن اطلع فيه على عيب.
ورأينا أن نأتي بالمسألة من المدونة ثم نذكر ما يتعلق بها ونبين ما هو الأليق بكلامه، قال فيها: وإن صرفت من رجل ديناراً ثم لقيته بعد أيام، فقلت له: قد استرخصت مني الدينار فزدني فزادك دراهم نقداً أو إلى أجل، فجائز ولا ينتقض الصرف، وليس لك رد الزيادة لعيب فيها، وإن كان الدينار رديئاً فرددته أخذ منك الذي زادك مع دراهمه، لأنه للصرف زادك فترده برده. وكذلك الهبة بعد البيع للبائع إن رد السلعة بعيب أخذها.
ولأشهب عن مالك في الموازية: أنه يبدل المزيد الزائف. فحمله بعض الأشياخ على الخلاف، وبعضهم على الوفاق، ولهم في التأويل وجهان، أحدهما لابن القاسم وغيره: أن
ما في الموازية محمول على إيجاب الزيادة، لأنه قال فيها: لقيته، فقال: نقصتني من صرف الناس فزدني فزاده، أنه يفهم إذا زاده فقد ألحقه بصرف الناس وقد أوجب الزيادة.
والتأويل الثاني ذكره صاحب النكت عن بعض شيوخه: أن الخلاف مبني على تحقيق فرض المسألة، فإن قال له: أزيدك هذا الدرهم فوجده زائفاً فلا يرده، لأنه إنما رضي أن يهبه ذلك الدرهم على ما هو به فلا يلزم بغيره. وإن قال: أزيدك درهماً فعليه البدل، لأنه قد أوجب على نفسه درهماً فعليه البدل، لأنه قد أوجب على نفسه درهما جيداً، وإليه ذهب اللخمي.
ورد المازري هذا التفصيل، لأن في المدونة ما يمنعه، لأنه قال فيها: فزاده درهماً نقداً أو إلى أجل، والذي إلى أجل هو في الذمة. وقد نص على أنه ليس عليه بدله. وفي كلام عبد الحق إشارة إلى الجواب، لأنه تأول قوله: إلى أجل. على أنه قال له: أنا أزيدك، أو قال: تأتني عند أجل كذا وكذا، ثم عند الأجل أتاه فأعطاه درهماً فوجده زائفاً فليس عليه بدله، لأنه رضي بما دفعه غليه ولم يلزم غيره، بخلاف قوله: أزيدك درهماً. فإنه يحمل على الجليد.
وقال القاضي إسماعيل: الزيادة كالجزء يبطل الصرف بتأخرها كما لو تأخر جزء من الصرف، ونص كلامه في المبسوط: إن كان الذي زاده بعد المصارفة إنما هو لإصلاح ما مضى ولمخالفة أن ينتقض ما بينهما، أو لمعنى من المعاني، فإن الزيادة تبطل الصرف. واستدل بقول عبد الملك في رجلين اشتريا شاة من رجل، ثم إن البائع وضع لأحدهما شيئاً من الثمن، فإن كان ذلك شيئاً يشبه إصلاح ذلك البيع فهو بينه الشريكين، وإن كان لا يشبه إصلاح ما مضى، مثل أن يحط عنه أقله أو أكثره فإنما هي هبة وليست من البيع. فإذا تقرر هذا فادعى بعض من تكلم على هذا المحل أن الحق هنا حمل كلام المصنف على الوجه الثاني، أي: هل ينتقض الصرف بتأخيرها؟ قال: وهو مذهب القاضي إسماعيل. أو لا ينتقض؟ قال: وهو مذهب المدونة.
خليل: وفيه نظر، لأنه يلزم أن يكون المصنف قدم غير المشهور. وقال ابن عبد السلام: إن قوله في المدونة يوافق القول الأول على الاحتمال الأول، أي: إذا رد، رد الزيادة. قال: ويكون القول الثاني على الاحتمال الثاني من تمامه.
ولو استحق المسكوك بعد المفارقة أو الطول أو التعيين انتقض على المشهور، وإلا فالعكس ....
أي: إذا اصطرفا بمسكوك من الجانبين أو من جانب فاستحق المسكوك بعد المفارقة، أو بعد أن طال المجلس ولم يفترقا، أو كان المسكوك المعقود عليه معيناً وإن لم يحصل طول ولا مفارقة، فإن الصرف ينتقض على المشهور، إذ لا يلزمه غير ما عين، وإن لم يعين فقد تعينت بالقبض أو المفارقة على ما نقله ابن رشد كما تقدم. ورأى في الشاذ أنها لا تتعين، فيجبر على البذل في الثلاثة.
وقوله: (وإلا فالعكس) أي: فإن لم تكن مفارقة ولا طول ولا تعيين لم ينتقض. قال بعض من تكلم على هذا الموضع: والمراد بالعكس عدم النقض فقط، لا باعتبار دخول الخلاف وانعكاس المشهور، لأنه إذا لم يكن طول ولا افتراق ولا تعيين أجبر على البدل إذا كان عنده غيرها اتفاقاً.
وكلام المصنف قريب من كلام صاحب الجواهر، وذكر أن المشهور مذهب المدونة، وعزا الشاذ لأشهب، وجعل هذا الخلاف إذا حصلت المفارقة أو الطول.
وقال ابن الكاتب: إنما اختلاف ابن القاسم وأشهب إذا حصل استحقاق بالحضرة، فعند ابن القاسم لا يلزمه الإتيان بمثلها سواء وقع الصرف على معين أم لا، وعند أشهب لا يلزمه ذلك إذا كانت الدراهم معينة، وأما إذا كانت غير معينة فينتقض.
