المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإِجَارَةُ الجوهري: الأجر: الثواب، آجره الله، يأجره أجراً. وكذلك آجره الله - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٧

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الإِجَارَةُ الجوهري: الأجر: الثواب، آجره الله، يأجره أجراً. وكذلك آجره الله

‌الإِجَارَةُ

الجوهري: الأجر: الثواب، آجره الله، يأجره أجراً. وكذلك آجره الله إيجاراً أو آجر فلان خمسة من ولده، أي: ماتوا فصاروا أجرة. والأجرة: الكراء، يقال: استأجر الرجل فهو يأجرني أي يصير أجري، قال تعالى: أن تأجرني ثماني حجج. انتهى.

فحكى في الفعل: القصر والمد، وأنكر الأصمعي المد.

عياض: وهو صحيح. فقد نقل اللغتين غير واحد.

(الإِجَارَةُ): منافع معلومة، وهي مأخوذة من الأجر وهو الثواب.

كَالْبَيْعِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لَهَا أَرْكَان

يعني: أن كل ما يصح بيعه جازت إجارته، وما ليس فليس، لأن الإجارة بيع منافع، ولا فرق بين بيع المنافع والأعيان، وهكذا قال عياض.

وهي معاوضة صحيحة يجري فيها ما يجري في البيوع من الحلال والحرام.

الأَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايِعْيَنِ

يعني: العاقدان للإجارة فأشار إلى أن للإجارة أركان.

(أَوَّلُ: الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايِعْيَنِ) شرطهما التمييز وقيل: إلا السكران. والتكليف شرط اللزوم، والإسلام شرط المصحف والمسلم، واقتضى تشبيهه أنه لو آجر الصبي نفسه لكان للولي إمضاؤه وفسخه، وقد نص في المدونة على ذلك، وكذلك المعين.

قال في المدونة: فإن فعلا، فعليه الأكثر مما سماه، وأجرة المثل.

ابن راشد: وللسفيه البالغ أن يؤاجر نفسه على ظاهر المذهب، فإن كان في أجره محاباة فلوليه [613/ ب] النظر في ذلك.

ص: 139

قال مطرف وابن الماجشون: لا بأس أن يستأجر الرجل الغلام لم يبلغ الحلم، والجارية لم تحض، من أنفسهما إذا عقلا وكان ما فعلوه نظراً، ويدفع إجارتهما إليهما، ويبرأ بذلك الدافع ما لم يكن شيء له بال. وما كان في إجارتهما من محاباة فعلى المستأجر إتمامها، كان معهما ولي أم لا، وكذلك إذا عقد عليما أخ أو عم. يجوز في ذلك ما يجوز إذا عقداه، ويبرأ بذلك إذا كان الولي مأموناً، وإن كان ولياً من الإمام كان أحب إلينا. وقال ابن عبد الحكم وأصبغ لا يؤاجر إلا المأمون.

وهكذا نقل صاحب النوادر وغيره، وذكر بعض على هذا الموضع أنه لا يجوز لهما أن يعقدا على أنفسهما عند ابن القاسم، وأنه إنما يعقد عليهما عنده والوصي أو مقدم القاضي.

الأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ

هذا هو الركن الثاني، ومعنى كلامه: أن ما جاز أن يكون ثمناً، جاز أن يكون أجرة، وحاصله: أنه يشترط في الأجرة ما قدمه في المعقود عليه في البيع أن يكون طاهراً، منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، معلوماً. وهذه الكلية لا ينخرم إلا بكراء الأرض مما يخرج منها، لأن الطعام يصح أن يكون ثمناً، ولا يصح أن يكون أجرة بالنسبة إلى الأرض.

وأجاب ابن عبد السلام: بأن مراده، أن كل ما هو صالح للتنمية من حيث هو في البيع، فهو صالح لأن يكون عوضاً في الإجارة، إلا أن يعرض بذلك مانع من الموانع. ألا ترى أنه لا يصلح الاعتراض بالثمرة مثلاً على المعقود عليه، من جهة أنه لا تصلح المعاوضة بينه وبين الرطب، وأيضاً فالمانع من كون الطعام إجارة، ما يؤدي إليه، إما من الربا، وإما من المزابنة باعتبار ما يخرج من الأرض.

وأجاب غيره بأن المصنف قد استثناه بعد الأرض.

ص: 140

فإن قيل: كلامه منتقض بما أجازه ابن القاسم في العتبية في الخياط المخالف الذي لا يكاد يخالف مستخيطه أن يراضيه على أجرة إذا فرغ، فإنه يدل على عدم اشتراط المعلومية.

قيل: هذه صورة نادرة، فلا تقدم على أن ابن حبيب قال: لا ينبغي أن يستعمله حتى يسمي أجرته.

وَلا تُتَعَجَّلُ إِلا بَشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ إِلا أَنْ يَكُونَ عَرْضاً مُعَيَّناً أَوْ عَلَى إِجَارَةٍ مَضْمُونَةٍ

إنما لم تتعجل الإجارة، لأن عوضها غير معجل بخلاف البيع.

ولو قال: إلا أن تكون عرضاً معيناً أو تكون الإجارة مضمونة كما في الجواهر لكان أبين، ولا إشكال في لزوم التقديم مع الشرط أو العادة. ولزوم التقديم في العقد المعين، لئلا يؤدي إلى بيع معين يتأخر قبضه وما في الإجارة المضمونة؛ لئلا يلزم الدين بالدين كالسلم، وقيد ذلك في الموازية بألا يشرع، وأما لو شرع في الركوب لجاز التأخير.

وكذلك قال عبد الوهاب؛ أي: لأن قبض الأوائل كقبض الأواخر، فلا يلزم الدين بالدين.

قال في المقمات: قال عبد الوهاب: يجب في المضمونة تعجيل أحد الطرفين من الأجرة، والشروع في الاستيفاء، يريد إذا كان العمل يسيراً ليخرج من الدين بالدين وقيد ما قال غيره بأن يكون العمل يسيراً.

وما ذكره المصنف من لزوم التقديم إذا كان الكراء مضموناً، نص عليه مالك، وهو الأصل لما تقدم، لكن اختلف في ذلك في الكراء المضمون؛ أي: الحج ونحوه بسبب ضرورة عارضت ذلك.

ففي الموازية عن مالك في من تكارى كراءً مضموناً إلى أجل، مثل الحج في غير إبانه فلا يجوز أن يؤخر النقد، ولكن يعجل الدنانير ونحوها. وكان يقول: لا ينبغي إلا أن ينقد

ص: 141

مثل ثلث الكراء، ثم رجع فقال: قد اقتطع الأكرياء أموال الناس، فلا بأس أن يؤخرهم بالنقد، ويقدموهم بالدنانير وشبهه.

تنبيه:

قيد في الجواهر الطعام بأن يكون رطبا، وتبع في ذلك صاحب التلقين.

والظاهر أنه لا فرق بين الطعام الرطب واليابس؛ لأنه بيع عين يتأخر قبضه فيهما، نعم الغرر في الرطب أقوى، وفي بعض النسخ بعد قوله:(مُعَيَّناً أَوْ طَعَاماً وَشِبْهَهُ)

وَمَنَافِعُ الْعَيْنِ كَالْعيْنِ

أي: الأجرة تصح بمنفعة العين كالعين. ومراده بـ (الْعَيْنِ) المعين؛ أي: الابة التي تقابل المنفعة، ويدل عليه إضافة المنافع إليه.

