المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌اللَّقِيطُ: طِفْلٌ ضَائِعٌ لا كَافِلَ لَهُ   (اللَّقِيطُ) فعيل بمعنى مفعول، وقوله: - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٧

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌اللَّقِيطُ: طِفْلٌ ضَائِعٌ لا كَافِلَ لَهُ   (اللَّقِيطُ) فعيل بمعنى مفعول، وقوله:

‌اللَّقِيطُ:

طِفْلٌ ضَائِعٌ لا كَافِلَ لَهُ

(اللَّقِيطُ) فعيل بمعنى مفعول، وقوله:(طِفْلٌ) أراد الجنس، فيشمل الذكر والأنثى، وإلا فاللقيط إنما هو الذكر.

ابن سيده: وأما الأنثى فلقيطة. وكلامه ظاهر.

والمنبوذ مرادف للقيط على مقتضى كلام الجوهري والمتقدمين من أصحابنا.

عياض في المشارق: وقيل المنبوذ ما طرح صغيراً أول ما ولد، واللقيط ما التقط صغيراً، والشرائد في الخلاء وشبه ذلك. وقيل: اللقيط إذا أُخذ، والمنبوذ ما طرح- مطروحاً- ولا يسمى لقيطاً إلا بعد أخذه.

وَالالْتِقَاطُ فَرْضُ كِفَايَةٍ

لأن حفظ النفوس واجب، وكان على الكفاية لأن المعنى المقصود يحصل بواحد، وذلك فرض الكفاية.

وَيَنْبَغِي الإِشْهَادُ

أي: ظاهره الاستحباب. وقال ابن عبد السلام: ظاهره الوجوب خوف الاستغراق. انتهى.

وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بَعْدَ أَخْذِهِ

هكذا لمالك في المدونة؛ لأن فرض الكفاية يتعين بالشروع فيه كالنافلة.

ص: 379

وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ لِيَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ. قَالَ الْبَاجِيُّ: يَعْنِي إِنْ كَانَ مَوْضِعاً مَطْرُوقاً وَيُوقِنُ أَنَّ غَيْرَهُ يَاخُذُهُ

يعني: وقال أشهب: ليس له رده إلا أن يكون أخذه ليرفعه للحاكم ولم يقصد تربيته، ولم يقبله الإمام لأنه لم يلزم تربيته. وتقييد الباجي ظاهر لأنه إذا لم يكن الموضع مطروقاً فلا يرده لأنه يعرض للتلف غالباً.

وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ الالْتِقَاطُ إِلا بِإذْنِ السَّيِّدِ

لأنه يشتغل بتربيته ونفقته عن سيده، ومراده بالعبد الغني ومن فيه شائبة من الرق. وإنما نص على المكاتب لأنه قد يتوهم لما أحرز نفسه وماله أن له ذلك، ووُجِّه أنه ليس له ذلك فإن اللقيط يحتاج إلى حضانة والحضانة تبرع وليس من أهله.

وَوَلاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ

قال مالك في الموطأ: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر وولاؤه لجميع المسلمين يرثونه ويعقلون عنه، لكن في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أن قال للملتقط طفلاً: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته.

وَيُنْزَعُ اللَّقِيطُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلامِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ

خشية أن يربيه على دينه أو يطول الزمان فيسترقه، قاله مطرف وأصبغ. ولو لم يفطن إلى ذلك حتى كبر الصبي أو الصبية على دين ملتقطه [651/أ] لم يلتفت غلى ذلك وحكم بإسلامه وإلا فهو مرتد. هذا ظاهر كلامهم. انتهى. لأنه قد سئل سحنون عن نصرانية التقطت صبية فربتها حتى بلغت على دينها، قال: إن ثبت أنها لقطة فتردها إلى الإسلام وهي حرة. واحترز بقوله المحكوم بإسلامه مما لا يحكم بإسلامه، وسيأتي تفصيل ذلك.

ص: 380

وَإِذَا ازْدَحَمَ اثْنَانِ فَالسَّابِقُ ثُمَّ الأَوْلَى وَإِلا فَالْقُرْعَةُ

أي: وإن كان الآخر أولى فالسابق أحق لسيقيته، وهو مقيد بما إذا لم يؤد إلى ضياعه عند الأول. أشهب: إن كانا سواء أو متقاربين فالأول أحق به، فإن خيف أن يضيع عند الأول فالثاني أحق به إلا أن يكون طال مكثه عند الأول وليس اللقط من ضرر فالأول أحق به. وقوله:(ثُمَّ الأَوْلَى) يعني: إن تساويا في السبقية فالأقوى في الحضانة أحق به، وإن تساويا في الكفالة فالقرعة.

وَعَلَى الْمُلْتَقِطِ حَضَانَتُهُ

لأنه التزمها بالتقاطه.

وَأَمَّا نَفَقَتُهُ فَمِنْ مَا لَهُ مِنْ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ كَانَ تَحْتَهُ أَوْ مَلْفُوفاً مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَإِلا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ يَسْتَغْنِيَ

قوله: (فَمِنْ مَا لَهُ) هو بفتح اللام. وقوله: (مِنْ وَقْفٍ .. إلخ) بيان ذلك. وقوله: (أَوْ شَيْءٍ .. إلخ) سواء كان فرشاً أو دراهم أو دنانير. وهو ظاهر.

ابن شاس: وأما المدفون في الأرض تحته فليس هو معه إلا أن توجد معه رقعة مكتوبة أنه له.

ابن شعبان: وما وجد قريباً منه من مال أو دابة فهي ضالة أو لقطة، فإن لم يكن له شيء مما ذكر ولم يتبرع أحد بإنفاق عليه أعطي له من بيت المال شيء، وهو معنى قوله:(وَإِلا فَفِي بَيْتِ الْمَالِ) لأنه فقير من فقراء المسلمين.

قوله: (فَإِنْ تَعَذَّرَ) فلمالك في الموازية: نفقته على ملتقطه حتى يبلغ ويستغني.

هكذا نقل الباجي وغيره هذه الرواية بالواو خلاف قول المصنف ويستغني. ووجبت النفقة على الملتقط؛ إما لأن العادة التزامها، أو لأنه أولى الناس به.

ص: 381

فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَباً بِالْبَيِّنَةِ طَرَحَهُ عَمْداً لَزِمَتْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ حِسْبَةً فَلا رُجُوعَ، فَإِنْ أَشْكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ ....

قوله: (ثَبَتَ أَنَّ لَهُ) أي: اللقيط، (بِالْبَيِّنَةِ) لا مفهوم له؛ لأنه لو أقر أنه ولده كان كذلك، وإنما تشترط البينة أو ما يقوم مقامها في التصديق في الاستلحاق كما سيأتي. وقوله:(طَرَحَهُ عَمْداً) هكذا في تضمين الصناع من المدونة لأنه قال: إن تعمد طرحه وهو ملي رجع عليه بما أنفق، وإن لم يطرحه فلا شيء عليه. ووجهه أنه إذا لم يطرحه الأب فالنفقة حينئذ ساقطة لأنه لا يمكنه توصيله إلى الولد.

وقوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ حِسْبَةً) هو استثناء من قوله: (لَزِمَتْهُ) أي: ألا تلزمه النفقة إلا أن يكون الملتقط أنفق حسبة؛ أي تطوعاً لله تعالى. وروى أشهب أنه لا شيء على الأب بحال لأنه أنفق تطوعاً.

وقوله: (فَإِنْ أَشْكَلَ) أي: لم يقم دليل على أنه أنفق عليه حسبة أو على الرجوع (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ) أي: الملتقط- مع يمينه أنه ما أنفق إلا ليرجع. قاله ابن شاس.

وَيُحْكَمُ بِإِسْلامِ اللَّقِيطِ مِنْ قُرَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاضِعِهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قُرَى المُشْرِكِينَ فَمُشْرِكٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِلا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مُسْلِمٌ

الأول مذهب المدونة ونص عليه في تضمين الصناع، ووجهه أن المعتبر الدار إذ يغلب على الظن أن من وجد بموضع أنه من أهله، والحكم للغالب. وروى أشهب أنه مسلم إذا التقطه مسلم تغليباً لحكم الإسلام لأنه يعلو ولا يعلى عليه.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ بَيْتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَمُشْرِكٌ إِلا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ كَحُرِّيَّتِهِ لِلاحْتِمَالِ ....

لما تكلم على ما إذا كانت القرية كلها للمسلمين أو مشركين تكلم على ما إذا كانت القرية كلها للمسلمين مشتركة والأغلب الشرك ويعمهم من تعيين المصنف هذه الصورة

ص: 382

بالخلاف أنه لو كان المسلمون مساوين أو أكثر أو قريباً من التساوي أن يحمل اللقيط على الإسلام ولو التقطه مشرك، لأنه لما احتمل الإسلام انبغى أن يغلب ولا عبرة بملتقطه، كما لو التقطه عبد فإنه يجعل حراً تغليباً لشرف الحرية ولا عبرة للعبد الملتقط، وهذا معنى قوله:(كَحُرِّيَّتِهِ لِلاحْتِمَالِ). فإن قلت: في الأصل معنى ليس في الفرع وهو كثرة الأحرار بل الفرع بالعكس، لأن المشركين أكثر. قيل: وصف الأكثرية ملغى باتفاق الضمير بدليل أنه لو التقطه مسلم عند ابن القاسم لكان مسلماً.

وَفِي اسْتِلْحَاقِ الْمُلْتَقِطِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلانِ

أي: صحة الاستلحاق. وقوله: (بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ) وأما بالبينة فيقبل باتفاق.

وقوله: (قَوْلانِ) الذي رواه ابن القاسم أنه لا يلحق به. وقال اشهب: لحق به أبو إسحاق وهو الاختيار، وربما طرح الناس أولادهم للإملاق أو غيره. ووجه القول الأول أن العرف يكذبه.

وَفِي مُسْلِمٍ غَيْرِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ أَتَى بِوَجْهٍ لَحِقَ كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ طَرَحَهُ لأَنَّهُ لا يَعِيشُ لَهُ وَلَدٌ وَسَمِعَ أَنَّهُ إِذَا طَرَحَهُ عَاشَ

أي: وفي لحوقه بمسلم غير الملتقط ثلاثة أقوال: أولها لأشهب أنه يلحق به لأنه مجهول النسب. ثانيها: لا يلحق به إلا ببينة لأن الولد قد ثبت للمسلمين. الثالث ذكره ابن شعبان أنه لا يلحق به إلا أن يكون رجلاً تكلة لا يعيش له الأولاد فزعم أنه فعل ذلك لذلك. وأسقط المصنف منه قوله يعلم [651/ب] أنه فعل ذلك لذلك.

ابن راشد: وينبغي إذا أتى بوجه يدل على قوله ألا يختلف في قبول قوله.

وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلا يَلْحَقُهُ إِلا بِبَيِّنَةٍ

زاد ابن شاس: ويكون على دينه إلا أن يسلم قبل ذلك وبعقل الإيمان فيكون مسلماً.

ص: 383

وَفِي الْمَرْأَةِ ثَالِثُهَا: تُصّدَّقُ إِنْ قَالَتْ مِنْ زِنىً وَتُحَدُّ

قال ابن القاسم: لا يقبل قولها وإن أتت بما يشبه من العدم. وقال أشهب: تصدق مطلقاً. وقال محمد: إن قالت من زنى صدقت وحدت لبعد التهمة حينئذ، وأما من لها زوج فلا حتى يدعيه فيلحق به.

وَاللَّقِيطُ حُرٌّ وَلا يُرَقُّ إِلا بِبَيِّنَةٍ لا بِإِقْرَارٍ

هو ظاهر، وإنما لم يقبل إقراره لأنه ليس له أن يرق نفسه والحرية ظاهرة فيه.

***

ص: 384

الأَقْضِيَةُ: وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ

قال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه.

وقال الجوهري: القضاء: الحكم.

وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه، إلا أنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه، وهو كالتصريف من علم العربية، فإنه ليس كل النحاة يعلم التصريف، وقد يحسنه من ليس له باع في النحو، وإنما كان فرضاً، لأنه لما كان الإنسان لا يستقل بأمور دنياه، إذ لا يمكن أن يكون حَرَّاثَاً طَحَانَاً خبازاً إلى غير ذلك من الصنائع المفتقر إليها، احتاج إلى غيره، ثم بالضرورة قد يحصل بينهما التشاجر والخصام لاختلاف الأغراض؛ فاحتيج إلى من يفصل تلك الخصومات، ويمنع بعضهم من غرضه، فلهذا وجب إقامة الخليفة، لكن نظر الخليفة أعم إذا جد ما ينظر فيه القاضي، ولما كان هذا الغرض يحصل بواحد وجماعة كان فرض كفاية؛ لأن ذلك شأن فروض الكفاية.

فَإِذَا انْفَرَدَ بِشَرَائِطِهِ تَعَيَّنَ

أي: إذا انفرد شخص بشرائطه تعين قبوله للقضاء، ولم يجز له الهروب منه، ووجب على الإمام توليته. قال مالك: ويجبر عليه إذا تعين، قيل له: الجبر بالضرب والحبس، قال: نعم، ومثله لابن شعبان، وقد ذكر ابن سحنون أن الإمام أقام حولاً يجبر أباه على القضاء حتى تخوف منه، فحينئذ قبل.

وإذا كان القضاء فرض كفاية وقد تعين كانت منزلته عظيمة؛ أعني: بشرط أن يعن القاضي على الحق كما كان في الصدر الأول، وأما إذا لم يعن عليه وربما أعان من ولاه عليه لبلوغ هواه.

ص: 385

ابن عبد السلام: فينقلب ذلك الواجب محرماً نسأل الله السلامة في الدين والدنيا، وبالجملة: إن أكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات خسيسة انتهى.

ولهذا كان الأولى الهروب عن خطة القضاء ما لم تتعين. ولخطر هذه الخطة قال أصحابنا: إذا عين الإمام رجلاً للقضاء وَثَمَّ مَنْ يصلح غيره جاز له الاستعفاء والهروب، بخلاف سائر فروض الكفاية؛ فإنه إن عين بعضهم لم يجز الهروب، كما لو عين طائفة لقتال العدو فإنه يتعين في حقها.

وَخَرَّجَ النسائِيُّ عن بُرَيْدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة؛ رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار" والتقسيم في الحديث إنما هو باعتبار الأنواع فربما لم يوجد من النوع إلا شخص واحد، ويوجد من الآخر آلاف وَخَرَّجَ النسائي من حديث عثمان الأخنسي، ووثقه يحيى ابن معين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين" وفي رواية: "من استعمل على القضاء فكأنما ذبح بالسكين".

وقال أصحابنا: وقد يجب طلب القضاء، وقد يستحب، وقد يحرم، ويكره.

فيجب إذا كان من أهل الاجتهاد والعدالة ولا يكون هناك قاض، أو يكون ولكن لا تحل ولايته، أو يعلم أنه إذا لم يتول تضيع الحقوق ويكثر الهرج.

ويستحب إذا كان عالماً خفي علمه عن الناس فأراد أن يشهره بالقضاء؛ لِيُعَلِّمَ الجاهل ويفتي المسترشد، أو يري أنه أنهض وأنفع للمسلمين من غيره.

ويحرم على الجاهل ومن طلب به اكتساب دنيا، ويكره إذا كان عدلاً مشهوراً ينفع الناس بعلمه، وخاف إن تولى القضاء إلا يقدر على ذلك.

ص: 386

المازري: ويبعد عندي تصور الإباحة إلا عند تقابل أدلة الأحكام وقرائن الأحوال، ولا يقدر على ترجيح بعضها على بعض.

وَصِفَاتُهُ ثَلاثَةٌ: شَرْطٌ وَاجِبٌ، وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ غَيْرُ شَرْطٍ، وَمُسْتَحَبٌّ

لما ذكر أنه إذا انفرد بشرائطه تعين شرع في بيان تلك الشرائط، ولما كانت الشروط قائمة بالقاضي أطلق عليها صفات.

قوله: (وَصِفَاتُهُ) عائد على القاضي.

وقوله: (شَرْطٌ وَاجِبٌ) أي: الأول، ووصف الشرط بالواجب لئلا يُعْتَقَدُ أنه شرط كمال، ومعنى الشرطية: أن عدم شيء من هذه الصفات يمنع صحة العقد وينفسخ بحدوثه.

وقوله: (وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ) أي: الصفة الثانية غير شرط في صحة الولاية وانعقادها ابتداء، ولكنه يجب أن يكون متصفاً بها، وعدمها موجب للعزل، وينفذ ما مضى من أحكامه.

فإن قلت: قوله أولاً: (فَإِذَا انْفَرَدَ بِشَرَائِطِهِ تَعَيَّنَ) إما أن يريد به الصفة الأولى فقط أو الجميع، قيل: لا هذا ولا هذا؛ لأنه لو أراد الصفة الأولى فقط، لزم أن من حصلت فيه تعين عليه القضاء، فلا يكون الوصف الثاني موجب للعزل، ولو [652/أ] كان المراد الجميع لزم أن من انفرد بالصفتين الأوليين لا يتعين عليه، وليس كذلك؛ لأن الصفة الأولى مستحبة لا واجبة، وإنما مراده مجموع الصفتين الأوليين، لكن يبقى في كلامه تضاد؛ لأنه قال في الثاني:(وَمُوجِبٌ لِلْعَزْلِ غَيْرُ شَرْطٍ) فيكون أطلق الشرط على الشرائط وغيره.

الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَكَراً حُرَّاً بَالِغاً عَاقِلاً مُسْلِماً عَدْلاً مُجْتَهِداً فَطِناً

أي: الشرط الأول أو الوصف الأول أو القسم الأول مركب من ثمانية قيود:

ص: 387

أولها: أن يكون حراً، احترازاً من العبد، وَمَنْ فيه شائبة من شوائب الرق مِنْ مكاتب ومدبر ومعتق إلى أجل ومعتق بعضه؛ لأن كلاً من هؤلاء لا يلي أمر نفسه، فأحرى غيره، ولأنه لا يصح أن يكون شاهداً، والقضاء أعم من الشهادة، ويشمل قوله:(حُرَّاً) المعتق.

ابن عبد السلام: وهو مذهب الجمهور. ومن النوادر عن سحنون المنع، واعتل بأنه قد يستحق فيرد إلى رق؛ فترد أحكامه، وأورد النقض بقبول شهادته مع أنه قد يستحق، وأجيب بأن للإمام مندوحة عن ولايته بخلاف قبول شهادته في أمر تَعَيَّنَ عليه لا يعرفه غيره.

ثانيها: أن يكون ذكراً؛ فلا يصح عقد الولاية لامرأة؛ لما في البخاري: "لن يفلح قوم وَلَّوْ أمرَهم امرأة".

روى ابن أبي مريم عن ابن القاسم إجازة توليتها القضاء.

ابن زرقون: وأظنه يريد فيما تجوز فيه شهادتها كقول أبي حنيفة. انتهى.

ويحتمل أن يريد الإطلاق كقول محمد بن الحسن والطبري والمازري. والإجماع على أنها لا تُوَلَّى الإمامة الكبرى، ولا يقال: قد وَلَّى عمر رضي الله عنه الشفاء الحسبة، وهي قضاء وحكومة؛ لأنا نقول: عموم الحديث مقدم عليه.

المازري: واعتذر عنه بعض أصحابنا بأنه إنما جعل لها تغيير ما يقع من المنكرات في السوق، ولا يلزم من تخصيص عموم الحديث بهذه الصورة تخصيصه بغيرها.

ثالثها: أن يكون بالغاً.

رابعها: أن يكون عاقلاً، ولا خلاف في اعتبارهما.

خامسها: أن يكون مسلماً، ولا خلاف فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه من ولاية الكافر الحكومة بين أهل دينه.

المازري: إن كان معناه أنهم يردون إلى دينهم إذا لم يتراضوا بحكم الإسلام، وتخاصموا الحبر من أحبارهم من دينهم، ويمنع أحد الخصمين من الامتناع منه- فهذا مما لا يستنكر.

ص: 388

سادسها: أن يكون عدلاً.

المازري: وقد نص الله تعالى على اشتراط العدالة في الشاهد، والقاضي أشد حرمة منه. قال: وعلى منع ولاية الفاسق العلماء، وشذ قوم من المتكلمين فذهبوا إلى أن الفسق لا ينافي عقد ولاية القضاء، وهو مذهب مستنكر.

سابعها: أن يكون مجتهداً؛ فلا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه.

المازري: هكذا يحكي أصحابنا عن المذهب أنه لا تجوز ولاية المقلد. وهذا إنما هو إذا كان المجتهد موجوداً، وإلا فعند عدمه تصح الولاية لغيره كما سيأتي.

قال مالك في الواضحة: لا ارى خصال القضاة تجتمع اليوم في أحد، ولكن يجب أن يكون عالماً عدلاً.

ابن حبيب: فإن لم يكن عالماً فعاقلاً ورعاً؛ لأنه بالعقل يسأل وبالورع يقف، فإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده.

ابن رشد: يريد بالعقل: العقل الحصيف، وأما العقل الذي هو شرط التكليف فإنما هو شرط في صحة الولاية.

أصبغ: ويعزل الجاهل إلا أن لا يوجد غيره فيقر، ويؤمر أن يستكثر من المشورة ويتفقد أمره في كل حين.

المازري: وما قاله ابن حبيب تسهيل في ولاية القاضي المقلد، ولكنه لم يصرح بجواز هذا مع القدرة على نظار، بل أشار إلى كون الضرورة تدفع إلى ولاية المقلد.

وهكذا قال أصبغ إذا لم يوجد إلا عدل لا علم عنده وعالم لا بأس بحاله، لكن الذي لا علم عنده أعدل منه فإن العالم هو الذي يولى. فإن كان ليس بعدل، فيولى العدل الذي ليس بعالم، ويؤمر بأن يستشير. قال: وهذا الذي وقع في المذهب ينبغي أن يحمل على

ص: 389

مواضع الضرورة، وأما مع الاحتمال وكثرة النظار فلا يختلف أن ولاية النظار أولى من ولاية المقلدين، وإنما يتصور الخلاف هل تصح ولاية المقلد وتنفذ أحكامه وتنعقد ولايته وهو قول أبي حنيفة أم لا، وهو قول الشافعي وهو الذي يحكيه أئمة مذهبنا عن المذهب؟

ثامنها: أن يكون فطناً؛ فلا يجوز ولاية المغفل كما في الشهادة، بل الاشتراط هنا أولى، وهذا الشرط لم يقع في كل النسخ، وكلام الطرطوشي يدل على اشتراطه.

وبقي على المصنف شرط تاسع، وهو أن يكون القاضي واحداً، نص عليه ابن شاس وابن شعبان وغيرهما؛ أي: لا يجوز أن يفوض القضاء إلى اثنين لا يتم الحكم إلا باجتماعهما.

المازري: وأغلى الباجي في المنع حتى ادعى عليه الإجماع، وقال: لم يتفق هذا من زمانه عليه السلام إلى زماننا، وخاف من النقض عليه بالحكمين، لأنهما إذا اختلفا انتقل إلى غيرهما، وفي القاضيين لا يمكن التنقل عنهما، فيؤدي اختلافهما إلى وقف الأحكام.

المازري: وعندي أنه لا يقوم دليل على المنع إذا اقتضت ذلك المصلحة ودعت إليه الضرورة في نازلة يرى الإمام أنها لا تصلح، وترتفع فيها التهمة إلا بقضية [652/ب] رجلين.

وذكر الباجي أنه قد ولي في بعض بلاد الأندلس ثلاثة قضاة على هذه الصفة، ولم ينكر ذلك من كان من فقهائه، وانه أنكر هو فعلهم.

وَإِنْ لَمْ يُوْجَدْ مُجْتَهِدٌ فَمُقَلِّدٌ؛ فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى مُقَلَّدِهِ، وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلا بِاجْتِهَادِهِ

يعني: أنه لا تترك ولاية القضاء عند عدم الاجتهاد لئلا يؤدي إلى الهرج وإبطال الحقوق، ولأن إنصاف المظلوم من الظالم واجب، وهو ممكن من المقلد.

ابن راشد وابن عبد السلام: إلا أنه ينبغي أن يختار أعلم المقلدين ممن له فقه نفيس وقدرة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه ويعلم منها ما هو أحرى على أصل مذهب إمامه مما ليس

ص: 390

كذلك، وأما إذا لم يكن بهذه المزية فيظهر من كلام الشيوخ اختلاف بينهم هل يجوز توليته القضاء أم لا؟

عياض: وشرط العلم إذا وجد لازم، فلا يصح تقديم من ليس بعالم، ولا ينعقد له تقديم مع وجود العالم المستحق للقضاء، لكن رخص فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم، إذا لم يوجد من بلغها. ومع كل حال فلابد أن يكون له علم ونباهة وفهم لما يتولاه، وإلا لم يصح له أمر.

وقوله: (فَيَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ) بفتح اللام.

ابن العربي: ويقضي حينئذ بفتوى مقلده بنص النازلة، فإن قاس على قوله أو قال:"يجيء من هذا كذا" فهو متعد.

خليل: وفي هذا نظر، والأقرب جوازه للمطلع على مدارك إمامه.

ووجه المازري ما ذكره المصنف بأنه لو حكم بغير مذهبه تطرقت إليه التهمة بالحيف والقضاء بالشهوة؛ فأمر باتباع مذهبه للسياسة لا لمقتضى أصول الشرع؛ لأن أصول الشرع مبنية على أن المفتي والقاضي يؤمران باتباع الحق حيثما ظهر لهما.

قوله: (وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ) هذا القول ذكره في الجواهر عن الطرطوشي، ونصه: ولا يلزم أحداً من المسلمين أن يقلد في النوازل والأحكام من يعتزي إلى مذهبه، فمن كان مالكياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقوال مالك، وهكذا القول في سائر المذاهب، بل أينما أداه اجتهاده من الأحكام صار إليه، فإن شرط على القاضي أن يحكم بمذهب إمام معين من أئمة المسلمين ولا يحكم بغيره فالحكم صحيح والشرط باطل، كان موافقاً لمذهب المشترط أو مخالفاً له.

ص: 391

قوله: (وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) أي: وقيل: لا يجوز لهذا المقلد إذا أَدَّاهُ اجتهاده إلى خلاف مذهبه أن يحكم إلا باجتهاده، ولا يقال: قوله: (إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) ينافي فرض المسألة؛ إذ الكلام في عدم المجتهد؛ لأن المراد عدم المجتهد المطلق، وأراد بقوله:(إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) الاجتهاد المقيد، وهو الاجتهاد في مذهبه والإطلاع على مدارك إمامه.

وقال ابن عبد السلام: قوله: (وَقِيلَ: لا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ) معناه: لا يجوز تولية المقلد البتة، ويرى هذا القائل أن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وأنها موجودة إلى الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانقطاع العلم فيه، ولم نصل إليه إلى الآن، وإلا كانت الأمة مجمعة على الخطأ. انتهى.

وفيه بُعْدٌ؛ لأن الفرض عدم المجتهد.

خليل: العلماء في جواز خلو الزمان عن مجتهد قولان: فاختار ابن الحاجب وغيره الجواز خلافاً للحنابلة وتحقيق ذلك في محله، وهو عزيز الوجود في زمننا، وقد شهد المازري بانتفائه ببلاد المغرب في زمانه، فكيف في زمننا؟! وهو في زمننا أمكن لو أراد الله بنا الهداية؛ لأن الأحاديث والتفاسير قد دونت، وكان الرجل يرحل في طلب الحديث الواحد، لكن لابد من قبض العلم على ما أخبر به عليه السلام.

فإن قيل: يحتاج المجتهد أن يكون عالماً بمواضع الإجماع والخلاف، وهو متعذر في زماننا لكثرة المذاهب وتشعبها، قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعاً عليها؛ لأن القصد أن يحترز من مخالفة الإجماع، وذلك ممكن.

وَقَالَ أَصْبَغُ: الْعَدْلُ مِنَ الثَّانِي

يعني: أن المشهور أن العدالة من الأول؛ فلا تصح الولاية لفاسق، ولا تنفذ أحكامه، وافق الحق أم لم يوافقه.

ص: 392

ورأى أصبغ أن العدالة من الوجه الثاني، وهو الموجب للعزل؛ فلا يجوز أن يُوَلَّى الفاسق، وإن طرأ وجب عزله، ويمضي مِنْ أحكامه ما وافق الحق.

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: الْعَالِمُ مِنَ الثَّالِثِ

أي: من المستحب، وعليه فتنعقد ولاية الجاهل، ولا يجب عزله. وقوله:(وَقَالَ الْبَاجِيُّ) ليس بجيد، وإنما هو ابن رشد، وقد تقدم غير مرة السبب المقتضي لذلك، ووهَّم ابن عبد السلام ابن شاس فيه أيضاً، قال: لأنه ليس قولاً لابن رشد، وإنما حكى فيه ابن رشد كلام غيره كما حكاه الأكثرون، ولكنه أشبع الكلام على العلم إثر كلامه على النوع الثالث؛ فاعتقد ابن شاس أنه يرى كون العلم من هذا النوع.

خليل: وليس توهيم ابن شاس بجيد، فقد نص في المقدمات على أن العلم من الصفات المستحبة، وكذلك الفطانة، ولم يعز ذلك لغيره.

الثَّانِي: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلامُ، وَلا نَصَّ فِي الْكِتَابَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الثَّالِثِ

أي: القسم الثاني أو الوصف الثاني: وهو الموجب للعزل، فتنعقد ولاية الأصم والأعمى والأبكم وتنفذ أحكامه سواء ولي كذلك أو طرأ عليه ذلك، وهكذا قال صاحب المقدمات.

ابن راشد: وظاهر ما في وثائق ابن القاسم [653/أ] أنها من الأول، والمذهب ما تقدم.

وذكر الباجي أنه لم ير في السمع نصاً، واختار المنع، وعلله بسماع الدعاوى والشهادات، وليس كلهم يمكنه أن يكتب، وكذلك ذكر أنه لا خلاف في منع كون الأعمى حاكماً.

وذكر عياض وابن زرقون أن الماوردي حكى عن مالك جوازه.

عياض: ولا يصح عن مالك؛ إذ لا يتبين طالب من مطلوب ولا شاهد من مشهود عليه.

ص: 393

ولا نص في الكتابة، هكذا قال الباجي وابن رشد أنه لا نص هل يشترط في القاضي أن يكتب؟ وعن الشافعية قولان: أظهرهما الجواز؛ لأن إمام المسلمين وسيد المرسلين وأفضل الحاكمين صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيَاً، قالا: وللمنع وجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بخلاف غيره.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَرِعاً غَنِيَّاً لَيْسَ بِمِدْيَانٍ، بَلَدِيَّاً مَعْرُوفَ النَّسَبِ غَيْرَ مَحْدُودٍ حَلِيماً مُسْتَشِيراً لا يُبَالِي لَوْمَةَ لائِمٍ، سَلِيماً مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ ....

هذا هو المستحب.

قوله: (وَرِعاً) أي: عن الشبهات.

(غَنِيَّاً) لأن الفقير قد يحتاج إلى غيره، ومقالة السوء تكثر فيه بخلاف الغني.

ابن عبد السلام: والظاهر الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين؛ فإن وجود الدين مع الغنى بما يزيد على مقدار الدين لا أثر له.

خليل: وفيه نظر، والظاهر خلافه، ولا يخفى عليك.

(بَلَدِيَّاً) ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من الشهود وغيرهم.

ابن راشد وابن عبد السلام: والولاة الآن يرجحون غير البلدي، إذ لا يخلو البلدي من أعداء، والغالب وجود المنافسة بينه وبين أهل بلده.

(مَعْرُوفَ النَّسَبِ) لأن من لا يعرف أبوه من ولد لعان أو زنى يطعن فيه، فلا يكون له في نفوس الناس كبير هيبة.

وقال سحنون: لا بأس بتولية ولد الزنى، ولكن لا يحكم في الزنى كما لا يحكم لولده.

الباجي: والأظهر أنه ممنوع؛ لأن القضاء موضع رفعة وطهارة أحوال، فلا يليها ولد الزنى كالإمامة في الصلاة.

ص: 394

وقوله: (غَيْرَ مَحْدُودٍ) أي: في زنى ولا غيره.

وفي كتاب أصبغ: ويستقضى المحدود في الزنى والقذف، والمقطوع في السرقة إذا كان اليوم مُرْضِيَاً.

وجوز أصبغ حكمه فيما حد فيه، ومنعه سحنون قياساً على الشهادة.

(حَلِيماً) أي: على الخصوم، وَمِنْ حلمه أن يسمع الكلام الذي لا يفيد إلا أن تنتهك حرمة الشرع، فيكون انتصاره لغيره، وبذلك تتم مهابته التي هي أحد صفات الكمال.

(مُسْتَشِيراً) أي: لأهل العلم؛ لأنه أهون له على حصول الصواب.

المازري: وأغلى الشافعي في هذا، وقال: يجمع المخالفين له في المذهب ويشاورهم؛ لأ، كل من انتحل مذهباً وتفرد للذب عنه كل خاطره في الإكثار من الأدلة عليه.

وقوله: (لا يُبَالِي لَوْمَةَ لائِمٍ) الظاهر أن هذا راجع إلى الوصف الأول؛ لأن الخوف من لومة اللائم راجع إلى الفسق.

وقوله: (سَلِيماً مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ) لأن السلامة منها رأس كل خير، وكثيراً ما يؤتى على أهل الخير من جهة قرنائهم السوء. والبطانة: هم الأصحاب.

(غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ) هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعضها:(وغيره) بواو العطف؛ ليكون معطوفاً على مقدر؛ أي: فَطِنَاً وغير زائد في الدهاء؛ لأن ذلك يحمله على الحكم بالفراسة وتعطيل الطرق الشرعية مِنْ البينة والأيمان.

فَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ رضي الله عنه زِيَاداً لِذَلِكَ

هذا استدلال منه على ما ذكره أنه لا يكون القاضي زائداً في الدهاء، ويقال: إن عمر قال لزياد لما عزله: كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك. والله أعلم بصحة هذا، وما

ص: 395

رأيت مَنْ ذَكَرَ زِيَاداً في قضاة عمر، وقد وَلَّى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وَوَلَّى عليٌّ زياداً وقيسَ بن سعد بن عبادة وهؤلاء هم دهاة العرب، وكان عمر إذا استضعف عقل رجل قال له:"سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص" وحكاياته في حروبه في فتوح الشام ومصر مشهورة عند الإخباريين، إلا أن هؤلاء كانوا أمراء غير قضاة، وقد يحتاج الأمير في زيادة الدهاء إلى ما لا يحتاج إليه القاضي.

وَلَوْ تَجَرَّدَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَنْ الاسْتِخْلافِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِخْلافٌ، وَقِيلَ: إِلا فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ

يعني: إن أذن له في الاستخلاف، أو نص له على عدمه عَمِلَ على ذلك، وأما إن تجرد عقد التولية عن ذلك فإن لم يكن له عذر لم يكن له ذلك، وإن كان له عذر فقال مطرف وابن الماجشون: له ذلك. وقال سحنون: ليس له ذلك وإن مرض أو سافر، ورآه كالوكيل المخصوص. هكذا حكى جماعة هذا القول عن سحنون، ومقتضى كلام المصنف أنه المذهب عنده.

ابن راشد: وهذا إذا استخلف في البلد الذي هو فيه ليكفيه بعض تعب الخصوم، وأما إن كان عمل القاضي واسعاً فيريد أن يقدم في الجهات البعيدة فالمشهور الجواز، وقال ابن عبد الحكم؛ لا يجوز إلا بإذن الخليفة.

ابن محرز: ولم يختلفوا أن القاضي ليس له أن يوصي بالقضاء عند موته لغيره، بخلاف الوصي والإمام الأكبر، وضابط ذلك أن كل مَنْ ملك حقاً على وجه لا يملك معه عزله فله أن يوصي به، ويستخلف عليه كالخليفة والوصي والمجبر على ما ذهب إليه ابن القاسم وإمام الصلاة، وكل من ملك حقاً على وجه يملك معه عزله عنه فليس له أن يوصي به كالقاضي والوكيل، ولو كان مفوضاً [653/ب] إليه أو خليفة القاضي للأيتام وشبه ذلك.

ص: 396

وَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِمَا يُسْتَخْلَفُ فِيهِ

الضمير في (عِلْمُهُ) عائد على المستخلف بفتح اللام، المفهوم من السياق، يعني: أنه لا يشترط في خليفة القاضي أن يكون عالماً بجميع أبواب الفقه، بل إنما يشترط علمه بما يستخلف فيه، مثاله: لو استخلف على النظر بين الزوجين فيشترط علمه بالأنكحة وما يتعلق بها، إلا أن يفوض إليه فيشترط علمه بالجميع كما في الأصل.

وَلِلإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَرَى غَيْرَ رَايِهِ فِي الاجْتِهَادِ وَفِي التَّقْلِيدِ، وَلَوْ شَرَطَ الْحُكْمَ بِمَا يَرَاهُ كَانَ اشْتِرَاطاً بَاطِلاً، وَالتَّوْلِيَةُ صَحِيحَةٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: كَانَ فِي سِجِلَّاتِ قُرْطُبَةَ وَلا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا وَجَدَهُ

(لِلإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَرَى غَيْرَ رَايِهِ) كالمالكي يولي شافعيَّاً أو حنفيَّاً. ولو شرط- أي الإمام- على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلاً وصح العقد، هكذا نقله في الجواهر عن الطرطوشي.

وقال غيره: العقد غير جائز، وينبغي فسخه ورده؛ لكونه صار مأموراً بمخالفة الحق، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهداً. وكذا فرض المازري المسألة فيه ثم قال: وإن كان الإمام مقلداً أو كان متبعاً لمذهب مالك واضطر إلى ولاية قاض مقلد- لم يَحْرُمْ على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي هذا القاضي منه، وولي عليهم، وقد وَلَّى سحنون لما ولي القضاء أمناء وكان فيمن ولاه رجل سمع كلام بعض أهل العراق فأمره سحنون ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة.

وقوله: (قَالَ الْبَاجِيُّ) هكذا نقله الطرطوشي عن الباجي.

الطرطوشي: وهو جهل عظيم منهم؛ يريد: لأن الحق ليس في شيء معين.

ص: 397

ابن راشد: وما نقل عن سحنون من ولاية ذلك الشخص على أن لا يخرج عن أقوال أهل المدينة؛ يريد: قولهم، وكيف يقول الأستاذ ذلك والناس إذا أتوا المالكي إنما يأتونه ليحكم بينهم بمذهب مالك؟! وقد أخبرني القرافي عن شيخه ابن عبد السلام أنه كان يرى في المسألة رأياً، وإذا سئل عنها ترك رأيه وأفتى بقول الشافعي، فقيل له في ذلك فقال: هذا لم يسألني عن اختياري، وإنما سألني عن مذهب الشافعي.

وَيَجُوزُ أَنْ يُنَصَّبَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ فَأَكْثَرُ، كُلٌّ مُسْتَقِلٌ أَوْ مُخْتَصٌ بِنَاحِيَةٍ أَوْ بِنَوْعٍ ....

لأن الناس قد يكثرون فلا يكفيهم الواحد، وفهم من كلامه أنه ليس من شرط ولاية القضاء أن تكون عامة، وهو مذهب مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة في قوله: لا تنعقد إلا عامة. وعلى مذهبنا فيجوز للإمام أن يستثني أشخاصاً لا يحكم بينهم.

أصحابنا: ولا يجوز أن ينهاه الأمير عن النظر في مسألة رجل بعد أن نظر فيها وأشرف على الحكم، أو نوع كالدماء والأموال.

فَلَوْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي الاخْتِيَارِ فَالْقُرْعَةُ

يعني: إذا كان في البلد قاضيان، وتنازع الخصمان في الاختيار، وطلب كل واحد منهما التحاكم عند من لم يطلب صاحبه الحكم عنده، فالقول قول الطالب.

المازري: ولو فرضنا أن يكون الخصمان جميعاً طالبين- كل منهما يطلب صاحبه- فإن لكل منهما أن يطلب حقه عند من شاء من القضاة، ويطلب الآخر حقه عند من شاء.

ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أنه لا يراعي الطالب وإنما يراعي أقربهما مكاناً.

ابن عبد السلام: فإن استوى المكانان أو كان كل واحد منهما طالباً فأشار المازري إلى أنه يرجح من جاء رسوله أولاً، فإن استووا فالقرعة، وينبغي أن ينظر أيضاً فيمن

ص: 398

يقرع بينهما، فإن ذلك يؤدي إلى تشاجر آخر؛ لأنهما قد لا يتفقان على القرعة؛ فلابد من حاكم يقرع بينهما.

وَالتَّحْكِيمُ مَاضٍ فِي الأَمْوَالِ، وَمَعْنَاهَا كَحُكْمِ الْحَاكِمِ

التحكيم: أن يُحَكِّمَ الخصمان رجلاً يحكم بينهمان وليس مولَّى من قبل الإمام ولا من قبل القاضي. ولا يؤخذ من قوله: (مَاضٍ) الجواز ابتداء، وقد نص المازري على جوازه من حيث الجملة، قال: كما يجوز لهما أن يستفتيا فقيهاً ويعملا بما يقول، ويرجعا إلى ما يفتي به.

وتقييد قوله: (مَاضٍ) بالأموال قد يدل على أنه لا يمضي في خلافها، لكنه سيصرح بخلاف هذا المفهوم. واحترز بالأموال من غيرها فقد قال سحنون: لا يجوز في الحدود واللعان، وأضاف أصبغ الطلاق والعتاق واللواء والنسب والقصاص وقال: وأما الجراح فله أن يُمَكِّنَ مَنْ يستقاد منه كحكم الحاكم؛ أي: فلا يكون لواحد منهما ولا لحاكم غيرهما نقضه إلا أن يكون جوراً بَيِّنَاً، وامتنع التحكيم في هذه الأمور؛ لأنها يتعلق بها حق لغير الخصمين؛ إما لله تعالى وإما لآدمي، فاللعان فيه حق للولد في نفي نسبه، وكذلك الأنساب، قالوا: والطلاق والعتاق فيهما حق لله تعالى؛ إذ لا يجوز بقاء المطلقة البائن في العصمة، ولا رد العبد في الرق.

وَفِي اشْتِرَاطِ دَوَامِ الرِّضَا إِلَى حِينِ نُفُوذِ الْحُكْمِ قَوْلانِ، وَقَالَ أَشْهَبُ:[654/أ] يُشْتَرَطُ إِلَى أَنْ يَنْشَبَا

يعني: واختلف في لزوم الحكم للخصمين، هل هو مشروط بدوام الرضا إلى حين الحكم ولكل واحد منهما أن يرجع قبل النفوذ، وهو قول سحنون، أو ليس بشرط وليس لأحدهما أن يبدو له إن كان قبل أن يفاتحه، وحكمه لازم لهما كحكم السلطان، وهو قول ابن الماجشون؟ ومنشأ الخلاف هل يقال: إنهما لما حكَّماه صار كالوكيل لهما أولاً، وهو كالحاكم، وفي كلامه حذف معطوف تقديره: إلى نفوذ الحكم وعدم اشتراطه.

ص: 399

وقوله: (إِلَى حِينِ نُفُوذِ الْحُكْمِ) أي: إلى نفوذه، وهكذا صرح به سحنون.

وأشار ابن عبد السلام: إلى أن كلام المصنف لا يؤخذ منه هذا؛ لأن بين نفوذ الحكم وزمان نفوذه فرقاً. وفيه نظر.

وقال أشهب: يشترط رضاهما إلى أن ينشبا في الخصومة، فإذا نشبا فلا رجوع لأحدهما.

ولابن القاسم في المجموعة: إذا أقام البينة عنده ثم بدا لأحدهما فأرى أن يقضي ويجوز حكمه. ولابن المواز: له الرجوع ما لم يشرف على الحكم.

فَلَوْ حُكِّمَ فِي غَيْرِ الأَمْوَالِ فَقَتَلَ أَوْ حَدَّ أَوِ اقْتَصَّ أَوْ لاعَنَ أُدِّبَ وَمَضَى مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً بَيِّناً

هذا هو التصريح بخلاف ما فهم من قوله أولاً: (مَاضٍ فِي الأَمْوَالِ).

وما ذكره المصنف نص عليه أصبغ فقال: إذا حكم فيما ذكرنا أنه لا يحكم فيه فإن القاضي يمضي حكمه، وينهاه عن العودة. وإن فعل المحكم ذلك لنفسه فقتل أو اقتص أو حد ثم رفعه إلى الإمام أدبه السلطان وزجره، وأمضى ما كان صواباً من حكمه.

وانظر قول أصبغ: "ما كان صواباً" وقول المصنف: (مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً بَيِّناً) فإن الظاهر أن بينهما فرقاً.

ابن راشد: وظاهر كلام سحنون أن يمنع من نقضه إلا أن يكون جوراً بيناً، وأما الحكم بإنفاذه وإمضائه فلم يصرح به، وأشار بعض الشيوخ إلى أن مالكاً وسحنوناً اتفقاً على نقض ما هو جُورٌ بَيِّنٌ، وما ليس كذلك فنَصَّ مالك على أن القاضي يمضيه، وظاهر كلام سحنون أنه لا يعارضه.

ص: 400

فَلَوْ حَكَّمَا عَبْداً أَوِ امْرَأَةً أَوْ مَسْخُوطاً فَقَوْلانِ، بِخِلافِ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُوَسْوِسِ

يطلب من الخصمين ابتداءً ألا يُحَكِّما إلا من اجتمعت فيه صفات القضاء، فإن حكما من لم تجتمع فيه، فأما الكافر والمجنون والموسوس فلا يمضي قضاؤهم باتفاق. قاله ابن راشد.

وأشار اللخمي والمازري إلى أن الجاهل متفق على بطلان حكمه؛ لأن تحكيمه تخاطر وغرر. واختلف في غير من ذكر، فحكى اللخمي والمازري أربعة أقوال:

الأول لأصبغ: يصح حكمهم.

والثاني لمطرف: لا يصح.

الثالث لأشهب: يمضي إلا في الصبي؛ لأنه غير مكلف، ولا إثم عليه إن جار، ونسب أيضاً لأصبغ.

والرابع لعبد الملك: يصح إلا في الصبي والفاسق، وذِكرُ المصنف الصبي مع الكافر والمجنون يوهم أنه متفق عليه، وليس بظاهر.

فَلَوْ حَكَّمَ خَصْمَهُ فَثَالِثُهَا: يَمْضِي مَا لَمْ يَكُنِ الْمُحَكِّمُ الْقَاضِيَ

ابن عبد السلام: هذه الأقوال صحيحة حكاها غير واحد، وأشار بعضهم أو صرح بنفي الخلاف في أن حكمه غير ماضٍ، وحكى بعضهم أنه يمضي، لكنه لم يتعرض لنفي الخلاف، ونص اللخمي على أنه لا يلزم حكم المحكم إذا كان مالكيَّاً والخصمان كذلك إذا خرج عن قول مالك وأصحابه وإن لم يخرج عن ذلك باجتهاده لزم.

وَيَجُوزُ الْعَزْلُ لِمَصْلَحَةٍ

لما فرغ من شروط القاضي وما يتعلق بذلك تكلم على عزله.

ص: 401

وقوله (لِمَصْلَحَةٍ) يريد: أو درء مفسدة، كما لو رأى أن غيره أصلح أو أقوى، وأراد نقله إلى بلد آخر أو خطة أخرى.

أصبغ: وينبغي للإمام عزل من يخشى عليه الضعف والوهن، أو بطانة السوء وإن أمن عليه الجور في نفسه.

وَالْمَشْهُورُ الْعَدَالَةُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعْزَلَ لِمُجَرَّدِ الشَّكِيَّةِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُعْزَلَ إِنْ وُجِدَ بَدَلُهُ، وَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ سَعْداً رضي الله عنهما وَهُوَ أَعْدَلُ مَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ....

الأول لمطرف قال: لا يعزل المشهور بالعدالة والرضا بالشكية فقط وإن وجد منه بدلاً؛ لأن في ذلك فساد للناس على قضاتهم، وإن لم يكن مشهوراً بالعدالة والرضا فليعزله إذا وجد منه بدلاً وتظاهرت الشكية عليه، فإن لم يجد منه بدلاً كشف عنه، فإن كان على ما يجب أبقاه، وإن كان على غير ذلك عزله.

وقال أصبغ: أَحَبُ إليَّ أن يعزل بمجرد الشكية وإن كان مشهور العدالة، واحتج بقضية سعد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم.

ابن عبد السلام: جعل المصنف الخلاف في مشهور العدالة، وهو صحيح؛ ألا ترى إلى احتجاج أصبغ، وبعضهم أشار إلى أن الخلاف فيمن لم تتحقق عدالته، وأما مشهور العدالة فيتفق عنده على أن لا يعزل بمجرد الشكوى.

أصبغ: وإذا علمت الشكية وتظاهرت فليوقفه بعد عزله للناس؛ ليرفع من يرفع، ويحقق من يحقق، فقد وقف عمر سعداً فلم يصح عليه شيء من المكروه رضي الله عنهما، وقد دعا على من كذب عليه في تلك القضية فاستجيب له فيه.

ص: 402

ولأشهب في المجموعة: إذا شُكي القاضي في أحكامه [654/ب] وميله بغير حق، فينبغي للإمام أن ينظر في أمره قَلَّ شاكوه أو كثروا، فيبعث إلى رجال من أهل بلده ممن يثق بهم فيسألهم عنه سراً، فإن صدقوا قول الشكاة عزله ونظر في أقضيته فيمضي ما وافق الحق ويبطل ما خالفه، وإن قال مَنْ سألهم عنه: لم نعلم إلا خيراً وهو عدل عندناً، ثبَّته وتفقد أقضيته. فما خالف السُّنَةِ رَدَّهُ وما وافقها أمضاه، ويحمل على أنه لم يتعمد جوراً ولكنه أخطأ.

مطرف وأشهب: وينبغي للإمام ألا يغفل عن التفقد لقضاته، فإنهم سنام أمره ورأس سلطانه.

ابن عبد السلام: وفي النفس شيء من احتجاج الفقهاء في مسألة القضاء بقضية سعد ونحوها من الأمراء، وذلك أن الأمير نظره أوسع من نظر القاضي، فإن نظره مقصور على مسائل الخصام، وهو مستند فيها إلى الإقرار والبينة وشبه ذلك من الطرق فيظهر عدله وتبعد التهمة في حقه.

وَإِذَا عَزَلَهُ عَنْ سُخْطٍ فَلْيُظْهِرْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ فَلْيُبَرِّئْهُ، وَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ شُرَحْبِيلَ رضي الله عنهما فَقَالَ: أَعَنْ سُخْطٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لا، لَكِنْ وَجَدْتُ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْكَ، فَقَالَ: إِنَّ عَزْلَكَ عَيْبٌ؛ فَأَخْبِرِ النَّاسَ بِعُذْرِي، فَفَعَلَ

كلامه ظاهر تصوراً وتصديقاً، وإنما تظهر الجرحة لئلا يتولى بعد ذلك، وما ذكره من قضية شرحبيل هكذا ذكرها سحنون في المجموعة.

ابن عبد السلام: وليس فيها كبير حجة؛ لأن شرحبيل طلب ذلك. انتهى. وفي القضية نظر من وجه آخر؛ لأن ما نقله صاحب الاستيعاب يخالفها، لأنه نقل أن شرحبيل صيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على جيش الشام ولم يزل والياً على بعض نواحي الشام لعمر إلى أن هلك في طاعون عمواس مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في يوم واحد سنة ثمان عشرة. واستعمل المصنف شرحبيل غير منصرف، وكذلك ذكره الزبيدي.

ص: 403

وقال صاحب المحكم: شرحبيل اسم رجل، وقيل: هو أعجمي، هذا يشعر بالخلاف في صرفه.

وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَخْلِفُ لَمْ يَنْعَزِلْ مُسْتَخْلَفُوهُ وَلَوْ كَانَ الْخَلِيفَةَ

(الْمُسْتَخْلِفُ) بكسر اللام و (مُسْتَخْلَفُوهُ) بفتحها، وظاهره الإطلاق؛ فيتنالو الإمام والأمير والقاضي، وهو مقيد بما عدا القاضي ونائبه، فإن نائب القاضي ينعزل بموت القاضي. نص عليه مطرف وأصبغ وابن حبيب.

ابن رشد: ولا أعلمهم اختلفوا فيه.

قيل: ولعله أراد المتقدمين، وإلا فقد نقل ابن العطار الخلاف عن فقهاء زمانه في موت الإمام، وجعلوا مثله مقدم القاضي على النظر للأيتام.

ابن عبد السلام: وعندي أن ما قالوه من انعزال نائب القاضي بموت القاضي صحيح إن كان استناب بمقتضى اللواية على لاقول بأن له ذلك، وأما إن استناب رجلاً معيناً بإذن الأمير أو الخليفة فينبغي ألا ينعزل ذلك النائب بموت القاضي، ولو أذن له في النيابة إذناً مطلقاً فاختار القاضي رجلاً ففي انعزال هذا الرجل بموت القاضي نظر.

وانظر ما الفرق بين نائب القاضي في انعزاله ونائب الأمير أو الخليفة في عدم انعزاله؟ وقد استشكل فضل وغيره الفرق بينهما.

فإن قلت: ما وجه المبالغة بقوله: ولو كان الخليفة؟ قيل: لأن الأمير إذا كان مأذوناً له في الولاية فكأن الخليفة ولاه، فإذا مات الأمير بقي القاضي كأنه مولى من جهة الخليفة، بخلاف موت الخليفة.

فإن قيل: وما الفرق بين الوكيل في عزله بموت موكله وبين القاضي المقدم من الأمير أو الخليفة؟ قيل: لأن القاضي لم يقدم لحق الخليفة أو الأمير، وإنما قدم لحق

ص: 404

المسلمين؛ فلا يزال والياً حتى يعزله الخليفة أو الأمير الثاني، بخلاف الوكيل فإن من قدم لمصلحته قد مات.

وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ: "قَضَيْتُ بِكَذَا" أَوْ شَهِدَ بِأَنَّه قَضَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ

لأنه إذا قال: (قَضَيْتُ بِكَذَا) مقر على غيره، وإذا شهد بأنه قضى فشاهد على فعل نفسه.

وفي بعض النسخ: (أَوْ شَهِدَ مَعَ عَدْلٍ) وهكذا ذكر سحنون، قال: وكذلك لو شهد مع رجل فلا ينفذ حتى يشهد اثنان سواه، ومعناه في المدونة، ففيها: وإذا مات القاضي أو عزل وفي ديوانه شهادة البينة وعدالتها لم ينظر فيه من ولي بعده ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول: ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي. لم يقبل قوله ولا أراه شاهداً، فإن لم تقم بينة على ذلك أمرهم القاضي المحدث بإعادة البينة.

وللطالب أن يحلف المطلوب بالله تعتالى أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، وإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة عند الحق.

فإن قيل: لم قبل المأذون في دين يقر به بعد الحجر عليه، ولم يقبل قول القاضي بعد عزله وكلاهما كان مطلق اليد؟ قيل: لأن المأذون لا تهمة عليه؛ إذ ضرر إقراره عليه لتعلقه بذمته، ألا ترى أنه لو ضاع المال بقي الدين متعلقاً بذمته بخلاف الحاكم فإن أمره قد سقط بالعزل.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَحْبُوسِينَ وَالأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى.

هذا شروع منه فيما يبدأ به القاضي إذا تولى القضاء، وهكذا قال أصحابنا أن أول ما ينظر فيه القاضي المحبوسين حتى يعلم من يجب إخراجه من العذاب الذي هو فيه ومن لا يجب؛ لأن الضرر في ذلك أشد من [655/ أ] الضرر في الأموال، ثم ينظر في الأوصياء ثم في

ص: 405

المقدمين؛ لكون من تكون له مطالبة عليهم قد لا يعرب عن نفسه، ثم في اللقطة والضوال ثم بين الخصوم، هكذا ذكر المازري هذا بـ (ثم) والمصنف اكتفى بالتقديم اللفظي.

أصبغ: وينبغي للقاضي إذا قعد أن يأمر بالنداء في الناس: "إن كل يتيم لم يبلغ ولا وصي له ولا وكيل، وكل سفيه مستوجب الولاية فقد منعت الناس مداينته ومتاجرته، ومن علم أحد من هؤلاء فليرفعه إلينا لنولي عليه، فمن داينه بعد أو باع منه أو ابتاع فهو مردود".

المازري: وإذا ولي قضاء غير بلده فينبغي أن يسأل عن أحوال عدول ذلك البلد قبل خروجه إليه إن كان بمكانه من يعرف حالهم حتى يكون قدومه على خبرة من حالهم، وقد يفتقر إلى الاستعانة في حال قدومه بأحد منهم فيكون قد عرف حال من استعان به، وينادي مناد يشعر الناس باجتماعهم لقراءة سجله المكتوب بولايته، فإذا فرغ نظر في مكانه الذي يجلس فيه، والعدل أن يكون في وسط البلد.

وَيَخْتَارُ الْكَاتِبَ وَالْمُزَكِيَّ وَالْمُتَرْجِمَ

أي: يختار الكاتب باعتبار أن يكون أعدل الموجودين، ففي المدونة: لا يستكتب القاضي أهل الذمة في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المرضيين.

مطرف وابن الماجشون وأصبغ: سواء غاب الكاتب عن كتابته أو لم يغب، فلا يكون إلا من أهل العدالة والرضا، وظاهر ما نقله المتيطي عن ابن المواز عدالة الكاتب من باب الأولى، لأنه قال: وقال ابن المواز: ينبغي أن يكون كاتبه عدلاً فقيهاً يكتب بين يديه ثم ينظر هو فيه، لكن قال اللخمي: لا يبعد حمل قول محمد على الوجوب.

وقال المازري: ينبغي أن ينظر القاضي فيما يكتبه؛ لاحتمال أن يزيد أو ينقص غلطاً أو سهواً أو تعمداً لرشوة يأخذها.

وإن كان غير ثقة فلابد من إطلاع القاضي على ما يكتبه، فيجلسه قريباً بحيث يشاهد ما يكتب عنده، وإن كان عدلاً فالمذهب أنه مأمور بالنظر إلى ما يكتب، وقد ترجم

ص: 406

بعض أشياخي في وجوب ذلك على القاضي إذا كان الكاتب عدلاً؛ لأنه إذا شاهد ما كتب أشهد على نفسه بأمر يتيقنه، وإذا عول على تصديق الكاتب العدل اقتصر على أمر مظنون مع قدرته على اليقين.

وقوله (وَالْمُزَكِيَّ) ظاهره الاكتفاء بالواحد.

أشهب: وينبغي للقاضي أن يتخذ رجلاً صالحاً مأموناً منتبهاً، أو رجلين بهذه الصفة؛ يسألان له عن الشهود في السر في مساكنهم وأعمالهم، وإن قدر ألا يعرف من يسأل له فذلك حسن.

قال: ولا ينبغي للمكشف أن يسأل رجلاً واحداً أو اثنين، وليسأل ثلاثة أو أربعة أو أكثر؛ خيفة أن يزكيه أهل وده بخلاف ما يعلمه اثنان أو ثلاثة من غيرهم، أو يسأل عنه عدواً فيجرحه، وينبغي للقاضي ألا يضع أذنه للناس في الناس.

ابن الماجشون: وكل ما يبتدئ فيه القاضي السؤال عنه والكشف يقبل فيه قول الواحد، وما لم يبتدئه هو. وإنما يبتدئ به في ظاهر أو باطن فلابد من شاهدين فيه.