وذكر ابن عبد السلام أن القرويين اختلفوا في محل القولين اللذين في المدونة، هل هو عند الاقتران أو الطول، أو عند عدم كل واحد منهما. ولنذكر لفظه في المدونة ليتبين لك الفهمان، قال فيها: ومن اشترى إبريق فضة بدنانير أو دراهم، فاستحقت الدنانير أو الدراهم انتقض البيع لأنه صرف، ومن صرف دنانير بدراهم فاستحقت الدراهم [445/أ] انتفض الصرف. وقال أشهب: لا ينتقض إلا أن تكون دراهم معينة يريه إياها، وإنا باعه بدراهم عنده أو من كيسه أو تابوته فعليه مثلها مكانه ما لم يفترقا.
ابن القاسم: ولو أنه إذا استحقت ساعة صارفه، قال: خذ مثلها مكانه قبل التفرق جاز، ولو طال أو تفرقا لم يجز.
فقوله في قول أشهب: مكانه ما لم يتفرقا. دليل على أنه إنما يخالف إذا كان بالحضرة. وقوله في المدونة في أول المسألة: ينتقض الصرف. يحمل على ما إذا لم يكن بالحضرة.
تنبيهان:
الأول: قيد ابن يونس قوله في المدونة: إنها إذا استحقت وقال له ساعة صارفه: خذ مثلها جاز بما إذا تراضيا، وكذلك قال ابن المواز. وغمز أبو بكر بن عبد الرحمن ما قاله ابن المواز من اشتراط التراضي، قال: لأنه لو كان مراده أن الخلف إنما يجوز بالتراضي لم يكن لتقييد هذا الجواب بقوله: ما لم يفترقا معنى، لأنهما إذا افترقا وتراضيا على خلف الدراهم المستحقة صار ذلك مستأنفاً لا يمنع منه ما تقدم من عقد بطل باستحقاق الدراهم.
المازري: وهذا قد يعتذر عنه بأنه قيد بقوله: ما لم يفترقا، لأنهما إذا افترقا وتراضيا ببدل الدراهم المستحقة صار ذلك تتميماً للعقد المتقدم الذي كشف العيب أنهما لم يتناجزا فيه، وقد تتطرق التهمة لكون العاقدين أو أحدهما قصد إلى ذلك في أصل العقد.
التنبيه الثاني: ما تقدم في متن كلام المصنف والتعيين ثابت في كل النسخ التي رأيتها، وكذلك ثبت ذلك في نسخة ابن رشد وسقط من نسخة ابن عبد السلام. والإثبات
موافق لكلام المازري وابن شاس، فإنهما أشارا إلى أنه إن حصل التعيين انتقض الصرف ولو مع الحضرة على المشهور، لأنهما نص على أن هذه المسألة تجري على الخلاف في تعيين الدراهم بالتعيين، وقد صرح اللخمي بذلك، أعني: بالنقض إذا كانت الدراهم معينة، سواء استحق بالحضرة أم لا، لكنه مخالف لما تقدم من أن ابن القاسم يجيز البدل في الدراهم مطلقاً، سواء كانت معينة أو لا، وإنما يأتي الإثبات على قول أشهب فتأمله.
ولو استحق المصوغ انتقض مطلقاً
يعني: لو وقع العقد على مصوغ من الجهتين أو أحدهما فاستحق، انتقض الصرف سواء كان بحضرة العقد، أو الافتراق، أو الطول، وإليه أشار بقوله: مطلقاً، لأن المصوغ يراد لعينه.
ثم إن كان لم يخير المصطرف، فللمستحق إجازته على المشهور فيهما، بناء على أن الخيار الحكمي ليس كالشرطي
…
أتى بـ (ثم) للتراخي: أي: إذا عقد الصرف بمصوغ ثم انتقض بسبب الاستحقاق، فإن أراد المستحق إجازة العقد فلا يخلو المصطرف- وهو المشتري لهذا-: إما أن المستحق مخبر بأن المصوغ ليس ملكاً للدافع أو لا، فإن لم يخبره فللمستحق إجازته على المشهور فيهما، أي: في المصوغ والمسكوك، قاله بعضهم وهو الظاهر.
وقال ابن عبد السلام: وهو عائد على الصورتين المفهومتين من السياق، وهما: كون الاستحقاق بحضرة الصرف أو بعد ذلك. قال: ويحتمل أن يعود الضمير على صورتين منطوق بهما، وهما: كون الاستحقاق بعد الطول وقبل المفارقة، والثانية بعد المفارقة، ورجح هذا على الأول بأن عود الضمير على منطوق به أولى.
وقوله: (على المشهور). أي: لأن خيار المستحق أدى إليه الحكم. والشاذ لأشهب: يمنع كخيار الشرط. ونظيرها ما إذا قال لوكيله: أبدل لي فولاً بقمح فأبدله بشعير، وكذلك فيما يطلب فيه التناجز.
وأطلق المصنف في المشهور، وهو مقيد بحضور المصوغ، نص عليه في التهذيب.
وناقض سحنون قول ابن القاسم هذا بحضور اشتراط الخلخالين، بقوله فيمن استودع قمحاً فباعه بطعام مخالف: إن للمستحق إجازة البيع، ولم يشترط حضور القمح. والفرق أن المودع ضمن القمح بتعديه بالبيع فوجب في ذمته مثله فأخذ عنه تمراً، ذلك جائز، إذ لا معنى لاشتراط حضور ما بقي في الذمة، بخلاف الذي تولى الصرف في مسألة الخلخالين فإنه غير متعد فلم تتعلق بذمته، فأشبه صرفها صرف الوديعة، فلذلك اشترط الحضور.
