المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خيار النقيصة: وهو نقص يخالف ما التزمه البائع شرطاً أو - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٥

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌خيار النقيصة: وهو نقص يخالف ما التزمه البائع شرطاً أو

‌خيار النقيصة:

وهو نقص يخالف ما التزمه البائع شرطاً أو عرفاً في زمان ضمانه .....

هذا هو النوع الثاني، و (ما) موصولة، أو نكرة موصوفة.

وقوله: (شرطاً أو عرفاً) بيان لموجب الالتزام. والأولى أن يقول: ما ثبت بنقص، إذ النقص سبب للخيار لا نفس الخيار، فلا ينبغي أن يعرف الخيار بالنقص. فإن قيل: لعله عرف المضاف إليه وهو النقيصة، كأنه قال: والنقيصة التي توجب الخيار نقص، إلى آخره.

قيل: لو قصد ذلك لقال: وهي. وقد يقال: أعاد الضمير عليها باعتبار معناها، وفيه بعد. فإن قلت: هو تعريف غير جامع، لأن خيار النقيصة يكون أيضاً بتغرير فعلي، ولم يذكره.

وقد ذكره ابن شاس، فقال: ما ثبت بفوات أمر مظنون نشأ الظن فيه من التزام شرطي، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي. قيل: هو راجع إلى الشرطي، ألا ترى قوله بعد ذلك: والتغرير الفعلي كالشرطي. لكن قد يقال: إنه غير جامع من وجه آخر، لأن عيوب الدار تخالف ما التزمه البائع ولا توجب خياراً.

وأجيب: لا يرد هذا على القول بأنها توجب الخيار كغيرها، وعلى القول الأخير فهذا على خلاف القياس، وفيه نظر. وقوله:(في زمان ضمانه) أي: أن النقص المذكور لابد أن يكون حاصلاً في الزمان الذي يضمن فيه البائع المبيع للمبتاع.

فالشرطي: ما يؤثر في نقص الثمن كصانع، وكاتب، وتاجر

لما قسمه أولاً إلى قسمين تكلم على الأول، والظاهر أن الشرطي ما يشترطه المشتري. وفي البيان: إذا نادى الذي يبيع الجارية في الميراث أنها عذراء أو غير ذلك، ثم وجد خلافه كان له الرد. فنزلوا هذا منزلة الشرط.

ص: 430

فإن شرط ما لا غرض فيه ولا ماليه فيه، ألغي على المعروف

كما لو اشترط أنه أمي فيجده كاتباً، أو جاهلاً فيجده عالماً. ومقابل المعروف ذكره صاحب البيان وابن زرقون، فلا التفات إلى قول ابن بشير: لا أعلم فيه خلافاً. وقد [470/أ] يجري الخلاف فيه على وجوب الوفاء بشرط ما لا يفيد.

وما فيه غرض ولا مالية فيه، فيه روايتان

هذا يتصور في حق بعض الناس، كما لو اشترى أمة على أنها نصرانية فوجدها مسلمة، وقال: أردت أن أزوجها غلامي النصراني، أو اشتراها على أنها ثيب فوجدها بكراً، وقال: على يمين ألا أطأ الأبكار، أو اشترط جنساً فوجدها من جنس آخر أرفع. وقد ذكر ابن بشير، وابن شاس القولين.

قال في البيان: والصحيح أن له الرد عملاً بالشرط. وحصل صاحب البيان، وابن زرقون فيه وفي الذي قبله ثلاثة أقوال، الأول لسحنون: أنه له الرد. والثاني: مخرج على رواية ابن نافع في مسلم غر نصرانية نكحته على أنه نصراني أنه لا خيار لها، فأحرى أن يقول ذلك في الأمة. والثالث في سماع عيسى: إن كان له وجه رد به وإلا فلا. ومثله في المدونة.

والعرفي: ما تقتضي العادة بأنه إنما يدخل على السلامة منه ما يؤثر في نقص الثمن، أو المبيع، أو في التصرف، أو خوفاً في العاقبة ....

(أل) في (العرفي) للعهد، أي: والنقص العرفي، و (من) في قوله:(منه) لبيان الجنس. ومعنى كلامه: والعيب الذي تقتضي العادة الدخول على السلامة منه. وقوله: (في نقص الثمن) أي: من غير نقص في المبيع، كما لو وجده آبقاً، أو سارقاً، أو في المبيع من غير نقص في الثمن، كالخصاء في العبد، أو نقص التصرف، كالعسر أو التخنيث في العبد، أو خوفاً في العاقبة، كجذام أحد الأبوين إذ يخشى عليه حينئذ الجذام.

ص: 431

فالعمى، والعور، والقطع ونحوه متفق عليه

لما ذكر ضابطاً كلياً شرع في تعداد العيوب لتكون كالمثال لما ذكره، وهو ظاهر.

ابن عبد السلام: وهذا الاتفاق إنما يصح في بيع الغائب، وأما الحاضر فقد يدخل بعض هذا الخلاف من اختلافهم في البيع الظاهر، هل للمشتري القيام به أم لا؟ ويمكن أن يريد المصنف الاتفاق على كون هذه الأشياء وشبهها عيوباً، لا على وجوب القيام بها.

والخصاء عيب

يعني: في العبيد، وهو ظاهر.

وسقوط ضرسين عيب، والواحد في العلي

تصوره ظاهر، وخص الأضراس تبعاً للباجي والمازري. ولعل ذلك على جهة المثال، لأن سقوط سِنَّيْنِ مطلقاً عيب. ففي الواضحة: وما زاد على السن الواحدة فهو عيب في كل العبيد ما كان في مقدم الفم أو مؤخره.

وفي قوله: (والواحد في العلي) نظر من وجهين، أحدهما: تخصيص الأضراس. والثاني: ظاهره أنه مطلق في الأمة والعبد، وهو خاص بالرائعة.

ابن عبد السلام: وأطلق المؤلف في العلي، وظاهره سواء نقص من الثمن أو لم ينقص، إلا أن يقال: كلامه هنا هو مثال لما ينقص الثمن.

قال في الموازية: ولا يرد العبد إذا وجدت سنه منزوعة إلا أن يكون ذلك في الجارية الرائعة وينقص ذلك من ثمنها. وفي الواضحة: السن الناقصة عيب في الرائعة في مقدم الفم أو مؤخره، وليست في الدنية ولا في العبد عيباً إلا في مقدم الفم. فأنت تراه كيف لم يجعل السن الواحدة عيباً في الذكر.

ص: 432

ابن حبيب: والسن الزائدة عيب في العبد والأمة رفيعين كانا أو وضيعين.

والوخش في الرقيق الخسيس مأخوذ من قولهم: وخشت الشيء أخشه وخشاً إذا خلطته، فكان الوخش لا يعرف لخساسته، إذ هو من أخلاط الرقيق، وأصله الحقير من كل شيء. والعلي: بفتح العين وكسر اللام مخففة وتشديد الياء صفة للجنس، أي: من الجنس العلي. الجوهري: وفلان من علية الناس وهو جمع عليٍّ، أي: شريف مثل صبي وصبية. وكذا ذكره عياض، قال: وقيل بكسر اللام وتشديدها، والأول أشهر.

وكالحمل فيهما، وقال أشهب: في العلي

حاصله: أنه اتفق على أن الحمل عيب في العلي، واختلف في الوخش. وما قدمه المصنف هو مذهب المدونة، قال: وقاله لنا مالك حين خالفنا ابن كنانة في الوخش. ولابن القاسم ثالث: أنه عيب في الوخش إن اشترى جارية ودها لا إن اشتراها في جملة رقيق. ولابن حبيب رابع: أنه عيب لأهل الحاضرة دون البادية.

وفيها: كونها زلاء ليس بعيب، وقيد باليسير

الزلاء بالمد: الصغيرة الإليتين، ولابد من التقييد باليسير، ولهذا قال في المدونة: إلا أن تكون ناقصة الخلق. وروى أشهب: الصغيرة القبل ليس بعيب إلا أن يتفاحش.

والشيب الكثير في العلي عيب، وفي القليل فيه والكثير في غيره قولان

أي: لا خلاف في الكثير أنه عيب في العلي، ولا في اليسير أنه ليس بعيب في الوخش، واختلف في القيل في العلي، فظاهر المدونة أنه عيب.

وقال ابن عبد الحكم: ليس بعيب. وكذلك في الواضحة عن مالك. وجوز الباجي أن يكون تقييداً للمدونة.

ص: 433

وأما الكثير في غير العلي، فظاهر المدونة أنه ليس بعيب، قال فيها: ولا يرد به غير الرائعة إلا أن يكون عيباً ينقص من ثمنها. وقيل: إن كان الشيب لا إن قل، إلا أن يكون بائعها قد علم بذلك فكتمه على تعمد، فيرد وإن كان قليلاً. ابن المواز: وذلك كله في الشابة.

والاستحاضة فيها عيب

أي: في العلي والوخش، وهذا ظاهر المذهب وهو الصواب، لأنه يضعف الجسم.

وعن ابن القاسم: يسال عن الدنية، فإن كان عيباً ينقص من الثمن ردت به. قال: وهذا إذا ثبت استحاضتها عند البائع. وأما الموضوعة للاستبراء تحيض حيضة لا شك فيها، ثم تستمر مستحاضة فمن المشتري ولا ترد، وقاله أشهب، أي: لاحتمال أن يكون حدث بها. قال في الموازية: والاستحاضة التي ترد بها شهران.

وارتفاع [470/ب] الحيض عيب في ذات سنه، قاله في المدونة. وعلله اللخمي: بأن ذلك صلاح لأجساد النساء، وهو يشمل العلي والوخش. وفي العلي وجه آخر وهو: منع الوطء. وأفتى ابن عتاب: بأنه عيب في الوخش. وعن ابن القاسم: أنه عيب في العلي فقط. قال في المدونة: وإن تأخر حيضها، قال في الأمهات: شهرين أو ثلاثة فذلك عيب، ولأشهب أنها لا ترد إلا فيما زاد على ثلاثة أشهر.

ولسحنون وغيره: أنها ترد بخمسة وأربعين يوماً. مالك: وللبائع أيضاً أن يفسخ البيع لأجل نفقته.

والبول في الفرش في الوقت المستنكر عيب

أي: في الذكور والإناث، قاله ابن حبيب عمن كاشف من أصحاب مالك. ومراده بالوقت المستنكر: الزمان الذي لا يبول فيه الصغير غالباً، قال معناه ابن حبيب.

ص: 434

واحترز من البول في زمن الصغر، فإنه لا يستنكر فليس بعيب. ابن حبيب: ولا يثبت أنه عيب حتى يقيم المبتاع بينة أنها كانت تبول عند البائع، لأنه مما يحدث في ليلة وأكثر، فإن لم تكن بينة حلف البائع على علمه، ولا يحلف بدعوى المبتاع حتى توضع بيد امرأة أو رجل له زوجة فيذكران ذلك، ويقبل قول المرأة والرجل عن زوجته في ذلك، ويجب اليمين على البائع، وليس بمعنى الشهادة. ولو جاء المشتري بقوم ينظرون مرقدها بالغد مبلولاً، فلابد من رجلين، لأنه بمعنى الشهادة، ثم يحلف البائع.

وفيها: التخنيث في العبد، والفحولة في الأمة إن اشتهرت عيب، فقيل: التشبيه فيهما، وقيل: الفعل ....

التفسير الأول لابن أبي زيد، فقال: تشبيه الذكر بالأنثى بتكسير المعاطف، وتشبيه الأنثى بالذكر بفحولة الكلام.

والثاني لصاحب النكت، فقال، قوله: إذا وجد العبد مخنثاً- أي: يؤتى- والمرأة مذكرة- أي: فحلة كشرار النساء- فإذا اشتهرت بذلك فهو عيب.

وهكذا وقع لمالك في الواضحة، وصرح في الواضحة بأن التشبيه ليس بعيب. وجعل عبد الحق الواضحة مفسرة للمدونة، وهي على تفسير ابن أبي زيد خلاف.

واحتج أبو عمران للأول بأنه لو أراد الفعل لكان عيباً ولو مرة واحدة، ولكان لا يحتاج إلى قيد الاشتهار في الأمة. أبو عمران: وإنما خص بهذا القيد الأمة ولم يجعل الرجل مشاركاً لها فيه، لأن التخنيث في العبد يضعفه عن العمل وينقص نشاطه، والتذكير في الأمة لا يمنع جميع الخصال التي في النساء ولا ينقصها ذلك، فإذا اشتهرت بذلك كان عيباً، لأنها ملعونة في الحديث. وجعل في الواضحة هذا الاشتهار عائداً على الأمة والعبد.

عياض: ورأيت بعض مختصري المدونة اختصرها على ذلك.

ص: 435

خليل: وينبغي أن يقيد كلام عبد الحق وما في الواضحة بالوخش، وأما الجارية المرتفعة فالتشبه فيها عيب، إذ المراد منها التأنيث، وقاله عياض.

والزعر عيب

الجوهري: الزعر: قلة الشعر. ونص المسألة في المدونة فيمن اشترى أمة فوجدها زعراء العانة فهو عيب. ابن سحنون: لأن الشعر يشد الفرج فإن لم يكن شعر استرخى الفرج. قال في الموازية: وكذلك إذا لم ينبت في غير العانة فهو عيب. ابن حبيب: وهو مما تتقى عاقبته من الداء السوء. وقال سحنون: ليس هو في غير العانة عيباً.

وحمل بعضهم الأول على أنه تفسير للمدونة. بعض الموثقين: والذكر والأنثى فيه سواء.

والثيوبة ليست بعيب إلا فيمن لا يفتض مثلها

أي: إذا وجدها ثيباً وهي في سن من توطأ، فقال سحنون في العتبية: ليس ذلك بعيب، كانت من أعلا الرقيق أو وخشه. وقال في البيان: لأنها محمولة حينئذ على أنها قد وطئت، وإن كانت في سن من لا توطأ فوجدها مفتضة فذلك عيب، لأنها محمولة في هذا السن على عدم الوطء.

وظاهر كلام المصنف: أنه لا فرق في ذلك بين الرائعة والوخش، وليس بظاهر، فإن الذي في المتيطية وغيرها ونص عليه ابن القاسم وسحنون: أن ذلك عيب في الرائعة فقط.

قال في البيان: لأن وطء الوخش لا ينقص من الثمن، إلا أن يشتريها على أنها غير مفتضة بشرط. قال: وهذا قائم من المدونة.

والعسر عيب

العسر: بفتح العين المهملة وفتح السين.

ص: 436

الجوهري: وهو الذي يعمل بيساره.

ابن حبيب: هو عيب في العبد والأمة رفيعين أو وضيعين.

ابن المواز: كالعثار في الدابة.

والأضبط ليس بعيب

الجوهري: الأضبط هو الذي يعمل بكلتا يديه، تقول: منه ضبط الرجل يضبط والأنثى ضبطت. قال في موضع آخر: وأما الذي يعمل بكلتا يديه فهو أعسر يسراً ولا يقال: أعسر أيسر. وكان عمر بن الخطاب أعسر يسراً.

ابن حبيب: وليس بعيب إذا كانت اليمنى في قوتها والبطش بها، فإن نقصت فهو عيب.

والزنى، وشرب الخمر، والبخر عيب

قوله: (عيب) أي: مطلقاً في العلي والوخش. المتيطي: وسواء كان البخار في فم أو فرج. قال غيره: وهو في الفرج عيب في الرائعة فقط. وفي الموازية: في الأمة توطأ غصباً أن ذلك عيب.

والوالدان والولد عيب، والإخوة والأجداد ليس بعيب

أي: أن أحد الوالدين عيب وأحرى اجتماعهما، والولد عيب صغيراً كان أو كبيراً، حراً أو رقيقاً، لأن وجود أحدهم مما يشغله عن خدمة سيده، وإنما لم تكن الإخوة والأخوات والأجداد عيباً، لعدم الميل لهم كما فيمن تقدم.

المتيطي: وانفرد [471/أ] ابن العطار فرأى الأخ عيباً. ونقل صاحب الجواهر، وابن راشد عن بعض أصحابنا المتأخرين أنه ألحق الجدة للأم بالوالدة دون الجدة للأب.

ص: 437

وجذام الأب عيب، بخلاف مس الجان

مراده بـ (الأب) الجنس فيدخل الجد، وصرح به في الموازية والعتبية والواضحة. ولفظ الواضحة: وإن كان أحد أبويهما أو جديهما مجذوماً فهو عيب في الجارية والعبد، والعلي والوخش، وهذا هو المشهور.

وقال ابن كنانة: ليس بعيب. ورواه داود بن جعفر عن مالك. وقال ابن دينار: لا يرد به إلا أن يقول أهل العلم: إنه مرض يعم الأقارب حتى لا يخطئ أحداً منهم فيرد، وإن كان ربما أصاب أو لم يصب فلا يرد به. وأما مس الجان فظاهر، إذ لا يخشى منه ما يخشى من الجذام.

وفي سواد الأب في العلي قولان

مراده بـ (الأب) أيضاً الجنس، فيدخل الجد. ففي الموازية والعتبية: أنه ليس بعيب. وفي الواضحة: هو عيب لما يخاف من خروج ولدها أسود. والأولى لو قال: الرائعة كما في الرواية، لأن العلي يصدق على الذكر.

وكونهما من زنى في العلي عيب، وفي الوحش قولان

الضمير عائد من الأمة والعبد، والقول بأنه لا يرد في الوخش في الموازية، وبالرد لابن القاسم في المدونة وابن وهب. ولم يجعل صاحب البيان العلي محل اتفاق، بل جعل القول بالفرق ثالثاً.

ابن عبد السلام: وقيل في الوخش الفرق بين الذكر والأنثى هو ظاهر ما حكاه ابن حبيب عن مالك.

ص: 438

والقلف في الذكر والأنثى من المولودين، وطول الإقامة كذلك إلا الصغير

القلف: بفتح القاف واللام، الجوهري: رجل أقلف بيِّن القَلَفِ وهو الذي لم يختن. قال، ويقال: أغلف، بالعين المعجمة. واستعمل المصنف القلف في الذكر والأنثى، أي: أن متروك الختان ومتروكة الخفاض إذا ولدا في الإسلام أو في العجم ولكنهما طالت إقامتهما بين المسلمين كذلك، وأما إن لم تطل فليس بعيب لدخول المشتري على ذلك، بل نص ابن حبيب على أنه لو وجد المجلوبين مختتنين على أنه عيب، لما يخاف أن يكون أغار عليهما العدو أو أبق إليهم من رقيقنا، وقال به ابن القاسم. وروي عن ابن القاسم أيضاً أن ذلك ليس بعيب. قال في البيان: والأول أوضح في المعنى وأشبه في النظر.

واستثنى المصنف الصغير- كما ذكر ابن حبيب- لأنه لم يثبت ذلك فيه فلا يكون عيباً، وكذلك لو كان والأمة نصرانيين، فإنهما لا يردان بترك الختان والخفاض، قاله ابن حبيب.

وقوله: (كذلك) أي: لكونهما من زنا، فيكون القلف عيباً في العلي، وفي الوخش قولان. وذكر في البيان ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يرد به الرفيع والوضيع من الغلمان والجواري، قاله ابن حبيب. الثاني: لا يرد بذلك إلا الرفيع منهما، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسي. الثالث: وهو الصحيح في القياس والنظر أنه لا يفرق في الختان بين رفيع ووضيع، بخلاف الجواري في الخفاض.

ولو قالت أنها مستولدة لم تحرم، ولكنه عيب يلزم المبتاع أن يبين إذا باع

يعني: لو اشترى أمة ثم قالت وهي بيد المبتاع أنها أم ولد للبائع، لم تحرم بذلك على المبتاع لأنها مدعية، وتتهم أيضاً على إرادة الرجوع إلى البائع، لكنه عيب يوجب لربه الرد على البائع، فإن رضي به ثم أراد بيعها لزمه البيان، لأن النفوس تكره الإقدام على مثل هذا.

ص: 439

قال في البيان: وكذلك له أن يردها إذا قالت ذلك في عهدة الثلاث أو الاستبراء، لقول مالك: إن ذلك عيب يجب عليه البيان إذا باعها، لأن ما حدث من العيوب في العهدة والاستبراء ضمانه من البائع. وبذلك أفتى ابن لبابة، وابن مزين، وعبد الله بن يحيي ونظراؤهم، ووقع ذلك في أحكام ابن زياد، خلاف ما روى المدنيون عن مالك أن ذلك ليس بعيب، إذ لا يقبل ذلك منها. وقد روى داود بن جعفر عن مالك نحوه إذا سرق العبد في عهدة الثلاث رد به، وإن أقر على نفسه بالسرقة لم يرد، لأنه يتهم على إرادة الرجوع إلى سيده، إذا كانت سرقته التي أقر بها إنما لا يجب القطع فيها. انتهى.

وفيها: في الصدع في الجدار وشبهه إن كان يخاف على الدار أن تنهدم رد به، وإلا فلا ....

نسبها للمدونة لإشكالها، لتفرقته في الدار بين العيب اليسير والكثير. والضمير في (شبهه) يحتمل أن يعود على الصدع أو على الجدار.

وظاهر قوله: (إن كان يخاف على الدار) أنه لو خيف على حائط لم يرد، وبه صر اللخمي.

عياض: وهو ظاهر الكتاب. بخلاف ما ذهب إليه عبد الحق، وابن سهل وغيرهما، وقالوا: إنه إن خشي هدم الحائط من الصدع الذي يه أنه يجب الرد. وقد قيل: إنما يرد لخوف هدم الحائط إذا كان ينقص الدار كثيراً. عياض: وهو صحيح المعنى، أرأيت لو كان الحائط الذي هو واجهة البيت، إذ لا يمكن سكنى الدار إلا بعد إصلاحه. واستدل من لم ير له الرد بهدم الحائط: بأن الحائط لو استحق لم يكن له رد فكيف إذا كان به صدع.

وفرق الآخرون: بأنه في الاستحقاق لا ضرر عليه، لأنه يأخذ قيمته بخلافه هنا، فإنه يضطر إلى بنائه والنفقة فيه.

ص: 440

عياض: ولم يختلفوا فيما قطع منفعة من منافعها كتهوير بئرها، أو غور مائها، أو فساد مطهرة مرحاضها، أو تعفن قواعد بئرها، أو وجد ماء بئرها مالحاً ف البلاد [471/ب] التي ماء آبارها حلوٌ وشبه ذلك، أنه يجب به الرد.

وتممه محمد، فقال: لا يرد، ولكن يرجع بقيمته إن كان يسيراً. وصوبه الأئمة، وقيل: كغيره ....

أي: وتمم ابن المواز ما في المدونة، فقال: ولكن يرجع بما نقص من الثمن. وعدوه وفاقاً لا خلافاً، وأيده بما في قسم المدونة: أن أحد الشريكين إذا اطلع على عيب في نصيبه رجع بقيمته. ومذهب المدونة بتتميم.

محمد: أنه يفرق بين الدور وغيرها، وهو المشهور المعمول به.

وقيد قوله: (يرجع بقيمته) بما إذا لم يكن يسيراً جداً، فقد قال عبد الحق: عيوب الدار ثلاثة أقسام قسم لا ترد به الدار ويرجع بقيمته ليسارته، يريد كالشرفات. وقسم ترد من أجله، كخشية سقوطها. وقسم لا ترد به ويرجع بقيمته، كصدع في حائط ونحوه.

وقوله: (وقيل: كغيره) أي: ترد باليسير في الدور كغيرها. وحكاه الباجي عن بعض الأندلسيين. وفي المسألة قول ثالث: أن العروض كالدور لا يجب الرد فيها باليسير.

قال في المقدمات: وعلى هذا كان الفقيه ابن رزق يحمل الروايات حيثما وقعت، ويقول: لا فرق بين الأصول وغيرها. ويؤيد تأويله ما رواه ابن زياد عن مالك: فيمن ابتاع ثوباً فاطلع فيه على خرق يسير، لا يرد ويوضع قدر العيب، ونحوه في المختصر الكبير، وهو خلاف ظاهرها وخلاف تأويل الجمهور عليها. والفرق هو المشهور، وفرق له بوجوه:

أولها: أن الدور تراد للقنية غالباً، والسلعة للتجارة.

ثانيها: أن الدور لا تنفك عن عيب، فلو ردت باليسير لأضر بالبائع.

ص: 441

ثالثها: أن عيوب الدار لا يحاط بها.

رابعها لابن يونس: أن الدور ليست لها أسوا فيضر بالمشتري ردها، إذ قد لا يجد ما يشتري، والبائع إذ قد لا يجد من يشتري.

خامسها: أن الدار كالأجزاء، فعيب اليسير منها كاستحقاقه فيرجع بنسبته.

سادسها: أن الدور مأمونة والعيب لا يفوت عينها، لأنها وإن انهدمت تبقى قاعتها ونقضها.

سابعها: أن عيب الدار يصلح ويزول بحيث لا يبقى منه شيء، وصوبه ابن محرز.

واختلف في حد اليسير: فمنهم من رد ذلك إلى العادة وهو الأصل. وقال ابن أبي زيد: ما ينقص معظم الثمن فهو كثير. ولاشك أن هذا كثير، ولكنه إن عني أنه لا يرد بما دون ذلك- وهو ظاهر ما فهموه عنه- فضعيف، لأن النصف ليس بمعظم الثمن.

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما نقص عن الثلث وأما الثلث فكثير. وسئل ابن عتاب عن ربع الثمن، فقال: كثير. وقال ابن القطان: المثقالان يسير والعشرة كثير. ولم يبين من كم. وقال ابن رشد: والعشرة من المائة كثير. ولعل قوله تفسير لابن القطان.

والنقص الذي لا يطلع عليه إلا بتغيره كسوس الخشب بعد شقه لا يرد به على المشهور ولا قيمة، قال مالك: لأنه أمر دخلاً عليه ....

أي: إذا بيع شيء وفي باطنه عيب يجهله المتبايعان لا يطلع عليه إلا بعد الشق كالخشب، فلا قيام للمشتري به ولا شيء له على البائع. وعلله في الموازية، فقال: وهو أمر ثابت في هذه الأشياء معروف، يشتري عليه المشتري ويبيع عليه البائع وإليه أشار بقوله:(لأنه أمر دخلا عليه).

ص: 442

ومقابل المشهور رواه المدنيون عن مالك أنه يرد به كسائر العيوب، وذكرها ابن شاس وغيره. وفرق ابن حبيب فلم يثبت الخيار بما كان من أصله الخلقة وأثبته بما طرأ، كوضع الخشب في مكان ندي فيتعفن.

وحمله ابن يونس على الخلاف لمذهب المدونة، والمازري على الوفاق. وعن ابن الماجشون: أنه لا رد في اليسير بخلاف ما كثر، ولو شرط البائع البراءة منه لم يجز، لأنه خطر.

وأما الجوز والتين وشبهه، فقيل: مثله، وقيل: إن أمكن اختياره بكسر الجوزتين رد له

(وشبهه) الفقوس، والخيار، والبطيخ. وقوله:(مثله) يحتمل أن يكون للتشبيه في المشهور فقط، فإن المشهور فيه نفي الرد بما يظهر من أمر البطيخ ونحوه. نص عليه في المدونة. ويحتمل التشبيه في دخول القولين وهما أيضاً فيه. وقوله:(وقيل) هو في الموازية، يعني: أنه إن كان مما يمكن اختباره والاطلاع عليه حال العقد كالقثاءة والقثاءتين.

أشهب: بإدخال العود الرقيق فيها. وكالجوزة والجوزتين مما يتحيل عليه بشيء فيعرف حالهما قبل الكسر، فله الرد به. قال: وأما الأحمال الكثيرة فلا رد إلا أن يكون كله فاسداً أو أكثره فيرد، إذ لا يخفي على البائع. قال: وأما اليسير من الكثير فلا يرد ويلزمه البيع.

ولم ينقل المصنف هذا القول بكماله وذكر الاختيار بالكسر، وفي الرواية: إنما هو بالتحيل قبل الكسر.

ابن عبد السلام: وما في الموازية أظهر عندي. وعن ابن الماجشون وأصبغ، أنهما قالا بإثر قول مالك: هذا في اليسير منه، فأما الكثير فيرد، ولو شرط البائع البراءة منه لم يجز. وهذا كأنه عكس ما في الموازية، هكذا فهمه بعض الشيوخ. وعندي أن معنى قولهما:

ص: 443

أنه إذا اشترى كثيراً، أو ماله قدر فوجد منه الجوزة والجوزتين، فإنه لا قيام له بذلك، إذ لا يكاد يسلم منه، وعلى هذا لا يكون عكس ما في الموازية، ولأجل ذلك قال صاحب هذا القول: وهذا في معنى قول مالك، أي: غير خارج عنه.

خليل: وانظر إذا بنينا على المشهور من نفي الرد فاشترط المشتري أنه إن وجده مُراً رده، وكذلك إذا اشترط الرد في [472/أ] البطيخ إن وجده غير حلو، هل يوفى له بهذا الشرط أو لا؟ والأظهر أنه يوفى له بذلك، لأن الأصل إعمال الشروط ما لم يعارض ذلك كتاب أو سنة.

ونص في المدونة على أن البيض يرد لفساده ويرجع بالثمن. قال: لأنه مما يعلم ويظهر فساده قبل كسره، أي: إذا كان مدلساً.

قال في الموازية: وإن كان غير مدلس وكسر المشتري البيض وأتلفه، فإنه يرجع بما بين القيمتين إن كانت له قيمة يوم باعه بعد الكسر، وإلا رجع بالثمن كله. ابن القاسم: وهذا إذا كسره بحضرة البائع، وإن كان بعد أيام لم يرد به، لأنه لا يدري أفسد عند البائع أو المبتاع، وقاله مالك.

والتغرير الفعلي كالشرطي وهو فعل يظن منه كمال كتلطيخ الثوب بالمداد

يريد بالتغرير الفعلي: أن يفعل البائع في المبيع فعلاً يستر به عيبه فيظهر في صورة السالم وليس كذلك، كصبغ الثوب القديم فيوهم جدته، وكتلطيخ ثوب العبد بالمداد فيظن أنه كاتب ولا يوجد ذلك. وقوله:(كالشرطي) أي: الذي اشترطت سلامته لفظاً.

وأصله التصرية، فإنها كاشتراط غزارة اللبن

أي: وأصل اعتبار هذا السبب والرد به، ما صح من حديث التصرية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)).

ص: 444

والتصرية: جمع اللبن في الضرع يوماً أو يومين حتى يعظم ثديها، ليوهم مشتريها أنها تحلب كل يوم مثل ذلك. وهذا معنى قوله:(فإنها كاشتراط غزارة اللبن) أي: فيوجب الخيار لفقدها.

فلو ظن من غير تغرير لم ترد به ما لم تكن ذات لبن مقصودة له وكتمه مع علمه، وقال أشهب: وإن لم تكن ذات لبن، وقال محمد: إن زاد كذلك ....

أي: فلو ظن المشتري غزارة البن مع عدم تغرير البائع، كما لو كان الضرع لحماً، فلا رد له إلا بثلاثة شروط: أن تكون ذات لبن، وعبر عنه في المدونة بأن يكون اشتراها في إبان الحلاب. وأن يكون مقصوده الحلاب، وهو كقوله في المدونة: أن تكون الرغبة فيها إنما هي اللبن. وأن يكون البائع قد علم قدر حلابها وكتمه عن المبتاع.

وقوله: (مع علمه) زيادة إيضاح، لأن الكتم لا يكون إلا مع العلم. وقال أشهب: للمبتاع ردها وإن لم يكن في إبان الحلاب، سواء علم البائع أم لا، لأنه عيب، والعلم إنما يظهره أثره في التدليس لا في مطلق الرد.

ونصه عند ابن يونس، وقال أشهب: إذا كان البائع يعرف حلابها، فللمبتاع ردها حلبت أو لم تحلب، إلا إذا كانت شاة لبن. وقال ابن المواز: أرى أن ينظر في ثمنها، فإن كان في كثرته ما يعلم أن ذلك لا لشحمها ولحمها ولا لرغبة في نتاج مثلها، وظهر أن الغالب من ذلك إنما هو اللبن، فليردها إذا كتمه البائع وثبت ذلك.

وجعل اللخمي محل الخلاف بين المذهب، وبين قول أشهب، وقول محمد إذا كان البيع في غير إبان الحلاب، وأنه يتفق على الرد إذا كان في إبانه.

وهذه المسألة ليست من التصرية، وإنما هي عندهم من الرد بالعيب، ولهذا قال يحيي بن عمر: اللبن هنا للمشتري ولا صاع عليه إذا رد لضمانه، بخلاف المصراة.

ص: 445

فإن حلبها ثالثة، ففيها: إن كان ما تقدم اختباراً فهو رضا، وقال مالك: له ذلك ....

الضمير في (حلبها) عائد على المصراة، قال فيها: فإن حلبها ثالثة، فإن جاء من ذلك ما يعلم أنه إنما حلبها بعد أن تقدم له من حلابها ما فيه خبرة، فلا رد له ويعد حلابها بعد الاختبار رضا بها، ولا حجة عليه في الثانية، إذ بها يختبر الناس ذلك ولا يعرف بالأولى. وقد علمت أن الضمير في:(فهو رضا) عائد على الحلاب الثالث.

وقوله: (وقال مالك) هو في الموازية: له أن يحلبها ثالثة ولا يعد ذلك رضا وجعل المصنف هذا خلافاً للمدونة كاللخمي.

وقال عيسى بن دينار: إذا حلبها الثانية فنقص لبنها وظن أن ذلك من إنكار الموضع أو نحو هذا، ثم حلبها الثالثة فتبين له أنها مصراة فأراد رده، فيحلف بالله ما كان ذلك منه رضا. وقال محمد: إذا حلبها ثالثة فذلك رضا. ابن يونس: وقول محمد هذا، وقول عيسى راجعان لما في المدونة.

واختار اللخمي ما في الموازية، لما رواه البخاري، ومسلم، والترمذي وصححه، أنه عليه الصلاة والسلام قال:((من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام)). أما إن حلبها رابعة فهي رضا باتفاق، حكاه ابن راشد.