وَلِذَلِكَ جَازَ سُكْنى بِسُكْنَى، أَوَّلُهُمَا مُتَّفِقُ أَوْ مُخْتَلِفُ

اللام: للتعليل؛ أي: ولأجل أن منافع العين كالعين، جاز أن تكون سكناً عوض السكنى، ولو كانت منافعا لذات كالمنافع المضمونة، لم يجز ذلك، وخصص السكنى لأنها الواقعة في الرواية، وإلا فلا فرق في ذلك بين العبد والدابة والأرض.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطُ وَلا عَادَةُ أَخَذَ مُيَاوَمَةُ

هكذا نقل صاحب الجواهر وغيره عن ابن القصار.

ومعنى (مُيَاوَمَةُ) أي: كل ما تمكن من استيفاء منفعة وما لزمه أجرته، لأنه المسكن وظاهر كلام المؤلف يتناول المنافع، بالأجرة حقيقة في العرف مقصورة عليها، والمذهب أن الصانع لا يستحق الأجرة عند الإطلاق، إلا بعد تمام العمل.

ص: 142

نعم خرج بعض الشيوخ على قول ابن المواز، في الصانع يضمن المصنوع بصيغته، ويأخذ الأجرة بكمالها، أن يكون حكمه عند التنازع في قبض الأجرة حكم مكري الراحلة، مهما عمل شيئاً أخذ بحسابه.

فَإِنْ كَانَ عَلَى عَرْضٍ مُعَيَّنٍ وَالْعُرْفُ التَّأخِيرُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَسَدَ الْعَقْدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَصِحُّ وَيُعَجَّلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِطْلاقَ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ أَوَّلاً ..

(فَسَدَ الْعَقْدُ) أي إلا أن يشترط التعجيل.

وقال غيره: يصح ويجبر على التعجيل؛ وهو معنى قوله: (وَيُعَجَّلُ) والبناء الذي ذكره المصنف ذكره الأستاذ أبو [614/ أ] بكر، فقال: وهذا أصل مختلف فيه بين ابن القاسم والمدنيين.

فعند ابن القاسم: يحمل الإطلاق على العرف، فإن كان العرف فاسداً.

وعند ابن الماجشون وغيره من المدنيين: لا حكم للعرف الفاسد، وإنما التأثير للعرف الصحيح.

ووجه قول الغير؛ أن الحمل على الفساد خلاف قصد المتبايعين لأنهما قاصدان لانبرام العقد. ونوقش المصنف في تخصيص الخلاف هنا إذا كان العرف التأخير.

وإن مذهب ابن القاسم في كراء الرواحل الفساد إذا لم يكن العرف التقديم، سواء كان العرف التأخير أو لم يكن عرف وكانوا يتبايعون بالوجهين.

وابن حبيب يصحح في الوجهين، صرح بذلك اللخمي وابن يونس وغيرهما، وعلله ابن يونس بأنه إذا لم يكن ثم عرف من قاعدة ابن القاسم عدم تعجيل الأجرة فكان ذلك الشرط التأجيل والدنانير والدراهم إذا كانت أيضاً معينة حكمها حكم العرض.

ص: 143

نص على ذلك في المدونة، ففيها وقال غيره في الدنانير جائز وإن تلفت فعليه الضمان وعلى هذا، ففي قول المصنف: عرض معين، قصور، وفي بعض النسخ وهو أحسن.

وَلَوِ اسْتَاجَرَ السَّلَاّخَ بِالْجِلْدِ، وَالنَّسَّاجَ بِجُزْءِ مِنْ الثَّوْبِ، وَالطَّحَّانَ بِالنُّخَالَةِ لَمْ يَجُزْ ..

لما ذكر أن الأجرة كالثمن فلا يجوز فيها الجهالة ذكر صوراً ممنوعة لذلك.

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه في الجلد أنه لا فرق بين أن تكون الشاة مذبوحة أو حية، وهو كذلك إذ لا يدري كيف يخرج بعد السلخ.

خليل: وقد تقدم في بيع الجلود على ظهور الخرفان في البيوع ستة أقوال ينبغي أن تأتي هنا، واستقرأ من المدونة جواز بيع الجلد من إجازته بيع السباع حية لأخذ جلودها.

وقد يقال: السباع لما لم تؤكل، إما على طريق المنع أو الكراهة، لم يكن المقصود فيها إلا الجلد، فيحتاط له بخلاف هنا، فإن اللحم مقصود أيضاً، فلذلك قد لا يحاول على الجلد، وذلك سبب إلى قطعه في مواضع.

قوله: (وَالنَّسَّاجَ بِجُزْءِ مِنْ الثَّوْبِ) علله في المدونة بالجهالة.

قال: لأنه لا يدري كيف يخرج، ولأن ما لا يجوز بيعه، لا يجوز أن يستأجر به.

قال فيها: ولو قلت له: انسج لي هذا الغزل بغزل آخر، عجلته له جاز، ولإجارة الإجارة بجزء من الغزل قال المصنف:(مِنْ الثَّوْبِ) ليخرج هذه الصورة.

ابن حبيب: ويجوز إذا أعطاه الغزل على جزء ولم يبين هل هو من الثوب أو من الغزل؟

خليل: وأصل ابن القاسم هنا المنع.

فرع:

فإذا وقعت المسألة على ما قاله المصنف، أصبغ: فله أجر مثله والثوب والجلد لربها.

ص: 144

ابن عبد السلام: يريد أصبغ، أنه لم يحصل النصف الآخر وعليه أجرة وعليه أجرة المثل في دباغة الجميع، أما لو دفع إليه نصف الجلود قبل الدبغ على أن يدفعها مجتمعة، فأفاتها بالدباغ، فله نصفها بقيمتها يوم قبضها، وله أجر عمله في نصفها للتحجير في نصف الدابغ، وهذا أبين.

وأشار بعضهم إلى أنه يختلف في ضمان الصانع لنصفها في هذا الوجه الأخير إذا شرع في دباغها، ويختلف في فواتها بالشروع أيضاً، لأن قبضه لها ليس قبضاً حقيقياً، لكونه غير متمكن من الانتفاع بما قبضه.

قوله: (وَالطَّحَّانَ بِالنُّخَالَةِ) أي: للجهالة بقدرها.

خليل: وعلى هذا، فلا يجوز ما يفعل عندنا بمصر في طحن العامة، لأنهم يعطون للطحان أجرة معلومة والنخالة وهي مجهولة، وانظر لو آجره بصاع من النخالة، هل يجوز؟ لأن النخالة لا تختلف أو يختلف فيها كما في صاع دقيق.

ابن عبد السلام: والنفس أميل إليه لأن من الطحن ما تخرج نخالته كثيرة الأجزاء، ومنه ما لا تخرج كذلك. وإلى مسألة صاع من دقيق أشار بقوله:

وَفِي صَاعٍ دَقِيقٍ قَوْلانِ

من الجواز مذهب المدونة ففيها: ولا بأس أن يؤاجره على طحن إردب قمح بدرهم وبقفيز من دقيقه، إذ ما جاز بيعه، جازت الإجارة فيه، وإن واجرته بطحنه لك بدرهم وبقسط من زيت زيتون قبل أن يطحن جاز ذلك.

والمنع لابن القاسم في الواضحة وابن المواز.

اللخمي: ولا وجه له، وصوب غيره أيضاً الجواز، فكأنهم لم يرتضوا بتفرقة ابن المواز بين البيع والإجارة، أنه إنما جاز في البيع، لأن المبيع إذا هلك رجع المبتاع بثمنه، وفي الإجازة إذا طحن وهلك ذهب عمله باطلاً؛ لأنه ليس بمضمون على ربه ولو ضمنه كان فاسداً؛ أي: لأنه كمن اشترى معيناً، وشرط على البائع ضمانه.

ص: 145

وأجاب ابن حيبب عن هذا بأنه إذا ضاع بعد الطحن، رجع بقيمة طحنه كما يرجع من اشترى ثوباً بعبد فاستحق الثوب من يده فإنه يرجع في عبده إن كان قائماً، فإن فات رجع بقيمته.