وناقض اللخمي والمازري قول أشهب هنا بقوله: في العبد يتزوج حرة بغير إذن سيده ويدخل بها، ثم توجد هي تزني، أن رجمها موقوف على إجازة السيد النكاح، فإن أجازه كانت محصنة ورجمت، وإن لم يجزه لم ترجم وحدت حد البكر، وهو اعتراض ظاهر.
فلو أخبره، فهو كصرف الخيار
أي: فلو أخبره دافع المصوغ أنه ليس له وأنه تولى الصرف فيه بغير إذن ربه، فهو كصرف الخيار الشرطي، وقد تقدم أن المشهور منعه.
والصرف والبيع ممتنع، خلافاً لأشهب إلا في اليسير
أي: أنه لا يجوز أن يجتمع في العقد بيع وصرف إلا في اليسير، وجوزه أشهب في اليسير والكثير. والاستثناء يحتمل أن يرجع إلى قوله:(ممتنع) ويحتمل أن يرجع إلى (خِلاف) أي: إلا في اليسير، فإن أشهب لا يخالف في ذلك. ووجه المشهور بوجوه:
أحدهما: أن اجتماع البيع معه يؤدي إلى ترقب حله بوجود عيب في السلعة.
ثانيها: لأن الصفقة قد جمعت بين عقدين مختلفي الأحكام، لأن الصرف لا يجوز فيه التأخير والخيار بخلاف البيع.
ثالثها: لئلا يؤدي إلى صرف بنسيئة، من حيث أن السلعة قد تستحق فلا يعلم ما يصيب الصرف من الثمن إلا في ثاني حال. سند: وليس هذا من باب النسيئة، [445/ب] وإنما هو من باب الجهالة. ورأى أشهب أن العقد قد اشتمل على جائزتين فلا منع. فإن وقع على المشهور، فقيل: هو كالعقود الفاسدة يفسخ ولو مع الفوات، وقيل: هو من البياعات المكروهة فيفسخ مع القيام لا مع الفوات. ابن رشد: وهو المذهب.
فائدة: قال القذافي: لا يجتمع مع البيع يجمعها قولك: (جص مشنق) فالجيم: للجعالة. والصاد: للصرف، والميم: للمساقاة. والشين: للشركة. والنون: للنكاح والقاف: للقراض، لتضاد أحكامها.
ونظمها بعضهم فقال:
عقود منعناها مع البيع ستة
…
ويجمعها في اللفظ جص مشنق
فجعل وصرف المساقاة شركة
…
نكاح قراض منع هذا محقق
فإن كان الجميع ديناراً فيسير، وقيل: مع كون أحدهما ثلثا فأدنى، وقيل: مع كونه كالدرهم يعجز ....
الأول: هو مذهب المدونة، ولا يشترط فيه أن يكون الصرف أو البيع تابعاً، بل كيفما كان فهو جائز، لأن الضرورة داعية إلى الوقوف في مثل هذا كثيراً.
والقول الثاني: عدم الجواز إلا بشرط التبعية، إما بأن يكون البيع تابعاً للصرف أو العكس، والتابع هو الثلث فأقل.
والقول الثالث: لا يجوز الصرف والبيع في دينار إلا أن يكون البيع يسيراً، مثل أن يصرف ديناراً بعشرة دراهم فيعجز الدرهم أو النصف فيدفع إليه عرضاً بقدره لتحقق الضرورة، وهو قول عبد الوهاب.
ولابن القاسم في الموازية رابع: جواز كون الصرف في الدينار الواحد تابعاً الثلث فأقل، ومنع عكسه وهو كون البيع تابعاًز
فإن كان الصرف في أكثر من دينار، فاليسير أن يكون البيع بأقل من دينار، وقيل: أن يكون ثلثا فأدنى ....
أي: فإن كان الصرف في أكثر من دينار، فلابد أن يكون البيع في أقل من دينار، أي: لابد من اشتراك البيع والصرف في دينار، كما لو صارفه عشرة دنانير بمائة وتسعين ونصف إردب قمحاً والصرف بعشرين، وكلامه ظاهر التصور.
ونسب في الجواهر القول الذي صدر به المصنف لابن مناس، وذكر أن القول الثاني نقله ابن محرز عن بعض الأشياخ.
وأما إذا كان البيع أكثر لم يجز اتفاقاً، إلا في صرف أقل من دينار
يعني: أن الخلاف المتقدم إنما هو إذا كان الصرف أكثر، وأما إذا كان البيع الأكثر، فالاتفاق على أنه لا يجوز إلا إذا كان الصرف في أقل من دينار كالقول الأول.
والمراد بالاتفاق: اتفاق القائلين بمنع اجتماع الصرف والبيع. وأما على قول أشهب الذي يجيزهما مطلقاً، فلا. ولا يقال ينتقض الاتفاق الذي حكاه المصنف بما حكاه بعضهم عن ابن حبيب من جواز دينار فأقل، لأن ابن يونس والمازري أنكراه.
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن الصرف أضيق من البيع، فإذا كان البيع تابعاً انسحب عليه حكم الصرف فكان أحوط، بخلاف العكس، واستشكل لأنهم يغلبون
حكم الصرف وإن كان قليلاً في وجوب تقديم السلعة على المعروف، خلافاً للسيوري في إبقاء كل من البيع والصرف على حكمهما على الانفراد، فأوجب تعجيل الصرف وأجاز تأخير السلعة.