فإن ردها معها صاعاً من تمر ولو غلا، وقيل: من غالب قوت البلد

أي: فإن ردها بعيب التصرية رد معها صاعاً من تمر للحديث. قال في المدنة: ولا لأحد في هذا الحديث رأي. فقدم الخبر على القياس.

عياض: وهو مشهور مذهبه، خلاف ما يحكيه العراقيون عنه.

ص: 446

وقدم في كتاب ابن عبد الحكم القياس، فقال: لا يرد معها شيئاً. ورواه أشهب في العتبية، وقال به ابن يونس. ولعل أشهب رأى أن حديث:(الخراج بالضمان) ناسخ له. وفيه نظر، لأن حديث:(الخراج بالضمان). عام، وحديث المصراة خاص ببعض ما اشتمل عليه الخراج بالضمان، والخاص يقضى به على العام.

وقوله: (ولو غلا) مبالغة. وهذا القول حكاه ابن يونس عن بعض الأصحاب. وقدمه المصنف لأنه ظاهر الحديث، وتبعاً لابن شاس، فإنه قال: ثم قدر الصاع معين، فلا يزاد عليه لكثرة [472/ب] اللبن وغزارته، ولا ينقص منه لقلته ونزارته، ولا يلتفت إلى غلائه ورخصه، بل قال بعض المتأخرين: إ كانت قيمته تساوي قيمة الشاة أو تزيد، فظاهر المذهب أن عليه الإتيان به. ولكن مذهب المدونة هو الثاني، ففيها: وإن كان ذلك ببلد ليس عيشهم التمر أعطى الصاع من عيش ذلك البلد، وعيش أهل مصر الحنطة فليعطوا منها. وحملوا ذكر التمر في الحديث على أنه غالب قوت المدينة، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه:((وصاعاً من طعام لا سمراء)) فلم يذكر التمر بخصوصيته، وأخرج منه السمراء، لأنها ليست بطعام أهل الحجاز، وهو تنبيه على هذا المعنى أيضاً. فلو كلف التمر في كل بلد لزم أن يرد المشتري ما يساوي نصف قيمتها أو أكثر، وهو مانع من ردها الذي دل الحديث على ثبوته.

وروى زياد عن مالك: يرد مكيل ما حلب تمراً أو قيمته. واستبعده في البيان لمخالفته الحديث.

تنبيه:

الرد بعيب التصرية مشروط بأن لا يعلم المشتري بذلك حين البيع وأما إن علم حين البيع أنها مصراة فلا مقال له، إلا أن يجدها قليلة اللبن دون المعتاد من مثلها.

ص: 447

ابن القاسم: ولو رد عين اللبن لم يصح ولو اتفقا، لأنه بيع الطعام قبل قبضه. وقال سحنون: إقالة ....

أي: لو أراد المشتري أن يرد المصراة وما حلبه منها لم يجز ذلك، لأنه بيع الطعام قبل قبضه، فإن البائع وجب له صاع من طعام باعه قبل قبضه باللبن.

وقال سحنون: يجوز ذلك ويعد إقالة. وقاله ابن وضاح وقيده بما إذا لم يغب على اللبن، ذكره في البيان.

وحمل اللخمي المدونة: على أن الحلاب تأخر، أما لو كان بفور العقد رده بعينه ولا يلزم المشتري عوضه، لأن وجوب الصاع إنما كان مع التراضي لاختلاط ملك البائع بملك المشتري، لأن ما حدث في ضرعها بعد الشراء فهو للمشتري، وهذا منتف بفور العقد لتمحض ما في الضرع للبائع.

ورده المازري: بأن اللبن إذا حلب غيَّره الهواء، فكأنه هو الذي ليس في الضرع. ولا يصح أيضاً حمل المدونة على ما ذكره، لأنه قال فيها: لو تراضيا على رد اللبن بعينه لم يجز، ولو كان لأجل الاختلاط لكان الحق للمشتري، فإذا رضي جاز.

فإن تعددت، ففي الاكتفاء بصاع قولان

أي: فلو تعددت المصراة اثنان فأكثر، فهل يكتفي في الجميع بصاع وهو قول الأكثرين، أو لابد في كل واحدة من صاع وهو قول ابن الكاتب، واختاره اللخمي وابن يونس. واحتج أحمد بن خالد الأندلسي للأكثرين بأن غاية ما يفيده تعددها كثرة اللبن، وهذا لا يلتفت إليه، ألا ترى أن في لبن كل من الشاة والبقر والناقة صاعاً واحداً.

وأجيب بأن هذه الألبان وإن اختلفت قدراً فقد اختلفت في الطيب، فالأقل منها قدراً أطيب، وإنما يلزم ما قاله ابن خالد لو اختلفت في القدر واستوت في الطيب. وفي

ص: 448

جامع البيوع من البيان قول ثالث، وهو: لا شيء عليه فيما احتلبه منها، بخلاف الشاة الواحدة، لقوله في الحديث:((من اشترى شاة مصراة)).

فلو رد بعيب غيره، ففي الصاع قولان

أي: فلو رضي المشتري بعيب التصرية ثم اطلع على عيب آخر فرد به، فقال محمد: لا يرد الصاع لحلابها. واختاره التونسي. وعن أشهب: أنه يرد الصاع بناء على أنه لما رد بغير عيب التصرية كانت كأنها غير مصراة، أو يصدق عليه أنه رد مصراة.

وإذا اشترط البائع البراءة مما لم يعلم، فطريقان، الأولى ثالثها في الموطأ: تفيد في الحيوان مطلقاً. ورابعها في المدونة: تفيد في الرقيق خاصة. وخامسها: تفيد من السلطان. وسادسها: ومن الورثة لقضاء دين وشبهه ....

لما ذكر خيار النقيصة شرع في موانعه، وهي قسمان: مانع مطلقاً، ومانع على تقدير.

فالأول أربعة أنواع:

أولها: أن يشترط البائع البراءة من العيوب التي لا علم له بها. وذكر المصنف فيها طريقين، الأولى، المذهب على ستة أقوال:

الأول: أن شرط البراءة ينفع من كل بائع في كل مبيع، وهو قول مالك في كتاب ابن حبيب، وقيد بما عدا الحمل الخفي من الرائعة، إذ لا تصح البراءة منه لعظم الخطر. وقيدها الباجي والمازري أيضاً بما لا يشترط فيه التماثل، أما ما يشترط فيه كمد قمح بمد قمح، فلا يجوز اشتراط البراءة فيه، لما يؤدي إليه من التفاضل. قالا: وكذلك لا يجوز التبرؤ في عقد القرض، لأنه إذا أسلف عبداً وتبرأ من عيوبه دخله سلف جر منفعة.

الثاني: أن البراءة لا تنفع مطلقاً، ذكره القاضي أبو محمد عن مالك، لأن البراءة توجب غرراً.

ص: 449

الثالث: وقع في بعض روايات الموطأ، وفي الموازية، والواضحة أنها تنفع في الحيوان مطلقاً، ناطقاً أو غيره، ولا تصح في غيره.

الرابع، قال ابن عبد السلام: هو أشهر الأقاويل.

الباجي- وهو الظاهر من المذهب-: أنها تفيد في الرقيق فقط. ووجهه: أنه قد يكره بعض السادات ويرغب في بعض، فيظهر من العيوب ما ليس فيه ويكتم ما فيه، تحيلاً منه على انتقال الملك.

وتصور الخامس ظاهر، وهو مقيد بما باعه السلطان لغيره، وأما كان لنفسه فهو كسائر الناس.

وتصور السادس ظاهر، وشبه الدين الوصية.

وقد أقيمت من المدونة الستة الأقوال.

وزاد عياض:

سابعاً: [473/أ] لابن القاسم في الموازية: أنها لا تنفع في الحيوان والثياب إلا في الشيء اليسير التافه غير المضر، وأما ما هو مضر فيرد به، ونحوه في العتبية.

وثامناً: أنه لا يفيد إلا فيما طالت إقامته عند البائع واستغنى المصنف عن هذا بما سيذكره بقوله: فلو باع بحدثان ملكه، فالمشهور: لا يفيد.

وتاسعاً: أنها لا تنفع إلا من السلطان خاصة في البيع للدين، ونحوه في الرقيق خاصة، وهو نص الموازية

وعاشراً لابن حبيب: إن كان البيع طوعاً فلا يفيد إلا في الرقيق خاصة، وأما ما باعه السلطان في فلس، أو موت، أو على الأصاغرة، فهو بيع براءة في الرقيق والحيوان والعروض وإن لم يشترط البراءة. وقاله مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ وغيرهم. وبهذا يظهر رجحان هذه الطريقة على الطريقة الثانية، لأن من حفظ مقدم.

ص: 450

الثانية: تفيد إن كان يسيراً، أو من السلطان، وفي غيره قولان

هي لابن أبي زيد، وابن الكاتب، وابن محرز، قالوا: اتفق قول مالك على أن بيع السلطان بيع براءة، كان البيع يسيراً أو كثيراً، أو أن العيب اليسير تصح البراءة منه، كان البائع سلطاناً أو غيره.

ابن الكاتب: وإنما كان كذلك، لأنه حكم منه بالبيع. وبيع البراءة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء، لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به. المازري: وفيه نظر، فإن السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وفاق، ولا قصد فيه إلى حكم بإنفاذ بيع على البراءة لينفذ حكمه، وإنما فعل ذلك لما أوجبه الشرع عليه.

ونسب للمغيرة أن اليسير الثلث فدونه، لكن لم أر له أن بيع السلطان بيع براءة.

قوله: (وفي غيره) أي: وفي غير ما ذكر، وهو الكثير من غير قول السلطان قولان.

فأما فيما علم فلا تفيد

أي: أن الأقوال المتقدمة في الطريقين إنما هي فيما لم يعلم البائع به، وأما ما علمه من العيوب فلا يفيد البراءة حينئذ اتفاقاً.

فلو باع بحدثان ملكه، فالمشهور: لا تفيد

قال في المدونة في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامته عندهم، قال: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلاً لا تنفعهم البراءة. والشاذ لعبد الملك قياساً على السلطان.

ص: 451

وبيع السلطان على تفريع البراءة لا يحتاج إلى اشتراطها

يعني: حيث فرعنا على أن بيع السلطان بيع براءة، فالحكم يقتضيها ولا يحتاج في إثباتها إلى شرط. وظاهر كلامه: أن هذا مقصور على الحاكم، وحكى غيره هذا القول فزاد مع السلطان أهل الميراث، وزاد فيه أيضاً أن البراءة لا تنفع في غيرهما ولو اشترطت.

ولو ظن المشتري أنه غيره، فقولان: الخيار، واللزوم

أي: وإذا فرعنا على أن بيع الحاكم بيع براءة، فظن المشتري أن البائع غير القاضي، ففي المدونة: له الخيار بين أن يرد أو يحبس بلا عهدة. وقال ابن حبيب: يلزمه وإن لم يذكر متوليه أنه بيع ميراث أو فلس. وكأنه رأى أن بيع ذلك لا يخفى، فلا يقبل دعواه الجهل.

وإذا تبرأ من عيب لم ينفعه حتى يعلم بموضعه، وجنسه، ومقداره، وما في الدبرة من نقل وغيره، وكذلك لو أجمل كسرقة العبد أو إباقة، فيوجد ينقب، أو قد أبق من مصر إلى المدينة ....

لما تكلم على البراءة العامة في جميع العيوب أخذ يتكلم على البراءة من عيب معين، أو تقول: لما تكلم على البراءة مما لم يعلم تكلم فيما يعلم. ثم لا يخلو إما أن يتفاوت العيب في نفسه بالقلة والكثرة أو لا، فبراءة الثاني تسميته كقطع اليد مثلاً والعور. والأول لا ينفعه إلا بثلاثة شروط:

أولها: أن يقول هو به. ابن المواز: ولا ينفعه لو أفرده، فقال: أبيعك بالبراءة من كذا حتى يقول: إن ذلك به. ورأى ابن يونس العيب يبرأ إذا أفرده بالذكر، سواء قال ذلك العيب به أو لا.

ثانيها: أن يطلعه على ما يعلم من حاله بشهادة، أو خبر يقوم مقامها.

ص: 452

ثالثها: أن لا يحملها مع غيره، ففي المدونة وغيرها: وإن تبرأ إليه من عيوب بعضها فيه وبعضها ليست فيه لم تنفعه البراءة، وللمبتاع الرد بما اطلع عليه مما سمى له ولم يره إياه. وعلل ذلك بأنه لما ذكر له ما ليس فيه اعتقد المبتاع أن جميع ما ذكر كذلك، فكان بمنزلة من لم يتبرأ من عيب.

قوله: (حتى يعلم بموضعه) لأنه يغتفر بموضع دون آخر، (وجنسه) لأنه يختلف اختلافاً كثيراً، ولو لم يبينه كان العقد فاسداً، (ومقداره) لأن القدر يختلف. واختلف إذ باع ولم يبين قدره، فقال ابن القاسم عن مالك: البيع ثابت، فإن ظهر على الفاحش من ذلك فله الرد. وقال أشهب: يفسخ البيع، قاله في الدبرة، والكي، والقروح، والجراحات. وقول ابن القاسم أحب إلي، لأن أشهب وافق في مسالة الإباق أن البيع ثابت وله الرد.

وقوله: (وما في الدبرة من نقل). الجوهري: الدبرة بالتحريك واحدة الدبر والأدبار، مثل: شجرة وشجر وأشجار، يقول منه دبر بالكسر وأدبره القتب. قال: وبرئ الجرح، وفيه شيء من نقل بالتحريك أي فساد.

وعطف مسألة الدبرة على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة، وكان ينبغي أن يجعلها مثالاً لما تقدم، لأنها راجعة إلى بيان القدر.

وإذا فات المبيع حساً بتلف، أو حكماً بعتق، أو استيلاد، أو كتابةـ، أو تدبير فاطلع على العيب الأرش، فيقوم سالماً ومعيباً، ويأخذ من الثمن نسبة ما بين القيمتين ....

[473/ب] هذا هو المانع الثاني، وتصوره واضح. ومثال التقويم: لو كان العبد يساوي صحيحاً مائة ومعيباً ثمانين، فيرجع عليه بخمس الثمن، لأن نسبة العشرين إلى المائة الخمس. فلو كان الثمن مائتين رجع عليه بأربعين، لأنه صار لكل عشرين من القيمة أربعون من الثمن. والأرش، قال ابن قتيبة وغيره: مأخوذ من قول العرب أرشت بين

ص: 453

الرجلين تأريشاً، إذا أغريت أحدهما على الآخر وأوقعت بينهما الخصومة. فسمى نقص السلعة أرشاً، لكونه سبباً للتأريش وهو الخصومة.

وإن كان بإجارة أو رهن، فقال ابن القاسم: إذا عاد إلى يده رده. وقال أشهب: إن خلصه عاجلاً ....

أي: فإن تعذر رد عين المبيع مع بقاء عين الملك فيه لتعلق حق آخر، كما لو أجرها أو رهنها ثم اطلع فيها على عيب وهي بيد المستأجر أو المرتهن، فقال ابن القاسم في المدونة: يبقى الأمر في العيب موقوفاً حتى يفتكها من الإجارة أو الرهن. فإن خرجت من الإجارة والرهن وهي على حالها ردها، وإن فاتت أو تغيرت حكم فيها بحسب ما يقتضيه المذهب في ذلك من القلة، والكثرة، والتوسط.

وقال أشهب أيضاً في المدونة: إن افتكه حين علم بالعيب فله رده، وإلا كان فوتاً فيرجع بالأرش.

ووقع في أكثر النسخ- وهي: نسخة ابن راشد، وابن عبد السلام-: فقال ابن القاسم: إذا عاد في نحو الشهر رده. واعترض ابن عبد السلام عليها من أجل أن ما ذكره عن ابن القاسم مخالف لما تقدم. وذكر الباجي عن ابن القاسم الفرق بين اليسير والكثير كما ذكره المصنف، لكنه لم يقيد بالشهر، وإنما قيده ابن حبيب، فقال: إن كل أجل ذلك قريباً كالشهر ونحوه فليؤخر إلى انقضائه وهو على أمره، فإن بعد كالأشهر والسنة فهو كالفوت، ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفتكها معجلة.

أبو محمد: وهذا خلاف قولي ابن القاسم وأشهب.

فإن تعذر الرد لعقد آخر، فإن كان لغير معاوضة فالأرش

أي: كالهبة والصدقة، وهذا هو المشهور. وروى زياد عن مالك: أنه إذا تصدق به أو أعتقه أن ذلك فوت، ولا رجوع له بقيمة العيب، ولعله يقول مثل ذلك في الهبة. وعلى

ص: 454

المشهور، فقال سحنون، وعيسى في العتبية: يكون الأرش للمتصدق لا للمتصدق عليه. واختلف إذا وهبه لابن له صغير، فقال ابن حبيب: ذلك فوت. وقال ابن الكاتب: ليس بفوت، إذ له الإعتصار.

فإن كان بمعاوضة مع البائع بمثل الثمن الأول، فلا كلا م له

يعني: فإن اطلع المشتري على عيب في المبيع بعد أن أحدث فيه عقد معاوضة مع بائعه، فإن باعه بمثل الثمن الأول فلا كلام للمشتري على البائع، لأن ثمنه قد رجع إليه.

وإن كان بدونه استتم

كما لو اشتراه بمائة ثم باعه للبائع بثمانين ثم اطلع على العيب، فله أن يرجع بعشرين تمام الثمن الأول. وفي الرجوع إذا لم يكن البائع مدلساً نظر، لإمكان أن يقال: إن المشتري إما أن يعلم بالعيب حين البيع أو لا، فإن علم فقد رضي، وإن لم يعلم فالنقص ما كان لأجل العيب وإنما كان بحوالة الأسواق. وهذه حجة ابن القاسم إذا باعه من أجنبي. وعلى هذا فلا يبعد أن يخرج في هذه المسالة الأقوال الآتية في البيع من أجنبي. والله أعلم.

وإن كان بأكثر، فإن كان مدلساً فلا كلام له، وإن كان غير مدلس رد ثم رد عليه ....

أي: وإن كان المشتري قد باعه من بائعه بأكثر مما اشتراه به، فإن كان البائع أولاً مدلساً فلا كلام له لأنه رضي. وإن كان غير مدلس رد علي المشتري، ثم للمشتري أن يتماسك أو يرد. مثاله: لو اشتراه بعشرة ثم باعه البائع بخمسة عشرة، فله أن يرد ويأخذ خمسة عشر.

ص: 455

وإن كان مع غير البائع ونقص، فثلاثة في الموطأ: يرجع بقيمة العيب، وروي: يرجع بالأقل من النقص وقيمة العيب إن كان نقص، وفيها: لا كلام له .....

أي: وإن كان العقد بمعاوضة مع غير البائع ونقص الثمن في هذه المعاوضة عما كان اشتراه، فثلاثة أقوال:

الأقوال: يرجع بقيمة العيب، قاله مالك في المختصر، واختاره محمد بن عبد الحكم وزعم أن هذا مذهب مالك في موطئه، لقوله فيه: إذا فات العبد بوجه من وجه الفوت فللمشتري الرجوع بقيمة العيب، قال محمد: والبيع فوت. قال في التلقين: وهذا هو الصحيح.

الثاني: رواه أشهب عن مالك: أنه يرجع بأقل الأمرين من نقص الثمن أو قيمة العيب، لأنه إن كانت قيمة العيب أقل فأخذها فلا مقال له، كما لو كان سليماً. وإن كان الذي نقصه أقل فأخذه فلا مقال له، لأنه لو لم ينقص ثمنه لم يرجع بشيء، وهو قول أشهب، واختاره ابن حبيب، وروي أيضاً عن مالك. وقوله:(إن كان نقص) تكرار، لأن فرض المسألة مع النقص.

والقول الثالث في المدونة: لا يرجع بشيء إلا أن ترجع إليه السلعة فله ردها. واحتج بأن المشتري إن كان عالماً بالعيب حال البيع فقد رضي، وإلا فالنقص إنما كان بحوالة السوق لا للعيب، واختاره ابن المواز، وقال: إلا أن يكون نقص من أجل العيب، مثل: أن يبيعه بالعيب وهو يظن أنه حدث عنده ولم يعلم أنه كان عند بائعه، أو يبيعه وكيل له ويظن [474/أ] ذلك فيرجع عليه بالأقل، كقول أشهب.

وظاهر كلام ابن يونس: أن قول محمد تقييد لقول ابن القاسم، وبذلك صرح غيره ولم يذكر ابن الجلاب ذلك على أنه تقييد، بل قال: ولو باعه ثم ظهر بعد البيع على عيب لم

ص: 456

يرجع على البائع بشيء. وقيل: بيعه كموته وعتقه، ويرجع على البائع بأرشه. وقد قيل: إن كان قد نقص من ثمنه لأجل عيب وظن أن العيب حدث عنده، ثم علم أنه كان قديماً عند بائعه، أن له أن يرجع بأرش العيب عليه.

وقيد المصنف المسألة بالنقص، لأن لو باع بمثل الثمن الأول فأكثر، فأحرى ألا مقال له على قول ابن القاسم، وكذلك لا مقال له على قول أشهب. وأما على ما نسب للموطأ فله قيمة العيب، لأنه جعل خروج المبيع من يد مشتريه بالبيع كخروجه بالهبة وشبهها.

فإن عاد إليه بالرد بالعيب، أو بملك مستأنف من بيع، أو هبة، أو إرث فله الرد. وقال أشهب في البيع: يخير في رده على البائع الأول أو رده على المشتري الثاني، فإن رده رده .....

أي: فإن عاد إلى البائع الثاني الذي هو مشتر أولاً، فإن رد عليه بعيب فله رده على البائع الأول، ولا يخالف أشهب في هذا الوجه. وأما إن رجع إليه بغير الرد بالعيب، بل بملك مستأنف من بيع، أو هبة، أو ميراث، فقال ابن القاسم في المدونة: له الرد بالعيب على البائع الأول.

وقال أشهب: إن رجع إليه ببيع خير بين ما قاله ابن القاسم وبين أن يرده على الذي اشتراه منه آخراً، لأنه صار بائعاً، فإن رده على الأول أخذ منه الثمن الأول، وإن رده على المشتري الأخير أخذ منه الثمن، ثم يخير المشتري الأخير بين أن يتماسك به فيتم العمل، أو يرده على المشتري الأول، فإن رده عليه فله أن يرده على البائع الأول. وهذا معنى قوله:(فإن رده رده) أي: فإن رده المشتري الأول على المشتري الثاني رده المشتري الثاني على المشتري الأول إن شاء، ثم يرده على البائع الأول إن شاء.

وظاهر قول ابن القاسم في المدونة: أنه يرد على البائع، سواء قام عليه بالعيب قبل أن يرجع إليه المعيب أم لا.

ص: 457

وقال ابن حبيب: إن كان قام عليه قبل أن يرجع فحكم له بعدم الرجوع لخروجه من يده بمثل الثمن فأكثر فلا قيام له. أبو محمد: وهو بعيد من أصولهم. ابن يونس: لأنه إنما منع من القيام عليه لعلة وقد ارتفعت.

والسكوت من غير عذر والفعل الدال على الرضا كالقول

هذا هو المانع الثالث، وهو ظهور ما يدل على الرضا به من السكوت عن القيام به ولا مانع من خوف ونحوه، أو فعل دال على الرضا كما سيأتي.

وشبكه السكوت والفعل بالقول، لأنه أصرح منهما. وهذا لأن الرد بالعيب على الفور، ويبطل بالتأخير من غير عذر، إذ الأصل في البيع اللزوم، فإذا تمكن من الرد وتراخى عنه لزمه. قال في المدونة: إلا أن يكون كاليوم ونحوه بعد أن يحلف أنه ما كان منه رضا.

ابن عبد السلام: وما ذكره من أن السكوت يدل على الرضا هو ظاهر المذهب، وإن كان بعض الشيوخ يذكر اختلافاً في السكوت هل يتنزل منزلة النطق؟ والذي تدل عليه مسائل المذهب: أن: كل ما يدل على ما في نفس الإنسان من غير النطق، فإنه يقوم مقام النطق. نعم يقع الخلاف في المذهب في فروع، هل حصل فيها دلالة أم لا؟

فإن كان البائع غائباً أشهد شاهدين، فإن عجز أعلم القاضي فتلوم ثم قضى عليه بعد أن يثبت العهدة ....

أي: فإن كان البائع حاضراً معه في البلد رد عليه، وإن كان غائباً أشهد شاهدين أنه لم يعجز يرض بالعيب، ورد عليه إن أمكن بأن تكون غيبته قريبة أو له وكيل حاضر. فإن عجز عن الرد لبعد الغيبة رفع إلى القاضي فيثبت عنده الشراء وصحته ملك البائع إلى حين البيع، وأنه اشترى على بيع الإسلام وعهدته- أي: على حقه في العيب والاستحقاق- وليس مراده عهدة الثلاث أو السنة.

ص: 458

وهذا الشرط وقع في المدونة وقيده بما إذا لم يرد أن يحلف، لأن القول قول المشتري مع يمينه على في البراءة.

وفصل اللخمي، فقال: إن كانت العادة البيع على البراءة لم يحكم له بالرد إلا أن يثبت أنه ابتاع إلى العهدة، وإن كانت العادة العهدة أو لا عادة بواحد منهما، فهو على العهدة ويستظهر عليه باليمين.

ابن لبابة، وابن رشد وغيرهما: ويثبت يوم التبايع، لأن العيوب تقدم وتحدث.

وقوله: (فتلوم) أطلق في التلوم، وقيده في المدونة في كتاب العيوب بأن يكون بعيد الغيبة وطمع في قدومه.

ابن بطال: تلوماً يسيراً. ولم يذكر في المدونة في باب التجارة لأرض الحرب وباب القسم تلوماً.

المتيطي: وحمل ذلك غير واحد من الشيوخ على الخلاف.

خليل: ولا يبعد على الوفاق، والذي اعتمد عليه أصحاب الوثائق التلوم. قال في المدونة: ولا يعجل بالقضاء على قريب الغيبة.

واختلف الشيوخ إذ قالت البينة لا نعلم مكانه، هل يكون ذلك كشهادتهم ببعد الغيبة ويقضى عليه وهو قول ابن مالك القرطبي، أو ذلك بمنزلة الغيبة القريبة فلا يقضى عليه وهو قول ابن سهل؟ والأول أصوب، وهو الذي تدل عليه المدونة والمسائل، وساق مسائل تدل على ما ذكره [474/ب] من أن مجهول الغيبة بمنزلة بعيدها. وما تقدم من أنه لابد من إثبات صحة الشراء كذلك هو في المدونة، وقيده بما إذا لم يرد أن يحلف. فضل: لأن وجوب اليمين في العهدة أكد منها في هذا، لأن البينة إذا شهدت بصحة العقد يكون وقوع الفساد بعيداً بخلاف البراءة، لإمكان أن يكون أبرأه بعد. ويثبت أيضاً أنه نقد الثمن، وأنه كذا وكذا إن أراد أخذه، قاله في المدونة.

ص: 459

ابن رشد وغيره: إلا أن يكون قد مضى من المدة ما لو أنكر البائع القبض كان القول قوله مع يمينه أنه قد دفعه إليه، وذلك العام والعامان على ما ذهب إليه ابن حبيب، والعشرون عاماً ونحوها على ما ذهب إليه ابن القاسم.

ويثبت وجود العيب الذي يوجب الرد، وأنه أقدم من أمد التبايع، قالوا: ويحلف على أنه بيع صحيح وأنه لم يبرأ منه، وأنه ما اطلع عليه بعد البيع ورضيه، ولا استخدام العبد بعد اطلاعه على العيب.

وتصرف المضطر- كالمسافر على الدابة- ليس برضا، خلافاً لأشهب

لما قدم أن التصرفات الاختيارية تدل على الرضا تكلم على ما لا يدل على ذلك كالتصرف حال الاضطرار، ومثل ذلك بالمسافر يطلع على عيب في الدابة فيتمادى على ركوبها، وفي معناه الحمل عليها.

وقوله: (ليس برضا) هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في العتبية، وبه أخذ أصبغ وابن حبيب لأنه كالمكروه، قال في هذه الرواية: وليس عليه شيء في ركوبها بعد علمه، ولا عليه أن يكتري غيرها ويسوقها وليركب، فإن وصلت بحالها ردها، وإن عجفت ردها وما نقصها، أو يحبسها ويأخذ قيمة العيب.

قال في البيان: ولا يجب عليه الرجوع بها إلا أن يكون قريباً لا مؤنة عليه في الرجوع، ويستحب له أن يشهد أن ركوبه إياها ليس برضا منه بالعيب، فإن لم يفعل لم يضره ذلك، وقال أشهب في الموازية، ورواه عن مالك: أن حمله عليها رضا كالإقامة، وبه قال ابن عبد الحكم. وإلى هذا أشار المصنف بقوله:(خلافاً لأشهب).

ووقع في بعض النسخ بعد قوله: (ليس برضا)، (لأنه غلبة) وهو تعليل لا يحتاج إليه، لأن المضطر يغني عنه. ونقل في البيان عن ابن كنانة: إذا وجد العيب بالدابة في سفر

ص: 460

فليشهد عليه ويردها ولا يركبهرا في ردها، إلا أن يكون بين قريتين فيبلغ عليها إلى القريبة ليشهد. وعن ابن نافع: أنه لا يركبها ولا يحتمل عليها، إلا أن لا يجد من ركوبها والحمل عليها بداً في السفر، فليشهد على ذلك ويركب أو يحمل إلى الموضع الذي لا يجوز له أن يركبها. يعني: حتى يجد حكماً وبينة تشهد له بذلك الموضع بما يستوجب ردها، قال: فاعرف أنها ثلاثة أقوال. وعلى هذا فيتحصل فيها بقول أشهب أربعة أقوال.

وما لا ينقصه- كالدار- ليس برضا، لأنه غلة

أي: إذا اشترى داراً فسكنها واطلع على عيب بها وبائعها غائب أو حاضر، فله التمادي على الكسنى من غير هدم.

المازري وغيره: ولا يلزمه إخلاؤها، بل يبقى على استعمالها وهو يخاصم، لأن ذلك غلة وخراج، والخراج بالضمان وضمانها منه. اللخمي: والغلة له حتى يحكم بالفسخ.

وقوله: (لأنه غلة) جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلاً يقول: فإذا لم يكن سكناه دليلاً على الرضا وهو قد سكن عالماً بالعيب عازماً على الرد، فينبغي أن يرد الكراء. فأجاب: أنها غلة والخراج بالضمان، وليس مراده تعليل تمادي السكنى بالغلة، لأن ذلك منقوض بالثوب والعبد ونحوهما.

ويحتمل أن تكون غلة موصوفاً حذفت صفته، والتقدير: أنه غلة غير منقصة، ودل على هذا المحذوف صدر المسألة وهو قوله:(وما لا ينقصه) وعلى هذا فتكون العلة في حصول الرضا الاستغلال المنقص.

بخلاف العبد والدابة على المشهور، فينزل عن الدابة ما لم يتعذر قودها

أي: أن الحكم في العبد والدابة ونحو ذلك كالثياب مخالف للدار، لأن العبد والدابة يغيرهما الاستعمال. ومراده في حق الحاضر، لجعله هذا قسيماً للمسافر.

ص: 461

والشاذ لابن حبيب: لا بأس أن يركب الدابة في مكانها بالمعروف إذا ألجأه البائع إلى الخصومة حتى يحكم له بردها، لأن عليه النفقة ومنه الضمان، وكذلك الجارية والعبد له أن يستخدمها بالمعروف. واتفق على أنه إن لبس الثوب أو وطأ الجارية أن ذلك رضاً، لأن اللبس ليس غلة وهو ينقص الثوب، والوطء لا يحل في أمة لا يختار إمساكها.

وقوله: (فينزل عن الدابة) تفريع على المشهور، وتبع المصنف في هذا ابن شاس، وهو مخالف لظاهر قوله في العتبية. وأما الحاضر فإن ركبها ركوب احتباس لها بعد أن علم بالعيب لزمه، وذلك رضاً. وأما إن ركبها ليرده وشبه ذلك، فلا شيء عليه.

وفي البيان: وأما الحاضر فليس له أن يركبها بعد وجود العيب ها إلا في ردها.

وفيما ذكره المصنف حرج، إذ نزول ذي الهيئة عن الدابة وقودها عليه من أعظم الحرج، والظاهر: أن له ركوبها إلى منزله، ويمكن حمل كلام المصنف عليه بأن يقال، قوله:(ما لم يتعذر قودها) معناه: سواء كان تعذر القود من جهتها أو من جهة المشتري، لأن المشتري إذا كان من ذوي الهيئات يتعذر عليه قودها.

وإذا زال العيب منع الرد، إلا فيما له علقة كالطلاق، واحتمال عود البول

هذا هو المانع الرابع، أي: إذا زال العيب قبل القيام به فلا رد له، لأن [475/أ] العلة في تخيير المشتري في الرد وجود العيب، فإذا زال العيب على وجه تؤمن معه العودة فيزول التخيير. ثم استثنى ما له علقة كطلاق العبد، لبقاء التشوف بعد الطلاق للزوجة، وما لم تؤمن عودته كالبول في الفراش، وهكذا قال ابن القاسم. وقال أشهب: إن انقطع انقطاعاً بيناً كالسنين الكثيرة فليس بعيب، وإن كان اليسيرة فهو عيب.

وحمل اللخمي قول أشهب على الخلاف، وقال ابن محرز: إذا تحقق الانقطاع فابن القاسم يوافق أشهب، ورأى أن الخلاف بين ابن القاسم إنما هو للاختلاف في

ص: 462

الصورة. وقال الباجي: يحتمل أن يكون قول ابن القاسم وأشهب في ذلك واحداً إذا انقطع عنها العشرة أعوام ونحوها. ولم يذكر المصنف في الطلاق خلافاً. وذكر فيه ابن رشد وفي الموت ثلاثة أقوال:

أحدها لمالك: أنه لا يذهب بذلك لاعتياده بالزوجة، وكذلك الأمة لاعتيادها بالزوج، والطلاق أشد لما يخشى من تعلق نفسه بها وتعلق نفسها به.