بعض القرويين: وهذا إذا كان غير صانع، وأما إن كان صانعاً وثبت ضياع الدقيق بعد طحنه، فلا أجرة له على مذهب المدونة، لأنه لم يوف الصنعة إلى يد ربه.

وعلى ما في الموازية أن ضمان الصنعة إذا ثبت ضياع الدقيق من صاحبه، ينظر قيمة القفيز الذي شرطه الصانع لنفسه، فإن كان درهماً، وقد طحنه بقفيز ودرهم، رجع بنصف إجارة مثله.

وقال اللخمي: إن ضاع القمح، يعني: وفرعنا على المشهور وكان ذلك قبل الطحن وكان الدرهم مساوياً لقيمة صاع الدقيق أو أكثر انفسخت الإجارة فيما ينوب الصاع، لأنه عرض بعرض ولم ينفسخ فيما ينوب الدرهم وعلى رب القمح أن يأتي بمثل ذلك ويطحنه له وإن لم يعلم الضياع إلا من الأجير، فرأى ابن القاسم مرة أنه غيبه فلزمه أن يغرمه ويطحن جميعه ويأخذ [614/ ب] الصاع منه ومرة لم يبلغ أنه غيبه حقيقة فيحلف على ضياعه ويغرمه ولا يطحن إلا ما قابل الدرهم. قال: وإن طحنه ثم ادعى ضياعه، لم يصدق، وغرمه مطحوناً، واستوفى منه الصاع واختلف إن شهدت البينة على ضياعه.

فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه ولا أجر.

فعلى هذا يأتي ربه بطعام ويطحن الأجير ما ينوب الدرهم بمنزلة ما لم ثيطحن وقيل له الأجرة، فيأخذ الدرهم، وإجارة المثل فيما ينوب الصاع.

ابن حبيب: ولا يجوز اطحنه على أن لك نصفه دقيقاً، لأنه جعل بغرر والأول إجارة بشيء معلوم.

ص: 146

وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِجُزْءٍ مِنَ الرَّضِيعِ الرَّقِيقِ بَعْدَ الْفِطَامِ لَمْ يَجُزْ

أي: ولو أرضعت الرقيق، فحذف المفعول لدلالة ما بعده (بِجُزْءٍ) أي: بنصف أو ثلث أو غير ذلك لم يجز لأنه معين يتأخر قبضه.

ومفهوم قوله: (بَعْدَ الْفِطَامِ) أنه لو كان على أن يأخذ النصف الآن لجاز، وهو ظاهر من جهة المعنى لانتفاء ما فرض مانعاً.

لكن ظاهر المدونة خلافه ففيها: ومن واجرته على تعليم عبدك الكتابة والقرىن سنة وله نصفه لم يجز، إذ لا يقدر على قبض باقيه قبل السنة.

وصرح الشيخ أبو محمد بذلك، فقال ولو قبض المعلم نصفه الآن، لم يجز. قال: فإن وقع وشرط قبض نصفه بعد السنة، فسخ، فإن فات وعلمه سنة ولم يفت العبد، فله قيمة تعليمه والعبد لسيده. فإن فات بعد السنة بيد المعلم، فالعبد بينهما وعلى ربه قيمة تعليمه وعليه نصف قيمة العبد يوم قبضه ويكون بينهما.

وَتَعْلِيمُهُ بِعَمَلِهِ سَنَةً مِنْ يَوْمِ أَخْذِهِ جَازَ

مثله في المدونة، ففيها: وإن دفعت غلاماً إلى خياط أو قصار أو غيره ليعلمه ذلك العمل بعمل الغلام سنة، جاز.

يحيى بن عمر: والسنة محسوبة من يوم أخذه.

وهذا معنى قوله: (أَخْذِهِ) وقال غيره في المدونة: يجوز بأجر معلوم.

وَاحْصُدْ زَرْعِي وَلَكَ نِصْفُهُ يَجُوزُ.

(وَاحْصُدْ) بكسر الصاد وضمها.

قال في المدونة: ومن قال لرجل: احصد زرعي ولك نصفه، أو جذ نخلتي ولك نصفها، جاز وليس له تركه؛ لأنها إجارة، وكذلك لقط الزيتون، وهو كبيع نصفه.

ص: 147

زاد بعض المختصرين: وقال غيره: لا يجوز؛ والأقرب الجواز، لاسيما إن قلنا أنه ملك نصفه قبل العمل.

عياض: وهو الذي يأتي على أصولهم أنه يجب بالعقد.

ابن حبيب: والعمل في تهذيبه بينهما.

ابن يونس: ولو شرط في الزرع قسمه حباً، لم يجز وإن كان إنما يجب له بالحصاد، فجائز وكذلك في كتاب ابن سحنون، ولا تجوز قسمته قتة لأنه خطر ويدخله التفاضل وما ذكره عبد الحق من منع قسمته غرماً أصل مختلف فيه في الربويات وغيرها واعترض منع اشتراط قسمته حباً، لأنه شرط يوافق مقتضى العقد، لأن الأجير لا يستحقه إلا بعد عمله، وحينئذ لا يتمكن من أخذ نصيبه إلا مجزفاً.

وأجيب بمنع أنه لا يملكه إلا بعد الحصاد فقد قال ابن القاسم: إذا تلف قبل أن يحصده أو بعد أن حصد بعضه، هو بينهما، وعليه أن يستعمله في مثله، أو مثل ما بقي.

وقال سحنون: عليه مثل نصف قيمة الزرع، وليس أن يحصد مثله.

اللخمي: يريد إذا كان تلفه قبل الحصاد ولا يتعذر الخلف وقيد قول سحنون بما إذا تعذر الخلف. وعلله يحيى بن عمر بأن الزرع يختلف وظاهره خلاف، وعلى ما تأوله اللخمي عليه، فقد اتفق القولان على أن ملك نصيبه في الزرع قبل العمل؛ لأن سحنوناً إنما أوجب له القيمة لتعذر الخلف.

وَمَا حَصَدْتَ فَلَكَ نِصْفُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ وَهِيَ جِعَالَةُ وَلَهُ التَّرْكُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لا يَجُوزُ ..

هكذا في المدونة سواء، والقولان لمالك في الموازية؛ لأن محمداً قال: اختلف قول مالك في قوله: فما لقطت من شيء فلك نصفه وثلثه. وقال مرة: لا خير فيه وكما لا يجوز

ص: 148

بيعه، لا تجوز الإجارة به. وقال أيضاً: لا بأس به لأنه من الجعل لا من الإجارة بمنزلة من قال لرجل: لي على فلان مائة دينار، فما أقضيت من شيء فلك نصفه، فإذا علم كم الدين وكم الزرع لم يكن له بأس ومتى شاء أن يترك ترك، لأنه جعل، وإن لم يعلم كم الدين أو الزرع، لم يكن فيه حرج.

وعلى هذا الخلاف إنما هو في تحقيق المسألة، هل هي من باب الجعل، أو الإجارة؟ فمن ردها إلى الجعل أجاز ومن ردها إلى الإجارة منع والله أعلم.