وأما المستثنى اليسير، فروي أنه الدرهم، وروي الثلاثة، وروي قدر ثلث دينار، كسلعة بدينار إلا درهماً
…
إن قلت: لم جوزا في مسألة الاستثناء ما لم يجوزوه في مسألة اجتماع البيع والصرف مع أنها راجعة إليها، إذ حاصل قوله: هذه السلعة بدينار إلا درهماً. بعتك السلعة والدرهم بدينار، وهو بيع وصرف.
وإنما قلنا: إنهم أجازوا هنا ما لم يجيزوه هناك، لأنهم أجازوه هنا مع تأخير النقدين وتقدم السلعة.
فالجواب: أنه سؤال حسن، ولعلهم راعوا أن الاستثناء اصله أن يكون يسيراًن والضرورة تدعو إلى اليسير، والمتبايعان إنما بنيا كلامهما أولاً على البيع، فكان الصرف غير مقصود، بخلاف البيع والصرف، فإنهما لما أتيا أولاً بالصرف والبيع علم أنهما مقصودان.
وقوله: (فروي أنه الدرهم) مقتضاه: أنه لا يجوز في الدرهمين. والذي في المدونة وغيرها: أن الدرهمين في حكم الدرهم. ولم أر من اقتصر على الدرهم كما فعل المصنف، بل صرح المازري بالاتفاق على يسارة الدرهمين، والرواية بالثلاثة لابن عبد الحكم، والقول بأجازة الثلث للأبهري، هكذا نقله الباجي وابن شاس، ولم أر أحداً صرح بأنه رواية ابن راشد.
وهذا الخلاف إنما هو إذا وقع البيع وفيه التأجيل على ما سيأتي إن شاء الله، وأما مع الانتقاد فيجوز أكثر من ذلك.
فإن كان نقداً فجائز، وفي تأجيل الجميع ممتنع
أي: إذا كان الجميع السلعة والدينار والدرهم نقداً فجائز.
ابن راشد: بلا خلاف. وإن تأجل الجميع فهو ممتنع، لأنه صرف مستأخر، ودين بدين إن كانت السلعة غير معينة، وبيع معين يتأخر قبضه إن كانت معينة.
وفي تأخير النقدين يجوز للتبعية
يعني: فإن تقدمت السلعة وتأخر النقدان جازت المسألة، وعلل ذلك بالتبعية، أي: أن السلعة لما قدمت وتأخر الدينار علم أنهما غير مقصودين فلا يكون صرفاً مستأخراً. وذكر ابن المواز الاتفاق فيه، لكن ذكر المازري وابن شاس أن ابن عبد الحكم خالفه، فمنع لكونه ديناً بدين وصرفاً مستأخراً. قال في الجواهر، قال بعض المتأخرين: وقول ابن عبد الكم هو القياس، لاسيما إذا راعينا الاتباع في أنفسنا.
وفيها: ويقضي بما سميا، وقيل: بدراهم ويتقاصان
[446/أ] يعني: إذا وقعت هذه المسألة على الوجه الجائز فاختلف فيما يقع فيه القضاء، فحكي عن المدونة أن البائع يعطي الدرهم والدرهمين أو يأخذ الدينار أو الدينارين، وليس ما نسبه للمدونة صريحاً فيها، بل هو ظاهرها عند الأكثرين. وصرح المازري بمشهوريته. ومنهم من فهمها على القول الثاني، وهو أن البائع إذا حل الأجل إنما يأخذ صرف دينار ينقص درهماً أو درهمين.
وتأجيل السلعة أو أحد النقدين ممتنع على المشهور
يعني: لو تقدم النقدان وتأخرت السلعة، أو تقدمت السلعة وأحد النقدين وتأخر النقد من أحدهما، المشهور فيها المنع، وهو مذهب المدونة. وقيل: المشهور فيما إذا تأجلت
السلعة مقيد في الموازية بما عدا التأخير اليسير، قال فيها: إلا أن يتأخر بمثل خياطته، أو حتى يبعث في أخذه وهو بعينه فلا بأس به. والشاذ: الجواز فيهما.
ونقل في المدونة الشاذ في مسألة تأجيل السلعة عن مالك من رواية أشهب.
ونقل صاحب الجواهر وغيره الشاذ في مسألة التأخير في أحد النقدين عن مالك من رواية ابن عبد الحكم. وقد يظهر ما رواه ابن عبد الحكيم ببادئ الرأي، لأنه إذا جاز تأخير النقدين معاً فلأن يجوز تأخير أحدهما أحرى.
والفرق للمشهور أن الاعتناء بالتقديم يدل على أنه المقصود عند المتباعين، فإذا تقدمت السلعة وتأخر النقدان دل تقديمها على أن البيع هو المقصود، بخلاف ما إذا تقدم أحدهما، فإنه يدل على أن الصرف مقصود ولم يحصل شرطه وهو المناجزة.
فإن استثنى دراهم من دنانير، فثالثها: يجوز في النقد.
مثال ذلك: لو باع مائة ثوب بمائة دينار ينقص كل دينار درهماً، فمن أجاز رأى أن نسبة درهم إلى مائة دينار كنسبة الدرهم إلى الدينار، ويحتمل أن يكون مبنياً على جواز الصرف والبيع مطلقاً. ومن منع نظر إلى كثرة، ولا خفى عليك توجيه الثالث. وتبع المصنف في حكاية هذه الأقوال ابن بشاس، وإطلاق الأقوال هكذا مشكل، ولاسيما الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً.