وفي الجواهر: ويشترط العدد في المزكي والمترجم دون الكاتب، وقال الشيخ أبو إسحاق: إن ترجم عنه واحد أجزاه، واختار القاضي أبو الحسن أنه إن كان الإقرار بمال قبل في الترجمة شاهد وامرأتان. وروى أشهب وابن نافع: يترجم للقاضي رجل ثقة مسلم مأمون، واثنان أحب إلينا، والواحد يجزئ. ولا يقبل ترجمة كافر أو عبد أو مسخوط، ولا بأس أن يقبل ترجمة امرأة إذا كانت عدلة، وروى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا لم يجد من الرجال من يترجم له، قالوا: وامرأتان ورجل أحب إلينا. انتهى.

وقال سحنون: لا تقبل ترجمة النساء ولا ترجمة رجل واحد ولا ترجمة من لا تجوز شهادته؛ لأن من لا يفهم قوله كالغائب عنه، وقيد صاحب البيان ما وقع له من أنه لا

ص: 407

يقبل ترجمة الكافر والعبد والمسخوط بوجود العدل، ولو اضطر إليهم لعمل على قولهم كقول الطبيب النصراني، وغير العدل مما يضطر إليه.

والخلاف في اشتراط الواحد أو الاثنين مبني على أنه من باب الخبر أو الشهادة، لكن ضعف فضل كونه من باب الخبر؛ لأنه لو كان كذلك لقبل العبد والمسخوط.

وَيَتَّخِذَ مَجْلِساً يَصِلُ إِلَيْهِ فِيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمَرْأَةُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَالقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحَقِّ وَالأَمْرِ الْقَدِيمِ.

ابن شعبان: من العدل أن يكون منزل القاضي متوسطاً من المصر، ويجلس متربعاً مستقبل القبلة عليه السكينة والوقار، أو محتبياً.

مطرف وابن الماجشون: ولا ينبغي للقاضي أن يتضاحك مع الناس، ويستحب أن تكون فيه عبوسة بغير غضب، وأن يلزم التواضع والتقرب من غير وهن.

وكلامه في المدونة يدل على استحباب القضاء في المسجد، وأتى المصنف بكلامه في المدونة إما استشهاداً لما ذكره من اتخاذ مجلس يصل إليه الضعيف والمرأة، وإما استشكالاً؛ لأنه قد تدخله الحائض والجنب من غير شعور بهما، ويؤدي إلى رفع الأصوات فيه، ولهذا مال إلى الكراهة بعض الأندلسيين.

وَقَالَ مَالِكُ رحمه الله: إِنَّ مَنْ أَدْرَكْتُ [655/ ب] مِنَ الْقُضَاةِ لا يَجْلِسُونَ إِلا فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ؛ فَسُمِّيَتْ رَحْبَةَ الْقُضَاةِ، وَإِنِّي لأَسْتَحِبُّهُ فِي الأَمْصَارِ مِنْ غَيْرِ تَضْييقٍ؛ لِيَصِلَ إِلَيْهِ الْحَائِضُ وَالذِّمِّيُّ ..

هذا لمالك في الواضحة من رواية مطرف وابن الماجشون، وحمله اللخمي على الخلاف فقال: اختلف في الموضع الذي يجلس فيه للقضاء على ثلاثة أقوال:

فقال في المدونة: القضاء في المسجد من الأمر القديم.

ص: 408

وقال في الواضحة: كان من مضى من القضاة لا يجلسون إلا في رحاب المسجد خارجاً إما عند موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان وما كانت تسمى إلا رحبة القضاة.

مالك: وإني لأستحب ذلك في الأمصار من غير تضييق ليصل إليه اليهودي والنصراني والضعيف.

وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في منزله وحيث أحب. ففهم اللخمي عن أشهب أنه لا فرق بين المسجد ومنزله وغيرهما، وفهم غيره عنه أن أشهب إنما أراد تساوي المنزل وغيره في أصل الإباحة، ولا يخالف في استحباب المسجد، فلا يكون قوله ثالثاً، واحتج على جواز القضاء في المسجد بقوله تعالى:(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)[ص: 21] إلى قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)[ص: 22] وبأنه صلى الله عليه وسلم قضى فيه وبأن قاضي عمر بن عبد العزيز كان يقضي فيه، والأقرب في زماننا الكراهة لكثرة التساهل في العياض في المسجد. والله أعلم.

وَلا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسْجِدِ وَيُعَزِّرُ التَّعْزِيرَ الْيَسِيرَ

نحوه في المدونة، مالك: كالخمسة الأسواط والعشرة.

وقوله: (وَلا تُقَامُ) هو محتمل للمنع؛ لأنه ذريعة إلى أن يخرج منه ما ينجس المسجد، والكراهة تنزيهاً له.

فرع: وللقاضي أن يتخذ بواباً وحاجباً.

قَالَ مَالِكُ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ نَهَارَهُ كُلَّهُ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ

قال في المدونة: ولا ينبغي للقاضي أن يكثر الجلوس جداً.

ص: 409

وفي الموازية لمالك: ينبغي أن يكون جلوسه في ساعات من النهار؛ لأني أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه للناس نهاره كله.

وكلام مالك أولاً يشعر عرفا ًبإباحة إتعاب نفسه، وكلامه آخراً يشعر بمنعه من ذلك، ولعله استعمل الكلام الأول بحسب أصل اللغة؛ فإن المكروه والمحرم ليس على الإنسان فعلهما.

وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ أَيَّامَ النَّحْرِ وَيَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ سَفَرِ الْحَاجِّ وَقُدُومِهِ وَفِي كَثْرَةِ الْمَطَرِ وَالْوَحْلِ؛ لأَنَّهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبيْنَ الْعِشَاءَيْنِ.

لأن للناس اشتغالاً في هذه الأيام، وكذلك يوم التروية ونحو ذلك، ويوم عرفة، وكلامه ظاهر.

قال علماؤنا: وينبغي أن يكون جلوس القاضي معلوماً لا يختلف؛ لأنه إذا اختلف جلوسه انقطعوا عن مهماتهم لعدم معرفتهم بوقت جلوسه.

ابن الماجشون ومطرف بعد أن ذكرا نحواً مما قاله المصنف: وما علمنا من فعله من القضاة إلا لأمر يحدث في تلك الأوقات فلا بأس أن يأمر فيها وينهى ويسجن، ويرسل للأمير أو الشرط، وأما الحكم فلا.

ولأشهب: لا بأس أن يقضي بين المغرب والعشاء إذا رضي الخصمان، فأما أن يكلف كاره الخصومة فلا، ولا بأس أن يقضي بعد أذان الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويرسل إلى الخصم يحضره ثم يقضي عليه إن شاء.

والوحل: هو الطين الجاري.

ص: 410

وَفِي كَرَاهَةِ حُكْمِهِ فِي مُرُورِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ قَوْلانِ

الكراهة لسحنون ومطرف وابن الماجشون وأشهب، والجواز لأشهب أيضاً بشرط ألا يشغله المسير ورحبة الناس والنظر إليهم؛ لأن ذلك يمنع من الفكر التام وليس لمروره إلى المسجد خصوصية، بل كل مسير كذلك.

ولا بأس أن يقضي وهو متكئ، نقله ابن زرقون، وقال اللخمي: ولا يحكم متكئاً، لأن فيه استخفافاً بالحاضرين، وللعلم حرمة.

واختلف القرويون إذا أراد المسلم خصام اليهودي يوم السب هل يمكن من ذلك أم لا؟

المازري: وألف بعضهم على بعض في ذلك.

وَلا يَحْكُمُ فِي حَالِ غَضَبِ وَلا جُوعٍ، وَلا مَا يُدْهِشُ عَنْ الْفِكْرِ

لما في البخاري عنه عليه السلام: "ولا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". وخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". فذكر الحكم مع وصف مناسب له، ففهم منه أن المقصود ما يشوش الفكر.

قال في المدونة: وإذا دخله هم أو ضجر فليقم.

وأجاز له أشهب وابن عبد الحكم إجماع نفسه في الحديث في مجلس ضقاته؛ ليرجع إليه فهمه، ومنعه مطرف وابن الماجشون وابن حبيب لظاهر المدونة.

اللخمي: والأول أحسن، وهو أحب من قيامه وصرف الناس.

فرع:

فإن حكم في حال غضب مضى، وفرق ابن حبيب بين القليل والكثير.

ص: 411

وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِمَحْضَرِ الْعُدُولِ؛ لِيَنْقِلُوا الإِقْرَارَ فَيَحْكُمَ بِهِ، وَيَكْتُبُهُ خَشْيَةَ نِسْيَانِهِ ..

ظاهر قوله: (وَيَنْبَغِي) أنه ليس بواجب. وقال المازري: يؤمر بذلك ويتأكد الأمر على القول بأن القاضي لا يحكم بعلمه. وقال اللخمي: لا يجلس للقضاء إلا بمحضر عدول ليحفظوا إقرار الخصوم خوف رجوع بعضهم عن ما يقر به، وإن كان ممن يحكم بعلمه، فإن أخذ بما لا خلاف فيه أحسن.

ابن راشد: مذهب مالك وابن القاسم أن القاضي إذا سمع إقرار الخصم لا يحكم بإقراره عليه حتى يشهد بإقراره شاهدان، ثم يحكم بما سمع وإن لم يشهد عنده بذلك.

ابن الماجشون: والذي عليه قضاة المدينة، ولا أعلم أن مالكاً قال غيره- أنه يقضي بما سمع منه وأقر به عنده، وأنهم رأوا أن الخصمين لما جلسا للخصومة رضيا أن يحكم بينهما بما أقرا به [656/ أ] ولذلك قعدوا، والأول هو المشهور.

خليل: وإن كان الأول هو المشهور فيكون إحضاره للشهود واجباً، وإلا فلا فائدة في جلوسه.

وقوله: (وَيَكْتُبُهُ) مرفوع مستأنف؛ أي: ويأمر كاتبه أن يكتب الحكم خيفة نسيانه، ويحتمل (ويكتب) بالنصب؛ أي: ويأمر كاتبه بشرح الدعوى والإنكار واسم المسألة وأسماء المتداعبين وأنساب الجميع وما يعرفون به وما بحكم به بينهما، ويحفظه في خريطة أو جراب أو غيره، ويختم عليه حتى لا ينساه، ويكتب عليه خصومة فلان في شهر كذا من سنة كذان ويجعل خصومة كل شهر على حدة.

ص: 412

وَقَالَ أَشْهَبُ وَمُحَمَّدُ: وَبِمَحْضَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ كَعُثْمَانَ رضي الله عنه، وَقَالَ مُطَرِّفُ وَابن الماجشون: لا يَنْبَغِي أَنْ يُحْضِرَهُمْ وَلَكِنْ يَسْتَشِيرُهُمْ كَعُمَرَ رضي الله عنه ..

هذا معطوف على قوله: (بِمَحْضَرِ الْعُدُولِ).

وقوله: (كَعُثْمَانَ) إشارة إلى ما حكاه أشهب أن عثمان رضي الله عنه كان إذا جلس للقضاء أحضر أربعة من الصحابة رضي الله عنهم ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه.

وقال مطرف: فلا ينبغي أن يحضرهم كفعل عمر.

وقيده اللخمي بألا يكون مقلداً فلا يسعه القضاء بغير محضرهم.

المازري: وقول مطرف وغيره إنما هو إذا كان فكر القاضي في حال حضورهم كعدم حضورهم معه، وأما إن كان حضورهم يكسبه ضجراً حتى لا يمكنه التأمل لما هو فيه فإنه يرتفع الخلاف، وكذلك إذا كان القاضي من البلادة على حالة لا يمكنه ضبط قول الخصمين وتصور مقاصدهما حتى يستغنى عنه- فإنه يرتفع أيضاً الخلاف، ولا يختلف في وجوب حضورهم.

وَلا يَنْبَغِي لِقَاضٍ أَنْ يَثِقَ بِرَايِهِ وَيَتْرُكَ الْمُشَاوَرَةَ وَيَسْتَكْبِرَ عَنْهَا، فَقَدْ سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْجَدَّةِ، وَعُمَرُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنهما عَنِ الجَدِّ، وَسَأَلَ عَنْ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا ..

هو ظاهر التصور؛ لأن الجماعة إذا فكروا كان ما اتفقوا عليه أوثق في النفس، وقد ورد الشرع بها فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وهو إن كان المراد منه أمور الحرب فالجميع سواء. وبالغ الشافعي في هذا حتى قال: يجمع المخالفين له في المذهب ويشاورهم كما تقدم.

ص: 413

ابن عطية في تفسيره: ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه.

سحنون: ولا يستشير من يشهد عنده فيما شهد فيه بعض من تكلم على هذا الموضع، ولم يقع في الموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي في قصة عمر أنه سأل، وإنما ذكر عمر أنها لا ترث من الدية فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

وَلا يُفْتِي الْحَاكِمُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا بَاسَ بِهِ كَالْخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ رضي الله عنهم ..

يعني: أن له الإفتاء في غير مسائل الخصام، والمشهور أنه لا يفتي في الخصام؛ لأن إفتاءه في ذلك من إعانة الخصوم على الفجور؛ لأنهم إذا عرفوا مذهب القاضي تحيلوا في التوصل إلى ذلك المذهب أو في الانتقال عنه، وأيضاً فإذا علم مذهبه يكون مشروطاً بشرط، فمن لا يعرف ذلك الشرط اعتقد في القاضي- إذا لم يحكم بذلك المذهب لعدم ذلك الشرط- أنه مال عن الحق، وأجاز له ابن عبد الحكم ذلك بغيرها؛ لأنه لم ينقل عن الخلفاء التوفق في مسائل الخصام.

وَلا يَشْتَرِي بِنَفْسِهِ وَلا بِوَكِيلٍ مَعْرُوفٍ

ظاهره في مجلس قضائه وغيره، ونحوه ذكر ابن شاس، وبمعناه عن محمد بن عبد الحكم.

ابن عبد السلام: ولا تبعد صحته، إلا أن المازري وغيره ذكروا عن المذهب ما يدل على جواز بيعه وشرائه ابتداءً، وحكى المازري عن الشافعي مثل ما حكاه المؤلف هنا. انتهى.

أي: لأن المازري نقل عن أصحاب مالك أنهم أجازوا للقاضي الشراء إذا لم يكن في مجلس قضائه، ولم يجيزوا له ذلك في مجلس قضائه؛ لما فيه من شغل باله.

ص: 414

مطرف وابن الماجشون: ولا يشتغل في مجلس قضائه بالبيع والابتياع لنفسه.

سحنون: وتركه أفضل. قال: ولا بأس بذلك في غير مجلس قضائه له أو لغيره. وما باع أو ابتاع في مجلس قضائه فنافذ، إلا أن يكون أكره غيره على هضمه فليس هذا بعدل وهو مردود، كان في مجلس قضائه أو غيره، والذي ذكره المازري هو الذي في النوادر وغيرها.

وَيَتَوَرَّعُ عَنِ الْعَارِيَةِ وَالسَّلَفِ وَالْقِرَاضِ وَالإِبْضَاعِ وَالْوَلائِمِ، إِلا وَلِيمَةَ النِّكَاحِ الْعَامَّةَ، وَلا بَاسَ بِأَكْلِهِ فِيهَا ..

ظاهر كلامه أن هذه الأمور أخف من المبايعة؛ لتعبيره في الشراء بـ (لا يفعل) وهنا (يَتَوَرَّعُ) والعكس أولى؛ لأن العارية ونحوها انتفاع بمال غيره بغير عوض، وفي التي قبلها إنما يتوهم ذلك ولا يتحقق، لكن هذه الأشياء فلا تناقض على مذهبهما، [656/ ب] وإنما الإشكال على ما ذكره المصنف لا يقال: أنت نقلت عنهما أنه ينتزه عن الشراء؛ لأنا نقول: التنزه لا ينافي الجواز.

مطرف وابن الماجشون: ولا ينبغي له أن يجيب الداعي إلا في الوليمة وحدها للحديث. ثم إن شاء أكل أو ترك.

وقال أشهب: لا بأس أن يجيب الدعوة العامة، كانت وليمة أو صنيعاً عاماً لفرح، فأما أن يدعى مع عامة لغير فرح فلا.

وقال سحنون: يجيب العامة دون الخاصة، والتنزه أحسن.

ابن المواز: وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم، ولا بأس للقاضي بحضور الجنائز وعيادة المرضى، وتسليمه على أهل المجالس، ورده على من سلم عليه، ولا ينبغي إلا ذلك.

ص: 415

وَلا يُقْبَلُ هَدِيَّةً مُطْلَقاً وَلَوْ كَافَأَ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا، إِلا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالَدِهِ وَأَشْبَاهِهِمْ

ظاهر قوله: (وَلا يُقْبَلُ) المنع، وعليه ينبغي أن يحمل قوله.

ابن حبيب: لم يختلف العلماء في كراهة قبول الإمام الأكبر وقاضيه وجباة أموال المسلمين الهدايا، قال: وهو مذهب مالك وأهل السنة، وذلك كما قال ربيعة: إنها ذريعة إلى الرشوة، ولهذا قال عليه السلام في العامل الذي بعثه على الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه؛ بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت" مرتين وقال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا: "إنه غلول".

وقوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء كانت حال الخصام أو قبله، ولو كافأ عليها أضعافها.

وعن أشهب جواز قبولها من غير الخصوم إذا كافأ عليها بمثلها.

ثم استثنى الولد والوالد، ونحوهم من الخالة والعمة وبنت الأخ؛ لارتفاع التهمة؛ لأنه معلوم أن بينه وبين أبيه وولده من الحرمة وشدة الميل ما لا يحتاج معه إلى تأكيد الهدية، ولأن مثل هؤلاء إنما تطرق التهمة إلى القاضي إذا حكم من جهة القرابة من الهدية، بخلاف الأجانب والأقارب البعداء على عادتهم من إهدائهم له قبل الولاية. ومنعهم على قولين: الجواز لابن عبد الحكم.

ابن حبيب: ويأخذ الإمام من قضاته وعماله ما وجد في أيديهم زائداً على ما ارتزقوه من بيت المال، ويحصى ما عند القاضي حين ولايته، ويأخذ ما اكتسبه زائداً، وقدر أن هذا التكسب إنما اكتسبه بجاه القضاء، وتأول أن مقاسمة عمر رضي الله عنه ومشاطرته لعماله كأبي

ص: 416

موسى وأبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم إنما فعل ذلك لما أشكل عليه مقدار ما اكتسبوه بالقضاء والعمالة.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الرَّاكِبِينَ مَعَهُ، وَالْمُصَاحِبِينَ وَالْمُلازِمِينَ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُخَفَّفُ مِنَ الأَعْوَانِ مَا اسْتَطَاعَ.

ابن عبد السلام: لأن بكثرتهم تعظم عنده نفسه، ويستأكل من معه بذلك أموال الناس، ولأن الأعوان إنما يعيشون غالباً من تجنيب الخصوم وقلب الأحكام، خلاف ما كانوا عليه أيام سحنون أن لهم أرزاقاً من بيت المال.

مطرف وابن الماجشون: ولو استغنى عن الأعوان أصلاً لكان أحب إلينا.

ويجب عليه أن يؤدب أحد الخصمين إذا أساء على الآخر ما يستحقه.

ظاهره أن الحق في ذلك لله تعالى؛ لانتهاك حرمة مجلس الحكم، ونحوه لمطرف وابن الماجشون، قالا: إذا شتم الخصم فقال: يا فاجر، يا ظالم، ونحو ذلك فليزجره وليضربه على مثل هذا ما لم تكن فلتة من ذي مروءة فليتجاف عن ضربه.

ابن عبد السلام: ولا يعد الفقهاء تكذيب أحد الخصمين فيما ادعى عليه وشبه ذلك من السباب، ولو كان بصيغة كذب وشبهها من ذلك. انتهى.

ومن أحكام ابن زياد: ومن قال للشهود أو لأهل الفتوى: "تشهدون أو تفتون علي، لا أدري من أكلم" كأنه ذهب مذهب التوبيخ لهم، فقال ابن كنانة وابن غالب: يؤدب أدباً وجيعاً.

وفي المجموعة: إذا قال للشاهد: "شهدت علي بالزور" وقصده أذاه نكل بقدر حالهما، وإن كان إنما عنى:"أن الذي شهدت به علي باطل" لم يعاقب.

ص: 417

وَيَنْبَغِي ذَلِكَ إِذَا أَسَاءَ عَلَى الْحَاكِمِ، إِلا فِي مِثْلِ: اتَّقِ اللهِ فِي أَمْرِي وَشِبْهِهِ، وَلا يُعْظِمُ عَلَيْهِ ..

عبر في الأول: بـ (يَجِبُ) وهنا بـ (يَنْبَغِي) وكذلك فعل مطرف وابن الماجشون، ووجهه ظاهر؛ لأنه هنا كالمنتقم لنفسه، وليس هو حقيقة، ولهذا قال مطرف وابن الماجشون: إن الأدب في مثل هذا أمثل من العفو.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام مالك أن هذه المسألة في الوجوب كالتي قبلها؛ لأنه روي عن ابن القاسم: إن قال: "ظلمتني" فذلك يختلف، فإن أراد بذلك أذى القاضي وكان القاضي من أهل الفضل فليعاقبه.

قوله: (إِلا فِي مِثْلِ: اتَّقِ اللهِ .. إلخ) هذا لابن عبد الحكم، زاد: ويجيبه جواباً ليناً، نحو:"رزقني الله تقواه، أو ما أمرت إلا بخير، وعلينا وعليك أن نتقي الله". وليس له من أين يحكم عليه من غير أن يظهر لذلك غضباً.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا يَقُولُ الناسُ فِي أَحْكَامِهِ وَشُهُودِهِ وَسِيرَتِهِ؛ فَإِنَّ فِيهِ تَقْوِيَةُ عَلَى أَمْرِهِ ..

هذا لابن [657/ أ] عبد الحكم؛ لأنه إذا أخبره بما يكره منه تركه، أو من أعوانه عزله بعد الفحص عن أمره.

وَإِذَا صَحَّ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالزُّورِ وَيَاخُذُ الْجُعْلَ عَزَّرَهُ عَلَى الْمَلأِ، وَلا يَحْلِقُ لَهُ رَاساً وَلا لِحْيَةً ..

صح أنه عليه السلام عد شاهد الزور من الكبائر.

ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه إذا لم يكن له مخرج بغفلة أو خطأ أو نسيان أنه يؤدب، وهذا إذا ظهر عليه، وأما إن جاء تائباً فذكر اللخمي قولين:

ص: 418

الأول لابن القاسم: لو أدب لكان لذلك أهلاً.

الثاني لسحنون: لا يعاقب. وما ذكره المصنف هو لابن عبد الحكم في النوادر، قال: إذا ثبت عليه أنه يشهد بالزور، ويأخذ على شهادته الجعل رأيت أن يطاف به، ويشهر في المجالس والحلق وحيث ما يعرف جماعات الناس، ويضرب ضرباً موجعاً، ولا يحلق له رأساً ولا لحية، ويكتب القاضي بشأنه وما ثبت عنده كتاباً، وينسخه نسخاً يرفعها عند الثقات.

إلا أن الشيخ أجمل في التعزير، وقد صرح ابن عبد الحكم بأنه على الملأ، وتبع المصنف في قوله:(وَيَاخُذُ الْجُعْلَ) الرواية، ولا مفهوم لذلك؛ لأن العقوبة المذكورة في المذهب سواء أخذ جعلاً أم لا، ولعل ابن عبد الحكم ذكر ذلك على الغالب، ونص مالك على أن التأديب بقدر ما يرى القاضي، وكذلك نص مالك على أنه يجلد، ولم يذكر عدداً.

ابن الماجشون: بالسوط.

ابن كنانة: ويكشف عن ظهره.

مالك: ويطاف به في الأسواق والجماعات ويسجن، ولا أرى الحلق والتسخيم. ورأى ابن العربي أن يسود وجهه.

فَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَداً؛ لأَنَّهُ لا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ ..

مفهومه: إن لم يكن ظاهر العدالة حين شهد بالزور أنه تقبل شهادته، وفي ذلك قولان:

أحدهما: عدم القبول وهو ظاهر إطلاق المدونة ونقله في النوادر عن ابن القاسم.

ص: 419

وثانيهما: لابن القاسم، قال في النوادر، وأظنه لمالك: القبول، فقيل على هذا: إن كان ظاهر العدالة لم تقبل اتفاقاً، وإن كان غير ظاهر العدالة فقولان، وعكس ابن رشد فقال: إن كان ظاهر العدالة فقولان، وإن لم يكن ظاهر العدالة لم تقبل اتفاقاً.

ابن عبد السلام: والطريق الأول أنسب للفقه، والثانية أقرب لظاهر الروايات؛ لأنابن المواز قال: تكعرف توبته بالصلاح والتزيد في الخير. وكذلك أشار إليه ابن الماجشون؛ لأن التزيد في الخير لا يكون إلا في ظاهر العدالة.

وفي جواز حكم الحاكم لمن لا تجوز له شهادته ثالثها: قال ابن الماجشون: إلا لزوجته ويتيمه الذي يلي ماله.

الجواز لأصبغ إذا لم يكن من أهل التهمة، قال: وقد يحكم للخليفة وهو أقوى تهمة؛ لتوليته إياه.

والمنع لأشهب ومحمد ومطرف نظراً للتهمة واختاره اللخمي، قال: ولا فرق في ذلك بين الحكم والشهادة.

والتفرقة لابن الماجشون نظراً إلى قوة التهمة في زوجته وفي يتيمه الذي يلي ماله وأحرى ولده الصغير؛ إذ كأنه حكم لنفسه، وأما غيرهم فلا يتوهم فيه.

وحكى اللخمي رابعاً عن أصبغ أيضاً بالتفرقة، فإن قال:"ثبت عندي" ولا يدرى أثبت عنده أو لم يثبت لم يجز مطلقاً، وإن أحضر الشهود وكانت الشهادة ظاهرة بحق بين جاز إلا لزوجته وولده الصغير ويتيمه الذي يلي ماله. وأشار اللخمي إلى أنه متى كان الحكم بغير مال وكان مما يتضمن ما تدركه فيه الحمية أو ما تدفع فيه المعرة لم يجز بحال.

وَلا يَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ.

هو متفق عليه، واتفاقهم هنا واختلافهم في الأول يدل على أن مانع العداوة أقوى من مانع المحبة.

ص: 420

وَلا يَتَعَقَّبُ أَحْكَامَ الْعَدْلِ الْعَالِمِ وَلا يَنْقُضُ مِنْهَا إِلا مَا خَالَفَ الْقَطْعَ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَاياً فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ سَهْواً ..

تعقب الأحكام هو اختيارها لينظر ما وافق الحق وما خالفه، وعلى هذا فالتعقب سابق للنقض وأعم منه، وقد نفى الأعم فينتفي الأخص بانتفائه.

وقوله: (الْعَدْلِ الْعَالِمِ) تقسيم منه للقاضي، وحاصل ما ذكره هو وغيره ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون المعلوم من حال القاضي العدالة والعلم فلا يتعقب القاضي الذي يليه أحكامه؛ لئلا يكثر الهرج والخصام، إلا أن يخالف في حكمه القطع فينتقض حينئذ.

فإن قلت: لا يعلم ما خالف القطع إلا بعد التعقب، قيل: يجوز أن يرفع إليه فيظهر خطأه من غير تأمل.

وقوله: (إِلا مَا خَالَفَ الْقَطْعَ) نحوه في الجواهر وهو يقتضي أنه لا ينقض ما خالف الظن الجلي.

وليس بظاهر، بل قالوا: إذا خالف نص السنة غير المتواترة أنه ينقض، ولا يفيد القطع. نقله ابن عبد السلام عن بعضهم.

وينقض إذا خالف القياس الجلي، ولهذا قال القرافي: ينقض حكم الحاكم إذا خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً.

ابن حبيب عن ابن الماجشون: ويرد ما اختلف فيه الناس مما في كتاب الله، أو في سنة قائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستسعاء العبد المعتق بعضه، وشفعة الجار، أو بعد القمسة والحكم بشهادة النصراني أو اليهودي لمثله؛ لأنه على خلاف قوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)[الطلاق: 2] وقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ)[البقرة: 282] أو ميراث العمة والخالة والمولى الأسفل، وكذا ما تواطأ عليه أهل المدينة، أو شاع العمل به عن الصحابة والتابعين. وأما ما كان من رأي العلماء أو استحساناً فلا ينقضه وإن كان

ص: 421

على خلاف رأي [657/ب] المدينة. قال: وهذا في كل ما يأخذه الحاكم ويعطيه، فأما ما هو ترك لما فعل الفاعل مثل الذي يخير امرأته فتختار نفسها- فقد قال بعض الناس: إنها واحدة بائنة- فإن تزوجها قبل زوج فرفع إلى حاكم يرى ذلك فأقره ولم يفرق بينهمأ، ثم رفع إلى من ولي بعده فهذا يفسخ نكاحها ويجعله البتة، وليس إقرار الأول حكماً منه وإن أشهد على ذلك وكتب، ومثله من حلف بطلاق امرأة إن تزوجها، ثم نكحها، أو بعتق عبد إن ملكه ثم رفع إلى الحاكم فأقر الملك والنكاح، أو أقام شاهداً على قتل رجل فرفع إلى من لا يرى القاسمة فلم يحكم بها، ثم رفع ذلك كله إلى من يرى الحكم فليحكم ولا يضره ترك الأول لذلك؛ لأن تركه ليس بحكم.

قال: وكذلك إن أقام شاهداً عند من لا يرى الشاهد واليمين فلم يحكم به، ثم رفع إلى من يراه فليحكم وإن كان فيه سنة قائمة؛ لأن الأول إنما ترك النظر فيه، وقاله مطرف، وروى أكثره عن مالك، وقاله أصبغ.

ونقل ابن عبد الحكم عن مالك فيمن طلق البتة فرفع إلى من يراها واحدة فجعلها واحدة ولم يمنعه من نكاحها، فنكحها الذي أبتها قبل زوج أنه يفرق بينهما، وليس هذا من الاختلاف الذي يقر إذا حكم به.

قال ابن عبد الحكم: لا ينقض ذلك كائناً ما كان، ما لم يكن خطأ بينا.

فضل: والذي حكاه سحنون عن ابن القاسم ملائم لقول ابن عبد الحكم أنه لا ينقض ما اختلف فيه، وما كان من جور وخطأ بين لم يختلف الناس في خطأه ورده، فإن قلت: فهل يأتي كلام المصنف على هذا؟ قيل: لا؛ لاحتمال أن يتفقوا على ظن جلي.

والظاهر أن ما ذكره ابن حبيب من الفرق بين أن يعمل أو يترك لا يأتي على مذهب ابن القاسم، ألا ترى قول المصنف: (وَفِي مِثْلِ تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ

إلخ) فاعلمه.

ص: 422

المازري: والقول بنقض حكمه باستسعاء العبد بعيد؛ لأنه قد روى مسلم وغيره حديث الاستسعاء وكذلك الشفعة للجار مع ورود أحاديث تقتضيها.

وقوله: (أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةُ) أي: فينقض أيضاً، ومعناه: إذا حضرته البينةوعلمت قصده في الحكم وعدوله عنه على سبيل الخطأ، فإذا شهدت بذلك البينة عند الثاني نقضه، هكذا قال ابن محرز.

عياض: وكذلك عندي إذا كان الحاكم يلتزم مذهباً ويحكم بتقليده لا باجتهاده فحكم بحكم من يرى أن مذهبه وغلط فيه فله هو نقضه دون غيره.

وَأَمَّا الْجَاهِلِ فَيَتَعَقَّبُهَا، وَيُمْضِي مَا لَمْ يَكُنْ جَوْراً

هذا هو القسم الثاني؛ يعني: وأما أحكام العدل الجاهل فيتعقبها، أي: يتصفحها، ويمضي منها الذي لم يكن جوراً، وحكى المازري رواية شاذة أن الجاهل تنقض أحكاه وإن كان ظاهرها الصواب؛ لأنه وقع منه من غير قصد.

ابن عبد السلام: وقيد بعضهم ما ذكره المصنف بما إذا كان يشاور أهل العلم في أحكامه، وأما إذا كان لا يشاورهم فتنقض كلها؛ لأنه حكم حينئذ بالحدس والتخمين، وهو صحيح. انتهى.

وقال اللخمي: تتعقب أحكام العدل الجاهل، إلا أن يعلم أنه لا يحكم إلا بعد مشاورة أهل العلم، ورأى إذا كان يحكم من غير مطالعة أهل العلم أن يرد من أحكامه ما كان مختلفاً فيه؛ لأن ذلك كان منه تخميناً وحدساً، والقضاء بذلك باطل.

وَتُنْبَذُ أَحْكَامُ الْجَائِرِ وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالْجَاهِلِ

هذا هو القسم الثالث: ومعنى (تُنْبَذُ) أي: تطرح كلها، وقد تقدم قول أصبغ أول الباب حيث قال:(وَقَالَ أَصْبَغُ: الْعَدْلُ مِنَ الثَّانِي) يريد: كان عالماً أو جاهلاً.

ص: 423

وَنَقْلُ الأَمْلاكِ وَفَسْخُ الْعُقُودِ وَشِبْهُهُ وَاضِحُ أَنَّهُ حُكْمُ، وَفَتْوَاهُ فِي وَاقِعَةٍ وَاضِحُ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَفِي مِثْلِ تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقَرَّهُ قَالَ ابن القاسم: حُكْمُ، وَقَالَ ابن الماجشون: لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَلَوْ قَالَ:"لا أُجِيزُهُ" وَلَمْ يَفْسَخْهُ فَفُتْيَا ..

لما قدم أن حكم القاضي لا ينقض إلا في مسائل شرع في بيان الحكم، وجعله ثلاثة أقسام:

الأول: اتفق على أنه حكم كنقل الأملاك من يد إلى يد، وفسخ العقود من بيع وشراء.

والثاني: اتفق على أنه ليس بحكم كفتواه في واقعة باجتهاده أو مذهبه؛ لأن الفتوى لا ترفع الخلاف.

والثالث: مختلف فيه كما لو زوجته امرأة نفسها بغير ولي ورفع إلى قاض فأقره ولم يفسخه- فقال ابن القاسم: إقراره له حكم ولا ينقض، واختاره ابن محرز وقال: لأنه لا فرق بين أن يحكم بإمضائه أو فسخه، ورأى ابن الماجشون أنه ليس بحكم وإنما هو ترك لما فعل الفاعل من ذلك، وإمساك عن الحكم عليه.

وجملة (رفع إليه فأقره) تفسيرية لقوله: (تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بِلا وَلِيِّ) وقوله: (فَلَوْ قَالَ: "لا أُجِيزُهُ" .. إلخ) هو متفق عليه كما قدم.

وَالْحُكْمُ بِالْفَسْخِ لِمُعَارِضٍ اجْتِهَادِيُّ لا يَقْتَضِي الْفَسْخَ إِذَا تَجَدَّدَ السَّبَبُ ثَانِياً، بَلْ يَكُونُ مُعَرَّضاً لِلاجْتِهَادِ كَفَسْخِ النِّكَاحِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ، وَنِكَاحِ امْرَأَةِ فِي عِدَّتِهَا وَهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحاً مَعَ بَيْعٍ أَوْ مَعَ إِجَارَةِ

يعني: أن الحكم بالاجتهاد لا يكون كلياً بل هو جزئي، ولا يتعدى الصورة التي هي محل حكمه، وسبب ذلك أن حكم القاضي لا يتعلق إلا بالجزئيات؛ لأن معظم ما ينظر

ص: 424

فيه القاضي يحتاج فيه إلى بينة، والبينة إنما تشهد بما رأته وشافهته، وذلك جزئي؛ فلهذا إذا فسخ نكاحاً بين زوجين بسبب أن [658/أ] أحدهما رضع من أم الآخر- مثلاً- وهو كبير فالفسخ ثابت لا ينقضه أحد، ولكنه إن تزوجها بعد ذلك فرفع أمرها إليه أو إلى غيره ممن ولي بعده لم يمنعه ذلك الفسخ أن يجتهد ويبيحها إذا أداه اجتهاده إلى أن رضاع الكبير لا ينشر الحرمة، وهكذا من تزوج امرأة في عدتها ورفع إلى مالكي يرى مع الفسخ تأبيد التحريم ففسخ النكاح فإن حكمه لا يتعدى الفسخ، وأما تحريمه في المستقبل فمعرض للاجتهاد كغيره، وله أن يبدل اجتهاده.

قوله: (وَهِيَ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ) أي: وهذه المرأة التي تزوجها وقد رضع معها، أو في عدتها كامرأة أخرى تزوجها وقد رضع معها أو في عدتها، فذكر أن هذه التي لم يتقدم فيها حكم تكون معرضة للاجتهاد كالتي فيها الحكم.

وقوله: (كَمَا لَوْ فَسَخَ نِكَاحاً مَعَ بَيْعٍ أَوْ مَعَ إِجَارَةِ) أشار بهذا إلى أنه لا فرق بين أن يكون الخلاف خارج المذهب كما في الصورتين الأوليين، أو في المذهب كما في النكاح مع البيع أو الإجارة.

وَيَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُ حُكْمِ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْقُضُ فِيهِ حُكْمِ غَيْرِهِ، وَفِيمَا لَهُ فِيهِ رَايُ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ سَهْواً ..

(فِيمَا يَنْقُضُ فِيهِ حُكْمِ غَيْرِهِ) يندرج فيه ما خالف القطع أو قامت البينة على أنه قصد الحكم بشيء فحكم بغيره سهواً.

وقوله: (وَفِيمَا لَهُ فِيهِ رَايُ) هذه صورة ثالثة يختص بها في قضاء نفسه، وهو أن يقصد الحكم باجتهاده أو بمذهبه فيحكم بغيره سهواً فإنه يتذكر ذلك وينقض حكمه الأول، ولا يتصور ذلك فيمن تقدمه؛ لأنه لا يطلع على غلط من تقدمه إلا بقيام البينة على ذلك.

ص: 425

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه التسوية في وجوب النقض بين جميع صور هذه المسألة، والذي قاله سحنون فيما له فيه رأي فحكم بغيره سهواً: أن له نقضه، ولم يقل: يجب عليه نقضه، ورد بأن نص قول سحنون في النواد: إذا نسي ثم تذكره أنه يرجع فيه، وكذلك ذكره فضل في مختصره، وظاهر وجوب النقض لقوله: وهذا يرجع فيه.

فَلَوْ حَكَمَ قَصْداً فَظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ فَقَالَ ابن القاسم: يُفْسَخُ الأَوَّلُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: لا يَجُوزُ فَسْخُهُ، وَصَوَّبَهُ الأَئِمَّةُ ..

لما ذكر ما ينقض فيه القاضي حكم نفسه باتفاق تكلم على المختلف فيه.

وقوله: (فَظَهَرَ أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) هو ظاهر التصور، وهكذا نسبه ابن محرز وغيره لابن القاسم.

ابن راشد: وهو المشهور، وظاهر ما روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله:"ما فت الطينة عندي أهون من نقض قضاء قضيت به ثم رأيت الحق في خلافه".

وقال ابن الماجشون وسحنون: لا يجوز فسخه، وصوبه الأئمة كابن محرز وعياض وغيرهما من المتأخرين بوجهين: بالقياس على حكم غيره، ولأنه لو نقض حكم نفسه في هذا لما كان لأحد وثوق بحكم؛ لاحتمال نقضه، وتبع في نسبة عدم النقض لابن الماجشون وسحنون ابن عبد الحكم، لكن كلام سحنون وقع مطلقاً من غير تقييد، وقال مطرف وابن الماجشون: إنما ينقض حكم نفسه في هذه المسألة ما دام والياً، أما إن عزل ثم ولي مرة أخرى فظهر له الصواب في غير ما كان قضى به فلا ينقضه، وتكون ولايته الثانية كولاية غيره، وتأول على المدونة القولين اللذين ذكرهما المصنف، وليس ما نسبه المصنف لابن القاسم بصريح في أصل المدونة، وإن كان المصنف لم ينسبه إليها.

ص: 426

خليل: وقال عياض: وقوله في المدونة: "إذا تبين للقاضي أن الحق في غير ما قضى به رجع فيه "حمل أكثرهم مذهبه في الكتاب على أن له الرجوع كيف كان؛ من وهم أو انتقال رأي، وهو قول مطرف وعبد الملك، وقال سحنون: ونقل أيضاً عن عبد الملك أنه إنما يرجع فيما حكم به ذهلاً أو غلطاً لا فيما انتقل فيه اجتهاده، وهو أظهر وأقرب للصواب، وإلا لما استقر حكم حاكم وما كان أحد على وثيقة من الحكم. انتهى باختصار.

ونقل أشهب في الموازية: إن كان القضاء بمال نقضه، وإن كان بإثبات نكاح أو فسخه لم ينقضه.

ابن عبد السلام: وكلام المصنف بحسب ما تدل عليه صيغة أفعل يوهم أن محل الخلاف مقصور على ما إذا ظهر للقاضي أن ما حكم به أولاً صواب وأن غيره أصوب، وأنه لو ظهر له أن ما حكم به خطأ لنقضه بالاتفاق، وليس كذلك، بل المسألة مفروضة في الرواية إذا ظهر له أن الحق في غير ما حكم به، ولو أخذ من هذا الكلام أن الحكم في مسألة المؤلف عدم النقض لما بعد. انتهى.

وفيه نظر؛ فقد قال صاحب البيان: إذا حكم باجتهاد ثم رأى خلافه فالمشهور من المذهب أن القاضي إذا قضى بقضاء ثم رأى ما هو أحسن منه فإنه ينقضه ويرجع إلى ما رأى ما دام على ولايته، وعلى هذا فالخلاف في الصورتين.

وَلا يُمْضِي فَسْخَ حُكْمِ غَيْرِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ وَجْهَ فَسْخِهِ اتَّفَاقاً، وَفِي فَسْخِ حُكْمٍ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ قَوْلانِ ..

يعني: أنه إن فسخ حكم غيره فالاتفاق على أنه لابد من بيان وجه الفسخ؛ دفعاً للظنة عنه في حق القاضي المتقدم، ولحق المحكوم عليه أولاً، وهكذا حكى ابن حبيب الاتفاق، وفي اشتراط بيان وجه الفسخ في حكم نفسه قولان:[658/ ب].

ص: 427

أحدهما: اشتراطه دفعاً للتهمة اللاحقة للقاضي من جهة الحكم له أولاً.

والثاني: عدم الاشتراط لضعف التهمة، لأن النفس مجبولة على دفع الخطأ عنها، وهو قول أصبغ، قال: إشهاده على الفسخ كاف إذا كان مأموناً، ولكن لو قال مع هذا: قضيت للآخر لم يجز قضاؤه لعدم استيفاء الآجال والجرح والحجج، وعادا جميعاً إلى رأس أموالهما.

وَلا يُحِلُّ الْقَضَاءُ حَرَاماً كَمَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ فَحُكِمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ لِلْمَالِكِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ ..

أي: لا يحل حراماً في الأموال ولا في الفروج ولا غيرهما، والمثال الذي قاله المصنف:(كَمَنْ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ) ظاهر، وكما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً ففرق القاضي بينهما وانقضت عدتها، فلا يجوز للشاهد أن يتزوجها، وبقولنا قال جمهور العلماء. ووافقنا أبو حنيفة في الأموال وخالف في الفروج، ورأى أن القضاء يحلها، وبه قال كثير من أصحابنا فيما حكاه ابن عبد البر، وعلى هذا فالأموال مجمع عليها، لكن وقع في المذهب قول فيمن شهد على رجل أنه أعتق عبده فرد القاضي شهادته، ثم اشتراه ذلك الرجل الشاهد- أنه لا يعتق عليه ولو تمادى على إقراره بعد الشراء، وكذلك من اشترى أمة واختلف مع البائع بوجه من الوجوه المؤدية في اختلاف المتبايعين إلى فسخ البيع ورجعت الأمة إلى البائع- أنه يجوز له وطؤها، وفيها اعتذارات ضعيفة مع أن الأمر يؤدي فيها إلى خلاف الإجماع؛ لأن ذلك في الأموال.

ودليل الجمهور ما رواه مالك وغيره أنه عليه السلام قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار" والحديث عام في الفروج وغيرها.

ص: 428

وما ذكره من قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ .. إلخ) ظاهر التصور، ونقله ابن محرز عن ابن الماجشون فقال: وإن كان حكم باجتهاد وحكم بقول شاذ فذهب ابن الماجشون إلى فسخ حكمه، ومثل ذلك: الحكم بالشفعة من الجار، وتوريث ذوي الأرحام، وترك الحكم بالشاهد واليمين.

قال: وخلاف أهل العراق في هذا ظاهر، وهي من المسائل التي شرع فيها الاجتهاد، وقد ذهب جماعة إلى توريث ذوي الأرحام من الصحابة والتابعين، ولا أدري ما هذا.

وقد ذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم أن القاضي إذا حكم بخلاف كائناً ما كان أنه يمضي ولا يرد، وهذا هو الصواب، وكذلك استشكل ابن عبد السلام النقض في مسألة شفعة الجوار، قال: لأن ما تقدم الظاهر فيه مخالف للباطن، ولو علم القاضي بكذب الشهود لما حكم بهم إجماعاً، بخلاف مسألة الشفعة فإنها مختلف فيها، وحكم القاضي يرفع الخلاف فيكون كالمجمع عليه، وما هذا سبيله يتناول الظاهر والباطن، والذي قلناه هو مكان كلام السيوري في بعض مسائله قال: وعلى هذا لو غصب غاصب شيئاً فنقله عن مكان الغصب وكان مما اختلف فيه هل يفوت بنقله أم لا؟ فقضى القاضي لربه بأخذه وكان مذهب ربه أنه يفوت وتجب فيه القيمة فينبغي على هذا أن لا يكون لربه التصرف فيه.

وذكر المصنف في أصوله في الاجتهاد: لو قال مجتهد شافعي لمجتهدة حنفية: أنت بائن، ثم قال: راجعتك- أنه يرفع إلى الحاكم فيتبع حكمه، وهذا يدل على أن حكمه يرفع الخلاف.

وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَى الْحَاكِمِ أَمْرُ تَرَكَهُ، قَالَ سحنون: لا بَاسَ أَنْ يَامُرَ فِيهِ بِالصُّلْحِ، وَلا يَحْكُمُ بِالتَّخْمِينِ؛ فَإِنَّهُ فِسْقُ وَجَوْرُ ..

قد يشكل على الحاكم كلام الخصمين من جهة تصوره؛ فيأمرهما بالإعادة ليفهم عنهما، وقد يفهم عنهما ويشكل عليه وجه الحكم- وهذا هو الذي تكلم عليه المصنف-

ص: 429

فلا يحل له الإقدام على الحكم باتفاق، وإذا لم يحل للمفتي أن يجزم بما يفتي به هنا فأحرى القاضي؛ نعم المفتي قد يرشد إلى الأخذ بالأحواط بخلاف الحاكم، ثم للحاكم أن يصرفهما عنه، وله أن يرشدهما إلى الصلح.

ابن عبد السلام: والأقرب إن كان هناك قاض غيره أن يصرفهما إليه؛ لاحتمال ألا يشكل عليه الحكم، وإن لم يكن غيره أمرهما بالصلح إن كان من الأحكام التي يتأتى فيها الصلح.

وإذا ظهر للقاضي وجه الحكم فلا يدعو إلى الصلح إلا أن يرى لذلك وجهاً، مثل أن يرى أن الحكم يوقع فتنة وتهارجاً.

قوله: (وَلا يَحْكُمُ بِالتَّخْمِينِ؛ فَإِنَّهُ فِسْقُ وَجَوْرُ) نحوه لابن محرز، قال: ويفسخ ذلك الحكم هو وغيره إذا ثبت عند الغير أنه يحكم على ذلك؛ وظاهر كلامه أنه يفسخ وإن طابق الحق، ونحوه لابن خويز منداد، لكن تعقب القابسي قوله ورأى أن يمضي من أحكام الجاهل ما وافق الصواب، وظاهر كلام بعضهم أنه متفق على ذلك.

الجوهري: والتخمين: القول بالحدس.

وَلا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ مُطْلَقاً، إِلَاّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَقَوْلانِ

أي: لا يحكم القاضي بعلمه لئلا ينسب إلى الميل، ولقوله عليه السلام:"فأقضي له على نحو ما أسمع" ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية لما لا عن زوجته: "إن جاءت به على صفة كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك ابن سحماء" فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها".

ص: 430

وقوله: (مُطْلَقاً) أي: سواء علمه قبل ولايته أو بعدها، علمه في مجلس قضائه أم لا سواء الحدود وغيرها، ثم استثنى من الإطلاق صورة مختلفاً فيها بقوله:(إِلَاّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ فَقَوْلانِ).

والمشهور أنه لا يحكم بعلمه أيضاً، وقال مطرف وابن الماجشون وسحنون: يقضي بما علمه في مجلسه، ولذلك جلس، ووقع في بعض النسخ:(وَلا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ مُطْلَقاً، ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: إِلا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ [659/ أ] الشُّرُوعِ فِي الْمُحَاكَمَةِ) وهو أحسن.

واختلف هل يشهد بما سمع منهما عند غيره؟ فقيل: لا يشهد به، وقيل: بل يشهد به.

ابن محرز: وهو الصواب؛ لأنه أمر علمه فلا يحكم به، ويشهد به عند غيره كسائر الحقوق، والقولان لمحمد. وعلى القول بقبولهما فقيل: يرفع لمن هو فوقه لا لمن هو دونه، وإليه ذهب سحنون لقوله في السلطان الأعظم الذي ليس فوقه سلطان: إذا رأى أحد هذا حداً لا يقام أبادً، وأراه هدراً، وقيل: يجوز الرفع لمن هو دونه. وظاهر المدونة أنه لا يرفع لمن هو دونه إلا السلطان الأعظم الذي ليس فوقه سلطان للضرورة، وكذلك قال بعضهم: إن مذهب المدونة التفصيل، ففي المسألة ثلاثة أقوال.

فَلَوْ حَكَمَ بِعلْمِهِ فِي غَيْرِهِ فَفِي فَسْخِهِ قَوْلانِ. وَأَمَّا مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ فَحَكَمَ بِهِ فَلا يُنْقَضُ.

أي: في غير مجلس حكمه، والقول بالفسخ لابن القصار، ونحوه في الموازية، قال: إن حكم بما عنده من الشهادة قبل أن يلي، ثم ولي غيره نقضه.

التونسي: ينقضه هو وغيره.

ابن راشد: وهذا القول هو الأصل، والقول بعدم الفسخ حكاه ابن القصار عن بعض الأصحاب.

ص: 431

ابن عبد السلام: وهو الظاهر مراعاة لقول من أجاز له الحكم بعلمه مطلقاً كأبي حنيفة وغيره، وأما ما أقر به في مجلس الخصومة فحكم به فلا ينقض؛ أي: بالاتفاق، لكن ظاهر كلامه أنه لا ينقضه هو ولا غيره. والذي في الموازية: ولو حكم بما أقر به في مجلس القضاء ثم وليغيره لم ينقضه، وأما ما دام هو قاضياً فينقضه.

فَلَوْ أَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ فَقَالَ مَالِكُ وابن القاسم: لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسحنون: يَحْكُمُ ..

فهذا هو الخلاف الذي استثناه بقوله: (إِلَاّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُخَاصَمَةِ) فهو تكرار.

فَلَوْ أَنْكَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ أَنْ حَكَمَ لَمْ يُفِدْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي الْجَلابِ: إِذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَكَمَ فَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ إِلا بِبَيِّنَةٍ عَلَى حُكْمِهِ ..

يعني: فلو أقر أحد الخصمين فحكم عليه القاضي مستنداً لإقراره مضى ذلك الحكم، ولا يفيد الخصم إنكاره بعد حكم القاضي، هذا بخلاف المسألة الأولى؛ لأن الإنكار فيها قبل تمام الحكم.

وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) هكذا صرح اللخمي بمشهورية هذا القول وعبر عنه المازري بالمعروف، وشرط في ذلك أن يكون القاضي باقياً على ولايته، وجعل اللخمي والمازري ما في الجلاب مقابله، وأشار ابن عبد السلام إلى أن كلام ابن الجلاب ليس نصاً في المخالفة؛ لأن مسألة المشهور أن يخالف الخصم في الحكم، وإنما خاف في سببه وهو الإقرار بخلاف مسألة الجلاب فإن الخصم نازع فيها في أصل الحكم، ولو عرضت مسألة المشهور على ابن الجلاب لاحتمل أن يوافق على المشهور. قال: ولهذا لم يكتف المصنف بذكر المشهور عن ذكر مقابله، بل ذكر ما في الجلاب لينبه على ذلك.

ص: 432

خليل: وهو وإن كان كلاماً ظاهراً إلا أنه خلاف ما فهم اللخمي والمازري وغيرهما.

المازري: والأصل الأول؛ لأن الحاكم إذا كان باقياً على قضائه فله أن يقول الآن مستأنفاً لإيقاع الحكم: "أشهوا علي أني قضيت على هذا لهذا بكذا بعد أن استقصيت الواجب" ولا يمكن المحكوم عليه أن يتلقاه بالمدافعة، وكأن الذي في الجلاب بناه على حماية الذرائع ورأى أنه من باب حكم القاضي بعلمه.

فَلَوْ حَكَمَ بِأَمْرٍ وَنَسِيَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ أَمْضَاهُ عَلَى الأَصَحِّ كَمَا يُمْضِيهِ غَيْرُهُ اتِّفَاقاً ..

قال القاضي عبد الوهاب: إذا وجد القاضي في ديوانه حكماً بخطه ولم يذكر أنه حكم به لم يعتمد على خطه؛ لاحتمال التزوير، ولو شهد به شاهدان عنده أمضاه على الأصح، وهو قول مالك، ومقابل الأصح لا يمضيه، وحكاه أبو عمر أيضاً رواية، وبمقابل الأصح قال أبو حنيفة والشافعي، واحتج للأصح بما أشار إليه المصنف أنه حكم شهد به شاهدان؛ فوجب على من رفع إليه من القضاة تنفيذه؛ أصله لو رفع إلى قاض غيره، وفرق بأن أحكام غيره لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالنقل بخلاف أحكامه فإنه يعلمها من جهة نفسه، والغالب أنه يعلمها بحيث لم يعلم دل على ريبة فيمن نقله، وألغى هذا الفرق لأن الحاكم قد تكثر أحكامه فينسى فتدعو الضرورة إلى الرجوع فيها إلى الظن. واحتج لمقابل الأصح بالقياس على الشهادة، فإنه لو شهد عدلان بأن فلاناً شهد بكذا وأنكر فلان أو لم يذكر فإنه لا يعمل بشهادتهما، وفرق بأن الشاهد متعبد بأن لا يشهد إلا بما يعلم؛ لقوله تعالى:(وَمَا شَهِدْنَا إِلَاّ بِمَا عَلِمْنَا)[يوسف: 81] بخلاف الحاكم فإنه يبني على شهادة غيره، وهي إنما تفيد غالباً الظن.

ص: 433

تنبيه:

تقييد المصنف الحكم بالنسيان موافق لصاحب التلقين والجواهر، ومفهومه أنه لو لم ينس بل كان منكراً أنه لا يمضي؛ لأن الإنكار أشد، لكن هذا المفهوم غير معمول به، فقد نقل صاحب الجواهر في آخر كلامه ما يخالفه فقال: قال ابن حبيب: أخبرني أصبغ عن ابن وهب عن مالك في القاضي يقضي بقضاء ثم ينكره فيشهد عليه به شاهدان- فلينفذ ذلك، وإن أنكر الذي قضى به معزولاً كان أو لم يعزل، ولذلك فرض ابن الجلاب [659/ ب] المسألة في الإنكار.

وَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَينِ فِي الْمَجْلِسِ وَالنَّظَرِ وَالسَّلامِ وَالْكَلامِ وَغَيْرِهِ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: لَهُ رَفْعُ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ ..

الأول ظاهر المذهب وهو ظاهر رسالة عمر، وهو لمالك، والثاني له أيضاً.

المازري: وإذا دخل الخصمان فهو بالخيار إن شاء سكت عنهما حتى ينطق أحدهما فيستدعي الجواب من الآخر، وإن شاء سألهما جميعاً بلفظ التثنية فيقول: مالكما؟ وما حاجتكما؟ أو ما في معنى ذلك، ولا يخص أحدهما بالسؤال فيقول: مالك؟ لأن ذلك يشعر بعناية القاضي به.

فائدة:

رأيت أن أذكر هنا رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما؛ فإنها أصل فينبغي حفظها والاعتناء بها وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام الله عليك، أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدليإليك، وأنفذ إذا تبين لك؛ فإنه لا

ص: 434

ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالا. ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وعدت فيه لرشدك- أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا أوجبت عليه القضاء؛ فإنه أنفى للشك وأبلغ للعذر. الناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب؛ فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم بالبينات والأيمان. وإياك والقلق والضجر والتأذي للخصوم في المجالس؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن عليه الذخر، فمن خلصت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام وفي بعض هذه الألفاظ اختلاف بين الرواة والكل متقارب.

وَإِذَا سَكَتَ الْخَصْمَانِ أَمَرَ الْمُدَّعِيَ بِالْكَلامِ، فَإِذَا انْتَهَى طَالَبَ بِالْجَوَابِ، فَإِنْ أَقَرَّ فَلِلْمُدَّعِي الإِشْهَادُ عَلَيْهِ، وَلِلْحَاكِمِ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.

قد تقدم أن القاضي مخير إذا حضر بين يديه الخصمان في السكوت، أو يقول لهما: ما بالكما؟ ثم إذا علم الحاكم المدعي أو اتفقا عليه أمره الحاكم بالكلام.

أشهب: ويسكت المدعي عليه حتى ينتهي المدعي، ثم يأمره بالسكوت ويستنطق الآخر. وهو معنى قوله:(فَإِذَا انْتَهَى) أي: المدعي- طالب القاضي المدعى عليه بالجواب.

ص: 435

وظاهر قوله: (طَالَبَ) أن للقاضي أن يسأل المدعى عليه وإن لم يقل المدعي: سله.

المازري: وهو ظاهر الروايات؛ لأن شاهد الحال يغني عن هذه الزيادة، فإن أقر؛ أي: المدعى عليه فللمدعي الإشهاد عليه لئلا ينكر.

وظاهر قوله: (وَلِلْحَاكِمِ) التخيير، وفي النوادر عن ابن عبد الحكم: وإن أقر له المطلوب بشيء أمره أن يشهد عليه لئلا ينكر، وإنما كان للقاضي التنبيه على الإشهاد ولم يكن من تلقين لأحد الخصمين لأن الإشهاد مع ما فيه من تحصين الحق فيه قطع النزاع وتقليل الخصام، وذلك من شأن القضاة.

فَإِنْ أَنْكَرَ سَأَلَ: أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ فَإِنْ قَالَ: "لا" وَاسْتَحْلَفَهُ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الأَشْهَرِ إِلا أَنْ يَظْهَرَ عُذْرُهُ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ ..

لما كان للمدعي عليه حالتان: إقرار وإنكار، وقدم الكلام على الأولى- أتبعه بالكلام على الثانية، فإذا أنكر سأل القاضي المدعي: ألك بينة؟ فإن قال: "نعم" أمره بإحضارها وسمع منها وأعذر فيها لخصمه، فإن لم يظهر مدفعاً حكم عليه، وإن ادعى مدفعاً أجله في إثباته، فإن لم يأت به وإلا قضى عليه.

وإن قال: "لا بينة لي" أخبره القاضي أنه ليس له إلا يمين المطلوب، فإن استحلفه فحلف ثم أتى المدعي ببينة؛ فإن كان له عذر في تأخيرها من نسيان أو عدم تقدم علم أو ظن أنها ماتت أو بعدت وشبه ذلك قبلت، ولا بد من يمين المدعي على دعوى نسيان البينة أو غيره مما يدعيه.