الثاني لابن حبيب، وأشهب: أن العيب يذهب بالموت دون الطلاق. ابن حبيب: إلا أن تكون الأمة رائعة، يعني: في الموت. ابن رشد: وهو أعدل الأقوال.

الثالث: أن العيب يذهب بالموت والطلاق، تأوله فضل على المدونة من قوله: إذا اشترى الأمة وهي في عدة من طلاق فلم يعلم بذلك حتى انقضت العدة، أنه لا رد له قال: وليس ببين، لاحتمال علمه بالزوجية دون العدة.

واختار التونسي أيضاً: أنه يرتفع بالموت والطلاق ليس من هذا الموضع، ولكن احتج عليه بأنه لو لم يكن كذلك لزم إذا وهبها لعبد يظأها ثم انتزعها أن عليه البيان. ابن رشد: ولعمري إن بينهما لفرقاً، لحق الزوجة في الوطء دون الأمة.

ابن عبد السلام: وهذا الفرق ليس ببين، لأن علة كون الزوجية عيباً ليس هو وطء الزوج أو الزوجة، وإنما هو تأنس العبد والأمة بالوطء، وذلك لا يفترق فيه سيد من زوج.

وتغير المبيع اليسير كالعدم، والمخرج عن المقصد مفيت بالأرش، وما بينهما يخير المشتري في أخذ أرش القديم، وفي رده ودفع الحادث

لما تلكم على ما يمنع الرد مطلقاً شرع فيما يمنعه على وجه، وحاصله: أن العيب الحادث عند المشتري ثلاثة أقسام: إن كان يسيراً، فلا أثر له ووجوده كعدمه، والحمل فيه على البائع أولى، لأنه إما مفرط بعدم بحثه عن المبيع فكان المدلس، وإما مدلس.

ص: 463

واختلف في اليسير، فقيل: ما أثر نقصاً يسيراً في الثمن- وإليه أشار في المدونة- وقيل: ما لا يؤثر فيه نقصاً أصلاً، وإليه ذهب الأبهري.

وإن كان كثيراً يخرج المبيع بسببه عن المقصود، فيمنع من الرد، لأن ذهاب المنافع المقصودة منه تصيره كالعدم.

وإن كان متوسطاً خير المشتري كما ذكر، لأن البائع أدخله في أمرين عليه في كل منهما مشقة، فعليه في التزام المبيع مع كونه معيباً تكرهه النفوس مشقة. وكذلك في إلزامه قيمة العيب الحادث إذا رد المبيع، كما لو اشتراه بمائة ثم اطلع على عيب كان فيه وحدث به آخر، فيقوم صحيحاً بمائة، ومعيباً بالأول بثمانين وبالثاني بستين. فإما أن يرد ويعطي عشرين، أو يتماسك ويأخذ عشرين، فلو كان اشتراه بمائتين، لكان إما أن يرد أربعين أو يأخذ أربعين.

وبالجملة فاجعل القيمة كالميزان، ولا فرق على المشهور في العيب بين أن يكون بسبب المشتري أو من الله تعالى. وقال أبو الفرج: لا يرد لما حدث عنده إن كان حدث بأمر من الله تعالى، بخلاف ما حدث بسببه فيرد معه ما نقص. عياض: وهو خلاف أهل المذهب.

ما لم يقبله البائع بالحادث فيتعين على الأصح

يعني: أن تخيير المشتري بين ما ذكر مشروط بكون البائع أبا من قبول المبيع على حاله بلا أرش، فإن قبله البائع بالحادث من غير أرش ارتفع تخيير المشتري وتعين رد المعيب، إلا أن يتمسك به المشتري بغير أرش، هذا مذهب المدونة وهو الأصح، لأن العلة في تخيير المشتري إنما كانت لما يلزمه من الغرم للحادث، وقد ارتفع السبب وهو الغرم، فيرتفع مسببه وهو التخيير.

ص: 464

وقال ابن نافع، وعيسى بن دينار: التخيير باق للمشتري ولو ارتفع عنه الغرم عملاً بالاستصحاب، وهذا مقابل الأصح. وقال ابن كنانة: إن كان البائع مدلساً فالتخير باق وإلا فلا. عياض: وهو جيد في الفقه.

هذا أصل المذهب، والمختلف فيه لتحققها

أي: ما ذكره من التقسيم هو الأصل في المذهب، وإن اختلف في شيء فإنما هو خلاف في تحقيق مناط، هل هو من هذا أو من هذا.

ففيها: الوعك، والرمد، والحمى من الأول. وروى أشهب: من الثالث

أي: من الأول. يريد: ولا شيء عليه. و (من الثالث) أي: يخير. وليس في المدونة الوعك. وتبع المصنف في نسبة الوعك للمدونة المازري وابن شاس، ولعلهما رأيا أنه في معنى الحمى. وألحق فيها الكي، والدماميل، والصداع، وذهاب الظفر. قال فيها: وأما زوال الأنملة ففي الوخش خاصة.

وحمل الباجي قول ابن القاسم في الحمى على الخفيفة دون ما أضعف ومنع التصرف.

واختار اللخمي أن يوقف في الرمد والحمى حتى ينظر مآل أمرهما، كقول ابن كنانة في مرض العبد الحادث عند المشتري: أنه يوقف حتى ينظر هل يصح أو يموت. وقال ابن القاسم: يرده إلا أن يكون مرضاً مخوفاً.

ابن عبد السلام: ولم أقف على ذكر [475/ب] الرمد في رواية أشهب، وإنما نقل الباجي عنه الوعك والحمى ولم يذكر ذلك رواية، وإنما ذكره عن أشهب.

ص: 465

وفيها: العمى والشلل من الثالث. وقال ابن مسلمة: من الثاني

صرح المازري بمشهورية ما في المدونة، وقول ابن مسلمة أظهر، لأن العمى والشلل يبطلان المنفعة، وهذا هو تأويل الجمهور. وتأول عياض المدونة على الوفاق لقول ابن مسلمة، وقال: لا شك أن العمى فوت، وإنما ذكره أول الباب في العيوب المفسدة. خليل: وفيه بعد من جهة اللفظ، لكنه الظاهر من جهة المعنى.

وفيها: كبر الصغير من الثاني، وقيل: من الثالث

تصوره واضح، فرأى في المدونة أن كبر الصغير يصير نوعاً آخر، والقول الآخر لمالك في الموازية.

وعجف الدابة مثله، وهرم الرقيق مثله، وقيل من الأول

مقتضى كلامه أن المشهور في هرم الرقيق وعجف الدابة أنهما مفتيان، لأنه شبههما بكبر الصغير، وهو صحيح في الهرم، فإن المشهور- وهو مذهب المدونة- أنه فوت. وكذلك ذكر في الجواهر أيضاً في عجف الدابة، فقال: اختلف في عجف الدابة هرم العبد والأمة.

فالمشهور: أن ذلك من الضرب الثالث، ورآهما ابن مسلمة من الضرب الأول. والضرب الأول في كلامه هو الثاني في كلام المصنف، والأول في كلامه هو المفيت. وكذلك نص اللخمي على إلحاقه بالهرم، لكنه شرط فيه أن لا يرجى ذهابه، وفيه شيء، فقد قال أصبغ: لم يختلف قول مالك أن عجف الدابة مما يخير فيه المشتري.

وزاد المصنف في الهرم قولاً ثالثاً: بأنه من الأول، أي: فيرد ولا شيء عليه إن تمسك ولا شيء له. وهذا لم أقف عليه ولاحظ له في النظر. وكذلك قال ابن راشد: إنه لم يقف عليه.

ص: 466

فرع:

وما حد الهرم؟ ذرك أبو بكر الابهري عن مالك: أن ذلك إذا ضعف وذهبت قوته ومنفعته أو أكثرها. وقال عبد الوهاب: إذ هرم هرماً لا منفعة فيه فإنه فوت.

الباجي: والصحيح عندي إذا ضعف عن منفعته المقصودة ولم يمكنه الإتيان بها، أن ذلك فوت ويرجع بقيمة العيب.

ووطء الثيب من الأول، وقيل: من الثاني. وافتضاض البكر من الثالث

القول بان وطء الثيب من القسم الأول هو المشهور عن مالك وأصحابه، قاله المازري. والقول الثاني لابن وهب، وابن نافع، وأصبغ.

وأما وطء البكر: فهو عند مالك من الثالث. وقيده الباجي بالعلي، وأما الوخش فذلك لا ينقصها بل يزيدها. وهكذا نقل المازري عن بعض المتأخرين أنه قال: لا شيء عليه وطء الوخش.

وتزويج الأمة مشهورها من الثالث

أي: أن من اشترى أمة فزوجها ثم اطلع على عيب قديم، ففيها ثلاثة أقوال:

الأول: أنه من القسم الأول، فيرد ولا شيء عليه، أو يتمسك ولا شيء له. نقله المازري عن بعض المتأخرين، وأخذه أيضاً من قول ابن القاسم في العتبية: أنه إذا اشترى جارية ثم اطلع فيها على عيب بعد أن تزوجها وولدت، أنه إن اختار ردها بالعيب لم يرد قيمة عيب النكاح الحادث عنده. قال: إلا أن يقال: إنما قال ذلك لزيادة الولد، فيكون ولدها جبر عيب النكاح.

القول الثاني: أنه من المفيت. وهذا أجراه اللخمي على قول ابن مسلمة، فقال: وعلى قول ابن مسلمة في العبد إذا عمي أو ذهبت يده النكاح فوتاً ويرجع بقيمة العيب

ص: 467

ولا يرد، لأن النكاح يبطل الغرض منها إن كانت من جواري الوطء، وإن كانت من الوخش فمن أجل تردد الزوج إليها أو ترددها إليه، وإن شرط الزوج أن يتبوأ بيتاً فأبين.

والقول الثالث، وهو المشهور: أنه من القسم الثالث.

وفي جبره بولد قولان

يعني: إذا فرعنا على المشهور فولدت، فهل يجبر الولد عيب التزويج؟ قال ابن القاسم في المدونة: يجبره ويرد ولا شيء عليه. وقال مالك، وأشهب: لا يجبره. وأكثرهم يصوب قول مالك وأشهب، لأن قول ابن القاسم يشبه قول الشافعي: أو الود غلة. ورد ذلك اللخمي: بأنه لم يحكم بذلك، لأنه لا خلاف أن ولد الحرة من العبد حر، وولد الأمة من الحر عبد، وولد المعتق بعضها بمنزلتها، وولد المدبرة مدبر. ولو كان الولد غلة لبطل ذلك، وإنما رآه من باب:((لا ضرر ولا ضرار))، لأن الأم إذا عادت بالولد على مثل القيمة الأولى لم يكن عليه ضرر. وعلى الجبر، فالذي فهمه الأكثر وهو الصحيح: أنه إنما يجبر إذا كانت قيمة الولد تساوي قيمة عيب النكاح فأكثر، وأما إن كانت قيمة الولد أنقص، فلابد أن يرد مع الولد ما بقي. وفهم ابن المواز أن ابن القاسم يقول: إن الولد يجبر وإن كانت قيمته أنقص، وجعل ذلك سبب رجحان قول أشهب.

وحادث بيع التدليس إن كان من التدليس- كقطع يده من السرقة، وقتله من حرابة، وموته من حمى، أو كان سماوياً، أو بتصرف معتاد في مثله، وهو من الثالث فيهما- فهدر، وإلا فتخييره

يعني: أن من اشترى شيئاً رقيقاً أو غيره دلس له البائع بعيب فيه فحدث بسبب العيب في المبيع حادث، ومثله بثلاث صور، الأولى: أن يكون البائع دلس بعيب السرقة فسرق عند المشتري فقطعت يده. الثانية: أن يدلس بعيب الحرابة فيقتل بها. الثالثة: أن بالحمى فيموت بها.

ص: 468

قوله: (أو كان سماوياً) اسم كان عائد على الحادث، أي: لم يحدث بسبب عيب التدليس، كما لو دلس بالإباق [476/أ] فأبق فمات. وهذا مقيد بأن يكون الحادث في زمان عيب التدليس كما مثلنا. وما ذكره المصنف في السماوي: من أن المشتري يرجع بجميع الثمن، هو المشهور، لأن الإباق هو الذي حال بينه وبين منافعه.

وقال ابن دينار: يرج بأرش الإباق خاصة، بخلاف ما لو هلك بسبب الإباق، كما لو اقتحم نهراً فهلك، أو تردى فهلك، أو دخل موضعاً فنهشته حية. ابن حبيب: وبالمشهور قال جميع أصحاب مالك.

قوله: (أو بتصرف معتاد) كما لو اشترى مقطعاً فقطعه قميصاً أو سراويلات، ولو قطعه قلانس لكان تصرفاً غير معتاد. وأطلق في التصرف المعتاد وهو مقيد بألا ينتفع به، وأما لو انتفع به، مثل: أن يشتري ثوباً فيلبسه لبساً ينقصه، فإنه يرد مع الثوب قيمة اللبس، لأنه صون به ماله. ولو اشترى أمة فافتضها، فالرواية أنها كاللبس. وقال ابن الكاتب: لا يلزمه قيمة الافتضاض كقطع الثوب.

قوله: (وهو) عائد على الحادث. وقوله: (فيهما) عائد على السماوي والتصرف المعتاد. وقوله: (فهدر) جواب للشرط، والجملة الشرطية جواب عن قوله:(وحادث بيع التدليس). والهدر: الذي لا شي فيه.

وحاصله: أن ما حصل بسبب التدليس لا يفصل فيه، وما حدث بسماوي أو بتصرف معتاد، فإن كان من الثالث فهدر، وإلا فكغير الحادث من التدليس، ويعمل فيه على ما تقدم.

وتبع المصنف في قوله: (وهو من الثالث) ابن شاس، وهو قيد ليس بظاهر، لأن السماوي سواء كان مفيتاً أو لا يرجع فيه بجميع الثمن على المشهور كما تقدم.

ص: 469

وأما التصرف المعتاد: فإن لم يكن من الثالث بل من المفيت فليس بمعتاد. فالتقييد بالمعتاد يغني عن التقييد بكونه من الثالث. فإن قلت: هذا إنما يأتي إذا حملنا قوله: (أو كان سماوياً) على أن ذلك السماوي حدث في زمان الإباق كما ذكرنا. ولم لا حملت ذلك على ما إذا لم يكن في زمان الإباق. فالجواب: لا يصح حمله على ذلك، لأنه مخالف للمنقول، لأن في المدونة: وما حدث من غير سبب عيب التدليس فلا يرده إلا مع ما نقصه.

فروع:

الأول: لو ادعى المدلس أن المشتري علم بالعيب ورضيه، ففي المدونة: ليس له أن يحلف المبتاع إلا أن يدعي علم رضاه لمخبر أخبر، أو يقول: قد بينته له فرضيه. قال فيها: وكذلك إن قال له احلف أنك لم تر العيب عند الشراء، فلا يمين عليه حتى يدعي أنه أراه إياه فيحلفه.

ورأي أشهب: أنه ليس له أن يحلفه وإن ادعى علم رضاه لمخبر أخبره، لأنه قد يكذب ليتوصل إلى غرضه، وصوبه اللخمي.

ابن أبي زمنين: وعلى الأول فيحلف أولاً البائع لقد أخبره مخبر. بعض شيوخنا: ويزيد مخبر مصدق.

المازري: ولو ذكر المخبر وأحال على حاضر لاستغنى عن اليمين.

ابن يونس: وإن كان المخبر مسخوطاً.

الثاني: إذا أبق العبد عند المشتري بقرب الشراء، وقال المشتري للبائع: أخشى أنه لم يأبق بقرب البيع إلا وقد أبق عندك فاحلف لي. ففي المدونة: لا شيء عليه. وما جهل أمره، فهو على السلامة حتى يقوم ببينة.

اللخمي: والمسألة على ستة أوجه: إن قال: يمكن أن يكون سرق عندك أو أبق ولم يحصل ذلك عنده. أو يقول: أخبرت أنه سرق عندك أو أبق فاحلف أنه لم يثبت مثل ذلك عندك.

ص: 470

أو يقول: سرق عنيد أو أبق فاحلف أو أبق فاحلف أنه لم يحدث مثل ذلك عندك. أو يعلم أنه سرق عند المشتري أو أبق، فيقول: احلف أنه لم يكن مثل ذلك عندك. أو يقول: علمته أنه حدث مثل ذلك عندك فعليه اليمين في هذا القسم، لأنه اجتمع فيه الوجهان ثبوت السرقة أو الإباق، ودعوى العلم أنه فعل مثل ذلك عند البائع. ولا يمين في القسم الأول، ولا خلاف في هذين، واختلف فيما سوى ذلك.

الثالث: إذا أقر ببعض العيب وكتم بعضه، كما لو قال: أبق عندي شهراً وكان قد أبق سنة وهلك في الإباق، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن: إن هلك في المقدار الذي بينه فلا يكون كالمدلس، وإنما يرجع عليه بقيمة العيب، وإن هلك في المقدار الذي دلس به فيرجع بجميع الثمن، وكذلك إذا ذكر أقرب من المسافة التي أبق إليها.

ابن يونس: وقال غيره من أهل بلدنا، إذا قال: أبق عندي مرة وكان أبق مرتين، وأبق عند المشتري وهلك بسبب الإباق، فإنه يرجع بقدر ما كتمه، بخلاف التدليس بجميع الإباق. وقال غيره: إن بين له أكثر العيب الذي هلك بسببه، رجع المشتري بجميع الثمن.

فلو باعه المشتري فهلك بعيب التدليس، فقال ابن القاسم: يرجع الثالث على الأول بجميع الثمن، فإن زاد فللثاني، وإن نقص كمله الثاني

أي: فلو باع المشتري العبد الذي دلس به عليه البائع ولم يعلم بعيب التدليس وأبق عند المبتاع الثاني ومات، قال المازري، وابن شاس، والمصنف، فقال ابن القاسم: يأخذ الثالث الثمن من الأول، أعني: الذي كان أخذه من الثاني، فإن كان مساوياً للثمن الأول فلا إشكال، وإن كان أنقص منه كمله الثاني، وإن كان أكثر أخذ الثالث منه مقدار ثمنه وأخذ الثاني بقية ذلك. وصرح المازري، وابن شاس: بأن الثالث يأخذ جميع الثمن وإن زاد على ما دفعه الثالث للثاني.

ص: 471

خليل: وفيه نظر، إذ ليس بوكيل للثاني على الزيادة وقد يبرئه منها.

ومن حجة المدلس أن يقول للثالث: معاملتي لم تكن معك ولو الثمن الذي [476/ب] خرج من يدك لما كان لك علىَّ مقال فلا يكون لك غيره.

ووجه المازري هذا القول: بأن ابن القاسم قدر أنه وإن لم يدلس عليه من باشر البيع له فإن المدلس على من باع منه يقدر مدلساً عليَّ فأنت سبب إتلاف الثمن علىَّ. وظاهر ما نقله المازري، وابن شاس، والمصنف: أن الثالث إنما يرجع ابتداء على الأول.

والذي نقله في الموازية من رواية أصبغ، ونقله ابن يونس وغيره: أنه إنما يرجع على الأول إذا كان الثاني عديماً، وقاله سحنون وغيره. فلعل كلام المصنف والمازري مقيد بهذا، ولابن القاسم قولان.

وصرح المازري وابن شاس: بأنه إذا نقص عن ثمن الثاني أن الثاني يكمله. وهو خلاف ما في النوادر. وابن يونس عن ابن القاسم: أنه إذا أخذ من الأول الثمن فلم يكن فيه إلا أقل من الثمن الآخر، فليس له غيره ولا يرجع بتمامه على بائعه، إذا لم يدلس إلا أن يكون الثمن الأول أقل من قيمة العيب من الثمن الثاني فليرجع على بائعه بتمام قيمة عيبه.

ابن عبد السلام: وإنما الذي يقرب من كلام المؤلف- وإن لم يكن هو- ما قاله سحنون: إذا أخذ الثمن من الأول في عدم الثاني فلم يكن فيه مثل رأس مال المشتري، فإنه يرجع على البائع الثاني بالأقل من تمام ثمنه أو قيمة العيب من ثمنه.

وقال أصبغ: يرجع على الأول بقيمة العيب ويأخذ الثاني بقية الثمن

يريد، وقال أصبغ: إذا كان الثاني عديماً يؤخذ الثمن من الأول فيدفع إلى الثالث منه قيمة العيب التي يستحقها على الثاني لو انفرد به، وتسلم بقيته للأوسط. وهكذا نقل

ص: 472

المازري، وابن يونس، وابن شاس. وإلى دفع البقية للأوسط للأوسط أشار المصنف بقوله:(ويأخذ الثاني بقية الثمن).

ابن يونس: ووجهه أن الأول مدلس بعيب هلك العبد بسببه فوجب أن يرد الثمن على بائعه. أصله: لو أبق عند الثاني، وأما الثاني فلم يدلس في الثالث فلم يجب له إلا قيمة العيب من ثمنه، فإذا أخذه من بائعه الأول فلا كلام له. وليس هو قول أصبغ، وإنما رواه عن ابن القاسم. وهذا تقرير هذا المحل.

وما ذكره ابن راشد: أن مراد المصنف أن الثالث بعد أن يأخذ قيمة العيب من الأول يأخذ بقية الثمن من الثاني ليس بظاهر، ولعل ذلك لأن في نسخته:(بقية الثمن) والصواب: (بقية) كما ذكرنا.

وقال محمد: يرجع الثالث، إما على الثاني بالأرش فيكون على الأول للثاني الأقل مما غرم وكمال الثمن الأول. وإما على الأول بالأقل من الأرش وكمال الثمن الأول فلا يكون على الأول للثاني شيء ....

أي: يرجع الثالث على الثاني إن تأتي له الرجوع عليه بأرش عيب التدليس، ثم يكون على الأول لهذا الثاني الأقل من الأرش أو كماله ثمنه. مثاله: لو باعه الأول بمائة والثاني بمائة وعشرين، وكان الأرش خمسين، فيبقى بيد الثاني سبعون، فيرجع بثلاثين تمام مائته. ولو كان الأرش ثلاثين لرجع بعشرة تمام ثمنه، لأنه إن كان تمام الثمن الأقل فقصاراه أن يكون العبد هلك، ولو هلك عنده لما كان عليه إلا الثمن الذي أخذ منه، وإن كان ما غرمه أقل لم يرجع بغيره، لأنه لولا الغرم لما توجه له رجوع. وإن لم يتأتى للثالث على غريمه رجوع فيرجع على الأول، لأنه غريمه فيلزم أن يدفع له أقل الأمرين المذكورين، لأنه قصارى ما يلزم الأول للثاني.

ص: 473

وتحصيل هذا القول عند ابن يونس: أنه لا يغرم الأول للثالث إلا ما كان يرجع به على الثاني لو غرم الثاني للثالث قيمة العيب، وهو الأقل من قيمة العيب من ثمن الثالث أو من ثمن الثاني، أو تمام رأس مال الثاني. قال: وهو الذي أراد محمد.

خليل: وفي كون الثالث لا يرجع عليه إلا بأقل الأمرين نظر. والظاهر: أنه يرجع عليه بمجموع الثمن الذي أخذه لتدليسه. والله أعلم.

وإذا أحدثت زيادة كالصبغ أخذ الأرش أو رد وكان شريكاً بما زاد، لا بقيمته ولا بمساو، دلس أو لم يدلس ....

أي: أن من اشترى ثوباً فصبغه فزادت به قيمته ثم اطلع على عيب، فإنه يكون مخيراً بين أن يأخذ قيمة العيب ويتماسك بالثوب، أو يرده على بائعه ويكون شريكاً معه في الثوب بما زاده الصبغ، وسواء دلس البائع هنا أو لم يدلس.

مثاله: لو كانت قيمته بلا صبغ عشرة، وبالصبغ اثني عشر فيكون شريكاً بالمسدس.

واختلف الشيوخ هل تعتبر هذه الزيادة يوم البيع كما يعتبر النقص وهو اختبار ابن يونس، أو لا تعتبر إلا يوم الحكم وهو قول ابن المواز والقابسي.

وقوله: (كان شريكاً بما زاد) كذلك قال سحنون: فيمن ألقت الريح ثوبه في قصرية صباغ.

فرع:

فلو كان الصبغ منقصاً في مسألة البيع كان له ردها بغير غرم إن كان البائع مدلساً، أو حبسها وأخذ الأرش، وإن كان غير مدلس كان كعيب حدث، وقد تقدم حكمه قاله في الجواهر.

والصبغ بكسر الصاد: هو ما يصبغ به وهو مراد المصنف، وأما بالفتح فهو المصدر.

ص: 474

وأشار بقوله: (لا بقيمته) إلى مخالفة هذا الاستحقاق، فإنه إذا اشترى ثوباً فصبغه، ثم استحق من بيده فأبى البائع أن يعطي قيمة الصبغ وأبى المشتري أن يعطي قيمة الثوب، فالمشتري يكون شريكاً بقيمة الصبغ. وفرق بأنه في الاستحقاق أخذت من يده قهراً فكان شريكاً بالقيمة، إذ قد لا يزيد الصبغ فيمضي [477/أ] باطلاً، بخلاف العيب فإنه يخير فيه. وذكر المازري عن بعض الأشياخ: أنه جعل الرد بالعيب كالاستحقاق.

وقال أصبغ في العامل في القراض يصبغ الثوب من عنده فلم يعطه رب المال ما صبغه به، أنه يكون شريكاً بما أدى. وفرق بأن له حصة في السلعة وهو مأذون له في تنمية المال، فكأنه صبغه بإذن ربه. وقالوا فيمن دفع ثوبه إلى صباغ فأخطأ وصبغه بغير ما أمر به واعترف الصباغ بذلك: أن له أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ ثوبه، أو يضمنه قيمته يوم قبضه كالغاصب والسارق. وقالوا في الغاصب والسابق يصبغان الثوب: يخير ربه في إعطاء قيمة الصبغ أو يضمنها قيمة الثوب غير مصبوغ، ولا يكونان شريكين لتعديهما.

واعلم أن المصنف إنما نص على قوله: (دلس أو لم يدلس) تنبيهاً على أن التدليس لا فرق بينه وبين غيره هنا، وإن كان يفترق في مسائل أخرى.

قال جماعة: والمسائل التي يفترق فيها حكم المدلس من غيره خمس، الأولى: إذا صبغه صبغاً ينقص به، فإن كان البائع غير مدلس فذلك عيب حادث عند المشتري، فيخير إما أن يرد ويعطي أرش ما حدث عنده، أو يتماسك ويأخذ ارش القديم، وإن كان البائع مدلساً لم يكن على المشتري للنقص شيء.

والثانية: أن يحصل عيب أو عطب من العيب الذي باعه به، مثل: أن يكون ابقاً فيأبق عند المشتري، أو سارقاً فيسرق وتقطع يده. فإن كان البائع مدلساً كان ما أصابه عند المشتري منه، وإن لم يكن مدلساً فالضمان في ذلك على المشتري.

ص: 475

والثالثة: أن يبيع الرجل سلعة وبها عيب، ثم يشتريها من المشتري بأكثر مما باعها به، فإن كان البائع مدلساً لم يكن له رجوع على المبتاع، وإن كان غير مدلس رجع عليه بما زاده على الثمن.

والرابعة: إذا دلس بعيب في سلعة فردت عليه، لم يلزم السمسار أن يرد الجعل، بخلاف ما إذا لم يدلس.

والخامسة: من باع البراءة ما يجوز بيعه بالبراءة، فإنه يبرأ مما لم يعلم به، ولا يبرأ مما علم ودلس به. والله أعلم.

ويقوم القديم والحادث بتقويم المبيع يوم ضمنه المشتري

لما ذكر حكم النقص والزيادة تكلم في كيفية التقويم بهما وفي وقته.

وقوله: (بتقويم المبيع) أي: لا يقومان بانفرادهما، وإنما يقال: كم قيمة المبيع بالعيب القديم، وكم قيمته بالحادث. و (يوم ضمنه) معمول ليقوم، أي: يقوم بالعيبين إذا احتيج إلى قَيمتها معاً، وإلى قيمة القديم وحده يوم ضمن المشتري المبيع، لا يوم الحكم ولا يوم العقد، ولا يفصل فيقال: يقوم القديم يوم ضمان المشتري والحادث يوم الحكم، خلافاً لابن المعذل، وسيأتي.

فإن أمسك قوم صحيحاً والعيب القديم

أي: فإن اختار المشتري التمسك بالمبيع وأخذ قيمة القديم حيث يكون له التخيير، فإن المبيع يكفي فيه حينئذ تقويمان، يقوم صحيحاً، ثم معيباً بالقديم. فمهما نقص أخذ نسبة النقص من الثمن.

الباجي: مثل أن تكون قيمتها سالمة عشرة وبالعيب ثمانية، فيعلم أن العيب خمس الثمن، فيرجع على البائع المشتري، فإن كان اشتراه بخمسة عشر رجع عليه بخمسها وهي ثلاثة.

ص: 476

وإن رد قوم ثالثاً بهما

أي: وإن اختار الرد قوم تقويماً ثالثاً بالعيبين معاً- القديم والحادث- فما نقصته القيمة الثالثة عن القيمة الثانية حسب ذلك من القيمة الأول ورد المشتري على البائع تلك النسبة من الثمن. وهكذا قال الباجي، فإنه قال بعد الكلام الذي ذكرناه: فإن أراد الرد فإن القيمتين لابد منهما، فإذا تقدمتا جعلت قيمة السلعة بالعيب القديم أصلاً، ثم يقومها قيمة ثالثة بالعيبين القديم والحادث، فيرد من ثمن المبيع بقدر ذلك.

وذلك كما لو قيل في مسألتنا: إن قيمتها بالعيبين ستة. فيعلم أن العيب الحادث عند المشتري نقص من قيمة المبيع بعيبه الربع فيرجع من ثمنه بذلك، وقد علمنا أن الباقي بعد البيع الأول اثنا عشر فيرد مع العبد ربع ثمنه بالعيب القديم، وذلك ثلاثة. هذا معنى ما ذكره ابن القاسم في المدونة وغيرها. انتهى. وإن شئت قلت: يرد خمس الثمن.

ومثاله أيضاً: لو كان يساوي صحيحاً مائة، وبالعيب الأول ثمانين، وبالثاني ستين وكان الثمن مائتين، فإما أن يتمسك ويأخذ أربعين، وإما أن يرد ويعطي أربعين. وهكذا نص عليه ابن يونس، ومحمد، والمازري، وصاحب المقدمات.

فإن كانت زيادة قوم رابعاً بالجميع، وكان شريكاً بنسبة ما زاد عليها

كلام المصنف يقتضي أنه مع حدوث الزيادة لابد من أربع قيم، وفيه تفصيل، لأنه إن تمسك فلا يحتاج إلى تقويمين، يقوم صحيحاً، وبالعيب القديم ليرجع المشتري على البائع بما يقابله. ولم يتكلم المصنف على هذا لوضوحه، وإنما تكلم على الرد لأن قوله:(فإن حدثت زيادة) مفرع على قوله: (فإن رد قوم ثالثاً).

وما ذكره المصنف من الأربع قيم نحوه في المازري، فإنه قال بعد أن فرض أن الزيادة التي زادها المشتري خياطة، وإن كان العيب الذي حدث عند المشتري هو قطع الثوب،

ص: 477

أعني: إذا كان البائع غير مدلس أو كان مدلساً لكنه قطعه غير القطع المعتاد كما قدمناه. ويقال: ما قيمة هذا الثوب لا عيب فيه؟ فإن قيل: وما قيمته وبه العيب الذي كان [477/ب] عند البائع؟ فإن قيل: تسعون. قيل: وما قيمته مقطوعاً؟ قيل: ثمانون. قيل: وما قيمته مخيطاً؟ فإن قيل: تسعون. فقد علمت أن العشرة التي وجبت على المشتري لنقص القطع قد جبرها ما فعل من الخياطة، فلا يكون على المشتري قيمة نقص القطع. وإن قيل: قيمته مخيطاً خمسة وثمانون. فقد جبرت الخياطة نصف مقدار العيب، ويطالب بمقدار نصف عشر الثمن. وإن قيل: ثمنه مخيطاً خمسة وتسعون. فقد جبرت الخياطة قيمة النقص وزادت على ذلك خمسة دنانير وهي نصف العشر، فيكون المشتري شريكاً في الثوب بمقدار ذلك.

وقال ابن عبد السلام: فيما ذكره المصنف نظر. ولا احتياج على تقويمه صحيحاً، بل ذكر التقويم صحيحاً يوهم أن يكون البائع شريكاً بقيمته صحيحاً. ولا يصح لأنه إنما خرج من يده معيباً، وكذلك أيضاً لا احتياج إلى تقويمه بالحادث، لأن الزيادة إنما تظهر بعد بجبره بالصنعة المزيدة. فلو شارك المشتري البائع بما زادته الصنعة على مجموع العيبين مع أن العيب الثاني إنما حدث في ملك المشتري، لكان في حيف على البائع. نعم يحتاج إلى ثلاث قيم إذا شك في الصبغ هل يجبر الحادث، أم لا؟ فالذي يوجبه النظر أن يقوم بالعيب القديم وحده، لأن ذلك هو الذي خرج من يد البائع، ثم يقوم بالصنعة الحادثة، فإن وقعت زيادة على ذلك في مثل تلك الزيادة تكون الشركة الواجبة للمشتري مع البائع.

خليل: وفيه نظر، لأنه لابد من تقويمه بالعيب الحادث ثم بالصنعة، ليعلم هل تلك الصنعة تجبر العيب الحادث أم لا، وقد سلم أنه يقوم بالعيب القديم، فهذه ثلاث تقويمات.