والمقصود في الموازية: فيمن ابتاع مائة جلد كل جلد بدينار إلا ثلاثة دراهم، وذلك كله نقله ابن عبد السلام أن هذا جائز، ثم تحاسبا بعد البيع فصارت أربعة عشر ديناراً، فلا خير في هذا البيع. محمد: تحاسبا أو لم يتحاسبا لكثرة الدراهم في المؤخل. مالك: ولو قطعوا صرف الدراهم قبل العقد ووعت الصفقة بدنانير معلومة جاز ذلك
نقداً ومؤجلاً، مثل أن يقول: إن وقع بيننا بيع بدراهم فبيعها كذا وكذا بدينار فهذا الجائز، وإلا لم يجز نقداً ولا إلى أجل، لأنه صرف وبيع إلا في دراهم يسيرة.
وقال مالك في التعبية: إذا كان ذلك قبل البيع. وقد حققها في البيان تحقيقاً شافياً، فقال: إن وقع البيع بينهما على أن يتقاصا من الدنانير ما اجتمع من الدراهم المستثناة بسوم سمياه ولم يفضل من الدراهم شيء بعد المقاصة، مثل أن يبيع ستة عشر ثوباً كل ثوب بدينار إلا درهماً على أن يحسبا ستة عشر درهماً بدينار، جاز البيع نقداً أو إلى أجل، لأن البيع انعقد بخمسة عشر.
وكذلك أن فضل بعد المقاصة درهم أو درهمان، لأنه يجوز أن يبيع الرجل السلعة بدينار إلا درهماً وإلا درهمين على أن يتعجل السعلة ويتأخر النقدان، فإن فضل بعد المحاسبة دراهم كثيرة فيجوز البيع إن كان نقداً ولا يجوز إلى أجل. وإن لم يقع بينهما على شرط المحاسبة، فيجوز إن كانت الدراهم المستثناة الدراهم والدرهمين نقداً أو إلى أجل، ويجوز إن كانت كثيرة دون صرف دينار إن كان نقداً، ولا يجوز إلى أجل. وإن كانت أكثر من صرف دينار، فلا يجوز نقداً ولا إلى أجل غير مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. ولا تنفع المحاسبة بعد البيع إذا لم يقع البيع بينهما على ذلك.
فإن استثنى جزءاً جاز مطلقاً، وقيل: كالدراهم، بناء على أن جزء الدينار ذهب إلى القضاء أو ورق ....
كما لو باع بدينار إلا سدساً أو خمساً ونحو ذلك، فالمشهور: أنه يجوز مطلقاً بالنقد والأجل، بناء على أن جزء الدينار ذهب فيقاصه.
والقول الثاني: لا يجوز في هذه الصورة إلا ما جاز في مسألة الدراهم، بناءً على أن جزء الدينار ورق، إذ لا يقضي القاضي عليه عند المناجزة إلا بالورق.
المماثلة، ولطلب تحققها منع بيع دينار ودرهم أو غيره بدينار ودرهم أو غيره
لما فرغ من المناجزة أتبعها بالمماثلة، ولا شك في طلبها، ولأجل أنه لابد منها منع ما يوجب شكاً فيها، فلا يجوز أن يضاف إلى أحد النقدين جنس آخر كما مثل، خشية أن تكون الرغبة في أحد الدرهمين أكثر فيقابله من الجهة الأخرى أكثر من درهم، فيؤدي إلى التفاضل.
وقوله: (أو غيره) أي: ثوب أو غيره من الطعام ونحوه. [446/ب].
فأما درهم بنصف فما دونه أو فلوس أو طعام، فجائز للضرورة، وبأكثر من نصف ممتنع. وقيل: لا يجوز إلا في أقل من نصف. وقيل: لا يجوز إلا في غير الفلوس. وقيل: لا يجوز بحال وإن قل ..
هذا مستثنى من القاعدة المذكورة، وعلل الجواز فيه بالضرورة. ومعنى المسألة: أن يعطي الإنسان درهماً فيأخذ بنصفه فلوساً أو طعاماً ويرد عليه النصف الآخر فضة. وذكر الشوشاي، وأبو الحسن وغيرهما لهذه المسالة ستة شروط:
أولهما: أن يكون في الدرهم الواحد، لأن الضرورة غالباً إنما تدعو إليه، فلا يجوز في أكثر ولا في دينار، لقول مالك في كتاب محمد: فيمن اشترى بثلث دينار قمحاً فدفع ديناراً وأخذ قطعة ذهب منقوشة أكره ذلك، وعلله اللخمي باختلاف بيع الدينار وكسره، بخلاف الدرهم وكسره.
الثاني: أن يكون في بيع وما في معناه كالإجارة، احترز به من القرض، لأنه لا ضرورة تدعوهم في القرض.
الثالث: أن يكونا مسكوكين.
الرابع: أن يكونا المردود النصف فما دون، وأجاز أشهب ثلاثة أرباع.
الخامس: أن ينقد الجميع، وإن تأخر أحد العينين جرى على الخلاف في مسألة الدرهم والدرهمين إذا تأخر أحد العينين.
السادس: أن تكون السكة واحدة.
وزاد أبو الحسن سابعاً: وهو أن يكونا معروفي الوزن.
وثامناً: أن يكون في بلد لا فلوس فيها ولا خراريب ولا أرباع. وقد حكى المصنف في هذا الأخير الخلاف.