وَاحْصُدِ الْيَوْمَ وَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فُهْمَتِ الْجِعَالَةُ

اعلم أنه إذاقال له: احصد اليوم ولك نصفه؛ إن فهمت الإجارة واللزوم امتنع باتفاق؛ نقله ابن عبد السلام وغيره وإنما الخلاف إذا قال على أن يترك متى شاء وعلى هذا ففي كلام المصنف نظر؛ لأن قوله: (وَقِيلَ) يقتضي أن القول الثاني شاذ، وليس كذلك، بل هو مذهب المدونة، ففيها: وإن قال له: احصد اليوم أو التقط فما اجتمع فلك نصفه؛ فلا خير فيه، إذ لا يجوز بيع ما يحصد اليوم، إلا أن يشترط أن يترك ما شاء فيجوز وعلى هذا ففي قول المصنف:(إِنْ فُهْمَتِ) نظر؛ لأن الفهم أعم من التصريح والخلاف إنما هو إذا صرح بترك العمل متى شاء ففي المدونة الجواز كما رأيته ونص في العتبية على المنع ولو منع التصريح بالترك متى شاء وما في المدونة صواب.

فإن قيل: كيف هو أصوب مع أن الجعل لا يجوز فيه ضرب الأجل؟

قيل: لما صرح بالترك متى شاء، لم يبق أجل البتة وشبهه في العتبية بالتقاضي: تقاضي مالي شهراً ولك نصفه، أو ما تقاضيت فلك بحسابه [615/ أ] ومتى شئت أن تخرج فهذا لا يجوز إذا لم يتم الشهر. ولو تقاضيا شيئاً ذهب عناؤه باطلاً.

ص: 149

وفرق ابن يونس بأن الإسقاط بيد لا مانع له منه والدين قد يلدد فيه الغريم حتى يذهب الأجل ولم يتناقض شيئاً وحمل ابن عبد السلام كلام المصنف على أنه تكلم على مسألتين:

الأولى: انتهت عند قوله: (لَمْ يَجُزْ) أي: باتفاق، وقيل: يجوز؛ إن فهمت الجعالة وفهم من قوله: (وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ فُهْمَتِ) قولاً آخر بالمنع وفيه تعسف.

وَانْفُضْ زَيْتُونِي فَمَا سَقَطَ فَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ

قال في المدونة: وإن قال له: انفض شجري، أو حركها فما نفضت أو سقط فلك نصفه، لم يجز لأنه مجهول، لأنه لا يدري ما يسقط.

ابن يونس: ولو قال: انفضه كله ولك نصفه، جاز.

خليل: ولو قال: القط، فما التقطت من شيء فلك نصفه، فإنه جائز ووجهه ما تقدم إذا قال: فما حصدت من شيء فلك نصفه على مذهب ابن القاسم. انتهى.

واتفق على الجواز في اللقط وعلى المنع في التحريك واختلف في النفض وجعله ابن القاسم كالتحريك وجعله ابن حبيب كاللقط.

ابن القصار: معناه النفض باليد وأما النفض بالقضيب فهو كالحصاد وهو بعيد، لأن النفض باليد غير معتاد.

وَاعْصِرْ زَيْتُونِي فَمَا خَرَجَ فَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ

وهكذا قال في المدونة: لو قال اعصر زيتوني أو جلجلاني فما عصرت فلك نصفه.

ونص ابن حبيب على الجواز إذا قال: اعصر زيتوني، واحصد زرعي واطحن هذا الحب ولك نصفه، قال: وهو محمول على أنه ملك نصف الأرض حتى يصرح بخلافه.

ص: 150

ابن عبد السلام: وهذا على النظر في العقد إذا احتمل الصحة والفساد على ما تقدم، وتقدم أن أصل ابن القاسم المنع فلا يبعد أن يمنع ما أجاز ابن حبيب هنا.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَلَوْ قَالَ: احْصُدْهُ وَادْرُسْهُ وَلَكَ نِصْفُهُ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ زَرْعاً يَابِساً عَلَى أَنْ يَحُصُدَهُ وَيَدْرُسَهُ؛ لأَنَّهُ بَيْعُ حَبَّ جُزَافاً لَمْ يُعَايَنْ، بَعْدَ الْفِطَامِ ..

لما تكلم على الحصاد تكلم عى ما انضم إليه عمل آخر وهو الدراس.

فقال ابن القاسم في المدونة: لا يجوز ذلك، لأنه استأجره بنصف ما يخرج من الحب، لأنه لا يدري كيف يخرج كما لو باعه حباً جزافا وقد يبس على أن حصاده ودراسه وتذريته عليه، فإنه لمي جز، لأنه اشترى حباً لم يعاين تصييره. نقله ابن يونس في سماع أشهب عن مالك في من طاب زرعه وحل بيعه، فقال لرجل: احصده وادرسه على النصف لا بأس وإليه أشار بقوله: (وَقِيلَ: يَجُوزُ).

وهو كما ذهب إليه ابن حبيب، أن ذلك محمول على أن له النصف الآن، على أن يحصد النصف الآخر ويدرسه لربه.

وحمله اللخمي على أنه اختلاف سؤال، لأن لفظ المدونة: ولك نصف ما يخرج؛ فمقتضاه أن حصاد الجميع ودراسه على ملك صاحبه ويكون له نصف ما يخرج وذلك مجهول.

والذي في العتبية إنما هو إذا قال على النصف، ولم يقل نصف ما يخرج، فكان له النصف على هيئته وهو شريك، وعلى هذا فنقل المصنف القول الثاني ليس بظاهر لأنه لم يذكر لفظه فيوهم أنه لفظ المدونة.

خليل: لكن الظاهر هنا الحمل على الخلاف، لأن قوله:(وَلَكَ النِصْفُ) محتمل للنصف من الآن ومحتمل لما يخرج وقاعدة ابن القاسم أن ذلك فاسد وحينئذٍ فلا فرق بين: "فلك نصف ما يخرج" وبين: (وَلَكَ النِصْفُ) والله أعلم.

ص: 151

فإن قيل: لم نسب هذه المسألة لابن القاسم دون المسائل التي قبلها، مع أن الكل في المدونة؟

قيل: أجاب عن ذلك ابن عبد السلام قال لعله لابن القاسم قاس مسألة البيع مع إمكان بينهما بأن متولي العمل في الإجارة هو المشتري فكأنه ملكه من الآن بخلاف البيع فإن متولي العمل هو البائع فكأن للمشتري ما ملك إلا ما يخرج وهو جزاف غير مرئي فلهذا تبرأ المصنف من عهدته بنسبته إلى ابن القاسم.

ورد بأن المعروف من عادته فيما يتبرأ منه، هو ما كان منسوباً إليهم ويعبر عنه بـ"قالوا" لا إلى واحد، والظاهر أنه نسبه إليه لوقوع الخلاف فيه فأراد أن يرجح القول الأول بنسبته له.

ابن القاسم: ولو قال ذو شجرتين فقد طابت لرجل: احرصها واجنها ولك نصفها، لا بأس بذلك؛ لأنه لا بأس أن يكره نفسه بما يحل بيعه.

وَاعْمَلْ عَلَى دَابَّتِي فَمَا حَصَلَ فَلَكَ نِصْفُ ثَمَنِهِ أَوْ أُجْرَتِهِ: لا تَجُوزُ بِخِلافِ الْحَطَبِ أَوِ الْمَاءِ ..

يعني: أن من دفع دابته لرجل على أن لقابضها نصف ثمن ما يحتطب عليها، أو نصف أجرة ما يحمل عليها لغيره، فإن ذلك لا يجوز لجهالة الأجرة، بخلاف نصف الحطب والماء؛ أي: نصف كل نقلة، لأنه معلوم.

محمد: وكذلك لي نقلة ولك نقلة، فإنه جائز.

فَإِنْ نَزَلَ فَاسِداً فَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ قَالَ: وَلَكَ النِّصْفُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ

ذكر للمسألتين وجهين الصحة والفساد، بين حكم الفاسدة وذكر فيها ثلاثة أقوال:

ص: 152

الأول: أن الكسب للعامل وعليه أجرة المثل، سواء قال هو لك النصف، أو قاله صاحبها وسواء قال: اعمل لي أو لم يقل.