قال ابن الماجشون في الواضحة: فإن لم يكن له عذر فالأشهر أنه لا تسمع البينة، وهو قوله في المدونة في كتاب الشهادات؛ لأنه نفاها وأدخل خصمه عهدة اليمين، ومقابله لمالك أيضاً من رواية ابن نافع وقاله أشهب؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه:"البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة".

ص: 436

تنبيه:

قال المازري: الأصل أن القاضي لا يستحلف المدعى عليه إلا بإذن من المدعي، إلا أن يكون من قرينة الحال ما يدل على أنه أراد من القاضي ذلك، وقد ذكر عن بعض القضاة أن رجلاً ادعى على آخر ثلاثين ديناراً فأنكر المدعي عليه فاستحلفه القاضي، فقال الطالب: لم آذن [660/ أ] في هذه اليمين ولم أرض بها، فلا بد من إعادة اليمين، فأمر القاضي غلامه أن يدفع عن المطلوب من ماله الثلاثين ديناراً؛ كراهة أن يكلفه إعادة يمين قضى عليه بها.

وَإِنْ تَنَازَعَا فِي الابْتِدَاءِ فَالْجَالِبُ إِنْ عُلِمَ وَإِلا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا

فإن تنازعاً في تعيين المدعي فقال كل منهما: "أنا المدعي" قدم الجالب؛ لأن قرينته تدل على صدقه، وإن لم يعرف الجالب فقال ابن شعبان: إن اصطلحا على تقديم أحدهما، وإلا أقرع بينهما. المازري: وهو الأظهر.

وقال محمد بن عبد الحكم: إذا لم يدر من جلب أو استعدى لم أبال بأيهما بدأ، وإن كان أحدهما ضعيفاً أحب إلي أن يبدأ به.

وحكى ابن المنذر قولين آخرين:

أحدهما: أن يصرفهما حتى يصطلحا. وضعفه المازري؛ لأنهما قد لا يصطلحان فيبقيان في المشاجرة.

وثانيهما أنهما يتحالفان. وضعفه أيضاً بأنه يعود الكلام فيمن يبدأ بالحلف.

وفي بعض النسخ: (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَمَرَ بِالانْصِرَافِ، فَمَنْ أَبَى إِلَّا الْمُحَاكَمَةَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ أَبَيَا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا) ونحوه في الجواهر وهو في الواضحة لأصبغ، إلاأنه لم يجعل في ذلك قرعة.

ص: 437

قال في المجموعة: وإن قال أحد الخصمين: أنا المدعي، وسكت الآخر فإن للقاضي أن يسأل المدعي عليه إذا سكت الآخر عن إنكار قوله أنه هو المدعي، قال: وأحب إلي ألا يسأله القاضي حتى يسلم له الآخر ذلك نطقا.

وَيَحْكُمُ بَعْدَ أَنْ يَسْأَلَهُ: أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةُ؟ فَيَقُولَ: "لا" فَإِنْ قَالَ: "نَعَمْ" أَنْظَرَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَدَدَهُ، ثُمَّ هُوَ عَلَى حُجَّتِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ.

هذا هو الذي يسميه الفقهاء الإعذار؛ يعني: ويحكم القاضي بعد أن يسأل المدعى عليه أبقيت لك حجة؟ فيقول: لا، فقوله (فَيَقُولَ) منصوب بالعطف على (يَسْأَلَهُ) وكأن المصنف هرب بإفراد الضمير مما في المدونة من تثنيته؛ لأن فيها: وجه الحكم في القضاء إذا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما أن يقول: أبقيت لكما حجة؟ فإن قالا: "لا" حكم بينهما، ثم لا تقبل منه حجة بعد إنفاذه. فاستشكل بأن الحجة إنما تطلب ممن توجه عليه الحكم، وهو المدعى عليه، ولهذا اختصر أبو محمد المدونة بإفراد الضمير، لكن الجواب عما في المدونة أن الحكم تارة يتوجه على الطالب وتارة على المطلوب؛ لأنه قد تقوى حجة المدعى عليه وتضعف حجة المدعي، فيتوجه الحكم عليه بالإبراء أو بغيره فلابد من الإعذار أيضاً، فلما كان مرة يعذر إلى هذا ومرة إلى هذا اختصر في الكلام وأتى بذلك في لفظ واحد، هكذا قال عياض وغيره.

وقوله: (فَإِنْ قَالَ: "نَعَمْ") أي: قال المدعى عليه: "نعم لي حجة" أنظره القاضي فضرب له أجلاً، فإن تبين لدده ففي الموازية: يضرب له أجلاً غير بعيد ثم ينفذ الحكم، ولو ادعى بينة بعيدة كما لو قال:"بينتي بالعراق أو بالمغرب" قضى عليه، ومتى حضرت بينته كان على حجته ويقوم بها عند هذا القاضي وعند غيره.

ابن يونس وغيره: وينبغي إذا ذكرأن له بينة بعيدة أن يكتب الحاكم في قضيته أنه ذكر أن له بينة بعيدة الغيبة ومتى حضر شهوده كان على حجته، وقاله بعض القرويين.

ص: 438

تنبيهان:

أولهما: ما ذكره من أنه إذا ذكر أن له حجة وتبين لدده يقضي القاضي عليه هو التعجيز، قال غير واحد: ويصح التعجيز في كل شيء إلا خمسة: العتق والطلاق والنسب والأحباس والدماء، وبه قال ابن القاسم وأشهب وابن وهب، وفيه خلاف.

ثانيهما: للموثقين في حد أجل الإعذار كلام؛ ففي وثائق ابن القاسم: الآجال تختلف باختلاف الشيء المدعى فيه، ففي ما عدا الأصول ثمانية أيام ثم ستة ثم أربعة ثم ثلاثة تلوماً، وفي الأصول الشهرين والثلاثة، لاسيما إذا ادعى مغيب البينة، وحينئذ يعجز، وفيه خلاف. وفي إثبات الديون ثلاثة أيام. وفي الإعذار في البينات وحل العقود ثلاثون يوماً. وللقاضي جمعها وتفريقها، وبتفريقها جرى العمل. وفي الوثائق المجموعة: يضرب في غير الأصول ثمانية أيام، ثم ستة، ثم أربعة، ثم ثلاثة؛ فيكون إحدى وعشرين يوماً. قال: وليس يضرب لمن ذهب إلى استدفاع يمين واجبة عليه مثل الآجال المذكورة، إنما يؤجل إذا زعم أن عنده ما يدفع اليمين الأجل القريب ثلاثة أيام ونحوها؛ لأن قوله هذا محمول على اللدد، وألآجال في الأصول أوسع من الديون والحقوق، وهي تختلف باختلاف أحوال المضروب.

وروى أشهب عن مالك في الرجل يدعى عليه في منزل بيده، ويأتي المدعي ببينة عدل فيقول المدعى عليه:"لي بينة" ويسأل التأجيل فيضرب له الأجل الواسع الشهر والشهرين والثلاثة، ويمضي الأجل ولا يحضر شيئاً، ويذكر غيبة شهوده وتفرقهم؛ هل ترى أن يضرب له أجلاً آخر أم يقضي عليه؟ فقال: أما الصادق المأمون الذي لا يتهم أن يدعي باطلاً فأرى أن يمد له في الأجل، وأما الذي يرى أنه يريد الإضرار بخصمه فلا أرى أن يمكن من ذلك الأمد القريب ثم يقضي عليه بما يرى. انتهى باختصار.

ص: 439

وفي مفيد الحكام: الأجل في الإعذار موكول إلى اجتهاد الإمام؛ خمسة عشر يوماً، ثم ثمانية، ثم ثلاثة تلوماً هذا في الأموال. وفي غيرها ثمانية أيام، ثم ستة، ثم أربعة، ثم ثلاثة.

وفي أحكام ابن سهل: فيمن شهد عليه بما يقتضي قتله فادعى عداوة بينه وبين القاضي تمنع حكمه عليه أنه يؤجل لإثباتها شهرين، اتفق على ذلك فقهاء قرطبة؛ فاعلمه.

وَإِذَا حَكَمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "لا حُجَّةَ لِي" فَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لَهُ ذَلِكَ، [660/ ب] وَقِيلَ: عِنْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ..

يعني: وإذا حكم على المدعى عليه بعد أن قال: "لا حجة لي" ثم أتى بعد ذلك ببينة لم يعلم بها- ففي المدونة: لا تقبل من المطلوب حجة إلا أن يأتي بما له وجه، مثل بينة لم يعلم بها أو يكون أتى بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، وحكم عليه، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم وقال:"لم أعلم به" فليقض له. وقيل: إنما يكون له القيام بالبينة التي لم يعلم بها عند هذا القاضي دون غيره؛ لأن القيام بالبينة عند غيره شبيه بنقض الحكم الأول، وهو قول ابن المواز. وقيل: لا يقبلها مطلقاً- لا عنده ولا عند غيره- لأنه أقر على نفسه أولاً بأنه لا حجة له.

وصرح في البيان: بأن المشهور إذا عجز المطلوب وقضى عليه أن الحكم يمضي، ولا يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، وذكر في تعجيز الطالب والمطلوب قولين، وذكر ثالثاً بالقبول من الطالب دون المطلوب، ورابعاً في الطالب إن عجزه في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجزه بعد أن وجب على المطلوب عمل ثم رجع عليه؛ أي: كما لو ادعى داراً وأقام بينة أنها لأبيه وأثبت المطلوب الحيازة .. ، ثم قال: وقيل هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام، وقيل: بل ذلك فيه وفيمن بعده، وهذا الاختلاف إنما هو إذا أعجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا أعجزه السلطان

ص: 440

بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد ورد من قوله قبل نفوذ الحكم، فلا يسمع بعد نفوذه. انتهى.

وفي المدونة في باب: "القطع" إثر المسألة المتقدمة؛ أعني: إذا قالا: لا حجة لنا، وإن قال:"قد بقيت لي حجة" فأمهله فلم يأت بشيء حكم عليه، فإن أتى بعد ذلك يريد أن ينقض ذلك لم يقبل منه إلا أن يأتي بأمر يرى أن له وجهاً.

ابن القاسم: مثل أن يأتي بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، وقال:"لا أعلم لي شاهداً آخر" فحكم عليه القاضي ثم وجد شاهداً آخر بعد الكم فليقض بهذا الآخر، ومثل أن يأتي ببينة لم يعلم بها، وإلا لم يقبل منه.

ابن المواز: وإنما ذلك عندنا في القاضي نفسه، فأما لو ولي غيره لم يكن له أن ينظر فيه ولا ينقضه.

وقال سحنون: لا يقبل القاضي بعد الحكم من المطلوب حجة وإن أتى بما له وجه.

بعض القرويين: وما في المدونة أشبه، وفي المجموعة في الذي يقضي عليه ثم يجد بينة لم يعلم بها أن ذلك له وقد عزل القاضي، أيقضي بها الثاني؟ قال: نعم.

ابن يونس: وهو صواب كما لو قال: لي بينة غائبة بعيدة.

ابن عبد السلام: وانظر هذا الخلاف حيث يقول المحكوم عليه: "بقيت لي حجة" والمؤلف حكاه حيث يجيب بقوله: "لا حجة لي". انتهى. وكلام المصنف يأتي على كلام ابن رشد؛ فانظر ذلك.

وَإِذَا تَزَاحَمَ الْمُدَّعُونَ فَالسَّابِقُ ثُمَّ الْقُرْعَةُ، إِلا الْمُسَافِرَ وَمَا يُخْشَى فَوَاتُهُ

يعني: سواء كان الوقت لا يسع إلا بعضهم، أو كان يسع الجميع ولكن كل واحد أراد التقديم- فيقدم الأول فالأول. قيل: وينبغي أن يوكل من يعرف له الأول فالأول،

ص: 441

فإن لم يعرف الأول أقرع. وصفتها أن تكتب أسماءهم في رقاع ثم تؤخذ إحدى الرقاع بعد خلطها، فمن وجد اسمه في تلك الرقعة قدم. واستثنى المصنف المسافرين لضرورتهم بفوات الرفاق.

المازري: إلا أن يكثروا كثرة يلحق منهم المقيمين الضرر، فيصار إلى القرعة.

بعض الشافعية: وإنما يبدأ الأول في حق واحد، واختار المازري تقديمه في حقين إذا كان لا يطول ولا يضر بالجماعة، كما لو خاصم الأول وطال خصامه معه، قال: وربما كان خصام الاثنين كخصام واحد يطول معه الخصام.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْرِدَ وَقْتاً أَوْ يَوْماً لِلْنِّسَاءِ

هو ظاهر تصوراً وتصديقاً؛ خوفاً من الفتنة في اجتماعهن مع الرجال في المجلس.

المازري: وإن كانت شابة لها جمال، ويخاف إن تكلمت أن يؤدي كلامها إلى شغف بها فإنها تؤمر أن توكل من ينوب عنها، ولا يكون من حق الخصم أن يؤتى بها لمجلس القضاء، وإن احتيج إلى أن يبعث إليها وهي بدارها تخاطب من وراء سترها من يبعثه القاضي إليها ممن تؤمن ناحيته لشيخوخته ودينه، أو يكلفه الحكومة في أمرها فعل، وقد حضرت الغامدية مجلسه عليه السلام، وقال في المرأة الأخرى:"واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها .. ".

وَالْمُفْتِي كَذَلِكَ

أي: في التقديم بالسبقية. زاد ابن شاس: وكذلك المدرس، وجرت العاةد بتقديم قارئ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قارئ الفقه.

ص: 442

وَإِنْهَاؤُهُ إِلَى حَاكِمٍ بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةِ

المراد بالإنهاء التبليغ؛ يعني: فتبليغ القاضي حكمه لحاكم آخر يكون بوجهين:

أولهما: أن يشهد شاهدان على تفصيل حكمه.

أشهب: ولا تفيد شهادتهما أنه كاتبه حتى يشهدا أنه أشهدهما عليه.

وقوله: (بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةِ) أي: ولا يكون بغيرهما؛ فلا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد، أو بالشهادة على أن الكتاب بخط القاضي، أو أن أختم ختمه، وما يفعله أهل زماننا من كتب القاضي خطه في العلامة والاكتفاء بالشهادة على خطه دون إشهاد القاضي عليه خارج عن نصوص المتقدمين، وإن كان وقع لسحنون وابن كنانة الاكتفاء بكتب أمنائه من أعراض البلد فجعل ذلك بعض المتأخرين أصلا ًفي قبول الإعلام إذا شهد على خط القاضي، وسيأتي ما استثني من ذلك في نواحي البلد، وإلى هذا أشار بقوله:

فَالإِشْهَادُ يَكُونُ بِشَاهِدَيْنِ مُطْلَقاً، وَقَالَ سحنون: وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِن كَانَ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ ..

(مُطْلَقاً) أي: في كل حق، سواء كان الحق المحكوم به مما يثبت في أصله بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، أو بشاهد وامرأة، أو لا يثبت إلا بأربعة كالزنى، فلا يشهد على النقل إلا أربعة.

قوله: (، وَقَالَ سُحْنُونُ .. إلخ) تصوره ظاهر، ولعل منشأ الخلاف الاختلاف في الشاهد واليمين فيما ليس بمال ولكنه يؤول إلى المال.

ص: 443

وَاسْتُحِبَّ أَنْ تَكُونَ بِكِتَابٍ مَخْتُومٍ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِخِلافِهِ أَمْضَى ..

[661/ أ] بعض من تكلم هنا: ينبغي أن يقرأ: (اسْتُحِبَّ) لما لم يسم فاعله؛ لئلا يتوهم عوده على مالك، ولم ينص على ذلك، وما ذكره من الاستحباب نحوه في الجواهر، قال: ولو شهد بما فيه وهو مفتوح بغير ختم لجاز أيضاً.

ابن عبد السلام: ولا يظهر للاستحباب كبير وجه إذا كان المعتمد على ما قاله من الشهادة؛ لأن القبول معها دائر وجوداً وعدماً، وإنما يتصور ما ذكره المصنف من شهادة الشهود بخلاف الكتاب إذا أشهدهما على الحكم وأعطاهما الكتاب ولم يقرأه عليهما، زاد ابن شاس بعد قوله: إنما يعمل بالشهادة ولو خالفت الكتاب إذا طابقت الدعوى.

فَلَوْ قَالَ: أَشْهَدْتُكَمَا عَلَى أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ خَطِّي أَوْ حُكْمِي، فَرِوَايَتَانِ وَمِثْلُهُ لَوْ أَقَرَّ مُقِرُّ بِمِثْلِهِ ..

هكذا حكى صاحب المعونة هاتين الروايتين.

ابن عبد السلام: والصحيح عندي منهما إعمال ما في الكتاب؛ لأنهما أديا عنه ما أشهدهما به، ولا معارض. انتهى.

واحتج القاضي إسماعيل للإعمال بأنه عليه السلام دفع إلى عبد الله بن جحش كتاباً وأمره ألا يقرأه إلا بعد أن يسير ليلتين، فإذا قرأه فليبلغ ما فيه.

ووجه المازري الرواية الأخرى بأنهم إذا لم يعلموا ما تضمنه فالشهادة بمضمونه شهادة بما لم يعلموا، وضعفه بأن ما تضمنه على الجملة قد أقر به من أمرهم بالشهادة، والعلم تارة يقع جملة وتارة يقع تفصيلاً.

ص: 444

ابن عبد السلام: وقوله: (وَمِثْلُهُ لَوْ أَقَرَّ مُقِرُّ بِمِثْلِهِ) ظاهر أن فيه الروايتين: وكلام ابن شاس أظهر في ذلك، والصحيح قبول هذه البينة، وإنما يحفظ الخلاف في المذهب بالكراهة في شهادة الشاهد، كذلك في الوصايا؛ لاحتمال أن يكون فيها جور، وحكى عبد الوهاب روايتين فيمن دفع إلى شهود كتاباً مطوياً فقال: اشهدوا علي بما فيه.

خليل: وعموم ما نقله القاضي يصحح الخلاف الذي أشار إليه المصنف.

وَتُؤَدَّى عِنْدَ مَنْ كُتِبَ إِلَيْهِ وَغَيْرِهِ.

نحوه في المدونة لأن في باب الأقضية: وإذا كتب قاض إلى قاض فمات الذي كتب إليه الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل ووصل الكتاب إلى من ولي بعده فالكتاب جائز، ينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب لغيره.

أبو إسحاق: ولا ينبغي أن يسمي المكتوب إليه، وإنما يقال:"قاضي فلانة، ابن الحاج" وهو خلاف المدونة؛ لقوله فيها: وإن كان إنما كتب لغيره.

المازري: ووقع لابن القاسم في قاضي مصر إذا كتب لقاضي إفريقية في القضاء على غائب بإفريقية فلقي المحكوم له المحكوم عليه بطرابلس أنه لا يحاكمه فيها، وهذا يتأول على أن المحكوم عليه لا يعرف حيث لقيه خصمه، وإنما يعرف بالبلد الذي كتب إلى قاضيه، وإلى هذا أشار سحنون.

وَيُمَيِّزُ الْغَائِبَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ وَحِرْفَتِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمَيَّزُ بِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ آخَرُ حَيُّ أَوْ مَيِّتُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ إِلا أَنْ يَتَعَيَّنَ بِوَجْهٍ

إذا حكم القاضي على الغائب وطلب المحكوم له من القاضي أن يكتب له كتاباً بذلك إلى حاكم بلد المطلوب ليمشي به أو يرسله مع وكيل له- وجب على القاضي أن يجيب لذلك.

ص: 445

ويعين المحكوم عليه بكل ما يقع به التمييز من اسم ونسب وحلية وحرفة وشهرة وغير ذلك، فإن لم يوجد بتلك البلد على تلك الأوصاف التي وقع التمييز بها إلا واحداً فإن القاضي يؤمر بالكشف ثم يوجه الحكم عليه، وإن وجد على تلك الصفة اثنان فأكثر، لم يحكم على أحدهما إلا بتعيين البينة له أنه الذي أراده القاضي.

واختلف إذا عين الطالب واحداً وطلبه بحميل حتى يأتي بالبينة؛ فقال ابن القاسم في المدونة: لا يمكن من ذلك، وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: يمكن إذا لم تؤمن غيبته، ولم يكن من أهل البلد.

وإن ترك القاضي الكاتب التمييز ففي المذهب قولان:

أولهما: أن القاضي المكتوب إليه لا يعدي الطالب على صاحب الاسم المكتوب حتى يثبت الطالب أنه ليس بتلك الجهة من هو بهذه الصفة، والاسم والشهادة في ذلك على العلم، وهو دليل قول ابن وهب في سماع زونان.

وثانيهما: أن يعديه إلا أن يثبت صاحب هذا الاسم أن بالبلد من يوافقه في الاسم والصفة وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان، وقول ابن القاسم في المدنية.

قول: (بِوَجْهٍ) وما يتعين به كأن يموت مشاركة في هذا الاسم قبل تاريخ هذا الدين.

وَالْمُشَافَهَةُ بِأَنْ يَكُونَا قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ وِلايَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْمَسْمَعُ فِي غَيْرِهَا لَمْ يُسْمَعْ، وَلَوْ كَانَ السَّامِعُ فَهِيَ شَهَادَةُ، وَلا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ بِهَا كَغَيْرِهَا ..

هذا هو الوجه الثاني من وجهي الإنهاء.

وقوله: (أَنْ يَكُونَا قَاضِيَيْنِ بِبَلَدٍ) هذا- والله أعلم- إذا عرض للأول عارض يمنعه من التمام كمرض ونحوه، وإلا فللأول أن يتم الحكم، وتردد المازري في هذين

ص: 446

القاضيين؛ أعني: إذا كانا ببلد واحد وأخبر أحدهما الآخر أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان كذا هل يكتفي بخبر القاضي أم لا؟ قال: فإن قلنا: إن هذا من القاضي كنقل عن شهادة فلا يكتفي هذا القاضي [661/ ب] المخاطب بتعريفه أنهم شهدوا عنده بكذا؛ لأن الشهود المنقول عنهم حضور، ولا يصح نقل عن شاهد حاضر من غير عذر، وإن قلنا: إن ذلك كقضية؛ فإن القاضي الثاني ينفذ ما قاله الأول من غير أن يطلب إحضار الشهود، وقد يقال: إذا قبلنا قول القاضي وحده فكذلك يصح نقله.

قوله: (أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرَفِ وِلايَتِهِ) وذلك إما بأن يكون لكل واحد جهة من البلد، أو يكونا في جهتين متجاورتين.

(وَلَوْ كَانَ الْمَسْمَعُ فِي غَيْرِهَا) أي: في غير ولايته (لَمْ يُسْمَعْ) لأنه معزول في تلك الجهة، فصار كقوله بعد العزل:"كنت حكمت بكذا" وأجاز أهل طليطلة أن يخبر القاضي المحل بغير بلده قاضي البلد وينفذ حكمه.

ابن سهل: ولو كان السامع للحكم في غير محل ولايته والمسمع في محل ولايته ثم رجع السامع إلى محل ولايته له أن يحكم بما سمعه في غير محل ولايته؛ لأنه حينئذ حاكم بعلمه، وفي أحكام ابن سهل عن أصبغ ما ظاهره أن له أن يحكم، وأجراه مجرى تنفيذ الأحكام في غير ولايته.

ابن عبد السلام: وانظر قول المؤلف: (فَهِيَ شَهَادَةُ) فظاهره أن القاضي السامع لو طلب منه أن يؤدي ما سمعه من هذا القاضي إلى قاض ثالثا لكان ذلك له ويكون شاهداً، فيحكم بقوله مع يمين الطالب، أو مع شهادة شاهد آخر، وفي هذا الأصل قولان: هل يكتفي بالشهادة بذلك أو لا بد من السماع من القاضي من زيادة قوله: أشهد علي بكذا؟ ولو قيل: إنه لا يشهد في هذه الصورة من غير خلاف لما بعد، فإن ذلك الخلاف إنما هو إذا

ص: 447

أشهد القاضي شاهدين على نفسه وحضر مجلسه اثنان غيرهما فهل لهذين الاثنين أن يشهدا بما أشهد به الأولان؟ في ذلك قولان، وفي هذه الصورة لم يقصد القاضي المسمع إلى الإشهاد بوجه، وإنما قصد إلى إعلام قاض آخر مشافهة ولم يتم الحكم بها؛ فتأمله.

وَلَوِ اقْتَصَرَ الأَوَّلُ عَلَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَأَشْهَدَ بِذَلِكَ وَجَبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُنْهَىَ إِلَيْهِ الإِتْمَامُ مِنَ التَّعْدِيلِ وَالْحُكْمِ ..

أي: لو اقتصر القاضي الأول على سماع البينة في بلده ولم ينظر في عدالتها، فعلى القاضي الثاني النظر في عدالتها والحكم بمقتضاها، وإن ثبت عند الأول العدالة حكم الثاني، وليس قول القاضي:"ثبت عندي كذا" حكماً منه بمقتضى ما ثبت عنده فإن ذلك أعم منه، وإنما ذكرنا هذا لأن بعض القرويين غلط في ذلك، وألف المازري جزءاً في الرد عليه وجلب فيه نصوص المذهب.

وَأَمَّا الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ فَلا أَثَرَ لَهُ

أي: عند الإشهاد، وهذا راجع إلى قوله:(بِالإِشْهَادِ وَالْمُشَافَهَةُ).

قَالَ مَالِكُ: كَانَ مِنَ الأَمْرِ الْقَدِيمِ إِجَازَةُ الْخَوَاتِمِ حَتَّى حَدَثَ الاتِّهَامُ فَأُحْدِثَتِ الشَّهَادَةُ ..

هذا استدلال منه لما ذكر من أن الكتاب المجرد لا أثر له.

قوله: (عَلَى إِجَازَةُ الْخَوَاتِمِ) أي: ختم القاضي على كتابه.

ابن شعبان: وأول من أحدث الشهادة هارون الرشيد، وقيل: أبوه محمد المعروف بالمهدي.

وفي البخاري: إن أول من سأل البينة عن كتاب القاضي ابن أبي ليلى.

ص: 448

وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: كَذَلِكَ إِلا فِي الْقَرِيبِ كَأَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ إِلَى قَاضِيهَا فِي الْحَقِّ الْيَسِيرِ فَإِنَّهُمْ بَقُوا عَلَى الاجْتِزَاءِ بِالْخَطِّ وَالْخَوَاتِمِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِلا فِي الْقَرِيبِ وَأَطْلَقَ ..

أي: وقال ابن كنانة: لا يكتفي بالخواتم، وهو معنى قوله:(كَذَلِكَ إِلا فِي الْقَرِيبِ) ككتاب الأمناء بأعراض المدينة إلى قاضيها، وهي قراها.

الجوهري: يقال: أخصبت أعراض المدينة، والأعراض: قرى بين الحجاز واليمن. وقيده بالحق اليسير، ونص قول ابن كنانة في النوادر: والناس اليوم على أنه أرجاء من أعراض المدينة، اجتزوا بمعرفة طابعه وخطه، وجوابه إن كان في الحقوق اليسيرة.

(وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلا فِي الْقَرِيبِ وَأطْلَقَ) ككتاب الأمناء بأعراض المدينة إلى قاضيها، وهي قراها.

مطرف وابن الماجشون وأصبغ: ولا بأس إذا كتب القاضي إلى القاضي في الشيء يسأله عنه من عدالة شاهد أو أمر يستخبره من أمر الخصوم أن يكون كتابه بغير شهود إذا عرف خطه، ما لم يكن فيه قضية قاطعة وكتاب هو ابتدأه به فلا ينفذه إلا بعدلين، قالوا: وأما كتابه إلى قاضي الجماعة أو إلى فقيه يسأله ويسترشده ويخبره، فهذا يقبله إذا عرف خطه وأتاه به رسوله أو من يثق به، إلا أن يأتيه به الخصم فلا يقبله إلا بعدلين.

وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ عَنْ الْحَاكِمِ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْعَفْوِ وَغَيْرِهَا إِنْ كَانَ أَهْلاً، وَرَدُّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ فَإِنْ جَهِلَهُ قَبِلَهُ إِنْ كَانَ مِنْ قُضَاةِ الأَمْصَارِ، وَكَشَفَ عَنْهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

يعني: لا فرق في الحقوق إذا انتهت إلى حاكم بين المالية وغنيرها، إن كان القاضي الكاتب أهلاً؛ أي: للقضاء، بأن تجتمع فيه شروط الولاية.

ص: 449

(وَرَدُّهُ) معطوف على (قَبُولُ) أي: ويجب رده إذا لم يكن القاضي الأول أهلاً بأن تختل منه شروط القضاء أو بعضها.

(فَإِنْ جَهِلَهُ

إلخ) أي: فإن جهله المنهي إليه قبله؛ أي: المنهي إن كان من قضاة الأمصار؛ لأنه لا يستقضى في الأمصار إلا من كان أهلاً للقضاء، وذلك واضح نص عليه أصبغ في الواضحة.

قَالَ ابن الماجشون: الْعَمَلُ عِنْدَنَا أَنْ تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ حَضَرَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ، ثُمَّ يَعْلَمُ بِهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْفَعُ وَإِلا قُضِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرَهُ سُحْنُونُ إِلا بِمَحْضَرِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ غَائِباً غَيْبَةً بَعِيدَةً

الذي ذكره ابن الماجشون هو مذهب المدونة، وهو أجري على أصل المذهب في القضاء على الغائب.

وقوله: (ثُمَّ يَعْلَمُ بِهِمْ) هذا لا بد منه، ويعذر إليه في شهادتهم.

أما لو شهدوا على إقراره بمحضر القاضي فهل يعذر إليه فيهم أم لا يعذر لكونه سمع إقراره معهم؟ قولان: الأول لابن الفخار، والثاني مذهب الأكثر، وبه مضى العمل. وقال صاحب التحرير: يعذر في كل الشهود إلا في خمسة: أولها هذا، ثانيها: من وهجه الحاكم من قبل نفسه، [622/ أ] ثالثها: المزكي في السر، رابعها: المبرز في العدالة، والعمل على أنه يعذر فيه بالعداوة لا غير، خامسها: من قبلت شهادته بالتوسم.

خليل: وتزاد سادسة نقلت عن ابن بشير القاضي، وذلك أنه حكم على وزير في قضية وهو غائب، فقال: له الوزير: أخبرني بمن شهد علي، فقال له ابن بشير: مثلك لا يخبر بمن شهد عليه؛ يعني: وإن كان نص في المدونة أنه يخبر بمن شهد عليه وبالشهادة فلعل عنده حجة، وإلا حكم عليه، وعلى هذا فيتخصص الكتاب بهذه الصورة.

ص: 450

ابن رشد: ولابد من تسمية الشهود في الحكم على الغائب على القول بأن الحجة ترجى له؛ ليجد سبيلاً إلى رد القضية بتجريح الشهود، هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وإن لم يسم البينة فالقضية مردودة؛ تفسخ ويستأنف الحكم فيها، وقاله أصبغ في الواضحة وغيرها، وهو الصحيح على القول بأن الحجة ترجى له، وأما الحكم على الحاضر فلا يحتاج إلى تسمية الشهود؛ إذ قد أعذر فيهم إلى المحكوم عليه، إلا أن تسميتهم أحسن.

أصبغ: وبذلك مضى العمل.

ابن أبي زمنين: وهو الذي عليه الحكام، وأما الغائب والصغير فلابد من تسميتهم، وقد روى سحنون أيضاً أنه لا يلزم ذلك في الغائب وأن ذلك أحسن، وهو إنما يأتي على قول ابن الماجشون أن الغائب إذا حكم عليه لا ترجى له الحجة. انتهى.

وَيَحْكُمُ بِالدَّيْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ غَالِباً بِالصِّفَةِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَدَّعِ الْحُرِّيَّةَ أَوْ يَدَّعِيهِ ذُو يَدٍ ..

يعني: أن ما يحكم به إما أن لا يقبل التمييز قبل الحكم، أو يقبله؛ فالأول: لا يطلب؛ إذ لا معنى لطلب ما يتعذر حصوله، فتقول البينة مثلاً:"غصب له حديداً قيمته كذا".

والثاني: وهو ما يقبل التمييز لا يخلو إما أن يكون تحت يد منازع فيه وشبهه كدعوى العبد الحرية، أو لا يكون كذلك، والثاني لا يطلب حضوره؛ لأن الأصل ألا يكلف مدعيه بينة، بل يأخذه بالصفة والأمارة وما في معناهما. والأول المشهور فيه الاكتفاء بالصفة، والشاذ لابن كنانة.

قال في المجموعة وكتاب ابن سحنون: فأما من يدعي الحرية أو عبداً أو قربة بيد رجل فلا يدرك ذلك بصفته في كتاب قاض حتى تراه البنية فيثبتونه، ولم أسمع من قضى بذلك.

ص: 451

وَفِي الْعَقَارِ ثَالِثُهَا: فِي الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ

هذا الكلام يوهم أنه فرع من المسألة التي قبله، وليس كذلك؛ لأن السابق هل يشترط حضور المحكوم به لتشهد البينة على عينه أو لا؟ وهذه المسألة إنما المراد بها هل يشترط حضور المحكوم عليه ليستوفي حجته أم لا؟

ابن عبد السلام: والقول بأنه يحكم عليه لعبد الملك، والقولان الباقيان في المدونة ما لم تبعد الغيبة جداً مثل الأندلس وطنجة من المدينة فإنه يحكم عليه، وهذا الخلاف إنما هو في الاستحقاق وحده، وأما بيع الربع في الدين على الغائب وشبه ذلك من الحقوق فلا خلاف في المذهب أنه يباع عليه بينة، هكذا قال بعضهم، ووقع في العتبية خلاف في بيع الرباع في الدين. انتهى.

وعلى هذا ففي حكاية المصنف الأقوال الثلاثة نظر؛ لأن البعيد جداً يحكم عليه، قال بعضهم: بلا خلاف، والقريب الغيبة كالحاضر، ولم أر جميع الأقوال، وسأذكر لك ما وقفت عليه. وقد قسم ابن رشد الغيبة إلى ثلاثة أقسام: قريبة ومتوسطة وبعيدة جداً أو غيبة انقطاع.

أما القريبة كاليومين والثلاثة والطريق مأمونة فالوجه أن القاضي إذا ثبت عنده قرب غيبته مع الأمن وهو من أهل علمه، فإنه يكتب إلى قاضي البلد الذي هو فيه أو إلى عدلين من عدول ذلك الموضع، ويعلمه بمن قام عليه وبما ادعاه وبما ثبت عنده وبتسمية الشهود الذين قبلهم وبتسمية المعدلين لهم، فإذا ثبت عنده إقراره بألا مدفع له، أو ادعى مدفعاً وعجز عنه سجل عليه وقضى عليه في الربع وغيره، ولا يختلف في ذلك، ولا حجة له بعد ذلك، ولا يحكم عليه بشيء قبل الإعذار إليه.

والمتوسطة كعشرة أيام ونحوها أو على مسيرة يومين أو ثلاثة والطريق مخوفة فيحكم عليه فيما عدا الأصول، وفيها قولان:

ص: 452

قال في المدونة في القسم: سمعت من يذكر عن مالك أنه لا يقضي على الغائب في الدور، وهو رأيي، إلا في الغيبة البعيدة مثل الأندلس وطنجة من المدينة، وما بعد فليقض عليه، وما علمت في هذا خلافاً. وكذلك قال مالك في الواضحة وأنكر ذلك ابن الماجشون وقال: إنما يقول ذلك أهل العراق، وعلماء المدينة وحكامها على خلافه، وبه قال سحنون. وحيث قضى عليه فإنه لا يعذر إليه، وترجى له الحجة، واختلف النقل عن سحنون هل ترجى له الحجة أم لا؟ فذكر ابن رشد عنه أنه لا ترجى له، وكذلك ذكر ابن الهندي. والذي ذكره عنه في الجواهر أنه ترجى له.

وأما البعيدة كمكة من إفريقية والأندلس من خراسان فهذا يحكم عليه في كل شيء من الديون والحيوان والعروض والرباع والأصول، وترجى له الحجة في ذلك.

ابن القاسم في كتاب القسم: ولايقيم القاضي لغائب أو لطفل وكيلاً يقوم بحجته.

أبو عمران: لأن الموكل تنقطع حجته بانقطاع حجة وكيله، فلو وكل القاضي لهما لانقطعت حجتهما بانقطاع حجة الوكيل؛ فكان تركهما على حجتهما أنفع لهما. [662/ ب].

ابن عبد السلام: وظاهر ما ذكره ابن القاسم أنه سمعه عن مالك عدم القضاء على الغائب ولو بعدت غيبته، وعلى هذا حمله بعضهم.

وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى عَدَمِ الإِبْرَاءِ وَالاسْتِيفَاءِ وَالاعْتِيَاضَ وَالإِحَالَةِ وَالاحْتِيَالِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى الاقْتِضَاءِ فِيهِ وَفِي بَعْضِهِ، وَقِيلَ: وَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إِلَى الآنَ ..

أي: يحكم على الغائب بالدين إذا قامت للطالب بينة أو حلف، والقول الثاني من كلام المصنف يستلزم التكرار؛ لأن قوله:(وَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إِلَى الآنَ) يستلزم نفي الاحتيال والإبراء وغير ذلك، وربما زاد الموثقون وغيرهم في فصول هذه المسألة: لم يسقط عليه من

ص: 453

الدين شيء، وعم هذه الزيادة بعضهم لضعف توجه دعوة الهبة على أحد القولين، وكذلك عم الإبراء الذي ذكره المصنف، وظاهر كلام المصنف أنه لا بد من حلف الطالب، وقد ذكر المازري فيها قولين للعلماء:

أحدهما: أن يمين الطالب واجبة على القاضي لا يصح الحكم إلا معها؛ لأن القاضي يبرم القضية ويقول في حكمه: أوجبت على الغائب هذا الحق.

وثانيهما: أنه استظهار واحتياط، وعليه فإن لم يحلف الطالب ووصل وكيله إلى المطلوب فادعى أنه قضاه الحق فإنها مسألة فيها إشكال، ووقف فيها حذاف العلماء، وعندنا فيها قولان:

أحدهما: أنه لا يلزم المحكوم عليه بتسلم الحق حتى يستحلف له الطالب للحق، فيعود وكيله إليه حتى يتم الحكم باستحلافه من الطالب.

وقيل: بل يلزم بدفع الحق وينصرف هو يطلب يمين الغائب، لأن هذا إن لم يفعل وقفت الأحكام على الغائب، ولم يعجزه أحد عن إيقافها بهذه الدعوى.

المازري: وهذا إنما يتصور إذا أثبت الحق على الغائب مستحقه، وأما ل وأثبته وكيل المستحق فإنه لا يطلب بهذه اليمين ويرجى الأمر فيها إلى أن يدعيها الغائب إذا ورد الحكم عليه، وأما الميت والصبي والمجنون فإنهم لا يقضى عليهم بالديون إلا بعد استحلاف الطالب؛ لكون الميت يستحيل منه قضاء الدين، وكذلك الصبي والمجنون ما دام الصبي في حال الطفولة، والمجنون في حال جنونه. انتهى.

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ غَائِباً عَنِ الْبَلَدِ أَوْ مُتَوَارِياً أَوْ مُتَعَذِّراً.

الإشارة بذلك إلى إنفاذ القضاء على الغائب ولم يحد مقدار الغيبة.

ص: 454

المازري: وهي مصروفة إلى الاجتهاد، ولم يرد الشرع بحد معلوم، ووقع لسحنون الإعذار إلى من بصقلية، ووقع في رواية أخرى أن الغائب يحكم عليه قربت غيبته أو بعدت، إلا أن تقترب جداً.

وقوله: (أَوْ مُتَوَارِياً) أي: مستخفياً.

قال في البيان: إن تغيب بعد استيفاء حجته فراراً من القضاء عليه فإنه يقضي عليه ويعجزه كما لو حضر ولا حجة له، إلا على القول بأن المحكوم عليه إذا أتى بحجة لها وجه بعد الحكم أنها تسمع، وإن تغيب قبل استيفاء حجته تلوم له، فإن لم يخرج قضى عليه من غير قطع حجته.

وذكر ابن شعبان أنه إذا توارى وأثبت الطالب حقه حكم عليه إن كان له مال ظاهر، وإن لم يكن له مال ظاهر وثبت أنه في منزله فمنهم من يرى أنه يختم على بابه ويبعث رسولاً ثقة ومعه شاهدين؛ ينادي بحضرتهما ثلاثة أيام، كل يوم ثلاث مرات: "يا فلان ابن فلان القاضي فلان يأمرك بحضور مجلس الحكم مع خصمك، وإلا نصب لك وكيلاً فإذا نصب له وكيلاً وسمع البينة قضى عليه إلى أن يقدر على استخراج المال منه. ومنهم من يرى أن يهجم عليه. ومنهم من يرى أن يرسل عدلين ومعهما جماعة من الخدم والنسوان والأعوان فيكون الأعوان بالباب وحول الدار، ثم يدخل النسوان، ثم الخدم بغتة ويعزلن خدم المطلوب في بيت ويفتش المنزل.

وقوله: (أَوْ مُتَعَذِّراً) بالذال المعجمة؛ يعني: كتمسكه بجاه ونحوه وفي بعض النسخ: (متعززاً) بزائين، والمعنى قريب.

ص: 455

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ لَهُ بِالْبَلَدِ مَالُ أَوْ حَمِيلُ أَوْ وَكِيلُ، وَإلا نُقِلَتِ الشَّهَادَةُ

يعني: أن ابن عبد الحكم قال: إنما يحكم على الغائب بشرط أن يكون له ببلد الحكم مال أو حميل أو وكيل؛ يريد: لأنه إذا لم يكن ببلد الحكم أحد هذه الأشياء صار القاضي حاكماً على من ليس في ولايته؛ فلذلك قال: وإلا تنقل الشهادة مع عدم هذه الأشياء لقاضي بلد المدعى عليه.

واختلف إذا كانت الدعوى في بلد والمدعى عليه في غيرها؛ فقال عبد الملك: الخصومة والقضاء حيث يكون المدعي، وأقامه فضل من المدونة. وقال مطرف: حيث يكون المدعى عليه.

مطرف: وبه الحكم في المدينة، وبه حكم ابن بشير بالأندلس، قاله أصبغ وسحنون.

ابن عبد السلام: واشتراط حضور الوكيل لا تظهر له كبير فائدة؛ لأنه إن كان للمدعى عليه عند الوكيل مال فالمال وحده كاف، وإن لم يكن له عنده مال فلا معنى لنزاعه معه، اللهم إلا أن يكون الوكيل مفوضاً إليه يلزم الموكل إقراره عليه، فحينئذ تظهر لذلك فائدة.

وَيُجْلَبُ الْخَصْمُ مَعَ مُدَّعِيهِ بِخَاتَمٍ أَوْ رَسُولٍ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَسَافَةِ الْعَدْوَى، فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجْلِبْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدُ فَيُكْتَبُ إِلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَحْضُرَ أَوْ يَرْضَى ..

لما تكلم على الحكم الغائب، تكلم على حاضر وما في معناه فذكر أنه يجلب مع خصمه بخاتم أو رسول إذا كان على مسافة يعدى عليه [663/ أ] فيها، ولم يحددها.

ابن عبد الحكم وابن حبيب: والقريب مثل أن يأتي ثم يرجع ويبيت في منزله والطريق مأمونة، وحدد الباجي القرب في سجلاته بثلاثة أميال.

الجوهري: والعدوى: طلبك إلى والٍ ليعديك على من ظلمك؛ أي: ينتقم منه، يقال: استعديت على فلان الأمير فأعداني عليه، أي: استعنت به عليه فأعانني. والاسم منه العدوى وهي: المعونة.

ص: 456

وقوله: (فَإِنْ زَادَ لَمْ يَجْلِبْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدُ .. إلخ) أي: شاهد بالحق، هكذا هو منصوص لابن عبد الحكم، وفي وثائق ابن هشام: لا يجلب من البعد خصماً ولا شاهداً.

سحنون في العتبية: والبعد ستون ميلاً.

وَلا يَلْزَمُ مَنْ يُزْرِي بِهَا حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَنْ تَحْضُرَ لِتَحْلِفَ وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ، وَيَبْعَثُ الْحَاكِمُ مَنْ يُحَلِّفُهَا، فَإِنْ كَانَ فِيمَا لَهُ بَالُ فَفِي الْمَسْجِدِ لَيْلاً ..

الأصل أن النساء كالرجال، إلا أنه لما كان شأنهن الستر وفي تركه امتهان لهن لم يكلفن بالإتيان إلى مسجد الحاكم، ويبعث الحاكم من يحلفها، ولا مقال للخصم؛ لأن الذي له- إحلافها لا امتهانها.

وقوله: (وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ) نحوه في الجواهر، وفيه نظر، ويتم ما قالا إلا إذا كانت تحلف في مجلس الحكم، وأما إن كانت تحلف بغيره فلا يزم من الإزراء بها في حضور مجلس الحكم الإزراء بها في حضور الجامع، ثم هو خلاف ظاهر المدونة؛ لأن فيها: وتخرج المرأة فيما له بال من الحقوق فتحلف في المسجد، فإن كانت ممن لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً، وتحلف في اليسير في بيتها.

وأم الولد مثل الحرة، بخلاف المدبرة والمكاتبة؛ اللهم إلا أن يحمل قول المصنف:(وَلَوْ كَانَتْ تَتَصَرَّفُ) على أنها تتصرف ليلاً.

وفي الطراز عن المشاور: كل من تخرج من النساء بالنهار إلى خصام أو نزه أو مقابر وشبه ذلك تحلف بالنهار وإن خرجن مستترات، وأما التي لا تحلف بالنهار ممن تختمر فلا تخرج في النهار في شيء، وقريب منه ذكره ابن عبد السلام فقال: الذي مشى عليه العمل ربط هذا الحكم؛ فمن تخرج نهاراً في حوائجها تحلف في الجامع نهاراً، ومن لا تخرج نهاراً تحلف في بيتها أو في الجامع ليلاً، وهكذا قال بعض الأندلسيين.

ص: 457

قوله: (وَيَبْعَثُ الْحَاكِمُ مَنْ يُحَلِّفُهَا) نص في المدونة على أنه يكتفي بالواحد، وهذا النعت إنما هو فيما لا بال له، فإن كان له بال ففي المسجد ليلاً.

المازري: والمشهور أن المال الذي له بال ربع دينار.

وقال ابن المواز: بل أكثر منه مما له بال.

ابن محرز: وهو أشبه بظاهر الكتاب.

وَإِذَا مَسَّتْ يَتِيماً حَاجَةُ وَلَهُ رِبَاعُ فِي وِلايَةٍ أُخْرَى كَتَبَ بِحَاجَتِهِ، وَقُضِيَ بِبَيْعِ أَقَلَّهَا رَدَّاً عَلَيْهِ وَتَنْفِيذِ ثَمَنِهِ ..

يعني: إذا كان يتيم في ولاية قاض، وله رباع في ولاية قاض آخر، فإن قاضي بلده يكتب بحاله وحاجته، ويطلب منه أن يبيع من رباعه أقلها رداً عليه- والرد هو المنفعة- وينفذ الثمن إلى القاضي الكاتب، فتنفيذه مخفوض معطوف على بيع، وقد تقدم في الحجر الوجوه التي يباع فيها عقار اليتيم.

فروع:

الأول: إذا كانت المرأة خارجة عن ولاية القاضي لم يجز له إنكاحها إلا إذا دخلت في محل ولايته، نقله في الجواهر.

الثاني: للقاضي النظر في جميع الأشياء إلا في قبض الخراج. ويختص القاضي أو موليه بأمور عشرة؛ التقديم على الأيتام، والنظر في الأوصياء وأموال الغائب من القسمة عليه وغيرها، والأحباس المعقبة، والطلاق، والتحجير، والإثبات، والتسجيل، والدماء، والحدود، والأنساب.

الثالث: إذا قام عن الغائب محتسب في شيء تعدى فيه على الغائب أو أخذ له أو في عيب أحدث عليه في داره أو أرضه فهل يمكن القاضي هذا القائم من مخاصمة ذلك المتعدي أو لا؟ خمسة أقوال:

ص: 458

أولها: أنه لا يمكن من ذلك إلا الأب والابن ومن له قرابة قريبة، ثم إذا مكنه من المخاصمة فلا يخرج الملك من يد حائزه، ولا يزيل العيب الذي أحدث؛ لاحتمال أن يقر به الغائب أو يقر بأنه أعلم بما حدث، وإنما يشهد بذلك خوفاً من موت الشهود ثم ينظر الغائب، ولو أقر من بيده العقار أو غيره أنه للغائب أخرجه عنه وجعله بيد ثقة، ويقطع العيب إن اعترف بإحداثه.

ثانيها: أنه يمكن من ذلك القريب والأجنبي، قاله ابن القاسم أيضاً، وذهب سحنون إلى أن القاضي يوكل من ينوب عن الغائب، وهو أحد قولي ابن الماجشون وقاله أصبغ.

وثالثها: أنه يمكن من إقامة البينة ولا يمكن من الخصومة.

ورابعها: أنه لا يمكن من إقامة البينة ولا من الخصومة إلا بتوكيل الغائب، قاله ابن الماجشون ومطرف في الواضحة.

وخامسها: أن القريب والأجنبي يمكن من الخصومة في العبد والدابة والثوب دون توكيل؛ لأن هذه الأشياء تفوت وتحول وتغيب، ولا يمكن من الخصومة في غير ذلك إلا الأب والابن، حكاه ابن حبيب عن مطرف.

وعلى القول بالتمكين فهل ذلك في القريب والبعيد، أو في القريب خاصة؟ قولان: قال سحنون: في القريب الغيبة دون بعيدها.

وقيل: في البعيد، وهو الظاهر من رواية أشهب وقول ابن الماجشون.

ص: 459

الشَّهَادَةُ وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُسْلِماً بَالِغاً عَاقِلاً عَدْلاً مُسْتَعْمِلاً لِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ، وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِسُوءِ نَظَرِهِ فِي الْمَالِ لا لِجُرْحَةٍ خِلافُ

أي: وشرط قبولها؛ لأن تحملها يكون بدونه.

واحترز بالحر من الرقيق القن ومن فيه شائبة من شوائب العتق؛ [633/ ب] لأن الشهادة مرتبة شريفة فسلب العبد أهليتها لنقصه عن المناصب الشريفة جرياً على ما ألف من محاسن العادات، وعلل بعضهم المنع بأن الرق أثر كفر فمنع كأصله.

واحترز بالمسلم من الكافر لقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ)[البقرة: 282] والكافر ليس بمرض، والإجماع على عدم قبول شهادتهم على المسلمين، وكذلك شهادة بعضهم على بعض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة في قبوله شهادة الكفار بعضهم على بعض، وخلافاً للشعبي وقتادة في قولهما: تقبل شهادة كل كافر على من شاركه في كفره.

وبالبالغ من الصبي؛ لاحتمال كذبه؛ لعلمه بعدم التكليف.

وبالعاقل من المجنون، وبالعدل من الفاسق.

وباستعماله مروءة مثله ممن ليس كذلك، وسيأتي تفسيرها، ولم يجعل المصنف المروءة داخله في العدالة تبعاً للمازري وابن محرز وغيرهما، وجعلها عياض داخلة فيها، والأمر في ذلك قريب.

وقوله: (وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُوَلَّى عَلَيْهِ لِسُوءِ نَظَرِهِ فِي الْمَالِ) القول بإجازة شهادته لمالك من رواية أشهب وابن عبد الحكم.

وقال أشهب: لا تجوز؛ لأن المحجور عليه مخدوع، والمخدوع لا تجوز شهادته، وإن كان مثله لو طالب بماله أخذه. محمد: وهو أحب إلي.

ص: 460

قال في البيان: وهو الذي يأتي على المشهور المعلوم من المذهب من قول مالك وأصحابه أن المولى عليه لا تنفذ أقواله.

ابن عبد السلام: وهو ظاهر كتاب الشهادات من المدونة.

وَالْعَدَالَةُ: الْمُحَافَظَةُ الدِّينِيَّةُ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَذِبِ وَالْكَبَائِرِ، وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةُ؛ فَإِنَّهَا فِسْقُ ..

تعرض لتفسير العدالة ولم يتعرض لما قبلها لوضوحها، واحترز بالمحافظة الدينية من المحافظة على ما ذكره المصنف؛ لتحصيل منصب دنيوي ونحوه، كما هو الموجود في كثير من أهل زماننا.

والمراد بـ (الدِّينِيَّةُ) أن يكون الحامل على هذه الأوصاف الأمر الديني كخوف الله تعالى وطلب ثوابه، وانظر لو كان فعل الإنسان هذه الأوصاف بجبلته، والأقرب أنه لا يقدح، وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أشج عبد القيس بخصلتين جبله الله عليهما، وهما: الحلم والأناة.

واحترز بالديني من الدنيوي كالرياء وطلب المنزلة.

ابن عبد السلام: وعطف الكبائر على الكذب وإن كان منها لكونه أهم ما يطلب في الشهادة، وغاير بين الصغائر والكبائر على مذهب الأكثرين خلافاً لمن عدها كلها كبائر، وظاهر الأدلة الشرعية مع الأكثرين، ولكن اضطربوا في الطرق التي بها تمتاز إحداهما عن الأخرى فمنهم من عدها.

قال المصنف في أصوله: وقد اضطرب في الكبائر فروى ابن عمر رضي الله عنهما: "الشرك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، والزنى، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد في الحرام" وزاد أبو هريرة رضي الله عنه:

ص: 461

"أكل الربا" وزاد علي رضي الله عنه: "السرقة وشرب الخمر" ومنهم من سلك طريقة الحصر بالضوابط، ففي الإكمال عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كل ما نهي عنه فهو كبيرة. وسئل: أهي سبع؟ فقال: إلى السبعين أقرب، ويروى إلى سبعمائة أقرب. وقال أيضاً:"الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب" ونحوه عن الحسن، وقيل: هي ما أوعد الله عليه بنار أو بحد في الدنيا، وقال ابن مسعود وجماعة رضي الله عنهم: هي جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)[النساء: 31] وقيل: ما عظمت مفسدته فهو كبيرة وما لم تعظم فهو صغيرة، وقيل: كل ما أسقط العدالة فهو كبيرة. وفيه نظر؛ لأنه يؤدي إلى الدور؛ إذ سقوط الشهادة فرع عن كونها كبيرة، ثم إن العدالة قد تسقط بصغائر الخسة، وقال ابن عبد السلام: قال الشافعي: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهو من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليها فهو من الكبائر. وعد من الكبائر شتم الرب والرسول، والاستهانة بالرسل، أو تكذيب واحد منهم، وتلطيخ الكعبة بالعذرة، وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة.

ابن دقيق العيد: وهذا الذي قاله عندي داخل فيما نص الشرع عليه بالكفر، قال: ولابد مع هذا من أمرين:

أحدهما: أن المفسدة لا توجد مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل، فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه ألا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن تلك المفسدة، ومع ذلك فإنها كبيرة؛ لما اقترن بها من مفسدة التجرؤ على شرب الكثير الموقع في تلك المفسدة، فبسبب هذا الاقتران تصير كبيرة.

ص: 462

الأمر الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الصغائر مساوياً لبعض الكبائر وزائداً عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلماً معصوماً لمن يقتله فهو كبيرة وأعظم مفسدة من أكل الربا وأكل مال اليتيم مع كونهما منصوصاً عليهما في الكبائر، وكذلك لو دل على [664/ أ] عورة من عورات المسلمني تفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف، وفراره من الزحف منصوص على أنه كبيرة.

خليل: وهذا الثاني مندرج في كلام ابن عبد السلام؛ فتأمله.

وظاهر قوله: (وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ) العموم، لكنه سيخصصه بقوله:(وَلا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ).

وقيد المصنف في أصوله الصغائر بصغائر الخسة، وكذلك قال الأبهري: إن العدل: المتوقي لأكثر الصغائر.

قوله: (وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ) وهو مندرج في الكبائر باعتبار ضده، وهو الخيانة؛ لأن الشارع قد نص عليها فكان الأولى تركها، وأجاب ابن عبد السلام: بأن الكبائر من قبيل ما هو مطلوب الترك، وأداء الأمانة من قبيل ما هو مطلوب الفعل؛ فلا يدخل أحدهما تحت الآخر، ورد بأن الكبائر تعم الأفعال والترك، ولو كانت خاصة بمطلوب الترك لزمه أن يذكر جميع الأفعال التي يكون تركها كبيرة كالصلاة والزكاة ونحوهما.

قوله: (وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ) ابن عبد السلام: هو شرط في العدالة؛ لأن الإنصاف من نفسه في ما عليها والاقتصار على مالها من لوازمه.

والضمير في قوله: (لَيْسَ مَعَهَا بِدْعَةُ) عائد على العدالة. انتهى.

ص: 463

ويحتمل عوده على المحافظة واحترز بذلك مما لو كان حافظاً لدينه لكن يصحبه مع ذلك بدعة من الاعتزال ونحو ذلك، وعلل ذلك بأن البدعة فسق، ومن يقول بالتكفير فالمنع على قوله واضح.

ابن شعبان: ولا تقبل شهادة المبتدع وإن لم يدع إلى بدعته، وزاد الأبهري في شروط الشاهد: أن يكون متوسط الحال بين البغض والمحبة.

ابن محرز: يريد: لأن الفرض في المحبة يقوي تهمة من شهد له كالآباء والأزواج، والفرض في البغض كالعدو والخصم يقوي تهمته، وترك المصنف هذا اكتفاءً بما سيذكره في الموانع.

وَلا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ وَلا تَاوِيلٍ كَالْقَدَرِيِّ وَالْخَارِجِيِّ

لما ذكر أن البدعة تمنع من قبول الشهادة بين هنا أنه لا فرق في البدعة بين أن يكون صاحبها متعمداً أو جاهلاً أو متأولاً، ومثل الجاهل والمتأول بالقدري والخارجي ويحتمل أن يكون القدري مثالاً للجاهل؛ لأن أكثر شبههم عقلية والخطأ فيها يسمى جهلاً، والخارجي مثالاً للمتأول؛ لأن شبههم سمعية فالخطأ فيها يسمى تأويلاً، ويحتمل أن يريد بالجاهل المقلد من الفريقين، والمتأول: المجتهد منهما.

وَلا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ

هكذا في الجواهر لأنه قال: قال علماؤنا: وليست العدالة أن يمحض الرجل الطاعة حتى لا تشوبها معصية، وذلك متعذر لا يقدر عليه إلا الأولياء والصديقون، ولكن من كانت الطاعة أكثر حاله وأغلبها عليه وهو مجتنب للكبائر محافظ على ترك الصغائر فهو العدل. وهذا الكلام مخصص لقوله أولاً:(وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ) وعلى هذا فالمراد: لا يشترط انتفاء جميع الصغائر، وإلا فالكبائر لابد من اجتنابها كلها، ويدل على ذلك قوله:(فَإِنَّهُ مُتَعَذِّرُ) لأن تجنب الكبائر لا يتعذر.

ص: 464

وَلَكِنْ رُبَّ مَعْصِيَةٍ لا يُحَافِظُ مُرْتَكِبُهَا عَلَى دِينِهِ عَادَةً

لما ذكر أنه لا يشترط انتفاء جميع المعاصي خشي أن يتوهم أن ارتكاب أي معصية من الصغائر لا ينافي العدالة؛ فاستدرك ذلك بأن بعض المعاصي وإن كانت صغيرة يشترط انتفاؤها لوصف اقترن بها يدل على أن مرتكبها لا يبالي بدينه.

المصنف في أصوله: كصغائر الخسة، كسرقة لقمة والتطفيف بحبة.

فروع:

الأول: اختلف في شهادة القارئ بالألحان. الباجي: وأحب إلي ألا تجوز.

الثاني: الباجي: البخيل الذي ذمه الله ورسوله هو الذي لا يؤدي زكاة ماله، فمن أدى زكاة ماله فليس ببخيل ولا ترد شهادته.