ص: 478

وقوله: نعم قد يحتاج إلى ثلاث قيم إذا شك. يقتضي أنه قد يستغنى عن بعض هذه الثلاث ولا يمكن ذلك، وحينئذ إنما ينتفي تقويمه صحيحاً.

وجوابه: أنه لا يعلم العيب القديم إلا بتقويمه صحيحاً، ولو كان كما قال، لزم فيما إذا لم يحدث زيادة ألا يقوم إذا أراد المشتري الرد إلا تقويمين، يقوم بالعيب القديم، إذا لم يحدث زيادة ألا يقوم إذا أراد المشتري الرد إلا تقويمين، يقوم بالعيب القديم، ثم بالحادث، ويرد نسبته لأنه لا احتياج إلى تقويمه صحيحاً، لأن السلعة لم تخرج من يد البائع إلا معيبة. ولا خفاء في عدم ذلك كما صرح به الباجي والمازري وغيرهما. والله أعلم.

وقيل: يقوم الحادث يوم الرد

هذا قول أحمد بن المعدل بناه على أن الرد بالعيب فسخ بيع.

وإذا تعدد البائع، جاز رد حصة أحدهما

يعني: إذا باع رجلان فأكثر سلعة أو سلعاً على الشركة فاطلع المشتري على عيب، فله أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر، ولا مقال لمن رد عليه، لأن ملكه تبعض ابتداء.

وفي رد أحد المشتريين قولان

اختلف إذا تعدد المشتري واتحد البائع، هل لأحد المشتريين الرد دون الآخر قياساً على تعدد البائع أو لا، لأن في التشقيص ضرر على البائع؟ ورجع مالك إلى الأول. ابن القاسم: وهو أبين، إذ لو فلس أحدهما لم يتبع إلا بنصف الثمن. وأخذ أشهب بالثاني، فقال: ليس لهما إلا أن يرد أو يحبسا. والقولان في المدونة. ومنشأ الخلاف: هل العقد يتعدد بتعدد المبتاع كما لو تعدد بتعدد البائع أو لا؟ وإذا فرعنا على الرواية التي اختارها أشهب ولم يرض البائع بتبعيض الصفقة، فقال ابن وهب: إذا أراد أحدهما الرد وأبى الآخر تقاوما، لأن البائع لا يقبله إلا كله. وقال ابن المواز: للمتمسك أخذ نصيب الرادَّ.

ص: 479

وحكى عبد الوهاب عن المذهب: إذا أبى أحد المتبايعين من الرد مع صاحبه لم يكن لصاحبه الرد، وكان له الرجوع بقيمة العيب.

الباجي: وهكذا يجب أن يكون الصحيح من المذهب مثل ما حكاه ابن القاسم عن مالك في الذي يشتري عبداً فيبيع نصفه ثم يطلع على عيب فيريد الرد، فإنه يخير البائع إما أن يقبل النصف الباقي أو يدفع قيمة نصف العبد.

الباجي: وهذا مقتضى القياس. وعلى قول أشهب يحتمل أن يكون معنى قوله: إما أن يردا جميعاً أو يمسكا جميعاً، ولم يبين إذا رد أحدهما.

وإذا تعدد المبيع، فإن كان المعيب وجه الصفقة أو كأحد الخفين فكالمتحد

لما تكلم على تعدد البائع والمشتري تكلم على تعدد المبيع، أي: إذا وجد عيباً في وجه الصفقة، أو بأحد الشيئين الذي لا يستغني أحدهما عن الآخر كأحد الخفين، وكذلك الأم مع ولدها، لأن الشرع منع من التفرقة بينهما فكالمتحد، فليس له إلا رد الجميع. ولهذا كان الصحيح فيمن استهلك أحد المزدوجين وجوب قيمتها.

واختلف فيمن استهلك سِفْراً من ديوان أو سِفْرَين، فقال بعضهم: يرد السالم وما نقص. وظاهر كلام عبد الوهاب في شرح الرسالة عند ذكر النعلين: أنه يغرم الجميع.

وإلا فليس له رد المعيب بحصته يوم عقده

هذا ظاهر، ونص ابن المواز على أن وجه الصفقة ما زاد على النصف، وهو معنى ما في المدونة على ما نص عليه ابن يونس، وهذا إنما هو فيما عدا المثليات، وأما المثليات فلها حكم آخر سيأتي.

ص: 480

فإن كان الثمن سلعة، فقيمة الحصة التي قابلت المردود لا جزءها على الأصح، لضرر الشركة ....

مثاله: لو اشترى ستة كتب بدار ثم اطلع على عيب في أحدها ورده، فإنه يرجع بنسبته من قيمة الدار لا في جزء الدار على الأصح. فلو [478/أ] كانت الدار تساوي ستمائة وكل كتاب يساوي مائة فعلى الأصح يأخذ مائة، وهو مذهب المدونة والمشهور. وعلله المصنف بضرر الشركة، أي: على تقدير الرجوع في الدار. وعليه فهل تعتبر القيمة يوم البيع وهو ظاهر كلام المتقدمين، أو إنما تعتبر يوم الحكم وهو اختيار التونسي؟ ومعناه: إذا كانت قائمة يوم الحكم ولم تفت قبل ذلك، وعلى مقابله يرجع في سدس الدار وهو لأشهب في الموازية، وهو الأصل، ولاسيما إن كان المعيب النصف فإنه ينوبه من الثمن النصف، وليس تغليب حق البائع على المشتري أولى من العكس. وعلى هذا القول فهل ينقلب الخيار للبائع لما لحقه من ضرر الشركة؟ ذكر بعضهم في ذلك قولين.

وإذا تنازعا في العيب الخفي أو قدمه، فالقول قول البائع إلا أن تشهد العادة للمشتري فالقول قوله ....

قال في الجواهر: والنزاع في العيب في صورتين، الأولى: في وجوده، ولا يقبل دعوى المبتاع أن بالسلعة عيباً دون أن يبينه بالمشاهدة إن كان مشاهداً، أو بالبينة إن كان غير مشاهد.

الصورة الثانية: النزاع في قدمه وحدوثه لا يخلو إما أن يكون مما لا يحدث عند المشتري، أو مما يعلم أنه لم يكن عند البائع.

فالقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه، وأن يكون محتملاً فيثبته المبتاع بالبينة. ثم قال: فإن لم توجد البينة فالقول قول البائع مع يمينه، إذ الأصل لزوم العقد. وعلى هذا فقول المصنف في حدوث العيب إشارة إلى الصورة، أي: في وجود العيب الخفي. وأشار إلى الثانية بقوله: أو في قدمه.

ص: 481

وحمل ابن عبد السلام كلامه هنا على صورة واحدة، وهي: إذا تنازعا في القدم والحدوث. ورد الحمل الذي قلناه بأنه لو حمل كلامه الأول- أعني قوله: إذا تنازعا في الخفي- على ما إذا تنازعا في وجود العيب وعدمه، لزم أن يكون كلامه على خلاف ما نص عليه أهل المذهب: أن القاضي لا يلزم البائع الجواب عن قدم العيب وحدوثه، ولا غير ذلك من أحكامه حتى يثبت المشتري وجود العيب، أو يوافقه البائع عليه.

خليل: وفيه نظر، لأن ما ذكره المصنف من أن القول قول البائع إذا تنازعا في وجود العيب وعدمه لا خلاف فيه. وما ذكره من أن القاضي لا يُلزم البائع الجواب يدل له لا على خلافه، نعم هو شرط لما قاله.

وقوله في الجواهر: فالقول قول من قوى سببه منهما مع يمينه. يريد: إذا رجحت البينة قول أحدهما فقط، وأما لو قطعت البينة بالقدم أو الحدوث فلا يمين، نص عليه محمد.

فرع:

فلو أقام المبتاع شاهداً واحداً بقدم العيب حلف معه على البت ورجع، قاله ابن المواز، وابن القاسم، وابن نافع، والمخزومي. وقال ابن كنانة: لا يحلف معه. ومنشأ الخلاف: هل يقبل الشاهد الواحد فيما ليس بمال إذا كان يؤدي إلى المال أم لا؟.

واعلم أنه إنما يكون القول قول البائع في العيب المشكوك فيه إذا لم يصاحبه عيب قديم، أما إن صاحبه عيب قديم، فالقول قول المشتري أنه ما حدث عنده مع يمينه، لأن البائع قد وجب عليه الرد بالعيب القديم فصار مدعياً على المبتاع في الحادث، وبه أخذ ابن القاسم، وأشهب حسنه.

ومفهوم قوله في الخفي: أن الظاهر لا قيام للمشتري به لاطلاعه عليه، وهو قول ابن حبيب، وعليه يعتمد جماعة ممن صنف في الأحكام، ويعتمد عليه أصحاب الوثائق.

ص: 482

ومذهب المدونة عند جماعة: أنه لا يلزم المشتري سوى اليمين أنه لم يره وقت البيع ويحكم له بالرد، وهو الذي ذكره المتيطي، وقد أوجب في المدونة الرد في الزلاء والأقطع والأعور. وكثرة وقوع هذه المسائل وأشباهها يضعف تأويل من تأول على المدونة، لعل ذلك إنما كان في أمة أو عبد غائبين.

فرع:

وإذا تنازعا فادعى البائع أنه أخبره بالعيب أو أراه إياه وأنكر ذلك المبتاع، فإنه يلزم المبتاع اليمين، فإن حلف رد بالعيب، وإن نكل حلف البائع وبرئ منه، قاله الباجي.

وإن لم يوجد عدول قبل غيرهم للضرورة. قال الباجي: ولو كانوا غير مسلمين

أي: إذا احتيج إلى أرباب المعرفة في إثبات القدم والحدوث، فإن وجد عدول لم يعدل عنهم، وإلا فقال الباجي، والمازري وغيرهما: يقبل غيرهم ولو كانوا على غير الإسلام للضرورة.

وفي المتيطية: الواحد منهم أو من المسلمين كافٍ والاثنان أولى، إذ طريق ذلك الخبرُ لا الشهادةِ على المشهور المعمول به.

وقال محمد: لا يرد بعيب إلا ما اجتمع عليه عدلان من أهل النظر والمعرفة. ابن الماجشون: وإن كان العبد ميتاً أو غائباً فلا يثبت إلا بعدلين باتفاق أصحاب مالك من أهل المعرفة.

وفي الطرر: إذا شهد شاهد بعيب أنه أقدم من أمد التبايع، وشهد آخر أنه أحدث من أمد التبايع، فقال في الاستغناء: شهادتهما لا توجب حكماً بالرد إذا لم يتفقا على شيء واحد، وإن كان العيب لا يطلع عليه الرجال كالعيوب التي تكون في جسد الأمة أو في فرجها تثبت بشهادة امرأتين.

ص: 483

وقال سحنون: ما كان بالجسد بُقِرَ عنه الثوب ونظر إليه الرجال، وما كان في أحد الفرجين شهد فيه النساء.

ويمينه: بعته وأقبضته وما به من عيب. بتا في الظاهر، ونفيا للعلم في الخفي. وقال أشهب: نفيا للعلم فيهما ....

أي: إذا كان القول قول البائع مع يمينه فصفة يمينه: أن احلف أني [478/ب] بعته وما به عيب. ويزيد فيما فيه حق توفية: بعته وأقبضته. وعلى هذا فقوله: (بعته وأقبضته) للتفصيل، والواو بمعنى أو.

وقوله: (وما به من عيب) جارٍ فيهما، وبهذا صرح في الجواهر. وإنما قلنا: إن أقبضته خاص بما فيه حق توفية، لأن ما ليس فيه حق توفية ينتقل إلى ملك المشتري بالعقد فلا يحتاج إلى الحلف بأنه أقبضه سالماً، فلا يكلف بما لا يلزمه.

وفي قوله: (وما به من عيب) نظر، إذ لا يلزمه أن يحلف إلا على ما ادعاه المشتري من العيب المخصوص. وكذا قال غيره: أنه يحلف ما باعه وهذا العيب به في علمه.

وقوله: (في الظاهر) أي: كالعرج، وضعف البصر، والخرق في الثوب. والخفي: كالزنا، والسرقة، وهذا مذهب المدونة وهو المشهور.

وعن ابن القاسم، وابن نافع: أنه يحلف على البت فيهما، واحتج ابن نافع بأنه لو ثبت قدم العيب والبائع غير عالم لرد عليه ولم ينفعه عدم علمه، فلا ينفعه الحلف على عدم علمه. وأجاب المازري بأن البينة إذا أثبتت قدم العيب فقد ثبت السبب الموجب للرد ووجب حل البيع المنعقد، وإذا لم يثبت العيب وكان مشكوكاً فيه لم يجب حل المنعقد.

وقال أشهب: يحلف على نفي العلم فيهما. واحتج بأنه إن علم به فهو حانث، وإلا فلا يلزمه حتى يثبت قدمه فلا يحلف إلا على علمه. واختلف في يمين المشتري إذا نكل

ص: 484

البائع على ثلاثة أقوال، روى عيسى ابن القاسم: أنه يحلف على العلم في الظاهر والخفي، لأن التدليس يكون من جهة البائع دون المبتاع. وروى يحيي عنه: أنه كالبائع يحلف على البت في الظاهر وعلى العلم في الخفي، لأن الأصل في اليمين أن تنقلب على نحو ما توجهت، واختاره ابن حبيب. وقال ابن نافع، وابن أبي حازم: يحلف المبتاع على البت. ولو ثبت العيب فاختلف البائع والمبتاع في تاريخ البيع، فادعى البائع تاريخاً قديماً يكون العيب حادثاً بالنسبة إليه، وقال المشتري: إنما كان في تاريخ يكون ذلك العيب قديماً بالنسبة إليه. فقال ابن القاسم، وسحنون: القول قول البائع والمشتري مدَّعٍ. وذكر ابن حبيب اختلافاً في هذا الأصل.

ابن عبد السلام، وقوله: يحلف البائع لقد بعته. لا معنى له، لأن القاضي لا ينظر في أمرهما في هذه المسألة إلا بعد إقرار المدعى عليه بحصول البيع منهما، أو بعد ثبوته بالبينة.

خليل: وفيه نظر، لأن اليمين هنا ليست في حصول البيع، وإنما هي على وقوع البيع في حال عقد البيع والقبض فيما فيه حق توفيه.

ويرد النتاج دون الاستغلال وقيمة الانتفاع

يعني: إذا رد المبيع لعيب رد معه النتاج، وسواء اشتراها حاملاً أو حملت عنده، لأن الولد ليس بغلة دون الاستعمال، لما صححه الترمذي: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بأن الخراج بالضمان.

فائدة:

والمشتري لا يرد الغلة في خمسة مواضع: في الرد بالعيب، والبيع الفاسد، والاستحقاق، والشفعة، والتفليس.

ص: 485

وهذا إذا فارقت الثمرة الأصول، أما إن لم تفارق، فالمشهور: أنها لا ترد مع أصولها إذا أزهت ولم تجذ ولا يبست في الرد بالعيب وفي البيع الفاسد.

وأما الشفعة، والاستحقاق: فترد وإن أزهت ما لم تيبس، فإذا يبست لم يجب ردها. وفي التفليس: ترد ولو يبست ما لم يجذها.

وقيل في هذه المسائل: إن الإبار فوت. المازري: وكان بعض أشياخي يري أنه لا فريق بين هذه المسال، وأنه يخرج في كل واحدة ما هو منصوص في الأخرى.

وفي رد ثمرة ما اشتراه مأبوراً، أو صوف الغنم قولان

يعني: أن من اشترى نخلاً مؤبراً واشتراطه، أو اشترى غنماً عليها صوف تام، فجذ الثمرة وأخذ الصوف ثم اطلع على عيب، فقال ابن القاسم: يرد ما أخذه من ثمرة أو صوف، لأن لهما حصة من الثمن. وقال أشهب: لا يرد، لأنها غلة.

ابن المواز: واتفق ابن القاسم، وأشهب على عدم رد اللبن وإن كان في الضرع يوم البيع، وذلك خفيف. وعلى قول ابن القاسم، فيرد الثمرة إن كانت قائمة، وإن فاتت رد مكيلتها إن علمت، أو القيمة إن لم تعلم، وأمضاها ابن القاسم في الشفعة إذا لم تعلم بما ينوبها من الثمن. وعد ذلك سحنون اختلافاً من قوله. ونص ابن يونس في الصوف التام إذا لم يعلم وزنه أنه يرد الغنم بحصتها.

قال في المدونة: فإن ردت الثمرة كان لك أجر سقيك وعلاجك.

ابن يونس: يريد ما لم يجاوزه قيمة الثمرة.

الباجي: وعندي أنه لا يكون له من العمل إلا ما لولا الثمرة لم يعمله، لأنهم لم يذكروا في مسألة الغنم الرجوع بالرعي والسقي، وإنما يرجع بالجز عندي. قال: ولم أر فيه نصاً.

ص: 486

تنبيه:

وقع لابن القاسم أنه لو هلكت الثمرة المأبورة عند المشتري بأمر من الله تعالى لم يضمنها المشتري. فعارض هذا بعضهم بما قاله من أنه يرد الثمرة، لأن قوله: يرد الثمرة. يدل على أن لها حصة من الثمن. وقوله: أنه لا يضمنها. يدل على أنها غير مشتراة. واعتذر عن ذلك بأنه إنما لم يضمنها لكونها غير مقبوضة للمشتري، ولهذا منع أن تشترى النخل المؤبرة بطعام، لكون الثمرة يتأخر قبضها. وقال بعض المتأخرين: إنه يضمن الثمرة إذا اشتراها بعد الزهور وإن هلكت بأمر من الله سبحانه، قاله المازري.

ولو رده فتلف قبل إقباضه، ففي ضمانه قولان، بناء على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فعلى البائع، أو بيع الآن أو نقض الآن فعلى المشتري

[479/أ] أي: لو رد المشتري المعيب بحكم أو بغيره فتلف قبل قبض البائع له، فقيل: ضمانه من البائع، وقيل: من المشتري. ومنشأ الخلاف كما قال: هل الرد بالعيب نقض للبيع من أصله فيكون ضمانه من البائع، أو هو نقض الآن فيكون من المشتري.

قال في البيان: واختلف فيما يدخل به المردود بالعيب في ضمان البائع على أربع أقوال، الأول لأصبغ: يدخل في ضمانه بإشهاد المبتاع على العيب، وأنه غير راض به وإن لم يرض البائع بقبضه.

والثاني: أنه لا يدخل في ضمانه حتى يرضى بالقبض، أو يثبت العيب عند السلطان وإن لم يحكم، وهو الذي يأتي على مذهب مالك في الموطأ وقول ابن القاسم في شهادات المدونة.

والثالث: أنها لا تدخل وإن رضي، حتى يمضي من المدة ما يمكنه القبض فيه، وهو معنى قول مال في العتبية.

ص: 487

والرابع: لا يدخل في ضمانه حتى يقبضه، ولو مضى زمان يمكنه فيه القبض، وهو ظاهر العتبية أيضاً. قال: وهذا هو القياس على القول بأن الرد بالعيب ابتداء بيع، وأن على البائع فيه حق توفية دخل عليه مع علمه بأن المبيع قد يرجع إليه.

وزاد القابسي، فقال: ولم يعلم السمسار بتدليسه، وأما إن علم فله أجر مثله.

وقال ابن يونس: أرى أن يكون له ما سمى من الجعل، كما يكون للبائع المدلس الثمن لا القيمة، إلا أن يتعاقد مع البائع على التدليس فحينئذ يكون له أجر مثله، لأن رب السلعة قال له دلس، فإن ثم البيع فلك كذا وإلا فلا شيء لك، وهو غرر.

وزاد ابن سحنون قيداً آخر للمدونة، فقال: بشرط أن يكون الرد بقضاء قاض لا تبرعاً، ولو استحقت من يد المشتري رجع بالثمن ورجع بالجعل، وإن فاتت السلع بيد المشتري فوجب له الرجوع بقيمة العيب، رجع بتلك النسبة من الجعل.

وقال بعضهم على ما نقله ابن يونس متمماً لهذا: ولو اطلع المشتري على عيب بالمبيع عبد أن حدث به عيب يوجب له الخيار، فإن اختار التمسك والرجوع بأرش العيب القديم، فيرد السمسار من الجعل ما ينوب العيب، وإن رد المشتري السلعة وقيمة الحادث، فيرد السمسار الجعل إلا قدر ما ينوب العيب.

فرع:

إذا كان المبيع يحتاج إلى حمل ومؤنة، كالأزيار والخشب، فاستأجر المشتري على حملها، ففي المتيطية: إن ثبت أن البائع مدلس، لزمه أخذ المبيع حيث وجده ولم يكن على المبتاع رده حيث قبضه، وكذلك إذا ادعى المبتاع عليه التدليس فنكل عن اليمين.

وحكى اللخمي قولاً آخر: إن على المشتري أن يردها حيث قبضها منه، وصوب الأول. وإن كان البائع غير مدلس، بأن حمل المبيع إلى موضع قريب، لزمه رده إلى حيث أخذه، وإن نقله إلى موضع بعيد كان فوتاً يوجب له الرجوع بقيمة العيب بعد ثبوته.

ص: 488

وإذا صرح الوكيل أو علم، فالعهدة على الموكل

الأصل أن العهدة في الرد بالعيب والاستحقاق على متولي البيع إلا في الصورتين اللتين استثناهما المصنف، الأولى: أن يصرح بأنه وكيل. والثانية: أن يعلم كونه وكيلاً. هذا مذهب المدونة، لأن فيها: ومن باع لرجل سلعة بأمره من رجل فإن أعلمه في العقد أنها لفلان فالعهدة على ربها، فإن ردت بعيب فعلى ربها ترد وعليه الثمن لا على الوكيل. وإن لم يعلم أنها لفلان حلف الوكيل وإلا ردت السلعة عليه.

وما باعه الطوافون في المزايدة مثل النخاسين وغيرهم، أو من يعلم أنه يبيع للناس فلا عهدة عليهم في عيب ولا استحقاق.

وقال أصبغ: العهدة على المتولي إلا أن يشترط عند البيع ألا عهدة عليه. وهذا الخلاف في الوكيل غير المفوض، وأما المفوض عليه، لأنه أحل نفسه محل البائع، وكذلك المقارض والشريك المفاوض.

وأما القاضي والوصي، ففي المدونة: لا عهدة عليهما فيما وليا بيعه [479/ب] والعهدة في مال اليتامى، فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام.

وحمله اللخمي على ما يبيعه للإنفاق عليهم للضرورة، قال: وإن تجر الوصي لليتيم أتبعت ذمته كالوكيل المفوض.

وقال ابن المواز: الذي آخذ به في الوصي والوكيل المفوض أن عليهما اليمين، وإن ذكر أنه لغيرهما، إلا أن يشترط ذو الفضل منهما أن لا يمين عليه، فذلك له اتباعاً واستحساناً لقول مالك.

فرع:

فإن علم المبتاع بعد البيع أن المبيع لغير المتولي، فخيره مالك في الرد، أو على أن عهدته على الآمر، إلا أن يرضى الرسول أن يكتبها على نفسه فلا حجة للمشتري.

ص: 489

ابن المواز: وكذلك إذا ثبت أنه لغيره. وعارضه ابن يونس: بأن المذهب في الغاصب إذا باع ما غصبه ثم قام المغصوب منه ورضي بالبيع لا خيار للمشتري، ولم يدخل على أن العهدة على المغصوب منه. وأجاب: بأن ذمة المغصوب منه خير من ذمة الغاصب.

ورَدَّ: بأن هذا الحكم ليس مقصوراً على الغصب، بل ولا مقال للمشتري في إجازة المستحق.

وأجيب: بأنه خلف ذلك علة أخرى، وهي أن الاستحقاق قائم في جميع البياعات أو أكثرها، فصار كالعيب الذي يجهله المتبايعان، وما هذا شأنه لا يقام به، بخلاف الوكالة فإن احتمالها ضعيف، إذ الغالب أن المتولي هو المالك.

وانظر ما ذكره من انتقال العهدة وقابله بما قاله عياض في الاستحقاق، لما ذكر عن المدونة في مكتري الأرض فتستحق منه فيجيز المستحق الكراء، أنه يمضي ولا يكون للمكتري ترك الكراء، ويقول: إنما كانت عهدتي على الأول فلا أرضى أن تكون عهدتي عليك أيها المستحق، فقال هو: هذا كلام غير محصل. وقد عابه سحنون، وقال: ليس بصواب، ولو رضي بذلك لم تكن عهدته عليه، لأن العهدة لا تنتقل، كما لو باعه الغاصب فاستحقه سيده، فالعهدة على الغاصب لا تنتقل عنه، قاله مالك. انتهى.

فرع:

فإن سئل السمسار عن رب السلعة، فقال: لا أعرفه. فقال ابن أبي زمنين: يحلف أنه ما يعرف. كذا رأيت لكثير من أشياخنا. قال: وينبغي على أصولهم إن نكل عن اليمين واسترابه السلطان أن يعاقبه بالسجن على قدر ما يراه، إن شاء الله.

ص: 490

وفي النقيصة التي لا يتغابن بمثلها طريقان، الأولى: قولان، الخيار مطلقاً، والخيار لغير العارف بها ....

هذا يسمى القيام بالغبن، سواء كان المغبون بائعاً بائعاً أو مشترياً. والغبن: بفتح الغين وسكون الباء عبارة عن اشتراء السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله أو اشترائها كذلك، وأما ما جرت العادة به فلا يوجب رداً اتفاقاً.

والطريق الأول عبد الوهاب في المعونة. وحاصله: أنه لا خلاف في ثبوت الخيار لغير العارف، وفي العارف قولان.

الثانية: إن كان استسلم وأخبره بجهلة فأوهمه فله الرد، وإن كان عالماً غير غالط بالغبن فلا رد، وفي غيرهما قولان .....

هذه الطريقة للمازري، وحاصلها: إن استسلم، أي: أخبر أنه غير عارف بقيمتها، فقال له البائع: قيمتها كذا فله الرد، فإن كان عالماً بالمبيع وبثمنه فلا رد له، ولا خلاف في هذين القسمين، وفيما عداهما قولان.

ابن عبد السلام: ومشهور المذهب عدم القيام بالغبن. ولصاحب المقدمات طريقة ثالثة: إن وقع البيع والشراء على وجه الاسترسال والاستمانة، فالقيام بالغبن واجب بإجماع، كما لو قال: اشتر مني سلعة مثل ما تشتري من الناس. وإن وقع على وجه المكايسة فلا قيام بالغبن اتفاقاً، ولا بالغلط على المشهور.

ومعنى الغلط: أن يبيع شيئاً ثم يظهر خلافه، كما لو باع حجراً بالثمن اليسير فظهر أنه ياقوت أو بالعكس. والقول: بأنه يرجع بالغلط هو ظاهر ما في أقضية المدونة، والذي يشتري ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري أن البيع يرد. وهذا الخلاف في الغلط إنما هو إذا سمى الشيء بجنسه، كما لو قال في الياقوتة: من يشتري هذا الحجر؟ لأن الياقوت

ص: 491

يسمى حجراً، وأما لو سماه بغير اسمه، كقوله: من يشتري مني هذه الزجاجة؟ فلا خلاف في وجوب الرد، قاله صاحب البيان وغيره.

والغبن، قيل: الثلث. وقيل: ما خرج عن المعتاد

أي: واختلف في الغبن الذي يقام به، وتصور كلامه ظاهر. وقال ابن القصار: إذا زاد على الثلث فيكون ثالثاً.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين الغبن المتفق عليه والمختلف فيه، وظاهر كلام غيره أن الغبن المتفق على اعتباره لا يوصل فيه إلى الثلث ولا إلى ما قاربه، بل إذا خرج عن الثمن المعتاد في ذلك المبيع صح القيام به.

واختلف في عهدة الثلاث، وعهدة السنة، فروى المدنيون: يقضى بها في كل بلد. وروى المصريون: لا يقضى بها إلا بعادة أو بحمل السلطان عليها

العهدة خاصة بالرقيق، ومعناه: كون الرقيق المبيع في ضمان البائع بعد العقد، وهي عهدتان: قليلة الزمان كثيرة الضمان، وهي عهدة الثلاث، لأنه يضمن فيها كل شيء. وكثيرة الزمان قليلة الضمان، لأنه إنما يضمن ثلاثة أمراض: الجنون، والجذام، والبرص. واختلف في وجوب الحكم بها على القولين اللذين ذكرهما المصنف.

وفي البيان ثالث: [481/أ] لا يحكم بها وإن اشترطوها. قال: وهو قول ابن القاسم في الموازية. ومحمد بن عبد الحكم يرى عهدة السنة حراماً لا يعمل بها. انتهى.

وعلى رواية المدنيين يجب حمل الناس عليها، وعلى رواية المصريين فهل يستحب أن يحمل غير بلاد العهدة عليها؟ روى ابن القاسم: وددت أن يحمل الناس عليها. وروى أشهب: لا يحمل أهل الآفاق عليها وليتركوا على حالهم.

ص: 492

فائدة:

قال المتيطي: إحدى وعشرون مسألة لا عهدة فيها على المشهور، الأمة والعبد اللذان ينكح عليهما، والرأس المخالع به، والمصالح به في دم، والمسلم فيه، والمسلم به، والقرض، والغائب يشتري على الصفة، والمقاطع به من الكتابة، والذي يبيعه السلطان على مفلس أو غيره، والمشتري للعتق بشرط، والمأخوذ من دين، والمردود بالعيب، ورقيق الميراث، والعبد المرهون والأمة يشتريها زوجها، والعبد الموصى بشرائه للعتق، والعبد المكاتب به، والعبد الموصى ببيعه من زيد، والموصى ببيعه ممن أحب، والذي يباع بيعاً فاسداً. قال: وفي بعض ما ذكرنا تنازع بين مالك وأصحابه.

ففي الثلاث جميع الأدواء على البائع. والنفقة والكسوة بخلاف الغلة على المشهور

هذا ظاهر، وإنما كانت النفقة والكسوة عليه، لأن الضمان منه، ولذلك كان أرش الجناية له، قاله في المدونة.

ورأى ابن أبي زمنين أن البيع يفسخ هنا، لأن الحكم بالأرش موقوف على البرء، والبرء لا يعلم أمره، فلا يتأتى للمشتري انتفاع بالعبد من أجل وقفه للجناية.

قال: إلا أن يسقط البائع عن الجاني القيام بالجناية، فيزول المنع حينئذ لزوال الوقف.

قال: إلا أن تكون الجناية مهلكة فلا يجوز البيع، لأنه بيع مريض يخاف موته.

قال في المدونة في كتاب الخيار: وما وهب له في عهدة الثلاث من مال وتصدق به عليه فللبائع.

ابن حبيب: إلا أن يكون المشتري اشترط عليه ماله، فيكون ما وهب له أو تصدق به عليه للمشتري. ومقتضى هذا: أن تكون الغلة له، وجعل المصنف هذا غير المشهور، وهو قريب من كلامه في الجواهر. وفي نقلهما نظر، لأن في العتبية فيما ربح العبد في الثلاث، أو أوصى له به ولم يستثن المشتري ماله فهو للبائع.

ص: 493

المازري: والقاضي أبو محمد أشار في بعض كتبه إلى ارتفاع الخلاف في الغلة وأنها للمشتري، قال: ولكن المنصوص هنا أن ذلك للبائع.

وفي السنة الجنون، والجذام، والبرص، ومستندهما عمل المدينة

أي: ودليلنا على العهدتين عمل أهل المدينة. وفي الموطأ: أن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاث حين يشتري العبد أو الوليدة وعهدة السنة. ونقل ابن عبد البر: أن عمر بن عبد العزيز قضي بها. وبها قال الفقهاء السبعة. ابن شهاب: والقضاة مما أدركنا يقضون بها. وخرج أبو داود عن الحسن عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((عهدة الرقيق ثلاثة أيام)).

وذكر ابن أبي شيبة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عهدة الرقيق ثلاثة)). قالوا: ولم يسمع الحسن من عقبة، واختلف في سماعه من سمرة. وفي البيان: ضعف بعضهم حديث عقبة.

وابتداؤهما أول النهار من المستقبل، وقال سحنون: من حين العقد

قد تقدمت هذه ونظائرها في باب العقيقة. وظاهر كلام المصنف أن قول سحنون نص هنا.

والذي في الباجي والمازري: أنه مخرج على قوله في الصلاة، وهذا إذا كان البيع بتاً، فإن كان بيع خيار فمن يوم إمضاء البيع.

وفي تداخلهما قولان

القولان لمالك، والأقرب عدم التداخل.

ابن بزيرة: وهو المشهور، لأن الضمان في كل منهما غير الآخر فصارا كأجنبيين.

ص: 494

وقال بالتداخل ابن الماجشون، وهو قول ابن القاسم، فإن اجتمع مع ذلك استبراء، فقال ابن القاسم: عهدة الثلاث داخلة في الاستبراء. وكذلك روى ابن القاسم عن أشهب في العتبية.

ابن المواز: وقال ابن الماجشون: يدخل في السنة الثلاث والاستبراء. وكذلك روى ابن حبيب عن مالك أن عهدة السنة من يوم البيع.

ابن يونس: ووجه رواية ابن القاسم أن الثلاث والاستبراء في البيع التام الضمان فيه من البائع من كل شيء، ولا يجوز النقد فيهما بشرط. فلما استويا دخل بعض ذلك في بعض، وعهدة السنة الضمان فيها من المبتاع من كل شيء، إلا من ثلاثة أدواء فوجب أن لا يدخل عليها.

ووجه قول ابن الماجشون: أن المراعى في عهدة السنة مرور الفصول الأربعة بذهاب السنة لبيان السلامة، فوجب أن يكون من يوم العقد. وفي الكافي قولٌ أن عهدة الثلاث لا تدخل في الاستبراء. وقال المشيخة السبعة: يبدأ بالاستبراء ثم بالثلاثة ثم بالسنة.