قوله: (وبأكثر من نصف ممتنع) هكذا عبر المازري بالمنع، والذي في المدونة إنما هو الكراهة في رد الثلثين فضة، لكن كثيراً ما يعبر مالك عن الممنوع بالمكروه.
وقوله: (وقيل: لا يجوز إلا في أقل من نصف) لتحقق التبعية. وهذا القول في الموازية لابن القاسم وأشهب. وقيل: لا يجوز إلا في غير الفلوس، أي: إلا في غير بلد الفلوس، وأما في بلدها فلا يجوز أن يأخذ بنصف طعاماً وبنصف فضة، لأن الضرورة زالت لوجود الفلوس، ونسبه اللخمي لأشهب.
وهكذا مشى هذا القول الثالث الشارحون، ويمكن أن يمشى على أنه لا يجوز أن يأخذ مع النصف الفضة فلوساً، وإنما يأخذ طعاماً وما أشبهه، لأن الفلوس لما كانت تشبه النقد صاراً نقدين في مقابلة نقد، وهذا القول لمالك في التعبية، لكن إنما قال في العتبية: لا أحب أن يأخذ بنصفه فلوساً ونصفه فضة، ولا بأس أن يأخذ بنصفه فضة ونصفه طعاماً، فعبر: بلا أحب، وكذلك عبر صاحب البيان بالكراهة. لكن كثر تعبيرهم عن الممنوع هنا بالكراهة، وقد نقله عياض بلفظ المنع عن الموازية، ولفظه: وأجاز في الموازية أن يأخذ بكسر الدرهم سلعة ويأخذ بباقية درهماً صغيراً، ومنع ذلك في نصفه فلوساً ونصفه فضة، ورواه يحيي عن مالك، ووافقه عليه ابن القاسم في الموازية.
وأشار عياض وغيره إلى أن ما منعه أشهب- أعني: إذا كان في البلد فلوساً- وما أجازه إذا كان في البلد دراهم صغار متناقض، قال: وهو خلاف من قوله، ولا فرق بينهما.
وقيد ابن يونس المذهب بما إذا لم تكن الأنصاف والخراريب غالبة، وأما إن كانت غالبة فلا يجوز الرد بوجه.
قوله: (وقيل: لا يجوز بحال) هو لمالك في الموازية، واختاره ابن عبد السلام قال: لأن الضرورة لم يثبت أن الشرع اعتبرها.
وفي التبر يعطيه المسافر دار الضرب وأجرته ويأخذ وزونه قولان
هذا أيضاً مستثنى مما تقدم، يعني: أنه اختلف في المسافر يأتي دار الضرب بفضة أو ذهب يدفعها إليهم ويدفع أجرتها ويأخذ وزن ما دفع مسكوكاً، والقولان لمالك.
أجازه في سماع ابن القاسم، وابن وهب، وقال ابن القاسم: أراه جائزاً للمضطر وذا الحاجة.
مالك: وقد عملت به الناس زمان بني أميه ويفعله أهل الورع. وبالمنع قال الأكثرون، وذكر ابن حبيب أنه سأل عن ذلك من لقي من المدنيين والمصريين فلم يرخصوا فيه بحال، ولهذا قال في البيان: والصواب عدم الجواز إلا مع الخوف على النفس الذي يبيح أكل الميتة. ابن حبيب: وأما الصائغ فلا يجوز معه ذلك قولاً واحداً.
واختلف قول مالك أيضاً في خلط ذهب الناس في الضرب بعد تصفيتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت أخذ بحسب ذهبه.
وكذلك الزيتون بالزيت
أي: وكذلك اختلف في الزيتون يعطيه لأهل المعصرة ويأخذ قدر ما يخرج، والمنع هنا أقوى لوجهين: أحدهما: أن الضرورة هنا أضعف من الضرورة في التبر لكثرة المعاصر. والثاني: أن خروج الزيت مما يختلف.
وإذا بيع محلى مباح من أحد النقدين بصنفه، فإن كان الحلي تبعاً جاز معجلاً على المشهور، وفي المؤجل قولان ....
هو أيضاً مستثنى لأجل الضرورة الداعية إليه مع كونه جائز الاتخاذ، أي: إذا بيع شيء محلى بذهب أو فضة، وهو معنى قوله:(من أحد النقدين) كمصحف أو سيف بصنفه، أي: كان محلى بفضة وبيع بفضة، أو بذهب وبيع بذهب فيجوز على المشهور، خلافاً لابن عبد الحكم بثلاثة شروط:
الأول: أن تكون الحلية تبعاً للمحلى، وإليه أشار بقوله:(تبعاً).
الثاني: أن تكون الحلية مباحة.
الثالث: أن تكون مسمرة على المحلى في نزعها ضرر، وإن لم يكن في نزعها ضرر فلا.
قال الباجي: كالفصوص [477/أ] المصوغ عليها، أو حلية المصحف المسمرة عليه، وحلية السيف المسمرة في حمائله وجفنه. وأما القلائد التي لا تفسد عند نظمها، فظاهر المذهب أنه لا تأثيرها لها في الإباحة، وبه قال ابن حبيب. وهذا الشرط أيضاً يؤخذ من كلام المصنف، لأنه لا يقال: محلى مع الانفصال.
وذكر ابن رشد عن المتأخرين قولين، بالجواز، والمنع إذا كان يغرم ثمناً في رد الحلية بعد فصلها.