وقال بعض أصحابنا: شهادة البخيل مردودة وإن كان مرضي الحال يؤدي زكاة ماله؛ لأنه ساقط المروءة. انتهى.

الثالث: من ترك واجباً كالصلاة والصوم حتى خرج وقته سقطت شهادته، وهذا ما كان من العبادة على الفور، وأما ما كان على التراخي فلا تبطل شهادته إلا أن يترك ذلك المدة الطويلة التي يغلب على الظن تهاونه بها مع تمكنه من أدائها، فقد قال سحنون فيمن كان صحيح البدن متصل الوفر منذ بلغ عشرين سنة إلى أن يبلغ ستين فلا شهادة له وإن كان من أهل الأندلس؛ يريد: إن ترك الحج.

وأما ترك المندوب فما كان منه يتكرر ويتاكد كالوتر وركعتي الفجر وتحية المسجد وما قد واظب عليه الناس فإن كان ذلك مرة أو مراراً لعذر أو لغير عذر فلا تسقط عدالته، وأما من أقسم ألا يفعله أو تركه جملة فإن ذلك يسقط شهادته، قاله الباجي.

ص: 465

المازري: واختلف المذهب عندنا في التجريح بترك صلاة الجمعة؛ فقيل: لا يجرح به؛ لأن الأعذار القاطعة قد تخفى على الناس فتوكل إلى أمانة الناس، إلا أن يتحقق أنه تركها لغير عذر. وقيل: بل يجرح؛ لأن الظاهر أن تركها معصية، والأعذار نادرة حتى تثبت، ثم حكى الخلاف على هذا القول هل يجرح بالمرة أو لابد من ثلاث؟ انتهى.

وعزى الباجي القول بالمرة لأصبغ، ووجهه القياس على سائر الفرائض، قال: وهو ظاهر رواية عيسى عن ابن القاسم. والقول بأن العدالة لا تسقط إلا بتركها ثلاثاً لسحنون ورواه مطرف عن مالك، قال: وأما إن تركها جملة فعدالته ساقطة.

وَفِيهَا: لَوْ ثَبَتَ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ شَرَبَةُ خَمْرٍ أَوْ أَكَلَةُ رِباً أَوْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، أَوْ أَصْحَابُ قِيَانٍ، أَوْ مُجَّانُ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطَرَنْجِ فَذَلِكَ يُسْقِطُهُ وَمَا يُشْبِهُهُ.

هكذا وقع في [664/ ب] التهذيب في باب السرقة، إلا الكذب ففي باب الشهادة: والشربة: جمع شارب، وكذلك الأكلة، وفي معنى الشرب هنا بيع الخمر وعصرها، ولا يشترط أكله الربا، بل يكفي بيعه به وشراءه.

(أَوْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ فِي غَيْرِ شَيْءٍ) الظاهر أن قوله: (مَعْرُوفُونَ) يغني عن قوله: (فِي غَيْرِ شَيْءٍ) ولهذا لم يذكر في المدونة إلا قوله: (فِي غَيْرِ شَيْءٍ) ومقتضى كلامهم أنه لا يجرح بالكذبة الواحدة، وهو الذي في الرسالة لقوله:"أو مجرب في كذب".

فإن قلت: ينبغي أن تكفي الكذبة الواحدة؛ لأن الكذب كبيرة فلا تشترط الكثرة قياساً على الشرب وغيره. قيل: لعل الفرق أن التحرز منه عسير إلا على من وفقه الله، والله أعلم.

والقينة- عند الفقهاء-: الأمة المغنية، وصرح الجوهري بأنها الأمة مطلقاً، سواء كان مغنية أم لا، قال: وبعض الناس ظنها المغنية خاصة وليس كذلك.

ص: 466

ثم الغناء إن كان بغير آلة فهو مكروه عندنا، نقله المازري وغيره، وإذا كان مكروهاً فلا يقدح في الشهادة بالمرة الواحدة بل لابد من تكراره، وكذلك نص عليه ابن عبد الحكم؛ لأنه حينئذ يكون قادحاً في المروءة، وفي المدونة: ترد شهادة المغني والمغنية، والنائح والنائحة إذا عرفوا بذلك.

المازري: وأما الغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع، وكذلك المزمار، والظاهر عند بعض العلماء أن ذلك ملحق بالمحرمات، وإن كان محمد أطلق في سماع العود أنه مكروه، وقد يريد بذلك التحريم، ونص ابن عبد الحكم على أن سماع العود ترد به الشهادة إلا أن يكون ذلك في عرس أو صنيع وليس معه شراء يسكر فإنه لا يمنع من قبول الشهادة، قال: وإن كان ذلك مكروهاً على كل حال. وقد يريد بالكراهة التحريم كما قدمنا.

وقوله: (أَوْ مُجَّانُ) جمع ماجن. الجوهري: والمجون ألا يبالي الإنسان ما صنع، وقد مجن بالفتح يمجن مجوناً ومجانة فهو ماجن، والجمع مجان.

وقوله: (مُجَّانُ يَلْعَبُونَ بِالنَّرْدِ) أحسن منه ما في المدونة: أو مجان، أو أنهم يلعبون بالنرد؛ لأن مجرد المجانة قادحة، وفي مسلم أنه عليه السلام قال:"من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه".

ابن عبد السلام: وأما الشطرنج فقد جاءت فيه أحاديث غير صحيحة تتضمن ذمه، وقد اختلف العلماء في إباحته ابتداءً إذا كان لعبه من غير قمار؛ فمذهب مالك أنه ممنوع فتارة يعبر عن ذلك بالكراهة، وتارة يقول: هو شر من النرد، وهو نص على التحريم. انتهى.

خليل: وقد يقال: في هذا نظر؛ لأن ما ذكره عن مالك من قوله: "هي ألهي من النرد" هو له في المدونة، مع أنه نص فيها على أنه لا يجرح إلا بالإدمان، ولو كان حراماً ما اشترط الإدمان، ولعل مالكاً إنما قال:"هي ألهى" لأنها تفتقر إلى حساب وفكرة بخلاف النرد، لا أنها مثلها في الحرمة.

ص: 467

وفي الجواهر النص على الكراهة في الشطرنج، وفي إجرائه على ظاهره أو التحريم خلاف، ثم قال: وقيل: الإدمان عليه حرام؛ وقيل: إن لعبت على وجه يقدح في المروءة كالمحترم يلعبها على الطريق ومع الأطراف والأوباش فلا يحل ذلك، وإن لعبت في الخلوة مع الأمثال والنظراء من غير إدمان ولا في حالة تلهي فيه عن العبادات والمهمات الدينية والدنيوية فهي مباحة، وعلى هذا فلا شك أن النرد أشد من الشطرنج؛ لعدم الاختلاف فيه. هذا هو الذي يؤخذ من كلام الأصحاب، وقال المازري: حكم النرد في ظاهر المذهب كحكم الشطرنج، قال: وهو المعروف، وأشار محمد بن عبد الحكم إلى مخالفة حكمهما فقال: إن الشطرنج لا يوجب رد الشهادة إلا إذا ترك اللاعب بها الصلاة في الجماعة، وأما النرد فإنه لا يلعب به في زماننا إلا أهل السفه وتاركوا المروءة. انتهى.

قوله: (وَمَا يُشْبِهُهُ) أي: من سائر اللعب المؤذن بترك المروءة.

وَيُشْتَرَطُ الإِدْمَانُ فِي التَّجْرِيحِ بِالشِّطْرَنْجِ عَلَى الأَصَحِّ

اشتراط الإدمان لمالك في أول شهادات المدونة، وذلك للخلاف في إباحتها ابتداء فقد روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يلعبون بها، وذكر الشافعي أن سعيد بن جبير كان يلعب بها استظهاراً؛ أي: من غير نظر فيه وإنما يأمر غيره بما يفعل، ولم يقيد اللعب به في المدونة في كتاب السرقة والرجم بالإدمان، واختلف هل هو خلاف لما في الشهادات أو هو مقيد به؟

فعلى الخلاف يكون القولان في المدونة، ونقل ابن يونس وغيره مقابل الأًح عن بعضهم أنه لا تجوز شهادته، وإن لم يكن مدمناً، وقال ابن عبد الحكم: لا ترد به الشهادة إلا أن يكثر اللعب بها حتى يشغله عن الصلاة في الجماعة.

ص: 468

فرع:

إذا اشترطنا الإدمان ففسره أحمد بن نصر بأن يلعب بها في السنة مرة. نقله صاحب النكت، وقال بعض الأصحاب: أن يلعب بها في السنة مرتين.

وَالْمُرُوءَةُ: الارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ يُرَى أَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهِ لا يُحَافِظُ مَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَاماً كَالإِدْمَانِ عَلَى لَعِبِ الْحَمَامِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَكَالْحِرْفَةِ الدَّنِيَّةِ مِنْ دِبَاغَةٍ وَحِجَامَةٍ وَحِيَاكَةٍ اخْتِيَاراً مِمَّنْ لا يَلْيقُ بِهِ، فَأَمَّا أَهْلُهَا أَوْ مَنِ اضْطُرَّ فَلا يُقْدَحُ ..

ابن محرز: ولسنا نريد بالمروءة نظافة الثوب وفراهة الركوب وجودة الآلة وحسن الشارة، ولكن المراد بها التصون والسمت والحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم تكن في نفسه جرحة، كالإدمان على لعب الحمام والشطرنج وإن لم يقامر عليها. انتهى.

وفي آخر كتاب الرجم: ولا تجوز شهادة لاعب الحمام إذا كان يقامر عليها.

واختلف الشيوخ هل يقيد ما قاله في غير هذا الموضوع بهذا القيد؛ أي: [665/ أ] المقامرة، أو هو خلاف.

أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: "شيطان يتبع شيطانة".

وما ذكره المصنف في الحرف نحوه في الجواهر، وألحق بعض أهل المذهب وغيرهم بمن اضطر إلى هذه الحرف من قصد باستعمال هذه الصنائع كسر نفسه ومباعدتها عن الكبر، وتخليقها بأخلاق الفضلاء كما قد اشتهر ذلك عن جماعة.

ص: 469

تنبيه:

ذكر المصنف أن الدباغة والحجامة والحياكة ممن لا تليق به تقدح في المروءة، وهذه لا يقال: إن صاحبها لا يحافظ معها على دينه؛ فانظره، وإليه أشار ابن راشد.

وَلا يُقْبَلُ عَبْدُ وَلا كَافِرُ مُطْلَقاً

قد تقدم هذا.

وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُمَيِّزِ مِنَ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: هِيَ السُّنَّةُ، وَمَا أَدْرَكْتُ الْقُضَاةَ إِلا وَهُمْ يَحْكُمُونَ بِهَا ..

هذا كالتقييد لقوله أولاً: (بالغاً) ولما كان قبول شهادتهم على خلاف الأصل ذكر دليله وهو إجماع أهل المدينة، ومن جهة المعنى أنهم يندبون إلى تعليمهم الرمي والثقاف والصراع ليدربهم على حمل السلاح والكر والفر، والغالب أن الكبار لا يحضرون معه فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى إلى إهدار دمائهم غالباً.

قوله: (فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً) ومراده بالدماء: القتل والجراح، وهذا هو المشهور، وقال ابن عبد الحكم: لا تقبل فيها على الأصل وقال أشهب: تقبل في الجراح دون القتل؛ لعظم أمره.

وفي قوله: (إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) نظر؛ لأن صاحب الاستذكار نقل عن القاسم وسالم أنهما لم يجيزاها. وستأتي شروط قبول شهادتهم.

بِخِلافِ النِّسَاءِ فِي الْمَآتِمِ وَالأَعْرَاسِ عَلَى الأَصَحِّ

أي: فلا تقبل، والأصح لمالك، ومقابله في الجلاب عن بعض الأصحاب، واعتبرها بشهادة الصبيان بعضهم على بعض، وألحق بالأعراس الحمام. والفرق للمشهور أن

ص: 470

الصبيان مندوبون إلى الاجتماع بخلاف النساء؛ لأن شهادة الصبيان على خلاف الأصل فلا يصح قياس عليها.

و (الْمَآتِمِ) بالتاء المثناة، الزبيدي: هو الجماعة من النساء والرجال في حزن.

الجوهري: وهو عند العرب: النساء يجتمعن في الخير والشر، والجمع المآتم، وعند العامة: المصيبة.

وَاشْتُرِطَ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَاراً مَحْكُوماً بِإِسْلامِهِمُ، اثْنَيْنِ فَصَاعِداً، مُتَّفِقَيْنِ غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ، قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ، إِلا أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ

لما ذكر أن شهادة الصبيان مقبولة في الدماء شرع في شروطها:

الأول: أن يكونوا أحراراً فلا تقبل شهادة العبيد.

أشهب: ولا من فيه بقية رق؛ لأنه إذا لم تجز شهادة كبارهم فأحرى صغارهم، وهذا هو المعروف، وحكى عبد الوهاب في شرح الرسالة عن بعض متأخري أصحابنا أن شهادة العبيد الصغار جائزة.

الثاني: أن يكونوا محكوماً بإسلامهم، قال في البيان: لا أعلم فيه خلافاً.

الثالث: أن يشهد منهم اثنان فصاعداً قياساً على الكبار، ولا تجوز شهادة الواحد عند مالك وابن القاسم، ولا تكون معه قسامة، ولذلك قال المغيرة: لا يحلف معه في الجراح، وقال ابن نافع في كتاب ابن مزين: يقسم بشهادة الصبي الواحد في العمد، وقال ابن الماجشون في المبسوط: يحلف ولي الصبي في الجراح مع شهادة الصبي الواحد، قال في البيان: وقيل: يحلف الصبي المشهود له إذا بلغ مع شهادة الصبي.

الرابع: أن تكون شهادتهم متفقة.

ص: 471

وقوله: (مُتَّفِقَيْنِ) مثنى لاثنين؛ لأنهما إذا اختلفا لم يحصل النصاب، ويحتلم أن يكون جمعاً لكنه يكون الاختلاف مقيداً بما تبطل بمثله شهادة الكبار، كما لو شهد اثنان منهم أن فلاناً شج فلاناً، وقال آخران: بل شجه فلان، فقال مالك: تبطل شهادتهم.

الباجي: ولو اختلفوا اختلافاً يقتضي في الكبار الأخذ بشهادة أحدهما لم تبطل، وقال ابن الماجشون: لو شهد صبيان أن صبياً قتل صبياً وشهد آخران أنه لم يقتله وإنما أصابته دابة قضى بشهادة من شهد بالقتل، وقال بعض القرويين: بل هو اختلاف يوجب سقوط شهادتهم.

وروى ابن وهب عن مالك في ستة صبيان لعبوا في البحر فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنهما أغرقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم أغرقوه- أن العقل على الخمسة؛ لأن شهادتهم مختلفة، وقال مطرف وابن المواز: لا تجوز لاختلافهم.

وقوله: (غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ) نعت تأكيدي لمتفقين.

الشرط الخامس: أن تكون شهادتهم قبل تفرقهم؛ لأن تفرقهم مظنة تخبيبهم وتعليمهم؛ فلا تقبل إلا أن يشهد العدول على شهادتهم قبل تفرقهم.

وَفِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورِيَّةِ قَوْلانِ

الشرط السادس: الذكورية، وهي شرط عند مالك في المدونة، وهو المشهور، وبه قال ابن القاسم في شهادات المدونة، وبه قال ابن الماجشون وأشهب وسحنون، وأجاز المغيرة شهادتهن.

أبو عمران: يعني في الجراح والقتل، وقال ابن محرز: الأظهر أنه يجيزها في الجراح فقط، وعلى القبول فروى معن بن عيسى ومطرف عن مالك اشتراط ذكر معهن، فقال: يقبل غلام وجاريتان، وقال ابن الماجشون: لا يجوز غلام وجارية، ولا جوارٍ وإن كثرن.

ابن رشد وغيره: عن ابن الماجشون أنه تجوز شهادة الصبيات وحدهن دون صبي.

التونسي: وهو ظاهر أحد قولي ابن القاسم.

ص: 472

وَفِي قَبُولِهَا فِي الْقَتْلِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ

قد تقدما على القبول، فقال غير واحد من أصحاب مالك: لا تجوز حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولاً.

وَلا يَقْدَحُ [665/ ب] رُجُوعُهُمْ وَلا تَجْرِيحُهُمْ

يعني: لا يقدح رجوعهم عما شهدوا به ولو كان قبل الحكم كما يقدح ذلك في شهادة الكبار؛ لأن الظاهر أن ما شهدوا به أولاً هو الواقع وأن الثاني من التعليم، أما لو تأخر الحكم بشهادتهم حتى بلغوا وعدلوا ثم رجعوا فإن رجوعهم يقبل، قاله في الموازية، قال: ولو شكوا بعد بلوغهم لم يضر حتى يوقنوا أنهم قد شهدوا بالباطل.

وأما تجريحهم فقال ابن المواز: لم يختلف أنه لا ينظر إلى ذلك؛ أي: لأن رأس أوصاف العدالة قد عدم منهم؛ وهو البلوغ.

وَفِي قَدْحِ الْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ قَوْلانِ

الشرط السابع: وهو مختلف فيه، وهو أن لا يكون الشاهد قريباً للمشهود له، ولا عدواً للمشهود عليه، والقول بالقدح بالقرابة لابن القاسم.

ابن المواز: وعلى قوله فلا يجوز مع العداوة، ونقل ابن يونس القبول فيهما عن ابن المواز، ولعبد الملك المنع بالقرابة فقط؛ فإن القرابة توجب المخالطة والمحاماة من سن الصغر. وأما العداوة فلا يظهر سببها للصغير، واختار جماعة قول ابن القاسم؛ لأنا علمنا بالعادة من حال الأطفال الميل إلى القريب والبغض للعدو.

ص: 473

وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى كَبِيرٍ لِصَغِيرٍ وَلا عَلَى عَكْسِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: أَمَّا عَلَى صَغِيرٍ بِقَتْلِهِ فَتَجُوزُ.

الشرط الثامن: أن تكون شهادة بعضهم على بعض؛ فلا تجوز شهادتهم لصغير على كبير ولا بالعكس؛ لاحتمال التعليم من الكبير، وقال مطرف وابن الماجشون: شهادتهم جائزة لصغير على كبير وبالعكس، والأول أظهر، وقول محمد بن المواز له وجه؛ لأن معناه أن شهادتهم مقبولة على صغير أنه قتل كبيراً؛ لأن بموت الكبير يؤمن تعليمه بخلاف العكس فإنهم متهمون بالدفع عن أنفسهم، وقول المصنف في قول محمد بقتله احترازاً مما لو جرحه فإنه لا تقبل عنده، ولهذا زاد في قول محمد: لأنه لم يبق حتى يعلمهم، قال بعضهم: يريد: قتل قصاص. والقصاص: الموت مكانه، ذكره الجوهري.

وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ حُضُورِ كَبِيرٍ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ

الشرط التاسع: أن لا يحضر معهم كبير، ولم يخالف في ذلك إلا سحنون في أحد قوليه.

فَإِنْ كَانَ فَاسِقاً أَوْ كَافِراً أَوْ عَبْداً فَقَوْلانِ

إذا كان الكبير الحاضر ممن لا تجوز شهادته كالكافر والفاسق والعبد فقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا يضر حضورهم شهادة الصبيان.

المازري: ولا خلاف منصوص فيه عندنا، وقاله سحنون في كتاب ابنه ثم توقف.

فالقول بعدم الإجازة على هذا ليس بمنصوص، إلا أنه لازم في التعليل بالتخبيب، ثم التخبيب في حق هؤلاء أشد، والأول مبني على أن عدم قبول شهادة الصبيان مع حضور الكبير إنما هي لأجل ارتفاع الضرورة بشهادة الكبير، والله أعلم.

وبقي عليه من الشروط: أن يكون الشهود والمشهود عليهم في جماعة واحدة.

ص: 474

المازري: المعروف من المذهب أنه لا تقبل شهادة صغار على صغار لم يكن الشهود في جملتهم، وانفرد ابن مزين فقبل ذلك في المارين بهم، وأن يكون الصغار ممن يعقل الشهادة؛ لأن الشهادة من شروطها الضبط، إلا أن يقال: استغنى المصنف عن هذا الأخير بقوله أولاً: (المميز).

فرع:

اللخمي: واختلف إذا شهد صبيان أن هذا الصبي قتل صبياً وشهد عدلان أنه لم يقتله هل يؤخذ بقول الصبيين لأنهما أثبتا حكماً، أو بقول الرجلين وهو الأحسن؟

وَيَعْتَمِدُ الْحَاكِمُ عَلَى عِلْمِهِ فِي التَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ اتِّفَاقاً

ذكر المازري أنه لا خلاف فيه، وعلى هذا فالمسألة مجمع عليها لا تحتاج إلى دليل، وفرق بينه وبين غيره بأن العدالة وضدها يشارك القاضي فيها غيره فلا تقع تهمة، بخلاف العلم بإقرار رجل وإنكاره فإنه لو لم يحكم بعلمه في عدالة من شهد عنده لافتقر إلى عدلين آخرين وهكذا فيتسلسل، ولا يقال: إن ذلك ينقطع بأن يكون العدلان ظاهري العدالة؛ لأنا نقول: اتفاق مثل هذا نادر، فلو توقفت الأحكام على مثله لكانت تضيع.

سحنون: ولو شهد عندي عدلان مشهوران بالعدالة وأنا أعلم خلاف ما شهدا به لم يجز لي أن أحكم بشهادتهما، ولم يجز لي ردها لظاهر عدالتهما، ولكن أرفع ذلك للأمير الذي هو فوقي، وأشهد بما علمت، وغيري بما علم فيرى فيه رأيه. قال: ولو شهد عندي رجلان ليسا بعدلين على أمر أعلم أنه حق فلا أقضي بشهادتهما؛ لأني أقول في كتاب حكمي بعد أن صحت عندي عدالتهما: وإنما صحت عندي جرحتهما. ومثله لابن كنانة وابن الماجشون.

ص: 475

وَكَذَلِكَ الْمَشْهُورُ الْعَدَالَةُ وَالْجُرْحَةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الاسْتِزْكَاءُ مَهْمَا شَكَّ

الاستزكاء: طلب التزكية، وحاصله إنما يطلب الحاكم التزكية إذا شك في أمره، وأما إن علم عدالته وجرحته فإنه يعمل على ذلك، وهكذا قال في المدونة والعتبية وغيرهما. وشهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة أو عاملها فقال: أما الاسم فعدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم. قال في النوادر: وأعجب ذلك مشايخنا.

وقوله: (وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الاسْتِزْكَاءُ) أي: على القاضي، وإذا وجب هذا على القاضي فلا يجوز له أن يقبل المسلم المجهول الحال، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه.

وأجاز [666/ أ] ابن حبيب قبول شهادة الغرباء على التوسم فيهم، وأجاز بعض المتأخرين مثل ذلك في أهل البلد في اليسير من الحقوق، واختار ابن عبد البر وجماعة من العلماء قبول رواية طلبة العلم، وجعل الأصل فيهم العدالة حتى يظهر خلافه؛ لقوله عليه السلام:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" أي: ويقبل الكافر بإثر إسلامه على ظاهر المذهب؛ لأنه محيت عنه الآثام، وتوقف ابن القصار في قبولهما حتى يظهر من حاله ما يوجب قبولها.

ابن عبد السلام: ورأيت في بعض التعاليق مما ينسب لأبي عمران أنه ينظر إلى صفات هذا الشاهد قبل إسلامه، فإن كانت لم ينقص منها إلا وصف الإسلام قبلت، وإن كانت على غير هذا أو جهل أمره توقف القاضي عنها.

وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِالْعَدَالَةِ حُكِمَ عَلَيْهِ خَاصَّةً

يعني: إذا أقر المشهود عليه بأن الذي شهد عليه عدل فإن الحاكم يحكم عليه لإقراره بعدالته، وحكى في الكافي عن أصبغ أنه لا يحكم عليه إلا بالتزكية ولو رضي الخصم بعدالته.

ص: 476

ابن عبد السلام: وينبغي أن يتأول ما ذكره المصنف على أن الخصم أقر بعدالة الشاهد بعد أدائه الشهادة، وأما لو أقر قبل أدائها ففي لزومها له نظر؛ فقد قالوا إذا قال أحد الخصمين:"كل ما شهد به علي فلان حق" فشهد عليه أنه لا يلزمه ما شهد به؛ لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بحق. انتهى.

وفرق بينهما بأنه إذا أقر بعدالته أقر بأمر متقدم بعلمه منه، بخلاف من التزم ما شهد به؛ لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بالحق.

وقوله: (خَاصَّةً) أي: ولا يحكم بها على غيره. ظاهره: ولو تضمنت شهادته هذه حقاً على المشهود له، وفيه نظر؛ لأن ابن لبابة قال في منتخبه: الذي نعرفه من فتيا من أدركنا من الشيوخ أن المشهود له يلزمه ما شهد له به وعليه شاهده إذا كان لا يصل إلى حقه إلا بشهادته.

قالوا: ويقال له: إن قلت: "صدق الشاهد" فيلزمك ما شهد به، وإن قلت:"كذب في بعض" فقد جرحته" فلا تعطى بشهادته شيئاً.

ابن الماجشون: في اليهودي يشهد المسلمون أنه رضي بشهادة اليهودي فيحكم عليه حكامهم ثم يرجع عن الرضا بهم فذلك له.

ابن القاسم: ولو رضي المسلمون بشهادة المسخوطين فيما بينهم لزم، وليس لمن رضي بذلك الرجوع عنه كما لو رضيا بغير شهادة، ولو رفعا ذلك إلى حاكم لم يحكم بينهما بشهادتهما.

وفي المتيطية: روي عن مالك في الرجل يشهد لابنه بحق فيدفع المشهود عليه الحق بشهادته بغير حكم، وفي الرجل يقوم له شاهد واحد فيدفع المشهود عليه الحق بشهادته خاصة، وفي الرجل يطلق امرأته- يريد: طلاقاً بائناً- فتدعي عليه حملاً غير ظاهر فينفق عليها ثم ينفش الحمل: إن ذلك كله أصله واحد لا رجوع لواحد منهم، ولو شاءوا لتثبتوا.

ص: 477

وَلا يُقْبَلُ فِي التَّعْدِيلِ إِلا الْفَطِنُ الَّذِي لا يُخْدَعُ، قَالَ سحنون: وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ، وَلا يُقْبَلُ إِلا الْعَارِفُ بِوَجْهِ التَّعْدِيلِ وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَتَهُ بِطُولِ الْمِحْنَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ لا بِالتَّسَامُعِ، وَقَالَ سحنون: فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، قَالَ مَالِكُ: وَإِذَا صَحِبَهُ شَهْراً فَلَمْ يَعْلَمْ إِلا خَيْراً فَلا يُزَكِّيهِ بِهَذَا ..

هذا كالمتفق عليه، ووجهه أن التصنع كثير؛ فلذلك لا يقبل في التعديل كل من شهد، بل من يطلع على عور الناس، وكذلك لا يقبل أيضاً إلا بطول المعاشرة، قال سحنون: تقبل تزكية كل من يعرف باطنه كما يعرف ظاهره ممن صحبه طويلاً وعامله في السفر والحضر، وعلى هذا ففي نقل المصنف لقوله نقص.

ابن كنانة وسحنون: ومن عدل رجلاً لم يعرف اسمه فليقبل تعديله.

مالك: ويجب على من عرف عدالة شخص أن يزكيه؛ لأنه من جملة الحقوق، إلا أن يجد غيره فهو في سعة، ورخص في ذلك ابن نافع؛ لأن العدالة لا يقطع بها بخلاف سائر الحقوق.

ويجب التجريح إذا خاف إن سكت أن يحق بشهادة المجروح باطلاً أو يفوت حقاً.

وَلا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ سُوقِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ إِذَا كَانَ فِيهِمْ عُدُولُ

لأن ترك أهل محلته وسوقه ريبة، قاله مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، لكنهم قيدوه بما إذا كان غير مشهور العدالة، قالوا إلا أن يكون معدلوه أهل برازة في العدالة والفضل، وإن لم يكن فيها عدول فأقرب البلدان إليهم.

وَفِي الْمُدَوَّنةِ: وَلا يُقْبَلُ فِي الْبَلَدِيِّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِخِلافِ الْغَرِيبِ

هذه مسألة كتاب اللقطة، ومعناها أنه إذا شهد عند القاضي ولا يعرفه وطلب تعديله فعدله قوم لم يعرفهم القاضي ولكن وجد من يعدلهم ممن يعرفهم القاضي بالعدالة فالشاهد الأول إن كان من أهل البلد فشهادته ساقطة؛ لأن جهل أهل بلده بحاله ومعرفة

ص: 478

غيرهم به ريبة، والريبة هنا أشد من المسألة السابقة، وإن كان الشاهد الأول غريباً، فإن ذلك جائز لعدم الريبة، وألحق بعضهم بالغريب النساء في هذا.

وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَزَأَ بِتَعْدِيلِ الْعَلانِيَةِ بِخِلافِ السِّرِّ

يعني: أنه يستحب في التعديل الجمع في ذلك بين السر والعلانية، وهكذا صرح الباجي وغيره بأن الأفضل الجمع بينهما، وإن اقتصر على العلانية جاز، وهذا مذهب [666/ ب] المدونة، وقال ابن الماجشون: لا يقبل التعديل في العلانية فقط.

اللخمي: وهو أحسن؛ لأن الناس يتقون أن يذكروا في العلانية ما يعلمونه من السر خيفة العداوة.

وقوله: (بِخِلافِ السِّرِّ) أي: فإنه يجوز الاكتفاء به، ولا خلاف فيه.

قال في الاستذكار: وأول من سأل سراً ابن شبرمة قال: كان الرجل إذا قيل له: هات من يزكيك فيأت القوم فيستحيون منه فيزكونه، فلما رأيت ذلك سألت في السر، فإذا صحت شهادتهم قلت: هات من يزكيك في العلانية.

قَالَ مَالِكُ: وَلا أُحِبُّ أَنْ يَسَأَلَ فِي السِّرِّ أَقَلَّ مِنِ اثْنَيْنِ؛ فَلا بَاسَ أَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَحْدَهُ.

يعني: أن مالكاً استحب في تزكية السر اثنين، مع أنه أجاز الواحد، وهذا لأن أصل المذهب أن كل ما ابتدأ القاضي فيه بالسؤال اكتفي فيه بالواحد. وفي النوادر: وكل ما يبتدئ القاضي السؤال عنه والكشف من الأمور فله أن يقبل فيه قول الواحد، وما لم يبتدئ به هو وإنما يبتدئ به في ظاهر أو باطن فلابد من شاهدين فيه.

وحكى الباجي عن سحنون أنه قال: لا يقبل في السر إلا اثنان.

ص: 479

ابن رشد: حمل الباجي القولين على الخلاف، وهو أظهر، وذهب غيره إلى أنه ليس بخلاف، وأنه لا خلاف أن الشاهد الواحد يجزأ في تعديل السر، وإن كان الاختيار اثنين. وسكت المصنف عن تزكية العلانية لأنها على الأصل في أنها لا يقبل فيها إلا اثنان.

وحكى ابن بطال في أحكامه عن ابن لبابة أن التزكية لا تكون بأقل من ثلاثة، وظاهر المذهب أن شهود الزنى كغيرهم، وهو قول ابن الماجشون ومطرف أنه لا يكفي تزكية شهود الزنى إلا أربعة، وكذلك المشهور قبول التزكية مطلقاً. وقال أحمد بن عبد الملك: لا تكون عدالته في الدماء.

ابن زرقون: ولم يصحب هذا القول عمل. وحكى في المتيطية قولاً بقبول تزكية النساء فيما تجوز فيه شهادتهن.

مطرف وابن الماجشون: وينبغي للحاكم أن يستكثر من المعدلين، ولا يكتفي باثنين إلا في مثل الثابتين في العدالة والعلم بالتعديل.

وَيَسْمَعُ التَّجْرِيحَ فِي الْمُتَوَسِّطِ الْعَدَالَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَيَسْمَعُ فِي الْمُبَرِّزِ الْقَدْحَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْقَرَابَةِ وَشِبْهِهِ، وَفِي قَبُولِ تَجْرِيحِهِ فِي الْعَدَالَةِ ثَلاثَةُ لِمُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانُوا مِثْلَهُ أَوْ أَعْدَلَ قُبِلَ ..

يعني: أن القاضي إذا رفعت إليه بينة وزكيت أو قبلها لعلمه بعدالتها فلا يحكم على الخصم إلا بعد الإعذار إليه على ما استمر عليه العمل، ويجب الإعذار في البينة وفيمن زكاها، صرح بذلك ابن القاسم الموثق وصاحب المعين وغيرهما.

فإذا أعذر للخصم فأما المتوسط فتسمع فيه المطاعن كلها من تجريح وعداوة وقرابة. وقول المصنف في التجريح يحتمل أن يكون اقتصر على التجريح لأن العداوة والقرابة أولى، ويحتمل أن يكون أطلق الجرح على ما هو أعم.

ص: 480

وأما المبرز فتسمع فيه القوادح ما عدا التجريح على المعروف، وروي عن مالك أنه لا يباح تجريح المبرز بعداوة وقرابة ولا غيرهما، واستبعدها ابن رشد. وظاهر كلام المصنف أنه يسمع في المبرز القدح بالعداوة والقرابة ممن هو مثله ودونه، وبذلك صرح في البيان. وحكى المصنف في قبول تجريحه ثلاثة أقوال، وقد علمت من قاعدته أن الثالث يدل على الأولين، وأن الأول من الأقوال للأول من القائلين؛ فالقبول لمطرف، وعدمه لأصبغ، والتفصيل لابن عبد الحكم: إن كان المجرحون مثل الشاهد أو أعدل قبل، وإن كانوا دونه لم يقبل، واختار اللخمي وابن عبد السلام قول مطرف، كما لو شهد عليه بموجب حد وغير ذلك، وبقول مطرف قال ابن الماجشون.

أحمد بن محمد: ويجرح في العداوة من هو دون الشهود في العدالة ومن يزكي ولا يقبل بفسقه.

أحمد بن سعيد: ولا بأس أن يجرح في العداوة والخصومة من لا تقبل شهادته إلا بتعديل، وكذلك أيضاً ذكر صاحب الوثائق المجموعة وغيره، ولم أر ما يخالف ذلك.

خليل: وينبغي أن يقيد تجريح من يزكي بأن يكون من يجرح ليست عدالته بينة، فإن بعض الشيوخ أشار إلى أنه يتفق على أنه لا يقبل تجريح من يزكي البين العدالة؛ لأن الحاكم لما نصبه للعدالة كان الاعتماد على قوله أولى.

عياض: والمبرز بكسر الراء المشددة؛ أي: ظاهر العدالة سابقاً غيره متقدماً فيها، وأصله من تبريز الخيل في السبق، وتقدم سابقها، وهو المبرز لظهوره وبروزه أمامها.

فرع:

ما ذكرناه من الإعذار هو المعمول به، وصفة ذلك أن يقول:"شهد عليك فلان، فإن كان عندك مدفع ادفع عن نفسك" ويعلمه أن له التجريح إن كان يجهل ذلك، قيل: وهذا الخلاف فيه.

ص: 481

واختلف هل يقول له: دونك والجرح؛ فقال مالك: لا يقوله له، وفي ذلك توهين للشهادة. وقال ابن نافع: إذا عدل الشاهد فيقول القاضي للمطلوب: دونك والجرح وإلا حكمت عليك، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن كنانة. وقال أشهب: يقول له ذلك إن قبل الشهود بالتزكية، [667/ أ] ولا يقوله في المبرز. وقال ابن القاسم: يقول له ذلك إذا كان ممن لا يدري ذلك كالمرأة والضعيف.

ابن راشد: والأول أصوب.

ابن عبد السلام: وظاهر المدونة إن طلب ذلك الخصم مكنه وإن لم يطلبه، فإن لم يظن به جهلاً أو ضعفاً دعاه إليه وإلا فلا.

وَيُؤَجِّلُ الْخَصْمَ لِلتَّجْرِيحِ ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ

يعني: فإن ادعى المدعى عليه أن عنده تجريحاً أجله في إثباته، ولم يذكر المصنف مقدار الأجل، وهو الأصل؛ لأنه ينبغي أن يوسع لمن لا يعلم منه اللدد، ويضيق على من علم منه ذلك، لكن جرى العمل على أحد عشر يوماً، فمن القضاة من يجمعها، ومنهم من يؤجله ثمانية أيام ثم يرفعه، فإن طلب الزيادة أجله ثلاثة.

ابن راشد: وعلى التفرقة جرى العمل.

وَقِيلَ لابن القاسم: أَيُجْرَحُ الشَّاهِدُ سِرَّاً؟ قَالَ: نَعَمْ

هو ظاهر؛ لما يحصل في الإظهار من العداوة.

وَلَوْ سَأَلَ ذُو الْحَقِّ عَنِ الْمُجَرِّحِ فَعَلَى الْحَاكِمِ إِخْبَارُهُ

لأنه قد يكون بين المجرح وصاحب الحق عداوة، أو بينه وبين المشهود عليه قرابة. واختلف إذا كان صاحب الحق ممن يتقى شره هل يعلم بالمجرح أم لا؟ حكى المتيطي وغيره في ذلك قولين، وقد تقدم عن ابن بشير أنه عمل بالقول بعد الإخبار.

ص: 482

ابن عبد السلام: وإنما يلزم عندي الإخبار إذا كان التجريح من بينة، وأما إن كان المعول في القدح على أن القاضي سأل الشاهد عن ذلك سراً فحصل عنده ما يقدح في شهادته فلا يلزمه أن يخبر بذلك الحق؛ إذ لا إعذار في ذلك على أظهر القولين.

وَيَكْفِي فِي التَّعْدِيلِ: "أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلُ رِضاً" وَقِيلَ: أَوْ أَعْلَمُهُ أَو أَعْرِفُهُ، وَقِيلَ: أَوْ أَرَاهُ عَدْلاً رِضاً

ويكفي: "هو عدل رضا" هو اختيار مالك وأصحابه؛ لأن العدالة تشعر بسلامة الدين، والرضا يشعر بالسلامة من البله والغفلة. واختار الشافعي أن يقول:"عدل جائز الشهادة أرضاه لي وعلي". وليس ذلك بتزكية عندنا. قاله عبد الوهاب؛ لأنه قد يرضى بغير العدل وبالمتهم لغرض له فيه ولا يرضى بالعدل، وقولنا موافق للقرآن لقوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)[الطلاق: 2] وقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ)[البقرة: 282] وظاهر كلام المصنف أنه لا يكفي أحد اللفظين، وهو الذي صرح به في الجلاب، قال في الكافي: وهو تحصيل مذهب مالك، وقال ابن زرقون: المعلوم من المذهب خلافه، وأنه لو اقتصر على أحد اللفظين من العدالة والرضا أجزأ، وهو معلوم لمالك وسحنون وغيرهما، واختار اللخمي التفصيل: فإن قال إحدى الكلمتين ولم يسأل عن الأخرى فهو تعديل؛ لأن العدل من رضي للشهادة، والرضا عدل، وقد ورد القرآن بقبول شهادة من وصف بإحدى الكلمتين، ولو سأل عن الأخرى فوقف كان ذلك ريبة في تعديله ويسأل عن السبب في وقوفه فقد يذكر وجهاً لا يقدح في العدالة، أو وجهاً يريب فتقف عنه.

وقوله: (وَقِيلَ: أَوْ أَعْلَمُهُ أَو أَعْرِفُهُ) يعني: أن القول الأول يشترط أن يقول: "أشهد" وهو القول: يكفي عنده أشهد، أو أعلمه عدلاً رضاً، أو أعرفه" وهو لمالك من

ص: 483

رواية ابن كنانة، وزاد بعد:"عدل رضا""جائز الشهادة" ولا يقبل منه: "لا أعلمه إلا عدلاً رضاً".

وقوله: (وَقِيلَ: أَوْ أَرَاهُ) ابن عبد السلام: لمطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ أنه يجزيه عندي: "عدل رضا" وليس عليه أن يقول: "هو عند الله رضاً" ولا أن يقول: "أرضاه علي ولي". ورواه أشبه عن مالك رحمه الله، والأقرب أن مراد المصنف بهذا القول ما لمالك في المجموعة قال: إذا قال المزكي: "لا أعلم إلا خيراً" ليس هذا بتزكية حتى يقول: "أعلمه وأراه عدلاً" لأن قول المصنف: (أَوْ أَرَاهُ) يقتضي أن هذا القائل يوافق على: "أعلمه أو أعرفه" ولم يقع في قول مطرف أعلمه ولا أعرفه. فإن قيل: لم يقع أيضاً في المجموعة "أعرفه" قيل: هي في معنى أعلمه، والله أعلم.

وَلا يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ التَّعْدِيلِ

لأن التعديل إنما يكون بعد الصحبة الطويلة واختبار الأفعال الكثيرة وذكر ذلك يطول، وقد تعسر العبارة دونه فيسقط لما فيه من المشقة ولهذا لم يختلف فيه كما اختلف في ذكر سبب الجرح؛ لأن الجرح يكفي فيه الشيء الواحد.

وَفِي سَبَبِ الْجَرْحِ ثَالِثُهَا لِمُطَرِّفٍ: إِنْ كَانَ عَالِماً بِوَجْهِهِ لَمْ يَجِبْ، وَرَابِعُهَا لأَشْهَبَ: إِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَرِّزٍ لَمْ يَجِبْ ..

تصور الأقوال لا يخفى عليك، والأقرب أنه لابد من ذكر سببه؛ لاختلاف العلماء في أسبابه مع غموض بعضها، وقد جرح أقوام من المحدثين ونسبوا إلى أشياءٍ هم منها براء، واستفسر من جرحهم فذكر ما لا يصلح؛ لأن بعضهم قال: رأيته يبيع ولا يرجح في الميزان، وقال آخر: رأيته يغتاب بحضرته ولا ينكر، وقال بعضهم: رأيته يبول قائماً، فقيل: وإذا بال قائماً، قال: يتطاير عليه بوله، فقيل له: فهل رأيته صلى بعد ذلك؟ قال: لا؛ فظهر غلطه في التجريح لما كوشف عن سببه.

ص: 484

والتفت أشهب إلى حال المجرح بفتح الراء؛ فإن كان غير مبرز لم يجب على من جرحه ذكر السبب، وإن كان مبرزاً وجب. وذكر اللخمي وابن شاس وغيرهما هذه الأربعة. وذكر المازري في شرح [667/ ب] البرهان في الأصول له أن الخلاف إنما يحسن إذا وقع ذلك من عالم بالجرح والتعديل، قال: ولا يحسن أن يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقاً من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل، وعلى هذا فلا يبقى في المسألة إلا ثلاثة أقوال.

وَلَوْ شَهِدَ فَزُكِّيَ ثُمَّ شَهِدَ فَثَالِثُهَا: إِنْ لَمْ يُغْمَزْ فِيهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَحْتَجْ، وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَ الْمُزَكَّي مُبَرِّزاً لَمْ يَحْتَجْ ..

يعني: أن الشاهد إذ زكي ثم شهد مرة أخرى، فروى أشهب أن شهادته تقبل بالتزكية الأولى، وقال سحنون: لا تقبل، ويكلف التزكية كلما شهد حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته.

قال في البيان: وهو إغراق في الاستحسان، قال: لأنه قد لا يعرفه غير الذين عدلوه أولاً وقد ماتوا أو غابوا؛ فيبطل حقاً وقد شهد به من قد زكي وثبتت عدالته.

والثالث لمالك في الواضحة من رواية مطرف وابن الماجشون: أنه لا يحتاج إلى تعديل آخر إلا أن يغمز فيه بشيء أو يرتاب منه.

والرابع لابن كنانة: إن زكاه من هو مشهور بالعدالة في تزكية لم يحتج إلى إعادة التزكية، هكذا نقل ابن راشد هذا القول، وعليه فيضبط المزكي في القول الرابعمن كلام المصنف بالكسر اسم فاعل، وضبطه بعض من تكلم على هذا الموضع بالفتح على أنه اسم مفعول، وهو مقتضى نقل الباجي لأنه قال: وقال ابن كنانة: المشهور بالعدالة يجزئ فيه التعديل الأول حتى يجرح بأمرين، والذي ليس بمعروف يتوقف فيه على تعديل ثان.

ص: 485

والضبط الأول أظهر؛ لأن المبرز إنما يقال لمن هو ثابت العدالة.

ولابن القاسم في العتبية: إن كانت الشهادة قريبة من الأولى ولم تطل جداً لم يكلف تزكية، وإن طال فيكشف عنه ثانية، طلب ذلك المشهود عليه أم لا، والسنة طول.

ولأشهب في المجموعة: إن شهد بعد خمس سنين ونحوها سئل عنه العدل الأول، فإن مات عدل مرة أخرى، وإلا لم يقبل.

وَإِذَا عُدِّلَ وَجُرِّحَ فَفِي تَقْدِيمِ الْجَرْحِ أَوِ التَّنَافِي قَوْلانِ

القول بتقديم الجرح لابن نافع وسحنون. قال في البيان: وهو دليل ما في السرقة من المدونة ورواية عيسى عن ابن القاسم.

قوله: (أَوِ التَّنَافِي) وهو القول الثانيز

ابن عبد السلام: فلا يريد بالتنافي سقوط الشهادتين معاً؛ لأن هذا تغليب للجرح؛ لأنه إذا سقطت الشهادتان يبقى كالمجهول، وإنما مراده أن يصار إلى الترجيح بزيادة العدالة أو زيادة العدد عند من جرح به، ولهذا كان ما وقع في بعض النسخ عوض التنافي (وَالأَرْجَحُ أَحْسَنُ).

ولمطرف وابن وهب أن بينة التعديل أولى؛ لأنها شهدت بفضل؛ فهي أولى من القول بالشر، واختار ابن رشد وغيره تقديم الجرح؛ لأنها علمت ما لم يعلم المعدلون، وقيد الخلاف بما إذا قال المعدلون:"هو جائز الشهادة" وقال المجرحون: "هو غير جائزها".

ولمطرف وابن وهب أن بينة التعديل أولى؛ لأنها شهدت بفضل؛ فهي أولى من القول بالشر، واختار ابن رشد وغيره تقديم الجرح؛ لأنها علمت ما لم يعلم المعدلون، وقيد الخلاف بما إذا قال المعدلون:"هو جائز الشهادة" وقال المجرحون: "هو غير جائزها". وأما إن فسر المجرحون الجرحة فلا خلاف في تقديمهم.

وأشار المازري إلى أنه ينبغي أن يتفق على التجريح إذا اجتمعت البينتان على إثبات شيء وضده كقول المجرحين: "رأيناه عاكفاً ليلة كذا على شرب الخمر" ويقول المعدلون: "شاهدناه تلك الليلة عاكفاً على الصلاة" فيقطع بكذب إحداهما.

ص: 486

ابن عبد السلام: والمسألة عامة فيما إذا تساوى عدد المعدلين والمجرحين أو اختلفا، وإن كان القاضي الباقلاني حكى الإجماع إذا تساوى عدد المعدلين والمجرحين، أو كان عدد المجرحين أكثر على تقديم شهادة المجرحين، وقصر الخلاف على ما إذا كان المعدلون أكثر، وأنكر هذا غيره، والصحيح في النقل ما قدمناه انتهى.

فرع:

إذا اتفق شاهدان على تجريح شاهد، لكن اختلفا في سببه كما لو شهد أحدهما بخيانته وآخر بزناه، فاختلف قول سحنون في تلفيقها، وبالتلفيق قال ابن عبد الحكم.

الْمَوَانِعُ: الأَوَّلُ: التَّغَفُّلُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: قَدْ يَكُونُ الْخَيِّرُ الْفَاضِلُ ضَعِيفاً عَقْلُهُ لِغَفْلَتِهِ فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: إِلا فِيمَا لا يَكَادُ يُلَبَّسُ فِيهِ ..

قول ابن عبد الحكم ظاهر، ومثال ما لا يلبس فيه أن يقول:"رأيت هذا قبل هذا، أو سمعت هذا قال لزوجته: أنت طالق" بخلاف ما كثر من الكلام وأبطل بعضه ببعض، ولهذا يعتمد أكثر أهل الزمان في تزكيتهم الشاهد في قضية ثم لا يزكونه في أخرى، ولم يذكر المازري وابن شاس هذا على أنه خلاف بل ساقاه على أنه تقييد، وهو كذلك إن شاء الله تعالى خلاف ما قاله المصنف.

الثَّانِي: أَنْ يَجُرَّ بِهَا أَوْ يَدْفَعَ كَمَنْ شَهِدَ عَلَى مَوْرُوثِهِ الْمُحْصِنِ بِالزِّنَى أَوْ قَتْلِ الْعَمْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيراً، أَوَ كَمَنْ شَهِدَ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَ عَبْداً يُتَّهَمُ فِي وَلائِهِ، وَكَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ جَرَحَ مَوْرُوثَهُ، وَكَوَصِيَّ شَهِدَ بِدَيْنِ لِلْمَيِّتِ، وَكَمُنْفَقٍ عَلَيْهِ شَهِدَ لِمُنْفِقٍ، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلانِ ..

المانع الثاني: أن يجر بشهادته نفعاً لنفسه أو يدفع عنها ضرراً، وذكر للجر أمثلة.

أولها: أن يشهد على موروثه المحصن بالزنى أو بقتل العمد؛ لأنه يتهم أن يكون قصد قتله ليرثه.

ص: 487

وقوله: (مَوْرُوثِهِ) أعم من أن يكون أباً أو غيره. وقيد الموروث بالإحصان وبأن لا يكون فقيراً احترازاً من البكر [668/ أ] ومن الفقير؛ لعدم التهمة فيهما.

وهكذا قال أشهب في أربعة أولاد عدول شهدوا على أبيهم بالزنى وهو فقير: أنه يرجم، وحمله ابن رشد على أنهم ممن يعذر بجهل في شهادتهم بالزنى على أبيهم، أو أنهم دعوا إلى شهادة عليه كأن يقذفه رجل بالزنى فيسأل شهادتهم ليسقط عنه حد القذف، وأما إن جهلوا ولم يدعوا فذلك عقوق منهم؛ لأنهم مأمورون بالستر فلا تجوز شهادتهم، ونقل أبو محمد عن ابن اللباد قولاً آخر أنها لا تجوز وإن كان الأب فقيراً؛ لأنهم يتهمون بإسقاط نفقته اللازمة لهم، وهذا لا يكون إلا في الأب وإنما يتم إذا كان الأب عاجزاً عن التكسب، وأما إن كان قادراً عليه ويتكسب فلا، وقال ابن لبابة: شهادتهم عليه بما يوجب قتله جائزة ملياً كان أو معدماً، قال: ولا يتهم العدول بالميراث ولا بطرح النفقة.

ابن رشد: وله وجه في المبرز.

المثال الثاني: أن يشهد أن موروثه أعتق عبداً فلا تجوز شهادته؛ لأنه يتهم في قصد ولايته وشرط في المدونة أن يكون هذا ممن يرغب في ولائه، وأن يكون في الورثة من لا حق له في الولاء كالبنات والزوجات، وأن تكون التهمة حاصلة الآن بأن يكون لو مات حينئذ ورثه، وأما إن كان الولاء قد يرجع إليهما يوماً ما فتجوز، ولو لم يتهم الولدان في ولائه لدناءتهم جازت شهادتهما، والتهمة في هذه المسألة ضعيفة؛ لأن هذه الشهادة إنما يجوز الابنان بها المنفعة بتقدير أن يموت العبد قبلهما، وقد يموت عن غير بال.

المثال الثالث: أن يشهد رجل أن رجلاً جرح ابن عم الشاهد أو غيره ممن يرثه الشاهد لو مات؛ لأنه إذا مات يقسم هذا الشاهد ويستحق الدية، أما لو شهد له بجرح خطأ وقد برأ الجرح، فيعود إلى الشهادة بالمال وهي جائزة ما لم تقرب القرابة بينهما كما سيأتي.

ص: 488

المثال الرابع: إذا شهد الوصي بدين للميت لم تجز شهادته؛ لأنه يجر بذلك النظر في المال، وهذا بشرط أن يكونوا صغاراً. قال في المدونة: وإن كانوا كباراً يلون أنفسهم فتجوز شهادته؛ لأنهم يقبضون لأنفسهم.

المثال الخامس: أن يشهد المنفق عليه للمنفق، وهذا المثال هو أول مسألة من شهادات المدونة، والتهمة فيها للشاهد قوية؛ لأنه يخشى من تركه الشهادة أن يقطع عنه النفقة.

قوله: (وَفِي عَكْسِهِ قَوْلانِ) أي: عكس الخامس، وهي شهادة الشاهد لمن في نفقته؛ أجازها ابن حبيب، ومنعها بعض القرويين إذا كان من قرابة الشاهد كالأخ ونحوه؛ لأن تركه للنفقة عليه إذا كان فقيراً معرة، فيتهم أن يشهد له ليقطع عنه النفقة.

ابن يونس: وهو استحسان. وعلى هذا فالخلاف مخصوص بالقريب، ولا يعم الأجنبي، وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، وكذلك اختلف في شهادة الوصي على الطفل الذي في ولايته، فالمشهور جوازها، وفي الجلاب قولاً آخر بعدم الجواز؛ لأنه يتهم أن يكون كارهاً في النظر لمحجوره فيضيع ماله.

فَلَوْ شَهِدَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فِي وَصِيَّةِ فَإِنْ كَانَ مَا لَهُ كَثِيراً لَمْ يُقْبَلْ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ يَسِيراً فَثَالِثُهَا: يُقْبَلُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ ..

احترز بالوصية من أن يشهد لنفسه ولغيره في غير وصية فلا تصح له ولا لغيره على المشهور؛ لأن الشهادة إذا بطل بعضها للتهمة بطل جميعها، وأجازها في الموازية في غير الوصية أيضاً إذا كان ما شهد به له يسيراً جداً، والفرق بينهما على المشهور أن الموصي قد يخشى معالجة الموت ولا يحضره إلا الموصى له فيضطر إلى إشهاده بخلاف غيرها، والمشهور مقيد بما إذا كان الجميع في ذكر حق على ما قاله الشيوخ، ولو كانت في حقين لجازت للأجنبي، وكذلك لو أدى الشهادة لفظاً؛ إذ لا يقدح ذكر ما له عليه وإدخاله ذلك في شهادته بما شهد به لغيره إذا لم يكن حقاً واحداً.

ص: 489

وقوله: (فَإِنْ كَانَ مَا لَهُ كَثِيراً) أي: في الوصية، و (مَا) موصولة، وما قاله من عدم القبول إذا كان الذي له في الوصية كثيراً هو المشهور، وفي الجلاب رواية أخرى بالجواز لغيره فقط، وأما إن كان نصيبه يسيراً فحكى المصنف ثلاثة أقوال:

الأول: يقبل له ولغيره، وهو قول ابن القاسم في المدونة، ورواه مطرف عن مالك.

الأبهري: وهو استحسان، فإن لم يكن في الوصية شاهد غيره حلف الموصى له مع شهادته ويأخذ هو ما له فيها بغير يمين؛ لأنه يسير في حكم التبع.

والقول الثاني: عدم القبول له ولغيره، رواه ابن وهب عن مالك، وعلله الأبهري بأنه جار لنفسه، قال: وهو القياس.

والثالث: يقبل لغيره ولا يقبل له، وهو أيضاً لمالك، وبه قال ابن الماجشون.

وعليه فإن لم يكن إلا شاهد حلف الموصى له واستحق، وإن كانا شاهدين كل منهما شهد له ولغيره أخذ الموصى له بغير يمين، وحلف كل واحد منهما واستحق مع شهادة صاحبه.

[668/ ب] وحكى في المقدمات رابعاً: أن شهادته تجوز له ولغيره إن كان معه شاهد غيره فتثبت الوصية بشهادتهما ويأخذ ما له فيها بغير يمين، وإن لم يكن معه غيره فتجوز لغيره ولا تجوز له، ويحلف الغير مع شهادته.

وفي المدونة: عن يحيى بن سعيد: إن كان معه غيره جازت له ولغيره، وإلا جازت لغيره فقط.

سحنون: يريد: إذا كان معه غيره أخذ ما شهد به لنفسه بلا يمين إذا كان تافهاً، كما لو شهد رجلان في وصية أوصى لهما فيها بتافه- أخذاه بغير يمين.

ص: 490

وقال بعض القرويين: يحتمل أن يريد: إن كان وحده جازت شهادته لغيره مع يمينه ولم يأخذ الشاهد شيئاً، وإن كان معه غيره أخذ الغير بغير يمين؛ لأنه اجتمع عليه شاهدان، وأخذ الشاهد بيمين؛ لأن شهادته لنفسه ساقطة.

وخصص صاحب المقدمات هذا الخلاف بما إذا كانت شهادة الشاهد في وصية مكتوبة، قال: وإن شهد على الوصية لفظاً بغير كتاب فإن شهد لنفسه بيسير فلا تجوز لنفسه باتفاق، وتجوز لغيره مع يمين الغير إن لم يكن إلا ذلك الشاهد، وإن شهد آخر كذلك أخذ غيرهما بغير يمين، وأخذ كل من الشاهدين بشهادة صاحبه بشرط أن يحلف، وقد يقال: لا تجوز له ولا لغيره على قول مطرف وابن الماجشون، ولا تجوز على ما في سماع أشهب من كتاب الشهادات.

وَأَمَّا شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلآخَرِ فَجَائِزَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ

لما تكلم على من شهد لنفسه ولغيره شرع فيمن شهد لمن شهد له، وذكر أن المشهور جواز الشهادتين، وظاهره سواء كان المشهود عليه بالحق واحداً أو لا، في مجلس واحد أو مجلسين متقاربين أو متباعدين، وهو قول ابن القاسم في العتبية فيمن شهد لرجل بعشرة دنانير وشهد المشهود له للذي شهد له على آخر- أن ذلك جائز، وقاله سحنون، والشاذ منعها، وإليه رجع سحنون.

اللخمي: وقال مطرف وابن الماجشون: إن شهد بعضهم لبعض على رجل واحد في مجلس واحد لم يجز، وإن كان شيئاً بعد شيء جاز جميعها وإن تقارب ما بين الشهادتين، وإن كان على رجلين مفترقين جاز ذلك في مجلس أو مجلسين، وأرى أن ترد جميعاً، وسواء كانت على رجل أو رجلين في مجلسين أو مجلس بلفظ أو كتاب؛ لأنهما يتهمان على:"اشهد لي وأشهد لك" إلا أن يطول ما بينهما. انتهى.

ص: 491

وقول مطرف ثالث، واختيار اللخمي راجع إلى المنع مطلقاً، ولم يحك المازري في اختلاف المجلس خلافاً في القبول لأنه قال: إن شهد رجلان لرجلين بدين لهما على زيد، ثم شهد المشهود لهما للشاهد الأولين بحق آخر على زيد بعينه فإنه إن كان ذلك في مجلسين متقاربين أو متباعدين جازت الشهادة، وإن كان ذلك في مجلس واحد فظاهر المذهب على قولين: المنصوص منهما لمطرف وابن الماجشون رد الشهادة، وظاهر كلام أصبغ إمضاؤها، ثم أشار إلى أنه ينبغي أن يلتفت في هذا إلى التبريز في العدالة وحقارة المشهود فيه، وأنه بحيث لا يتطرق فيه طلب المجازاة في شهادة بشهادة.

وَفِيهَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَافِلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ

هي في المدونة في كتاب المحاربين، وعلله فيها بأنه لا سبيل إلى غير ذلك، ونص فيها على القبول إذا كانوا عدولاً سواء شهدوا بقتل أو أخذ مال أو غيره، ولعل المصنف أتى بها استشهاداً للمشهور الذي قدمه، ولم يعتبر تعليله في المدونة بالضرورة، وما قدمه مطلق.