وما يطرأ واحتمل فيها وبعدها، فمن المشتري على الصحيح

يعني: أن ما حدث في زمان العهدة فإنه من البائع إذا علم أنه حدث فيها، وأما إن أشكل أمره هل طرأ في العهدة أو بعدها، فذكر المصنف أن الأصح أنه من المشتري- وهو قول ابن القاسم- لأنه قال في العبد يأبق في العهدة وقد [480/ب] كان البائع قد تبرأ من إباقة فلم يعلم هلاكه أن ذلك من المشتري حتى يعلم أنه أصابه في العهدة، بناء على أن الأصل السلامة وانبرام العقد. والمنقول في اللخمي، والباجي وغيرهما عن مالك: أن ذلك من البائع.

وفي جعله مقابل الأصح نظر. وقد قال اللخمي: إن قول مالك أقيس، لأن الأصل أنه في ضمان البائع، ووجوده بعد الثلاث مشكوك فيه، فلا ينتقل عن ضمان الأول بشك.

ص: 495

وللمشتري إسقاطها بعد العقد

أي: إذا وقع العقد على العهدة فللمشتري إسقاطها، لأنه حق له.

وللبائع قبله كعيب غيره

هكذا وقع في بعض النسخ: (وللبائع) بلام الجر، وعليها تكلم ابن راشد، فقال: يعني وللبائع إسقاط العهدة قبل العقد، كما له أن يتبرأ من سائر عيوب الرقيق.

وفي بعض النسخ: والبائع قبله كعيب غيره، فيحتمل هذا ويحتمل غيره، وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أن البائع حكمه في العيب قبل الإسقاط كعيب غيره، أي: كالعيب مع عدم الإسقاط، كما لو اشترى عبداً على عهدة الثلاث، قبضه فبقي يوماً أو يومين ثم أسقط حقه، ثم اطلع على عيب حدث في اليوم الأول أو في الثاني، فحكمه في ذلك حكم من اشترى عبداً أو اطلع فيه على عيب قديم.

فإن حدث ما يمنع الرد كالعتق، فقيل: تسقط بقيتها. وقيل: تبقى ويرجع بالأرش. وقيل: تبقى ويرد العتق ....

أي: فلو اعتق المشتري العبد المبيع على العهدة، أو كاتبه، أو دبره، أو أولدها ونحو ذلك، ففي الموازية: تسقط بقية العهدة. وعليه فتقسط النفقة على البائع.

وقال أصبغ وسحنون: ينفذ العتق ويرجع بقيمة العيب. اللخمي: وهو أحسن.

وروى ابن حبيب عن ابن القاسم ثلاثةَ أقوال: اثنين كالمتقدمين، والثالث: يرد العتق. وذكر هذا القول في عهدة السنة.

الباجي: وهو في عهدة الثلاث أولى.

وألزم المازري على نقض العتق بما يحدث في العهدة نقضه أيضاً بعيب قديم ثم اطلع عليه، على طريق من قال: أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله.

ص: 496

وفيها: ولا ينقد في عهدة الثلاث بشرط بخلاف السنة

تقدمت هذه المسألة مع نظائرها، وفهم من قوله:(بشرط) أنه لو طاع بذلك الجاز. قالوا: ولو تطوع به ثم أراد استرجاعه ووضعه على يد أمين لم يكن له ذلك، وجاز الاشتراط في عهدة السنة، لأنها في عيوب يسيرةٍ الغالبُ السلامة منها، فيؤمن من الوقوع في: تارة بيعاً وتارة سلفاً.

ولعله نسب المسألة للمدونة لإشكالها، لأنه منع اشتراط النقد في الثلاث، وألزم النقد في بيع الثمار بعد الزهو بمجرد العقد وكلاهما في ضمان البائع. وفرقوا بغلبة الأمن في الثمار، ولأن ما يطرأ في الثمار يستوي فيه المتبايعان بخلاف الثلاث، لاحتمال تقدم علم البائع بالعيب.

فروع:

الأول: إن بنينا على عدم الجواز بشرط قبض، محمد: على أن يجوز في المواضعة وضع الثمن عنده مختوماً عليه.

بعض الموثقين: وعهدة الثلاث لا شك فيها.

الباجي: ويجيء على قول القاضي أبي محمد في مسألة بيع العربان أن ذلك جائز. بعض القرويين: وإنما لم يجز هنا للطبع عليه بخلاف الرهن، لأن الثمن في المواضعة عين الحق، بخلاف الرهن فإنه وضع توثقاً.

الثاني، قال محمد: ولو لم يتطوع أولاً به وتشاح هو والبائع في بقائه بيد ثقة إلى انقضاء العهدة أو الاستبراء، فهل يجب ذلك على المبتاع أم لا؟ فيه عن مالك روايتان: إحداهما في العتبية: أنه لا يلزمه ذلك، وقاله في المبسوط. والأخرى في الموازية: أن ذلك لازم له، وقاله ابن القاسم، وابن حبيب، وابن عبدوس.

ص: 497

الباجي في وثائقه: ودليل المدونة ما في العتبية، لأنه قال: وإذا اشترى الجارية وهي ممن يتواضع مثلها أيصلح أن يشترط مواضعة النقد على يد رجل؟ قال: نعم. فيدل على أنه لو لزمه لما احتاج البائع إلى الشرط.

الثالث: إن تلف هذا المال عند المودَع وخرج المبيع من العهدة سالماً، فإن ضمان الثمن من البائع وأخذ المبتاع عبده دون شيء، وإن هلك المبيع فهو من البائع ومصيبة الثمن من المبتاع.

وإن ظهر بالمبيع عيب حدث في العهدة، أو كان به قبلها وأراد المبتاع الاستمساك به، فهل يكون له ذلك مع ضياع الثمن أم لا؟ فيه عن مالك روايتان، إحداهما: أن له ذلك. ابن القاسم: بالثمن التالف. والأخرى: أنه ليس له ذلك. قال ابن الماجشون: ويفسخ البيع بينهما، إلا أن يأخذ بثمن آخر فيكون ذلك له. وقال سحنون: إن تلف الثمن قبل حدوث العيب فلا يأخذه إلا بثمن آخر، وإن تلف بعد حدوثه وقبل رضا المبتاع به فله أخذ المبيع دون ثمن.

الجنون الذي يرد به في السنة: هو ما كان عن مس الجان، ومعناه الوسوسة. الباجي وغيره: وهو مذهب مالك، إلا ابن وهب فإنه رأى الجنون مطلقاً موجباً للرد ولو كان بضربة أو غيرها.

الرابع: لو ظهر أحد الأدواء الثلاث ثم ذهب قبل الرد، فقال مالك وسحنون: يرد بالجنون إذ لا تؤمن عودته. وأما الجذام والبرص، فقال ابن حبيب: هو كالجنون. وقال ابن القاسم: لا رد له إلا أن يقول أهل المعرفة أن عودته لا تؤمن. وعلى هذا فالخلاف خلاف [481/أ] في حال.

وأما ما ذهب من العيون الحادثة في الثلاث قبل الرد، فإن كانت مما تؤمن عودته فلا رد، كذهاب البياض من العين، وأما ما يتقى عوده كالحمى، فقال سحنون: له الرد. وقال أشهب بالتوقف حتى ينظر، فإن لم يتبين ذهابها فلا رد، وإن عادت بالقرب رد.

ص: 498

وينتقل الضمان على المشتري بالعقد الصحيح، إلا فيما فيه حق توفيه من كيل، أو عدد، أو وزن ....

لما فرغ من الكلام في لزوم العقد وجوازه شرع في بيان حكمه قبل القبض وبعده، وتكلم في أمور ثلاثة: في انتقال الضمان، وفي صورة القبض، وفي وجوبه. ثم إن البيع قسمان: صحيح، وفاسد.

وبدأ بالصحيح، والدليل على انتقال الضمان بالعقد- إلا فيما استثناه المصنف- قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:((لخراج بالضمان)). والإجماع أن الخراج للمشتري بالعقد.

وفي الثمار قبل كمال الطيب، وفي المحبوسة بالثمن عند ابن القاسم خاصة

هذا معطوف على ما فه حق توفية، أي: أن هذين لا ينتقل فيهما الضمان بالعقد، أما الثمار فلبقاء ضمان الحوائج فيها، وأما المحبوسة، أي: سلعة بيعت وليست من الثمار قبل الطيب ولا فيها حق توفية وحبسها البائع لأجل ثمنها، فضمانها من بائعها، وهذه إحدى الروايتين عن مالك. والثانية: أن الضمان من المشتري.

ابن المواز: وإنما اختلف قول مالك في هذا إذا لم ينقد، والمشهور من قول ابن القاسم أنها تضم كالرهان، إلا أن يكون المشتري هو التارك لها فكالوديعة.

ولهذا قال سحنون في نوازله، جميع أصحاب مالك: أن المحبوسة بالثمن ضمانها من المبتاع، إلا ابن القاسم فإنه رأى حكمها كالرهن.

قال في البيان: وهو المشهور من قوله. قال: ويتحصل في تلفها إن قامت بينة عليه قولان، أحدهما: أن مصيبتها من البائع ويفسخ البيع. والثاني: أن مصيبتها من المبتاع ويلزمه الثمن. وإن لم تقم بينة على تلفها أربعة أقوال:

ص: 499

أحدها: أن البائع يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها، كانت قيمتها مثل الثمن أو أقل أو أكثر، وينفسخ البيع، وهو قول سحنون.

الثاني: أنه يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها ويفسخ البيع، إلا أن تكون قيمتها أكثر من الثمن فلا يصدق إلا أن يصدقه المبتاع، وهو بالخيار بين أن يصدقه فيفسخ البيع، أو يضمنه القيمة ويثبت البيع، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.

وهذا القولان على قياس القول بأن المصيبة من البائع، وينفسخ البيع إذا قامت البينة على التلف.

الثالث: أن البائع يصدق مع يمينه فتلزمه قيمتها إذا كانت أقل من الثمن أو أكثر ويثبت البيع، وهو الذي يأتي على المشهور من قول ابن القاسم أن المحبوسة بالثمن حكمها حكم الرهن.

الرابع: أن البائع مصدق مع يمينه في تلفها وتلزمه قيمتها، إلا أن تكون أقل من الثمن فلا يصدق، لأنه يتهم أن يدفع إليه القيمة ويأخذ الثمن وهو الأكثر، إلا أن يصدقه المبتاع فتكون بالخيار أن يصدقه فيأخذ القيمة ويدفع إليه الثمن، وإن كان أكثر أو لا يصدقه وينقض البيع.

وهذا القولان على قياس القول بأن مصيبة المحبوسة بالثمن مصيبتها من المبتاع إذا قامت البينة على تلفها كالرهن. انتهى.

ونقل غيره عن مالك قولاً بالتفصيل، لأنه قال في مختصر ما ليس في المختصر: إن كان المشتري من أهل البلد وهو موسر فالمصيبة من البائع، وإن كان غريباً أو ليس بموسر فالمصيبة من المشتري.

وقوله: (خاصة) عائد على ابن القاسم، أي: أن ابن القاسم انفرد به دون أصحاب مالك كما قاله سحنون. وجعله ابن عبد السلام عائداً على المحبوسة لا إلى ابن القاسم،

ص: 500

قال: لأن ابن القاسم لم ينفرد به، بل هو أحد قولي مالك في المدونة. قال: وكذلك المحتبسة لأجل الإشهاد عند المتأخرين.

فرع:

إذا بقيت السلعة بيد البائع على سبيل المساكنة فاختلف المتأخرون، هل تلحق بالمحبوسة بالمثمن، أو بالوديعة؟ على قولين، بناء على وجوب التسليم بمجرد العقد حتى يتبين قصد احتباسها. والأصل: بقاؤها على ملكه، وإنما يرضى بتسليمها إذا قبض ثمنها.

وقيل: يشترط مضي زمن يتسع للقبض. وقيل: بشرط تمكين البائع. وقيل: لا ينتقل إلا بالقبض كالشيء الغائب والمواضعة

هذه الأقوال راجعة لصدر المسألة. أي: المشهور أن الضمان ينتقل بالعقد، وقيل: إنما ينتقل بالعقد بشرط مضي زمن يتسع فيه للقبض، حكاه المازري عن بعض الأشياخ. وقيل: بشرط تمكين البائع من القبض، وليس أخص من الذي قبله، لأنه قد يوجد تمكين البائع للمشتري من القبض إثر البيع قبل تمام الزمان الذي يتسع للقبض.

وتصور الثالث ظاهر، وعزاه ابن رشد لأشهب، وحكاه أيضاً المازري عن بعض الأشياخ، وأنكره ابن دحون، ورد عليه ابن رشد بوجوده.

وقوله: (كالشيء الغائب) أي: كما أن الشيء الغائب والمواضعة لا ينتقل ضمانها إلا بالقبض فكذلك هذا. وفي بعض النسخ: كالمستثنى والغائب، فيكون مراده بالمستثنى ما استثنى أولاً بقوله: (إلا فيما فيه حق توفية

) إلى آخره. وليس ذكر المواضعة بيناً، لأن ضمان البائع فيها ينتهي بخروج الأمة من الحيض. بل الذي نقله الباجي أن الضمان ينتهي برؤية الدم، قال: لأن ابن القاسم [481/ب] في المدونة أجاز للمشتري برؤية الدم الاستمتاع.

ص: 501

وما ذكره المصنف من أنها في ضمان البائع إلى قبض المشتري، ابن عبد السلام: قد أنكر وجوده في المذهب بعض كبار الشيوخ وحفاظهم. وبنى على هذا الإنكار تخطئة ما يثبته الموثقون وغيرهم من الحكم على البائع بإنزال المشتري في الربع المبيع بطواف الشهود عليه. وقال: لو كان هذا لازماً للبائع لكان ذلك حق توفية، فيكون ضمان الدار المبيعة من بائعها حتى يقبضها المشتري. وأثبت بعضهم هذا القول في المذهب، ورأى أن القول بإنزال المشتري مبني عليه. وبالجملة فهو قول مختلف في ثبوته بين الشيوخ وأصول المذهب تأباه.

والقبض في المكيل بالكيل، وفي المؤزون بالوزن، وفي المعدود بالعدد

هذا هو القسم الثاني في صورة القبض وهو ظاهر.

فرع:

وهل أجرة الكيل على البائع أو على المشتري؟ في الموازية قولان: ابن شعبان: أجرة الكيل والوزن في المبيع على البائع، وفي الثمن على المشتري.

عياض: وهذا موافق للقول أنه على البائع، إذ كل واحد منهما بائع لشيئه من صاحبه، وهو الأقرب.

وفي اعتبار قدر المناولة قولان

أي: إذا وزن أو كال فهل ينتقل بمجرد ذلك، بحيث لو أتلف حينئذ كان ضمانه من المشتري، أو لابد من اعتبار قدر المناولة؟ وأطلق الخلاف تبعاً للمازري وابن شاس. وزاد المازري ثالثاً: إن كان المشتري هو المتولي الكيل لنفسه فالضمان منه. وتبع ابن راشد، وابن عبد السلام هذه الطريقة. وقال في البيان: إن تولى البائع أو أجيره الكيل ثم سقط المكيال من يد البائع وقبل أن يصبه في وعاء المشتري، فلا خلاف أن ضمانه من البائع، وإنما الخلاف إذا تولى ذلك المشتري أو أجيره، فروى يحيي عن ابن القاسم أن مصيبته من

ص: 502

البائع، ورواه أشهب عن مالك. وقال سحنون في نوازله: إن مصيبته من المبتاع، وسواء كان المكيال من البائع أو المبتاع، إلا أن يكون المكيال هو الذي ينصرف به المبتاع إلى منزله ليس له إناء غيره، فيكون ضمانه ما فيه منه إذا امتلأ، كان له أو للبائع واستعاره منه المبتاع، قاله ابن وهب في رواية أبي جعفر عنه.

وفي العقار التخلية

أي: والقبض في العقار بالتخلية، أي: يخلي البائع بينه وبين المشتري ويمكنه التصرف فيه بتسليم المفتاح، وشرط الشافعية فيه تفريغة من أمتعة البائع. وبه فسر ابن راشد كلام المصنف وليس بظاهر، لأن المصنف إنما قاله: التخلية. وإنما يأتي ما قالاه لو قال: الإخلاء، بل يكتفي بالتسليم وإن لم يحصل الإخلاء، لأن مقتضى كلام اللخمي: أنه يكتفي في الدور بمجرد التسليم، قال: إلا في دار السكنى فلابد من إخلائها من الشواغل. وقد نص المصنف في الرهن على أن قبضه كقبض المبيع.

وفي غيرهما العرف

أي: والقبض في غير المثلي والعقار ما يعد في العرف قبضاً، كاختبار الثوب وإعطائه رسن الدابة.

وإذا اختلفا في البداية أجبر المشتري، وقيل: يخليان، فمن سلم أجبر له الآخر

هذا هو القسم الثالث وهو الإجبار عليه. ولا شك أن كلاً من المتبايعين يجب عليه تسليم العوض، فإن اختلفا، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض. وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض.

ص: 503

المازري: ولا أعرف فيها نصاً لمالك ولا للمتقدمين.

ابن القصار: والذي يقوى في نفسي على المذهب أحد أمرين، جبر المشتري وهو مذهب أبي حنيفة، أو إعراض الحاكم عنهما، ومن تطوع منهما أجبر له الآخر، قال: وأن يجبر المبتاع أقوى. فأنت ترى كيف لم يجزم بشيء، والمصنف قد حكى الاحتمالين قولين وليس بجيد.

وخرج عبد الحميد قولين، أحدهما: جبر المشتري من جبر الزوج على دفع الصداق قبل الدخول، لأن الزوج مشتر والمرأة بائعة.

والثاني: تبدئة البائع من اختلاف المكتري وصاحب الدابة، فإنه قال في الأكرية من المدونة: يبدأ صاحب الدابة بالدفع، فكلما مضى يوم أخذ حصته من الكراء.

ونقل بعض من تكلم على هذا المحل عن شيخه الزواوي: أنه كان يتعجب من احتياجهم إلى مثل هذا الاستقراء على ضعفه وفي المدونة ما هو نص أو كالنص على تبدئة المشتري، ففي كتاب العيوب منها: ومن اشترى عبداً فللبائع أن يمنعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن.

وكذا قال ابن عبد السلام وزاد موضعاً آخر كهذا، وهو أنه قال في هبة الثواب: فأما هبة الثواب فللواهب منعها حتى يقبض العوض كالبيع.

وقال القاضي إسماعيل: يدفع الثمن والمثمون إلى رجل فيدفع الرجل إلى كلًّ منهما ما يستحقه.

وصحح المازري أن المتبايعين يخرج كل واحد منهما ما عنده ويمد يده إلى صاحبه، وإن تعذر هذا انتقلا إلى القرعة.

ص: 504

قال ابن القاسم: لا ضمان في الفاسد إلا بالقبض. وقال أشهب: أو بالتمكين، أو بنقد الثمن ....

لما قدم ما ينتقل به الضمان في البيع الصحيح أخذ فيما ينتقل به الضمان في البيع الفاسد. وتصور كلام ابن القاسم ظاهر. وزاد أشهب شيئين آخرين للضمان، وهما: تمكين المشتري من السلعة، وإعطاء الثمن للبائع. وقال سحنون: إنما يضمن بعد العقد ضمان الرهان. [482/أ] والأظهر قول ابن القاسم، لأن المشتري إنما قبضه لحق نفسه على نحو ما يقبض المالك، ولم يقبضه للانتفاع بالمثمن كالرهن، ولا للانتفاع به مع بائقه كالعواري، ولا دخل به على احتمال رده كالخيار.

ويقوم وقت ضمانه لا وقت العقد

أي: أن المبيع فاسداً إذا فات ووجب ضمانه فيقوم في أول أزمته ضمانه، وهو يوم القبض عند الجميع، أو يوم التمكين، أو دفع الثمن عند أشهب.

ابن راشد: وما ذكره المصنف هو المشهور. وقيل: يقوَّم يوم العقد. وقيل: يوم الفوت.

واستعماله مطرح، إذ الخراج بالضمان

أي: ما استغله المشتري من المبيع بيعاً فاسداً فهو له، ولو فسخ البيع ورد المبيع، وعلله بما ذكره.

ولا ينتقل الملك فيه إلا بالقبض والفوات

يعني: أنَّا وإن قلنا: الضمان في المبيع بيعاً فاسداً ينتقل بالقبض، فالملك لا ينتقل بذلك، بل لابد من ضميمة الفوات. وفي بعض النسخ: على المعروف، إشارة إلى ما ذهب إليه سحنون: أن الملك لا ينتقل بوجه في الحرام البين. وذهب ابن مسلمة إلى أن الفسخ بعد القبض استحسان، وظاهره أن العقد الفاسد إذا اتصل به القبض نقل الملك.

ص: 505

قال ابن القاسم في الحرام البين: المثل في المثلى والقيمة فيما سواه، وما كرهه الناس يمضي بالثمن، وقيل: بتعميم الأول ....

نسب هذا لابن القاسم لاختصاصه به، أي: أن ابن القاسم فرق في الفاسد بين أن يكون حراماً صريحاً ثبت تحريمه بنص أو إجماع وشبه ذلك، وبين أن يكون مدركُ تحريمه قياساً وعموماً بعيداً، فالأول تلزم فيه القيمة في المقوم والمثل في المثلى، والثاني يمضي بالثمن، أي: يمضي بالثمن بعد الفوات، نص عليه في الجواهر.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام المصنف أنه يمضي بالعقد الأول ولا يرد، وليس بظاهر، لأن كلام المصنف ليس فيه ما يعطيه أنه يمضي بالعقد. وباشتراطه الفوات علم أنه لم يرد المكروه الذي هو مقابل المندوب، وإنما أراد ما جرت به عادة المتقدمين من إطلاق المكروه على نوع من الحرام. ولهذا أكد الحرام بالبين في القسم الأول.

ومثل ابن القاسم المكروه بمن أسلم في حائط بعينه قد أزهى ويشترط أخذ ثمره، فإنه يفوت بالقبض.

وقوله: (وقيل: بتعميم الأول) الذي هو الحرام البين، فيفسخ مطلقاً، فإن فات وجبت فيه القيمة إن كان مقوماً والمثل إن كان مثلياً، وهو قول ابن نافع وسحنون.

وحكى اللخمي في المختلف فيه أربعة أقوال: قيل: يمضي بالعقد. وقيل: بالقبض. وقيل: بالفوات فيمضي بالثمن. وقيل: بالقيمة كسائر البياعات الفاسدة، وهو قول من لم يراعِ الخلافَ.

فإن كان درهمان وسلعة تساوي عشرة بثوب فاستحقت السلعة وفات الثوب: فله قيمة الثوب بكماله على الأصح، ويرد الدرهمين لا قيمة نصفه وثلثه .....

يعني: فلو كان التعاوض بأن دفع رجل درهمين وسلعة تساوي عشرة دراهم وأخذ ثوباً فاستحقت السلعة من يد من أخذها، فحقه أن يرد الدرهمين ويرجع فيأخذ ثوبه،

ص: 506

لأنه لما استحق جل ما بيده انتقضت الصفقة كلها. لكن المصنف فرض فوات الثوب، وفواته بحوالة السوق فأعلى.

وقوله: (فله) أي: مع الفوات قيمة الثوب كاملاً ويرد الدرهمين لصاحب السلعة، بناءً على أن الصفقة إذا استحقت جلها انفسخت كلها به، وهذا هو المشهور.

وقيل: إنما له قيمة خمسة أسداسه في المثال المذكور، بناءً على صحة البيع فيما قابل الدرهمين لعدم استحقاقهما، لأنك قد علمت أن قيمة السلعة عشرة دراهم، فإذا أضفت إليها الدرهمين كانت نسبتهما من الجميع السدس، فيمضي البيع في سدس الثوب، فلو كانت قيمته خمسة عشر مثلاً قاصه بدرهمين ويرجع بثلاثة عشر على المشهور، وعلى مقابله باثني عشر ونصف.

فلو كانت قيمته تسعة رجع على المشهور بسبعة وقاصه بدرهمين، وعلى مقابله بسبعة ونصف.

أما لو كانت قيمته اثني عشر كعوضه، رجع بعشرة اتفاقاً ويقاص بدرهمين على المشهور ويملكها على مقابله بغير مقاصة.

وزعم ابن عبد السلام أن قوله: (لا قيمة نصفه وثلثه) لا يريد به خصوصية هذه المسألة، لاستحالة أن تكون السلعة ثلثاً ونصفاً، وإنما مراده: لا قيمة ثلثه إن كانت السلعة ثلث الصفقة كما لو كانت تساوي درهماً واحداً، ولا قيمة نصفه كما لو كانت تساوي درهمين وهذا ليس بظاهر، لما ذكرناه.

والفوات بتغيير الذات، وتغيير السوق، والخروج عن اليد بالبيع الصحيح، وتعلق حق الغير بها كرهنها أو إجارتها

لما ذكر أن الملك ينتقل بالفوات ذكر له أربعة أسباب، الأول: تغيير الذات. الثاني: تغيير السوق. الثالث: الخروج عن اليد ببيع أو هبة أو صدقة أو عتق. وليس تخصيص المصنف البيع بظاهر. والرابع: تعلق حق الغير بها كما ذكرنا.

ص: 507

وظاهر كلامه يقتضي أن تغير الذات يفيت المثلي، وقاله ابن شاس. والذي في اللخمي والمازري وابن بشير: أنه لا يفوت، لأن المثل يقوم مقامه.

ويعتبر فوات الغرض المقصود فتفوت الدار بالهدم والبناء

أي: ويعتبر في التغيير الموجب للفوات أن يكون ذلك التغيير مفيتاً للمقصود، ولا شك أن التغيير على هذا الوجه مفيت، ومفهومه: أن العيب الذي لا يفيت الغرض ليس [482/ب] بفوت، وظاهر النقول خلافه، ففي المدونة: ومن اشترى أمة بيعاً فاسداً فولدت عنده ثم مات الولد فذلك فوت. وقال اللخمي: تغيير المبيع في نفسه بزيادة أو نقص مفيت وأطلق.

وقوله: (فتفوت الدار بالهدم) قال في البيان في باب جامع البيوع: إن الحائط في البيع الفاسد لا يفوت بالبناء اليسير. قال في العتبية: ويكون على ربِّ الحائطِ إذا رُدَّ إليه ما أنفق في بينان جدار أو حفر بئر. وقيل: قيمة ما أنفق.

والأرض بالغرس وقلعه

قال في الجواهر: وكذلك حفر الآبار وشق العيون، ولا شك أن هذا مفيت. وقسمها أصبغ في العتبية على ثلاثة أقسام: فقال فيمن اشترى أرضاً بيضاء شراء فاسداً فقبضها فغرس حولها شجراً حتى أحاط بالأرض وعظمت في ذلك المئونة وبقي أكثرها بياضاً: أنه فوت لجميعها، وإن كان إنما غرس ناحية من الأرض فاتت تلك الناحية. وإن كان إنما غرس يسيراً لا بال له رد جميعها وكان على البائع للغارس قيمة غرسه.

ابن محرز والمازري: والصواب أن يكون له قيمتها قائمة، لأنه غرسها بشبهة. وخرج بعضهم قولاً بأنه يأخذ ما أنفق، وجعل في البيان الناحية التي تفوت بالغرس أن تكون قيمتها ثلث المجموع أو ربعه. وعلى هذا فيكون اليسير الذي لا يفوت به ما دون الربع يسقط.

ص: 508

ونقل في البيان قولاً آخر في الغرس في الناحية: أن البيع يفسخ في الأرض كلها، فيبطل عن المبتاع جميع الثمن إن كان لم يدفعه، ويرد إليه جميعه إن كان دفعه، وعليه قيمة الناحية التي فوت بالغرس بالغة ما بلغت، وهذا القول قائم من الدمياطية لابن القاسم، واحترز بالغرس من الزرع فلا يكون فوتاً، قاله ابن القاسم.

قال ابن المواز: فإن فسخ في إبان الزراعة لم يقلع وعليه كراء المثل، وإن فسخ بعد الإبان فلا كراء عليه.

فلو باعه قبل قبضه فقولان

أي: فلو باع المشتري المبيع بيعاً فاسداً بيعا صحيحاً، فإن كان البيع بعد قبض المبيع فات، وإن كان قبله فهل يفوت؟ قولان لمالك في الموازية.

عياض: واختلفوا في حمل المدونة عليها، لا يختلفوا أنه لو علم بالفساد ثم باعها قصداً للتفويت أن بيعه غير ماض.

وقوله: (باعه) ثانياً أي: بيعاً صحيحاً، وأما الفاسد فلا أثر له.

ابن عبد السلام: وما قاله عياض إنما يتم إذا كان المشتري منه واطأه على قصد التفويت، وأما إن لم يقصده فلا يبعد أن يختلف فيه على أن بعضهم أشار إلى وجود الخلاف فيه نصاً.

ووقع في الرواية: أن المشتري إذا قصد إلى تفويته بالبيع من غيره، فإنه لا يفوت بذلك إلا العتق. انتهى.

وفي اللخمي: البيع الصحيح يفيت البيع الفاسد وإن قصد بذلك التفويت. فانظره مع كلام عياض.

ص: 509

وتغير السوق يعمل في الحيوان والعروض دون العقار، وذوات الأمثال من المكيل والموزون من المعدود، وقيل: في الأربعة كغيره ....

يعني: أن تغير السوق بزيادة أو غيره أو نقص يعمل، أي: يفيت الحيوان والعروض باتفاق، ولا يعمل في العقار وذوات الأمثال على المشهور.

وقال ابن وهب: يعمل أيضاً فيهما، وإليه أشار بقوله: وقيل في الأربعة كغيره، لأنه أراد بالأربعة العقار، وثلاثة أنواع: المثلى المكيل، والموزون، والمعدود. وفرق للمشهور بأن غالب شراء العقار للغنية، فلا يطلب فيه كثرة الثمن وقلته بخلاف غيره، وبأن الأصل في ذوات الأمثال القضاء بالمثل والقيمة كالفرع، فلا يعدل إليها مع إمكان الأصل.

وفي بيعه قبل قبضه قولان

أي: وفي بيع المذكور وهو العقار وذوات الأمثال، وهما القولان المتقدمان. وكرره، لأنه لما لم يعمل فيها تغيير السوق فلا يتوهم لأجل ذلك لا ملك يعمل فيه تغير، فلا يخاف أن يتهم أنه يعمل فيها غيره من المفوتات، على أن الظاهر أن مراده بهذا خلا ف الأول، ويتضح لك ذلك بما قاله في الجواهر، فلو باع ما اشتراه شراء فاسداً فقد رأى المتأخرون في نفوذ المتأخرون في نفوذ البيع له وهو في يد بائعه قولين، قالوا: وكذلك عكسه، وهو أن يبيع البائع ما باعه بيعاً فاسداً بعد قبض من اشتراه الشراء الفاسد. وجعلوا سب الخلاف كون البيع الفاسد هل ينقل شبهة الملك أم لا؟ انتهى.

فيحمل كلامه في هذا الفرع على الفرع الثاني الذي في ابن شاس، وقد حكى ابن بشير هذا الخلاف أيضاً.

وفي طول الزمان في الحيوان قولان

أي: وفي مجرد الطول فقط. والقول بأنه يفيت مذهب المدونة، القول الآخر ذكره ابن شاس. وعلى المشهور فذكر فيها في العيوب أن مرور الشهر فوت، وذكر في السلم أن

ص: 510

الشهرين لا يكون فوتاً، وحمله اللخمي على الخلاف، ورأى المازري أنه ليس بخلاف وإنما هو اختلاف شهادة.

تنبيه: سكت المصنف عن الطول في غير الحيوان، أما العقار، فقال في البيان: واختلف قول ابن القاسم في طول الزمان هل هو فوت في الأرضين والدور أم لا؟ والقولان في كتاب الشفعة من المدونة نص في موضع منها أن طول الزمان فوت، وفي موضع آخر أن الستين والثلاث ليس بفوت، فدل أن طول الزمان فوت.

ونص اللخمي والمازري أن مالكاً وابن القاسم قالا: لا يفيتها الطول. قالا، وقال أصبغ:[483/أ] إلا أن يكون الطول عشرين سنة، فإن هذا لابد أن يدخله التغيير في بعض الوجوه والبلاد.

وأشار المازري إلى أن ما ذكر أصبغ لا يخالف فيه، والرواية المذكور فيها: أن مجرد الطول لا يفيت، إنما أطلقت على أن طول الزمان لم يغير عينها.

وأما العروض، ففي المدونة: لا يفيتها الطول، إذ لم تتغير في نفسها ولا حال سوقها. وذكر ابن راشد أن طول الزمان في العروض مفيت، قال: لسرعة التغيير فيها.

ونقل العروض والمثلي من بلد إلى بلد بتكلف أو إجارة، ووطء الأمة كتغير السوق ....

أي: فيفيت غير المثلي ولا يفيت المثلى على المشهور، وهذا ظاهر كلامه وفيه نظر، لأن الذي نقله المازري وغيره: أن نقل العروض والمثلي مفيت، ولم أر خلافه. وتقييده بتكلف وإجارة يخرج الحيوان الذي ينتقل بنفسه فلا يكون نقله فوتاً. قال المتأخرون: إلا في خوف الطريق وأخذ مكترٍ عليه، فلذلك فوت لما فيه من الضرر. ونبه بقوله:(بتكلف أو إجارة) على وجه إلحاقه بتغير السوق، وهو ما يلحق من زيادة فيها.

ص: 511

وما ذكره المصنف من وطء الأمة هو في الموازية لابن القاسم، ووجهه: أنه يفتقر إلى إيقافها إلى الاستبراء، ويمنه السيد من التصرف فيها بالبيع والوطء وغيره، فيلحق البائع الأول الضرر.

اللخمي: ولم يجعل ابن القاسم الغيبة عليها فوتاً ولا يعلم الوطء إلا بذلك، فإن قال: وطئتها، صدق. فإن قال: لم أصبها وصدقه البائع، ردت ووقفت للاستبراء، وإن كذبه وكانت من العلي لم ترد، وإن كانت من الوخش فالقول قوله: أنه لم يصب، وردت ولم توقف.