الثاني: أن الإجارة في ذلك للعامل وعليه كراء الدابة.

الثالث: الفرق إن قال ربها: اعمل ولك النصف فالكسب كله لربها وعليه كراء العامل وإن قال العالم أعطني دابتك أعمل عليها ولك النصف، فله الكسب كله وعليه أجرة [615/ ب] المثل في الدابة.

والأول هو مذهب المدونة ففيها: وإن أعطيت الدابة أو السفينة أو الإبل ليعمل عليها على أن ما أصابت بينكما لم يجز؛ فإن عمل عليها فالكسب للعامل، وعليه كراء المثل هنا ما بلغ وكأنه اكترى ذلك كراءً فاسداً.

اللخمي: واختلف إذا قال: اعمل عليها، فقال ابن القاسم في رواية الدباغ: ما كسب عليها للعامل وعليه إجارتها كالأول، وقال ابن الجلاب: ما كسب عليها لصاحبها، لقوله: اعمل لي، وللعامل إجارة المثل.

والقول الثاني في كلام المصنف أن الكسب كله لربها مطلقاً عزيز الوجود.

والذي في الجلاب إنما هو مقيد بما إذا قال: اعمل لي؛ لكن نقل ابن شعبان ما ظاهره موافق لإطلاق المصنف، فقال: ولا يدفع الكلب على نصف صيده أو غير ذلك من الأجزاء فمن فعل فالكسب للعامل، ولربه أجر مثله، وفيه خلاف وأطلق ولم أر الثالث.

فرع: وأما لو دفع إليه دابة ليكريها للغير ليعمل عليها، ففي المدونة وإن دفعت إليه دابة أو إبلا أو سفينة أو حماماً على أن يكري ذلك وله نصف الكراء، لم يجز. وإن نزل كان لك جميع الكراء وله أجر مثله كما لو قلت له بع سلعتي هذه، فما بعتها به فهو بيني وبينك أو قلت له: فما زاد على مائة فهو بيننا، فذلك لا يجوز والثمن لك وله أجر مثله.

ص: 153

وفرق في المدونة بينه وبين الفرع السابق، بأنه في الأول أكرى ذلك كراء فاسداً وفي هذه آجر نفسه.

وسوى ابن القاسم في هذا بين الدور والدواب والسفن.

وفي الواضحة أن الدور والأرحية والحوانيت إذا قال قم لي عليها بنصف غلتها، فالخراج لربها ولهذا إجارة مثله وأما الدواب وآلة السفن فالكسب للعامل وعليه أجرة ذلك، لأن المستأجر في الدور وشبهها لرجل، وفي الدواب والسفن هي المستأجرة.

وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالإِجَارَةِ جَازَ

كما لو باع له ثوباً بدرهم وينسج له ثوباً آخر ونحو ذلك.

وحكى عبد الوهاب قولاً بالمنع، ووجه الأول أنها بياعات كلها، فأشبه ما لو كانا بيعتين أو إجارتين ووجه المنع أن كثيراً من الإجارة لا تنفك من الغرر، فكان عقد رخصة، فلا ينضم مع غيره كالقراض ولاختلاف ضمانها فإن ضمان المبيع من المشتري وضمان المستأجر من ربه، فكما لو جمع في عقدين بين بيع وخيار والمشهو من المذهب منع ذلك.

ابن عبد السلام: وهذا إذا كانت الإجارة في غير المبيع كما مثلنا فإن كانت في نفس المبيع، كما لو باع له جلوده على أن يخرزه البائع نعالاً للمشتري ففي ذلك قول مشهور بالمنع، وكأنه يرى أن المبيع هو ما تخرجه الصنعة وذلك غير مرئي.

خليل: هو قول سحنون؛ قال في النوادر: وهو خلاف قول ابن القاسم وأشهب.

وَفِي الْجُعْلِ مَعَ أَحَدِهِمَا قَوْلانِ

أي: مع البيع والإجارة، والمشهور: المنع للتاجر؛ لأن البيع لا يجوز فيه الغرر، بخلاف الجعل، والبيع يلزم بالعقد بخلاف الجعل ويجوز الأجل في البيع بخلاف الجعل وذكر اللخمي في المسالة خلافاً، وخرج أيضاً بعضهم قولاً بالجواز من قول سحنون

ص: 154

الذي يجيز البيع ورد بأن المغارسة تلزم بالعقد بخلاف الجعل وإذا امتنع ضم الجعل إلى أحدهما فأحرى إلى مجموعهما، وصرح ابن عبد السلام بأن القول في ضم الجعل إلى مجموع البيع والإجارة.

فَلَوْ بَاعَهُ نِصْفَ سِلْعَةٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ لَهُ نِصْفَهَا أَوْ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ نِصْفَهَا- فَثَالِثُهَا: إِنْ عَيَّنَ أَجَلاً جَازَ، وَرَابِعُهَا: عَكْسُهُ، وَعَلَى الصِّحَّةِ فِي التَّعْيينِ لَوْ بَقِيَ بَعْضُ الأَجَلِ حُوسِبَ وَلَوْ انْقَضَى وَلَمْ يَبِعِ اسْتَحَقَّهُ ..

ذكر هذه المسألة عقب المسألة السابقة، لأنها من اجتماع الجعل والإجازة مع البيع.

فإن قلت: فما الفرق بين قوله: (عَلَى أَنْ يَبِيعَ) وبين قوله: (بِأَنْ يَبِيعَ) قيل: بيع النصف في الثاني مجموع الثمن مجموع الثمن بخلاف الأول، فإن بيع النصف بعض الثمن كما لو قال له: أبيعك النصف بدينار على أن تبيع النصف الآخر، وذكر أربعة أقوال:

الأول: الجواز، وهو ظاهر الموطأ قال في "بع نصف ثوب" على أن يبيع له النصف الآخر: هذا جائز.

ابن لبابة: يريد ضرب أجلا أم لا في بلده أم غير بلده وله من الأجل قدر ما يباع إليه.

الثاني: المنع وهو لمالك في المدونة، ففيها: روي عن مالك إن باعه نصف الثوب على أن يبيع له النصف الآخر فلا خير فيه.

وفي اختصار ابن يونس لم يجز وقال: يريد وإن كان بالبلد. قيل لمالك: فإن ضرب للبيع أجلاً، قال: ذلك أحزم؛ وبه أخذ ابن المواز.

والقول الثالث: إن عين أجلاً جاز وإلا فلا؛ لأن مع ضرب الأجل تبقى إجارة، وهي جائزة الاجتماع مع البيع ومع عدم ضربه فهو جعل، ولا يجوز اجتماعه مع البيع وهذا القول مذهب المدونة، وأطلق المصنف فيها وقيده في المدونة بأن يكون البيع في البلد نفسها، وأما إن كان في بلد آخر فلا يجوز.

ص: 155

أبو إسحاق: لأنه اشترى شيئاً بعينه لا يقبضه إلا إلى أجل بعيد وهو بلوغه البلد.

والقول الرابع عكس الثالث.

ابن عبد السلام: وهو بعيد جداً، ويقرب منه ما في مختصر ما ليس في المختصر: إن ضربا أجلاً فمكروه، وإن لم يضرباه فلا بأس به.

قوله: (وَعَلَى الصِّحَّةِ فِي التَّعْيينِ) أي: في ضرب الأجل وتعيينه وقال وعلى الصحة في التعيين ولم يقل وعلى الثالث ليشمل القول الأول أيضاً، فإنه أجاز في الأول مطلقاً سواء ضربا أجلاً أم لا وهكذا في المدونة ففيها: وإن ضربا للبيع أجلاً فإنه يجوز، وإن باع ذلك في نصف الأجل فله نصف الإجارة وإن مضى الأجل ولم يقدر على بيع ذلك فله الأجرة كاملة.