فإن قتل: القبول هنا مخالف لما قالوه في المجتلبين أنه لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إلا أن يكون النفر الكثير عشرين فأكثر، وأباه سحنون في العشرين.

قيل: فرق بينهما ابن سهل بأن المجتلبين تذكرهم حمية البلد فلذلك رد شهادتهم.

وَأَمَّا الدَّفْعُ فَكَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ خَطَأً

لما ذكر أمثلة ما يجر به الشاهد لنفسه نفعاً شرع في تمثيل ما يدفع به عن نفسه ضرراً وذكر المثالين:

الأول: أن يشهد عدلان أن فلاناً قتل فلاناً خطأ فشهد عدول من العاقلة التي وجب عليها القيام بالدية بتجريح شاهدي القتل فلا تقبل؛ لأنها تدفع ما لزمها من الدية.

ص: 492

ابن عبد السلام: وقد أطلقوا القول برد هذه الشهادة مع أن الفقير لا يلزمه شيء، والمقدار الذي يلزم الغني يسير جداً على ما يتبين في موضعه، وقد تقدم حكم من شهد لنفسه في وصية أو غيرها، ورد بأن الكلام فيمن يلزمه أداؤها فلا يرد الفقير، وتهمة الدفع أقوى؛ لأن كثيراً من الناس لا يسهل عليه إخراج شيء وإن [669/ أ] قل.

وَكَشَهَادَةِ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّهِ

هذا هو المثال الثاني: والمديان بكسر الميم وتخفيف الدال: الذي عليه الدين.

احترز بالمعسر مما لو كان موسراً فإنه تجوز شهادته، قاله ابن القاسم وأشهب ومطرف وابن الماجشون.

والضمير في: (لِرَبِّهِ) عائد على الدين المفهوم من المديان، وعلله مطرف بأنه كالأسير في يده، وقيده الباجي: بأن يكون الدين حالاً أو قرب حلوله، وما إن كان بعيداً فيجيء على مذهب سحنون جواز الشهادة، وعلى قول ابن وهب ردها. وفسر الغني بأن لا يستضر بإزالة هذا المال عنه، وأما إن كان يستضر بأخذه منه فترد شهادته.

ابن زرقون: وتجوز شهادته فيما عدا المال- قاله مطرف- ولما يرجو أن يكافئه على ما شهد له به إما بصبر عليه أو بتخفيف عنه من دينه، فلا فرق بين المال وغيره من الحقوق، وربما كان غير المال أهم عند المشهود له من المال.

خليل: وينبغي أن يقيد العسر هنا بأن يكون إعساره ثابتاً عند الحاكم، والله أعلم.

وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ؛ لأَنَّهُ جَارُّ

معناه أن يشهد رب الدين لمديانه بمال فإن شهادته ترد؛ لأنه يتهم أن يكون شهد له به ليقضيه، وما قدرنا به المسألة بالمال هو كذلك في المازري وغيره، وكأن المصنف استغنى عن ذلك بقوله:(لأَنَّهُ جَارُّ) وهذا مذهب ابن القاسم، وأجازها أشهب وإن كان المديان

ص: 493

معدماً، وأشار بعضهم إلى التفرقة بين أن يكون المديان ملياً فتجوز، أو معدماً فيمتنع، ولعل المصنف إنما أخر هذه المسألة ولم يقدمها في أمثلة الجر للاختصار، والله أعلم.

واختلف في شهادة العامل لرب المال؛ فقال سحنون: إن كان المال عيناً ردت وإن كان في سلع جازت، وقال ابن وهب: وإن كان ملياً قبلت وإن كان معدماً ردت، وقال ابن القاسم: هي جائزة ملياً كان أو معدماً.

بعض الشيوخ: وكذلك شهادة رب المال للعامل فيه الثلاثة الأقوال.

الثَّالِثُ: أَكِيدُ الشَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ كَالأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْبُنُوَّةِ مِنْ ذَكَرٍ وَانْثَى وَإِنْ سَفَلَتْ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ فِيْهِمَا

المانع الثالث: الشفقة الأكيدة لا مطلق الشفقة؛ إذ تجوز شهادة بعض الأقارب لبعض؛ لأنه لا يوجد في جميعهم أكيد الشفقة، والباء في:(بِالنَّسَبِ) للسببية، ومراده بالنسب القرابة، وبالسبب الزوجية كما يفعل الفرضيون.

ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد بالنسب عمودية الأعلى والأسفل، وبالسبب من يدلي بهما، وذكر الزوجية على طريق التكملة.

خليل: وفيه بعد، وضمير (عَلَوْا) عائد على الآباء والأمهات؛ فيندرج الأجداد والجدات، وغلب المصنف في علو المذكر. وضمير (سَفَلَتْ) عائد على البنوة.

سحنون: ولا تجوز شهادة ابن الملاعنة للذي نفاه، واستدل مالك على هذا الأصل في المجموعة بقول عمر رضي الله عنه:"لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين" وجعله في المدونة من قوله عليه الصلاة والسلام.

وحكى بعض الشافعية عن مالك قبول شهادة الولد لأبيه دون العكس، وهي حكاية مستنكرة وربما كانت وهماً.

ص: 494

ابن رشد: شهادة الأب عند ابنه، أو الابن عند أبيه، وشهادة كل واحد منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل منهما مع شهادة صاحبه- الحكم فيها كل سواء، والاختلاف فيها كلها واحد، قيل: إن ذلك جائز، وهو قول سحنون؛ لأنه أجاز شهادة الأب على قضاء ابنه بعد عزله، وأجاز هنا شهادته عنده بشرط التبريز، قال: وينبغي هذا الشرط عندي في بقيتها، وهو قول مطرف؛ لأنه أجاز شهادة كل واحد منهما على شهادة الآخر. وقيل: ذلك لا يجوز، وهو قول أصبغ؛ لأنه لم يجز شهادة كل منهما على شهادة الآخر وكذلك الذي يأتي على مذهبه في بقيتها، وفرق ابن الماجشون بين شهادته معه وشهادته على شهادته، وبين شهادته على حكمه بعد عزله؛ فأجازها في الأوليين، وردها في الأخرى، قال: وذلك تناقض، وأما تعديل كل منهما لصاحبه فلا يجوز عند واحد منهم إلا ابن الماجشون فإنه قال: إذا لم يكن نزعه وليس له قام، وإنما الذي نزعه وقام به أحيا شهادته، فلا بأس أن يصفه بالذي تتم به شهادته من عدالته.

ابن رشد: وفيه بعد.

وقوله: (وَكَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ) فيهما الإشارة إلى الأبوة والنبوة.

وقوله: (فِيْهِمَا) عائد على الزوجين المفهومين من السياق؛ أي: لا تجوز شهادة كل منهما لصاحبه.

ابن عبد السلام: وأشار إلى خلاف النخعي في قوله: تقبل شهادة الزوج لزوجته دون العكس، وقال شيخنا: الضمير عائد على الجر والرفع.

فرع:

فلو كانت الشهادة بغير مال كما لو شهد الزوج أن سيد زوجته أعتقها، وشهد معه غيره لم تقبل شهادته لاتهامه على إخراجها من الرق؛ ليكون ولده منها حراً. وهل يمكن من وطئها؟ عندنا [669/ ب] قولان: أحدهما أنه لا يحل له ذلك؛ لكونه يرق ولداً يعتقد

ص: 495

أنه حر، فيكون وطؤه سبباً لارتقاق ولده، وكذلك لو كان الزوج عبداً لكان لها فراقه؛ لاعترافه أن الفراق صار بيدها لما عتقت. وإن رضيت بالبقاء فهل يمكن من وطئها؟ ففيه قولان. وإذا قلنا: يمكن الزوج من وطئها إذا ردت شهادته فقال بعض الأشياخ: يشتريها ليفرق بين ولده الرقيق وولده العتيق.

وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِتَوْكِيلِهِمْ غَيْرَهُمْ بِخِلافِ تَوْكِيلِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ

يعني: أن الأب والولد والزوج والزوجة تجوز شهادتهم على بعضهم بعضاً بأنهم وكلوا غيرهم إذا كانت المنفعة للغير؛ لأنها شهادة عليهم. ولا تجوز شهادتهم على الغير بأنه وكلهم، ولهذا قال في المدونة في الشفعة: ومن لا تجوز شهادته من القرابة لقريب فلا يجوز أن يشهد أن فلاناً وكله على شيء، ويجوز أن يشهد عليه أنه وكل غيره؛ فأتى بلفظ (له) حيث منع الشهادة، وبلفظة (عليه) حيث أجازها.

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الأَخِ غَيْرِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لأَخِيهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً، وَقِيلَ: فِيمَا لا تَتَّضِحُ فِيهِ التُّهْمَةُ.

احترز بغير المنفق عليه من أن يكون الأخ الشاهد في نفقة أخيه فلا تجوز شهادته، فإن كان الشاهد هو الأخ المنفق فقد تقدم فيه خلاف.

وقوله: (تَجُوزُ) يريد: في الأموال وما في معناها لأن المازري وغيره نقل اتفاق أهل المذهب على رد شهادة الأخ لأخيه بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً، أو يدفع به معرة، أو تقتضيه الحمية والعصبية، مثل أن يشهد لأخيه وهو نازل القدر أنه تزوج امرأة لها قدر ممن يتشرف بنكاحها، أو يشهد أن فلاناً قذفه، أو يجرح من جرح أخاه، وكذلك رأى غيره أنه يتفق على رد شهادته له بالمال الكثير الذي يحصل له به الشرف. والمشهور أنه لا تجوز شهادته له في جرح العمد خلافاً لأشهب، والقول بالجواز وقع في بعض ألفاظ المدونة، والقول

ص: 496

باشتراط التبريز هو الذي في شهادات المدونة، واختلف الشيوخ؛ فحمله الأكثرون على أنه خلاف كما فعل المصنف، ورأى بعضهم أن ما في أول الشهادات مقيد لغيره.

وفي الرسالة: وتجوز شهادة الأخ العدل لأخيه، وظاهره عدم اشتراط التبريز.

قال صاحب المقدمات والبيان: مذهب ابن القاسم اشتراط التبريز في ستة مسائل: هذه أولها، الثانية: إذا زاد في شهادته أو نقص منها بعد أن شهد بها، والثالثة: شهادة الأجير لمن استأجره إذا لم يكن في عياله، والرابعة: شهادة المولى لمن أعتقه، والخامسة: شهادة الصديق الملاطف لصديقه، والسادسة: شهادة الشريك المفاوض لشريكه في غير مال المفاوضة، وزاد في المقدمات التزكية.

وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً، وَقِيلَ: فِيمَا لا تَتَّضِحُ فِيهِ التُّهْمَةُ) ليس هذا خلافاً على ما تقدم من حكاية المازري الاتفاق، لكن حكاه ابن شاس على أنه خلاف؛ لأنه قال: وأما شهادة الأخ لأخيه فأجازها في الكتاب من رواية ابن القاسم، إلا أن يكون في عياله. وقال بعض أصحابنا: لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز على شرط، ثم اختلف في تحقيق ذلك الشرط؛ ففي الموازية: لا تجوز شهادته إلا أن يكون مبرزاً. وقيل: تجوز إذا لم تنله صلته. وقال أشهب: تجوز في اليسير دون الكثير إلا أن يكون مبرزاً فتجوز في الكثير. وقال غير هؤلاء: تقبل الشهادة للأخ إلا فيما تتضح فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً أو يدفع به معرة أو تقتضي الطباع والعصبية فيه الغضب والحمية، كشهادته بأن فلاناً قتله، أو يجرح من جرحه. انتهى.

وقال اللخمي بعد أن ذكر أنه لا تجوز شهادته له فيما تقدم من كلام المازري أنه لا تجوز شهادته فيه: واختلف في شهادته له في الأموال على أربعة أقوال: فقيل: جائزة، وقيل: لا تجوز، وقيل: إن كان مبرزاً جازت وإلا فلا، وقيل: لا تجوز في اليسير دون الكثير.

ص: 497

وقال صاحب البيان: لا خلاف أن شهادته له في الأموال جائزة إذا لم يكن في عيال المشهود له، قيل: مطلقاً، وقيل: بشرط التبريز، وألزم أشهب على قوله بالإجازة في جراح العمد أن يجيزها له في القتل والحدود، قال: إذا لم يراع في جراح العمد ما يقع في ذلك من الحمية.

وقال عياض: قد اختلف في شهادته له في الحدود والقصاص وغير المال مما هو مستور.

وَفِي جَوَازِ تَعْدِيلِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ

الجواز لابن القاسم وهو ظاهر المدونة بشرط التبريز؛ لقوله فيها: "إذا لم يكن الأخ والأجير في العيال تجوز شهادتهما إذا كانا مبرزين في الأموال والتعديل؛ وعلى هذا الظاهر حمله الأكثرون، وروى ابن زياد وابن نافع عن [670/ أ] مالك جواز تعديله، وقال بعضهم: المراد بالتعديل هنا تعديل من شهد لأخيه فيكون من باب المال، وبقول أشهب قال ابن نافع وأصبغ وعبد الملك وهو الظاهر؛ لأنه يتشرف بعدالة أخيه له. وعلى الأول يجرح من جرحه، وعلى الثاني لا يجرح من جرحه، ولابن الماجشون ثالث أنه يعدله ولا يجرح من جرحه واختاره ابن حبيب، وظاهر كلام ابن رشد وغيره أن الخلاف في تجريحه إنما هو إذا جرح بالإسفاه، وأما إذا جرح بالعداوة فيجوز أن يجرح من جرحه، ونقل المازري عن بعض الأشياخ أنه مال إلى رد شهادته وإن جرح بالعداوة؛ لأن في تجريحه بها نقصاً.

المازري: ولعمري إن التهمة فيه لا تتضح اتضاحها إذا ردت شهادة أخيه من ناحية كونه فاسقاً.

وَفِي إِلْحَاقِ أُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ بِأُخُوَّةِ النَّسَبِ قَوْلانِ

المشهور قبول شهادته لصديقه إذا كان ليس في نفقته، ولا يشتمل عليه بره وصلته، وقال ابن كنانة: يقبل في اليسير فقط، وحكى الباجي عن مالك في القبول والرد روايتين، إذا كان الشاهد هو الذي يصل بالمعروف صديقه المشهود له. وقد تقدم أن ابن القاسم يشترط في ستة مسائل التبريز منها هذه.

ص: 498

ابن عبد السلام: ويؤخذ من كلامه أن من ألحق أخوة الصداقة بالنسب يختلف، هل يقبلها بشرط التبريز أو بشرط أن لا تتضح التهمة، والدخول تحت هذه العهدة في النقل صعب.

وَفِي شَهَادَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ زَوْجَةِ ابْنِهِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَا جَازَ

الجواز لسحنون اعتباراً بالحال؛ لأن شهادته لم تكن لابنته ولا لابنه، والرد لابن القاسم نظراً للمال؛ لأنه أميل لابنه أو ابنته، والثالث حكاه ابن محرز عن بعض شيوخه، واختلف في شهادة الرجل لأبوي امرأته وولدها من غيره وفي شهادة المرأة لولد زوجها، هكذا ألحقه المازري بالخلاف المتقدم.

وَفِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لأَحَدِ وَالِدَيْهِ عَلَى الآخَرِ، وَشَهَادَةِ الأَبِ لأَحَدِ وَلَدَيْهِ عَلَى الآخَرِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَيْلُ لِلمَشْهُودِ لَهُ- قَوْلانِ ..

هكذا حكى ابن محرز هذا الخلاف، قال: والصواب الإجازة؛ لأن الشاهد قد استوت حالته فيمن يشهد له وعليه فصار بمنزلة شهادته لأجنبي على أجنبين وشرط بعضهم التبريز في قبول هذه الشهادة.

واحترز بقوله: (إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَيْلُ) مما إ ذا ظهر ميل للمشهود له فإنه يتفق على الرد كما لو شهد للصغير على الكبير، أو للبار على العاق.

ابن محرز: ولو شهد لأبيه على ولده أو لولده وليس في حجره لتخرج على الخلاف في شهادته لأحد أبويه على الآخر، ولو شهد لأبيه على جده أو لولده على ولد ولده لانبغى ألا يجوز اتفاقاً، ولو كان على العكس لانبغى أن تجوز اتفاقاً.

فَإِنْ ظَهَرَ مَيْلُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَأَوْلَى بِالْجَوَازِ

كما لو شهد للعاق على البار.

ص: 499

وقوله: (أَوْلَى) أي: على القول بالجواز، ولا يريد أنه يتفق على الجواز؛ لأن سحنوناً يمنع وإن شهد للأكبر من أولاده على الأصغر، والرشيد منهما على السفيه الذي في ولايته، والعاق على البار، وكأنه رآه حكماً غير معلل وأن المنع في ذلك له.

وقال سحنون في نصراني مات وله ولد نصراني يرثه، وله ولدان مسلمان يشهدان بدين لأبيهما على رجل: إن شهادتهما لا تقبل مع ارتفاع التهمة بموت أبيهما وصيرورة ماله لولده النصراني.

قالوا: ترد شهادة الأب لولده وإن كان عبداً مع كون العبد لا يملك ما شهد له أبوه به ملكاً لا يقدر على انتزاعه.

وزادوا فقالوا: لا تقبل شهادته لسيد ولده ولسيد أبيه؛ لأجل التهمة بأن يصانع لسيد ولده أو سيد أبيه الشهادة ليحسن إلى أبيه أو إلى ابنه، ولذلك لو شهد ولدان على سيد أبيهما أنه باعه أو شهدا أن أباهما العبد جنى على رجل فإن شهادتهما لا تقبل أيضاً؛ لأنهما يتهمان أن يكونا قصدا إنقاذ أبيهما أو ولدهما من سوء مملكة السيد.

فَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُمَا مُنْكِرَةً لِلطَّلاقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلأَبِ عَلَيْهَا

احترز بقوله: (مُنْكِرَةً) من أن تكون مقرة بالطلاق قائمة به- فلا تقبل. نص عليه أشهب وأصبغ وسحنون، وأطلق ابن القاسم القبول ولم يقيد بكون الأم مقرة أو منكرة، لكن قيده صاحب البيان بقول أشهب ولم يجعل بينهما خلافاً، ولهذا - والله أعلم- لم يتعرض المصنف لقول ابن القاسم، لكن حمله اللخمي على الخلاف.

وقوله: (مُنْكِرَةً لِلطَّلاقِ) يريد: والأب أيضاً منكر، ولا يريد أن الأب مقر؛ لأن الأب لا يحتاج إلى شهادتهما إذ الطلاق بيده.

فإن قيل: لعله أراد إذا كان الأب مدعياً للطلاق على خلع والأم منكرة له.

ص: 500

قيل: إن أراد هذه الصورة لزمه خلاف النقل؛ لأن الذي في النوادر عن ابن سحنون: إذا شهدا أن [670/ ب] أمهما اختلعت من زوجها لم تجز شهادتهما، جحدت الأم أو لا. ولم يذكر خلاف ذلك.

ولو شهدا أن الأب طلق ضرة أمهما فإن كانت أمهما في العصمة لم تقبل، وإن ماتت قبلت شهادتهما، ومال بعض الشيوخ إلى ردها.

وإن كانت أمهما مطلقة من أبيهما وهي حية فشهد الابنان بطلاق الضرة ففي المذهب قولان؛ منع شهادتهما ابن القاسم، وأجازها أصبغ. وهذا إذا كانت الضرة منكرة للطلاق، واختلف إن كانت هي القائمة بشهادتهما وأمهما في عصمة الأب؛ فأجازها أصبغ، ومنعها سحنون بعد إجازته لها.

اللخمي: والقياس أن تمنع سواء كانت الأم في عصمة الأب أو مفارقة أو ميتة؛ لأن العادة جارية بين زوجة الأب وربيبها بالعداوة، وإن كانت شابة كان أبين؛ لأنه يخشى ما يكون من ولد يشاركه في الميراث أو يميل بماله إليها، ومدار الأمر في هذا الباب على التهمة القوية، فحط الفقيه الالتفات إليها.

الرَّابِعُ: الْعَدَاوَةُ، وَلا تُقْبَلُ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ لَهُ عَكْسَ الْقَرَابَةِ

إنما لم تقبل للتهمة كما في التي قبلها. فإن قيل: ما الذي أفاده قوله: (عَكْسَ الْقَرَابَةِ) مع تصريحه أولاً بأنها لا تقبل له وتقبل عليه؟ قيل: فائدتين.

الأولى: تقييد العداوة بالبينة كما قيد في القرابة تأكيد الشفقة.

قال ابن كنانة في المجموعة: إن كانت الهجرة في أمر خفيف فشهادة أحدهما تقبل على الآخر، وأما المهاجرة الطويلة والعداوة البينة فلا تقبل عليه.

ص: 501

الثانية: أنه لم يصرح في القرابة بأنها تقبل عليه ولا تقبل له، وهذا المعنى وإن كان مفهوماً مما تقدم فالتصريح هنا به أولى.

فإن قيل: (أل) في: (الْقَرَابَةِ) إما للعهد وهو متنف لعدم تقدم ما هو معهود، أو للجنس وهو لا يصح، وإلا لزم المنع في الأعمام والأخوال.

قيل: هي للعهد، وقد تقدم ما يدل على القرابة من وجهين:

أحدهما: أكيد الشفقة.

والثاني: قوله: (كَالأُبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ)

فإن قيل: فإن كان هذا عكس الثالث كان ينبغي أن يذكر أولاً في المانع الثالث القرابة دون أكيد الشفقة.

قيل: ذكر أولاً أكيد الشفقة لينبه على العلة الملحوظة، والله أعلم.

وَشَرْطُهُا: أَنْ تَكُونَ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيِّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ خِصَامٍ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ دَيْناً يَتَشَوَّفُ بِهِ عَادَةً إِلَى أَذًى يُصِيبُهُ. قَالَ سحنون: وَمِثْلُهُ لَوْ شَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ فِي خُصُومَتِهِ. وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةَ فَلا أَثَرَ لَهَا فَأَوْلَى بِقَبُولِهَا ..

شرط في العداوة المانعة أن تكون دنيوية، كذلك إن كان أصلها ديناً ولكن قويت حتى زادت على القدر الواجب- فإن ذلك القدر الزائد يمنع الشهادة، قاله المازري وعياض.

وهو صحيح؛ فإن تلك العداوة لو كانت لله تعالى لما تعدت القدر المأذون فيه وما حكاه عن سحنون يوهم أنه لو شهد عليه بعد الخصومة لقبل، والذي نقل المازري عن سحنون إذا شهد رجل بشهادة فبعد ذلك بنحو شهرين شهد المشهود عليه على الشاهد الذي شهد عليه: إن شهادته لا تقبل، وأشار المازري إلى أنه لابد من الالتفات إلى بروزهما في العدالة، وكون الشهادة الأولى لم تقع بما يوجب حقداً لاحتقار ما شهد به الشاهد الأول.

ص: 502

وقال أصبغ فيمن شهد على رجل حاضر فلما أتم الشهادة قال للمشهور عليه والقاضي يسمع: "إنك تشتمني وتشبهني بالمجانين" قال: لا نطرح شهادته إلا أن تثبت العداوة من قبل. هكذا نقل ابن عبد السلام ونقل المازري عن أصبغ رد الشهادة، وعلله بكون الشاهد أقر عن نفسه بعداوة المشهود عليه. ونقل ابن سهل هذا عن ابن الماجشون، ونقل عن أصبغ أنها لا تبطل إذا كان ذلك منه على جهة الشكوى لا على طلب المخاصمة، وتبطل إن كان على وجه الخصومة.

خليل: ويمكن أن يجمع بين النقلين الأولين بهذا، واستحسن اللخمي ردها، إلا أن يكون الشاهد مبرزاً.

وقوله: (وَأَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةَ) هو مفهو من الشرط أولاً، لكن صرح به هنا لما ترتب عليه بقوله:(فَأَوْلَى بِقَبُولِهَا) وقد حكى الأبهري الإجماع على أن العداوة في الدين لا تبطل الشهادة بدليل جواز شهادتنا على سائر الملل.

فروع:

الأول: إ ذا طرأ بين المسلم والكافر عداوة لأمر حدث فاختلف أصحابنا في قبول شهادة المسلم حينئذ عليه. عياض: والصحيح عدمه.

الثاني: قال مالك: إذا شهد وجب عليه أن يخبر الحاكم بأنه عدو، وعن سحنون لا يخبر تنفيذاً للحق، ولا يسعى في إبطاله. ابن رشد: وهو أصح.

الثالث: إذا خاصم الرجل عن غيره ففي مفيد الحكام: تجوز الشهادة عليه في اليسير الذي ليس مثله يورث الشحناء.

وفي المتيطية: الخصم هو الذي يخاصم غيره، وقال ابن وهب: هو الوكيل على [671/ أ] الخصومة. ومقتضى قول ابن وهب تجوز شهادته على الوكيل مطلقاً.

ص: 503

وَفِي شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى ابْنِ عَدُوَّهِ بِمَالٍ وَمَا لا يَلْحَقُ الأَبَ مِنْهُ مَعَرَّةُ- قَالَ ابن القاسم: لا تَجُوزُ وَلَوْ كَانَ مِثْلَ أَبِي شُرِيْحٍ وَسْلَيْمَانَ بنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: تَجُوزُ، وَقَالَ ابن الماجشون: تَجُوزُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وِلايَتِهِ، وَقَالَ أَيْضاً: تَجُوزُ إِنْ كَانَ الأَبُ مَيِّتاً ..

لما ذكر أن العداوة بين الشاهد والمشهود عليه تمنع الشهادة، أخذ يتكلم فيما إذا كانت تسري إليه.

واحترز بقوله: (بِمَالٍ) وبـ (مَا لا يَلْحَقُ الأَبَ فِيهِ مَعَرَّةُ) مما لو شهد عليه بما يلحق أباه منه معرة فإنه يمتفق على رد شهادته، كشهادته بزنى الابن وسرقته؛ لأنه مما يتأذى به الأب، وذكر المصنف أربعة أقوال:

الأول لابن القاسم: عدم الجواز، ولو كان الشاهد في الصلاح قد بلغ النهاية.

ابن يونس: وهو الصواب.

الثاني لمحمد: تجوز وإن كان الأب حياً والابن في ولاية أبيه، هكذا نقل اللخمي عن محمد.

الثالث لابن الماجشون: تجوز الشهادة إذا لم يكن الابن في ولاية أبيه، هكذا نقل اللخمي والمازري وغيرهما هذا القول، ولم يصرحوا فيه بمفهوم الشرط؛ أعني: بعدم القبول إذا كان في ولايته؛ نعم هو مفهوم الكلام.

الرابع لابن الماجشون أيضاً: لا تجوز بمال إذا كان الأب حياً.

اللخمي: يريد: وإن كان رشيداً. وتجوز على الصبي بعد موت أبيه وأجاز ابن القاسم الشهادة إذا شهد على صبي أو سفيه في ولاية عدوه ومنعها مطرف وابن الماجشون.

ص: 504

وَمَنِ امْتَنَعَتْ لَهُ امْتَنَعَتْ فِي تَزْكِيَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ وَتَجْرِيحِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ، وَمَنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ امْتَنَعَتْ فِي الْعَكْسِ ..

هذا ضابط حسن مع اختصار اللفظ وفهم المعنى، فالأب يمتنع أن يشهد لولده، فكذلك يمتنع أن يشهد بتزكية من شهد لولده؛ إذ البينة لا تتم إلا بالتزكية، فكان كأنه شهد لولده، وكذلك يمتنع تجريحه لمن شهد على ابنه، وكذلك العدو تمتنع شهادته عليه، فتمتنع شهادة تزكية من شهد عليه أو تجريح من شهد له؛ لأنه يتوصل بذلك إلى ضرر عدوه.

الْخَامِسُ: الْحِرْصُ عَلَى إِزَالَةِ التَّعْبِيرِ بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ أَوْ بِالتَّأَسِّي كَشَهَادَتِهِ فِيمَا رُدَّ فِيهِ لِفِسْقٍ أَوْ صِباً أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ ..

المانع الخامس: أن يحرص الشاهد على دفع ما عير به، والتعيير بالعين المهملة مصدر عير تعييراً.

والباء في قوله: (بِإِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ أَوْ بِالتَّأَسِّي) للسببية، ثم مثل للأول بـ (كَشَهَادَتِهِ فِيمَا رُدَّ فِيهِ .. إلخ) يعني: إذا شهد في حال فسقه أو صباه أو رقه أو كفره فحكم الحاكم بردها ثم زالت موانعم فأدوها فلا تقبل منهم؛ للتهمة بسبب ما جبلت عليه الطباع البشرية من الحرص على دفع المعرة بقبولها منهم بعد ردها.

وقوله: (فِيمَا رُدَّ) تحرز بذلك مما لو شهد بذلك ولم ترد حتى زال المانع- فإنها تقبل لكن بشرط إعادتها بعد زوال المانع. قاله غير واحد.

واستدل ابن يونس لذلك بما نقله سحنون عن بعض العلماء، وقال: هو قولي، وقياس قول مالك وأصحابه أن العبد والصبي والنصراني إذا أشهدوا عدولاً على شهادتهم ثم انتقلوا إلى الحال التي تجوز فيها شهادتهم قبل أن تنقل عنهم وغابوا أو ماتوا فشهدوا على شهادتهم- أن ذلك غير مقبول، بخلاف أن لو شهدوا في الحال الثانية بما

ص: 505

شهدوا في الحال الأولى، وقول ابن القاسم في عبد حكم بشهادته يظن حريته فعلم بذلك بعد عتقه- أن الحكم الأول يرد، ثم يقوم الآن فيشهددون له.

واحترز أيضاً بقوله: (فِيمَا رُدَّ فِيهِ) مما لو قال القائم بشهادتهم للقاضي: "عند فلان العبد، أو فلان الصغير، أو النصراني" فقال القاضي: لا أجيز شهادة هؤلاء- فإن هذا ليس رداً لشهادتهم، وتقبل شهادتهم بعد ذلك؛ لأن كلامه إنما هو فتوى. قاله غير واحد.

وَكَشَهَادَةِ وَلَدِ الزِّنَى فِي الزِّنَى اتِّفَاقاً

هذا مثال السبب الثاني، وهو التأسي، وقيده بقوله:(فِي الزِّنَى) لأنها تقبل فيما عداه، وإنما ردت شهادته في الزنى لاتهامه فيها بحرصه على دفع المعرة عنه بأن يجعل غيره مثله، لأن المصيبة إذا عمت هانت، وإذا نزرت هالت، ولهذا قال عثمان رضي الله عنه:"ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين".

قال مطرف وابن الماجشون: وكذلك لا تقبل فيما يتعلق بالزنى كاللعان والقذف والمنبوذ.

وَكَشَهَادَةِ مَنْ حُدَّ فِي مِثْلِ مَا حُدَّ فِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: تُقْبَلُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى لا يَنْدَفِعُ عَارُهُ بِالتَّوْبَةِ

هذا مثال ثاني للتأسي.

وقيد بقوله: (فِيمَا حُدَّ فِيهِ) لأن شهادته تقبل إذا تاب فيما عداه، وإنما اختلف في شهادته فيما حد فيه كشهادة السارق بعد توبته وقطع يده في السرقة، وكذا القاذف والشارب فالمشهور عدم القبول، ومقابل المشهور لمالك من رواية ابن نافع، وبه قال ابن [671/ ب] كنانة وصرح صاحب الاستذكار بالمشهور كالمصنف.

ص: 506

المازري: وقول ابن كنانة هو ظاهر المدونة؛ لقوله فيها: والمحدود إذا ظهرت توبته وحسنت حالته جازت شهادته في الحقوق والطلاق، فالظاهر عموم الحقوق. ورأى بعضهم أن ظاهر المدونة كالمشهور، ولهذا يقع في بعض النسخ قول المصنف:(وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ) إثر: (الْمَشْهُورِ).

قوله: (وَفُرِّقَ) أي: على القول بالقبول هنا بينه وبين ولد الزنى، بأن ولد الزنى عاره لا يرتفع بالتوبة بخلاف هذه الأشياء فإن معرتها تزول بالتوبة ويصير الفاعل لها كأنه لم يفعل كالكافر إذا أسلم.

وفيه نظر؛ لأنه وإن تاب وحسنت حالته يعلم من الناس أنهم ينظرونه بتلك العين فيجد في نفسه انكساراً فيتسلى بما يصيب غيره من ذلك.

السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي التَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ وَالْقَبُولِ، فَفِي التَّحَمُّلِ كَالْمُخْتَفِي لِتَحَمُّلِهَا: لا يَضُرُّ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَخْدُوعاً أَوْ خَائِفاً.

قوله: (فِي التَّحَمُّلِ) يحتمل أن تكون (فِي) للسبية أو للظرفية، ثم بدأ بالكلام على الحرص في التحمل، وذكر أن المشهور لا يقدح، وبه قال أشهب وعيسى بن دينار، وعليه عامة أصحاب مالك وأكثر أهل العلم.

ومقابل المشهور إما مبني على القول بأنه لا يجوز حتى يقول المشهود عليه للشاهد: اشهد علي- وهو قول لمالك- وإما مبني على القول بجوازها لكن يرى الاختفاء يضر بها.

ابن رشد: وهو قول سحنون، وقول محمد تقييد للمشهور، بل هو من تمامه؛ ففي الموازية قال مالك في رجلين قعدا لرجل من وراء حجاب يشهدان عليه، قال: إن كان ضعيفاً أو مخدوعاً أو خائفاً لم يلزمه، ويحلف:"ما أقر إلا ما ينكر" وإن كان على غير ذلك لزمه،

ص: 507

ولعله يقر خالياً ويأبى من البينة فهذا يلزمه ما سمع منه، قيل: فرجل لا يقر إلا خالياً هل أقعد له بموضع لا يعلم للشهادة عليه؟ قال: لو أعلم أنك تستوعب أمرهما، ولكنني أخاف أن تسمع جوابه لسؤاله، ولعله يقول له في سر: ما الذي لي عليك إن جئتك بكذا؟ فيقول له: لك عندي كذا، فإن قدرت أن تحيط بسرهما فجائز.

وَفِي الأَدَاءِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ طَلَبِهِ، فَفِيمَا تَمَحَّضَ مِنْ حَقِّ الآدَمِيِّ قَادِحَةُ، فَإِنْ كَانَتْ حَقاً للهِ عز وجل يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمِ كَالطَّلاقِ وَالْعِتَاقِ وَالْخُلْعِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ عَنِ الْقَصَاصِ لَمْ تَقْدَحِ الْمُبَادَرَةُ بَلْ تَجِبُ، وَإِنْ كَانَتْ حَقَّاً لا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلا تَقْدَحُ وَلا تَجِبُ إِلا فِي التَّجْرِيحِ لِمَنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ ..

حاصل كلامه أن الحقوق ثلاثة:

الأول: حق متمحض لآدمي فلا يؤديها قبل أن يسألها، بل رفعه لها قدح في عدالته، نعم قال علماؤنا: يجب عليه أن يعلم صاحبه به إن كان حاضراً، فإن لم يفعل فروى عيسى عن ابن القاسم: ذلك جرحة وتبطل شهادته، وقال مطرف وابن الماجشون: إلا أن يعلم صاحب الحق بعلمهم، وجعله ابن رشد تفسيراً. وقال سحنون: لا يكون ذلك جرحة إلا في حق الله تعالى؛ لأن صاحب الحق إذا كان حاضراً فقد أضاع حقه، وإن كان غائباً فليس للشاهد شهادة.

ابن يونس: ويلزم على هذا التعليل أنه إن كان حاضراً لا يعلم أن تلك الرباع له مثل أن تكون تلك الرباع لأبيه فأعارها للذي هي بيده، أو أكراها منه فباعها للذي بيده، والولد لا يعلم أن تلك الرباع كانت لأبيه- أن على الشاهد أن يعلم بذلك وإلا بطلت شهادته.

الباجي: وعندي أن ذلك إنما يكون جرحة إذا علم الشاهد أنه إذا كتمها ولم يعلم بشهادته بطل الحق أو دخل بذلك مضرة أو معرة، وأما على غير هذا فلا يلزمه القيام بها؛ لأنه لا يدري لعل صاحب الحق قد تركه.

ص: 508

ونقل في الإكمال قولين آخرين:

أولهما: أن ما يكون جرحة في الشهادة نفسها لا يصلح له أداؤها بعد، قال: وهو الظاهر، والثاني: إنما يكون جرحة إذا سكت حتى رأى صاحب الحق صالح عن حقه واضطر إلى شهادته ولم يعرفه بها حتى بطل حقه.

الثاني: أن يكون الحق لله تعالى يستدام فيه التحريم، كما لو شهد على رجل بعتق عبده أو أمته أو بطلاق زوجته أو بمخالعته لها أو بكونه رضع معها، وقيد ابن شاس الوقف بأن يكون على غير معينين، وأطلق القول فيه الباجي وابن رشد- فهذا تجب مبادرة الشاهد إلى الشهادة، فإن سكت عنها كان ذلك جرحة في حقه.

قال في البيان: ووقع لأشهب في المبسوط أن الشهادة لا تبطل بالإمساك عنها كان الحق بطلاق أو حرية أو بمال. واستبعده، قال: ويجيء عليه أنه لا يلزمه أن يقوم في ذلك بشهادته حتى يسألها.

الثالث: أن يكون الحق لله تعالى لكن لا يستدام فيه التحريم بأن تكون المعصية قد انقضت كالزنى وشرب الخمر فلا يجب الابتداء بها. قال في الإكمال: لما جاء في الستر على المسلم، إلا أن يكون مشهوراً بالفسق مشتهراً بالمعاصي مجاهراً بذلك فقد كره مالك وغيره الستر على مثل هذا ورأوا رفعه والشهادة عليه بما اقترف؛ ليرتدع عن فسوقه.

وَفِي الْقَبُولِ كَمُخَاصَمَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الآدَمِيِّ، وَفِي مُخَاصَمَتِهِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ [672/ أ] فِيهِمَا قَوْلانِ ..

هذا هو الوجه الثالث من وجوه الحرص، فإذا خاصم الشاهد المشهود عليه في حق الآدمي دل ذلك على تعصبه للمشهود له، وأما إن كانت المخاصمة في حق الله فقد اختلف في أربعة تعلقوا برجل ورفعوه للقاضي وشهدوا عليه بالزنى؛ فقال ابن القاسم:

ص: 509

لا تقبل شهادتهم، وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: تقبل، وهو اختيار اللخمي، وكذلك ابن راشد، وقال: إنه أصح؛ لأن أصل المنازعة في سبب الدين.

قوله: (وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ وَحَلَفَ فِيهِمَا) أي: في حق الله وحق الآدمي، والقول برد الشهادة لابن شعبان، وأخذ ابن رشد من العتبية أنه لا يمنع.

ابن عبد السلام: إلا أن يكون الشاهد من جملة العوام فإنهم يتسامحون في ذلك، فينبغي عندي أن يعذروا بذلك.

السَّابِعُ: الاسْتِبْعَادُ، وَأَصْلُهُا الْحَدِيثُ:"لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ" وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَضَرِ؛ لأَنَّهَا مَظِنَّةُ الرِّيبَةِ، فَأَمَّا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ سَمِعَهُمَا أَوْ رَآهمُاَ أَوْ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَلا رِيبَةَ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ.

المانع السابع: - وهو آخر الموانع- الاستبعاد، وذلك لأنه يبعد في العادة إشهاد أهل الحاضرة رجلاً من البادية يحتاج إليه، ويترك شهادة الحاضرين المتيسرين.

وقوله: (وَأَصْلُهُا) فيه حذف مضاف؛ أي: وأصل رد هذه الشهادة. وأعاد الضمير على الريبة المفهومة من السياق على حذف مضاف؛ أي: وأصل اعتبارها، والحديث رواه أبو داود، وقال النسائي فيه: ليس بالقوي.

(وَمَحْمَلُهُ) أي: الحديث. وكلام المصنف ظاهر التصور، وإنما أخرج الحديث عن عمومه لمعارضته لظاهر قوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)[الطلاق: 2] فإنه يتناول البدوي وغيره فحملت الآية على شهادة عدلين لا يستراب في شهادتهما، وحمل الحديث على ما يتسراب فيهما جمعاً بينهم.

وقوله: (عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَضَرِ) قيده اللخمي فقال: إلا أن يعلم أنه مخالط لهما أو يكون جميعهم في سفر، وقيد المنع بالوثائق والصدقات، وأما بالقتل والجراح والقذف وما

ص: 510

أشبه ذلك مما لا يقصد في مثله الإشهاد، أو بمال إذا لم يشهد وقال:"مررت بهما" ونحو ذلك- فتجوز، ومنع ابن وهب شهادة البدوي على الحضري في المال وغيره، وقيد بأن يشهد على حضري لبدوي مثله لما في ذلك من التهمة.

ابن وهب: واختلف في شهادة الحضري على البدوي؛ فرأى قوم أنها لا تجوز، وأنا أرى أنها جائزة إلا أن يدخلها ما دخل شهادة البدوي على الحضري من الظنة والتهمة.

قال في البيان: ومن هذا المعنى شهادة العالم على العالم فإنه وقع في المبسوطة من قول ابن وهب أنه لا تجوز شهادة القارئ على القارئ، يعني العلماء؛ لأنهم أشد الناس تحاسداً وتباغضاً، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: لا يُقْبَلُ شَهَادَةُ السُّؤَّالِ إِلا فِي التَّافِهِ الَيَسِيرِ؛ لِحُصُولِ الرِّيبَةِ فِيمَا لَهُ قَدْرُ وَبَالُ ..

أتى بهذه المسألة لمناسبتها لما قبلها؛ لأن المانع منها الاستبعاد أيضاً؛ لأن مثل هؤلاء لم تجر العادة باستشهادهم وترك الأغنياء المشهورين، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا قصد إلى إشهاده، وأما لو قال السائل، مررت بفلان وفلان وهما يتنازعان فأقر فلان لفلان بكذا فتقبل شهادته كالفرع السابق، وإليه أشار اللخمي.

فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ غَيْرَ سُؤَّالِ أَوْ سُؤَّالاً لِلإِمَامِ أَوْ لِلأَعَيَانِ قُبِلَتْ مُطْلَقاً عَلَى الأَصَحِّ

يعني: فإن كانوا فقراء لا يسألون.

بعض القرويين: أو كانوا لا يسألون ولكنهم يقبلون إذا أعطوا.

(أَوْ سُؤَّالاً لِلإِمَامِ) يعني: وكذلك إن كان يسأل ولم يشتهر بالمسألة، ولكن يسأل عن فاقته الإمام أو الرجل الشريف- قبلت مطلقاً؛ أي: في القليل والكثير.

ومقابل الأصح لابن كنانة: لا تقبل فيما كث بالخمسمائة دينار.

ص: 511

اللخمي: يريد: إذا كان بوثيقة،؛ لأن العادة إنما يقصد بالوثائق غير هؤلاء، وأما إن قال:"سمعته أقر بذلك" فأرى أن تقبل وإن كثر، لكن إنما نقل اللخمي قول ابن كنانة فيما إذا لم يقبل الصدقة قال: واختلف إذا كان متكففاً؛ فقيل: تجوز في اليسير، وقال ابن وهب في العتبية في الرجل الحسن الحال الظاهر الصلاح يسأل الصدقة فيما يتصدق به على أهل الحاجة أو يسأل الرجل الشريف أن يتصدق عليه، وهو معروف بالمسألة ولا يتكفف الناس- لم تجز شهادته، إلا أن يكون ممن يطلب الصدقة عند الإمام، وإذا فرقت وصية رجل، وكذلك المعترض لإخوانه تجوز شهادته.

واستبعد المازري قول ابن كنانة ورأى أنه خارج عن قواعد الشرع، ونقل عن ابن القاسم أنه قال: لا تجوز شهادة السائل في الكثير، وتجوز في القليل إذا كان عدلاً. وقول ابن القاسم يمكن أن يكون مراد المصنف بمقابل الأصح.

واحترز بقوله: (سُؤَّالاً لِلإِمَامِ) ممن يسأل من هو دونه من الولاة فإن ابن وهب قال: ليس ذلك بعدل لما عرف من حال الولاة.

وَلا يَكْفِي فِي زَوَالِ الْفِسْقِ مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ، بَلْ يُرْجَعُ إِلَى قَرَائِنِ الأَحْوَالِ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ بِزَوَالِهَا إِلَى الْعَدَالةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَعَنْ بُعْدٍ لاخْتِلافِ حَالِ الظَّانِّ وَالْمَظْنُونِ فِي الْفِطْنَةِ وَالْغَوْرِ، وَقِيلَ: لابُدَّ مِنْ سَنَةٍ، وَقِيلَ:[672/ ب] سِتَّةُ أَشْهُرٍ

لما كان قبول الشهادة متوقفاً على ارتفاع هذه الموانع، وكان بعضها لا يخفى زواله كالصبا والرق، وبعضها قد يخفى زواله كالفسق والعداوة أخذ يتكلم فيما يدل على زواله وذكر أنه لا يكفي مجرد قوله:"تبت" يعني: في الحكم الظاهر بين الناس، وإلا فالتوبة مقبولة، وإنما اختلف العلماء: هل يقطع بقبولها وهو الصحيح، أو يظن وهو قول القاضي؟ والصحيح ما ذكره المازري وغيره أن المعتبر في الحكم بانتقال الفسق ما ذكره المصنف من اختلاف حال الظان والمظنون.

ص: 512

و (الْفِطْنَةِ) راجعة إلى (الظَّانِّ) وحذف مقابله وهو البلادة (وَالْغَوْرِ) راجع إلى (الْمَظْنُونِ) وحذف أيضاً مقابله ويحتمل أن ترجع (الْفِطْنَةِ) و (الْغَوْرِ) إلى كل منهما.

(وَقِيلَ: لابُدَّ مِنْ سَنَةٍ) أي: من حين إظهار التوبة؛ لأن الحكم مرتب عليها في مواضع كالعنين. والقول بالستة أشهر أضعف من القول بالسنة، قاله المازري.

وَزَوَالُ الْعَدَاوَةِ كَالْفِسْقِ

يعني: أن زوال العداوة يوجب قبول الشهادة، لكن ذلك يختلف بحسب طول الزمان وقرائن الأحوال، والمنصوص هنا أنهما إذا اصطلحا وطال الزمان قبلت شهادة أحدهما على الآخر، واختلفا مع القرب: فمنعه ابن الماجشون، وفي الموازية القبول مطلقاً، هكذا فهم اللخمي والمازري وغيرهما، وتشبيه المصنف يقتضي جريان الأقوال الثلاثة ويعز وجودها؛ اللهم إلا أن يقال: إنما يقصد المصنف التشبيه في الخلاف إذا لم يعين راجعاً، وأما إذا عينه فإنما يشبه في الراجح، وقد تقدم ذلك.

وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ قَضَى بِعَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ نُقِضَ الْحُكْمُ، بِخِلافِ رُجُوعِ الْبَيِّنَةِ، وَفِي نَقْضِهِ بِفَاسِقَيْنِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ..

يعني: إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين بعد الفحص عن حالهما ثم ظهر له أنهما عبدان أو كافران أو صبيان نقض الحكم اتفاقاً؛ لأن الحكم إنما كان مستنداً للشاهدين، وقد تبين أن شهادتهما بطلت، وخرج بعض أشياخ المازري خلافاً في العبدين من الفاسقين، بل أولى لوقوع الإجماع على عدم قبول شهادة الفاسق ووقوع الخلاف في قبول شهادة العبد، ورده المازري بأن الفسق معول القاضي فيه على الظن والاجتهاد فلا يأمن الغلط فيه ثانياً، كاجتهاد ظهر بعد الأول، فلا ينقض الأول له، بخلاف العبد، فإنه مقطوع به، فكان كنص ظهر بعد الاجتهاد.

ص: 513

وقوله: (وَفِي نَقْضِهِ بِفَاسِقَيْنِ قَوْلانِ) القولان لمالك، وهما في المدونة، ففي الشهادات: ينتقض كقول ابن القاسم، وفي الحدود: لا ينقض كقول أشهب، وبقول أشهب قال سحنون، وزاد سحنون فقال: وينتقض أيضاً بظهور أحد الشاهدين مولى عليه.

قال اللخمي: والأحسن ألا ينتقض في المولى عليه؛ لأن الخلاف في شهادته شهير في المذهب، وإن تبين أن قضاء القاضي وقع بشهادة عدوين أو قريبين فأجراه بعضهم على مسألة الفاسقين، ورده المازري بنحو ما قدمنا عنه.

وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ أَدَاءٍ الشَّهَادَةِ بَطَلَتْ مُطْلَقاً، وَقِيلَ: إِلا بِنَحْوِ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ

ضمير (حَدَثَ) عائد على الفسق المفهوم من فاسقين.

(بَطَلَتْ) أي: الشهادة.

(مُطْلَقاً) سواء كانت مما يستسر به كالزنى والسرقة والشرب أو لا كالقتل والجراح، وقيل: إنها تبطل فيما يستسر به لا الجراح والقتل؛ لأنه يؤمن من القتل والجراح من تقدم ذلك قبل أدائه الشهادة، بخلاف ما يستسر به، وهذا قول ابن الماجشون، والأول لمطرف وأصبغ وابن القاسم.

وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَبْدُ أَوْ ذِمِّيُّ نُقِضَ وَرُدَّ الْمَالُ إِلا أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الشَّاهَدِ الْبَاقِي، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مَالَهُ، فَإِنْ نَكَلَ فَلا شَيْءَ لَهُ ..

يعني: وإن ظهر المانع في أحد الشاهدين فقط بعد أن قضى بمال بشهادتهمابقي الحكم موقوفاً؛ لأنه بقي مستنداً إلى شاهد واحد، فإن حلف الطالب مع الشاهد الباقي فلا ينتقض، فإن نكل الطالب حلف المطلوب واسترجع المال، هكذا قال في المدونة في باب الرجم، وكمله في كتاب ابن سحنون كما ذكر المصنف فقال: فإن نكل- أي: المحكوم عليه- فلا شيء له، وفي بعض النسخ:(عَلَيْهِ) أي: على الطالب.

ص: 514

وَيَحْلِفُ فِي الْقِصَاصِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ عَصَبَتِهِ خَمْسِينَ يَمِيناً

يعني: إن ظهر أن أحد الشاهدين عبد أو ذمي في غير المال، وكان ذلك في القصاص؛ أي: في النفس.

قوله: (خَمْسِينَ يَمِيناً) حلف ولي الدم، ولا يحلف وحده كسائر الحقوق، بل لابد من رجل آخر معه من عصبته فأكثر، كما سيأتي في بابه أنه لا يحلف في العمد أقل من رجلين.

وَيَكْفِي فِي كُلِّ يَمِينٍ: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، وَلا يُزَادُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَيَخْتِمُّ الْحُكْمُ ..

ذكر هذا- والله أعلم- هنا لرفع توهم أن اليمين في القصاص غير اليمين في المال لعظم حرمة الدماء، ولو سكت عنه لكان أحسن؛ لأنه سينبه على ذلك في فصل اليمين.

فَإِنْ نَكَلَ فِي الْقَطْعِ وَالْقِصَاصَ حَلَفَ الْمَقْطُوعُ بِأَنَّهَا بَاطِلَةُ، وَفِي الْقِصَاصِ رُدَّتِ الشَّهَادَةُ وَغَرِمَ الشَّاهِدُ وَالشُّهُودُ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، وَقِيلَ: عَاقِلَهُ الإِمَامِ، وَقِيلَ: هَدَرُ، وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَ الشُّهُودُ غَرِمُوا، وَإِلا غَرِمَ الْحَاكِمُ؛ وَقِيلَ: إِنْ عَلِمُوا بِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ لا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ غَرِمُوا، وَإِلا فَهَدَرُ، وَلا غُرْمَ عَلَى الْعَبْدِ.

لما ذكر الحكم إذا ظهر أن أحدهما عبد أو ذمي وبين ما إذا حلف المقتص له تكلم على ما إذا نكل، وأتى بمسألة القطع تتميماً للفائدة؛ لأن الحكم فيها كالنفس، [673/ أ] وإلا فالمسألة السابقة إنما هي في القصاص من النفس، وفهم من كلامه أنه لو لم ينكل في القطع لتم القصاص، وهكذا سحنون في كتاب ابنه.

وقوله: (فَإِنْ نَكَلَ فِي الْقَطْعِ وَالْقِصَاصَ) اشتمل كلامه على مسألتين كما ذكرنا، ولذلك أجاب الشرط بجواب مركب من جزئين؛ أعني قوله:(حَلَفَ الْمَقْطُوعُ).

ص: 515

و (رُدَّتِ) إلى قوله: (حَلَفَ) راجع إلى مسألة نكول القاطع في القطع، فإذا حلف استحق دية يده، ومفهوم كلام المصنف أنه لو لم يحلف لم يكن له شيء، وإنما حلف المقطوع ليرد شهادة الشاهد الثاني.

وقوله: (وَفِي الْقِصَاصِ) متعلق بـ (رُدَّتْ) و (رُدَّتْ) راجع إلى (الْقِصَاصِ) وإنما ردت شهادة الشاهد الثاني في القصاص من النفسلأن ولي الدم نكل، ولم يبق من ترجع عليه اليمين.

وقوله: (وَغَرِمَ الشَّاهِدُ وَالشُّهُودُ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ) هو أيضاً من باب اللف والنشر؛ لأن قوله: (فِي الْقِصَاصِ) راجع إلى الشاهد، و (الرَّجْمِ) راجع إلى (الشُّهُودُ) أي: الثلاثة الباقية إذا تبين أن الرابع عبد أو ذمي، والقول بأن ذلك على عاقلة الإمام حكاه ابن سحنون عن بعض الأصحاب، وكذلك القول بأنه هدر لا شيء على الحاكم والبينة والمحكوم له.

وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ عَلِمَ الشُّهُودُ غَرِمُوا، وَإِلا غَرِمَ الْحَاكِمُ) هو قول رابع.

وقوله: (عَلِمَ الشُّهُودُ) أي: فإن الذي شهد معهم كما ظهر من أمره.

وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ عَلِمُوا بِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ لا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ غَرِمُوا، وَإِلا فَهَدَرُ) هو قول خامس.

ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأنه إذا كان الشهود عالمين بأن أحدهم عبد أو ذمي، وبأن شهادته لا تجوز فهم متسببون في قتل المشهود عليه أو قطع يده، وإن لم يعلموا بشيء من ذلك، أو بمجموع الأمرين فلا غرم عليهم، ولا على الحاكم؛ لأن الواجب الاجتهاد وقد حصل. انتهى.

وبقي على المصنف مذهب المدونة: إن علم الشهود فالدية عليهم وإلا فالدية على عاقلة الإمام، ولا يقال هو القول الرابع؛ لأن الغرم هناك متعلق بالحاكم وهنا بعاقتله.

ص: 516

وقوله: (وَلا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ) نحوه في المدونة، وظاهره لا شيء عليه من الحد ولا من الدية، لكن قال فضل معناه: لا شيء على العبد من الدية، وأما حد القذف فذلك عليه، ورأى أصبغ أن العبد يغرم إذا علم، حكاه عنه اللخمي.

وَلَوْ حَدَثَتْ تُهْمَةُ الْجَرِّ وَالدَّفْعِ وَالْعَدَاوَةِ بَعْدَ الأَدَاءِ لَمْ تُبْطِلِ الشَّهَادَةَ

لما تكلم على حدوث الفسق بعد أداء الشهادة تكلم في حدوث التهمة إما بدفع مضرة أو جلب منفعة وفي حدوث العداوة، وذلك كله بعد الأداء، وذكر أن الشهادة لا تبطل، وهكذا قال أصبغ في العتبية في رجل شهد لامرأة وأثبتها القاضي ولم يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة أنه يحكم بهأ، قال: وليس ذلك كالوصية؛ يعني: مسألة المدونة: إذا أوصى الرجل بمال فلم يمت الوصي حتى صار الموصى له وارثاً فإن الوصية تبطل.

ابن رشد: إلا أن يعلم لذلك سبب قبل أدائها، مثل أن يشهد الرجل للمرأة ثم يتزوجها فيشهد عليها أنه كان يخطبها قبل أن يشهد لها ونحو ذلك، بدليل قول ابن القاسم في الرجل يشهد على الرجل بطلاق امرأته البتة ثم تزوجها، فأتى المشهود عليه ببينة تشهد أن الشاهد كان يخطب هذه المرأة قبل أن يتزوجها هو: أن شهادته تبطل، ولأصبغ في الثمانية: أن الشاهد إذا خاصم المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته إلا أن يقر أن الذي يطالبه به من ذلك كان قبل إيقاع الشهادة.

وَلا يَثْبُتُ حُكْمُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ مُنْفَرِدَةٍ

لما تكلم على الشهادة وشرائطها وموانعها تكلم في مراتبها.

و (مُنْفَرِدَةٍ) صفة لـ (شَهَادَةِ).

واحترز من الحكم بالشاهد واليمين، ولابن القاسم أن المشهور الاكتفاء بالواحد؛ لأنه نائب عن الحاكم، وكذلك الشهدة على الحيازة على القول بالاكتفاء به؛ لأنه كنائب

ص: 517

عن القاضي؛ إذ الأصل حضور القاضي لتحديد ما شهد به شهود استحقاق الأرض، فإذا صعب الحضور على القاضي بعث رجلاً نائباً عنه، وكذلك لا يرد القائف والمرأة الواحدة في الرضاع على أحد القولين؛ لأن القائف على هذا القول مخبر؛ إذ هو مخبر عن علم فكان كالطبيب، ولذلك قالوا: إذا لم يوجد طبيب عدل قبل غيره، وإن لم يوجد مسلم قبل الكافر، وشرط قبول المرأة عن هذا القائل الفشو، وذلك يمنع من انفراد الشهادة.

ويعني المصنف بالحكم في قوله: (وَلا يَثْبُتُ حُكْمُ) هو أحد ما وقع التخاصم فيه وما أشبه ذلك، فلا يحسن أن ينقض عليه بأن الشاهد الواحد في الطلاق والعتاق يوجب على الزوج والسيد اليمين؛ فإن اليمين جزء وشرط في طريق الحكم، وليست بحكم، والله أعلم.

وَهِيَ مَرَاتِبُ: الأُولَى: بَيِّنَةُ الزِّنَى، وَشَرْطُهُا: أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ مُجْتَمِعِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ يَشْهَدُونَ بِزِنًى وَاحِدٍ وَرُؤْيَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ ..

المرتبة الأولى: بينة الزنى، والإجماع على اعتبار الأربعة، إلا طائفة شاذة اكتفت بثلاثة وامرأتين، وهو خلاف القرآن؛ لقوله تعالى:(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)[النساء: 15] ولقوله فيما يدفع به حد القذف: (ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ)[النور: 4].

وقوله: (مُجْتَمِعِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) هو [673/ ب] المشهور، وقال أشهب: يحد المشهود عليه ولا يضر افتراقهم. قال: ولا ينبغي للإمام أن يؤخر حد من شهد قبل أن يتم الشهادة، وإن هو فعل ولم يحد الأول حتى تمت الشهادة حد المشهود عليه، وقال أبو الفرج: لو سأل الثلاثة أن ينظرهم حتى يأتوا برابع كان معهم لوجب عليه إنظارهم ويجمع الشهادة، وكذلك المشهود عليه.

اللخمي: وهو أحسنها.

ص: 518

وقوله: (غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) ابن عبد السلام: الأقرب أنه نعت لبيان لا تأكيد؛ لأن قوله: (مُجْتَمِعِينَ) لا يفيد إلا مطلق الاجتماع، وهو أعم من أن يكون ذلك في المشهود به أو له وفي زمانه، ثم الشهود هل أدوا شهادتهم مجتمعين أو متفرقين؟ الأمر محتمل لذلك كله بين المصنف بقوله:(غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ) أن مراده كونهم أتوا بشهادتهم في وقت واحد.