ولو ارتفع السبب قبل الحكم بالفوات، فإن كان بتغير سوق ثم عاد لم يرتفع، وفي ارتفاعه بالبيع ثم يرجع، وبالعتق والتدبير ثم يرده الغريم، وبالإجارة والرهن والعيب ثم يزول قولان لابن القاسم وأشهب

أي: إذا وقع البيع فاسداً وحصل هنالك مفيت من الأنواع المفيتة، ثم ارتفع ذلك المفيت قبل أن يحكم القاضي بعدم الرد، وأما لو حكم لمضى اتفاقاً. فإن كان المفيت تغير سوق ثم زال، فإنه يقدر كأن التغيير حاصل، وإليه أشار بقوله:(لم يرتفع) إلى الفوات. وإن كان غيره- كما ذكر المصنف- فقال ابن القاسم: يرتفع الفوات ويكون له الرد. وقال أشهب: لا يرتفع كحوالة الأسواق.

وفرق لابن القاسم بوجوه، أولها: أن السوق الثانية غير الأولى بخلاف البيع، فإن البيع إذا رجع فهو الأول بعينه قطعاً. ورده المازري بأن المعتبر وقوع السبب وهو البيع لا السوق، فلا فرق بين سوق تغيرت ثم عادت، أو سلعة بيعت ثم عادت.

ثانيها لأبي عمران: أن حوالة الأسواق تغير في عين السلعة، لأن المقصود ثمنها. وأما خروج السلعة من يد المشتري فليس بتغير، وإنما هو لأجل أن يد المشتري فيه حائلة، فإذا زالت انتقض. المازري: وهو قريب من الأول.

ص: 512

ثالثها: لصاحب النكت وابن يونس: بأن تغير السوق ليس من سببه فلا يتهم بخلاف غيره. ورده المازري: بأنه فرض المسألة في المدونة فيما إذا عادت بميراث، ولا تهمة فيه مع أنه ساوى بينه وبين ما إذا عادت بشراء.

وتلف المبيع البت بسماوي وقت ضمان البائع يفسخ العقد

لما تكلم على الضمان في الصحيح والفاسد تكلم فيما يتعلق به من تلف أو استحقاق، أي: من اشترى شيئاً فهلك بسماوي، أي: تلف بأمر من الله لا صنع لآدمي فيه وقت ضمانه من بائعه، فإن البيع ينفسخ وإلا لم يكن لضمانه فائدة. واحترز بالبت من الخيار، وسيأتي.

ودخل في قوله: (وقت ضمان البائع) المحتبسة للثمن، والإشهاد، والبيع المحتاج إلى توفية، والثمار المشتراة بعد بدو صلاحها. ولا يقال: يرد عليه تلف المبيع بخرجه، لأن البيع في السلم ليس هذا هو، وإنما هو الضمان في الذمة.

وتعييبه يثبت الخيار

يصح أن يقرأ بالغين المعجمة، أي: إذا غيبه البائع، وقال: هلك، يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع عن نفسه، لأنه لم يتمكن من المبيع. والفرض أن ضمانه من بائعه وفي التماسك به، ويطلب البائع بمثله إن كان مثلياً أو قيمته، وذلك بعد يمين البائع أنه هلك، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد السلام.

ويحتمل أن يقرأ بالعين المهملة وهو ظاهر، وهو الذي قاله ابن راشد وغيره ممن تكلم على هذا الموضع، والمعنيان صحيحان.

وتلف بعضه أو استحقاقه كرده بعيب، إلا أنه لا يلزمه باقي جله بحصته على المشهور للجهل بالثمن

أي: وتلف بعض المبيع واستحقاقه، يريد: والبعض المستحق معين، لأن الشائع له حكم سيأتي، كرد البعض بعيب فينظر في الباقي بعد التلف والاستحقاق، فإن كان وجه

ص: 513

الصفقة- أي: أكثر من الصنف- لزمه الباقي بنسبته من الثمن، وإن كان التالف أو المستحق هو الجل، فقال المصنف: لا يلزمه باقي جلِّه على المشهور، أي: لا يجوز له التمسك بالباقي خلافاً لابن [483/ب] حبيب.

هكذا الخلاف لا ما هو ظاهر كلام المصنف، ولهذا اعترض عليه ابن راشد، ولعل المصنف اكتفى بقوله:(للجهل بالثمن) لأنها علة تقتضي المنع، فرأى في المشهور أن البيع قد انحل بتلف جله أو استحقاقه، فتمسك المشتري بباقية كإنشاء عقدة بثمن مجهول، إذ لا تعلم نسبة الجزء الباقي إلا بعد تقويم أجزاء المبيع على الانفراد ونسبة كل واحد من تلك الأجزاء المعينة من مجموع الصفقة.

ورأى ابن حبيب أن هذه جهالة طرأت بعد تمام العقد فصارت بمنزلة الجهالة الطارئة إذا اطلع على عيب بالمبيع، وبناه على أحد قولي ابن القاسم في جواز جمع الرجلين سلعتهما في البيع. والذي علل به ابن حبيب هو الأول، وقال: يجوز له أن يتمسك بباقي الصفقة، لأنه بيع قديم، ثم قال: بخلاف من باع عبداً أو جارية- وهي الصفقة- فهلكت في المواضعة، فلا يجوز التمسك بالعبد، لأنه بيع لم يتم.

بخلاف المثلي فيهما، فإنه يلزم بحصته إلا أن يكون جله فللمشتري الخيار

أي: في التلف والاستحقاق، فإنه إن كان التالف أو المستحق نصف الصفقة فأقل، لزمه الباقي بما يخصه من الثمن. ولا مخالفة للمثلي في هذا الوجه للمقوم، وإنما يخالفه في قوله:(إلا أن يكون جله فللمشتري الخيار) أي: في التمسك بالباقي بحصته، أو فسخ العقد عن نفسه ولا يكون كالمقوم.

والفرق بينهما: أن ما ينوب المثلي من الثمن معلوم بخلاف المقوم. واعترضه ابن عبد السلام بأن كلامه يقتضي أن لا خيار له في المثلي باستحقاق النصف وليس كذلك،

ص: 514

بل قال ابن القاسم: يخيره في الثلث فأكثر. وأشهب: لا يخيره فيه ولا في الجل، فإنه لا يرى الخيار في المثلي بالجل ولا ما دونه، ويلزمه الباقي بما ينوبه من الثمن.

خليل: وقيل إنما يخير في الطعام بالنصف. وفي ابن يونس: يخير فيه بالربع، فقال: جعلوه مخيراً إذا وجد ربع الطعام معيباً كالكثير من العروض، فإذا وجد ربع الطعام معيباً، لم يكن للمبتاع إذا وجد ربع الطعام معيباً كالكثير من العروض، فإذا وجد ربع الطعام معيباً، لم يكن للمبتاع رد المعيب وأخذ السالم إلا برضى البائع، لكمال حاجة الناس إلى الطعام فجعل له مزية، كما ضمنه الحمالون ونهى عن بيعه قبل قبضه، بخلاف العروض.

وفي البيان: وجود العيب بالطعام على خمسة أوجه:

أحدها: أن يكون العيب مما لا ينفك عنه الطعام كقيعان الأهراء.

الثاني: أن يكون العيب مما ينفك عنه إلا أنه يسير لا خطب له.

الثالث: أن يكون ذلك كالربع والخمس.

الرابع: أن يكون ذلك كالثلث والنصف.

الخامس: أن يكون أكثر من الصف.

فأما إن كان العيب مما لا ينفك عنه كقيعان الأهراء، فإنه يلزم المشتري ولا يوضع عنه لذلك شيء من الثمن، وإن كان مما لا ينفك عنه إلا أن يسير لا خطب له، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن فذلك له بلا خلاف. وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك على ما في المدونة، وكذلك على رواية يحيي عن ابن القاسم، وأما إن كان ذلك كالربع والخمس، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن فذلك له بلا خلاف.

وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك.

ص: 515

وأما إن كان ذلك والنصف، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري ذلك بحصته من الثمن، فليس له ذلك على قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وله ذلك على قول أشهب واختاره سحنون، وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم بحصته من الثمن فليس له ذلك بلا خلاف.

وأما إن كان ذلك أكثر من النصف، فليس للبائع أن يلزمه للمشتري السالم بحصته من الثمن، ولا المشتري أن يلتزمه إلا برضاهما.

انظر ما حكاه في الربع من الاتفاق على أن للبائع أن يلزم المشتري السالم بحصته، فإنه خلاف ما حكاه ابن يونس، وقاله أبو الحسن.

خليل: وروى ابن يونس قوله في المدونة في باب القسم: ومن اشترى مائة إردب قمحاً فاستُحق منها خمسون خير المبتاع بين أخذ ما بقي بحصته من الثمن أو رده، فإن أصاب بخمسين إردباً منها عيباً أو بثلث الطعام أو بربعه، فإن له أخذ الجميع أو رده.

فائدة: لهم ثلاث مسائل: مسألة: لا يجوز التمسك فيها بباقي الجل، وهي المسألة التي خالف فيها ابن حبيب. ومسألة: يلزم التمسك فيها بباقي الجل، وهي ما في الجائحة. ومسألة: يخير فيها، وهي باقي العيب.

والجزء المشاع يستحق فإنه يخير مطلقاً

يعني: وأما إذا استُحق جزء شائع فإنه يخير مطلقاً، سواء كان الجزء يسيراً أو كثيراً، لضرر الشركة.

وكل ثوب ونحوه بدرهم لغو، فالقيمة

أي: لو وقع العقد على سلع متعددة وسميا لكل سلعة جزءاً من الثمن، كمن اشترى ثمانية أبواب بثمانية دنانير وسميا لكل ثوب ديناراً ثم استُحق واحد منهما، فالتسمية لغو ولابد من الرجوع إلى القيمة، لأنه قد يكون أحدهما أردأ.

ص: 516

وقسم في البيان في الأكرية هذه المسائل على ثلاثة أقسام، فقال: إن خالفت التسمية القيمة وشرط الرجوع بها لا بالقيمة عند الاستحقاق ونحوه، فلا خلاف أن البيع فاسد. وإن شرطا الرجوع إلى القيمة فلا خلاف أن البيع جائز. وإن دخلا على السكوت، فقال ابن القاسم ورواه عن مالك: التسمية لغو والبيع [484/أ] صحيح.

وقاله سحنون، وأصبغ، وروى ابن القاسم أيضاً: أن مراعاة التسمية فاسد.

وإتلاف المشتري قبض

هذا قسيم ما تلف بسماوي، أي: إذا أتلف المشتري ما اشتراه وهو في ضمان البائع فهو كقبضه له فيلزمه الثمن. وحكى ابن عبد السلام الاتفاق على ذلك، سواء علم أنه المبيع أم لا، سلطه البائع عليه أو لا.

وإتلاف البائع والأجنبي يوجب الغرم

أي: من باع سلعة ثم أتلفها هو أو أجنبي قبل قبض المشتري لها، فإن ذلك الإتلاف يوجب الغرم، ولم يبين المصنف ما يغرم، وصرح في الجواهر: يغرم القيمة في حق البائع والأجنبي. وفي اللخمي في كتاب العيوب تفصيل، فقال: إن هلكت خطأً فسخ البيع ولا شيء للمشتري ولو كانت القيمة أكثر من الثمن، وإن هلكت عمداً أو كانت القيمة أكثر غرم البائع فضل القيمة عن الثمن.

فإن اختلف الثمن والقيمة في الجنس كان المشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع عن نفسه أو يدع الثمن الذي اشترى به ويرجع بالقيمة.

وعلى القول بأن المصيبة من المشتري يكون العمد والخطأ سواء، وعلى المشتري الثمن وله القيمة، فمن كان له فضل أخذه. قال: وإن أهلكه أجنبي خطأً أو عمداً فعليه الأكثر من القيمة أو الثمن، لأنه أبطل على البائع الثمن الذي له في ذمة المشتري، هذا على القول

ص: 517

بأن الضمان من البائع، وعلى القول الآخر تكون القيمة للمشتري على الجاني وعليه الثمن للبائع. خليل: وهذا إنما هو في المحتبسة.

وكذلك تعييبه

أي: تعييب المبيع كإتلافه، فيفضل فيه بين البائع والمشتري والأجنبي كما تقدم.

وإتلاف المشتري والأجنبي الطعام المجهول كيله يوجب القيمة لا المثل

أي: من اشترى طعاما على الكيل فأتلفه المشتري أو الأجنبي قبل معرفة كيله فالواجب فيه القيمة، وتبع في هذا ابن بشير، وفصل المازري فجعل هذا في الأجنبي فقط، وأما المشتري، فقالوا: يعد بإتلافه قابضاً لما يتحرى فيه من المكيلة.

وفي المدونة: وإن ابتعتها على كيلٍ كلُّ فقيزٍ بكذا فهلكت قبل الكيل بأمر من الله تعالى، كانت من البائع وانتقض البيع. وإن هلكت بتعدي البائع أو أفاتها بيع فعليه أن يأتي بمثلها تحرياً يوفيها على الكيل، ولا خيار لك في أخذ ثمنه أو الطعام. ولو أهلكها أجنبي غرم مكيلتها إن عرفت وقبضت على ما اشتريت، وإن لم يعرف كيلها أغرمناه للبائع قيمتها عيناً، ثم ابتعنا بالقيمة طعاماً مثله ووفيناكه على الكيل. قيل: وإنما ألزم البائع مثلها تحرياً والأجنبي قيمتها، لأنه لو ألزم الأجنبي المثل لما أمن من التفاضل بين الطعامين، وقيل: لأن الغالب في البائع علم المكيلة، فلو التزم القيمة لكان البائع قد يربح.

ابن يونس: قال بعض أصحابنا: فإذا رغم الأجنبي تلك الصبرة فاشترى مثلها، فإن فضلت فضلة لرخص حدث فالفضلة للبائع، لأن القيمة له إن غرمت، ألا ترى أن المتعدي لو أعدم أو ذهب فلم يوجد كانت المصيبة من البائع، فلما كان عليه التوابع كان له النماء. والمشتري إذا أخذ مثل صبرته التي اشترى لم يظلم، وإن لم توجد بالقيمة إلا أقل كان ما نقص كالاستحقاق، فإن كان كثيراً فللمشتري فسخ البيع، وإن كان يسيراً أسقط عنه حصته.

ص: 518

ابن أبي زمنين: والذي يدل عليه لفظ الكتاب أن البائع هو الذي تولى الشراء بالقيمة، وقيل: إن المتولي هو الأجنبي المتعدي. وحكى ابن بشير أنه على المشتري.

قوله: (لا المثل) أي: ليس عليهما غرم المثل، إذ الجزاف مقوم لا خصوصية للطعام، بل كذلك كل جزاف بيع على الكيل.

ولا ينفسخ على الأصح

ظاهر كلامه أن القولين في الصورتين، أي: سواء كان التلف من المشتري أو الأجنبي، والخلاف إنما هو في الأجنبي، ففي المدونة: يفسخ كما تقدم. وقال أشهب: لا يفسخ.

وأما إن كان المشتري هو المتلف فقد يحمله على إتلافها قبل الكيل استغلاؤها فيستهلكها لتلزمه القيمة ويسقط عنه الثمن، فلا يمكن من الفسخ لذلك.

والضمان في الخيار من البائع فيما لا يغاب عليه، ومن المشتري إذا كان بيده ما يغاب عليه، ويصدق المشتري مع يمينه ما لم يظهر كذبه ....

قد تقدمت هذه المسألة مع نظائرها، أي: سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، أو لأجنبي. هذا راجع إلى قوله:(وتلف المبيع البت بسماوي).

قوله: (ويصدق المشتري) أي: فيما لا يغاب عليه إذا ادعى هلاكه مع يمينه.

واختلف هل يحلف المتهم وغيره، أو المتهم فقط ما لم يظهر كذبه، كدعواه موت العبد والدابة في حاضرة وله جيران لا يعلمون ذلك، فإنه يصدق ولا يحلف، لأنَّا إنا نحلفه إذا لم يضمن.

إلا أن يقبض المشتري ما يغاب عليه إلا أن تقوم له بينة

الاستثناء الأول منفصل، لأن ما تقدم فيما لا يغاب عليه، وهو مخالف لما يغاب عليه. ويحتمل الاتصال، لأن قوله:(ويصدق المشتري مع يمينه) عام أخرج منه ما يغاب

ص: 519

عليه، أي: أن المشتري يصدق مع يمينه إلا في قبض ما يغاب عليه، فلا يصدق فيه مع يمينه، وهذا هو المشهور.

وقال ابن نافع: إذا كان الخيار للبائع فضمان المبيع منه مطلقاً.

وفي المازري: إذا كانت في يدي البائع فضمانها منه مطلقاً كان الخيار له أو للمشتري أو لهما [484/ب] معاً، وإن كانت بيد المبتاع والخيار له، فإن المذهب: يضمن ما يغاب عليه إلا ببينة.

ابن راشد: إن كانت في يده والخيار للبائع، فالمشهور أن المبتاع ضامن. وذهب ابن كنانة إلى أن الضمان هنا من البائع أشهر. ونقل اللخمي عنه أن الضمان من مشترط الخيار.

وأما الاستثناء الثاني وهو قوله: (إلا أن تقوم له بينة) فمتصل بلا شك، أي: أنه لا يصدق إلا إذا قامت له بينة.

ابن عبد السلام: انظر هل يدخل خلاف أشهب المذكور الذي في الرهن والعارية وأنه لا يبرأ وإن قامت بينة؟

خليل: أشار اللخمي وابن راشد وغيرهما إلى تخريج قوله هنا.

فإذا غاب عليه المشتري والخيار للبائع، ضمن الأكثر، إلا أن يحلف فيضمن الثمن، وقال أشهب: الأكثر ....

فإن غاب المشتري على ألا يغاب عليه والخيار للبائع، فقال ابن القاسم: يضمن المشتري الأكثر من الثمن والقيمة، لأنه إن كان الثمن أكثر مضى البيع، وإن كانت القيمة أكثر رد، إلا أن يحلق المشتري أنه لم يتلف المبيع ولقد هلك بغير سببه، فيلزمه الثمن.

وقال أشهب: يضمن الأكثر مطلقاً، ولم يقبل اليمين وهو الأظهر.

ص: 520

وإن كان الخيار للمشتري ضمن الثمن، وقال أشهب: الأقل ويحلف

أي: فإن كان الخيار للمشتري والمسالة بحالها، فقال ابن القاسم: يضمن المشتري الثمن، لأنه يعد راضياً بتعييب المبيع. وقال أشهب: هذا إذا كان الثمن أقل، وإن كان أكثر ولم يحلف على ضياع المبيع فكذلك، وإن حلق على ضياعه وأنه لم يرض بالشراء فليس عليه إلا القيمة.

تنبيه: وقع في بعض النسخ: أو الأقل بإثبات أو وليست بجيدة، لأن الأقل هو الأقل من الثمن أو القيمة، وكيف يعطف الأقل على الثمن.

وإذا غاب عليه البائع والخيار للمشتري ضمن الثمن. وقال أشهب: أو الأقل ويحلف ....

أي: إذا لم يقبض المشتري المبيع وهو مما يغاب عليه، أو قبضه ورده للبائع والخيار للمشتري فادعى البائع تلفه، فإنه يضمن للمشتري الثمن ويصير كمن استهلك سلعة وقفت على ثمن.

وقال أشهب: إذا حلف البائع أنه لم يتلف المبيع فيضمن الأقل. هكذا قال المصنف، وصوابه أن يقول، وقال أشهب: الأكثر، وهكذا قال اللخمي.

ابن راشد: هو فساد في الأصل ووجهه ظاهر، لأنه إذا كان الثمن أكثر فالبائع قد أتلف ما يقابله، وإن كانت القيمة أكثر فالبائع يتهم في إتلافها لاسترخاصها.

والخيار للبائع واضح

أي: إذا صار بيد البائع والخيار له فغاية الأمر أنه تصرف فيه اختياراً، وذلك رد للبيع.

ص: 521

فلو اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار أحدهما والخيار له: فأحدهما مبيع وهو في الآخر أمين، وقيل: إلا أن يكون سأل في إقباضهما. وقال أشهب: ليس بأمين ....

أي: إذا اشترى ثوباً من ثوبين وقبضهما ليختار واحداً منهما إن شاء، وإن شاء ردهما فليس له أن يتمسك إلا بواحد منهما، فيضمن أحدهما بالاتفاق، لأنه بيع على خيار، واختلف في الآخر على ثلاثة أقوال، مذهب ابن القاسم وهو المشهور: أنه فيه أمين، لأنه مقبوض على أن يرد على صاحبه.

والثاني له أيضاً في الموازية: وإن لم يسال في الإقباض فكالأول، وإن سأل البائع ضمنهما، واختار محمد الأول.

والثالث لأشهب في الموازية، وقال: ضامن لهما، لأن كل واحد منهما يمكن أن مبيعاً.

فإن ادعى ضياعهما، فعلى المشتري ضمان واحد بالثمن لا غير، وقال أشهب: يضمنهما أحدهما بالثمن أو الأقل، والآخر بالقيمة ....

هذا تفريع الأقوال، وبدأ بالتفريع على الأول لأنه المشهور، أي: فعليه أن يضمن واحداً بالثمن كما تقدم، ولا ضمان عليه في الثاني لأمانته فيه. وعلى قول أهب يضمنها، أحدهما: بالقيمة لكونه غير مبيع، ويضمن الآخر بالأقل من الثمن أو القيمة، لأنه إذا كان الخيار له قادر على أن يلزمه بالثمن أو يريده، فيضمنه بالقيمة بعد حلفه.

وقوله: (بالثمن أو الأقل) يريد بالثمن إن كان أقل، أو بالقيمة إن كانت أقل، ولو أسقط بالثمن واكتفى بالأقل لكان أحسن.

ولم يفرع المصنف على القول بالتفرقة لوضوحه، لأنه إن سأل فكقول أشهب وإلا فكالمشهور.

ص: 522

وإذا ادعى ضياع أحدهما، فعلى المشهور: يضمن نصف ثمن التالف، وله أن يختار كل الباقي. وقال محمد: لا يختار إلا نصفه. وعلى قول أشهب: إن أخذ الباقي أخذه بالثمن والتالف بالقيمة، وإن رده فعليه للتالف الأقل من الثمن أو القيمة ....

أي: فإذا كانت المسألة بحالها ولكن ادعى المشتري ضياع أحدهما لا جميعهما، فعلى المشهور: يكون الضياع نصفه مبيعاً ونصفه الآخر هو فيه أمين، فيلزمه نصف الثمن الضائع، واتفق ابن القاسم ومحمد على هذا، ثم اختلفا، فقال ابن القاسم: له أن يختار جميع الثوب الباقي لضرر الشركة. وقال ابن المواز: ليس له أن يختار إلا نصف الباقي، إلا أن يرضى البائع. قال: لأنه لم يبعه ثوباً ونصفاً وإنما باعه ثوباً واحداً، ونسب المصنف هذا القول لمحمد. والذي في ابن يونس عن الموازية: أن السالم بينهما والعيب بينهما وعليه نصف ثمن كل منهما. وعلى قول أشهب: إن أخذ الباقي كان عليه بالثمن، والتالف بالقيمة، لأن البيع لم يتم فيه، وإن رده فعليه التالف بالأقل من الثمن أو القيمة على ما [485/أ] تقدم فوق هذا.

ولو اشتراهما والخيار له فيهما أو في أحدهما، فكلاهما مبيع

أي: اشترى الثوبين معاً على أنه بالخيار فيهما بين أن يردهما أو يمسكهما معاً، أو اختار أحدهما دون الآخر، فجميع الثوبين مبيع. فإن ادعى ضياعهما والخيار له فيهما فيلزمه ثمنهما عند ابن القاسم ويلزمه الأقل عند أشهب، وإن كان الخيار في أحدهما والثاني لازم وادعى ضياعهما معاً، لزمه قيمتهما عند ابن القاسم وثمن أحدهما، والأقل في الآخر عن أشهب كما تقدم.

واقتصرنا على هذا القدر في هذه المسالة قصداً لحل كلام المصنف، وإلا فالمسالة في كتاب الأصحاب أوسع من هذا.

ص: 523

وإن جنى البائع والخيار له عمداً، فرد. وقال أشهب: كالخطأ

يعني: من باع عبداً أو غيره على خيار فجنى عليه البائع عمداً ولم تتلفه الجناية، فقال ابن القاسم: ذلك رد للبيع كسائر الأفعال الدالة على الفسخ. وقال أشهب: لا تكون جنايته عمداً دليلاً على الرد، لأن البائع إذا كان الخيار له قادر على الرد مع السلامة، فرده المبيع بواسطة العيب لا يقدر من عاقل وهو الظاهر، وهذا المعنى هو الذي أراد المصنف بقوله:(كالخطأ).

وإن تلفت انفسخ

أي: تلفت السلعة بالجناية انفسخ العقد على القولين، لذهاب عين المعقود عليه.

وإن جنى البائع خطأ، فللمشتري خيار العيب

أي: ولو كانت المسالة بحالها إلا أن جناية البائع خطأ، فللبائع أن يمضي البيع بحكم خيار التروي، لأن جناية البائع خطأً لا يكون رداً للمبيع، لأن الخطأ مناف لقصد الفسخ، فإن أراد البائع إمضاء البيع كان للمشتري الخيار بعيب النقيصة، لأن ما حدث من العيوب في زمن الخيار كالعيب القديم.

وإن تلفت انفسخ

هو ظاهر.

وإن جنى البائع والخيار للمشتري عمداً، فله أخذ الجناية أو الرد

واعلم أن المصنف- رحمه الله تكلم على صور هذه المسألة كلها، وهي ست عشرة مسألة، في جناية البائع ثمان، وفي جناية المشتري ثمان، لأنه إذا جنى البائع فإما أن يكون خطأً، أو عمداً، والجناية إما متلفة، أم لا. فهذه أربع، وكل من الأربع تارة يكون الخيار للمشتري وتارة يكون للبائع، وكذلك الكلام في جناية المشتري.

ص: 524

ولما تكلم المصنف على الأربع شرع فيما بعدها، أي: إن جنى البائع على المبيع بالخيار والخيار للمشتري وكانت الجناية عمداً ولم تتلف المبيع، فالمشتري مخير بين أن يختار الإمضاء ويأخذ أرش الجناية أو يرده، لأن الخيار بيده.

وقوله: (فله أخذ الجناية) فيه حذف مضاف، أي: فله أخذ أرش الجناية، وهو أعم من أن يكون عيباً أم لا، ولكن فيها أرش مسمى كالموضحة والمنقلة فيأخذه وإن برئت على غير شين.

خليل: وفي هذه المسألة نظر، والقياس أن المشتري لا يكون له أخذ الأرش، لأن البائع إنما جنى على سلعته، إذ بيع الخيار منحل على المعروف، وأكثر هذه المسائل على الاستحسان، والله أعلم.

فإن تلف ضمن الأكثر

أي: وإن كانت الصورة بحالها، لأن جناية العمد إن أتلفت المبيع، فإن البائع يضمن للمشتري الأكثر من الثمن أو القيمة. فإن كان الثمن أكثر، فللمشتري الفسخ عن نفسه. وإن كانت القيمة أكثر، فمن حق المشتري أن يجيز البيع، فيدفع الثمن ويطالب البائع بقيمة المبيع، فيقاصان في الثمن ويأخذ الزائد.

وإن جنى خطأ فله أخذه ناقصاً أو رده

أي: وإن جنى البائع خطأً والخيار للمشتري ولم يتلف المبيع، فالمشتري مخير بين أن يأخذه معيباً ولا شيء له، أو يرده.

وإن تلف انفسخ

تصوره ظاهر.

ص: 525

وإن جنى المشتري والخيار له عمداً، فالقولان في أنه رضا

لما فرغ من صور البائع شرع في صور المشتري. و "أل" في القولين للعهد، أي: قولي ابن القاسم في الصورة الأولى.

فإن تلف ضمن الثمن

وفي بعض النسخ، وقال سحنون: القيمة. أي: فإن جنى المشتري والخيار له عمداً وتلفت السلعة بجنائية، ضمن المشتري الثمن، وهو ظاهر قول ابن القاسم، لأن جناية العمد دالة على الرضا، وقول سحنون يجري على أنها لا تدل على الرضا، وسقط قوله في كثير من النسخ.

إن جنى خطأ، فله رده وما نقص

أي: فإن جنى المشتري جناية خطأً ولم تتلفه والخيار له، فللمشتري رد ذلك المعيب بحكم الخيار، لكن بقيمة العيب، وله أن يتمسك به معيباً ولا شيء عليه، لأنه تبين له أنه جنى على ملكه، والقياس أن يغرم للبائع الأرش، لأنه في ضمانه.

وإن تلفت ضمن الثمن كله، وقال سحنون: القيمة

أي: فإن تلفت السلعة بجناية المشتري خطأً والخيار له، ضمن الثمن كله، قاله ابن القاسم في المدونة. وقال سحنون: القيمة. فقيل: وفاق. ثم قيل: مراد ابن القاسم بالثمن القيمة.

المازري: وهو خلاف ظاهر اللفظ. وقيل: مراد ابن القاسم إذا ثبت أن المشتري اختار قبل أن يجني. المازري: وهو تعسف. وقال ابن محرز: خلاف. والقولان مبنيان على الخلاف فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، فهل يضمن الثمن الذي وقفت عليه، أو القيمة؟ وأنكر اللخمي بناء الخلاف على هذا، لأن ذلك الخلاف إنما هو في سلعة كثر فيها العطاء، وتواطأ جماعة من الناس عليه حتى صار كالحاصل.

ص: 526

وأجاب المازري بأن أصله في تضمين الثمن المسمى كون المشتري يعد بإتلافه السلعة كالمتلف لثمنها، فكان للبائع أن يلزمه إياه فيدخله الخلاف كالسلعة الموقوفة.

وإن جنى المشتري والخيار للبائع عمدا أو خطأ، فله أخذ الجناية أو الثمن، فإن تلف ضمن الأكثر ....

يعني: إذا كانت الجناية من المشتري على المبيع ولم يتلفه، وجمع بين العمد والخطأ لاتحادهما في الحكم، فللبائع أن يرد البيع ويأخذ [485/ب] ارش الجناية من المشتري، وله أن يمضي البيع ويأخذ منه الثمن. وفي إمضائه البيع نظر، لأن الضمان منه فيكون للمشتري خيار العيب. أما إن تلفت ضمن المشتري للبائع الأكثر من الثمن، إذ له أن يمضي البيع أو القيمة، إذ له أن يرده.

وإن جنى أجنبي فالأرش للبائع، وقيل: إن أمضي البيع فللمشتري

لما فرغ من جناية البائع والمشتري شرع في جناية الأجنبي. والمشهور أن الأرش للبائع، سواء كان الخيار له أو للمشتري أو لغيرهما، لأن المبيع على ملك بائعه.

وقال ابن حبيب: إن أمضى البيع فللمشتري الأرش، ولعله مبني على أن بيع الخيار منعقد.

وبيع المشتري قبل القبض جائز إلا في الطعام مطلقاً

يصح في المشتري كسر الراء من إضافة المصدر إلى الفاعل ويكون المفعول محذوفاً، أي: ما اشتراه. ويحتمل أن يفتح قوله: (مطلقاً) أي: ربوياً كان أو غيره، لما في الموطأ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:((من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله)).

ص: 527

وهل المنع من بيع الطعام قبل قبضه تعبد، أو معقول المعنى؟ قولان. وعلى الثاني فقيل: إنما نهى عن ذلك لأن أهل العينة كانوا يتوصلون إلى الفساد ببيع الطعام قبل قبضه، فنهى عن ذلك سداًّ للذريعة والفساد. وقيل: لأن للشرع غرضاً في ظهوره، فإنا لو جوزنا بيعه قبل قبضه لباعه أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور، بخلاف ما إذا منعنا ذلك، فإنه حينئذ ينتفع به الكيال والحمال، ويظهر للفقراء وتتقوى نفوس الناس به، والله أعلم.

بشرط كونه معاوضة فيما فيه حق توفية من كيل أو شبهه، بخلاف الهبة، والقرض، والصدقة، وكذلك الجزاف على الأصح

هذا الشرط راجع إلى المستثنى، أي: بشرط كون الطعام وجب عن معاوضة وكونه فيه توفية، فاحترز بمعاوضة من القرض والهبة والصدقة، أي: فإنه يجوز بيعه في هذه الوجوه قبل قبضه.

قال بعض من تكلم على هذا الموضع: وفي اشتراطه المعاوضة نظر، لأن الاستثناء دل على منع بيع الطعام المشتري.

فإما أن يريد بالمعاوضة نفس الشراء أو أعم، فالأول يلزم منه اتحاد الشرط والمشروط، ويلزم عليه أيضاً جواز بيع الطعام إذا لم يكن من شراء، كما لو كان عن منافع، أو نكاح، أو خلع، أو صداق، أو مثلاً لمتلف، أو أرش جناية، وذلك لا يجوز.

وإما أن يريد ما هو أعم فلا يصح، لأن الشرط مقيد لمشروطه فلا يكون أعم. وهذا إنما يأتي إذا كان كلام المصنف يشتمل على شرطين، أما إن جعل شرطاً واحداً مشتملاً على جزءين فلا.

تنبيه: جعل في الواضحة ما يأخذه القضاة والمؤذنون وصاحب السوق من الطعام من باب المعاوضة، فمنع من بيعه قبل قبضه.

ص: 528

وحكى ابن بشير فيما يأخذه المستحقون من بيت المال قولين: الجواز، والمنع بناءً على أنه عن فعل غير معين فأشبه العطية، أو مستحق على أمر واجب فأشبه المأخوذ في الإجارة.

وأجاز في المدونة بيع ما على المكاتب من الكتابة بعرض أو عين خاصة قبل الأجل، فلا يجوز بيع ذلك من الأجنبي حتى يقبضه.

ابن حبيب: إلا أن يكون يسيراً تافهاً. قاله مالك في المدونة.