ابن القاسم في الموازية: وإن باعه نصف ثوب بعشرة على أن يبيع له النصف الآخر في شهر، فباعه في نصف شهر نظر كم قيمة بيعه في شهر، فيقال: درهمان، فكأنه باع بعشرة وبدرهمين وهو سدس الثمن فوقع الإجارة [616/ أ] بسدس الصفقة، فلما باع في نصف الأجل انفسخ في نصف الإجارة وانفسخ بذلك نصف سدس الصفقة، فيرجع بنصف سدسها وهو ربع السدس قيمة الثوب كله، يرجع كله ثمناً، أي لضرر الشركة على أصل ابن القاسم.

وقال يحيى بن عمر: إن كانت السلعة قائمة كان فيها شريكاً ولم يراع ضرر الشركة.

ابن عبد السلام: فإما أن يكون ذلك على أصل أشهب في هذا الباب، وإما أن يوافق ابن القاسم في الأصل وخالفه في هذا الفرع، لأن المبتاع دخل أولا على الشركة ولم يعتبر زيادتها، واعتبرها ابن القاسم.

ص: 156

فَإِنْ كَانَ طَعَاماً لَمْ يَجُزْ إِلا بِالتَّاجِيلِ

يريد: وفي معنى الطعام: كل مكيل وكل موزون مما لا يعرف صرح به ابن يونس وغيره ولعله خصص الطعام تبعاً للمدونة.

ومن أبقى الرواية على ظاهرها، وقصر الحكم على الطعام، فقد أبعد وفي المسألة ثلاثة أقوال؛ أولها: التفصيل بين ما يعرف بعينه وما لا يعرف بعينه وهو مذهب المدونة كما ذكر المصنف.

والثاني في الموازية: الجواز مطلقاً؛ لأنهما دخلا على التمام وعدم النقص فما طرأ بعد ذلك فهو كالاستحقاق.

وثالثها اختيار ابن المواز: المنع مطلقاً وهو الظاهر؛ لأنه قد ينتفع في بعض الأجل فيسترجع البائع مناب بقية الأجل، وذلك مؤدي إلى: تارة بيعاً وتارة سلفاً؛ لأنه لا يدري بماذا يرجع، هل بجزء من الثوب أو القيمة.

وَلا يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِشَيْءِ مِنَ الطَّعَامِ كَانَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الأَرْضُ أَوْ مِمَّا لا تُنْبِتُهُ وَلا بِبَعضِ ما تُنْبِتُهُ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ والزَّعْفَرَانِ، وَيَجُوزُ بِالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَرَوَى يَحْيَى بنُ يَحْيَى: لا تُكْرَى بِشَيْءِ إِنْ أُعِيدَ فِيهَا نَبَتَ وَتُكْرَى بِمَا سِوَاهُ، وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: تُكْرَى بِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا لَمْ يُزْرَعْ فِيهَا إِلا الْحِنْطَةَ وَأَخَوَاتِهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى بِكُلِّ شَيْءٍ ..

الأصل في هذا ما في الموطأ، أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المزابنة والمحاقلة. المزابنة: شراء التمر بالرطب؛ والمحاقلة: شراء الزرع بالحنطة، وكراء الأرض بالحنطة.

وذكر هذا في الحديث في المدونة وزاد فقال في حديث آخر أنه عليه السلام: "نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها" وهو المخابرة التي نهى عنها في حديث آخر.

ص: 157

وذكر المصنف في كرائها أربعة أقوال: المشهور وهو مذهب المدونة أنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كان مما تنبته كالفول والحمص أم لا كالعسل والسمن ولا يجوز أيضاً كراؤها بما تنبته طعاماً أو غيره كالقطن ويجوز بالقصب: وهو بفتح الصاد المهملة.

وهكذا قال ابن شاس وصاحب التلقين وأما الخشب فذكره في المدونة وزاد العود والحطب والجذوع قيل لسحنون في كتاب ابنه: ولم جاز كراؤها بهذه الأشياء وهي كلها مما تنبته الأرض؟

فقال: هذه الأشياء يطول مكثها ووقتها فلذلك سهل فيها.

ابن عبد السلام: وقد علم أن القصب دون هذه في البعد، وقال بعضهم رعياً للمعنى الذي أشار إليه سحنون: يجوز كراؤها شهرين بشيء لا يمكن أن ينبته إلا في السنة وهو غير طعام، كجواز كرائها بالشجر.

وعلل ابن الماجشون ذلك فقال: لأن الخشب ليس بزرع ونقضه الباجي بالقطن والكتان.

وحكى ابن أبي زمنين عن ابن الماجشون جواز كرائها بالقطن والزعفران في أرض لا تنبت القطن ولا الزعفران والذي حكى ابن حبيب عن جماعة سواه مثل القول الأول.

وفي الموازية جواز كرائها بالخضر، لكن تأوله الشيخ أبو محمد على أنه يريد الكلأ لأنه لا يزرع ولا بأس بكرائها بالماء.

وقوله: (سِوَاهُ) يريد: بكل ما لو أعيد فيها لم ينبت طعاماً أو غيره وقال بهذه الرواية يحيى وابن كنانة وابن مزين وقول ابن نافع هو القول الثالث.

ابن عبد السلام: ومنهم من لا يذكر فيه في الاستثناء إلا الحنطة ويسكت عما عداها ومنهم من يقول مثل قول المصنف: (إِلا الْحِنْطَةَ وَأَخَوَاتِهَا) ومنهم من يقول: إلا الحنطة والشعير والسلت؛ فعلى هذا ينبغي أن يقال: إلا الحنطة وأختها.

ص: 158

خليل: وعلى هذا فأخواتها من إطلاق الجمع على المثنى ويحتمل أن يضم إليها العلس على القول بضمه فيكون الجمع على بابه والقول بجواز كرائها بكل شيء حتى الحنطة لابن شعبان والأصيلي وغيرهما.

تنبيه:

شدد سحنون في كرائها بما يخرج منها فقال: من فعل ذلك فهو جرحة في شهادته.

وتأوله محمد على من كان مذهبه المنع أو مقلدا لمن مذهبه المنع.

سحنون: ولا يؤكل طعامه ولا يشتري منه من ذلك الطعام الذي أخذه في كرائها.

وتأوله ابن رشد على أن ذلك من الورع وإذا نزل فإنما لربها كراؤها بالدراهم.

وذكر الشيخ أبو محمد أن عيسى بن مسكين وغيره الذي يجري به أكريتهم ثمناً أصاب قليلاً أو كثيراً ولم يعتبر ما قيمة كرائها يوم العقد لأنه لا كراء لها على المكري في الأرض إذا لم يصب فيها شيئاً أصلاً من قضاة أصحابنا حكموا أن ينظر إلى ما يقع له من ذلك الجزء من ثلث أو ربع، فيعطى قيمة ذلك الجزء دراهم قالوا: لأنه لا يعرف لها بالمغرب قيمة كراء ذلك بالعين. فلذلك يعطى قيمة ذلك الجزء [616/ ب] الذي يجري فيه أكريتهم.

الثَّالِثُ: الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةُ- غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ قَصْداً- مَقْدُورُ عَلَى تَسْلِيمِهَا- غَيْرُ حَرَامٍ وَلا وَاجِبَةٍ - مَعْلُومَةُ ..

الركن الثالث: المنفعة: وهي عوض الأجرة وذكر المصنف أنه يشترط فيها خمسة قيود وسيتكلم على كل واحد منها واحترز بقوله: (قَصْداً) من إجارة الثياب ونحوها، فإن بعضها يذهب بالاستعمال، لكن بحكم التبع ولم يقصد بخلاف استئجار الأشجار لثمرتها ونحوه.