وقال بعض من تكلم هنا: الأظهر أنه نعت تأكيدي؛ لأن الاجتماع فيه أو في المشهود به مستفاد من قوله: (بِزِنًى وَاحِدٍ) وكذلك أيضاً المشهور اشتراط ما ذكره من الزنى الواحد، وهو الجاري على أصل المذهب أنه لا تلفق الشهادة على الأفعال.

وقال ابن الماجشون: إذا اتفقوا في صفة الرؤية واختلفوا في الأيام والمواطن لم تبطل الشهادة.

وقوله: (وَرُؤْيَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا .. إلخ) أي: لا بد أن يشهدوا بهذه الرؤية المخصوصة ولا خلاف فيه، ويدل عليه قصة عمر رضي الله عنه لما شهد عنده ثلاثة على المغيرة بن شعبة بالرؤية المذكورة، وقال الرابع: رأيت نفساً تعلو واضطراباً ورجلاها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، فقال: الله أكبر، وأسقط الحد، وحد الثلاثة.

وَلِلْعَدْلِ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ قَصْداً لِلتَّحَمُّلِ

لأنه لا تصح الشهادة إلا بذلك. واحترز بالعدل من غيره فإنه لا يجوز له ذلك؛ لأن من لا تجوز شهادته لا فائدة في نظره، وذكر المازري أن جواز النظر هو ظاهر المذهب.

ابن عبد السلام: ومنع ذلك بعضهم فيما أشار إليه بعض الشيوخ، ورأى أنه لا يشهد إلا بنظرة الفجاءة، لأن النظر حرام، والتحمل غايته أداء الشهادة، والأداء غير واجب فوسيلته كذلك، وأشار بعض المخالفين لنا ممن يوافق المذهب على إجازة النظر إلى أنه إنما ينظر لمغيب الحشفة؛ لأنه القدر المحتاج إليه ويكف عن غيره.

ص: 519

فإن قلت: لم اختصت شهادة الزنى بالأربعة؟ قيل: لقصد الستر ودفع العار الذي يلحق الزاني والمزني بها وأهلهما، ولما لم يلحق ذلك في القتل اكتفي باثنين، وإن كان أعظم من الزنى، وقيل: لأنه لما كان لا يتصور إلا من اثنين اشترط أربعة؛ ليكون على كل واحد اثنان، وقيل: لما كان الشهود مأمورين بالستر ولم يفعلوا غلظ عليهم في ذلك ستراً من الله تعالى على عباده.

وَاللَّوَاطُ كَالزِّنَى

أي: في الاحتياج إلى الأربعة، وبقية الأوصاف، وإباحة النظر.

وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ: مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ أَخَذَهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ؟ وَإِلَى أَيْنَ؟ وَقَالَ سحنون: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجْهَلُ ..

فيه حذف معطوف عليه؛ أي: في الزنى والسرقة.

ابن القاسم في المجموعة: ويفرقون في الزنى فقط، وقال أشهب: لا يفرقون إلا أن يستراب في شهادتهم.

ابن المواز: فإن غابوا قبل أن يسألهم غيبة بعيدة أو ماتوا نفذت الشهادة وأقام الحد، قال: وإن كان الشهود أكثر من أربعة فغاب منهم أربعة بعد أن شهدوا لم يسأل من حضر، وثبت الحد؛ لأن من حضر لو رجع عن شهادته لثبت الحد ممن غاب، ورأى بعض الشيوخ أن غيبة أربعة منهم لا يمنع سؤال من حضر؛ لاحتمال أن يذكر الحاضرون إذا سئلوا ما يوجب الوقف عن شهادة الغائبين والحاضرين جميعاً. وقيد اللخمي قول محمد:"إذا غابوا" بما إذا كانوا من أهل العلم بما يوجب الحد، وقول سحنون إنما هو منقول عنه في السرقة، ولعل المصنف أتى به إشارة إلى تخريجه في الزنى، ولا يؤخذ من قول المصنف أن قول سحنون إنما هو منقول في السرقة، والتخريج غير لازم لعظم أمر الزنى، ثم الأقرب هو المشهور؛ لأنهم وإن كانوا عالمين فقد يخالفهم القاضي في رأيهم.

ص: 520

وَفِي قَبُولِ اثْنَيْنِ فِي الإِقْرَارِ بِهِ قَوْلانِ

أي: أو لابد من الأربعة، والقولان هنا كالقولين في الاكتفاء باثنين على حكم القاضي على رجل بالزنى.

وقوله: (بِهِ) أي: بالإقرار بالزنى، وفي بعض النسخ (بِهِمَا) فيعود على الزنى واللواط، لا على السرقة؛ فإنه يكتفي فيها بالاثنين بلا إشكال.

ابن شاس، وهذا الخلاف على القول أنه إذا رجع عن إقراره بغير عذر أنه لا يقبل رجوعه.

الثَّانِيةُ: مَا لَيْسَ بِزَنًى وَلا مَالٍ وَلا آيلِ إِلَيْهِ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالطَّلاقِ وَالْعِتْقَ وَالإِسْلامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْوَلاءِ وَالْعِدَدِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَثُبُوتِهِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَشَرْطُهُا اثْنَانِ ذَكَرَانِ

المرتبة الثانية من مراتب الشهادة، وعرفها بثلاثة قيود سلبية: ألا تكون بزنى ولا بمال ولا بما يؤول إلى مال، والأولى لو زاد: ولا يختص النساء به بالعادة؛ لتخرج الولادة ونحوها فإن ذلك يثبت بامرأتين.

فإن قيل: لعله سكت عنه اكتفاءً بما يذكره في المرتبة الثالثة. قيل: فكان يستغنى عن قوله: (مَا لَيْسَ بِزَنًى وَلا مَالٍ).

ولا يقال: ذكر من أمثلة هذه المرتبة العفو عن القصاص وثبوت القصاص وليس من شرطها الذكران؛ لأن العفو يثبت باليمين والنكول، والقصاص يثبت بالشاهد والقسامة وبقية أنواع اللوث.

لأنا نقول: مورد التقسيم في مراتب الشهادة فلا مدخل لما أورد فيها، وإنما كان يلزم السؤال لو جعل مورد التقسيم ما تثبت به الحقوق، وحكى في البيان عن ابن الماجشون وابن نافع: أن النساء يزكين الرجال [674/ أ] إذا شهدوا فيما تجوز فيه شهادتهن، ويلحق

ص: 521

بما ذكره المصنف الشرب والحرابة والسرقة والقذف والإحلال والإحصان والإيلاء والظهار والاستيلاد.

الثَّالِثَةُ: الأَمْوَالُ وَمَا يَؤُولُ إِلْيَهَا كَالأَجَلِ وَالْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالإِجَارَةِ وَقَتْلِ الْخَطَأِ وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مُطْلَقاً، وَجِرَاحِ الْمَالِ مُطْلَقاً، وَفَسْخِ الْعُقُودِ وَنُجُومِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَتَقَ بِهَا فَيَجُوزُ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ ..

أي: الأموال حقيقة، أو عوارض لها كالأجل إذا ادعى المشتري أنه اشترى لأجل وادعى البائع أنه باع نقداً، أو ادعى أحدهما الخيار والآخر البت.

(وَالشُّفْعَةِ) أي: أن هذا شفيع أو شفيع بتل السنة أو أسقطها.

(وَالإِجَارَةِ) أي: هل أجر منه أم لا؟

(وَقَتْلِ الْخَطَأِ) عده المصنف فيما يؤول إلى المال، وعده غيره مالاً باعتبار الدية.

وقوله: (وَمَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مُطْلَقاً) فسره ابن عبد السلام بجراح الخطأ، وفسر قوله:(وَكَذَلِكَ جِرَاحِ الْمَالِ) بالجراح التي لا يقتص منها في العمد؛ لكونها متالف كالجائفة والمأمومة، وفسر شيخنا ما يتنزل منزلة الخطأ بقتل الصبي والمجنون، وأراد بالإطلاق عدم التفرقة، وجعل جراح المال يعم ما لا يقاد من عمده، وجراح الخطأ وفسخ العقود سواء كان اختياراً كالإقالة أو اضطراراً كالفساد (وأَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ) وإن أدى إلى العتق.

قوله: (وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ بِالْمَالِ) أي: وكله في حياته ليتصرف له.

(وَالْوَصِيَّةُ بِهِ) أي: إذا أوصى بأن يتصرف في أمواله بعد وفاته لا أنه أوصى له بمائة مثلاً فإن هذه مال محقق فلا يجري فيها خلاف، ومقابل المشهور في الوكالة والوصية لعبد

ص: 522

الملك، ومنشأ الخلاف هل ينظر إلى أنها آيلة إلى المال فيقبل، أو إلى أنها شهادة على غير مال؟ وكذلك عكس هذا مما هو مال ويؤدي إلى ما ليس بمال وأجازه مالك مثل أن يشهد على شراء الزوج لزوجته فيحلف وتصير ملكاً له فيجب بذلك الفراق، وكذلك على دين متقدم يريد به العتق، أو يقيم القاذف شاهداً أو امرأتين على أن المقذوف عبد ليسقط الحد.

الرَّابِعَةُ: مَا لا يَظْهَرُ لِلرِّجَالِ كَالْوِلادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ وَالاسْتِهْلالِ وَالْحَيْضِ فَيَثْبُتُ بِامْرَأَتَيْنِ وَيُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِيْنٍ ..

المرتبة الرابعة: ما لا يظهر للرجال غالباً، ونبه بذلك على العلة في قبول شهادتهن، ومثله في الولادة، وظاهره أنه لا يحتاج إلى حضور شخص المولود، وهو المشهور خلافاً لسحنون في اشتراط ذلك حتى يشاهده الرجال.

قوله: (وَعُيُوبِ النِّسَاءِ) يتناول الحرائر والإماء؛ أما الحرة فلا ينظرها النساء بل تصدق على المشهور خلافاً لسحنون، وقد تقدم ذلك في بابه. وأما الإماء فإن كان العيب بفروجهن فقال المازري: وظاهر المدونة قبول شهادة النساء في ذلك لانخفاض رتبتهن عن رتبة الحرة، وإن كان في غير الفرج مما هو عورة، ففي الموازية وغيرها أن شهادة النساء تقبل فيما تحت الثوب، وقيل: بل يبقى الثوب على موضع العيب ويراه الرجال، فعلى هذا لا تقبل شهادة النساء فيه. وأما الاستهلال فهو أيضاً مما ينفردن به كالولادة.

وقوله: (فَيَثْبُتُ بِامْرَأَتَيْنِ) أي: لا بامرأة.

المازري: واختلف في الاكتفاء بواحدة إذا أرسلها القاضي وكانت الأمة حاضرة، أما إن ماتت أو غابت فلابد من امرأتين؛ لأنها شهادة بخلاف الوجه الأول عند من اكتفى بالواحدة فإنه نزلها منزلة القاضي كالترجمان والقائف ونحوهما، وهل تقبل هنا شهادة امرأة ورجل؟ ذهب مالك وربيعة وابن هرمز إلى إسقاط شهادة المرأة؛ لأن بحضور

ص: 523

الرجل ارتفعت الضرورة التي لأجلها قبلت شهادة المرأة، وذكر ابن حبيب عمن يرضاه القبول واختاره.

وقوله: (وَيُثْبِتُ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ) هو راجع إلى شهادتهن بالولادة والاستهلال. والضمير في: (لَهُ وَعَلَيْهِ) يعود على المولود، فإن شهدتا أنه استهل ومات بعد أمه ورثها، وورثه والده.

قوله: (بِغَيْرِ يَمِيْنٍ) هكذا قال مالك وأطلق، ولا خلاف في هذا إن كان القائم بشهادتهن لا يعرف حقيقة ما شهدت به البينة، وإن كان القائم بشهادتهن يتيقن صدقها كالبكارة والثيوبة، فحكى اللخمي والمازري في إلزامه اليمين قولين.

ابن عبد السلام: ولا يطرد هذا الخلاف في هذا الفصل كالولادة والذكورة والأنوثة فإن مذهبنا ومذهب علماء الأمصار الاكتفاء بشهادتهما بلا يمين. وفي الموازية في امرأتين شهدتا أن الزوج أرخا الستر، وكان هو أنكر ذلك أن شهادتهما مقبولة مع اليمين، وطرجد بعض الشيوخ هذا الخلاف في سائر مسائل هذا الفصل ورأى غيره أن الزوج ههنا يحقق الدعوى عليها بأنها كذبت فيحسن تعلق اليمين مع شهادة امرأتين بخلاف بقية مسائل الفصل.

وَفِي قَبُولِهَا فِي أَنَّهُ ابْنُ فُلانٍ قَوْلانِ

أي: اختلف في قبول شهادة المرأتين على أن المولود ذكر؛ فقبلها ابن القاسم لكن بشرط حلف القائم بشهادتهما، وعلله ابن القاسم بأن شهادتهما على مال، وردها مالك في رواية أشهب، واختاره أشهب وسحنون وعلله بأن الجسد لا يفوت والاستهلال يفوت، ولأصبغ قول ثالث: إن طال الأمد حتى [764/ ب] لا يمكنه الاطلاع على حالة المولود لكونه تغير في قبره فإن كان الوارث له بيت المال أو رجلاً بعيداً فإنه يقضي هنا بشهادة النساء، وإن كان ذلك يرجع إلى بعض الورثة دون بعض فكقول أشهب، ورد قوله: بأن

ص: 524

بيت المال كوارث معلوم. قال في النوادر: وجدت له أنه رجع إلى قول أشهب، وفي بعض النسخ أنه ابن فلان، ولا حاجة إلى زيادة (فُلانِ) والله أعلم.

مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ تَاخِيرُهُ لِلرِّجَالِ

ظاهره أن هذا التقييد لمحل الخلاف، وأنه إن تعذر قبلت بالاتفاق، وبذلك صرح ابن راشد، وهذا التقييد وقع لأصبغ وسحنون وغيرهما.

وَلَوْ شَهِدَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ

يريد: أو رجل مع يمين الطالب، ولو وصل هذه المسألة بالمرتبة الثالثة كما فعل ابن شاس لكان أحسن؛ لأنها من الأموال، ولهذا قال ابن عبد السلام: لا خلاف في المذهب في هذه، وإنما اختلف هل يضمن ضمان الغصب وهو مذهب ابن القاسم، أو ضمان السارق وهو مذهب أشهب؟

وَكَذَلِكَ قَتْلُ عَبْدٍ عَمْداً، وَيَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ.

أي: وكمسألة السرقة لو شهد رجل وامرأتان على قتل عبد عمداً لثبت المال وهو العبد القاتل؛ إما أن يسلمه ربه أو يفديه بدفع الأرش دون القصاص فلا يقتل العبد المشهود عليه بأنه قاتل، وقد علمت من هذا الكلام أن المصنف أضاف (قَتْلُ) إلى الفاعل، وحذف المفعول.

وَعَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ مَوْتِ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ قَبْلَ الآخَرِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ..

فابن القاسم يثبت المال دون النكاح والنسب، وقال أشهب: لا يصح الميراث إلا بعد ثبوت النكاح ولا يثبت ذلك، وقد تقدم هذا في كلام المصنف في النكاح.

ص: 525

وَعَلَى الْمَوْتِ وَلا زَوْجَةَ وَلا مُدَبَّرَ فِي ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ قَوْلانِ

هذا معطوف أيضاً على (السَّرِقَةِ) أي: ولو شهد رجل وامرأتان على المدبر، ونحو المدبر الموصى بعتقه، وتزويج البنات وغير ذلك، والقولان في الوصايا؛ الأول من المدونة، قال: وإن شهدت امرأتان مع رجل على موت ميت فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبد ونحوه، وليس له إلا قسمة المال فجائزة شهادتهما، وقال غيره: لا تجوز، وجعل صاحب المقدمات هذين القولين قاعدة فقال: المشهور من المذهب أن الشهادة إذا رد بعضها للسنة جاز فيها ما أجازته السنة، وقيل: إنها ترد كلها، وذلك قائم من المدونة من قوله في شهادة النساء للموصى: أن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز إن كان فيها عتق وأبضاع نساء.

ومفهوم المدونة وكلام المصنف أنه لو كان هناك عتق أو زوجة أو نحوهما لم تقبل الشهادة بالاتفاق، قال بعضهم: ويقوم من ذلك مثل ما في الواضحة عن ابن الماجشون في الشاهد العدل يشهد أن فلاناً قتله فلان ونحن في سفر، فمات فقضى ودفناه: أنه لا قسامة فيه بالشاهد العدل. قال: وإنما تكون القسامة إذا كان الموت معروفاً، أرأيت لو جعلت القسامة بشهادته على القتل الغائب فأقسم الولاة وقتلوا أيعتق أم ولده ومدبره ويفرق بينه وبين زوجته بالواحد؟! هذا لا يكون.

أصبغ: ويستأني السلطان بذلك، فإن جاء ما هو أثبت من هذا وإلا حكم في ذلك بالقسامة مع الشاهد، وبموته وتعتد زوجته وأم ولده وينكحن، قال: وقد قيل: يقسم ولاتته ويقتل قاتله، ولا يموت في المرأة ولا في رقيقه، قال: وهذا أضعف الأقوال.

وَلَوْ أَقَامَ شَاهِداً فَطُولِبَ بِالتَّزْكِيَةِ أُجِيبَ إِلَى الْحَيْلُولَةِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ

لما فرغ من مراتب الشهادة شرع فيما يترتب عليها قبل تمامها، وكلامه صريح في أن المسألة مفروضة في استحقاق المعينات، واعترض ابن عبد السلام ما ذكره المصنف من

ص: 526

الحيلولة بالشاهد المجهول الحال، وهي إنما تكون بشاهدين باتفاق أو بشاهد واحد مقبول ولم يرد المستحق أن يحلف معه، بل ذكر أن له شاهداً آخر انتهى.

ووقع في بعض النسخ: (شَاهِديْنِ) وهو الذي في الجواهر ولا إشكال عليها، على أنه وقع في كلام عبد الحق وغيره نحو كلام المصنف أنه يحال بالشاهد وإن لم تثبت عدالته، وذكر غير واحد ممن صنف في الأحكام أن الذي به القضاء: لا يكون الإيقاف إلا بشاهدين وحيازتهما لما شهدا به.

واختلف الأندلسيون في الواحد العدل؛ فأوجب ذلك به عبد الله بن يحيى وأبو صالح، وروي عن ابن لبابة وعن سحنون، وبه قال ابن القاسم في سماع عيسى؛ لأنه قال فيمن ادعى زيتوناً بيد رجل وأقام شاهداً: فإن كان عدلاً حلف القائم وأخذه، وإن كان الحاكم ممن لا يقضي بالشاهد واليمين وقف ذلك.

وفي أحكام ابن بطال: لا تجب العقلة إلا بشاهدين، وقاله ابن لبابة أيضاً وغيره.

عياض: وتؤول على قول ابن القاسم، وقال ابن بطال: وهو قول ابن القاسم، ولابن العطار في وثائقه: لا تجب العقلة بشاهد واحد، لكن يمنع من إحداث بنيان أو بيع أو غيره، ولا يخرج عن يده، وفي مسائل ابن زرب: كل ما يغاب عليه من العروض وغيرها يوقف بشاهد عدل، بخلاف الأصول لا تعقل إلا بشاهدين وحيازتهما.

ابن سهل: الذي عليه الفتوى: إن كانت الدعوى في دار اعتقلت بالقفل، وإن كان في أرض منع من حرثها بعد التوقيف، وإن كانت في شيء مما له خراج وقف الخراج، وإن كانت حصته فيدار أو أرض اعتقلت الدار كلها والأرض وجميع الكراء فيما له كراء. وقيل: يوقف من الكراء ما يقع للحصة المدعى فيها فقط، ويدفع سائره إلى [675/ أ] المدعى عليه، قال: والأول أصوب عندي؛ وكان سحنون يؤجل المعقول عليه في الإخلاء اليومين والثلاثة.

ص: 527

وإن سأله أن يترك فيها ما ثقل عليه إخراجه فعل، ثم يغلقها ويطبع عليها ويكون المفتاح عنده، وإن كانت في غير الحاضرة بعث أميناً يغلقها عليه.

وَلا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ أُجْرَةِ الْعَقَارِ.

ابن عبد السلام: لعل معناه إذا سبق عقد الكراء الخصام، وأما إن أراد أن يعقد الكراء بعد الشروع في الخصام فلا يبعد ذلك على ظاهر المدونة، وفي كتب الأحكام خلاف ذلك. انتهى.

وذكر في غلة المعتقل ثلاثة أقوال:

أولها: أنها للمدعي وهو قول ابن القاسم.

والثاني: مذهب المدونة أن الغلة للذي كانت في يده حتى يقضى بها للطالب؛ لأنها لو هلكت كان ضمانها من المطلوب.

الثالث: في الموطأ أنها للأول إلا أن يثبت حق الثاني.

وَتُحَالُ الأُمَةُ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ إِلا أَنْ يَكُونَ مَامُوناً عَلَيْهَا، وَقِيلَ: تُحَالُ الرَّابِعَةُ مُطْلَقاً.

يعني: تحال الأمة من يد المدعى عليه إما بالشاهد العدل أو بالشاهدين كما تقدم، وإن لم يطلب ذلك المدعي؛ صيانة للفروج، إلا أن يكون السيد مأموناً فيؤمر بالكف عنها. وقيل: تحال الرابعة مطلقاً؛ أي: كان أميناً أم لا، وعزاه ابن شاس لأصبغ، وزاد عنه: وإن كانت من الزخش رأيتها كالعبد، وينبغي إن كان مكذباً لمن شهد لخصمه مصمماً على ذلك أن يحال بينهما ولو كان مأموناً؛ لأنه يعتقد أنها حلال له.

وَمَا يَفْسُدُ مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: يُبَاعُ وَيُوقَفُ ثَمَنُهُ إِنْ كَانَ شَاهِدَانِ، وَيُسْتَحْلَفُ وَيُخَلَّى إِنْ كَانَ شَاهِدُ ..

(وَيُسْتَحْلَفُ) أي المدعى عليه، ما يستحق من هذا شيء.

ص: 528

(وَيُخَلَّى) أي: المدعى فيه تحت يد المدعى عليه، وتبرأ منه بقوله:(قَالُوا) لإشكاله، وذلك لأن الحكم كما يتوقف على الشاهد الثاني فكذلك يتوقف على عدالة الشاهدين؛ فإما أن يباع ويوقف ثمنه فيهما، أو يخلى بينه وبين من هو بيده فيهما.

وأجاب صاحب النكت: بأن مقيم العدل قادر على إثبات حقه بيمينه، فلما ترك ذلك اختياراً صار كأنه مكنه منه بخلاف من أقام شاهدين أو شاهداً ووقف ذلك القاضي لينظر في تعديلهم لا حاجة عليه في ذلك؛ لعدم قدرته على إثبات حقه، وأشار المازري إلى فرق آخر وهو أن الشاهدين المجهولين أقوى من الواحد؛ لأن الواحد يعلم قطعاً الآن أنه غير مستقل، والشاهدان المجهولان إذا عدلا فإنما أفاد تعديلهما الكشف عن وصف كانا عليه حين الشهادة، ويحتمل أن وجه الإشكال الذي أراده ما ذكر ابن عبد السلام مقتصراً عليه فإنه قال: إنما تبرأ منه لأنهم مكنوا من الطعام من هو بيده بعد قيام شاهد ولم يمكنوه منه، بل يباع ويوقف ثمنه إن قام له شاهدان، والشاهد أضعف.

قال: فإن قلت: ولأجل أن الشاهد الواحد أضعف من الشاهدين أبقي الطعام بيد المدعي عليه؛ لأنه إذا ضعفت الدعوى لضعف الحجة ضعف بسبب ذلك أثرها، فإبقاء الطعام بيده ليس هو لما توهم من تقديم الأضعف على الأقوى، بل عين ترجيح الأقوى، وأجاب عن ذلك: بأنه لو كان صحيحاً للزم مثله فيما يخشى فساده أن يحلف من هو بيده ويترك له يفعل فيه ما أحب، قال: ويجاب عن أهل المذهب بأن ما يخشى فساده قد تعذر القضاء بعينه للمدعي لما يخشى عليه من الفساد قبل ثبوت الدعوى، فلم يبق إلا النزاع في ثمنه، فهو إذا كدين على من هو بيده فيمكن منه بعد أن يحلف؛ ليسقط حق المنازع في تعجيله له، ولا يلزم مثل ذلك فيما أقام عليه شاهدان؛ لأن حق المدعي فيه أقوى من حق المدعى عليه.

ص: 529

وَيَشْهَدُ الأَصَمُّ فِي الأَفْعَالِ، وَالأَعْمَى فِي الأَقْوَالِ

قدم المصنف الأصم للاتفاق عليه، وللإيماء إلى الاستدلال على أبي حنيفة والشافعي في عدم قبولهما شهادة الأعمى، والخلاف مبني على أنه هل يمكن أن يحصل له علم ضروري بأن هذا صوت فلان أم لا، واحتج مالك للقبول بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" فأمر بالإمساك عند ندائه وهو لا يعلم إلا بالصوت، وبأن الناس كانوا يأخذون عن أزواجه صلى الله عليه وسلم وهم إنما يسمعون منهن من وراء حجاب.

ربيعة: ولو لم تجز شهادة الأعمى لما جاز وطء أمته ولا زوجته، لأنه لا يعرفها إلا بكلامها.

وَفِي الاعْتِمَادِ عَلَى الْخَطِّ فِي ثَلاثَةِ مَوَاضِعَ- خَطُّ الْمُقِّرِ، وَخَطُّ الشَّاهِدِ الْمَيِّتِ أَوِ الْغَائِبِ، وَخَطُّ نَفْسِهِ- طَرِيقَانِ: الأُولِ: إِجْمَالُ الْمَذْهَبِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا: تَجُوزُ فِي الأَوَّلِ خَاصَّةً، وَرَابِعُهَا: وَفِي الثَّانِي. وَالْغَيْبَةُ الْبَعِيدَةُ قِيلَ: مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَقِيلَ: مِثْلُ مَكَّةَ مِنَ الْعِرَاقِ ..

هكذا حكى ابن شاس الطريقين، و (طَرِيقَانِ) مبتدأ خبره (وَفِي الاعْتِمَادِ).

وفي بعض النسخ (الأُولَى: إِجْمَالِيَّةُ) وفي بعضها: (الأُولِ: إِجْمَالي) وهما على تأنيث الطريق وتذكيره، وفي بعض النسخ:(الأُولَى: إِجْمَالِي) أي: طريق إجمالية، وفي بعضها:(الأُولَى: إِجْمَالُ) أي: ذات إجمال.

وقوله: (ثَالِثُهَا .. إلخ) فيكون القول الأول الجواز في الثلاثة، والثاني عكسه، والثالث: الجواز في خط المقر دون الآخرين، والرابع: تجوز في خط المقر وخط الشاهد الغائب أو للميت ولا تجوز في خط نفسه، وقد علمت أن الأول أقواها والثاني يليه؛ لأن كل من قال بالإجازة في الأخير أجاز فيهما.

ص: 530

وفهم من قول المصنف: (الْمَيِّتِ أَوِ الْغَائِبِ) أنها [675/ ب] لا تجوز على الحاضر، وكذلك الغائب القريب، لأن امتناع الشاهد من أداء شهادته مع قرب موضعه من القاضي ريبة، فلذلك اختلف في تحديد الغيبة على ما ذكره المصنف، والتحديد بمسافة القصر لابن الماجشون، والتحديد الثاني لأصبغ.

ابن عبد السلام: والأحسن قول سحنون عدم التحديد إلا فيما ينال الشاهد فيه المشقة، والقاضي يعلم ذلك عند نزوله، هذا ما فهمته من كلامه وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة يتنزل منزلة البعد، وإن كان ما بين العملين قريباً؛ لأن حال الشاهد يعلم في بلده وعند قاضيه، ولا يعلم حاله في غير بلده، وفيه مع ذلك ضعف؛ فإن الذي يشهد على خطه كالناقل عنه، ولابد أن يعدل الناقل من نقل عنه، أو تكون عدالته معلومة عند القاضي.

الثَّانِيةُ: تَفْصِيلُ؛ أَمَّا عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَجَائِزَةُ كَإِقْرَارِهِ وَلا يَحْلِفُ عَلَى الأَصَحِّ

ظاهره أنه يتفق هنا على القبول، وكذلك قال ابن المواز وابن سحنون. قال في البيان: لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما روي عن محمد بن عبد الحكم: لا تجوز الشهادة على الخط، وأطلق.

ابن عبد السلام: وما حكاه من الخلاف في اليمين ليس بجيد؛ فإن الذين ذكروا الخلاف في الحلف إنما هم أصحاب الطريق التي ذكروا فيها الخلاف في إعمال الشهادة على خط المقر، ومن رأى الاتفاق على إعمالها لم يحتج إلى زيادة اليمين. وكان حق المصنف أن يذكر الخلاف في اليمين في الطريق الأول لا في هذه.

وفي الجلاب: إذا ادعى رجل على رجل دعوى فأنكرها فشهد له شاهدان على خطه دون لفظه ففيها روايتان: إحداهما أنه يحكم له بالشهادة على الخط، والأخرى أنه لا يحكم بها.

ص: 531

وإذا قلنا أنه يحكم له بالشهادة على الخط فهل عليه يمين مع الشاهد أم لا؟ فيها روايتان: إحداهما أنه يحكم له بمجرد الشهادة على الخط، والأخرى أنه لا يحكم بمجرد الشهادة على الخط حتى يحلف معها فيستحق حقه بالشهادة واليمين.

ومنشأ الخلاف هل يتنزل الشاهدان على خطه منزلة الشاهدين على الإقرار، أو منزلة الشاهد فقط لضعف الشهادة على الخط؟ وإذا قلنا بإعمال الشهادة على خط المقر ففي الواضحة: عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: لا تجوز في طلاق ولا عتاق ولا حد من الحدود ولا كتاب قاض إلى قاض، وإنما تجوز في الأموال فقط، قالوا: وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا الشاهد مع اليمين فلا تجوز على الخط، وحيث تجوز تجوز، ولمالك في العتبية والمختصر في امرأة كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له: إن وجدت من يشهد لها على خطه نفعها.

ابن رشد: فكان من أدركت من الشيوخ يقول: ما حكى ابن حبيب هو مذهب مالك لا خلاف فيه، وأن معنى قول مالك في العتبية والمختصر:"نفعها ذلك" أي: تجب لها اليمين على الزوج، قال: وعندي أن كلام ابن حبيب إنما هو في الشهادة على خط الشاهد لا على خط المقر، بل هي جائزة على خطه أنه طلق أو نكح أو عتق.

وفي أحكام ابن سهل: عن محمد بن الفرج مولى ابن الطلاع أنه قال: الأصل في الشهادة على الخطوط من قول مالك وأكثر أصحابه أنها لا تجوز في الحقوق والطلاق والأحباس وغيرها.

ابن رشد: ومعنى الشهادة على الطلاق إذا كان الخط بإقراره على نفسه بأنه طلق زوجته، مثل أن يكتب إلى رجل يعلمه أنه طلق زوجته، أو يكتب إلى زوجته بذلك على هذا الوجه فيشهد لها على خطه، وأما إن كان الكتاب إنما هو بطلاقه إياها ابتداءً فلا يحكم عليه به، إلا

ص: 532

أن يقر أنه كتب به مجمعاً على الطلاق، وفي قبول قوله أنه كتب غير مجمع على الطلاق بعد أن أنكر أن يكون كتبه اختلاف.

فروع:

الأول: قال في البيان: شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها، وإقراره على نفسه شهادة عليها، فإذا كتب الرجل شهادته في ذكر الحق المكتوب عليه، أو كتب ذكر الحق ولم يكتب فيه شهادته فقد أقر على نفسه؛ إذ لا فرق بين أن يكتب "لفلان علي كذا، أو لفلان على فلان كذا ويسمي نفسه". وإن كتب ذكر الحق على نفسه بيده ثم كتب فيه شهادته فهو أقوى في الإقرار؛ لأنه إقرار بعد إقرار، قال: ونزلت في أيام ابن لبابة وأفتى بخلاف معاصريه بعدم الجواز، وحكاه عن مالك من رواية ابن نافع، قال: وهو غلط؛ لأن الموجود في المبسوط من قول ابن نافع وروايته أنها جائزة وإنما الخلاف إذا كتب شهادته في ذكر الحق على أبيه، أو أقر أن شهادته فيه وزعم أنه كتبها بغير حق، أو أنكرها فشهد على خطه فقال مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق؛ لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه، وقال ابن الماجشون: ليس ما شهد به على غيره كما شهد به على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بالإقرار سوى خط شهادته، ومحمله محمل الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب الأول. ابن رشد: والثاني أقيس.

الثاني: إذا ادعى رجل على رجل بمال فأنكر، فأخرج المدعي صحيفة مكتوبة بإقرار المدعى عليه وزعم أنها خطه فأنكره، وطلب المدعي أن يجبر المدعى عليه أن يكتب بحضرة العدول ويقابلوا ما كتبه بما أظهره المدعي فأفتى عبد الحميد بعدم جبره، وأفتى اللخمي بجبره على ذلك على أن لا يطول تطويلاً لا يمكن أن يستعمل فيه خطاً غير خطه، واحتج المازري للأول بأن إلزام المدعى عليه ذلك كإلزامه إحضار بينة تشهد عليه بما قاله خصمه، وهو غير لازم قطعاً، وأشار اللخمي إلى الفرق بأن البينة قد يقطع

ص: 533

بكذبها؛ فلا يلزمه أن يسعى في أمر يقطع ببطلانه، بخلاف الذي يكتب [676/ أ] خطه ويطول تطويلاً يؤمن معه التضييع، ثم البينة تقابل ما كتبه بما أحضره المدعي وتشهد بموافقته أو مخالفته.

الثالث: إذا أقام شاهداً واحداً على الخط فروايتان حكاهما ابن الجلاب، وهما مبنيتان على أنه إذا شهد له اثنان هل يحتاج إلى يمين أم لا؟ فمن قال: لا يحتاج إلى يمين أعمل الشهادة هنا، ومن قال: يحتاج أبطل الشهادة هنا، وإذا قلنا: يحكم له به فيحتاج إلى يمينين، يمين مع شاهده، ويمين أخرى ليكمل السبب.

الشرمساحي في شرح الجلاب: وصح أن يحلف بيمينين في حق واحد؛ لأنهما على جهتين مختلفتين لا على جهة واحدة.

وَأَمَّا الثَّانِي فَرِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا جَائِزَةُ، وَضَعَّفَهَا مُحَمَّدُ بِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشْهِدْهُ عَلَيْهِا، وَصَوَّبَهُ الْبَاجِيُّ إِلا فِي الأَحْبَاسِ وَنَحْوِهَا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِي إِخْبَارِهَا وَلا يَتَسَاهَلُ فِي كِتَابَتِهَا ..

يعني: وأما القسم الثاني وهو الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت.

وجعل المصنف المشهور من الروايتين أو أشهرهما الجواز على اختلاف النسخ، وتبع في ذلك صاحب البيان؛ لأنه قال: لم يختلف قول مالك في الأمهات المشهورة في إعمالها وإجازتها، وروي عنه أنها لا تجوز، وإليه ذهب محمد.

وقال الباجي: مشهور قول مالك أنه لا تجوز الشهادة على خط الشاهد، وروى ابن القاسم وابن وهب إجازتها، وقاله سحنون، واحتج محمد لما اختاره من رد الشهادة بما ذكره المصنف عنه أن غاية خطه أن يكون كلفظه وهو لو سمعه بنص شهادته لم يجز له نقلها عنه وصوب الباجي تضعيف محمد إلا في الأحباس، وأعاد المصنف الضمير في:(صَوَّبَ) على ما فهم من ضعفها.

ص: 534

و (الْبَاجِيُّ) هنا هو ابن رشد، وإنما التبس على المصنف كعادته، قال في البيان: والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس بحد.

وقال ابن أبي زمنين: الذي جرى به العمل أن الشهادة على الخط لا تجوز إلا في الأحباس خاصة.

قوله: (وَالْفَرْقُ .. إلخ) هو رد على كلام محمد؛ لأن محمد قاس رد الشهادة هنا على ردها في سماع الشهادة، ففرق بينهما بأن الشاهد قد يتساهل فيما يخبر به بخلاف التي يكتبها فإنه لا يعضها إلا بعد تحققها.

بعض الشيوخ: ولو كتب مع ذلك الإذن في النقل عنه لما اختلف في قبول الشهادة على خطه.

ابن عبد السلام: لعله يريد أن ينفي خلاف ابن المواز لا نفي الخلاف مطلقاً، فقد علل بعض من منع الشهادة على خط الشاهد أن الخطوط كثيراً ما يضرب عليها، فلا يقع الجزم بها، وهذه العلة لا تنتفي بكتاب الإذن في نقل الشهادة.

وَعَلَى قَبُولِهَا لَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَنْ أَشْهَدَهُ عَلَيْهَا فَقَوْلانِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: لا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ لِمَا قَدْ يَتَسَاهَلُ النَّاسُ فِي وَضْعِهَا عَلَى مَنْ لا يَعْرِفُونَ

يعني: إذا فرعنا على قبول الشهادة على الخط، فلو لم يعرف الشاهد على الخط أن الشاهد الأول وهو المشهور على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين لم يجز له أن يشهد على خطه، وهذا قول ابن زرب، والقول الثاني: الجواز بناءً على أن الشاهد لا يضع خطه إلا على من يعرف.

وقوله: (الْبَاجِيُّ) هو ابن رشد، قال: لا ينبغي أن يختلف في عدم الجواز لما قد يتساهل الناس فيه من وضع شهادتهم على من لا يعرفون. وعلى هذا فيحتاج الشاهد على الخط أن يضمن شهادته أن المشهود على خطه يعرف من عليه الحق، وهكذا قال أحمد بن سعيد.

ص: 535

تنبيه:

قالوا: ظاهر قول ابن القاسم أن الشهادة على الخط إنما تكون في معرفة الخط، ومعرفة المشهود له كمعرفة الحيوان والنبات وسائر الأشياء لا فرق بين ذلك، ووقع في كتاب القزويني أن الشهادة في ذلك إنما هي على العلم.

فرع:

قال مالك: ولا تجوز الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب حتى يقول: إنه كان في تاريخ الشهادة عدلاً ولم يزل على ذلك حتى توفي؛ احتياطاً من أن تكون شهادته سقطت بجرحة، أو كان غير مقبول الشهادة.

وَفِي قَبُولِهَا فِي غَيْرِ الأَمْوَالِ قَوْلانِ

القول بأنها تختص بالأموال لمطرف وابن الماجشون وأصبغ، قالوا: ولا تجوز الشهادة على الخط إلا حيث اليمين مع الشاهد، والقول الآخر لمالك وقد تقدم قول ابن سهل نقلاً عن ابن الطلاع، قال: الأصل من قول مالك أن الشهادة على الخط تجوز في الأحباس والطلاق وغيرهما. وفي البيان: الذي جرى به العمل واختاره الشيوخ أنها تجوز في الأحباس وما جرى مجراها مما هو حق لله تعالى وليس بحد، وذكر ابن عبد السلام عن بعضهم أنه يرى الاتفاق على قبولهم في غير الأموال.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْوُ وَلا رَيبَةُ فَلْيُشْهِدْ. قَالَ مُطَرِّفُ: ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: وَلا يُشْهِدُ حَتَّى يَذْكُرَ بَعْضَهَا، وَالأَوَّلُ أَصْوَبُ؛ إِذَ لابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ

يعني: وأما القسم الثالث؛ وهو شهادة الشاهد على خط نفسه ولا يذكر الشهادة فقال مالك أولاً: إذا كان الكتاب نقياً وليس فيه محو ولا ريبة فليشهد، وبه أخذ مطرف وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب وابن حبيب، وسحنون في نوازله.

ص: 536

مطرف: وعليه جماعة الناس، ثم رجع مالك فقال: لا يشهد حتى يذكر بعضه، وهو قوله في المدونة، قال فيها:[676/ ب] وإذا عرف خطه في كتاب فيه شهادته فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب.

وفي البيان في هذه المسألة خمسة أقوال:

الأول: أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها.

والثاني: أنها غير جائزة لا يؤديها ولا يحكم بها.

والثالث: أنها غير جائزة إلا أنه يؤديها، ولا بحكم بها.

والرابع: أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، قال: يريد والله أعلم: إذا كانت الشهادة في بطن الرق ولم تكن على ظهره؛ لأن البشر في ظهره أخفى منه في الكاغد.

والخامس: إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز أن يشهد، وإن لم يكن له بخطه إلا الشهادة لم يشهد.

قوله: (حَتَّى يَذْكُرَ بَعْضَهَا) ظاهره أنه إذا عرف خطه وذكر بعض ما فيه أنه يؤديها وينفع، وظاهر المدونة وهو المشهور عندهم أنه يؤديها ولا ينفع، وإنما ينفع إذا ذكرها كلها، وصوب جماعة المرجوع عنه بما ذكره المصنف من أنه لابد للناس من ذكل لكثرة نسيان الشاهد المنتصب، ولأنه لو لم يشهد حتى يذكرها لما كان لوضع رسم خطه فائدة.

تنبيه:

معنى اشتراط انتفاء المحو والريبة: إذا لم يكن معتذراً عنه في الوثيقة، وأما إذا كان معتذراً عنه فهو من ريبة الوثيقة على ما قاله بعض كبار الشيوخ، والتأدية عند من يقول بها مشروطة بأن يكون على بصيرة أنه لم يكتب قط مسامحة، وإن كان في بعض الأزمنة يتسامح في الكتابة، فلا يؤدي شيئاً لا يعلمه، قاله عياض وغيره.

ص: 537

فَعَلَى الأَوَّلِ يُؤَدِّيهَا وَلا يَقُولُ لِلْحَاكِمِ حَالَهُ، قَالَوا: وَإِنْ قَالَهَا فَلا يَقْبَلْهَا، وَعَلَى الثَّانِي قَالَ مَالِكُ: يُؤَدِّيهَا وَيَقُولُ حَالَهُ ..

أي: قول مالك الأول، وقال ابن شاس قالوا: تبرياً منه؛ لأنه كيف يجوز للشاهد أن يكتم الحاكم ما لو أعلمه به لم يقبلها؟ ثم إنهم قالوا: يلزمه أن يؤديها.

وروى ابن وهب في موطأه القبول إذا ذكر الشاهد حاله وهو ظاهر؛ إذ يسلم من الإشكال الذي أشار إليه المصنف.

وقال ابن عبد السلام: ولا يريد بقوله: (فَعَلَى الأَوَّلِ) التفريع على القول الأول؛ فإنه لو كان تفريعاً عليه للزمه البيان ولم ينفعه، وإنما معناه أن الذي ينبغي للشاهد أن يفعله على تقدير أن يكون مذهب القاضي هو قول مالك الأول.

خليل: وهذا كلام ليس بظاهر، ثم هو مخالف لما ذكره صاحب النوادر وابن شاس وغيرهما، وجعل ابن عبد السلام ما ذكره المصنف يقرب من مذهب المدونة، وليس هو في الحقيقة، فإن قوله في المدونة:"لا ينتفع بها الطالب" دليل على أنه يخبر الحاكم بحاله ولابد وإلا لنفعت، وهذا القول الذي حكاه المصنف قال فيه: إنه لا يقول للحاكم حاله، وهذا هو مذهب المدونة، ولكن نقص منه المصنف موضع الحاجة؛ وهو: أنه يؤديها ولا ينتفع.

ابن محرز: وكأنه يقول: هي لا تنفع عندي، ولكن ترفع للقاضي ليجتهد فيها.

وقال ابن المواز: لا يرفعها أصلا.

وجعل ابن رشد قوله في المدونة وقول ابن المواز مفرعين على القول الثاني.

وتعقب المتأخرون مذهب المدونة بأنه كيف يجوز للشاهد أن يحمل القاضي على أن يحكم بما هو عند الشاهد خطأً فيكون معيناً له على الوقوع في الخطأ ولا يجوز؟! وأجيب بأن هذا لا يلزم على القول بتصويب المجتهدين، ولهذا أخذ صاحب البيان من هذا

ص: 538

الموضوع أن مالكاً يرى أن كل مجتهد مصيب، واختلف كيف يؤديها على القول بأنه لا ينتفع بها؛ فروى أشهب أنه يقول: إن كتاباً يشبه كتابي، وأظنه إياه، ولست أذكر شهادتي ولا أني كتبتها، وقال ابن القاسم: يقول: هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها.

وَمَنْ لا يُعْرَفُ نَسَبُهُ فَلا يَشْهَدُ إِلا عَلَى عَيْنِهِ

لئلا يضع غير اسمه عليه. قال مالك في العتبية: وأحب إلي أن يشهد على من لا يعرف فإن عرفه بعضهم ففيه بعض السعة، وهكذا قال في البيان: إن شهد عليه جماعة فلمن لا يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة؛ إذ قد أمن بمعرفة بعضهم له أن يكون قد تسمى باسم غيره، وأما إذا لم يعرفه أحد فيكره لهم أن يضعفوا شهادتهم عليه؛ مخافة أن يكون تسمى باسم رجل فيقر أنه قد باع داره من هذا، أو يقر له على نفسه بحق فيكتبون شهادتهم عليه، فيشهد على خطوطهم بعد موتهم فتجوز الشهادة، وتؤخذ الدار من صاحبها أو الحق بغير حق، قال ذلك مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وذلك على مذهب من يحيز الشهادة على خط الشاهد. انتهى.

ونقل ابن مزين عن بعضهم: أنه إن كان معروفاً اكتفي باسمه واسم أبيه وقبيلته، وإن كان مجهولاً كتب اسمه واسم أبيه وجده وقبيلته ومسكنه.

ابن مزين: وليس بشيء؛ لأن المجهول قد يخاف أن يتسمى بغير اسمه وينتمي إلى غير قبيلته وإلى غير مسكنه، قال: والصواب في المجهول أن ينعت بنعته ويكتب اسمه واسم أبيه وقبيلته، فإذا جهله الشاهد حلاه بتحليته ووصفه بصفته، فإن كان حاضراً قطع عليه الشهادة، وإن كان ميتاً أو غائباً فعلى صفته، وعلى هذا اقتصر المصنف.

وَلا يَشْهَدُ عَلَى مُتَنَقَّبَةٍ حَتَّى تَكْشِفَ وَجْهَهَا لِيُعَيِّنَهَا [677/ أ] عِنْدَ الأَدَاءِ

قد تقدم قريب من هذا من كلام المصنف في كتاب النكاح، وهذا مخصوص بالنكاح. وقال في البيان في النكاح والحقوق بخلافه، فقد قال مالك: لا أرى أن يشهد

ص: 539

الرجل على من لا يعرف، ومثله لأصبغ في الخمسة، قال: وأما الحقوق من البيوع والوكالات والهبات ونحو ذلك فلا يشهد عليها في شيء من ذلك إلا من يعرفها بعينها واسمها ونسبها.

والفرق بين النكاح وما سوى ذلك أنه يخشى وإن لم يشهد على شهادتهم في الحقوق أن يموتوا فيشهد على خطوطهم فتلزم باطلاً بما لم تشهد به على نفسها.

وعلى ما جرى به العمل عندنا أنه لا يقضى بالشهادة على الخط إلا في الأحباس، ونحوها يكون النكاح والحقوق سواء.

فرع:

في كتاب ابن سحنون عن أبيه: ولو شهد على امرأة بإقرار أو نكاح أو براءة وسأل الخصم إدخالها في نساء ليخرجوها وقالوا: "شهدنا عليها على معرفة منا بعينها ونسبها، ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيرت حالها" أو قالوا: "لا نتكلف ذلك" - أنه لا بد أن يخرجوا عينها، فإن شكوا أو أيقنوا أنها بنت فلان، ولم يكن لفلان إلا بنت واحدة من حيث شهد عليها إلى اليوم جازت الشهادة، وإن قالت البينة:"شهدنا عليها متنقبة، وكذلك نعرفها، ولا نعرفها بغير نقاب" فهم أعلم بما تقلدوا؛ إن كانوا عدولاً وعينوها قطع بشهادتهم، وانظر هذا مع قول المصنف: ولا يشهد على متنقبة حتى تكشف وجهها.

وقال ابن دينار فيمن شهد على امرأة بإقرار أو بيع ولم يعرفوها بعينها، وعرفوا الاسم والنسب وقالوا:"إن كانت فلانة بنت فلان فقد أشهدتنا" فإن شهد غيرهم أنها فلانة بنت فلان حلف رب الحق على ذلك وثبت حقه.

ص: 540

وَلَوْ عَرَفَهَا رَجُلانِ فَفِي جَوَازِ أَدَائِهِ عَلَيْهِا قَوْلانِ، أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ وَلَوْ بِامْرَأَةٍ فَلا إِشْكَالَ ..

يعني: إذا دعي الرجل ليشهد على امرأة لا يعرفها لكن شهد عنده رجلان أنها فلانة، فقال ابن القاسم: لا يشهد بذلك عليها إلا على شهادتهما؛ فيكون نقل شهادة عنهما فينتفع عند تعذر أدائها ويسميهما ليعذر فيهما.

وقال ابن نافع: يشهد، ورواه عن مالك.

صاحب البيان: والذي أقول به: إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين ليشهدا عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة بنت فلان فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها وهذا كله ما لم يحصل عنده العلم، أما لو حصل عنده العلم ولو بامرأة لجاز أن يشهد كما ذكر المصنف؛ لأن خبر الواحد قد تحتف به قرينة فيفيد العلم.

وَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِ امْرَأَةٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ فَلا يُسَجَّلُ عَلَى بِنْتِ زَيْدٍ

يعني: فلا يكون للقاضي أن يسجل على بنت زيد حتى تثبت بالبينة أنها بنت زيد وكذلك لا يشهد الشهود أنها بنت زيد، وهو ظاهر؛ لاحتمال أن تكون انتسبت إلى غير أبيها.

خليل: وينبغي أن يكون الرجل كذلك قال إنه فلان ابن فلان والله أعلم.

وَيُعْتَمَدُ عَلَى الْقَرَائِنْ الْمُغَلَّبَةِ لِلظَّنِّ فِي التَّعْدِيلِ، وَالإِعْسَارِ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَضَرَرِ الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ ابن القاسم: تَجُوزُ فِي الضَّرَرِ بِالسَّمَاعِ مِنَ الأَهْلِ وَالْجِيرَانِ

يعني: أنه يجوز للشاهد في هذه الصورة أن يعتمد فيما يشهد به على الظن القوي؛ لأنه المقدور على تحصيله غالباً، ولو اشترط العلم تعطلت الأحكام غالباً، وقد تقدم الكلام على ما يعتمد عليه العدل في التعديل.

ص: 541

ويعتمد في الإعسار على صبره على الجوع ونحوه مما لا يكون إلا مع الفقر وضرر الزوجين، وإن كان قد يمكن فيه القطع لكونه من الجيران أو القرائب لكنه نادر، وقول ابن القاسم ظاهر، وقد تقدم نحوه من كلام المصنف في باب الطلاق.

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ الْفَاشِي عَنِ الثِّقَاتِ فِي الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ وَالْمَوْتِ لِلضَّرُورَةِ.

شهادة السماع تنقسم إلى قسمين:

أولها: تفيد العلم وسيأتي، والثاني: تفيد الظن، ولابد فيه من الفشو كما ذكر المصنف.

وقوله: (عَنِ الثِّقَاتِ) كذا قال ابن المواز، وظاهره أنه لا يقبل إذا كان غير الثقات، وهو قول مطرف وابن الماجشون، قالا: ولا يجوز من غير أهل العدل من سامع أو مسموع عنهم، وظاهر المدونة نفي اشتراط العدالة في المنقول عنهم إلا في الرضاع.

المازري: ولعله إنما استثنى الرضاع لأن شرط شهادة المرأتين فيه الفشو والانتشار، وهذا لا يشترط فيه النقل عن العدول؛ لأن الأخبار التي يقع بها العلم لا يشترط فيها أن يكون المخبرون عدولاً كخبر التواتر، وقيل: لابد من السماع من غير العدول مع العدل؛ لأن قصر السماع على العدل يخرجه إلى نقل الشهادة عن المعينين، وذلك باب آخر.

وأشار المصنف بقوله: (لِلضَّرُورَةِ) إلى علة قبول هذه الشهادة؛ لأن الأصل أن الشاهد لا يشهد إلا بما استفاده من الحواس، وذكر ثلاثة مواضع:

أولها: الملك؛ أي: المطلق، قال في الجواهر: إنما يشهد بالملك إذا طالت الحيازة وكان يتصرف فيه تصرف المالك من الهدم [677/ ب] ونحوه ولا ينازعه أحد. ولا يكتفي بشهادتهم أنه يحوزها حتى يقولوا: إنه يحوزها لحقه وأنها له ملك، وأما من يشتري شيئاً من سوق المسلمين فلا يجوز أن يشهد بالملك؛ لأنه قد يشتري من غير مالك.

ص: 542

المازري: والملك لا يكاد يقطع به، ومن الناس من حاول صورة فيها القطع؛ وهي: إذا صاد صيداً بحضرة بينة، ورد باحتمال أن يكون ند ممن صاده ولم يتوحش. وحاول بعضهم أخرى؛ وهي: إذا غنم من الكفار، ورد بجواز أن يكون المغنوم وديعة أو من أموال المسلمين، واشترط بعضهم أن يستفيض الخبر والحديث بكون هذا الشيء ملكاً لمن هو في يده، ومنهم من لم يشترطه.

ثانيها: الوقف نص عليه في المدونة.

قال بعض الأندلسيين: ولو شهدوا على أصل الحبس لم يكن حبساً حتى يشهدوا بالملك للمحبس يوم حبس، وتجوز شهادتهم على السماع، ولا يسمون المحبس، ولا يحتاج إلى إثبات ملك.

ثالثها: الموت، وقيد الباجي الشهادة فيه على السماع فيما بعد من البلاد، وأما ما قرب أو ببلد الموت فإنما هي شهادة بالبت، وإن كان سبب هذه الشهادة السماع، إلا أن لفظ شهادة السماع إنما يطلق عند الفقهاء على ما يقع به العلم للشاهد، ولذلك يؤدي على أنه سمع سماعاً فاشياً، وأما إذا تواتر الخبر حتى وقع له العلم فإنما يشهد على علمه. انتهى.

تنبيه:

ظاهر كلام المصنف أن شهادة السماع تكون بالملك في الانتزاع، والذي نص عليه أصحابنا أنه لا يخرج بها شيء من يد حائز، وإنما يصح للحائز كما لو ثبت على حائز لدار أنها لأبيه أو لجده، وهذا الطالب غائب فيقيم الذي هو في يده بينة على السماع في تطاول الزمان أنه اشتراها من أبي هذا القائم أو جده أو ممن صارت إليه عنهم فيثبت له بقاؤها بهذه الشهادة، واشترط في المدونة في قبول شهادة السماع لبقاء الدار في يد الحائز أن يقول الشهود: سمعنا أنه اشتراها هو وأبوه أو جده من هذا القائم فيها أو من أبيه، ولو قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولا ندري ممن اشتراها منه لم ينتفع بهذه الشهادة؛ لجواز أن يكون

ص: 543

اشتراها من غاصب، وكذا قال ابن المواز: لا تجوز شهادة السماع إلا لمن كان الشيء بيده، ولا يستخرج بها من يد حائز، وحكى ابن الحبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم وأصبغ ما يقتضي أنه يستخرج بها من اليد.

وهل يستحق بها ما ليس في حوز أحد كعفو من الأرض؟ قولان عندنا، بناهما المازري على اختلاف المذهب في بيت المال هل يعد حائزاً لما لا مالك له أم لا؟

بِشَرْطِ طُولِ الزَّمَانِ وَانْتِفَاءِ الرِّيَبِ، فَلَوْ شَهِدَ رَجُلانِ عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْقَبِيلِ مِائَةُ مِنْ أَسْنَانِهِمَا لا تُعْرَفُ لَمْ تُقْبَلْ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ وَبَاءُ فَهِيَ طُولُ، وَلا يُسَمُّونَ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ فَيَكُونَ نَقْلَ شَهَادِةٍ، قَالَ التُّونُسِيُّ: بَعْدَ يَمِينِهِ؛ إِذَ لَعَلُّهُ عَنْ وَاحِدٍ، وَيُجْتَزَأُ بِقَوْلِ اثْنَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَرْبَعَةُ؛ لأَنَّهَا كَالنَّقْلِ فَاحْتِيطَ فِيهَا ..

اعلم أن لشهادة السماع شروطاً.

أولها: طول الزمان.

مالك: ولا تجوز شهادة السماع في ملك الدار بخمس سنين.

ابن القاسم: وإنما تجوز فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة، حكاه صاحب المفيد.

ابن زرقون: وهو ظاهر المدونة، ونقل عن ابن القاسم عشرون سنة.

ابن رشد: وبه العمل بقرطبة.

واختلف في الخمس عشرة على الثلاثة الأقوال التي ذكرها المصنف، والقول بأنها طول لمطرف وابن الماجشون وأصبغ، ومقابله لابن القاسم في الموازية، والثالث نقله التونسي، وجعله بعضهم تقييداً للثاني.

ص: 544

الشرط الثاني: السلامة من الريب فلذلك لو شهد اثنان بالسماع وفي القبيل مائة رجل من أسنانهما لم تقبل شهادتهما ولو طال الزمان، إلا أن يكون علم ذلك فاشياً فيهم، وأما إن شهد بذلك شيخان وقد باد جيلهما لقبلت شهادتهما وإن لم يشهد بذلك غيرهما، قاله ابن القاسم، وهو مأخوذ من مفهوم كلام المصنف، وعارض بعضهم عدم القبول هنا فيما إذا انفرد شاهدان برؤية هلال رمضان في الصحو، وفرق بأن السماع لا كلفة فيه على السامع ولا داعية تدعو للسماع، بخلاف الهلال؛ فانظره.

وقوله: (وَلا يُسَمُّونَ مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ) هو ظاهر التصور.

الشرط الثالث: أن يحلف، قاله غير واحد؛ لاحتمال أن يكون أصل السماع عن شاهد واحد ولا يقوم به الحق إلا مع اليمين، ونسبة المصنف اليمين للتونسي ليست بظاهرة، وليس ذلك في التعليقة، ولعله لما رأى ابن شاس ذكر اليمين بعد كلام نسبه للتونسي أعتقد أن ذلك للتونسي، وقد بين ابن شاس أن ابن محرز هو الذي نص على اليمين.

الرابع: أن يشهد بذلك اثنان ويكتفي بهما على المشهور، واشترط عبد الملك أربعة كما ذكره المصنف عنه.

وَالْمَشْهُورُ جَرْيُهَا فِي النِّكَاحِ وَالْوَلاءِ وَالنَّسَبِ. أَصْبَغُ: يُؤْخَذُ الْمَالُ وَلا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ ..

يعني: أن المشهور جريها في هذه الثلاث مسائل، ومقتضى كلامه أن المشهور ثبوت النسب والولاء. ونحوه [678/ أ] ذكره ابن المواز فقال: اختلف قول مالك في شهادة السماع في الولاء والنسب، وذهب أصبغ إلى أنه يثبت المال دون النسب والولاء، وقال نحوه ابن القاسم، ولا يعجبنا هذا، وقول مالك وابن القاسم أنه يقضي له بالسماع بالنسب والولاء، نقله أبو محمد في كتاب الأقضية.

ص: 545

وقال في البيان: مذهب ابن القاسم أن شهادة السماع إذا لم تفد العلم لا تعمل؛ لأنه لم يقض بها في الولاء وإنما حكم بها في المال لأنه ليس له طالب، ولا تفيد فيا لحبس إلا مع القطع على المعرفة أنه محترم بحرمة الأحباس، ولا في الأشرية القديمة إلا مع الحيازة.