وقال اللخمي: لم يختلفوا إذا كانت الحلية منقوشة وهي تبع له أنه لا يجوز أن يباع نصل السيف وحليته بجنسها نقداً ولا إلى أجل. قال: وأرى إذا كانت قائمة بنفسها صيغت ثم ركبت وسمرت أن يكون لها حكم المنقوض، لأنه ليس في ذلك أكثر من أنها سمرت بمسامير.
قوله: (وفي المؤجل قولان) المازري: المشهور المنع خلافاً لسحون وأشهب. وهذان القولان مفرعان على المشهور، وإلا فابن عبد الحكم الذي يمنع في النقد بمنع المؤجل أولى، وفي مسألة التأخير قول ثالث لمحمد بالكراهة. إن قيل: لم أجازوا هنا ما لم يجيزوه في البيع والصرف؟ قيل: للضرورة إلى استعماله وللمضرة الحاصلة في نزعه. والله أعلم.
المتيطي: فإن بيع بصفة إلى أجل فسخ ورد، إلا أن يفوت بتفصيل حليته فيمضي ولا يرد، هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وقال أشهب: يكره ابتداءً، فإن وقع مضى ولا يرد.
وإن لم يكن تبعاً لم يجز
يعني: وإن لم تكن الحلية تبعاً لم يجز بيعه بصنف حليته نقداً ولا إلى أجل، لعدم تحقق التماثل.
فإن بيع بغير صنفه، فإن كان تبعاً جاز معجلاً، وفي المؤجل قولان
كما لو كان محلاً بفضة وبيع بذهب، ولا خفاء في الجواز مع النقد إذا كان تبعاً، لأن الصرف غير مقصود، والمشهور من القولين في المؤجل: المنع خلافاً لسحنون.
فإن لم يكن تبعاً جاز معجلاً فقط
أي: وإن بيع بغير صنفه والحلية ليست تبعاً جاز معجلاً. وظاهر كلامه: أنه لم يختلف فيه كما في البيع والصرف، ولعله لعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وظاهر كلام اللخمي: أنه يجري فيه ما جرى في البيع والصرف.
والتبع: الثالث. وقيل: دونه. وقيل: النصف
الأول: هو المذهب. والثاني: خرجه ابن بشير مما قيل في المذهب أن الثلث كثير. والقول بتبعية النصف مشكل، لأن النصف لا يكون تبعاً لنصف آخر، لكن استدل له
بقوله سبحانه وتعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل:2 - 3] وهذا القول حكاه الباجي عن بعض العراقيين، وخرجه الباجي أيضاً من إجارتهم الشراء بنصف درهم ورد نصف درهم.
ويعتبر بالقيمة. وقيل: بالوزن مع قيمة المحلى
سببهما، هل تعتبر الصياغة أم لا؟ ومعنى كلامه: أنا إذا بنينا على المشهور من أن التبع الثلث، أو على غيره من الأقوال، فهل يعتبر التبع بالقيمة أو بالوزن فقط؟ فإن كان وزن الحلية عشرين، ولصياغتها تساوي ثلاثين، وقيمة النصل أربعين، جاز على الثاني دون الأول. والقول باعتبار القيمة هو ظاهر الموطأ والموازية، قاله ابن يونس. والثاني: ذكر الباجي أنه ظاهر المذهب قياساً على النصاب في السرقة والزكاة.
ورد ابن بشير: بأن من أصلنا التحريم بالأقل، وأما السرقة والزكاة فإنا رتب النصاب فيهما على الوزن. وما قلنا: من أنه تنسب قيمة الحلية مصوغة أو وزنها غير مصوغة إلى مجموع المبيع، فإن كانت ثلثه جاز، هو المذهب الذي قاله الناس كما في بياض المساقاة. ونسبها ابن بشير إلى قيمة المحلى، فإن كانت ثلث ذلك جاز وإلا امتنع، وليس كذلك، لأنه إذا نسبت إلى النصل والجفن مثلاً فكانت ثلثهما كانت ربع الجميع.
والثوب الذي لو بك خرج منه عين كالمحلي، وإن لم يخرج فقولان
يعني: والثوب الذي نسج فيه أو طرز بالذهب أو الفضة إن كان يخرج منه لو سبك عين فَأَجْرِهِ على ما تقدم في المحلى، وإن لم يخرج كالورقة فللأشياخ قولان بناءً على استهلاكه أو قيام صورته.
والحلي من النقدين وحده، أو مع سلعة ممتنع بعين أحدهما اتفاقاً
أي: إذا كان المحلى مصوغاً من الذهب والفضة، سواء بيع وحده أو مع سلعة وليس أحدهما تبعاً. وحذف المصنف ذلك اكتفاء بذكر التبعية في قسيمه، فلا يجوز بيعه بواحدة من الصنفين اتفاقاً، لأنه إذا امتنع بيع سلعة وذهب بذهب فأحرى بيع فضة وذهب بذهب.
فإن كان أحدهما تبعاً لم يجز بصنف الأكثر، وفي صنف التبع قولان
أي: فإن كان الذهب تابعاً للفضة أو العكس لم يجز بيع ذلك بصنف المتبوع. واختلف في بيعه بصنف التابع، ومذهب المدونة: أنه لا يباع به. وفي الموازية: وما حلي بذهب وفضة، قال ابن القاسم عن مالك: فليبع بأقلهما إن كان الثالث فدون يداً بيد، وإن تقاربا بيع بالعروض أو الفلوس. ثم رجع مالك، فقال: لا يباع بورق ولا بذهب على حال، وبهذا أخذ ابن القاسم. وبالجواز أخذ ابن زياد، وأشهب، وابن عبد الحكم.