ولا يجوز أن يبيع من المكاتب نجماً قبل قبضه، وإنما يجوز أن يبيع جميع ما عليه ويعجل لحرمة العتق، وقاله سحنون: وقيل: يجوز وإن لم يتعجل العتق، لأن الكتابة ليست بدين ثابت. واختلف الشيوخ على مذهب ابن القاسم على أن القولين يحمل.

ابن بشير: ولو ثبت الطعام في الذمة عن تعد أو غصب، ففي بيعه قبل قبضه قولان.

واقتصر في البيان على منح البيع قبل القبض في أرزاق القضاة وولاة السوق والمؤذنين والكتاب والأعوان والجند الذين يرزقون من الأطعمة، أما إن كان الطعام رفقاً وصلة على غير عمل، أو إن شاء عمل وإن شاء لم يعمل، فيجوز البيع قبل القبض، قاله في البيان. قال: ويجوز بيع الأرزاق والعطايا السنة والسنتين إذا كان مأموناً، قال: ولا يجوز بيع أصل العطاء، لأنه يبطل مئونته، قال ذلك أشهب، وابن وهب، وجماعة من التابعين رضي الله عنهم.

واحترز المصنف بكونه مما فيه حق توفية من الجزاف، لأنه مقبوض بنفس العقد وليس فيه حق توفية. وذكر المصنف في الجزاف قولاً بالمنع، وهو مروي عن مالك رواه الوقار. فوجه الأصح ما في أبي داود من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما: أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يبيع أحد طعاماً اشتراه بكيل حتى يستوفيه.

ومفهومة يقتضي جواز الجزاف، لأنه لم يشتر بكيل. ووجه مقابله في مسلم عن ابن عمر- رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى

ص: 529

يستوفيه)). قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. ولعله أظهر، لأنه كالنص في الباب.

فرع: وعلى المشهور في جواز بيع الجزاف قبل القبض، فاختلف إذا كان ضمان الجزاف من البائع، مثل: أن يشتري لبن غنم بأعيانها، فهل يجوز بيعه قبل قبضه نظراً على كونه جزافاً [486/أ] وهو قول أشهب، أو لا نظراً لكونه في ضمان البائع وهو قول ابن القاسم؟ ووقع لمالك في العتبية فيمن اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها، فقال: ليس له بيعها حتى يستوفيه.

ابن القاسم: ثم سألناه عنه، فقال: بيعه قبل استيفائه جائز. ولو باع أشجاراً واستثنى ثمرتها، فهل يمنع من بيع ما استثناه قبل قبضه، أو لا؟ لمالك قولان، واختار ابن عبد الحكم والأبهري الجواز. ولا ضمان هنا على المشتري، وإنما الخلاف هنا مبني على الخلاف في المستثنى هل هو مشترى، أو مبقى؟

فمن ابتاع طعاماً جاز له إقراضه أو وفاؤه عن قرض، ومن اقترضه جاز له بيعه منه ومن غيره ....

اعلم أن الممتنع من بيع الطعام ما توالى فيه بيعان لا يتخللهما قبض، فلذلك جاز لمن ابتاع طعاماً مكيلاً أن يقرضه أو يوفيه عن دين ترتب عليه، وكذلك جاز لمن اقترضه أن يبيعه قبل قبضه.

ابن عبد السلام: فإن قيل قوله: (ومن اقترضه) تكرار لما قدمه المؤلف من قوله: (بخلاف القرض) فالجواب: لا، لأن الأول محمول على من أقرض طعاماً فله أن يبيعه قبل قبضه، والثاني محمول على من اقترض- أي: تسلف- فله بيعه قبل قبضه من مسلفه.

ص: 530

وليس لمن صار إليه منهما بيعه قبل قبضه

الضمير في (منهما) عائد على المقرض الذي دل عليه إقراضه وعلى المقترض الذي دل عليه وفاؤه، أي: من اقترض ممن ابتاع طعاماً ولم يكن المشتري قبضه من بائعه، فلا يجوز له بيعه قبل القبض، وكذلك لا يجوز للمقرض البيع قبل القبض إذا أوفاه له المبتاع ولم يكن المبتاع قبضه، لأن المقترض في الصورة الأولى والمقرض القابض لدينه في الثانية كما كان تنزلاً منزلة المشتري.

فكما لا يجوز للمشتري فيهما بيعه قبل القبض، فكذلك هما لأنهما حلا محله. ويجوز لهذا المقترض أن يقبضه لآخر قبل قبضه كما كان ذلك للمشتري، ويمتنع المقترض من المقرض من بيعه قبل قبضه من بائعه، فهذا هو الحكم.

ولو كثر المسلفون والمستسلفون، وكذلك من أحاله المشتري على طعام البيع بسبب طعام كان عليه من سلف، فلا يجوز له أن يبيعه قبل قبضه.

قال في السلم في البيان: من صار إليه الطعام بأي وجه كان، من هبة، أو صدقة، أو قرض، أو اقتضاء من قرض أو ميراث يحل محل المشتري الذي صار إليه الطعام، فلا يجوز له بيعه قبل استيفائه على معنى ما في المدونة وغيرها.

وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه خفف ذلك في الهبة والصدقة، قال: ولا اختلاف أن الوارث يحل محل موروثه في أنه لا يجوز له بيعه قبل قبضه، وكذلك من اقترضه أو اقتضاه من قرض كان له. قال: ويحتمل أن يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل فيمن وهب له أو تصدق به عليه على ما حكاه ابن حبيب عن مالك.

وقيل: يمنع في الربويات خاصة. وقيل: فيما فيه حق توفيه مطلقاً

هذا راجع إلى صدر المسألة، يعني: أن المشهور منع بيع الطعام مطلقاً. وفي المذهب قولان آخران، أحدهما رواه ابن وهب: جواز بيع الطعام غير الربوي قبل قبضه، لأن

ص: 531

المتداول بينهم الربوي فيخص النهي عن بيع الطعام، لكن هذا إنما يجري على التخصيص بالعادة، والصحيح أنه لا يختص به كما تقرر في محله.

والقول بالمنع: في كل ما فيه حق توفية سواء كان طعاماً أم لا، لابن حبيب.

ولا يقبض بنفسه لنفسه إلا من يتولى طرفي العقد كالأب في ولديه، والوصي في يتيميه ....

فيهما تفسيران، أولهما: لا يجوز لمن وكل على شراء طعام أو بيعه أن يبيعه من نفسه ولا أن يقبض لنفسه، ولو أذن له في ذلك الموكل، لأنه يقبض لنفسه من نفسه.

قال في المدونة: وإن أعطاك بعد الأجل عيناً أو عرضاً، فقال لك: اشتر به طعاماً وكله ثم اقبض حقك لم يجز، لأنه بيع الطعام قبل قبضه، إلا أن يكون رأس مالك ذهباً أو ورِقاً فيجوز بمعنى الإقالة.

الثاني وهو الذي قاله ابن عبد السلام: أنه لو كان عنده طعام وديعة وشبهها فاشتراه من ماله، فإنه لا يجوز له بيعه بالقبض السابق على الشراء، لأن القبض السابق لم يكن قبضاً تاماً، بدليل أن رب الطعام لو أراد إزالته من يده ومنعه من التصرف لكان له ذلك، إلا أن يكون ذلك القبض قوياً كما في حق الوالد لولديه الصغيرين، فإنه إذا باع طعاماً لأحدهما من الآخر وتولى البيع والشراء عليهما كان له أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه قبل أن يقبضه قبضاً ثانياً، وكذلك الوصي في يتيميه.

وتبع المصنف في استثنائه من يتولى طرفي العقد ابن شاس ولم آره لأصحابنا، وفي النفس شيء من جواز هذه المسألة، ولاسيما والصحيح عند أهل المذهب أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه متعبد به.

ص: 532

وأرخص في الإقالة والتولية والشركة، وقيل: دون الشركة

وروى سحنون في المدونة عن ابن القاسم عن سليمان بن القاسم عن ربيعة عن ابن المسيب أنه قال: من ابتاع طعاماً فلا يبيعه قبل أن يستوفيه، إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة. ورواه أبو داود، وقال: هذا قول أهل المدينة، ولأن هذه الثلاث باب معروف فكانت كالقرض.

والإقالة: أن يقيل البائع المشتري أو العكس. والتولية: أن يولي ما اشتراه لآخر. والشركة: أن يشرك غيره في بعض المبيع.

والقول باستثناء الشركة رواه أبو الفرج عن مالك، لأن المعروف إنما يظهر في الجميع، ورأى في المشهور أنها تولية في البعض.

فرع: [486/ب] وهل أجرة الكيل في الإقالة والتولية والشركة على المقيل والمولي والمشرك كما أن العهدة عليه كالبيع، أو لا كالقرض بجامع المعروف، ولأنه لو هلك الطعام المشرك فيه قبل الكيل لكانت مصيبته منهما، وذلك يدل على أنه ليس على الذي أشركه أن يكيله.

ابن يونس: وهو أبين من الأول، والقولان للقرويين.

فينزل المشتري الثاني منزلة المشتري الأول بشرط استواء العقدين في المقدار والأجل وغيرهما سلما كان أو غيره ....

الثاني: هو المقال والمولى والمشرك منزلة المشتري، وهو المقيل والمولي والمشرك. قوله:(بشرط استواء العقدين في المقدار) اعلم أنه إن كان رأس المال عيناً جازت الإقالة عليه وعلى مثله. وإن كان عرضاً مقوماً جازت الإقالة عليه إذا لم يتعين بنفسه ولم تجز على مثله. وإن كان مثلياً، فهل تجوز الإقالة على مثله؟ المشهور: المنع خلافاً لأشهب.

ص: 533

وأما التولية والشركة فلا يمكن فيهما رد عين رأس المال، فإن كان رأس المال عرضاً منع، ويجوز إذا كان عيناً.

ابن يونس: وإن كان مكيلاً أو موزوناً فهو كالعين على قول أشهب، وأما ابن القاسم فإنه نص في الموازية على أنه لا يجوز التولية على مثله.

اللخمي: وأجازه في المجموعة وهو أحسن، وإن كان المثل مما يختلف الأغراض فيه كالنحاس.

قوله: (والأجل) لا ينافي المساواة فيه إلا أن يكون العقد الثاني بإثر الأول، وإلا فالمعتبر بقية الأجل.

وقوله: (وغيرهما) أي: من الصفة والكيل والرهن. وقوله: (سلما كان أو غيره) نبه به لئلا يتوهم اختصاص التساوي في الأجل بالسلم.

وظاهر قوله: (نزل الثاني منزلة الأول) أن عهدة المولي والمشرك على من كانت عهدة المشتري عليه. ونقل المتيطي ذلك عن مالك. ونقل في البيان قولاً ثانياً: إذا كانت الشركة والتولية في حضرة البيع، أنها على الذي أشركه أو أولاده، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول.

وذكر في جواز اشتراطها على البائع الأول بعد الافتراق أو الطول ثلاثة أقوال: المشهور: المنع، إلا برضاه فيكون من باب الحمالة. والثاني: الجواز. والثالث: لأصبغ: بجواز اشتراطها على البائع وإن افترقا ما لم يطل.

وكذلك نقل أيضاً فيما اشترى شيئاً ثم باعه، هل يجوز له أن يشترط العهدة على البائع الأول طال أو لم يطل، أو لا يجوز فيهما، أو يجوز في الحضرة دون الطول؟ ثلاثة أقوال.

ص: 534

فإن لم يستويا فبيع كغيره

أي: فإن لم يستو العقدان في جميع الشروط بطلت الرخصة ويصير بيعاً، إن قبض المشتري ما اشتراه فصحيح، وإن لم يقبض ففاسد، ونبه على هذا لئلا يتوهم أنه إذا انتفت الإقالة والتولية والشركة المرخص فيها فيبطل العقد.

وإذا أقلت من السلم تعجل الثمن

يحتمل أيها المشتري أو أيها البائع عجل الثمن، أي: يجب تعجيل رأس المال لئلا يؤدي إلى فسخ دين في دين.

مالك: ولا يجوز له أن يفارقه ساعة ولا يفارقه حتى يقبض من الذي وليته أو أقلته، وكذلك الصرف.

اللخمي: والمعروف من المذهب أن الإقالة أوسع من الصرف، وأنه تجوز المفارقة في الإقالة ليأتي بالثمن من البيت أو ما قارب ذلك، والتولية وبيع الدين أوسع من الإقالة، لأنه لا يجوز له تأخير الإقالة اليومين والثلاثة بشرط بغير خلاف، واختلف هل يجوز مثل ذلك في التولية وبيع الدين؟ انتهى. بخلاف تأخير رأس المال، فإنه يجوز تأخيره اليوم واليومين ولو بالشرط.

والفرق بينهما: أن اللازم في الأول فسخ دين في دين، وفي الثاني ابتداء الدين وهو أخف، فلذلك وسع فيه، وما ذكره المصنف هو المشهور.

اللخمي: واختلف في الإقالة إذا وقع التراخي فيها بغير عذر شرط على ثلاثة أقوال، منعه في المدونة. وقال مالك في الموازية: بل يتبعه بالدينار ولا يرجع في الطعام. قيل له: إن المشتري يقول له: إن الإقالة لا تصلح إلا بمناجزة فأنا أرجع في طعامي. قال: ليس له ذلك. وقال أشهب: إذا كانا من أهل العينة فسخت الإقالة، وإن لم يكونا كذلك ولا

ص: 535

عملاً عليها رأيت أن يلح عليه حتى يأخذ، وهو تفسير لقول مالك: إن كانت تهمة فسخت الإقالة، وإن قام دليل على عدم التهمة كان هو موضع الخلاف المتقدم.

ابن محرز: وأضيق الأبواب الصرف، ثم الإقالة في الطعام، ثم التولية فيه، ثم الإقالة في العروض، وفسخ الدين في الدين، ثم بيع الدين المستقر في الذمة.

وعند ابن المواز: في بيع الدين أنه لا بأس أن يؤخر ثمنه اليوم واليومين كرأس مال السلم، ثم تأخير رأس مال السلم.

***

ص: 536

المرابحة: والبيع مرابحة جائز

معناه أن يخير البائع المشتري بما اشترى السلعة به ثم يزيده شيئاً، وهو يحتاج إلي صدق مبين وإلا أكل الحرام فيه بسرعة، لكثرة شروطه ونزوع النفوس فيه إلى الكذب.

ولهذا قال ابن عبد السلام: كان بعض من لقيناه يكره للعامة الإكثار من بيع المرابحة، لكثرة ما يحتاج إليه البائع من البيان.

فلو قال بربح العشرة أحد عشر، فزيادة عشر الأصل

مدلولها عرفا ما ذكره المصنف، وإلا فمدلولها لغة أن يربح لكل عشرة أحد عشر.

قوله: (بربح العشرة) يحتمل أن يقرأ بالإضافة، ويحتمل أن ينون ويرفع العشرة على أنه مبتدأ وخبره أحد عشر. والجملة مفسرة [487/أ] لقوله:(بربح) فذكر هنا ألفاظاً اصطلح عليها التجار على كيفية بيع المرابحة.

وبوضعية العشرة أحد عشر فينقص جزء من أحد عشر من الأصل على الأصح

أي: بتصيير الأحد عشر عشرةً، أي: بخسران درهم في كل عشرة، وهذا مما يبين لك عدم صحة هذا الكلام على مدلوله اللغوي، لأن إسقاط أحد عشر من عشرة غير معقول، والأصح أنه يقسم الثمن الذي اشترى به المشتري على أحد جزءاً، كمائة وعشرة مثلاً فينقص عنه جزء من أحد عشر، وهي العشرة الزائدة على المائة، ومقابله: يقسم على عشرة أحد عشر جزءاً ويحط جزءاً، وتبع المصنف في هذين القولين ابن شاس، وعبر عنهما ابن بشير بطريقين، وفي كلامه نظر، ولا ينبغي أن يعد هذا خلافاً، لأنه راجع إلى الأول بعد طول ولا فرق بينهما في المعنى، وإنما قلنا: إن مقابل الأصح ما ذكرنا، لأن بناء كتابه في الغالب على متابعة ابن شاس وابن بشير، ولم يذكرا غير ما ذكرناه.

ص: 537

وقد ذكر ابن محرز قولاً أن يكون مقابل الأصح، ونصه: فقال عن ابن اللباد قال لي أحمد بن داود: وإذا باع بوضعية العشرة خمسة، فإنه ينظر كم خمسة من خمسة عشر، فيأخذ الثلث فيوضع عنه من رأس المال ثلثه، وكذلك للعشرة عشرة تضاف العشرة إلى عشرة، ثم يقال: كم هي منها، وللعشرة أحد عشر، فيقال: كم أحد عشر من أحد وعشرين.

لكن قوله بعد هذا: (أو العشرة عشرون باتفاق) يرد هذا، لأنا إذا ضممنا عشرين إلى عشرة فنسبة العشرين من المجموع ثلثاها، فيحط عنه من كل عشرة ثلثاها، وتصور كلامه ظاهر.

فما له عين قائمة من أجرة طرز وصبغ وقصارة وخياطة بحسب ثمنه وربحه

ألحق في المدونة بهذه الأربعة الكمْدَ، وزاد صاحب النكت وصاحب المقدمات الفتل، وزاد المتيطي التطرية.

وما يزيد في الثمن من حمولة وإنفاق يحسب ثمنه لا ربحه

قوله: (من حمولة) قيده اللخمي بأن يكو ن في البلد المنقول إليه أغلى، وأما إن كان سعرهما سواء فلا يحسبه، ولو كان أرخص لم يبع حتى يبين، وإن أسقط الكراء.

واستحسن المازري كلامه إذا حمل البائع المبتاع إلى ذلك البلد وهو عالم أنه لا يربح فيه.

قوله: (وإنفاق) أي: على الرقيق ونحوه. وقيده اللخمي بألا تكون له غلة، فإن كانت أقل حسب ما بقي، وإن كانت أكثر فله ولا يحسب.

المازري: وإن أنفق على سقي النخل وعلاجه أو العقار، فإن ساوت الغلة الإنفاق أو زادت فله البيع مرابحة، وإن قصرت الغلة عن النفقة التي بها حيي النخل حسب ما فضل من النفقة عن الغلة، فلا ربح كالنفقة على الرقيق. ولا يؤثر في بيع المرابحة ما اغتله من لبن احتلبه.

ص: 538

فإن قلت: لا إشكال أن البائع لو بين الحمولة ونحوها واشترط على ذلك الربح أنه جائز، وإن لم يبين فهو غير جائز، فما صورة هذه المسألة؟ قيل: مفروضة فيما إذا قال البائع: هي علي بكذا رأس، مالها بكذا وصبغها بكذا وحمولتها بكذا، وباع بربح العشرة أحد عشر، فإنه حينئذٍ يحسب الربح كما ذكرنا أن له الربح ولا يحسب الحمولة ونحوها.

المازري: ويستعمل في ربح بيع المرابحة أحد أربعة ألفاظ: إما أن يقول: اشتريتها بمائة والربح كذا، أو أربح في كل عشرة كذا، أو يقول: رأس مالي فيها كذا، أو يقول: قامت عليَّ بكذا وهي بكذا.

فإن كان أنفق فيها نفقة مما يحسب له فإنه يُسقَط من هذه العبارتان الأوليان، وهما: اشتريتها بكذا، أو رأس مالي فيها كذا، لأن هاتين العبارتين عبارة عما دفع فيها للبائع، لكنه يقول: هي عليَّ بكذا، أو قامت عليَّ بكذا.

وأما إن كان تولى عملها بنفسه- كالصبغ وغيره- فإنه لا يجوز له أن يعين عن ذلك شيئاً من هذه العبارات، لأنه لم يخرج ثمن ذلك، وغاية ذلك أن يقِّوم عمله، والبيع على التقويم لا يجوز. والله أعلم.

وإلا لم يحسب فيها كالطي، والشد، وكراء البيت

أي: وإن لم يكن مما عين قائمة، ولا مما له تأثير في الثمن لم يحسب فيهما، أي: لا في الثمن ولا ربحه.

وقوله: (كالطي، والشد) هذا مقيد بما إذا لم يعلم المشتري أنه يحتاج في ذلك إلى نفقة، وأما إن علم أنه يحتاج إلى النفقة يحسب ثمنها كالحمل. وقيد التونسي والباجي وابن رشد كراء البيت بما إذا أكراه لنفسه فيكون المتاع تبعاً، وأما إن أكراه للمتاع خاصة فيحسب ثمنه بغير ربح. وكذلك نص عليه محمد.

ص: 539

وما أخذه السمسار فكالثمن على الأصح، وقيل: من الثاني، وقيل: من الثالث

المراد بالسمسار هو الجلاس، لا الذي يتولى الشراء للمشتري كما تفعله سمسارة الإسكندرية، وليس مرادهم متولي البيع فإن أجرة هذا على البائع، وهي من الثمن بلا شك فيه.

وقوله: (فكالثمن) أي: يحسب، ويحسب ربحه، وهذا قول عبد الوهاب واختاره ابن محرز، لأنه مما لا يحصل ملك المشتري إلا به فيكون كالثمن. والقول الثاني لأبي محمد وابن رشد، لأنه ليست له عين قائمة.

والقول الثالث هو مذهب المدونة والموطأ، ووجهه: أنه ليس له عين قائمة ولا يزيد في الثمن وكثير من الناس يتولى الشراء بنفسه، ولهذا [487/ب] قال محمد: إلا أن يكون المبتاع مما جرت العادة أنه لا يشترى مثله إلا بواسطة سمسار، فيحسب حينئذٍ أجرته في الثمن دون الربح.

ولابد من علم المشتري بجميعه قبل العقد

هذا خاص بالقسمين الأولين، وأما الثالث فهو غير محسوب فلا حاجة إلى بيانه. وما ذكره المصنف هو مذهب سحنون، وقيل: وهو قياس ابن القاسم.

سحنون: وإن لم يبين فيرد السلعة إن كانت قائمة إلا أن يرضى المشتري أخذها بذلك، فإن فاتت مضت بذلك ولم ترد إلى القيمة. وقال محمد وابن حبيب: لا يلزمه البيان. واختاره التونسي قياساً على ما إذا اشترى سلعتين وباعهما مرابحة.

عياض: وظاهر الموطأ كقول سحنون.

وقال اللخمي: يختلف إذا باع ولم يبين. وأصل ابن القاسم أنها مسألة غش فلا يلزم المشتري وإن حط ذلك القدر. وعلى مذهب سحنون هي مسألة كذب فإن حط ذلك القدر لزمه.

ص: 540

وفي المقدمات: إذا قال: قامت علي بكذا، أو أبيعها بربح العشرة أحد عشر، ولم يبين هذه الأشياء، فالعقد فاسد، لأن المشتري لا يدري كم رأس المال وكم أضيف إليه.

وقال في الموازية: أنه يعمل في ذلك على ما ذكرناه مما يحسب ويحسب ربحه، وما لا يحسب ولا يحسب ربحه. وهو ظاهر قول سحنون في العتبية في نوازله. وهو بعيد، والصواب ما قدمناه.

ونص ابن بشير على أن العقد لا يفسد بعدم التبيين.

فرع:

قال في المدونة: وإن ضرب الربح على الحمولة ولم يبين ذلك، وقد فات المبتاع بغير سوق أو بدن، حسب ذلك في الثمن ولم يحسب له ربح، وإن لم تفت رد البيع إلا أن يتراضيا على نحو ما يجوز. وقوله:"إلا أن يتراضيا" جعل ذلك كاستئناف بيع.

واختلف الشيوخ بعد الفوات: هل هي مسألة غش أو كذب؟ فقيل: إنها مسألة غش، لأنه لم يكذب فيما ذكر من ثمنه ولكنه أبهم فيسقط عنه ما يجب إسقاطه، ورأس المال ما بقي فات أو لم يفت، ولا ينظر إلى القيمة. وهو تأويل أبي عمران على الكتاب، وإليه نحا التونسي والباجي وابن محرز وأنكره ابن لبابة.

وقيل: هو من باب الكذب، لزيادته في الثمن ما لا يحسب فيه وحمله الربح على ما لا يحسب حمله عليه، فيقال للبائع: أسقط ما يجب إسقاطه من نفقة وربح، فإن فعل لزم المشتري ما بقي وربحه، وإن أبى فسخ إلا أن يحب المشتري التماسك، فإن فاتت فهي كالكذب.

وإن لم يضع البائع ما ذكرنا لزمت المبتاع بالقيمة ما لم تكن أكثر من جميع الثمن بغير طرح شيء فلا يزاد له، أو يكون أقل من الثمن الصحيح بعد طرح كل ما يجب طرحه فلا

ص: 541

ينقص، وهو قول سحنون في كتاب ابنه وقول ابن عبدوس، وفسر به بعضهم مذهب الكتاب، قالوا: وإنما لم يذكر في الكتاب القيمة، لأن ذلك عنده أقل مما بقي بعد الطرح. وإليه مال أبو عمران وعبد الحق وابن لبابة.

ويجب ذكر ما لو علم المشتري به قلت رغبته

هذا لا يختص ببيع المرابحة، وإنما يختص ببيع المرابحة بذكر الثمن وحاله من تعجيل وتأجيل، وما أشبه ذلك.

فيذكر التأجيل

أي: يجب في المرابحة عليه أنه إذا اشترى إلى أجل أن يبيِّن ذلك للمشتري، لأن الأجل له حصة من الثمن، ويختلف الثمن أيضاً بقرب الأجل وبعده، فإن لم يبيِّن وباعها بالنقد فقال في المدونة: البيع مردود. فقيل: أراد إذا اختار المشتري الرد. وقيل: يفسخ وإن رضي المشتري بالنقد. واستبعد لأنه حق لمخلوق.

وفي طول الزمان قولان

أي: هل يجب بيانه أو لا؟ ومذهب المدونة وغيرها التبيين، قال فيها: إلا أن يطول الزمان أو تحول الأسواق فليبيِّن ذلك. هذا نص التهذيب وفي العتبية نحوه. والذي في أصل المدونة: أحب إليَّ أن يبين. وعلل ذلك في المدونة بأن الناس أرغب في الطري من القديم، والقول بعدم البيان للخمي، قال: وهذا إذا لم يكن بان عليه، وأما إذا بان فإنه يبيِّن.

وما نقده عن الثمن: النقد إن كان عيناً وجب، وفي ذكر الأول قولان، فإن كان عرضاً ففي ذكر الثاني قولان، فإن كان طعاماً فقولان كالأول وكالثاني ....

حاصله أنه إذا اشترى بنقد- أي: ذهب أو فضة- ثم نقد غير ما عقد عليه، فإذا باع مرابحة فله ثلاثة أقسام:

ص: 542

الأول: أن يشتريها بذهب وينقد عنه فضة أو بالعكس، فإذا باع مرابحة على ما عقد وجب عليه بيان ما نقد. قاله اللخمي وغيره، ونص عليه في الواضحة.

المازري: وحكى ابن المواز عن أشهب جواز ذلك إذا لم يزده على صرف الناس. وإن باع مرابحة على ما نقد ففي ذكر الثمن الذي عقد عليه قولان، والقول بوجوب التبيين في الواضحة، وهو ظاهر المدونة.

المازري: وهو ظاهر المذهب. والقول بعدم الوجوب لمالك في الموازية.

والقولان خلاف في حال هل هو مما تكرهه النفوس أم لا؟

القسم الثاني: أن ينقد عن العين التي اشتراها عرضاً مقَّوماً. اللخمي: ولا يبيع على ما نقد حتى يبيِّن، وإن باع على ما عقد فمذهب المدونة أنه يبيِّن ما نقده من العرض، لأن ما عقد عليه لم يستقر ثمناً.

ابن عبد السلام: وهو ظاهر المذهب. وقال ابن المواز: يجوز وإن لم يبيِّن.

القسم الثالث: أن ينقد عن العين طعاماً- يريد: أو مثلياً- وخصصه بالذكر [488/أ] إما على طريق التمثيل، وإما لأنه الواقع في المدونة. اللخمي وعياض وغيرهما: وظاهر المدونة وجوب التبيين.

وفي الموازية: يجوز له أن يبيع على ما نقد وإن لم يبيِّن في الدنانير والدراهم والمكيل والموزون وسائر العروض، وتأوَّل فضل المدونة عليه. وعلى هذا فقوله: كالأول وكالثاني تفسير للقولين، والقول بأنه كالأول هو مذهب المدونة كما تقدم.

وقوله: (وكالثاني) هو مذهب الموازية. ولا يمكن أن يريد بقوله: (كالأول) أنه يجب ذكر الطعام، ويختلف في ذكر العين. وبقوله:(وكالثاني) بيان للعين عليه. ويختلف في بيان العرض، وإن كان ابن عبد السلام قال ذلك، لأن الحمل على ذلك يستلزم الطرق لا الأقوال، على أن النقل لا يساعده.

ص: 543

فإن كان الثمن عرضاً غير مثلي ففي جواز البيع مرابحة قولان، بخلاف المثلي

أي: فلو اشترى سلعة بعرض غير مثلي فهل يجوز بيعها مرابحة؟ أجازه ابن القاسم ومنعه أشهب وسحنون، لأنه بيع ما ليس عندك، أي: لأن المشتري دخل على الحلول وكان كالسلم الحالِّ. وحمل اللخمي قول ابن القاسم على ظاهره، وتأول النهي عن بيع ما ليس عندك على بيع معين في ملك غيره.

وإلى هذا أشار ابن يونس، لأنه قال: ليس هذا من باب بيع ما ليس عندك، لأنه لم يقصد ذلك، بدليل اتفاقهم في الشِّقص المبيع بشيء مما يكال أو يوزن أن للشفيع أن يأخذه بمثل ذلك وإن لم يكن عنده، والأخذ بالشفعة كبيع ثانٍ. انتهى. ورده عياض بأن الشفعة لا يقدر فيها إلا على ذلك، بخلاف هنا فإنهما قادران على البيع مساومة.

واستقرأ بعضهم من قول ابن القاسم في هذه المسألة جواز السلم الحال، وحمل القاضي قول ابن القاسم على أن العرض حاضر عند المشتري، فيتفق القولان على جواز بيعه مرابحة، لأن ذوات الأمثال توجد غالباً. ونحوه لابن بشير، وهو وهم، لأن أشهب نص في المدونة على المنع في الجميع، بل لو لم ينص عليه لكان لازماً له، لأن السلم الحال ممتنع فيهما. وقاله ابن راشد وابن عبد السلام.

ولو أتم بعض المبيع بالشراء من شريكه فالرواية كالأجنبي، وفيه نظر

يعني: إذا اشترى جزءاً من سلعة ثم أتم بقتيها من شريكه الشراء فإن له بيع الجميع مرابحة من غير بيان. كما أن للأجنبي إذا اشترى الجزء الباقي أن يبيع هو والمشتري الأول جميع السلعة من غير بيان. وأشار بالنظر إلى الفرق بينهما، لأن من اشترى بقيتها قد يزيد فيه ليكمل له الملك والمشتري يكرهه. فينبغي أن يقال بوجوب التبيين، بخلاف الأجنبي فإنه قد دخل ابتداء على الشركة، وذلك مما ينقص الثمن، وهذا لا يكرهه المشتري في بيع المرابحة.

ص: 544

وقد أشار ابن بشير إلى هذا النظر، وقيد اللخمي الجواز بأن الزيادة لصلاحية السلعة كذلك، أو بغلاء السوق، وأما إن كانت لدفع ضرر الشركة فيجب البيان.

ولو كان متعدداً مختلف الصفات فقومه وجب بيانه

كما لو اشترى ثياباً أو غيرهما في صفقة واحدة، ثم جعل لكل سلعة من الثمن قسطاً، فلا يجوز أن يبيع إحداهما على ذلك إلا بعد التبيين، لأنه قد يخطئ في التوصيف وقد لا يخطئ، ولكن زاد لرغبته في الجملة أو في سلعة منها.

وإن كان متفق الصفات كثوبين مثلاً فثالثها: إن كانا عن سلم جاز

أي: وإن اشترى متعدداً متفق الصفات كثوبين متفقين. وحذف الصفة للعلم بها. وقوله: (مثلاً) حشو، لأن الكاف يفيده. والجواز لابن نافع، لأن اتفاق الصفات يبعد معه الخطأ في التقويم. والمنع لسحنون، لأنه قد يرغب في الجملة والتفصيل، وهو مذهب المدونة.

(إن كانا عن سلم جاز) وإن كانا معينين لم يجز، لأنه قد يقصد أحدهما بخلاف السلم، لأنه إنما انعقد على الصفة، والفرق أنها مستوية، وقيد فيها الجواز في السلم بألا يكون تجاوز عنه في الصفة، أي: أخذ أدنى مما في الذمة.

وقيده اللخمي أيضاً بألا يكون أحدهما أجود مما وصف، فإن كان أجود وصف الزائد عليه وعلى ثوب المرابحة، لأن الزيادة كهبة لأجل البيع فيجب توصيفها. واختلف إذا وجب عليه البيان ولم يبين: هل هي مسألة غش أو مسألة كذب؟

وأما في المثلي فجائز

أي: وأما لو باع ما اشتراه من المثلي مرابحة فله ألا يبيِّن. وهكذا نص عليه في المدونة.

وتعقبه المتأخرون بأن شراء الجملة يرغب فيه، فيكون ثمن بعضه منفرداً أقل منه بانضمامه إلى الجملة، ولاسيما على ما تقدم أن استحقاق الثلث مقتض لرد جميعه.

ص: 545

ولو أقال مشتريه منه وجب بيانه.

أي: ولو أقال المشتري من البيع فلا يجوز له أن يبيعه حتى يبيِّن، لأن ذلك مما تكرهه النفوس.

وقوله: (أقال) أي: على مثل الثمن الأول، لقوله بعد هذا:(فإن كل بزيادة .... إلخ). والظاهر أن وجوب التبيين عام على قول من يرى أن الإقامة حل بيع أو ابتداء بيع، لما ذكرناه من كراهة النفوس.

فائدة:

الإقالة عندنا بيع من البيوع إلا في ثلاث مسائل: الإقالة في المرابحة، والإقالة في الطعام، والإقالة في الشفعة.