ص: 159

ابن عبد السلام: بل جعل بعضهم ذهاب شيء من العين شرطاً في جواز الإجارة ورأى أن هذا سبب كراهة إجارة الحلي بالذهب والفضة لما يؤدي إلى بيعها بأحد النقدين غير ناجز.

وَفِي إِجَارَةِ الأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ: قَوْلانِ

هذه تتعلق بقوله: (مُتَقَوِّمَةُ) والخلاف فيها خلاف في حال، هل هذه متقومة أم لا؟ والقولان ذكرهما ابن شاش ولم يعزهما.

ابن عبد السلام: والأقرب الجواز، لأن الانتفاع بالأشجار في هذا الوجه مما يتأثر الأشجار، وبه تنقص منفعة كثيرة منها.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا تَصِحُّ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لِلتَّزَيُّنِ وَمَا لا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وقِيلَ: يَصِحُّ إِذَا لازَمَهَا الْمَالِكُ ..

يحتمل أن يعود إلى القيد الأول ويكون الخلاف خلافاً في حال: هل منفعة التزين متقومة أم لا؟ ويحتمل أن يعود للثاني وهو قوله: (غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ عَيْنٍ) لأن ذهاب عين الدنانير مقصوده والأول أولى؛ لأن بعده ما لا يصح تعلقه بالقيد الثاين وهو الخلاف في إجارة المصحف، ولأنها إذا لازمها لا تبقى هنا إذهاب عين أصلاً، وأفرد المصنف الدنانير والدراهم وإن كانا داخلين فيما لا يعرف بعينه لانفرادهما غالباً بالتزين والقول الثاني للأبهري وغيره.

الباجي: ولا يخالف ابن القاسم إذا لم يغب عليها وإن كان عبد الوهاب وجه القولين، وكلام المصنف وابن شاش يأتي على طريقة عبد الوهاب، وأما طريقة الباجي فليست في المسألة إلا قول واحد.

ومنع ابن العطار إجارة قدور الفخار وصحاف الحنتم بناء على عدم المعرفة ووافقه ابن الفخار في القدور وخالفه في صحاف الحنتم وقال: إنها تعرف ولا معنى لمنع إجارتها.

ص: 160

وَفِي إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ قَوْلانِ، بِخِلافِ بَيْعِهِ

المشهور وهو مذهب المدونة: الجواز قياساً على بيعه والشاذ لمحمد وابن حبيب ونقله عمن لقيه من أصحاب مالك.

ابن حبيب: والفرق بين البيع والإجارة أنه في البيع ثمن للزوم الخط، وفي إجارته ثمن القرآن.

ورد بأنه إن كان مراده ثمن القرآن، أي ثمن القراءة فالقراءة فعل القارئ ولا معاوضة وإن كان مراده القرآن حقيقة فذلك أيضاً غير مبيع ولا مستأجر وإنما المبيع الرق بصفته وذلك هو المستأجر وقوله (بِخِلافِ بَيْعِهِ) أي: فإنه متفق على جوازه.

وَلا يَصِحُّ فِي الأَشْجَارِ لِثِمَارِهَا وَالشَّاةِ لِنِتَاجِهَا وَلَبَنِهَا وَصُوفِهَا

هذا متعلق بالقيد الثاني وهو قوله: (غَيْرُ مُتَضَمِّنَةٍ اسْتِيفَاءَ .. قَصْداً) فلذلك لا يصح استئجار الأشجار لاستيفاء ثمارها لأن ذلك مؤد إلى بيع ثمرة قبل بدو صلاحها وكذلك الشاة للنتاج والصوف وأما اللبن فقال ابن عبد السلام وغيره والمذهب لا يمنع مطلقاً خلاف ما ذكره المصنف، لأن غاية استئجارها لذلك أن يؤدي إلى بيع اللبن وقد أجازة في المدونة إذا كان جزافاً بشرط أن تكون الغنم كثيرة كالعشرة ونحوها، وأن يكون في الإبان، وأن يعرفا وجه حلابها، وأن يكون إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، وأن يشرع في أخذ ذلك يومه أو إلى أيام يسيرة وأن تسلم إلى ربها لا إلى غيره وإن كان على الكيل أسقطت الشرط الأول فقط وذلك؛ لأن الغالب وجود اللبن في بعضها أو كلها وعلى هذا فيحمل كلام المؤلف على ما إذا لم يكن في زمان الإبان كما في الثمرة والصوف.

وَاغْتُفِرَ ثَمَرَةُ مَا فِي الدَّارِ وَالأَرْضِ الْمُسْتَاجَرَةِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الثُّلْثِ بِالتَّقْوِيمِ لا بِمَا اسْتَاجَرَ ..

لما تكلم على امتنع لأجل استيفاء العين قصداً أتبعه بما يجوز لأنه لدفع ضرر دخول المستأجر الدار لجداد الثمرة وسقيها.

ص: 161

وقوله: (مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الثُّلْثِ) يقتضي جواز الثلث وهكذا بلغ ابن القاسم وأما في روايته عنه فلم يبلغ بها الثلث واقتصر المصنف على هذا الشرط كما في المدونة وزاد اللخمي ثلاثة شروط وهو: أن يشترط جملتها وأن يكون طيبها قبل انقضاء أمد الكراء وأن يكون قصد باشترائها دفع المضرة في التصرف إليها.

وقوله: (بِالتَّقْوِيمِ) قال في المدونة بعد طرح قيمة المؤونة والعمل فيقوم كراء الدار والأرض بغير شرط فإن قيل: عشرة قيل: فما قيمة الثمرة فيما عرف مما يطعم كل عام بعد طرحه قيمة المؤونة؟

فإن قيل: خمسة: جاز.

وقوله: (لا بِمَا اسْتَاجَرَ) لأنه قد يستأجر بخلاف القيمة.

خليل: وهو شبيبه على ما يفعلونه في هذا الزمان من القناطر ليوصلوا بذلك إلى بيع الثمرة قبل بدو الصلاح فيظهرون أن الأجرة كثير ثم يبرئه بعد العقد وهي حيل لا تخفى على عالم الخفيات.

واستشكل اللخمي هذا التوقع بأنه أعلى من الصفة التي دخل عليها مشتريها قال: والصواب أن يقال: كم قيمتها؟ على أن سقيها على مشتريها وعلى أن المصيبة إن [617/ أ] كانت من المكتري وعلى إن جاءت على خلاف المعتاد لم يكن له مقال فقال ابن القاسم لا يرى له مقال إن احتيجت فينبغي أن تقوم على ما اشتريت عليه فإن كان الكراء بالنقد قومت الثمرة بالنقد، لأنه أبخس لقيمتها وإن كان على أنه يقبض مشاهرة قومت الثمرة على أن ما ينوبها مشاهرة وهذه المسألة في أول كتاب كراء الدور ولها فروع تركناها لعدم ذكر المصنف لها.

ص: 162

واسْتِئْجَارُ الْمُرْضِعِ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ عَيْناً لِلضَّرُورَةِ

(اسْتِئْجَارُ) معطوف على ثمرة الدار.

قوله: (وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ عَيْناً لِلضَّرُورَةِ) أي: جائز وهو ظاهر التصور كما قال المصنف.

قيل: ولأن اللبن غير مقصود، لأنه تبع لقيامها بالصبي وتكلفها جميع مؤنته، ولهذا أجازوا إجارتها بالطعام وإن كان فيه طعام بطعام غير ناجز لكن التعليل بالضرورة عام في جميع صور المسألة الأولى بخلاف الثانية فإن الاستئجار قد يكون على الرضاع فقط. وقوله:(لِلضَّرُورَةِ) تعليل لها والتي قبلها واشترطوا في الأولى التبعية ولم يشترطوا في هذا، لأن دليل الأولى من جهة القواعد دليل الثاني، قوله تعالى:(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) إلى قوله: (أُخْرَى)[الطلاق: 6].