وأورد ابن عبد السلام على المصنف: أنه ذكر إذا لم يكن أحدهما تابعاً للآخر الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه بأحدهما. قال: وليس كذلك، لأن ابن حبيب أجاز بيعه بكل واحد من النقدين إذا كان مجموعهما تبعاً للسلعة، سواء كان أحدهما تبعاً للآخر أو لا إذا كان نقداً، قاله في الواضحة. بل قال اللخمي: ولم يختلف في المحلى يكون فيه ذهب وفضة، ولؤلؤ وجوهر، والذهب والفضة الثلث فأقل، واللؤلؤ والجوهر الثلثان فأكثر، أنه يباع بأقل من ذلك كالسيف. وقال صاحب الإكمال:[447/ب] فإن كان فيهما عرض وهما الأقل بيع بأقلهما قولاً واحداً.
والتبعية بالقيمة، وقيل بالوزن
القولان كالقولين المتقدمين.
والمغشوش: مقتضى الروايات جواز بيعه بصنفه الخالص وزناً، لأنه كالعدم، وقيل: لا يجوز ....
والمغشوش: خلط جسم بجسم حتى لا يمكن التمييز بينهما. والظاهر أنه لا يريد بالروايات هنا أقوال مالك، وإن كان ذلك الاصطلاح، وإنما أراد منصوصات المذهب. ومعنى كلامه: أنه يؤخذ من روايات المذهب جواز إبدال المغشوش بالخالص وزنا. والجواز حكاه ابن شعبان. وحكى في البيان القولين صريحين، قال: والصحيح عدم الجواز لعدم التماثل. ولم يقم دليل على تقديرهم الغش في القول الأول كالعدم، لكن الأول هو الذي يؤخذ من كلام ابن القاسم في المدونة وكلام غيره، وذلك هو الذي أشار إليه المصنفات بالروايات، ولقول ابن القاسم: ولا يعجبني بيع الدرهم الرديء- وهو الذي عليه النحاس- بدرهم فضة وزناً بوزن ولا عرض، لأن ذلك داعية إلى إدخال الغش في أسواق المسلمين، لكن يقطعه ويجوز حينئذ بيعه إذا لم يكن يغر به ولم يكن يجري بينهم. فقول ابن القاسم: يقطعه وحينئذ يجوز بيعه. يقتضي جواز بيعه بصنفه الخالص، لأنه إنما منعه أولاً للغش وقد انتفى الغش. قال في المدونة، وقال أشهب: إن رد لغش فيه لم أر أن يباع بعرض ولا فضة حتى يكسر.
وإذا تقرر هذا علمت أنهم إنما تكلموا في المغشوش الذي لا يجرى بين الناس، ويؤخذ من كلامهم جواز بيع المغشوش بصنفه الخالص إذا كان يجري بين الناس كما بمصر عندنا، والأقرب حمل كلام المصنف على هذه الصورة لا على الأولى، وهو ما أراده المصنف بالروايات، ويجوز بدله على وجه الصرف بدراهم جياد وزناً بوزن، وهو يشبه البدل.
وقال صاحب النكت، وابن يونس: وقول أشهب وفاق لقول ابن القاسم، ومراد أشهب بعد كسره، وظاهر قول أشهب جواز بدل المغشوش بالخالص ولو كثر مراطلة. وأبقاه ابن محرز وغيره على هذا الظاهر، وتأوله ابن الكاتب واللخمي على أنه إنما يجوز
عنده في القليل، الدرهمين والثلاثة، لقوله: كالبدل. ورد بأن قوله: وزناً بوزن. ينافي ذلك، لأن المبادلة لا يراعى فيها القدر بالوزن وإنما الاعتبار بالعدد. وتردد أبو عمران في قول أشهب هل هو وفاق لقول ابن القاسم أم لا؟
وكذلك المغشوش بالمغشوش على الأصح
أي: وكذلك تجوز مراطلة المغشوش بمغشوش مثله. ابن عبد السلام: ولعل هذا مع تساوي الغش، وأما مع اختلافه فلا. انتهى.
وذكر صاحب البيان عن شيخه ابن رزق: أنه لا يجوز بدل المغشوش بالمغشوش، لأنه فضة أو ذهب ونحاس بذهب ونحاس. قال: ولا أقول به، بل أرى ذلك جائزاً، لأن الفضة التي مع هذه كالتي مع هذه والنحاس كالنحاس، فلا يتقى في هذا ما يتقى في ذهب وفضة منفصلين بذهب وفضة منفصلين.
ويكسر الزائف إن أفاد وإلا سبك
أي: إن أمن مع قطعة أن يغش به، وإن لم يؤمن فلابد من سبكه. قال في البيان: ولا يحل أن يغش بها أحداً ولا أن يبيعها ممن يغش بها، ويكره أن يبيعها ممن لا يأمن أن يغش بها كالصيارفة. واختلف في بيعها ممن لا يدري ما يصنع بها، فأجازه ابن وهب وجماعة من السلف، وكرهه ابن القاسم ورواه عن مالك. ويجوز أن تباع ممن يكسرها أو ممن يعلم أنه لا يغش بها باتفاق. فإن باعها ممن يخشى أن يغش بها فليس عليه إلا الاستغفار. وإن باعها ممن يعلم أنه يغش بها وجب عليه أن يستردها، فإن لم يقدر فثلاثة أقوال:
أحداهما: أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع الثمن.
والثاني: أنه لا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمتها لو باعها ممن لا يغش بها.
والثالث: لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منها ولكنه مستحب.