وهذا الذي نسبه لابن القاسم هو مذهب المدونة ففيها: وإن شهد شاهدان أنهما سمعا أن هذا الميت مولى لفلان هذا لا يعلمان له وارثاً غير هذا، أو شهد شاهد واحد أنه مولاه أعتقه- استؤني بالمال، فإن لم يستحقه غيره قضي له به مع يمينه، ولا يجر بذلك الولاء.

ونقل عن أشهب أنه يجر الولاء، لكن قيد المدونة بعض القرويين بما إذا كانت الشهادة في غير بلد الموت، قال: لاحتمال أن يستفيض ذلك عن رجل واحد، وأما بالبلد فيبعد استفاضة ذلك عن رجل واحد فيقضي في ذلك بالمال والولاء؛ أي: كما في الموازية، وهذا يؤدي تشهير المصنف؛ فاعلمه.

أبو الحسن: وانظر من أين أخذ مذهب ابن القاسم في الحبس، ثم قال: قوله في المدونة: والشهادة على السماع في الأحباس جائزة لطول زمانها، يشهدون:"إنا لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس تحاز حوز الأحباس" فانظر قوله: "إن هذه الدار حبس" هل عرفوا أنها تحاز فتكون كما قال ابن رشد؟ والظاهر أن قوله: "إنها حبس تحاز" مسموع كله لا معروف، وفي الأمهات:"أن هذه الدار حبس، وأنها تحاز كحوز الأحباس" فانظر هل يظهر منه تأويل ابن رشد؟

أبو عمران: ويشترط في شهادة السماع على النكاح أن يكون الزوجان متفقين عليه، وأما إذا أنكر أحدهما فلا، ومسائل قبول شهادة السماع كثيرة، وينسب لابن رشد وولده شعر يتضمن تلك المسائل.

ص: 546

ابن عبد السلام: ولست أدخل تحت عهدة نسبة القطعتين إلى من ذكر، ولكن أكثر ما احتوتا عليه منقول.

والذي نسب لابن رشد:

أَيَا سَائِلِي عَمَّا يَنْفُذُ حُكْمُهُ

وَيَثْبُتُ سَمْعاً دُونَ عِلْمٍ بِأَصْلِهِ

فَفِي الْعَزْلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْكُفْرِ بَعْدَهُ

وَفِي سَفَهٍ أَوْ ضِدِ ذَلِكَ كُلِهِ

وَفِي الْبَيْعِ وَالإِحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ

وَالرَّضَاعِ وَخُلْعٍ وَالنِّكَاحِ وَضِدِّهِ

فِي قِسْمَةٍ أَوْ نَسَبٍ وَوِلايَةٍ

وَمَوْتٍ وَحَمْلٍ وَالْمُضِرِّ بِأَهْلِه

وزاد عليه ولده ستاً فقال:

وَمِنْهَا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَاعْلَمَنْ

وَمِلْكُ قَدِيمُ قَدْ يُضْمَّنْ بِمِثْلِهِ

وَمِنْهَا وِلادَةُ وَمِنْهَا حِرَابَةُ

وَمِنْهَا الإِبَاقُ فَلْيُضَمَّ لِشَكْلِهِ

فَدُونَكَهَا عِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدِ

تَدُلُّ عَلَى حَذْقِ الْفَقِيهِ وَنُبْلِهِ

أَبِي نَظَمَ الْعِشْرِينَ مِنْ بَعْدِ وَاحِدٍ

فَأَتْبَغْتَهَا سِتاً تَمَاماً لِفِعْلِه

فهذه سبعة وعشرون موضعاً.

قوله: "أو ضد ذلك كله" يعني: الإسلام والرشد والعدالة. وقوله: "والوصية" يريد: ما حكاه في الكافي: إذا شهد أنه لم يزل يسمع أن فلاناً كان في ولاية فلان وأنه كان يتولى النظر له والإنفاق عليه بالإيصاء من أبيه أو بتقديم قاض عليه، وإن لم يشهد أبوه بالإيصاء ولا القاضي بالتقديم، ولكنه علم ذلك بالاستفاضة من العدول وغيرهم- أن ذلك جائز، ويصح بذلك تسفيهه.

وزيد الملا والعدم والأسر والعتق واللوث الموجب للقسامة. وفي المتيطية عن ابن عتاب: أن شهادة السماع في خطوط الشهود الأموات، وفي حياطة الأحباس جائزة.

ص: 547

وَأَمَّا السَّمَاعُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ فَقَالَ ابن القاسم: هُوَ مُرْتَفِعُ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ مِثْلَ أَنَّ نَافِعاً مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِذَلِكَ أَصْلاً فَقِيلَ له: أَيَشْهَدُ أَنَّكَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ لا يَعْلَمُ أَبَاكَ، وَلا أَنَّكَ ابْنُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ وَيَقْطَعُ بِهَا وَيَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ ..

هذا هو النوع الثاني من شهادة السماع المفيد للعلم، وهو متفق على قبوله، وظاهر كلام الفقهاء فيه عموم حكمه في الأصوات، وأنه من العلم التواتري، وقد علم أن خبر التواتر يشترط فيه أن يكون خبراً عن أمر محسوس.

وَالتَّحَمُّلُ حَيْثُ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ

يعني: أن تحمل الشهادة حيث يفتقر إليه فرض على الكفاية؛ أما أنه فرض فلأنه لو تركه الناس كلهم أدى إلى إتلاف الحقوق، وأما أنه على الكفاية فلأن الفرض يحصل بالبعض.

وإذا كان على الكفاية فيتعين في حق من انفرد كما في سائر فروض الكفاية.

وضمير (إِلَيْهِ) عائد على التحمل، واحترز من أن يدعى الشاهد إلى تحمل شهادة لا يتعلق بها حكم، ودليله قوله تعالى:(وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) بعد قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ)[الطلاق: 2] وظاهره في التحمل. وأما قوله تعالى: (وَلا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) فقد اختلف فيه هل المعنى: إلى الأداء وهو تأويل مالك، أو إلى الشهادة أو إليهما- على ثلاثة أقوال؟ واستظهر الثاني؛ لأن الآية [678/ ب] إنما وردت فيما يفعله المتبايعان وقت البيع، ولأن عقبه:(وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)[البقرة: 282] والكتاب إنما هو عند التحمل، ويرجح قول مالك بأن الشاهد حقيقة إنما هو من تحمل لا من دعي لها، ذكره أهل الأصول في مسائل الاشتقاق. ويجاب عنه بما قاله بعضهم من أن التفصيل في المشتق إنما هو إذا كان الوصف محكوماً به، وأما إذا كان متعلق

ص: 548

الحكم كقوله سبحانه: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5] فهو حقيقة في الجميع فيما حصل وفيما سيحصل.

وَالأَدَاءُ مِنْ نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ إِنْ كَانَا اثْنَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَلا تَحِلُّ إِحَالَتُهُ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَزِئِ الْحَاكِمُ بِاثْنَيْنِ فَعَلَى الثَّالِثِ ..

لقوله تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)[البقرة: 283] وشرط في الوجوب شرطين:

أولهما: أن يكون قريباً من موضع الحاكم كالبريدين، ونحوه لسحنون.

ثانيهما: أن يكونا اثنين، فلو كانوا أكثر بقي على الكفاية لحصول الغرض بالبعض، فإن لم يكتف الحاكم باثنين؛ إما لريبة وإما لمانع في أحدهما تعين على من بقي حتى يثبت الحق.

وقوله: (وَلا تَحِلُّ) يعني: ولو كان على الحق شاهدان فامتنع أحدهما وأحال المشهود له على اليمين مع صاحبه لم يحل ذلك؛ لأنه أدخله في عهدة اليمين وألزمه ما لا يلزمه.

وَلا يَلْزَمُ مِنْ أَبْعَدَ

هذا تصريح منه بمفهوم قوله: (نَحْوِ الْبَرِيدَيْنِ) وهذا التحديد لا يقوم عليه دليل، والأصل أن ما لا كبير مشقة فيه على الشاهد يجب الأداء منه بخلاف ما عظمت المشقة فيه.

وَلا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ فِيمَا لَزِمَهُ إِلا فِي رُكُوبِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَابَّةُ وَعَسُرَ مَشْيُهُ

يعني: إذا كان على نحو البريدين لم يجز له أن ينتفع بشيء، واستثنى من ذلك ركوب الدابة بشرطين: ِأن لا يكون للشاهد دابة وأن يعسر مشيه، فإن لم يحصل الشرطان فنص سحنون على سقوط شهادتهم.

ص: 549

وَيَجُوزُ فِيمَا لا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَامَ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ دَابَّةٍ وَنَفَقَةٍ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجَزْ، وَقِيلَ: لا تَجُوزُ فِيهِمَا وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ فِي غَيْرِ الْمُبَرِّزِ.

ضمير التثنية المجرور بـ (في) راجع إلى حالتي العجز وعدمه والأقرب جواز ذلك في الوجهين ليسارة المنفعة، ولأن الشاهد لم يستفضل شيئاً في ذلك، ولنأت بكلام سحنون وكلام صاحب البيان عليه فهو الذي حكاه ابن شاس وقصد المصنف اختصاره لما فيه من الفوائد، قال سحنون في الشهود يدعون إلى الشهادة في غير البلد فيقولون:" يشق علينا النهوض إلى الحاضرة" فيعطيهم المشهود له دواباً وينفق عليهم: فإن كانوا على مثل البريد أو البريدين وهم يجدون الدواب والنفقة فلا يأخذوا ذلك منه، فإن فعلوا سقطت شهادتهم، وإن كانوا لا يجدون جاز ذلك وقبلوا، ولو أخبروا بذلك القاضي كان أحسن، وإن كان على مثل ما تقصر فيه الصلاة فأكثر لم يشخص الشهود من مثل ذلك ويشهدون عند من يأمرهم القاضي به في تلك البلاد، ويكتب بما يشهد به عنده إلى القاضي.

ابن رشد: وخفف ذلك ابن حبيب إذا كان قريباً، وكان أمراً خفيفاً، وينبغي أن يحمل على التفسير؛ فالقريب على قسمين: قريب جداً تقل فيه النفقة ومؤنة الركوب- لا يضر فيه الشاهد ركوب الدابة ولا أكل الطعام، وغير قريب جداً فهذا يبطل الشهادة إن ركب دابه المشهود له وله دابة أو أكل طعامه عند سحنون. وقيل: لا يبطل ذلك وهو ظاهر قول أصبغ ومطرف في الشاهد في الأرض النائية يحتاج إلى تعيينها بالحيازة لها: أنه لا بأس أن يركب دابة المشهود له ويأكل طعامه.

ابن رشد: وهو الأظهر؛ إذ ليس هذا مما يتمول ليسارته، وإن كان الشاهد لا يقدر على النفقة، ولا على اكترائه دابة، ويشق عليه الإتيان راجلاً فلا تبطل شهادته إذا لم يسقط عن نفسه ما هو واجب، وقد قيل: تبطل، وأما إن كان من البعد بحيث لا يلزمه الإتيان ولم يقم القاضي من يشهد عنده بالموضع الذي هو به فلا يضره أكل طعام المشهود له وإن كان

ص: 550

له مال، وكذلك إن احتجب السلطان عن الشاهد لم يضره أن ينفق عليه المشهود له ما أقام منتظراً له إذا لم يجد من يشهد على شهادته ثم ينصرف، وقد قيل: تبطل بذلك لتوفير نفقتهم، قال: وهو الأظهر، قال: فانظر على هذا أبداً إذا أنفق المشهود له على الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق عليه في موضع يلزمه ذلك فلا يجوز إلا فيما يركب إذا لم تكن له دابة ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف أنه يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له إذا لم تكن له دابة وشق عليه جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد، ولا موسر ولا معسر، وإنما يفرق ذلك حسبما ذكر في النفقة والركوب إذا كانت له دابة.

وَتَثْبُتُ الأَمْوَالُ وَحَقُوقُهَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينٍ

لما رواه مالك مرسلاً، ومسلم وغيره مسنداً أنه عليه الصلاة والسلام قضى باليمين مع الشاهد.

قال صاحب الاستذكار: وقد أسنده جماعة ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يرفعه، وقد صح من حديث ابن عباس مرفوعاً، وروى ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، [679/ أ] ولم يرو عن واحد مخالفته، وقاله جماعة من التابعين منهم الفقهاء السبعة، وخالف في ذلك أبو حنيفة ويحيى بن يحيى من أصحابنا وزعم أنه لم ير الليث يفتي به، وخصصناه بالأموال؛ لأن عمرو بن دينار راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وذلك في الأموال.

وقوله: (وَحَقُوقُهَا) أي: كالغصب والتعدي والجنايات والشركة والإبراء من الدين والمصالحة عليه والإجارة وهبة الرقاب والمنافع.

ص: 551

وقامت المرأتان مقام الرجل لأن الله تعالى جعلهما عوضه فقال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)[البقرة: 282].

وَيُطَالَبُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالشَّاهِدِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاقِ وَالْعِتْقِ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ فَإِنِ امْتَنَعَ فَالأَخِيرَةُ أَنْ يُحْبَسَ لَهُمَا إِلا أَنْ يُحْكَمَ بِالشَّهَادِةِ، وَقَالَ ابن القاسم: يُحْبَسُ سَنَةً، وَقَالَ سحنون: أَبَداً ..

أي: إذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق، أو ادعى العبد على سيده العتق لم يطالب بتلك الدعوى إلا أن يقيم كل واحد منهما شاهداً أو امرأتين فحينئذ يكلفه القاضي إما بالإقرار أو بالحلف، فإن لم يقر وحلف برئ، ومساواته النكاح لهذين خلاف المعروف، نعم حكى ابن الهندي في وثائقه قولاً بوجوب اليمين في النكاح كما يجب في غيره؛ لأن النكاح أشب الأشياء بالبيوع، واستقرأ أيضاً مما لابن القاسم في الموازية ومما في الواضحة، أما الموازية فلأن فيها في دعوى الرجل على المرأة نكاحاً، أو دعوى المرأة على الرجل نكاحاً: إن اليمين ساقطة ما لم يقم لذلك شاهد واحد، فظاهره أنه إذا أقام شاهداً حلف المدعى عليه، ولعل المتيطي لما قوي عنده هذا الأخذ نقله صريحاً عن الموازية، وأما الواضحة فلأن فيها فيمن زوج رجلاً أو امرأة وزعم أنه وكله أو وكلته على ذلك فأنكر المدعى عليه الوكالة: إنهما يحلفان، فاستقرأ اللخمي منها وجوب اليمين مع الشاهد، قال: وإذا حلف بدعوى الوكالة مع كون الوكيل يدفع التعدي عن نفسه فلأن يحلف مع الشاهد من باب أولى.

ورده المازري بأن المدعى عليه الوكالة لو صدقها لكان النكاح منعقداً؛ لأن النزاع في إذنه في الوكالة؛ لأن العقد قد ثبت بشاهدين بين الوكيل والزوجة.

عبد الملك: وإن أقام شاهداً على رجل أنه زوجه ابنته البكر حلف الأب، فإن أبى سجن حتى يحلف، ولا مقال لابنته في ذلك، ولو كانت ثيباً فليس عليه يمين.

ص: 552

وقال أصبغ: ليس عليه يمين بحال.

قوله: (فَإِنِ امْتَنَعَ) أي: امتنع من الإقرار والحلف فلمالك روايتان؛ لأن الأخيرة تستدعي الأولى.

(يُحْبَسَ لَهُمَا) أي: للطلاق والعتاق، ويحتمل للمرأة والعبد المفهومين من السياق لا أن يحكم بالشهادة، وأتى بهذا ليعلم أن الرواية الأولى الحكم لهما، ودليل كلامه أن الحكم لهما مستند إلى الشهادة فقط، وليس كذلك، بل على هذه الرواية إنما يثبت الطلاق بمجموع الشاهد والنكول. وبين صاحب الجلاب ذلك حيث فرق بين الشاهد واليمين أنه لا يقضي بهما في الطلاق بخلاف الشاهد والنكول على هذه الرواية؛ لأن الشاهد والنكول من جهتين فقويا لذلك، بخلاف الشاهد واليمين فإنهما من جهة المدعي فقط، وقد يجاب عنه بأن في كلام المصنف ما يقتضي اعتبار النكول؛ لأنه قال:(فَإِنِ امْتَنَعَ) وامتناعه هو نكوله.

وقوله: (فَالأَخِيرَةُ أَنْ يُحْبَسَ لَهُمَا) لم يبين أمد الحبس، وقد بين ذلك في المدونة بقوله: فإن طال سجنه دين ويخلى بينه وبينها، والقول بالسنة نقله ابن يونس عن مالك أيضاً أواخر العتق الثاني، وقول سحنون أيضاً لمالك، ولعل المصنف وابن شاس لما رأيا أن الطول في كلام مالك غير محدد واحتمل أن يريد أحد القولين تركاه لذلك.

وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى شِرَاءِ الزَّوْجَةِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى نُجُومِ الْكِتَابَةِ فَتَثْبُتُ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ وَالْعِتْقُ.

فضل: فإما لأنه ليس بمال محض بل مركب من مال وغيره، ومثل لذلك بمسألتين:

الأولى: أن يدعي سيد الأمة أن زوجها ابتاعها منه وأنكر الزوج فأقام السيد على دعواه شاهداً فإنه يحلف معه ويثبت البيع، وهو مال، ويترتب عليه فسخ النكاح، وهو

ص: 553

ليس بمال، وإنما حكمنا فيها بذلك لأنا لو لم نحكم بذلك لأدى إلى أحد أمرين كل منهما باطل؛ إما رد شهادة الشاهد وقد دل الحديث على قبولها، وإما بقاء الزوجة في عصمة مالكها ولا يصح ذلك إجماعاً.

والمثال الثاني: أن يقوم للمكاتب شاهد على أداء نجوم الكتابة فيثبت الأداء وإن ترتب عليه العتق، وقد علمت أن في قول المصنف:(وإن ترتب عليه الفسخ والعتق) لفاً ونشراً.

وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْقَضَاءِ بِمَالٍ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ لا تُمْضَى. وَلَهُ اسْتِحْلافُ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ بِغَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ.

فصلها بـ (أَمَّا) لأنها عكس ما قبلها؛ لأن الشهادة في اللتين قبلها على مال ويؤول إلى غيره، وهذه بالعكس ومعنى كلامه: إذا ادعى رجل على آخر أن القاضي حكم له عليه بمال فأنكر، فأقام عليه شاهداً بذلك فهل له أن [679/ ب] يحلف مع شاهده؟ المشهور لا، وتعقب ابن عبد السلام حكاية الخلاف في الشهادة على حكم القاضي فقال: والذي حكاه الباجي وغيره أن القولين في كتاب القاضي بشاهد ويمين، وذلك لأنه حق ليس بمال ويؤول إلى مال، وأما دعوى أحد الخصمين على الآخر أن القاضي حكم عليه بمال فدعوى مال حقيقة، ولا ينبغي أن يختلف فيها، ورد بأن الخلاف أيضاً موجود في حكم القاضي، حكاه فضل. والقول بقبول الشاهد لمطرف وأصبغ، ومقابله لابن القاسم وابن الماجشون: لا يقبل في ذلك إلا شاهدان؛ لأنه من وجه الشهادة على الشهادة، وأخذ به ابن حبيب ولعل المصنف شهره إما لأخذ ابن حبيب به، وإما لأنه قول ابن القاسم، وإما لكون الشهادة فيه باشتر مالاً وإما للمجموع.

خليل: وانظر ما الفرق على قول ابن القاسم بين هذه المسألة وبين ما إذا قامت المرأة شاهداً على النكاح بعد الموت، فإنه قال: تحلف وترث، والجامع بينهما الشهادة على ما ليس بمال

ص: 554

ويؤول إليه، وقد يفرق بأن يقال: يمكن هنا إثبات المال بنكول المطلوب كما ذكر المصنف، بخلاف النكاح فإن الضرورة داعية فيه إلى القبول، والله أعلم.

قوله: (وَلَهُ اسْتِحْلافُ الْمَطْلُوبِ) هو تفريع على المشهور؛ أي: إذا فرعنا على المشهور في أن الشاهد مع اليمين على حكم القاضي لا يمضي؛ فيكون للطالب استحلاف المطلوب إن القاضي لم يحكم عليه بمال.

وقوله: (فَإِنْ نَكَلَ) أي: المطلوب. (لَزِمَهُ) أي: المال (بِغَيْرِ يَمِينِ الطَّالِبِ) وفي بعض النسخ: (بَعْدَ يَمِينِهِ) أي: الطالب وهي الصواب. وفي الأول نظر لوجهين.

أولهما: كيف يمنع على ما ذكره المصنف الشاهد واليمين، ويقبل فيه النكول واليمين، والثاني أضعف على أصل المذهب.

ثانيهما: أنها خلاف المدونة؛ لأن فيها في الأقضية: وللطالب أن يحلف المطلوب بالله أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها، فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة، ثم ينظر فيها الذي ولي بما كان ينظر المعزول، وفي كتاب ابن سحنون أيضاً عن أبيه: أن المطلوب يحلف على ما في ديوان القاضي من شهادة أو إقرار أو قضاء، فإن نكل حلف الطالب وثبت له ما ادعى.

وَالسَّفِيهُ وَالْعَبْدُ كَالرَّشِيدِ لا كَالصَّبِيِّ عَلَى الْمَشْهُورِ

يعني: إذا شهد للسفيه والعبد شاهد فإنهما يحلفان الآن كالرشيد، وليس كالصبي على المشهور، وفهم منه أن الصبي لا يحلف، وهو المعروف، وعن مالك أن الصبي يحلف. ابن رشد: وهو غريب.

وقوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: في العبد والسفيه، وظاهره أن الشاذ يراهما كالصبي، وذكر الباجي والمازري الشاذ في السفيه وأخذاه من رواية ابن حبيب عن مطرف، قال: يحلف المطلوب ويؤخر، فإذا رشد السفيه حلف مع شاهده.

ص: 555

وأنكر ابن زرقون الخلاف في السفيه ابتداءً وقال: لم يختلف ابن القاسم ومطرف أن السفيه يحلف مع شاهده، وإنما اختلفا إذا نكل وحلف المطلوب ثم رشد السفيه؛ فقال مطرف: يحلف بعد رشده ويقضى له، وقال ابن القاسم: قد ينفذ الحكم للمطلوب ولا تعاد اليمين للسفيه، قال: وهكذا هو منصوص في الواضحة.

ابن عبد السلام: وأما العبد فلا أعلم فيه خلافاً، وما أظن نقل المؤلف فيه إلا وهماً. انتهى.

ولعله خرجه من السفيه، على أن يحتمل على بعد أن يكون قوله:(عَلَى الْمَشْهُورِ) راجع إلى الصبي، ويكون إشارة إلى ما حكاه ابن رشد عن مالك.

الباجي: وإذا قلنا يحلف السفيه مع شاهده؛ فإنه إن حلف قبض ما استحقه بيمينه الناظر له.

ابن شعبان: والاختيار أن يقبض ما حلف عليه، فإذا صار بيده قبضه من الناظر؛ لأنه لا يستحق بيمينه شيئاً إلا من الذي قبضه.

وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبِ ثُمَّ أَتَى الطَّالِبُ بِشَاهِدٍ آخَرَ لَمْ يُضَمَّ هَذَا الثَّانِي إِلَى الأَوَّلِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي اعْتِبَارِهِ لِيَحْلِفَ مَعَهُ قَوْلانِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَفِي تَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ قَوْلانِ ..

يعني: أن من أقام شاهداً ولم يحلف معه، ثم ردت اليمين على المدعى عليه فحلف، ثم أتى الطالب بشاهد آخر- لم يضم هذا الثاني إلى الأول اتفاقاً؛ لأن شهادة الأول قد بطلت بنكوله ويمين المطلوب.

والاتفاق ليس بظاهر؛ فقد روى ابن الماجشون وابن عبد الحكم عن مالك الضم، وبه قال أصبغ، نقله اللخمي وصاحب البيان وغيرهما، لكن قال ابن كنانة: وهو وهم، وقد كان يقول: لا يضم إلى الأول، قال: وإنما هذا في المرأة تقيم شاهداً على طلاق فيحلف الزوج، ثم تجد شاهداً- أنه يضم إلى الأول؛ لأنه لم يوجد منها نكول. وعلى عدم

ص: 556

الضم فهل للطالب أن يحلف مع هذا الثاني؛ إذ يظهر له الآن ما يقدم معه على اليمين أو لا، وهو قول ابن كنانة، وقول ابن القاسم في المبسوط، لأنه قد ترك حقه بنكوله أولاً؟ وعلى أن الطالب يحلف، فلو نكل فهل يحلف المطلوب مرة ثانية لأنه لم يستفد باليمين الأولى سوى إسقاط الشاهد الأول، أو يسقط حقه بدون يمين المطلوب، لأن يمينه قد تقدمت، فلا تكرر اليمين عليه؟ حكى المصنف وغيره في ذلك قولين: الأول في الموازية والثاني لابن ميسر، وجمع بعضهم المسألة من أصلها مع فرعها فقال: فيهما أربعة أقوال:

أولها: إن أتى بشاهد ثان استؤنف له الحكم وهو قول ابن القاسم في الموازية، واختلف إن نكل هل يحلف المطلوب ثانية؟

وثانيها: إن أتى بشاهدين قضى له بهما، وإن أتى بشاهد أضيف إلى الأول، وأخذ حقه بلا يمين، وهو رواية ابن الماجشون عن مالك.

وثالثها: أن نكوله أولاً قطع لحقه، فلا يكون له شيء، وإن أتى بشاهدين غير الأول، وهو قول ابن القاسم وابن كنانة في المبسوط.

ورابعها: إن جاء بشاهدين غير الأول قضى له بهما، وإن أتى بشاهد واحد لم يقض له بشيء، حكاه ابن رشد ولم يعزه.

فَلَوْ كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الاسْتِقْبَالِ كَالشَّاهِدِ لِصَبِّي وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَالْمَنْصُوصُ: يَحْلِفُ الْمَطْلُوبْ بِحِصَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِذَا حَلَفَ فَفِي وَقْفْ الْمُعَيَّنِ قَوْلانِ ..

اعلم أن اليمين على أربعة أحوال:

الأولى: أن تكون ممكنة وهي التي تقدم حكمها.

والثانية: أن تكون ممتنعة في الحال مرجوة الاستقبال.

والثالثة: أن تكون ممتنعة [680/ أ] غير مرجوة.

والرابعة: أن تكون ممكنة من بعض ممتنعة من بعض.

ص: 557

وأخذ المصنف يتكلم على هذه الثلاثة؛ يعني: إذا قام شاهد بحق لصبي وحده أو بحق له مع بالغ فلا يحلف الصبي الآن، وهذا على المعروف كما تقدم، لكن رأى الأصحاب أنه لابد للشهادة من أثر ناجز، فالمنصوص في المذهب أن المطلوب يحلف الآن، وأشار بمقابله إلى ما فهمه الباجي من قول مالك في الموازية: أن المدعى عليه لا يحلف الآن، وإنما يوقف للصبي حقه حتى يحتلم فيحلفه كما يفعل في حق المغمى عليه، ويمكن أن يفرق بقرب إفاقة المغمى عليه، أشار إلى ذلك المازري.

قوله: (فَإِذَا حَلَفَ) أي: المطلوب، وكان المدعى فيه معيناً كدار وثوب، وزاد اللخمي: أو كان غنياً والمدعى عليه يخشى فقره فاختلف المذهب على قولين:

أحدهما: وقف المدعى فيه حتى يبلغ الصبي.

والثاني: أنه لا يوقف ويسلم للحالف، وبه قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، وعليه فإذا بلغ وحلف أخذه بعينه إن كان قائماً، وبقيمته إن كان فائتاً، والأول هو ظاهر الموازية وكتاب ابن سحنون.

ابن عبد السلام: وهو ظاهر؛ لأن شهادة الشاهد لم تبطل رأساًن وإنما حلف المدعى عليه ليتأخر الحكم، وبنى المازري الخلاف في الإيقاف على الخلاف في إسناد الحكم إلى الشاهد فقط. واليمين كالعاقد، فيحسن الإيقاف أو إليهما فيضعف الإيقاف.

فَإِنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبِ فَفِي أَخْذِهِ مِنْهُ تَمْلِيكاً أَوْ وَقْفاً قَوْلانِ

لما ذكر الحكم إذا حلف المطلوب ذكره إذا نكل وأشار إلى أنه يؤخذ منه الشيء المنازع فيه لنكوله، ثم اختلف هل يؤخذ منه أخذ تمليك كما لو كانت الدعوى على كبير وقام عليه شاهد ونكل عن اليمين، وهو مذهب الموازية، بل زعم صاحب البيان الاتفاق عليه أو أخذ وقف، وهو منسوب للواضحة لأنه قال: إذا بلغ الصغير ونكل عن اليمين فإن الحق يرد إلى من أخذ منه، وهو ظاهر؟ والفرق بين الصغير والكبير في هذا ما قاله المارزي

ص: 558

أنه معذور في نكوله هنا؛ لأنه يقول: إنما حملني الآن على النكول أن يميني الآن لا يتم لي بها الحكم لأني لو حلفت لم يفدني ذلك فائدة في مذهب من رأى الوقف ولا كبير فائدة على مذهب من لا يرى الوقف؛ لأن للصبي أن يحلف بعد بلوغه ويتم له الحكم.

وَعَلَى وَقْفِهِ أَوْ يَمِينِهِ يُسَجِلُّ الْحَاكِمُ الشَّهَادَةَ لِيَسْتَحْلِفَ الصَّبِيَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ وَاِرثَهُ قَبْلَهُ ..

أي: وإذا حلف المدعى عليه أو نكل ولم يحكم عليه فإن الحاكم يكتب شهادة الشاهد ويثبتها ويسجلها للصغير؛ صيانة لحقه خوفاً من موت الشاهد أو تغيير حاله عن العدالة قبل بلوغ الصبي، ولو مات الصبي قبل بلوغه لحلف وارثه الآن واستحق.

فَإِنْ نَكَلَ اكْتُفِيَ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ الأُولَى عَلَى الْمَشْهُورِ.

يعني: فإن بلغ الصبي ونكل عن اليمين أو نكل وارثه، وقد كان المدعى عليه حلف فإنه يكتفي بتلك اليمين التي حلفها على المشهور، وفي بعض النسخ:(نَكَلَا) ليعود على الصبي ووارثه، ومقابل المشهور أنه يستحلف ثانياً، حكاه في البيان صريحاً.

وقال الباجي: المشهور مبني على أن يمين المطلوب ليوقف الحق بيده، خاصة لما تعذر يمين الطالب، فإذا حلف الطالب أخذ، وإن نكل حلف المطلوب يمين الاستحقاق؛ إذ لو كانت يمينه أولاً يمين استحقاق لوجب إذا نكل عنها أن ينفذ القضاء عليه ولا يحلف المدعي يميناً بعدها، وهذا أصل متنازع فيه.

فَإِنْ كَانَ وَارِثُ الصَّغِيرِ مَعَهُ أَوَّلاً وَكَانَ قَدْ نَكَلَ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لأَنَّهُ نَكَلَ عَنْهَا ..

يعني: فإن كان الشاهد شهد بحق لصغير وأخ كبير فنكل الكبير واستؤني الصغير، ثم مات الصغير قبل بلوغه فكان أخوه الكبير وارثه فليس له أن يحلف؛ لأنه قد نكل أولاً

ص: 559

فلا ترجع عليه يمين، وهذا لبعض شيوخ صاحب النكت: وقال ابن يونس: والذي يظهر لي أن يحلف على نصيبه؛ لأنه إنما نكل أولاً عن حصته، ألا ترى أنه لو حلف أولاً وأخذ مقدار حصته ثم إنه ورث الصغير- لم يأخذ نصيبه إلا بيمين ثانية، ولما حكى المازري فيها القولين للمتأخرين قال: ولا نص فيه للمتقدمين، وعلى هذا فتعبير المصنف على الأول بالمنصوص ليس بظاهر.

وَلَوْ كَانَ الأَبُ مُنْفِقاً وَالصَّبيُّ فَقِيراً فَفِي قَبُولِ حَلِفِهِ قَوْلانِ

يعني: إذا قام للصغير شاهد بحق ورثه من أمه ونحو ذلك فهل للأب أن يحلف؟ قولان. وقيد الخلاف بقيدين:

أولهما: أن يكون الأب منفقاً على الصغير.

والثاني: أن يكون الابن فقيراً؛ لأنه إذا كان غنياً فالنفقة عليه من مال نفسه فلا يمكن؛ لأنه يحلف ليستحق غيره من غير فائدة تحصل له، فالقول بالحلف في كتاب المدنيين، والقول بنفيه لمالك في الموازية، قال: لا أظن ذلك. قال في البيان: وهو المشهور المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقيد الخلاف بما إذا لم يل الأب أو الوصي المعاملة، فأما ما وليه فاليمين واجبة عليه؛ لأنه إن لم يحلف غرم.

فَلَوْ كَانَتِ الْيَمِينُ مُمْكِنَةً مِنْ بَعْضٍ مُمْتَنِعَةً مِنْ بَعْضٍ كَالشَّاهِدِ عَلَى رَجُلٍ بِوَقْفٍ عَلَى بَنِيهِ وَعَقِبِهِمْ بَطْناً بَعْدَ بَطْنٍ فَرَوىَ مُطَرِّفُ أَنَّهُ [680/ ب] إِذَا حَلَفَ وَاحِدُ ثَبَتَ الْجَمِيعُ، وَرَوَى ابن الماجشون: إِذَا حَلَفَ الْجُلُّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ وَغَيْرُهُ: كَمَسْأَلَةِ الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: يَثْبُتُ لِمَنْ حَلَفَ نَصِيبُهُ ..

هذه هي الحالة الثانية؛ وهي: أن تكون اليمين ممكنة من بعض دون بعض؛ يعني: فإن قام شاهد بحق لقوم بعضهم معين وبعضهم غير معين كما لو قام شاهد بوقف على بني رجل فاليمين ممكنة من الأولاد الموجودين، ممتنعة ممن لم يوجد من أعقابهم فأربعة أقوال:

ص: 560

الأول لمالك من رواية مطرف وابن وهب: أنه إذا حلف واحد من البطن الأول مع الشاهد ثبت الحبس للجميع.

الثاني لمالك من رواية ابن الماجشون على ما ذكره صاحب النوادر والباجي والمازري: أنه إذا حلف الجل من أهل هذه الصدقة ثبت جميعها.

الثالث: نقله ابن المواز عن أصحابنا فقال: الذي يذهب إليه أصحابنا امتناع اليمين مع هذه الشهادة على الإطلاق، ويكون كما لو شهد على وقف للفقراء وهم مجهولون. والحكم في الفقراء على ما نص عليه اللخمي أن يحلف المشهود عليه، فإن نكل لزم الحبس.

وفي قول المصنف: (وَقَالَ مُحَمَّدُ) نظر؛ لأن محمداً إنما نقله عن غيره، ولأنه لا يؤخذ من كلام المصنف الحكم؛ لأنه لم يذكر الخلاف في الفقراء.

وقول ابن عبد السلام أفاد تشبيه المصنف بالفقراء فائدتين؛ الإعلام بالحكم في مسألة الفقراء، وبيان الحجة في مسألة الحبس ليس بظاهر.

القول الرابع لبعض القرويين، ورجحه اللخمي وغيره بمنزلة الشاهد يشهد بحق لحاضر وغائب أو حمل.

وسبب الخلاف أن الشهادة اشتملت على ما تصح اليمين معه وما لا تصح، فمن التفت إلى جانب تعذرها أبطل الحبس، ومن التفت إلى جانب الصحة صحح الحبس.

ثم اختلف على القول بالتصحيح هل يكتفى بالجل؛ لكونهم يقومون مقام الكل، أو يكتفي بواحد؛ لأن يمينه تنسحب على حق غيره لكون الشهادة بشيء واحد لا تتبعض في الحكم؟

المازري: وربما هجس في خاطري تعليل آخر؛ وهو: أنه إذا حلف واستحق نصيبه طالبه بقية طبقته بنصيبهم مما أخذ؛ إذ حقهم فيه على الشياع وهو مقر لهم، فإذا أخذ منهم شيئاً

ص: 561

عاد اليمين لإكمال نصيبه، فلا يزال هكذا حتى يؤخذ الحبس كله فاكتفى بيمينه وحده يميناً واحدة؛ لأنه حلف على الجميع لحق نفسه.

فَلَوْ مَاتَ فَفِي تَعْيِينِ مُسْتَحِقَّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الأَوَّلِينَ أَوِ الْبَطْنِ الثَّانِي أَوْ مَنْ حَلَفَ أَبُوهُ خِلافُ ..

هذا تفريع على القول الرابع؛ وهو: أن من حلف من البطن الأول استحق نصيبه، فلو حلف واحد منهم ونكل باقيهم ثم مات الحالف وبقي إخوته الناكلون فذكر المصنف في هذا ثلاثة أقوال، والمازري إنما جعلها كالاحتمالات، وعلى هذا فاستحقاق بقية البطن الأول مبني على أن نكولهم عن نصيبهم لا يمنع من استحقاق نصيب الأخ الصغير إذا مات على أحد القولين، واستحقاق البطن الثاني مبني على بطلان حق الإخوة بنكولهم، وأن البطن الثاني إنما يتلقونه عن جدهم المحبس، واستحقاق من حلف أبوه خاصة مبني على أن استحقاق البطن الثاني له من قبل آبائهم كالوراثة، فمن نكل أبوه بطل حقه.

ثُمَّ فِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ قَوْلانِ

يعني: أن من وجب له أخذه من بقية البطن الأول أو من البطن الثاني فقيل: يأخذه بغير يمين بناء على أنه كالوراثة. وقيل: يأخذه بيمين بناء على أنه يستحقه عن جده، وصرح المازري بالخلاف في البطن الثاني، لكن إنما نقل القول باليمين عن الشافعية، وقال إنه القياس، وأجرى الخلاف في يمين بقية البطن الأول، ونقل الباجي القول بسقوط اليمين عن المغيرة.

وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ قَوْلانِ

هما في المدونة، ففي الشهادات منها: وكل جرح فيه قصاص فإنه لا يقتص فيه بشاهد ويمين، وكل جرح لا قصاص فيه مما هو متلف كالجائفة والمأمومة وشبههما

ص: 562

فالشاهد واليمين فيهما جائزة؛ لأن العمد والخطأ فيها إنما هو أموال. وفي الديات: من أقام شاهداً عدلاً على جرح عمداً أو خطأ فليحلف معه يميناً واحدة، ويقتص في العمد ويأخذ العقل في الخطأ، قيل لابن القاسم: لم قال مالك ذلك في جراح العمد وليست بمال؟ فقال: كلمت مالكاً في ذلك فقال: إنه لشيء استحسناه وما سمعنا فيه شيئاً، وقد تبين لك بهذا السياق رجحان ما في الشهادات، وزاد في البيان ثالثاً بأنه يقضى بالشاهد مع اليمين فيما صغر من الجراح لا فيما عظم منها كقطع اليد وشبهه، وهو قول ابن الماجشون وروايته، واختاره سحنون، ونص سحنون على أن المرأتين كالعدل في القصاص، قال: لأن من أصلنا أن كل شيء يجوز فيه شاهد ويمين تجوز فيه شهادة امرأتين، وأجرى صاحب المقدمات على هذا الخلاف خلافاً في حد القذف هل يثبت بالشاهد مع اليمين؟ نص في البيان على أن المعروف عدم ثبوته إلا بشاهدين.

وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ تَجْرِي فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ، وَشَرْطُهُا أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَوْ يَرَاهُ يُؤَدِّيهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يَتَعَيَّنُ الأَوَّلُ ..

(فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ) أيك من حد أو طلاق أو عتاق. ونبه على قول أبي حنيفة [681/ أ] أنها لا تقبل في العقوبات التي هي حق لله تعالى، وتقبل في العقوبات التي هي حق للخلق إلا القصاص، وعن الشافعي القولان. ومنشأ الخلاف هل النقل شبهة تدفع الحد؟

(وَشَرْطُهُا) أي: وشرط تحملها أن يقول شاهد الأصل للفرع: اشهد على شهادتي، أو يراه يؤديها عند الحاكم، وأما لو سمعه يخبر أن فلاناً أشهده بكذا فلا يشهد. قال في البيان: باتفاق؛ لما علم من تساهل الناس في الأخبار ولو كانوا في غاية الورع، وإنما يتحرزون في الإشهاد والتأدية عند الحاكم. وقال محمد: يتعين الأول، فلا يجوز فيما إذا رآه يؤديها عند الحاكم. والأول أظهر، وهو اختيار ابن حبيب وقول مطرف، وبالثاني قال

ص: 563

أشهب وأصبغ وابن يونس وهو أشبه بظاهر المدونة. واختلف أيضاً إذا سمعه يشهد غيره هل يشهد بذلك أم لا؟

مطرف: ولا يشهد بقول القاضي: ثبت عندي لفلان كذا حتى يشهده، حكاه في المفيد.

فرع: من شرط شهادة النقل أن يسمي الناقلون من نقلوا عنه؛ لاحتمال أن يكونوا إذا سموهم حضروا. قاله المازري.

فَلَوْ طَرَأَ فِسْقُ أَوْ عَدَاوَةُ أَوْ رِدَّةُ امْتَنَعَتْ

يعني: فلو تغير حال شاهد الأصل، وكان يومئذ في النقل عنه عدلاً لا عداوة بينه وبين المشهود عليه ففسق قبل أداء الشهادة عنه أو ارتد أو حدثت بينه وبين المشهود عليه عداوة فلا يجوز للفرع أن يؤديها حينئذ؛ لأن المعتبر حال الشاهد وقت الأداء، وذكر المازري أن بعض الأصحاب أشار في الفسق إلى الفرق بين ما يخفى كالزنى وما لا يخفى كالقتل كما تقدم، وهو كلام صحيح.

ولو تغيرت حالة الشاهد الأصل بعد الفسق إلى العدالة فهل للناقل الذي أشهده في حال العدالة الأولى أن ينقل الآن عنه من غير تجديد إذن الأصل في النقل عنه؟

المازري: فيه خلاف بين الناس.

ولم يصرح هل هو في المذهب أو خارجه؟!

وَالْجُنُونُ مِنْ كُلِّ لا يَمْنَعُ

أي: في كل من الأصل والفرع؛ لأن الجنون غير قادح فيما تقدمه، ولا يظهر لذكر الجنون بالنسبة إلى الفرع كبير فائدة؛ لأنه إن جن قبل أداء الشهادة لم يبق نقل، وإن جن بعده فواضح عدم اعتباره كموته.

ص: 564

وَلا تُسْمَعُ إِلا بِمَوْتِ الأَصْلِ أَوْ غَيْبَتِهِ بِمَكَانٍ لا يَلْزَمُهُ الأَدَاءُ مِنْهُ، قَالَ مُحَمَّدُ: لا يَكْفِي فِي الْحَدِّ مَسَافَةُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثِةِ

هذا شرط في أدائها والأول في تحملها؛ يعني: شرط النقل تعذر الشهادة من الأصل؛ لأن تأخره مع القدرة ريبة في شهادته، ولأن الظن في شهادة الأصل أقوى؛ فلا يعدل إلى الأضعف مع القدرة على الأقوى والمرض مقيد بأن يشق معه الحضور.

واختلف في حد الغيبة فقيل: أن يكون على مسافة لا يلزم الشاهد منها الأداء.

اللخمي: وقال ابن القاسم في الموازية: إن كانت الشهادة في الحدود لم تنقل عنهم إلا في الغيبة البعيدة، وأما اليومان والثلاثة فلا، ويجوز ذلك في غير الحدود، وقال سحنون: إن كانت المسافة تقصر في مثلها الصلاة أو الستين ميلاً كتب القاضي إلى رجل تشهد عنده البينة، ولم يفرق بين أن تكون الشهادة في مال أو حد. انتهى.

ونقل ابن يونس عن الموازية نحو ما نقله اللخمي.

المازري: وأشار في المدونة إلى كون الثلاثة أيام في غير الشهادة بالحدود قريبة فقال: من أراد أن يستحلف خصمه لكون من شهد له على مسافة ثلاثة أيام فإنه لا يمكن من ذلك حتى يسقط القيام بالبينة، وجعلها في حكم الحاضرة، والظاهر أن مراد المصنف بقوله:(وقَالَ مُحَمَّدُ) نظر؛ لأنه إنما رواه، وحمل ابن عبد السلام قول المصنف في الحد على أن المراد حد المسافة، ولم أر نقلاً يساعده.

وَيُنْقَلُ عَنِ الْمَرْأَةِ بِحُضُورِهَا، وَقَالَ مُطَرِّفُ: لَمْ أَرَ بِالْمَدِينَةِ امْرَأَةً قَطُّ أَدَّتْ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَنْهَا ..

يعني: أن ما ذكره من اشتراط غيبة شاهد الأصل إنما هو في الرجل، وأما المرأة فينقل عنها مع حضورها؛ لما طلبت به من الستر، ولو فرق بين من عادتها الخروج وغيرها كما قيل في اليمين لما بعد.

ص: 565

وَلَوْ زَكَّى النَّاقِلُ الأَصْلَ جَازَتِ الشَّهَادَتَانِ

أي: شهادة النقل وشهادة التعديل، ولا خلاف فيه، بل شرط أبو حنيفة والشافعي في صحة القضاء بالشهادة المنقولة أن يعدل شاهد الفرع شهود الأصل، والمذهب صحة النقل عمن لم يعرف حاله بجرحة أو عدالة، ويكون البحث في ذلك على القاضي؛ نعم لا ينبغي لهما أن ينقلا عمن لم يعلما جرحته؛ لأن في ذلك تغريراً للقاضي وتلبيساً عليه، قاله المازري وغيره.

وَتُنْقَلُ الْمَرْأَتَانِ مَعَ رَجُلٍ فِي بَابِ شَهَادَتِهِنَّ، وَمَنَعَهُ أَشْهَبُ

أي: من الأموال وما يؤول إليها كالوكالة والوصية، وما تختص به كالولادة وهذا هو المشهور، ووافق أصبغ إلا فيما يتخصص به، فأجاز فيه نقل امرأتين عن امرأتين. قال في الجواهر: وقال أشهب وعبد الملك: لا يجوز نقلهن للشهادة بوجه لا في مال ولا في غيره؛ إذ النقل لا يجوز فيه الشاهد واليمين، وإنما تجوز شهادتهن حيث يحكم بالشاهد واليمين، ومنشأ الخلاف أن النقل ليس بمال ولكنه يؤدي إلى مال، فهل يعتبر المال أم لا كما تقدم.؟

وَيَشْهَدُ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ اثْنَانِ لا يَكُونُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَ الأَصْلِ وَيُكْتَفَي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الآخَرِ، قَالَ [681/ ب] عَبْدُ الْمَلِكِ: لابُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ.

يعني: أنه يكتفي في صحة نقل الشهادة- فيما عدا الزنى- أن يكون الناقلان اثنين شهد كل منهما على كل من الأولين على المشهور، بشرط أن لا يكون أحدهما شاهد في الأصل؛ لأنه إذا كان أحد الناقلين ممن شهد في الأصل كان الحق- كما قال ابن المواز- كأنه إنما يثبت بشاهد واحد، وقال عبد الملك: لا يقبل في النقل أقل من أربعة يشهد على كل واحد اثنان.

ص: 566

وَأَمَّا الزِّنَى فَيُكْتَفَى بِأَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَرْبَعَةِ أَوْ عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ اثْنَانِ، فَلَوْ شَهِدَ ثَلاثَةُ عَلَى ثَلاثَةٍ وَوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَمْ تَتِمَّ، وَرَوَى مُطَرِّفُ: لابُدَّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَقَالَ ابن الماجشون: يَكْفِي أَرْبَعَةً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا فَثَمَانِيَةُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، وَرُوِيَ يُكْتَفَى بِأَرْبَعَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ ..

يعني: وأما الشهادة على الشهادة في الزنى فيحتاط في نقلها كما احتيط في أصلها، وذكر المصنف فيها أربعة أقوال:

الأول وهو المشهور: يكتفى بأربعة يشهد كل واحد من الأربعة على كل من الأربعة، أو يشهد على كل اثنين اثنان، فلذلك لو شهد ثلاثة على ثلاثة وواحد على أربعة لم يتم الحكم؛ لأن الرابع لم يشهد على شهادته اثنان.

وروى مطرف أنه لا بد من ستة عشر؛ على كل شاهد أربعة غير الأربعة الذين شهدوا على غيره.

قوله: (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ .. إلخ) يدخل في قول ابن الماجشون صورة لا تدخل على المشهور؛ وهي: إذا شهد اثنان على ثلاثة واثنان على واحد، وإنما لا تدخل على المشهور لأنه اشترط أن يكون على كل اثنين اثنان، فإن تفرقوا على قول ابن الماجشون فثمانية وإنما اكتفي في الاجتماع بأربعة لبعد الغلط حينئذ، ويفهم من حكايته عن عبد الملك أنه يعتبر ثمانية من غير تفصيل، والتزكية على رواية مطرف وقول ابن الماجشون تابعة للنقل؛ أي: لا يكتفي بأربعة، وروي عن مالك أنه يكفي في النقل اثنان كغير الزنى.

تنبيه:

وقع في بعض النسخ إثر قول ابن الماجشون: (وَقَالَ مُحَمَّدُ: يَكْفِي أَرْبَعَةً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ) والظاهر أنه راجع إلى القول الأول، اللهم إلا أن يكون معنى قول محمد أنه لا يقبل أن يشهد كل من الأربعة على كل من الأربعة، لكن لم أر نقلاً يساعده.

ص: 567

وَيُلَفَّقُ الأَصْلُ مَعَ النَّقْلِ كَاثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ شَهِدُوا بِالرُّؤْيَةِ، وَاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ ..

أما التلفيق فهو متفق عليه.

قوله: (وَاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ) راجع إلى قوله: (كَاثْنَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ).

وقوله: (أَوْ وَاحِدٍ) راجع إلى قوله: (أَوْ ثَلاثَةٍ) وهو تفريع على قول ابن القاسم لا على قول من اشترط أربعة على كل واحد.

وَإِذَا كَذَّبَ الأَصْلُ الْفَرْعَ قَبْلَ الْحُكْمِ بَطَلَتْ، وَبَعْدَهُ ثَلاثَةُ؛ ابن القاسم: يَمْضِي وَلا غُرْمَ، ابْنُ حَبِيبٍ: يُنْقَضُ، مُحَمَّدُ: يَمْضِي وَيَغْرَمُ الأَصْلُ لِرُجُوعِهِمْ.

يعني: أن لتكذيب الأصل الفرع حالتين:

الأولى: أن يكذب شهود الأصل الفرع قبل أن يحكم القاضي بالشهادة فتبطل.

ابن عبد السلام: بلا خلاف؛ لأنه كرجوعهم عن الشهادة قبل الحكم.

ومفهوم قوله: (إِذَا كَذَّبَ) أنه إذا لم يكذبوهم بل شكوا عدم البطلان، والذي نص عليه ابن المواز أن الشك كالإنكار، وخرجه في البيان على اختلافهم في الحديث إذا شك الأصل، والفرع جازم.

والحالة الثانية: أن يكون التكذيب بعد الحكم فحكى المصنف في المسألة ثلاثة أقوال:

أولها: لابن القاسم في العتبية، وبه قال مطرف: أن الحكم ماضٍ ولا غرم؛ لأن الحكم عن اجتهاد ولا قطع بكذب الشهود، فلا ينقض.

الثاني: لمالك في الواضحة أن الحكم ينقض؛ لأن بتكذيب الأصل صار الحكم مستنداً إلى غيره شهادة، ولأن شهود الأصل إذا صدقوا بطلت الشهادة، وإن كذبوا بطل أيضاً لتكذيبهم ونسبة المصنف هذا القول لابن حبيب ليست بظاهرة.

ص: 568

والثالث: أنه يمضي ويغرم شهود الأصل، وهذا ليس نصاً، بل استقرأة اللخمي من قول محمد في رجلين نقلا عن أربعة: إنهم أشهدونا أنهم يشهدون على فلان بالزنى، ولم يحد الناقلان حتى قدم الأربعة فأنكروا أن يكونوا أشهدوهم- قال: يحد الأربعة القادمون حد القذف ويسلم الاثنان؛ لأنهما صارا شاهدين على الأربعة بالقذف.

اللخمي: فأثبت النقل وجعل إنكار الأربعة رجوعاً.

ولو أن الشهود الذين شهدوا عند القاضي وحكم بشهادتهم أكذبوه بعد أنوقع الحكم فيه ففي المجموعة: ينظر السلطان في ذلك؛ فإن كان القاضي عدلاً أمضى الحكم ولا يلتفت إلى تكذيب من حكى القاضي أنهم شهدوا عنده.

وفي الموازية في قاض حكم لزيد على عمرو بمائة، فأتى الشهود فأنكروا ذلك ونسبوا الغلط إليه وقالوا: إنما شهدنا عندك بأن لعمرو على زيد مائة بعكس ما حكمت عنا" فإن القاضي إذا كان على يقين لم ينقض الحكم، ولكن يغرم لعمرو مائة بشهادة هؤلاء عليه أنه أتلف مال من حكم عليه.

المازري: ومقتضى قولنا أنه لو رفع إلى غيره والقاضي معسر لا ينزع ممن قضى له به.

ابن المواز: ولو أن القاضي شك في صدقهم وجوز كونه غلطاً لنقض الحكم بنفسه.

وَلِلرُّجُوعِ ثَلاثُ صُوَرٍ؛ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلا قَضَاءَ

لما شبه في القول الثالث بالرجوع حسن أن يأتي بأحكام الرجوع.

وقوله: (فَلا قَضَاءَ) أتى بالنفي العام ليعم المال وغيره.

فَإِنْ قَالا: وَهِمْنَا بَلْ هُوَ هَذَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: سَقَطَتَا مَعاً

يعني: فإن لم يرجعا عن المشهود له وإنما رجعا عن المشهود عليه وقالا: إنما الحق على هذا، فقال ابن القاسم وأشهب في الموازية: لا تقبل شهادتهما على واحد منهما، وهو معنى

ص: 569

قوله: [682/ أ](سَقَطَتَا) وراه ابن القاسم عن مالك، وعلله أشهب بأنهما أخرجا أنفسهما من العدالة لإقرارهما أنهما شهدا على الوهم والشك.

فَإِنْ قَالَ: شَكَكْتُ ثُمَّ قَالَ: زَالَ الشَّكُّ فَقال المازري: هِيَ مِثْلُ الشَّكِ قَبْلَ الأَدَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: تَذَكَّرْتُهَا فَالْوَاضِحُ قَبُولُهَا، وَثَالِثُهَا لِمَالِكٍ: إِنْ كَانَ مُبَرِّزَاً قُبِلَتْ ..

قال المازري: إذا وقع بعد أدائها تشكك فعاد إلى القاضي وقال له: توقفت في قبول شهادتي، ثم عاد بعد ذلك وقال: ذهب عني الشك فإن من الناس من ذهب إلى أن ذلك على قولين، ولا يبعد أن يجري في هذا التشكيك بعد الأداء ما كنا حكيناه عن المذهب إذا جرى ذلك من الشاهد قبل الأداء، والذي حكاه المازري قبل ذلك أن مالكاً سئل عمن يسأل عن شهادته فلم يذكرها، ثم عاد فقال: تذكرتها- فقال: تقبل شهادته ولا يضر بشرط التبريز، ويشترط ألا يمضي ما يستنكر فيه صحة ما اعتذر به.

المازري: والظاهر قبولها من غير اشتراط التبريز؛ لأن التوقيف يعرض للعالم بالشيء ثم يذهب عنه ويعود إلى اليقين، ثم قال المازري: قال سحنون: وإن قال أنا أتذكر فيها، ثم عاد فقال: تذكرتها فإنها تقبل منه إذا كان بارز العدالة، وإن قال: لا أعلمها، ثم قالت: تذكرت فعلمتها فإن قول مالك اختلف في ذلك.

المازري: وكأن سحنوناً أشار إلى أنه من الفرع الأول لما قال: "أنا أتذكر، ثم قال: علمت" لم يأت في قوله ثانياً بما ينافي الأول، بخلاف ما إذا قال:"لا أعلمها" فإنه كالمنافي بعد ذلك لقوله: "قد علمتها".

وقول المصنف: (فَالْوَاضِحُ) أي: فيما إذا شك قبل الأداء؛ لأن المازري إنما قال ذلك فيها لا فيما إذا تقدم نفي العلم على الأداء، وعلى هذا فالثلاثة الأقوال إنما هي في الشك بعد الأداء والقولان اللذان حكاهما سحنون والفرق بين المبرز وغيره، وأما إذا شك قبل الأداء فلم يحك المازري وغيره قولاً في ذلك بعدم القبول مطلقاً.

ص: 570

الثَّانِيةُ: بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَ الاسْتِيفَاءِ، قَالَ ابن القاسم: يُسْتَوْفَى الدَّمُ كَالْمَالِ، وَقَالَ أَيْضاً وَغَيْرُهُ: لا يُسْتَوْفَى؛ لْحُرْمَةِ الدَّمِ ..

هذه الصورة الثانية؛ وهي: أن يرجع الشهود عن شهادتهم بعد أن حكم القاضي وقبل الاستيفاء، فإن كان الحكم بمال مضى اتفاقاً، وإن كان بقصاص أو حد فقال ابن القاسم: لا ينقض الحكم كما في المال، فقوله:(كَالْمَالِ) أتى به للاستدلال، ونقل المصنف هذا القول عن مالك، وقال ابن القاسم أيضاً وغيره: لا يستوفى الدم أيضاً لحرمته، وتجب الدية، هكذا نقل المازري، وكان ابن القاسم يقول أولاً بالأول، ثم رجع واستحسن الثاني، قال: والأول القياس، وحكى المازري عن أصبغ ثالثاً أنه لا ينقض الحكم ولا دية فيه، وعلى وجوب الدية فقال بعض الشيوخ: لم يذكر على من تكون هل هي على الشهود؛ لأنهم أبطلوا الدم؟ وإن أراد ذلك فلم يبين أيضاً هل عليهم دية الذي شهددوا باستحقاق إراقة دمه أو دية الثاني الذي وجب عليه القصاص إن كان القاتل رجلاً والمقتول امرأة أو بالعكس؟ قال: ويمكن أن يريد: أن العقل يجب على القاتل الذي شهدوا أن القصاص يجب عليه حتى لا يبطل الدم عنه قال: وهذا عندي أظهر.

وَمِثْلُهُ لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الإِحْصَانِ لَجُلِدَ جَلْدَ الْبِكْرِ

يعني: ومثل رجوع شهادة القتل رجوع شهادة الإحصان فيمضي رجمه على أحد القولين ولا يمضي على القول الآخر هكذا قال ابن عبد السلام، والأظهر أن المراد: ومثل القول الثاني؛ لقوله: (لَجُلِدَ جَلْدَ الْبِكْرِ).

الثَّالِثَةُ: بَعْدَ الاسْتِيفَاءِ فَيَغْرَمَانِ الدِّيَةَ وَغَيْرَهَا إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَمْدُهُمَا عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَلا يُغَرَّمَانِ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ..

الصورة الثالثة: أن يرجع الشاهد بعد استيفاء الحكم فلا خلاف أن الحكم تام وإنما النظر في الغرامة، ثم لهما حالتان:

ص: 571

الأولى أن يقولا: "غلطنا" فقال ابن القاسم وأشهب: يغرم الشاهدان؛ لأن الخطأ والعمد بالنسبة إلى ضمان أموال الناس سواء، وقال ابن الماجشون: لا يغرم الشاهدان؛ لأنهما لو غرما في الخطأ مع كثرة الشهادة عليه لتورع الناس عنهما، وبالأول قال مطرف وأصبغ، قيل: وهو ظاهر المدونة في كتاب السرقة، وبالثاني قال المغيرة وابن دينار وابن أبي حازم، وحكي عن أصبغ قول ثالث أن الدية على عواقلهما.