فلو كانت بزيادة أو نقص فالمشهور الجواز

[488/ب] أي: وإن كان التقايل على زيادة أو نقص فالمشهور- وهو مذهب المدونة- جواز بيعه على الثمن الذي تقايلاه من غير بيان، لأن الخلاف في الإقالة: هل هي حل بيع أو ابتداء بيع؟ إنما هو إذا كانت على مثل الأول، وأما إن كانت بأزيد أو بأنقص فهو بيع حقيقة.

والشاذ لابن حبيب بالمنع ولو استقال بنقص. واستشكل قوله: مع النقص، لأنه خير للمشتري.

وتأول اللخمي قوله بما يمنع هذا الإشكال، فقال: إنه إنما يمنع إذا استقال بنقص بشرط أن يكون الثمن الذي استردها به أكثر مما اشتراها به أو المثل، مثل أن يكون اشتراها أولاً بعشرة، ثم باعها بخمسة عشر، ثم أقال على اثني عشر، فيتهم على أن البيع صورة، ليتوصل إلى بيعها باثني عشر.

ص: 546

والأكثر على أن قول ابن حبيب خلاف. وذهب فضل إلى أن المذهب قول ابن حبيب، وتأول مذهب المدونة على أنه اشتراها من غير من باعها منه.

فلو كان شراء ثانياً منه ففي جعله كالإقالة قولان

المحققون من الشيوخ يرون أن لا فرق بين هذه والتي قبلها في المعنى، لأن شراءه ثانياً إن كان بمثل الثمن فهو إقالة، وإن كان بأقل أو بأكثر فالمشهور الجواز.

وإنما افترقنا في اللفظ فقط، ففي الأولى رجعت بلفظ الإقالة، والثانية بلفظ الشراء، والمعول عليه المعنى دون اللفظ.

ولو باعا مرابحة- والثمن مختلف- ففي قسم الثمن والربح قولان، أحدهما: كالانفراد والثاني: كالمساومة ....

أي: ولو اشترى رجلان سلعة في عقدين بثمنين مختلفين، كما لو اشترى أحدهما نصفها بمائة والآخر نصفها بخمسين، ثم باعاها معاً صفقة واحدة بربح مائة، فاختلف المذهب في كيفية قسمهما الثمن والربح.

فقال ابن القاسم وهو المشهور: يقسمان ذلك أثلاثاً بينهما. وإليه أشار بقوله: (كالانفراد) أي: كما لو باع كل واحد منهما نصفه منفرداً.

وقال أشهب: يقسم الثمن والربح نصفين. كما لو باعا مساومة بمائتين وخمسين، لأن المشتري دخل على ذلك.

ابن عبد السلام: وكذلك يرجع عليهما في العيب والاستحقاق. ومنشأ الخلاف: هل ينظر إلى الأثمان أو الحصص؟

ص: 547

ولو باعا بوضيعة فالمشهور كالانفراد

ومنشأ الخلاف المشهور كالمشهور، والشاذ أجراه الأشياخ على قول أشهب.

ولا يجب بيان غلة الربع والحيوان

خص الرَّبع والحيوان، لأنهما لا يتغيران بالاستعمال، بخلاف الثياب وشبهها.

والرَّبع يشمل الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، وهو مقيد بألا تكون ثمرة الشجرة مأبورة يوم العقد فيجب عليه بيانه. وكذلك الصوف، قال في المدونة: لأنه إن كان يوم البيع تامّاً فقد صار له حصة من الثمن، وإن لم يكن تامّاً فلم يثبت إلا بعد مدة يتغير فيها. وأما الأولاد ليست غلة فلا تندرج في كلامه، قال في المدونة: وإن توالدت الغنم لم تبع مرابحة حتى يبيَّن وإن باعها بأولادها.

إذا كذب في الثمن- والسلعة قائمة- فله ردها إلا أن يحط الكذب وربحه، وقيل: ولو حط لخبث مكسبه ....

كما لو اشتراها بعشرة وقال: باثني عشر، وسواء كذب عمداً أو خطأً، قاله ابن حبيب وهو صريح الكذب. وألحق به سحنون تقدير الكذب وهو ما له تأثير في زيادة الثمن، مثل: أن يشتري بثمن مؤجل فيبيع نقداً، أو يشتري ثوبين صفقة فيبيع أحدهما بما ينوبه. وهو خلاف مذهب ابن القاسم، قاله ابن رشد.

قوله: (فله ردها) لا شك أن له أن يتمسك بها وله أن يردها، إلا أن يسقط البائع الكذب وربحه فلا مقال للمشتري حينئذٍ، لأن الخيار كان له بسبب الزيادة وقد سقطت. هذا هو المشهور.

وقال عبد الملك: للمشتري الخيار ولو أسقط البائع، لأن البائع قد تبين خبث مكسبه.

ص: 548

وأشار المازري واللخمي إلى أنه وفاق، وحملا قول مالك على أن المشتري قام بالكذب وحده، ولو قام بخبث المكسب لكان ذلك له، كقول عبد الملك.

ابن عبد السلام: وفيه نظر، لأنه لو كان هذا يدل على خبث المكسب للزم أن يكون الخيار لمن اشترى منه غيرها مساومة.

ونقل ابن بشير عن المتأخرين أنه إن ظهر على كذب البائع من غير أن ينفصل منه فللمشتري الخيار لخبث المكسب، أي: لحرام المكسب، وإن أتى البائع منفصلاً من كذبه نادماً على ما صدر منه فكالمشهور.

فإن فاتت فالبائع مخير بين أخذ الصحيح وربحه أو قيمتها ما لم تزد على الكذب وربحه، وقيل: يتعين الصحيح وربحه ....

أي: فإن فاتت السلعة المكذوب في ثمنها فالمشهور يخير البائع بين أن يأخذ الصحيح وربحه، وبين أن يرجع إلى القيمة بشرط ألا تزيد على الكذب وربحه، لأنه قد رضي بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، يريد: ما لم ينقص عن الثمن الصحيح وربحه.

المازري: وهذا على المشهور، وأما على قول عبد الملك فإن الواجب فيها مع الفوات تفصيل منه: وينظر إلى من يستحق قيمة هذه السلعة أو ثمنها، أو يمكن البائع من المطالبة بما باعه من مال حرام في يديه أم لا. والقول بتعيين الصحيح وربحه لمالك في الموازية ورجع عنه.

وفي المسألة قول ثالث: إن على المبتاع قيمتها يوم قبضها، إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن بالكذب وربحه فلا يزاد عليه، أو يكون [489/أ] أقل من الثمن الصحيح وما قابله من الربح فلا ينقص منه.

وفي الفوات بحوالة الأسواق قولان

لما كان الحكم يختلف بقيامها وفواتها احتاج إلى بيان العيب، وذكر المختلف فيه وهو حوالة الأسواق، وسكت عما فوقه لاتفاقهم عليه.

ص: 549

ابن رشد: ورواية ابن القاسم أنها مفيتة. وروى ابن زياد عن مالك في المدونة أن السلعة إذا فاتت بنماء أو نقص وجبت فيها القيمة.

الشيخ أبو محمد وغيره: هذه الرواية مخالفة لرواية ابن القاسم في أن حوالة الأسواق لا تفيت على هذه. وقال جماعة: يحتمل أن يكون مراده في هذه المسألة حكم هذا البيع مع الفوت، لا بيان حكم ما يفيت هذا البيع. وتكون الروايتان متفقتين، وعلى طريقة ابن أبي زيد مشى المصنف.

وكذلك اختلف في فهم رواية ابن القاسم أن القيمة في هذه السلعة المكذوب في ثمنها يوم القبض، ورواية ابن زياد أنها يوم البيع: هل ذلك خلاف على ظاهر الكلام، أو هما راجعان إلى شيء واحد؟ والمعنى يوم البيع، ومعنى رواية ابن القاسم أن القبض كان يوم البيع.

واختلف في هذه المسألة المكذوب في ثمنها إذا هلكت بيد البائع: هل يكون ضمانها من البائع، وإليه ذهب أبو بكر بن عبد الرحمن، أو من المشتري وهو مذهب أبي عمران؟

وما يكال أو يوزن كالقائم يرد مثله في موضع القيمة

يعني أن ما تقدم من التفرقة بين القيام والفوات خاص بالمقوَّم، وأما المثلي فإن فوات عينه كلا فوات، لقيام المثل فيه مقام العين.

وقوله: (يرد مثله في موضع القيمة) أي: في الموضع الذي كانت تجب فيه القيمة في المقوم.

ولو نقص غالطاً، وصدقه في الثمن، أو قامت بينة فعليه ما صدقه وربحه، أو يردها ....

أي: لو غلط على نفسه فباعها بأقل مما اشتراها به، كما لو اشتراها بمائة وأخبر أنه اشتراها بتسعين فلا يصدق بمجرد دعواه، بل حتى يصدقه المشتري أو تقوم له بينة. قال

ص: 550

في كتاب القسم من المدونة: أو يأتي من رقم الثوب بما يستدل به على الغلط، فيحلف البائع ويصدق. وزاد الباجي: أو يرى من حال الثوب ما يدل على صدقه.

وقوله: (فعليه .... إلخ) أي: أن المشتري مخير بين أن يدفع الثمن الذي شهدت به البينة وربحه، وبين أن يرد السلعة.

فإن فاتت فالمشتري مخير بين إعطاء الصحيح وربحه، أو قيمتها ما لم تنقص عن الغلط وربحه ....

أي: فإن فاتت بنماء أو نقصان. ولم يجعل في المدونة تغير السوق مفيتاً كما في الزيادة، لأنه غلط على نفسه. وحاصله أن له القيمة ما لم ينقص عن الثمن المغلوط به وربحه، ما لم يزد على الثمن الذي تبين وربحه. وعارض ابن الكاتب هذه المسألة بمسألة تضمين الصناع إذا باع ثوباً فغلط فدفع غيره فقطعه المبتاع، فإنه قال: يرده ولا شيء عليه في القطع. ولم يجعل القطع فوتاً كما جعل ابن القاسم في بيع المرابحة هنا.

وفرَّق هو بأن ثوب الكذب في المرابحة لو هلك بعد القبض ببينة لكان هلاكه من المشتري، وثوب الغلط لو هلك ببينة لكان هلاكه من البائع.

وهو يرجع في المعنى لما فرق به غيره: أن المسألة تضمين الصناع لم يجز فيها بيع، والبائع سلط المبتاع فلم يكن عليه شيء، بخلاف القطع في بيع المرابحة فإنه وقع في بعض ما وقع العقد عليه، وانتقل الملك فيه إلى المشتري.

وتقويمها يوم قبضها، وقيل: يوم البيع

الضمير في: (وتقويمها) يحتمل أن يعود على السلعة المغلوط فيها. والقول بتقويمها يوم القبض مذهب الموطأ، وتقويمها يوم البيع مذهب المدونة، لأنه صحيح على ما تقدم ويحتمل أن يعود على التي زاد فيها أو نقص فيعم الصورتين.

ص: 551

ابن عبد السلام: وأشار غير المصنف إلى أن الخلاف في مسألة الغلط مخرج من مسألة الكذب، لأنه منصوص.

ولفظ الأرض يشمل الأشجار والديار ونحوها ولفظها يشملهما

يعني: أنه إذا باع شخص أرضاً بكذا ولم يزد فإنه يتناول ما اتصل بها من بناء وشجر، وكذلك لو باع البناء والشجر اندرجت في العقد للعرف، ونحو الديار الآبار والعيون والمطامير.

ولا يندرج المأبور والمنعقد إلا بشرط

يقال: أبرت النخل بفتح الباء مخففة، آبر بضم الباء أبراً وإباراً مخفف فهي مأبورة. وأبَّرتها مشدد الباء أؤبرها تأبيراً مشددة فهي مؤبرة، وتأبرت النخل وائتبرت. واختلف في معناه: ففي الإكمال: هو تعليق طلع الذكر في الأنثى، لئلا يسقط ثمرها وهو اللقاح. ونحوه في الجواهر، قال: يقال: أبر فلان نخله، أي: لقحه وأصلحه. ثم قال: وتأبير النخل تلقيحه. وقال ابن حبيب: الإبار: شق الطلع عن الأنثى.

وقوله: (ولا يندرج المأبور) يريد: إذا اشترى النخل، وكذلك لو اشترى الأرض والنخل فإنه لا يندرج في ذلك الثمرة المأبورة والمنعقدة، وقاله ابن الجلاب.

وأفتى ابن الفخار وابن عتاب باندراج الثمرة وإن أبرت وطابت، قالا: لأن الشجر أنفسها تندرج وإن لم تشترط، وإذا أدخلت الأصول فالفروع أولى. وما قالاه هو القياس، لكن المنصوص لمالك خلافه، ودليله ما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:((من ابتاع نخلاً قد أبرت فثمرها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع)).

والتأبير خاص بالنخل، [489/ب] وما له زهر ثم ينعقد بانعقاده كإبار النخل، ولذلك عطف المصنف المنعقد على المأبور. وما لا زهر له يعتبر فيه أن تبرز جميع الثمرة عن موضعها وتتميز عن أصلها، فهو بمنزلة التأبير فيها.

ص: 552

وفهم من كلامه أن الثمرة غير المأبورة تابعة، واختلف إذا اشترطها البائع لنفسه قبل الإبار، فقيل: لا يجوز ذلك. وقيل: يجوز.

اللخمي: وهو الصحيح من المذهب بناء على أنه مبقى على ملكه.

فإن تأبر الشطر فله حكمه

أي: ما أَبَّر للبائع وما لم يؤبر فللمبتاع. وألحق في الواضحة والموازية ما قارب الشطر به.

وقال محمد بن دينار: ما أبر تبع لما لم يؤبر، فالكل للمبتاع. وقال ابن القاسم: يقال للبائع: إما أن تسلم جميع الثمرة، وإلا فسخ البيع ولو رضي المبتاع بالنصف. هكذا حكى الباجي هذه الأقوال.

قال: وهذا إذا كانت الثمرة المأبورة متميزة، بعضها أبر وبعضها لم يؤبر، وأما إن كانت الثمرة حين تأبيرها وكان في سائر الثمار قد ظهر بعض الثمرة وبعضها لم يظهر، فرأى ابن حبيب أن ذلك للبائع، ورأى ظهور بعضها كظهور جميعه أصله الإزهاء.

وروى ابن المواز أن ذلك لا يجوز، إلا أن يشترط المبتاع الثمرة، ورأى أنه لما لم تؤبر لا يجوز أن يشترط البائع ما لم يؤبر، فلم يبق إلا أن يشترط المبتاع نصيب البائع.

وحملها ابن رشد على خلاف هذا فقال: الأقل تباع للأكثر شائعاً أو غير شائع، فإن لم يكن أحدهما تبعاً وكانا متناصفين أو متقاربين، فإن كان ما أُبِّر على حدة وما لم يؤبَّر على حدة فللبائع ما أُبِّر وللمبتاع ما لم يؤبَّر، على ما قاله المخزومي، وإن كان ذلك شائعاً في كل نخله فأربعة أقوال:

أحدها: أن الخيار للبائع، إما أن يسلم الحائط بثمرته للمبتاع، وإلا انفسخ البيع. وهو قول ابن القاسم.

الثاني: أن البيع يفسخ على كل حال، إلا أن يكون وقع بشرط أن تكون الثمرة للمبتاع. وهو قول ابن القاسم وسحنون فيما حكى الفضل.

ص: 553

الثالث: أنه كله للمشتري. وهو قول ابن دينار.

والرابع: أنه كله للبائع. وهو قول ابن حبيب في الواضحة.

وذكرها ابن زرقون على نحو ما ذكره ابن رشد، وذكر أن الباجي لم يحسن تحصيل هذه المسألة. وذكر ابن القطان أن الذي به القضاء أن البيع لا يجوز إلا برضا البائع بتسليمه الجميع للمبتاع.

ابن العطار: أو يرضى المبتاع بتسليمه للبائع.

وإن تأبر الأكثر حكم بحكمه للجميع

هذا قول مالك الذي عليه أكثر أهل المذهب، وروي عنه أنه مثل ما لو تَأَبَّر الشطر.

ولكليهما السقي ما لم يضر بالآخر

قال ابن راشد وشيخنا وغيرهما: يعني البائع والمشتري، أي: حيث يحكم بالثمرة للبائع بانعقادها أو بإبارها فله السقي ما لم يضر بالمشتري، ولمشتري الأصول سقيها ما لم يضر بثمرة البائع.

وقال ابن عبد السلام: كل واحد من صاحبي المأبور والمنعقد السقي ما لم يضر ذلك بالمشتري. ومعناه: إلى الوقت الذي جرت العادة أن تجد الثمرة فيه. وانظر لو تقابل الضرران فإني لم أر لأصحابنا فيها شيئاً، وللشافعية فيها ثلاثة أقوال: هل يقدم البائع أو المشتري، لأن البائع قد التزم سلامة الأشجار له، أو يتساويان فيفسخ العقد لتعذر التسليم إن لم يصطلحا.

نعم تكلم علماؤنا فيمن يلزمه السقي، فقال مالك في الموازية: هو على البائع حتى يسلم الأصل لمشتريه، وقال المخزومي في بائع النخل دون الثمرة أن السقي على مشتري الأصول.

ص: 554

فرع:

فإن اشترط المبتاع بعض ما أبر أو بعض ما خرج من الزرع لم يجز على المشهور، لأنه قصد بيع الثمار قبل بدو صلاحها، بخلاف اشتراط بعض ما أزهى وبعض ما يبس من الزرع. وقال أشهب: يجوز اشتراط بعض ذلك كاشتراط الجميع. ولو كان المبيع فدانين واشترط زرع أحدهما لم يجز عند ابن القاسم، وقيل بالجواز على مذهبه، لأنه لو أفرد كل فدان بالبيع واشترط زرعه جاز، حكاه في الطرر.

ولا تشمل الأرض الزرع الظاهر. وفي الباطن روايتان

اختلف في إبان الزرع، فروى أشهب أنه ظهوره من الأرض، ورواه ابن القاسم، وروى عنه ابن القاسم أيضاً هو أن يفرك، وروي عن مالك في الأسدية أنه خروجه من يد باذره.

ولا الحجارة المدفونة على الأصح

يعني: أنه إذا باع أرضاً فوجد حجراً أو رخاماً أو أعمدة، فالمعلوم من مذهب ابن القاسم أنه لا حق في ذلك للمبتاع وهو البائع.

وذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار إلى أنها للمبتاع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في العتبية. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بالمجهول الذي لا يعلم صاحبه، وأما إن ثبت أن ما وجد في الأرض مغيباً من متاع البائع، أو من متاع من ورثه عنه، فلا خلاف أنه له.

وكذلك إن علم أن ما وجده أحد الورثة في حصته أنه لموروثهم، فهو بينهم بلا خلاف. وكذلك إذا ثبت أن البيت أو الجب الموجود تحت الأرض كان البائع عمله ونسيه فلا خلاف أن للبائع أن ينقض البيع، ولمن لم يوجد ذلك في حظه أن ينقض القسمة.

ص: 555

والدار تشمل الثوابت كالأبواب، والرفوف، والسلم المسمر

أي: إذا باع داراً فإنها تشمل الأشياء الثوابت، فالثوابت جمع ثابت كالأبواب والرفوف وهو ما تعلق عليه الأثواب، [490/أ] وكذلك الطاقات.

واشتراطه في السُّلَّم أن يكون مسمراً يقتضي أنه لو كان غير مسمر لكان للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، وهو قول ابن عتاب. وألحقه ابن العطار وابن زرب بالمسمر، واحتج له ابن سهل بقول ابن القاسم فيمن اكترى من رجل منازل سنة وفيها علو وليس لها سلم، فقال المكتري لصاحب المنزل: اجعل لي سلماً، فتوانى حتى انقضت السنة، فقال: ينظر إلى ما يصيب ذلك العلو من الكراء فيطرح.

ورده صاحب البيان بأن الكراء يتضمن التمكين من الانتفاع، ولا يتوصل إليه إلا بسلم، فإذا لم يجعل له سلماً لم يحصل التمكين، وأما الشراء فيتضمن التمكين من ذات المبيع وقد حصل. وليس شرط التمكين من الذات دفع السلم، وإلا وجب على البائع أن يأتي بسلم إن لم يكن. وهذا لم يقله ابن العطار.

واحترز المصنف بالثوابت مما ينتقل كالحبل والدلو فإن ذلك خارج. ابن عتاب: وتندرج المطحنة المبينة. وقال ابن العطار: السفلية فقط.

فرع:

ولو كان في الدار جرار ونحوها فأراد البائع إخراجها ولم يسعها الباب، أو كان فيها بعير صغير فكبر ولم يخرج من الباب، فقال ابن عبد الحكم: ليس على المبتاع قلع الباب، ويذبح هذا بعيره ويكسر جراره. ونزلت بإشبيلية وكتب بها إلى القيروان، فقال أبو عمران: الاستحسان أن يهدم الباب ويبينه البائع إن لم يبق بعد البناء عيب، وإن بقي بعده عيب ينقص الدار قيل للمبتاع: ادفع قيمة الجرار، فإن أبى قيل للبائع: أنزله وأعطِ قيمة العيب، فإن أبى تُرِكا حتى يصطلحا.

ص: 556

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: إن علم المبتاع بها ووقع الشراء على أنه للبائع لزمه إخراجها، وإن لم يعلم وكان الذي يهدم لها يسيراً هدمه وأصلحه.

والعبد يشمل ثياب المهنة التي عليه دون ماله إلا باشتراطه

يعني: أن إطلاق لفظ العبد يشمل الثياب التي يمتهنها في خدمته بحكم العرف، وكذلك الأمة، بخلاف الرفيعة.

فرع:

واختلف إذا اشترط البائع ثياب المهنة: هل يوفى له بالشرط، وهو رواية عيسى عن ابن القاسم، وصححه ابن رشد وذكر أن به مضت الفتوى، أو يبطل شرطه، وهو رواية أشهب عن مالك؟ ابن مغيث في وثائقه: وبه مضت الفتوى عند الشيوخ.

فائدة:

ذكر المتيطي وغيره ست مسائل قال مالك فيها بصحة البيع وبطلان الشرط:

الأولى: هذه على ما ذكر ابن مغيث.

الثانية: من اكترى أرضاً بزرع أخضر على أن الزكاة على البائع.

الثالثة: البيع على ألا مواضعة على البائع.

الرابعة: ألا عهدة عليه.

الخامسة: على أن المبتاع إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا، وإلا فلا بيع بيننا.

السادسة: إذا اشترى الثمرة على ألا قيام له بجائحة، خلافاً لما في السليمانية أنه يوفى بالشرط. هكذا نقل ابن عبد السلام. ونقل اللخمي عن السليمانية أن البيع فاسد قال: وقال ابن شهاب: البيع جائز والشرط جائز.

خليل: ويزاد على هذا إذا اشترط المشتري ما لا غرض فيه ولا مالية فإنه يلغى كما تقدم. وذكر ابن لبابة عن مالك في: "إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا" ثلاثة أقوال:

ص: 557

أحدها: ما تقدم.

والثاني: صحة البيع والشرط.

والثالث: فسخ البيع.

وفرق في الدمياطية بين: إن جئتني، وبين: إن لم تأتني. وإن قال: "أبيعك على إن جئتني بالثمن فالبيع بيني وبينك" فالثمن حال كأنه رآه بيعاً ثانياً، وإنما يريد فسخه بتأخير النقد. وإن قال:"إن لم تأتني بالثمن" فكأنه لم ينعقد بينهما بيع، إلا أن يأتيه فلا يجبر على النقد إلا إلى الأجل.

وقوله: (دون ماله إلا باشتراطه) لما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله عنه: ((من باع عبداً فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)).

وبيع الثمار ونحوها قبل بدو صلاحها على القطع يصح

قوله: (ونحوها) أي: من الزرع، والمقاتي، والمباطيخ، النوار كالورد.

وقوله: (على القطع) أي: في الحال أو قريباً منه، ولا يؤخرها إلى زمان تزيد فيه. وقيده اللخمي بثلاثة شروط:

الأول: أن ينتفع به، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال.

ثانيها: أن تدعو إلى ذلك حاجة، وإلا كان من الفساد.

وثالثها: ألا يتمالأ أهل البلد على ذلك، لئلا يعظم الفساد.

وعلى التبقية يبطل

وبيعها على شرط التبقية باطل، لما في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل له: يا رسول الله وما تزهي؟ فقال: ((حتى تحمر أو تصفر)).

ص: 558

وفي الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع النخل حتى تزهي، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري.

فإن أطلق فظاهر المدونة يصح، وقال العراقيون: يبطل

أي: لم يشترط القطع ولا التبقية، فظاهر المدونة: يصح، لقوله في البيوع الفاسدة: ومن اشترى ثمراً فجذه قبل إزهائه فا فالبيع جائز إذا لم يشترط تركه إلى إزهائه.

ووقف مع هذا الظاهر ابن محرز وعبد الحميد واللخمي وغيرهم من المتأخرين، ورجحوه بأن مقتضى العقد المناجزة في الثمن والمثمون، والتأخير فيهما أو في أحدهما لا يكون إلا بشرط أو عادة. ومذهب العراقيين البطلان، [490/ب] وهو المذهب عندهم.

الباجي والمتيطي: وهو المشهور عن مالك، وتأول ابن أبي زيد المدونة على ذلك، لأنه تأولها على أنه اشترط الجذ. واختار اللخمي أن يستدل على الجذاذ والتبقية بقلة الثمن وذكرته، إذ ثمن ما على القطع أقل.

فرع:

إذا وقع العقد على التبقية فسخ، والثمرة من ضمان البائع ما دامت في رؤوس النخل، فإن جذها المبتاع رطباً رد قيمتها، وإن جذها ثمراً رده بعينه، وإلا رد مثلها. وكذلك يفسخ إذا بيع على الإطلاق، وقلنا أن ذلك يقتضي التبقية.

وبيعها لمشتري الشجر يصح على الأصح

يعني: أنه اختلف فيمن اشترى نخلاً مأبورة، وقلنا: إن الثمرة للبائع، هل يجوز للمشتري أن يشتري الثمرة؟ الأصح وهو المشهور: الجواز، كبيع الخلفة بعد شراء الأصل، وكاشتراء الأرض فيها زرع لم يبد صلاحه مجردة من الزرع، ثم اشتراه، وكبيع مال العبد في عقد ثان بناء على أن اللاحق للعقد واقع فيه أم لا. وحكى بعضهم في مسألة المصنف وفي مال

ص: 559

العبد أربعة أقوال: هذين القولين، والثالث: الجواز في الثمرة دون مال العبد. ورواه أشهب أيضاً وقال به. والرابع: يجوز ذلك بحدثان العقد، رواه أصبغ عن ابن القاسم.

يحيي: وحد العبد في ذلك عشرون يوماً. قال بعض الشيوخ: ولو جذ الأصل ثم اشترى الخلفة فلا يجوز اتفاقاً، لأنه يشتريها غير مستندة إلى شيء، وهذا يأتي في العبد إذا اشتراه فمات أو أعتقه أو باعه، ثم أراد بعد ذلك أن يشتري ماله، فلا يجوز باتفاق، وكذلك النخل والأرض إذا باعها على الإطلاق، ثم أراد أن يشتري زرع الأرض أو ثمرة النخل. فاعلمه.

وبعد بدو الصلاح يصح ما لم يستتر نحو البزر من الكتان

أي: ويجوز بيع الثمار بعد بدو الصلاح منضمة إلى الأصل ومفردة على القطع أو التبقية، لكن بشرط ألا تستتر في أكمامها كبزر الكتان مجرداً عن أصله، وكالحنطة مجردة عن سنبلها، والجوز واللوز مجرداً عن قشرة على الجزاف.

الباجي: ولا خلاف فيه وهو ظاهر، لأنه بيع مغيب. وفي بعض النسخ:(ما لم يستثن) أي: ما كان من الحبوب مستتراً، وعليه تكلم ابن عبد السلام فقال: قوله: (ما لم يستثن) يظهر منعه على القول بأن المستثني مشترى لانتفائه عن ملك البائع، ويجوز على القول بأن المستثنى مبقى. والنسخة الأولى أصوب، وهي التي تكلم عليها ابن راشد وغيره. ويلزم من الثانية مخالفة المشهور فقد قال المتيطي: ويجوز لبائع الثمرة أن يستثني جزءاً شائعاً منها قليلاً كان أو كثيراً، لأن البيع لم يتناول الجزء المستثني، هذا هو المشهور من المذهب. وقال عبد الملك: لا يجوز استثناء الأكثر، ويجوز في النصف فأقل.

وبدو الصلاح في بعض حائط كاف وفي المجاورة في الجنس الواحد إذا كان طيبه متلاحقاً، وقيل: في حوائط البلد

أي: لا يشترط عموم بدو الصلاح في كله، بل يكتفي أن يكون في بعضه، أو في بعض حائط مجاور له، ولو كانت شجرة واحدة بشرط ألا تكون باكورة.

ص: 560

ولذلك قال: (إذا كان طيبه متلاحقاً). واحترز بقوله: (في الجنس الواحد) من الجنسين فلا يباع جنس بطيب آخر. فإن كان الجنس الذي لم يطب تبعاً لما طاب، فقيل: يجوز. ومنعه سحنون، لعدم الضرر في تأخيره.

والقول بأنه يجوز بيع جميع حوائط البلد ببدو الصلاح في حائط منها لابن القصار، وإن لم تكن مجاورة. وزاد ابن رشد قولاً آخر: أنه لا يجوز بيع الحائط حتى يعمه الزهو. قال: وما استعجل زهوه من الثمار لعارض وسبب من مرض في الثمرة وما أشبه ذلك، فلا اختلاف أنه لا يبيح له بيع ذلك الحائط.

وصلاحها: زهوها وظهور الحلاوة فيها

لما في الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الزهو فقال: ((أن تحمر أو تصفر)). فإن قلت: الزهو يغني عن الحلاوة، لأنها لازمة له، قيل: إن الواو في كلامه للتنويع، أي: الزهو خاص بالثمرة، وظهور الحلاوة عام به وبغيره. وفي كلام المصنف نظر، لأن قوله:(وظهور الحلاوة) لا يعم، لأن بعضها قد لا تظهر فيه الحلاوة كالموز فإنه يباع في شجره.

قال ابن المواز: لا يباع حتى ينزع.

الباجي: يريد إذا بلغ مبلغاً إذا نزع عن أصله تهيأ للنضج. قال: وبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة، ويظهر السواد في أسوده والبياض في أبيضه. وكذلك بدو الصلاح في العنب الأسود أن ينحو إلى السواد، وفي الأبيض أن ينجو إلى البياض مع النضج. والهاء في (صلاحها) للثمرة.

وفي البقول وشبهها بإطعامها

أي: وبدو الصلاح في البقول بإطعامها، أن ينتفع بها في الحال.

ص: 561

الباجي: وأما الجزر واللفت والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استرق ورقه وتم وانتفع بها، ولم يكن في قلعه فساد. وقصب السكر إذا طاب سكره. والبر والفول والجلبان والحمص إذا يبس ذلك. قال: وعلى هذا عندي حكم اللوز والجوز والفستق.

وأما الورد والياسمين فبأن تنفتح أكمامه ويظهر نوره. والقصيل والقضب والقرط إذا بلغ أن يرعى دون فساد. وفي الزيتون أن ينحو إلى السواد. وفي القِثَّاء والفقوس أن ينعقد ويوجد له طعم. واختلف في البطيخ، فقال ابن حبيب: صلاحه إذا نحا ناحية الاصفرار، لأنه الغرض المقصود منه. وقال أشهب: أن يكون فقوساً، وأما الاصفرار فلا. أصبغ: فقوساً [491/أ] قد تهيأ للتبطخ، وأما الصغير فلا.

فرع:

فإن بيع الفول والحنطة أو العدس أو الحمص بعد أن أفرك وقبل يبسه، ولم يُشترط قطعه ولا إبقاؤه، فقال ابن عبد الحكم: يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها. وقال ابن القاسم: يفوت باليبس ويمضي. وفي المدونة: أكرهه، فإذا وقع فات فالأولى أن يفسخ. الشيح أبو محمد: معناه يفوت بالقبض. وفي الموازية: إن نزل لم أفسخه. وظاهره أنه يمضي بمجرد العقد.

وما يخلف كالياسمين فللمشتري

لا إشكال أن ما لا يخلف إذا بيع يتناول جميعه، ولهذا لم يتعرض المصنف له.

وأما ما يخلف فإن تميزت بطونه فلا تدخل الخلفة إلا بشرط.

ابن حبيب: ولا يجوز اشتراطها إلا في الأرض المأمونة، أرض النيل وشبهه، وأما المطر فلا يجوز اشتراط خلفتها، إذ قد لا تمطر فلا يكون له خلفة. وإن لم يتميز بطونها كالياسمين والخس والبطيخ والمقاتي، وله آخر، فأجاز مالك بيعه للمشتري في جميع تلك الغلة إلى آخرها.

ص: 562

قال في المدونة: ولا يجوز اشتراء ما تطعم المقاتي شهراً، لاختلاف الحمل فيه في قلة الحر وكثرته.

فإن استمر كالموز فلابد من الأجل

أي: إن كان ما يخلف ليس له إبان ينتهي إليه- كالموز- فلا يجوز بيعه إلا بضرب الأجل، وهو غاية ما يمكن. قال مالك: ويجوز اشتراط خلفته السنتين، وقال ابن نافع: لا يجوز إلا السنة ونحوها.

تنبيه:

وقع في نسخة ابن راشد هنا زيادة مسألة نصها: ولو كانت الأشجار تطعم بطنين ففي بيع البطن الثاني ببدو صلاح الأول قولان، مشهورهما المنع بناء على أن البطن الثاني تبع للأول فيجوز بيعه بصلاح الأول، أو مستقل فلا يجوز. وكذلك قال الباجي: المنع ظاهر المذهب.

ص: 563