فَإِنْ ثَبَتَ عَمْدُهُمَا فَالدِّيَةُ لابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْقِصَاصُ لأَشْهَبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: لا نَصَّ لِمَالِكٍ فِي التَّغْرِيمِ إِلا أَنَّ أَصْحَابَهُ اتَّفَقُوا عَلَى تَغْرِيمِ مَا أَتْلَفُوهُ بِالتَّعَمُّدِ.

تصور المسألة ظاهر، والأقرب قول أشهب؛ لأنهم قتلوا نفساً بغير شبهة، والقاضي والولي معذوران، وقول محمد راجع في المعنى إلى قول ابن القاسم على أن الأولى أن يعاد قول محمد على غير النفس كما لو أتلفوا بشهادتهم مالاً، وإن كان ظاهر كلام المصنف خلافه؛ لأنا لو أعدناه على الدية لم يصح؛ لأن المازري حكى عن مالك روايتين كقول ابن القاسم وأشهب، وقال: الأشهر عند أصحابه الغرم، اللهم إلا أن يقال: إن محمداً لم يطلع على الرواية بعدم الدية.

وَلَوْ عَلِمَ الْحَاكِمُ بِكَذِبِهِمْ وَحَكَمَ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْقَتْلَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ

هكذا حكى [682/ ب] المازري وابن شاس، وظاهره أنه تجب الدية عند ابن القاسم كالأول. وفيه نظر؛ ففي آخر الرجم من المدونة: وإن أقر القاضي أنه رجم أو قطع الأيدي أو جلد تعمداً للجور أقيد منه. وهو ظاهر في لزوم القود له وإن لم يباشر، وعلى ذلك حمله بعضهم.

ابن عبد السلام: ولا أظنه يختلف في ذلك، وظاهره أن القود يجب في السوط وهو أحد القولين.

ص: 572

وَأَمَّا لَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ قَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ وَشِبْهِهِ فَالأَدَبُ لا غَيْرُ

أي: ولا غرامة هنا، وقد نقل سحنون الاتفاق على ذلك، قال: ولا تقع المماثلة في اللطمة والسوط، وقد يسبق إلى الذهن أن من يرى القود في السوط من أصحابنا يرى أن للمشهود عليه هنا أن يقتص من الشهود، وهذا إنما يتم لو كان أشهب الذي يوجب للمشهود عليه القصاص من الشهود يقول بالقود في السوط.

وَقَدْ قال المازري: لا خِلافَ فِي تَعَلُّقِ الْغَرَامَةِ بِهِمْ إِذَا شَهِدُوا عَلَى قَتْلٍ عَمْدٍ فَاقْتُصَّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ حَيُّ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِي الْبِدَايَةِ وَفِي الرُّجُوعِ فَقَالَ ابن القاسم: يَبْدَأُ بِالشُّهُودِ فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَمِنَ الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: الْمُسْتَحِقُّ مُخَيَّرُ

ليست هذه المسألة من مسائل الرجوع لأن الشاهدين لم يرجعا، وإنما تبين كذبهما من جهة غيرهما، لكنه ذكره في فصل الرجوع لاشتراكه معه في تعلق الغرامة.

وقوله: (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) نحوه في الجواهر وعزاه لسحنون أيضاً، وإنما عزاه المازري لسحنون، وهو الظاهر؛ لأن الذي نقله في النوادر عن ابن القاسم في رجلين شهدا أن هذا الرجل قتل ابن هذا عمداً فقضى بقتله ثم قدم ابن الرجل حياً: أنه لا شيء على الإمام ولا على عاقلة الأب، ويغرم الشاهدان ديته في أموالهما، وقاله أصبغ، ولم يذكر عن ابن القاسم الرجوع على القاتل إذا كانوا فقراء، وإنما قال سحنون: أنه يرجع على القاتل ولا يكون له على الشهود رجوع.

المازري: وروي نفي الترتيب، وأن ولي الدم مخير إن شاء تبع الشاهدين بالدية، وإن شاء تبع ولي القاتل، ثم إن بدأ بطلب الشهود لم يكن له العدول عنهم إلا أن يجدهم فقراء فيطلب الأب القاتل، وإن اختار البدأة بالأب فليس له الرجوع عنه ملياً كان أو معدماً.

ص: 573

وَفِي الرُّجُوعِ قِيلَ: إِنَّمَا يَرْجِعُ الشُّهُودُ بِمَا أَدَّوْا عَلَى الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ: لا رُجُوعَ ..

قال: (إِنَّمَا) ليفيد أنه على هذا القول لا يرجع القاتل عليهم، وهذا من كمال القول بتخيير المستحق، هكذا ذكر المازري.

وقوله: (وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ) لم أره، والقول الثالث ينفي رجوع أحدهما عن الآخر، ذكره ابن شاس وغيره عن سحنون.

فَلَوْ كَانَتْ عَلَى قَتْلٍ خَطَأٍ فَأُخِذَتِ الدَّيةُ مِنَ الْعَاقِلَةِ لَرُدَّتْ فَإِنْ أُعْسِرَ فَعَلَى الشُّهُودِ، وَلا رُجُوعَ ..

يعني: فإن كانت الشهادة بقتل الخطأ فأخذت الدية من العاقلة ثم قدم المشهود بقتله حياً لردت الدية، فإن أعدم أحدهما غرمها الشهود؛ لأنهم السبب في تمكين أخذه منها، وهذا قول ابن القاسم، وقيل: يبأ بالشهود فتأخذ منهم العاقلة ما أخذه الولي، فإن كانوا فقراء رجعت على الولي بما أخذ منهم ثم لا يرجع الغارم من الشهود على الولي، ولا الولي على الشهود، وقيل: بل العاقلة تخير بين أن ترجع على الشهود أو على الأب، فإن وجدت الشهود فقراء رجعت بما غرمت على الولي، وإن اختارت البداءة بالولي فليس لها الرجوع على الشهود، وإن وجدت الولي فقيراص فأخذت من الشهود رجعوا على الولي، وإن أخذت من الأب لم يرجع على الشهود.

المازري: فتخلص من هذه أن المذهب لم يختلف في أن الطلب يتوجه على الأب القابض للدية وعلى الشهود؛ لأنهم هم مكنوا الأب منها، ولكن إن كان أحد الصنفين فقيراً طلب الموسر بغير خلاف، وإن كانا مليين فاختلف هل تخير العاقلة بين طلب الأب أو طلب الشهود أو يقع على الترتيب؟ وعلى الترتيب فاختلف بمن يبدأ؛ فقيل: بالأب، وقيل: بالشهود ثم في رجوع الشهودعلى الأب خلاف، وأما الأب إذا غرم فلا يرجع عليهم.

ص: 574

وَعَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ رُجِمَ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مَجْبُوبُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِمَامِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ ..

قال أشهب: إلا أن يقولوا رأيناه يزني قبل جبه فتجوز شهادتهم، ولا حد عليهم على كل حال.

وقوله: (وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ) أي: عليهم الدية مع وجيع الأدب وطول السجن، هكذا قال في كتاب الرجم، زاد: ولا حد على الشهود؛ إذ لا يحد من قال لمجبوب: يا زان، قال جماعة: يريد إذا جب قبل البلوغ لأن بذلك يظهر كذبهم.

ونبه بقوله: (عَلَى أَصْلِهِ) على مخالفة أشهب لأصله، لأن أصله القصاص، ولقصد مناقضة أشهب والله أعلم صدر المصنف المسألة بقول أشهب، وإلا فشأنه تقديم قول ابن القاسم إذا كان في المدونة، وزعم بعضهم وجوب الدية هنا، قال: لأن المشهود عليه قادر على أن يظهر الجب، وأجرى بعض الشيوخ فيها الخلاف المتقدم في مسألة الرجوع عن الشهادة، ووقع في بعض النسخ عوض (وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَصْلِهِ)(وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى عَاقِلَةِ الشُّهُودِ) والأول أصح؛ لموافقته المدونة، ولا يبعد أن يخرج مما في حريم البئر من المدونة قول كالنسخة الثانية، لأن فيها: وأما من حفر بئراً في غير ملكه لماشية فلا يمنع فضلها من أحد وإن منعوه حل قتالهم، وإن لم يقو المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشاً فدياتهم على عواقل المانعين، والكفارة عن كل نفس منهم على كل رجل من أهل الماء مع وجيع الأدب.

فرع:

قال محمد بن عبد الحكم في رجل [683/ أ] قيد عبده وحلف لا ينزعه شهراً، وحلف أيضاً بحريته إن وزن العبد عشرة أرطال، فشهد شاهدان أن وزنه ثمانية، فحكم القاضي بحرية العبد لأجل شهادتهما بحنث السيد، ثم نزع السيد القيد عند الأجل،

ص: 575

فوجد كما حلف عليه، أن الحكم ينقض ويرد العبد إلى الرق، وقال أبو حنيفة: الحكم ماض ولا يرد العبد إلى الرق، ويغرم الشهود قيمة العبد كما يغرمان ذلك إذا رجعا عن شهادتهما، وفرق ابن عبد الحكم بأن رجوع البينة محتمل للكذب فلا ينتقض الحكم بالاحتمال، ومسألة العبد تيقن كذبهما فيها.

وَيُحَدُّونَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى فِي الصُّوَرِ كَلِّهَا

أي: في الثلاث صور، إذا رجعوا قبل الحكم وبعده وقبل الاستيفاء وبعدها.

فَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الأَرْبَعَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ حُدُّوا، وَبَعْدَ إِقَامَتِهِ حُدَّ الرَّاجِعُ اتِّفَاقاً دُونَ الثَّلاثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدُ حُدُّوا أَجْمَعُونَ.

يعني: إذا رجع أحد الأربعة فإن كان رجوعه قبل الحكم حد الجميع، وإن كان بعد إقامة الحد أو بعد الحكم على المشهود عليه حد الراجع اتفاقاً؛ لاعترافه على نفسه بالقذف دون الثلاثة على المشهور، وهو مذهب المدونة؛ لأن الحكم قد نقل شهادتهم وهم باقون عليها، والشاذ أنهم يحدون أيضاً.

قوله: (وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدُ حُدُّوا أَجْمَعُونَ) نحوه في المدونة والفرق أن الرق وصف ظاهر لا يشك فيه، وأما الرجوع فيحتمل لفسق طرأ أو لميل مع أحد الخصمين أو نحو ذلك، ولهذا ألحقوا بالعبد الكافر والأعمى وولد الزنى والمولى عليه.

فَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ سِتَّةٍ لَمْ يُحَدَّ الْبَاقُونَ؛ لاسْتِقْلالِهِمْ وَلا الرَّاجِعَانِ؛ لأَنَّهُمَا كَقَاذِفَيْنِ شَهِدَ لَهُمَا أَرْبَعَةُ إِلا أَنْ يُكَذِّبَا الشُّهُودَ ..

تصوره ظاهر، واختلف قول ابن القاسم في حد الراجعين فقال مرة هو وعبد الملك: لا يحدان للعلة التي ذكرها المصنف؛ أنهما كقاذفين شهد لهما أربعة بالزنى، وقال مرة: يحدان؛ لاعترافهما على أنفسهما بالقذف.

ص: 576

المازري: وإن قال: "انفردت أنا بالكذب، ولا أعتقد كذب من شهد معي" لم يحد، وكلام المصنف راجع إلى هذا.

فَلَوْ رَجَعَ ثَالِثُ حُدَّ هُوَ وَالسَّابِقَانِ وَغَرِمُوا رُبُعَ الدِّيَةِ وَإِنْ رَجَعَ رَابِعُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ ..

أي: رجع ثالث مع الاثنين اللذين رجعا قبل، ففي الموازية: يغرم هو والراجعان قبله ربع الدية بينهم أثلاثاً. والحد على كل واحد منهم، قال: سواء رجعوا معاً أو مفترقين.

قوله: (وَإِنْ رَجَعَ رَابِعُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ) أي: على هذا الراجع، وعلى الثلاثة الذين قبله بالسواء، ولذلك إن رجع خامس كان على الراجعين ثلاثة أرباع الدية، وإن رجع السادس كانت الدية على الستة، وهذا معنى قوله:(وَعَلَى ذَلِكَ).

فَلَوْ ظَهَرَ بَعْدَ رُجُوعِ اثْنَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الأَرْبَعَةِ عَبْدُ فَقَالَ مَالِكُ: يُحَدُّ الرَّاجِعَانِ وَيُغْرَمَانِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَحُدَّ الْعَبْدُ بِغَيْرِ غَرَامَةٍ ..

يعني: لو رجع اثنان من الستة، ثم ظهر بعد رجوعهما أن أحد الأربعة الذين لم يرجعوا عبد ففي الموازية ما ذكره المصنف، وفي كتاب الرجم من المدونة: وإن علم بعد الرجم أو الجلد أن أحدهم عبد حد الشهود جميعاً، وإن كان مسخوطاً لم يحد واحد منهم؛ لأن الشهادة قد تمت باجتهاد الإمام في عدالتهم، ولم تتم في العبد، ويصير من خطأ الإمام، فإن لم يعلم الشهود كانت الدية في الرجم على عاقلة الإمام، وإن علموا فذلك على الشهود في أموالهم ولا شيء على العبد في الوجهين.

فإن قيل: هل ما في الكتابين متخالف فيتخرج في المسألتين خلاف، أو لا؟

قيل: يحتمل أن يقال: مسألة المدونة انتقض الحكم فيها بظهور كون الرابع من الشهود عبداً، وإذا انتقض وجب حد الثلاثة الباقين، وأما مسألة الموازية فإن الحكم

ص: 577

ينتقض لأن قصارى الأمر أنه شهد خمسة وأقيم الحد، ورجع منهم اثنان، وذلك غير موجب لنقض الحكم، فلهذا لم يحد الثلاثة الباقون فيها.

فإن قلت: فكان ينبغي على ما في الموازية أن يسقط الحد عن العبد.

قيل: قذف العبد للمشهود عليه سابق على حد الزنى، فلعله لما كان مطالباً به وقد ظهرت الشبهة في زنى المشهود عليه فرجع بعض الشهود استصحب القذف ووجب حد العبد، والمسألة مع ذلك مشكلة.

وَقَالَ مُحَمَّدُ: لَوْ رَجَعَ وَاحِدُ مِنَ السِّتَّةِ بَعْدَ أَنْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ ثَانٍ بَعْدَ مُوضِحَةٍ ثُمَّ ثَالِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى الأَوَّلِ سُدُسُ دِيَةِ الْعَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي مِثْلُهُ وَخُمُسُ الْمُوضِحَةِ، وَعَلَى الثَّالِثِ رُبُعُ دِيَةِ النَّفْسِ فَقَطْ، وَقِيلَ: مُضَافاً إِلَى السُّدُسِ وَالْخُمُسِ ..

يعني: لو شهد ستة على رجل بالزنى فأمر القاضي برجمه لأنه كان محصناً فرجع واحد منهم بعد أن فقئت عين المرجوم، ثم رجع ثان بعد أن أوضحه موضحة فلا غرامة على الراجعين لبقاء أربعة يشهدون بالزنى، ولا حد عليهم على أحد قولي ابن القاسم كما تقدم، ثم إن رجع ثالث بعد قتله وجب على الأول سدس دية العين؛ لأنها فقئت بشهادة ستة هو أحدهم، وكذلك على الثاني مع خمس دية الموضحة، ولا شيء على الأول في الموضحة؛ لأنه رجع قبلها ولم يشارك فيها، واختلف فيما يجب على الثالث؛ فقيل: يجب عليه ربع دية النفس فقط. وقيل: بل يضاف إلى ذلك مثل ما على الأولين.

ابن المواز: والأول أصح؛ أي: لأن القتل يندرج تحته الجراح، وهذا الفرع الذي ذكره محمد [683/ ب] مبني على مذهبه أن رجوع الشهود بعد الحكم وقبل الاستيفاء يمنع من الاستيفاء، وأما على القول الذي رجع إليه ابن القاسم أنه يستوفي فينبغي أن يكون على

ص: 578

الثلاثة الراجعين ربع دية النفس دون العين والموضحة لأنه حينئذ قتل بالستة، ودية الأعضاء تندرج؛ فتأمله.

وَإِذَا رَجَعَ أَرْبَعَةُ الزِّنَى وَشَاهِدَا الإِحْصَانِ فَفِي اخْتِصَاصِهِ بِالأَرْبَعَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ..

أي: في اختصاص الغرم، واختار أصبغ وسحنون قول ابن القاسم بالاختصاص؛ لأن شهود الإحصان لم يصفوا الزاني عيناً، وبقول أشهب قال ابن الماجشون وابن المواز، ووجهه أن شهود الإحصان لولاهم لم يجب الحد، ويترجح قول ابن القاسم بأن عبد الملك قال: إن رجوع المزكين عن تزكية من زكي في حق لا يوجب عليهما الغرامة، وهكذا قال سحنون أيضاً، واحتج بأن الحق إنما يثبت بغير المزكين، قال: ولو شاء الشاهدان بالحق لم يشهدا، ثم فرع على قول أشهب فقال:

وَعَلَى التَّعْمِيمِ فَفِي تَنْصِيفِهَا قَوْلانِ

أي: ففي تنصيف الدية- وهو قول ابن القاسم- وعدم تنصيفها بل تكون بينهم أسداساً- وهو قول أشهب وعبد الملك- بناء على أن القتل مرتب على كل واحد من النوعين، أو يعتبر عدد ما يثبت به الأمران معاً وهو عدد الشهود.

وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُمَا رَجِعَا مُكِّنَ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ طَلَبَ يَمِينَهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا فَقَوْلانِ ..

خالف أبو حنيفة في إقامة البينة عليهما بالرجوع ولم يمكن المشهود عليه من ذلك، ونقض عليه محمد بن عبد الحكم بأنه يوافق على أنهما لو أقرا بالرجوع لزمهما الغرم، وكل ما صح الإقرار به صحت إقامة البينة عليه، وعلى المذهب فإن طلب المشهود عليه تحليفهما على أنهما لم يرجعا فقال ابن القاسم وعبد الملك وابن المواز وسحنون: يمكن من ذلك بشرط أن

ص: 579

يأتي بلطخ، فإن لم يأت بلطخ فلا يمين عليهما، فإذا توجهت اليمين عليهما حلفا وبرئا، فإن نكلا حلف المدعي وأغرمهما ما أتلف بشهادتهما، وإن نكلا فلا شيء عليهمأ، وأطلق المصنف نقل هذا القول، وهو مقيد بما ذكرناه من إقامة اللطخ وذلك مما يثقوي القوبل الثاني بعدم سماع هذه الدعوى من غير بينة؛ لأنها لو كانت كسائر الدعاوى ما احتيج في توجيهها إلى اللطخ، وهو قول ابن عبد الحكم، وهو أقيس؛ لأنفي ذلك وهناً على الشهود.

وَلَوْ رَجَعَا عَنِ الرُّجُوعِ لَمْ يُقْبَلْ؛ لأَنَّهُ إِقْرَارُ بِإِتْلافٍ

الضمير في (يُقْبَلْ) وفي (أَنَّهُ) عائد على (الرُّجُوعِ) أي: لأن رجوعهما إقرار منهما للمشهود عليه بإتلاف ماله فلا يقبل رجوعهما عنه.

أَمَّا لَوْ ثَبَتَ كَذِبُهُمْ نُقِضَ إِذَا أَمْكَنَ

فصله من (الرُّجُوعِ) لمخالفته له؛ لأن الحكم لا ينقض في الرجوع بخلاف تبيين الكذب فإنه ينقض، ولم يذكروا فيه خلافاً، وهذا كما تقدم في المشهود بقتله ثم يقدم حياً، وفي المشهود بزناه ثم ثبت أنه مجبوب.

وقوله: (أَمْكَنَ) ظاهره أنه يعود على النقض المفهوم من: (نُقِضَ) واحترز بذلك من الفوات بالاستيفاء إذ لم يبق حينئذ إلا الغرم، وأعاده ابن عبد السلام على الثبوت المفهوم من:(ثَبَتَ).

وَلَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ طَلاقٍ وَأَقَرَّا بِالتَّعَمُّدِ نَفَذَ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا فَلا غُرْمَ عَلَيْهِمَا كَشَهَادَةِ عَفْوِ الْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَفِي تَغْرِيمِهِمَا نِصْفَ الصَّدَاقِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ ..

لما فرغ من رجوعهما في الدماء شرع في رجوعهما في الأبضاع فقال: (وَلَوْ رَجَعَا فِي شَهَادَةِ الطَلاقٍ) يريد: بعد الحكم؛ لقوله: (نَفَذَ).

ص: 580

ثم لا تخلو المرأة المشهود بطلاقها إما أن تكون مدخولاً بها أم لا؟ فالمدخول بها لا غرم على الشاهدين؛ لأن الصداق قد استحق عليه بأول وطئه، وإنما فوتا عليه استمتاعاً ولا قيمة له، وشبهه المصنف بشهادة من شهد مستحق القصاص أنه عفا عنه ثم رجعا فإنهما لا غرم عليهما؛ لأنهما إنما فوتا عليه دماً، وشبهه المصنف بالقصاص لإفادة الحكم، فلا يرد عليه أن تشبيهه ليس بجيد؛ لأن التشبيه إنما يكون للخفي بالجلي، والمختلف فيه بالمتفق عليه، والأمر هنا بالعكس فإن البضع ليس بمال البتة، ودم العمد مختلف فيه، هل الواجب القصاص فقط أو التخير بينه وبين الدية؟ ولهذا خالف ابن عبد الحكم في العفو فغرمهما الدية؛ لأنا نقول: إنما يرد هذا لو قصد المصنف بتشبيهه الاستدلال، أما إذا قصد إفادة الحكم فلا، والمشهور أنه لا بأس عليهما إذا رجعا عن شهادتهما أنه عفا عن القصاص.

سحنون: ويجلد القائل مائة ويحبس سنة ويؤدب الشاهدان.

وأما إن كانت غير مدخول بها فقال ابن القاسم: يغرمان نصف الصداق بناءً على أنها لم تملك بالعقد شيئاً؛ لجواز ارتداداها، فبشهادتهما غرم نصف الصداق، وقال أشهب وابن عبد الحكم: لا غرم عليهما، وأفتى به أصبغ بناء على أن نصف الصداق واجب العقد فلم يوجبا على الزوج شيئاً لم يكن واجباً عليه. واعلم أنه نص في المدونة على أنهما يغرمان النصف، وسكت عمن يستحقه، فمن يقول هو الزوج يعلل بما عللنا به، ومن يقول هي الزوجة يرى أن الصداق كان واجباً لها على الزوج، والشاهدان هما اللذان منعاها الباقي فيغرمانه، وانظر كلامه في المدونة على كل من التأويلين، فإنه مبني على خلاف ظاهر المذهب أن المرأة تملك النصف بالعقد، وأيضاً فإنه لا يلتئم ما في المسألة التي بعد هذه وهي قوله:

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةِ الدُّخُولِ فِي مُطَلَّقَةٍ لَغَرِمَا نِصْفَ الصَّدَاقِ

يعني: إذا طلق الزوج زوجته وأنكر الدخول فشهد عليه به شاهدان وغرم [684/ أ] جميع الصداق بشهادتهما ثم رجعا فعليهما نصف الصداق؛ لأنهما أتلفاه، وإن رجع أحدهما غرم ربعه.

ص: 581

وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالدُّخُولِ وَاثْنَانِ بِالطَّلاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالأَكْثَرُ: لا غَرَامَةَ عَلَى شَاهِدَيِ الطَّلاقِ، وَقِيلَ: كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا.

يعني: إذا شهد شاهدان بطلاق امرأة ثبت نكاحها بشهادة غيرهما، وشهد آخران أنه دخل بها، فقضى لها بجميع الصداق ثم رجع الأربعة، فأكثر أهل المذهب أنه لا غرامة على شاهدي الطلاق؛ لأن الصداق إنما دفع بشهادة شاهدي الدخول.

ابن سحنون: وبعض الرواة على خلافه: يريد- والله أعلم-: أن الصداق يكون على جميعهم.

ابن عبد السلام: وكان ينبغي أن يقول: كما لو انفردا.

وَيَرْجَعُ شَاهِدَا الدُّخُولِ عَلَى الزَّوْجِ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ مُنْكِراً طَلاقَهَا

يعني: فإن ماتت المرأة في المسألة المفروع منها فإن شاهدي الدخول يرجعان على الزوج بما غرماه؛ لكونه منكراً لشهادتهما، مقراً بوجوب جميع الصداق عليه، لموتها في عصمته.

وقوله: (إِذَا كَانَ مُنْكِراً طَلاقَهَا) زيادة بيان؛ إذ لا يحتاج إلى الشهادة إلا مع الإنكار.

وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى شَاهِدَيَ الطَّلاقِ بِمَا فَوَّتَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ دُونَ مَا غَرِمَ لَهَا، وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهَا مِنَ الْمِيرَاثِ وَالصَّدَاقِ ..

أي: لو شهدا عليه بالطلاق ثم رجعا فماتت الزوجة، فإن الزوج يرجع على شاهدي الطلاق بما فوتاه من ميراثها؛ إذ لو بقيت في عصمته لورثها، ولا يرجع عليها بشيء مما غرم من الصداق لاعترافه بأن جميع الصداق تكمل عليه بالموت.

وقوله: (وَتَرْجِعُ .. إلخ) يعني: ترجع هي إن مات الزوج بما فوتاه من الميراث وما أسقطاه من صداقها فيما إذا كانت غير مدخول بها؛ لأنهما حينئذ أغرماها نصف الصداق والزوجان منكران للطلاق.

ص: 582

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ تَجْرِيحٍ أَوْ تَغْلِيطٍ لِشَاهِدَيْ طَلاقِ أَمَةٍ غَرِمَا لِلسَّيِّدِ مَا نَقَصَ بِرَدِّهَا زَوْجَةً ..

يعني: إذا شهد رجلان بطلاق أمة من زوجها ففرق القاضي بينهما في شهادتهما، ثم جاء شاهدان آخران فشهدا بأن الأولين كاذبان؛ لغيبتهما مثلاً عن البلد، أو لغير ذلك فقضى القاضي ببقاء الأمة على العصمة، ثم رجع الشاهدان المكذبان للشاهدين الأولين فإن الراجعين يغرمان للسيد ما نقص من ثمنها لما ألحقا بهما من عيب التزويج؛ فيغرمان لسيد الأمة ما بين قيمتها ذات زوج وقيمتها خالية منه.

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ الْخُلْعِ فِي ثَمَرِةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاحُهَا فَقَالَ ابن الماجشون: يَغْرَمَانِ قِيمَتَهَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ كَمَنْ أَتْلَفَهَا، وَفِي الْعَبْدِ الآبِقِ يَغْرَمَانِ الْقِيمَةِ فَإِنْ ظَهَرَ عَيْبُ عِنْدَ الْخُلْعِ اسْتَرَدَّ مَا يُقَابِلُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يُؤَخَّرُ الْجَمِيعُ إِلَى الْحُصُولِ فَيَغْرَمَانِ مَا يَحْصُلُ ..

لا إشكال إن رجعا عن شهادة على امرأة بأن زوجها طلقها بعوض وهي تنكر ذلك أنهما يغرمان ذلك العوض ولو كان الخلع المشهود به على ثمرة لم يبد صلاحها فقضي بذلك للزوج ثم رجعا فقال عبد الملك كما ذكر المصنف: عليهما قيمة الثمرة على الرجاء والخوف قياساً على من أتلف الثمرة قبل زهوها، وقال محمد: لا يرجع عليها بشيء حتى يجد الزوج الثمرة ويقضيها، فيطالب الشاهدان حينئذ بالغرامة، وكذلك اختلف إذا كان الخلع بعبد آبق فقال عبد الملك: يغرمان قيمة الأبق والشارد على أقرب صفاتهما، فإن ظهر بعد أنهما كانا معيبين عند الخلع استردا مما غرماه ما يقابل العيب.

ابن شاس: وعلى قول محمد إذا كان حصول الأبق أمداً قريباً أخذت الغرامة إلى حصوله حسبما قاله في الثمرة، وإن كان بعيداً غرم الشاهدان قيمته على الصفة التي أبق عليها، ثم رجع محمد فقال: لا غرامة على الشاهدين لا في هذا ولا في الجنين إذا وقع الخلع به ورجع

ص: 583

الشاهدان إلا بعد خروج الجنين وقبضه، وبعد وجدان العبد الآبق والبعير الشارد وقبضهما؛ فيغرمان قيمة ذلك يومئذ، وقد كان قبل ذلك تالفاً، وكذلك الجنين، وكذلك الثمرة قبل بدو صلاحها. انتهى.

وعلى هذا المصنف إنما ذكر عن محمد ما رجع إليه، وقول عبد الملك أقيس، وإنما يقع الغرم وهو على الصفة التي كان عليها يوم الخلع كالإتلاف، والاعتبار بقول محمد أنه إن كان تالفاً يومئذ؛ لأن ذلك إنما يعتبر في البيع، أما الإتلاف فلا.

وَإِذَا كَانَتْ مُنْكِرَةً لِلزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَهَا تَكْذِيبُ نَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ مُدَّعِيَةُ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَلَهَا تَكْذِيبُ نَفْسِهَا وَتَرِثُهُ

هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، وليست هي من رجوع البينة، وهي منصوصة في الموازية وكتاب ابن سحنون.

وقوله: (بَعْدَ الْبَيِّنَةِ) فيه حذف مضاف؛ أي: شهادة البينة، واحترز بـ (قَبْلَ الْبِنَاءِ) مما لو بنى بها فإنها تأخذ هنا ما شاهدا به، ولو كانت مقيمة على الإنكار؛ لاستباحة بضعها، فلها تكذيب نفسها إذا طلقه قبل البناء وتأخذ نصف الصداق وتقول:"إنما جحدت النكاح كراهية للزوج" ولها أيضاً الميراث.

الشيخ أبو محمد: بشرط أن تحلف، ولو شهدا عليه بأنه تزوجها بمائة وصداق مثلها مائتان ثم رجعا فإنها ترجع عليهما بما نقص من صداقها.

ولما فرغ [684/ ب] من البضع شرع في العتق وما يتعلق به فقال:

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ عِتْقٍ فَإِنْ كَانَ نَاجِزاً غَرِمَا قِيمَتَهُ، وَالْوَلاءُ لِسَيِّدهِ

يعني: وإن شهدا على فلان أنه أعتق عبده فأعتقه السلطان عليه، ثم رجعا عن شهادتهما لم يرد الحكم، وضمنا قيمته لسيده؛ لكونهما منعاه من الانتفاع به ويكون الولاء لسيده؛ لاعترافهما بذلك، وعلى دعوى السيد فيأخذ ميراثه بالرق؛ لإنكاره العتق.

ص: 584

ابن عبد السلام: وينبغي أن يرد لهما من تركة العبد القيمة التي أخذت منهما؛ لأنه إنما أخذها بمقتضى الملك فيما يزعم لا بمقتضى الولاء، والجمع بين الملك وأخذ القيمة باطل، قيل: وفيه نظر؛ لأن القيمة عوض عما حرمه من منافع الرقبة لا تعلق لذلك بماله، كما لو قتله رجل فإنه يأخذ منه القيمة ويأخذ ماله.

وَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: عَلَيْهِمَا الْقِيمَةُ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ مَنَافِعِ مَا قَبْلَ الأَجَلِ عَلَى غَرَرِهَا وَيَسْتَوْفِيهَا السَّيِّدُ، قَالَ مُحَمَّدُ: لَيْسَ بِمُعْتَدِلٍ؛ لأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ أَكْثَرَ فَيَذْهَبُ مَجَّاناً، وَتَعَقَّبَهُ الْمَازِرِيُّ بِامْتِنَاعِهِ عَادَةً؛ لأَنَّهَا دَاخِلَةُ فِي تَقْوِيمِهِ، وَقَالَ سحنون: عَلَيْهِمَا الْقِيمَةُ وَلَهُمَا مَنَافِعُ الْعَبْدِ إِلَى الأَجَلِ إِلا أَنْ يَسْتَوْفِيَا مَا غَرِمَاهُ قَبْلَهُ، فَلَوْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَخَذَا مَا غَرِمَاهُ؛ لاعْتِرَافِ السَّيِّدِ لَهُمَا بِذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: يُخَبَّرُ السَّيِّدُ فِي تَسْلِيمِ خِدْمَتِهِ كَسُحْنُونِ، وَفِي الاسْتِمْسَاكِ وَدَفْعِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ وَقْتاً بَعْدَ وَقْتٍ كَابْنِ الْمَاجِشُونِ

يعني: وإن شهدا على رجل أنه أعتق عبده إلى أجل ثم رجعا، وما نسبه لعبد الملك فيه نظر، وإنما نسبه صاحب النوادر والمازري وابن شاس لمحمد بن عبد الحكم.

وكان عليهما القيمة؛ لأنهما منعاه من بيعه والانتفاع به، ثم تسقط من تلك القيمة قيمة منافع العبد إلى أجلها.

وأشار بقوله: (عَلَى غَرَرِهَا) إلى أن المنافع تقوم إلى الأجل على تجويز أن يموت العبد قبل الأجل أو يعيش إليه، ويستوفي السيد تلك المنافع.

والضمير في قوله: (يَسْتَوْفِيهَا) عائد إلى (الْمَنَافِعِ) لا إلى (الْقِيمَةُ) والذي نقله صاحب النوادر عن عبد الملك أن الشاهدين يغرمان القيمة وتسليم إليهما الخدمة يأخذان منها ما يؤديا، واعترض ابن المواز القول الذي ذكره المصنف بأن قيمة منافع العبد إلى الأجل قد تكون مساوية لقيمة العبد فيكونان كأنهما أتلفا عليه العبد ولا يغرمان شيئاً.

ص: 585

المازري: والذي قال محمد صحيح من جهة الفقه لو أمكن تصوره، لكنه كالممتنع عادة؛ لأن قيمة المنافع المؤجلة داخلة في قيمة رقبته التي تبقى مملوكة بها طول حياته، وما يكون داخلاً في الشيء لا يكون أكثر منه، هذا معنى كلامه، وهذا الذي قاله المازري صحيح ولو كان الناس يلتفتون في تقويم العبد إلى مدة حياته، وأكثرهم يقطعون النظر عن ذلك.

وقوله: (وَقَالَ سُحْنُونُ) هو القول الثاني: عليهما قيمة العبد معجلة ويأخذان العبد فيستخدمانه في الأجل، فإن حصل لهما مثل ما دفعاه إلى السيد عند حلول الأجل فقد تم الحكم وخرج العبد حراً، وإن حل الأجل وقد بقي لهما من القيمة شيء فكذلك، ولا شيء لهما مما بقي، وإن استوفيا قبل الأجل رجع العبد يخدم سيده، ثم إن مات في يد السيد قبله؛ أي: قبل الأجل وترك مالاً أو قتل فأخذ ماله قيمة، أو مات بعد الحرية وترك مالاً فليأخذ الشاهدان من ذلك ما بقي لهما، وعلل المصنف هذا الأخذ من ماله أو قيمته بأن السيد معترف أن ما يستحقه من مال العبد عليه فيه دين، وهو مقدار ما أخذ منهما، وقول محمد الذي حكاه المصنف ظاهر التصور، نقله ابن يونس على وجه أتم من المصنف؛ لأنه قال: قال ابن المواز: وإن قال اسليد بعدما أغرمهما قيمته: "أنا لا أسلمه إلى الشاهدين، ولكن أنا استخدمه وأدفع إليهما ما يحل من خدمته" فذلك له، وربما كان ذلك في الجارية النفيسة وذات الصنعة فله ذلك. ويدفع إلى الراجعين كسبهما وعملهما حتى ينتهي ذلك إلى ما غرماه، والسيد في ذلك مخير بين أن يسلمه إليهما ليأخذا من خدمته ما أديا، أو يحسبه ويدفع إليهما كل ما حصل من خدمته إلى مبلغ ما أديا.

وإن شهدا بتنجيز عتق إلى أجل فقضى بذلك ثم رجع فعليهما قيمة الخدمة إلى الأجل على غررها ولو كان معتقاً إلى موت فلان فعليهما قيمة خدمته أقصى العمرين عمر العبد وعمر الذي أعتق إلى موته وذهب أصبغ إلى أنه يغرم قيمة الرقبة.

ص: 586

فَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ تَدْبِيرِ غَرِمَا قِيمَتَهُ نَاجِزاً وَاسْتَوْفَيَا مِنْ خِدْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ عَتَقَ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَلا شَيْءَ لَهُمَا، وَإِنْ رَدَّهُ أَوْ بَعْضَهُ دَيْنُ فَهُمَا أَوْلَى كَالْجِنَايَةِ.

يعني: وإن كان الإشهاد عليه بأنه دبر عبده فقضى عليه بذلك ثم رجعا فإنهما يغرمان قيمته ناجزاً؛ لمنعهما سيده من بيعه وهبته، ويقال لهما: ادخلا فيما أدخلتماه فيه فاقتضيا من الخدمة التي أبقيتماها بيده من رقه ما أديتما، ثم ترجع خدمته لسيده، ثم حكمهما في موته في مدة حياة السيد أو بعدها ولم يستوفيا ما غرماه حكمهما في العتق إلى الأجل، ومقتضى كلام المصنف وغيره أنه يتفق على هذا، ويرجح قول سحنون في العتق إلى الأجل.

وقوله: (فَإِنْ عَتَقَ) يعني: فإن أخذ منهما ثم مات [685/ أ] السيد وحمله الثلث خرج هذا المشهور بتدبيره حراً، ولا يكون للشاهدين عليه شيء، وإن رق منه شيء فهما أولى به حتى يستوفيا منه، وكذلك إن رده دين فهما أولى من صاحب الدين، وهما كأهل الجناية، ثم إذا بيع وفضل منه فضل لم يكن للشاهدين أخذه؛ إذ لا يربحان.

محمد بن عبد الحكم: فإن كان الشاهدان عديمين لم يوجد عندهم ما يؤخذ من القيمة التي لزمتهما فالواجب أن يحكم عليهما بما بين قيمة هذا العبد مدبراً ممنوعاً مشتريه من بيعه ومحرز عتق جميعه أو عتق بعضه أو رق جميعه لو جاز في الشرع البيع على هذا فيطلب سيد العبد ذلك من الشاهدين متى أيسر. وقال بعض أهل الحجاز: بل يستخدمه سيده ويحسب عليه في الاستخدام ما لزمهما من قيمة جميع العبد حتى يستوفي ذلك، فيبقى في يده مدبراً أو يموت العبد قبل أن يستوفي القيمة فيطلب الشاهدين بالقيمة أو بما بقي منها متى أيسرا، قال: ولو قال قائل: إن الشاهدين إنما يغرمان ما بين هاتين القيمتين اللتين ذكرناهما كانا موسرين أو معسرين لم أعب ذلك، وهو أقوى في النظر من القول الأول، ولو كان عوض المدبر مدبرة ممن لا حرفة لها ونهي عن استئجارها فإنها إذا قضى على

ص: 587

الشاهدين بقيمتها نجز عتقها؛ إذ لا فائدة في بقائها إلا أن يلتزما النفقة عليها رجاء رقها بعد وفاة سيدها فذلك لهما، أو يتطوع السيد بذلك رجاء أن ترق له بذلك.

وَإِنْ كَانَتْ كِتَابَةً فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَالأَكْثَرُونَ: غَرِمَا قِيمَتَهُ وَاسْتَوْفَيَا مِنْ نُجُومِهِ، فَلَوْ رَقَّ اسْتَوْفَيَا مِنْ رَقَبَتِهِ، وَقَالَ ابن القاسم: تُجْعَلُ الْقِيمَةُ بِيَدِ عَدْلٍ حَتَّى يُسْتَوْفَي مِنَ الْكِتَابَةِ مِثْلُهَا فَتُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ: وَقَالَ سحنون: تُبَاعُ الْكِتَابَةُ بِعَرْضٍ فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ أَتَمَّاهَا ..

الظاهر في: (كَانَ) أنها تامة و (كِتَابَةً) فاعلها، وحذف الصفة لدلالة السياق عليها؛ أي: حصلت كتابة مشهود بها مرجوع عنها، ويحتمل أن تكون ناقصة، واسمها مضمر عائد على الشهادة، وحذف حرف الجر من:(كِتَابَةً) وهو الخبر أو حذف مضاف التقدير، فإن كانت الشهادة المرجوع عنها بكتابة، أو شهادة كتابة ابن راشد: واتفق المذهب على إلزام الشاهدين قيمة المكاتب؛ لمنعها السيد من الانتفاع.

محمد: والقيمة يوم الحكم.

وإذا كان الحكم في التدبير الغرم فأحرى هنا؛ لأن تصرف السيد في المدبر أقوى من الكتابة، لكن اختلف المذهب؛ فالمشهور على ما صرح به المازري وغيره ما ذكره المصنف عن عبد الملك والأكثرين: أنهما إذا غرما القيمة فأدياها من النجوم فإن كانت النجوم مساوية للقيمة وأداها خرج حراً ولا كلام، وكذلك إن كانت أقل فلا كلام للشهود، وإن كانت أكثر أخذا منها مقدار القيمة وأخذ السيد باقيها، وإن عجز عن الباقي رق له، وإن عجز قبل أن يقبض الراجعان ما أديا بيع لهما بتمام ما بقي لهما، فإن لم يكن فيه تمام ذلك فلا شيء لهما غيره.

قوله: (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) تصوره ظاهر، ووجه تضعيف ابن المواز ما أشار إليه في كتابه من أن ذلك يستلزم ضررين:

ص: 588

أحدهما: على السيد؛ لإخراج عبده من يده من غير عوض ناجز مع إقرارهما بإتلافه.

وثانيهما: على الشاهدين في أنهما ممنوعان من القيمة ومن الكتابة مع احتمال ضياع القيمة فيضمناها مرة أخرى، ولهذا قال: لو كنت أقول بهذا المذهب لجعلت للشهود أن يستردوا من القيمة الموقوفة مثل ما أخذ السيد، ولا تبقى موقوفة كلها بعد أن وصل إلى السيد بعضها، وما حكاه المصنف عن سحنون ظاهر التصور، لكنه ليس مذهباً لسحنون، وإنما حكاه سحنون على ما في النوادر وابن يونس عن بعض الأصحاب، وحكاه ابن المواز عن عبد الملك، واختيار سحنون هو القول الأول.

فَإِنْ كَانَتْ بِاسْتِيلادٍ فَالْقِيمَةُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُخَفَّفُ لِمَا بَقِيَ مِنَ الاسْتِمْتَاعِ وَلا شَيْءَ لَهُمَا إِلا بِجِنَايَةٍ عَلَيْهِا فَلَهَا مِنَ الأَرْشِ مَا غَرِمَاهُ، وَفِي مَالٍ بِاسْتِفَادِةٍ قَوْلانِ ..

أي: فإن كان الرجوع عن الشهادة باستلاد، ويحتمل أن تكون الباء بمعنى: عن، كقوله:

فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي خَبِيرُ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

ومعنى كلامه: أنهما إذا شهدا على رجل أنه استولد أمته ثم رجعا فعليهما القيمة على المشهور. قال في النوادر: وروي عن بعض أشياخنا أنه لا شيء عليهما، قال: وهو مذهب لا أدري حقيقته.

المازري: والأمر كما ذكر؛ لأنه يخرج عن الأصول التي عقدناها في أمثال هذه المسألة ولا يعذر عن ذلك بالخلاف في بيع أم الولد، فإن الخلاف في بيع المدبر أشهر.

ابن عبد السلام: وعلى الأول فالمشهور أنه يرجع عليهما بقيمة أمة موقوفة، وكلام ابن عبد الحكم خلاف.

ص: 589

وقوله: (وَلا شَيْءَ لَهُمَا) يعني: إذا غرما القيمة لم يكن لهما شيء على السيد؛ إذ لا خدمة للسيد في أم الولد حتى يرجعا بها، اللهم إلا أن تخرج أو تقتل فيؤخذ لذلك أرش فلهما الرجوع في ذلك بمقدار ما أديا؛ لأن القيمة عوض رقبتها، فإن فضل من الأرش فضل فهو للسيد. واختلف في رجوع الشاهدين في مال استفادته فقال سحنون: يرجعان فيما استفادت بما أديا، وقال ابن المواز: لا يرجعان فيما أفادته بخدمة أو سعاية.

وَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ أُمِّ وَلَدٍ فَالأَكْثَرُ: أَلا [685/ ب] غُرْمَ، وَقَالَ ابن القاسم: قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ قَتَلاهُا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُخَفَّفُ ..

الباء تحتمل أن تكون ظرفية وبمعنى عن كما تقدم؛ أي: إذا شهدا على رجل أنه أعتق أم ولده ثم رجعا فقال المازري: الأكثر على أنهما لا يغرمان شيئاً؛ لأنهما إنما أتلفا عليه الاستمتاع بالفرج، وهو لا يقوم كما في الرجوع عن الطلاق بعد البناء، وقال ابن القاسم في الموازية: يغرمان قيمتها كما لو قتلاها، والفرق أن أم الولد بقي فيها أرش الجناية وانتزاع المال، وقال محمد بن عبد الحكم: يخفف عنها، قال في النوادر: بقدر ما بقي له فيها من الرق.

ابن عبد السلام: وينبغي أن يكون التخفيف هنا بإسقاط أكثر منه في المسألة التي قبلها؛ لأنه يسقط هنا باعتبار الرقبة وهناك باعتبار المنفعة، وقال أصبغ: لا قيمة على قاتل أم الولد.

فَإِنْ كَانَ بِعِتْقِ مُكَاتَبِ غَرِمَا قِيمَةَ كِتَابَتِهِ

ما ذكره من غرم قيمة الكتابة ظاهره خلاف المنصوص؛ فإن الذي في الموازية وكتاب ابن سحنون وذكره المازري وغيره أنهما يغرمان للسيد ما أتلفاه عليه مما كان على المكاتب، عيناً كان أو عرضاً، قال في الموازية: ويؤديانه على النجوم، وقاله عبد الملك.

ص: 590

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةٍ بِإِقْرَارٍ بِبُنُوَّةٍ لَمْ يَغْرَمَا إِلا بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ بِالْمِيرَاثِ

يعني: إذا ادعى رجل أن فلاناً أبوه فأنكر فشهد له شاهدان بذلك فحكم القاضي بشهادتهما ثم رجعا فلا غرامة على الشاهدين ما دام المشهود له لم يصل إلى شيء من مال الأب؛ لأنهم لم يتلفوا على الأب مالاً، فلو مات المحكوم عليه وله ورثة فحجبهم هذا الولد أو شاكرهم غرم الشاهدان جميع ما أخذه المشهود له، وإن لم يكن للولد مشارك غرما جميع التركة لبيت المال، فإن كان في التركة مقوم غرما قيمته.

فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِبُنُوَّتِهِ عَبْداً لَهُ غَرِمَا قِيمَتَهُ نَاجِزاً ثُمَّ غَرِمَا بَعْدَ الْمِيرَاثِ مَا فَوَّتَاهُ ..

يعني: فلو كانت المسألة بحالها إلا أن المشهود ببنوته عبداً للمشهود عليه، وكلامه ظاهر التصور.

فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَاً آخَرَ عُزِلَتْ قِيمَةُ الابْنِ الأَوَّلِ؛ لأَنَّ الْمُلْحَقَ أَقَرَّ أَنَّ أَبَاهُ ظَلَمَ فِيهَا الشُّهُودَ، ثُمَّ يَغْرَمُ الشَّاهِدَانِ نِصْفَ مَا بَقِيَ؛ وَهُوَ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ ..

يعني: فإذا مات الأب وترك هذا الابن المشهود له بالبنوة وولداً آخر ثابت النسب فإنهما يقتسمان التركة، إلا قيمة الولد التي غرمها الشاهدان فتدفع للابن الثابت النسب فقط؛ لأن المشهود له مقر أنه لا حق فيها لأبيه؛ لصحة نسبه على دعواه، فيكون الأب قد ظلم فيها الشهود، ثم يغرم الشهود مثل ما أخذه المشهود له للابن الثابت النسب، وهكذا قال في الموازية.

وَلَوْ ظَهَرَ دَيْنُ مُسْتَغْرِقُ أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَكُمِّلَ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الأَوَّلِ بِمَا غَرِمَهُ الْمُلْحَقُ لِلْغَرِيمِ؛ لأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا ..

يعني: فلو فرضنا المسألة بحالها، ولكن طرأ على الميت دين فإنه يبدأ بما في يد الولدين فيوفى منه، فإن لم يف بالدين فإن بقية الدين تؤخذ من القيمة التي بيد ثابت النسب ما دامت

ص: 591

القيمة تسعه، ثم يرجع الشاهدان على ثابت النسب بما غرماه له؛ لأنهما إنما غرماه له بسبب إتلافهما له بشهادتهما فلما ثبت الدين على أبيهما وجبت التركة للدين ولم يتلفا عليه شيئاً.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمُلْحَقِ وَالتَّرِكَةُ مِائَتَانِ وَكَانَتِ الْقِيمَةُ الْمَاخُوذَةُ مَائَةً أَخَذَ الْمُلْحَقُ مِائَةً وَالْعَصَبَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَالِ مِائَةً، ثُمَّ غَرِمَا لَهُمَا مِائَةً أُخْرَى؛ الَّتِي فَوَّتَاهَا ..

يعني: فإن لم يترك الميت غير الولد الملحق.

والواو في: (وَالتَّرِكَةُ مِائَتَانِ) للحال وإحدى المائتين القيمة، والمائة الأخرى من كسب الأب، فإن مائة القيمة لا يحل للابن أخذها كما تقدم، فيأخذها العاصب أو بيت المال ثم يغرم الشاهدان للعصبة أو بيت المال المائة التي أخذها الابن، وهو ظاهر.

فَلَوْ طَرَأَ دَيْنُ مِائَةُ أُخِذَتْ مِنَ الْمُلْحَقِ وَيَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ بِمِائَةٍ عَلَى مَنْ غَرِمَاهَا لَهُ.

إنما أخذت المائة من الملحق وحده لاعترافه أن أباه لم يترك ما يقضي منه دينه سواها، وأن المائة التي أخذها العصبة أو بيت المال ظلم على المشهود، وإنما رجع الشاهدان بالمائة التي أخذها المستلحق على من غرماها له لأن المستلحق قد أداها في الدين، فكشف الأمر أن الشاهدين لم يفوتاها على العصبة ولا على بيت المال.

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادِةِ عُبُودِيَّةٍ لِمُدَّعِي حُرِّيَّةٍ فَلا قِيمَةَ عَلَيْهِمَا فِي الرَّقَبَةِ، وَيَغْرَمَانِ كُلَّ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ اسْتِعْمَالِ وَمَالٍ مَنْزُوعٍ، وَلا يَاخُذُهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، وَيُوَرَّثُ عَنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ لا بِالرِّقِّ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ هِبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعِتْقٍ، وَلا يَتَزَوَّجُ؛ لأَنَّهُ يُنَقِّصُ رَقَبَتَهُ ..

يعني: إذا شهدا على رجل أنه عبد لفلان وهو يدعي الحرية فقضى عليه بالرق ثم رجعا فقال محمد بن عبد الحكم ما ذكره المصنف: لا قيمة عليهما؛ لأن الحر لا قيمة له،

ص: 592

ويتخرج على ما اتفق عليه فقهاء قرطبة في أيام القاضي ابن بشير فيمن باع حراً وتعذر فسخ البيع: "أن عليه الدية" أن يكون هنا عليه الدية، وعلى ما ذكره المصنف فيغرم الشاهدان للعبد من ماله، ثم ليس لمن قضى له بملكه أن يأخذ ذلك؛ لأنهما لم يتلفاه عليه، ولأنه لو أخذه لزمهما غرامته [686/ أ] ثانياً وثالثاً ويتسلسل، فإن مات العبد وما أخذه من الشاهدين في يده ورثه ورثته الأحرار؛ لأنه إنما ملكه على تقدير أنه حر، ولذلك كان له الهبة والصدقة والعتق فيه، وليس له التزويج في هذا المال ولا في غيره؛ لأن ذلك يعيب رقبته.

وَلَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَةٍ بِمَائَةٍ لِزَيْدٍ وَعُمَرَ ثُمَّ قَالَا: هِيَ لِزَيْدٍ وَحْدَهُ غَرِمَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَمْسِينَ لا لِزَيْدٍ ..

تصور المسألة واضح، وإنما غرما للمشهود عليه خمسين لاعترافهما أنهما أخرجا خمسين من يد المشهود عليه إلى من لا حق له فيها.

وقوله: (لِزَيْدٍ) لأن شهادتهما ثانياً لا تقبل؛ لأنهما مجرحان.

ابن عبد السلام: ولم يضمن أهل المذهب الشاهدين لزيد شيئاً وعذروهما بالنسيان، وقد اختلف في المودع هل يضمن بالنسيان، وقد ضمنوا من أقر بثوب لزيد ثم لعمرو، فألزموا المقر قيمة الثوب لعمرو ولم يعذروه بنسيانه أولاً، وقد يفرق بأن الشاهد يكثر تحمله للشهادة ولو ضمن بالنسيان لكثر تضمينه، وفي ذلك ضرر عظيم، لكنه لو أقر أنه شهد أولاً لمن شهد له متعمداً للزور لانبغى أن يتفق على تضمينه للثاني.

وَمَتَى رَجَعَ أَحَدُهُمَا غَرِمَ نِصْفَ الْحَقِّ، وَعَنْ بَعْضِهِ غَرِمَ نِصْفَ الْبَعْضِ

يعني: إذا قضى بشاهدين ورجع أحدهما غرم نصف الحق الذي شهدا به، ولو رجع أحدهما عن نصف ما شهد به غرم ربع الحق؛ لأن الحق ثبت بهما فكل واحد أتلف نصفه.

ص: 593

وَلَوْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِعَدَمِهِ فَلا غَرَامَةَ فَإِذَا رَجَعَ غَيْرُهُ غَرِمَ، وَأُدْخِلَ الأَوَّلُ مَعَهُ، وَعَنْ أَشْهَبَ: يُغْرَمُ الرَّاجِعُ فَقَطْ؛ مِنْ ثَلاثَةْ الثُّلُثَ وَمِنْ أَرْبَعَةٍ الرُّبُعَ ..

تصور كلامه ظاهر، والأول هو المشهور.

فَإِنْ حَكَمَ بِرَجُلٍ وَنِسَاءٍ فَرَجَعُوا فَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ، وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ

لأن النساء وإن كثرن فكرجل واحد، فلو رجع رجل وامرأة من ثلاثة نسوة فعلى الرجل نصف الحق؛ لأنه قد بقي على نصف الحق امرأتان.

فَلَوْ رَجَعَ مِنْ عَشْرٍ ثَمَانٍ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ رَجَعَتْ تَاسِعَةُ فَعَلَى التِّسْعِ الرُّبُعُ

هذا جار على المشهور، وأما على قول أشهب: فأي امرأة رجعت غرمت نصف السدس. وقوله: (فَإِنْ رَجَعَتْ تَاسِعَةُ فَعَلَى التِّسْعِ الرُّبُعُ) هو متفق عليه.

وفيه نظر؛ لأن شهادة الواحدة مطروحة في الأموال من كل الوجوه بدليل أنه لو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كلهم لم يكن على المرأة شيء، وعلى هذا التقدير فالواحدة التي لم ترجع في مسألة المصنف شهادتها مطروحة، فكان ينبغي أن يكون على التسع النصف والله أعلم.

فَلَوْ كَانَ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ امْرَأَتَانِ كَالرَّضَاعِ وَغَيْرِهِ فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدُسُ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ نِصْفُ السُّدُسِ ..

يعني: فلو كانت المسألة بحالها، وشهد رجل وعشر نسوة على رضاع امرأة مع رجل والنكاح معقود بينهما، ثم رجعوا وغلب الذكر، فعلى الرجل سدس الحق؛ لأنه كامرأتين، وعلى كل امرأة نصف السدس، ونحوه لابن شاس.

وفيما قالاه نظر؛ لأن الرجل هنا كامرأة؛ لأن شهادة امرأتين تقبل فيه، ولم أرها في كلام غيرهما.

ص: 594

ابن عبد السلام: وإن صحت منقولة للمتقدمين فلعل وجهها أن الشهادة لما آلت إلى المال حكم في الرجوع بحكم الرجوع عن شهادة الأموال، إلا أن في كلام ابن شاس ما يمنع هذا التأويل، وقد ذكر المؤلف بعضه في قوله:

فَلَوْ رَجَعُوا إِلا امْرَأَتَيْنِ فَلا غُرْمَ

يعني: فلو رجع الرجل وثمان نسوة فلا غرم على المرأتين الباقيتين لاستقلالهما.

فَلَوْ رَجَعَتْ أُخْرَى فَالنِّصْفُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ رَجَعَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَشْهَبَ خِلافُهُ

أي: فلو رجعت- والمسألة بحالها- تاسعة فعلى الرجل والتسع نصف؛ لأن النصف الباقي مما تستقل به المرأة.

وقوله: (فَالنِّصْفُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ رَجَع) إن عنى أن الرجل كالمرأة فهو خلاف ما تقدم، وإن عنى أنه كامرأتين فهو مشكل.

وقوله: (وَقِيَاسُ قَوْلِ أَشْهَبَ خِلافُهُ) هو راجع إلى قوله (فَلَوْ رَجَعَ مِنْ عَشْرٍ ثَمَانٍ) وشبهه وهو ظاهر.

وَلِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مُطَالَبَتُهَا قَبْلَ غُرْمِهِ لِيَغْرَمَهُ لِلْمَقْضِي لَهُ

يعني: أن الشاهدين إذا شهدا أن لرجل على آخر حق فقضي عليه ثم رجعا قبل أن يغرم المقضي عليه فله أن يطالبهما بالدفع للمقضي له، ومقتضى كلامه: أن يطالبهما بالدفع إليه ليغرمه للمقضي له، وأصل هذا في النوادر لابن عبد الحكم، والذي فيها: أن للمقضي عليه أن يطالب الشاهدين بالمال حتى يدفعاه عنه إلى المقضي له، قال: وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم على الشاهدين بشيء حتى يؤدي المقضي عليه، وفي هذا تعريض لبيع داره وإتلاف ماله، والذين أوجبنا عليهم ذلك قيام، أرأيت لو حبسه في

ص: 595

ذلك أيترك محبوساً ولا يغرم الشاهدين؟ بل يؤخذان بذلك حتى يخلصاه، فإن لم يفعلا حبسا معه.

ووقع تضعيف ابن عبد الحكم في بعض النسخ إثر المسالة التي بعد هذه، وليس بظاهر؛ لأن تضعيفه إنما هو في هذه على ما في النوادر وابن يونس.

وَلِلْمَقْضِيَّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَ مِنَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُمَا إِلا بَعْدَ إِغْرَامِ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ ..

الإشارة بذلك إلى الطلب المفهوم من مطالبتهما، أي: طلب الشاهدين، وفاعل تعذر يعود على الغرم، وما قاله المصنف هو مقتضى الفقه؛ لأن الشهود غرماء غريمه، إلا أنه خلاف ما في الموازية، ففيها: وإذا حكم بشهادتهما ثم رجعا فهرب المقضي عليه فطلب المقضي له أن يأخذ الشاهدين بما كان يغرمانه لغريمه لو غرم، قال: لا يلزمهما غرم حتى يغرم المقضي عليه.

قوله: (وَقِيلَ: لا يَلْزَمُهُمَا .. إلخ) أي: لا يلزم الشاهدين الغرم، وهذا ظاهر الموازية.

* * *

انتهى المجلد السابع

من كتاب التوضيح

للشيخ خليل بن إسحاق الجندي

ويليه المجلد الثامن وأوله

كتاب الدعوى

ص: 596