اللخمي: ويشترط حضور الصبي ليرى سنه فإن كان غائباً لم يجز إلا أن يذكر سنه، لأن الرضاعة تختلف، فليس رضاع ابن شهرين كرضاع ابن سنة وإن جربت رضاعه لأنه قال: هي الظئر تستأجر لرضاع صبيين فمات أحدهما تنفسخ الإجارة لاختلاف الرضاع، لأنها لو استأجرت نفسها لتجد أجر مكان الميت لم يدر هل رضاعه كالميت أم لا؟ وظاهره التخريج وحكاه المتيطي عن سحنون صريحاً.

وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ

وإن فعلت ذلك بغير إذنه فله أن يفسخه لما يلحقه في ذلك من الضرر بتشاغلها عنه وتغيير حالها ولا سيما إن كانت خدمته عليها.

وَفِي مَنْعِهِ مِنَ الْوَطْءِ قَوْلانِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ ضَرَرُ الصَّبِيِّ مُنِعَ

يعني: إذا أذن لها في الإجارة أو أجازها، فهل يمنع من الوطء وهو مذهب المدونة أو يجوز له؟ وهو قول أصبغ بشرط عدم مضرة الصبي وألا يشترط عليه تركه، أما إن

ص: 163

تبين ضرره منع واحتج أصبغ بقوله عليه السلام: "لقد هممت أن أنهى الناس عن الغيلة .. " الحديث.

وأجيب بأن ليس لكل مباح يتناوله عقد الإجارة واختار ابن حبيب واللخمي الأول وحمل ابن القاسم استئذانه لأجل حقه في الإصابة وجعل أصبغ استئذانه لأن له المنع لما يلحقه من المعرة والمضرة وأقاموا مما في المدونة أنه إذا خالعها على رضاع ولده أنها لا تتزوج، وأن له منعها من ذلك لأن اللبن مشترى فيهما.

فروع:

الأول: ابن عبد الحكم: وإن أراد الزوج السفر بها لم يكن له ذلك إن أجرت نفسها بإذنه، وإن كان بغير إذنه فله ذلك وتنفسخ الإجارة.

الثاني: إذا حملت الظئر فخيف على الولد انفسخت الإجارة ولا يلزمه أن تأتي بغيرها يرضعه، قاله في المدونة وهل يجوز أن تأتي بالغير إن نقد لها الأب والأجرة؟ لم يجز، لأنه فسخ دين في دين على أصل ابن القاسم وإلا جاز.

وإذا فسخناه لحمل الظئر فقال ابن عبد الحكم: لو كانت تكملة الأجرة لم تحبس فيها لأنه طوع.

الثالث: قال في المدونة: ترضعه حيث اشترطوا فإن لم يشترطوا شيئاً فشأن الناس الرضاع عند الأبوين إلا امرأة لا يرضع مثلها عند الناس أو يكون الأب وضيعاً لا يرضع مثلها عنده فذلك لها.

الرابع: قال في المدونة: وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجرة.

ص: 164

الخامس: قال في المدونة: وإذا مرضت مرضاً لا تقدر معه على رضاع فسخت الإجارة، ولو صحت في بقية منها أجبرت على الرضاع في بقيتها، ولها من الأجر بقدر ما أرضعت، وليس عليها أن ترضع ما مرضت.

قال غيره: إلا أن يكون الكراء انفسخ بينهما فلا تعود.

واختلف: هل قول الغير وفاق أو خلاف؟ والقولان منصوصان في غير المدونة وأما إن تزوجت وأقامت في زوجها فللأب أن يفاسخها فإن فاسخها لمرض أو سجن يطول ثم قامت أو خرجت بالقرب فاخلتف في إمضاء الفسخ أو رده، قيل: وتفسخ إجارة الظئر بأربعة شروط: بموتها، ومرضها وحملها وموت الصبي، قال في المعين: وكذلك إن سجنت في حقو خيف طول سجنها، وإن مات زوجها باتت في بيتها فلأب الصبي أن يفاسخها.

السادس: قال في المدونة: وإن واجرها على رضاع صبي لم يكن لها أن ترضع غيره معه.

وَلا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَرْضٍ لِلزَّرَاعَةِ وَمَاؤُهَا غَامِرُ وَانْكِشَافُهُ نَادِرُ

هذا شروع منه فيما يتعلق بالقيد الثالث وهو قوله: (مَقْدُورُ عَلَى تَسْلِيمِهَا).

(وَمَاؤُهَا غَامِرُ) جملة حالية وكذلك قوله: (وَانْكِشَافُهُ نَادِرُ).

ومعنى (غَامِرُ) كثير.

الجوهري: وقد غمره الماء يغمره إذا علاه.

ومذهب المدونة خلاف ما ذكره المصنف ففيها: وإن أكريت منه أرضك الغرقة بكذا إن انكشف عنها الماء وإلا فلا كراء بينكما؛ جاز إذا لم ينقد ولم يفرق بين أن يكون انكشافه نادراً أم لا.

ص: 165

قال في المدونة: وقال غيره إن خيف ألا ينكشف لم يجز وإن لم ينقد.

ابن عبد السلام: هذا شاذ والأول [617/ ب] هو مختار غير واحد.

ووقع في بعض النسخ عوض (غَامِرُ)(غَائِرُ) ولعله يوافق ما في الموازية فيمن اكترى أرضاً ولها بئر لا تكفي، أن الكراء فاسد وإن لم ينقده، لأنه خاطر على أمر لا يدري أيتم أم لا يتم.

ابن يونس: وظاهر المدونة كراهة النقد في ذلك خاصة والأشبه أن ذلك لا يجوز.

وَأَمَّا أَرْضُ النِّيلِ وَالْمَطَرُ الْغَالِبُ عَادَةً فَتَصِحُّ إِجَارَتُهَا وَالنَّقْدُ فِيهَا، وَقِيلَ: لا يُنْقَدُ فِي أَرْضِ الْمَطَرِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوِ اسْتَوَى الاحْتِمَالانِ فِي انْكِشَافِ الْمَاءِ جَازَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لا يَجُوزُ ..

الخلاف في جواز العقد لا في جواز النقد فقوله: (جَازَ) أي: العقد.

ابن راشد: والقول الثاني أظهر، لأن هذه الأرض لا ينتفع بها والأصل فيها عدم الجواز حتى يغلب على الظن إمكان الانتفاع بها وقد تقدم أن ابن القاسم أجاز العقد بالنسبة إلى أرض ماؤها غامر وانكشافها نادر وإذا أجاز ذلك عنده فهذه المسألة أحرى ولهذا قال صاحب المقدمات: تحصيل مذهب ابن القاسم جواز العقد كانت أرض مطر أو نيل وغيرهما، مأمونة كانت أم لا.

وأما تحصيل مذهبه بالنسبة إلى جواز النقد ووجوبه فما كان من الأرض مأموناً كأرض النيل أو المطر أو السقي بالعيون الثابتة والآبار المعينة فالنقد فيها الأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجوز النقد فيه إلا بعد أن تروى ويتمكن من الحرث كانت من النيل أو المطر أو السقي بالعيون أو الآبار.

وأما وجوب النقد فيجب عنده في أرض النيل إذا رويت إذ لا يحتاج إلى غير ذلك، وأما غيرها فلا يجب النقد فيها عنده حتى يتم الزرع وتستغني عن الماء، ووافقه ابن

ص: 166

الماجشون إلا في أرض السقي المأمونة فيجعلها كأرض النيل يجب النقد فيها إذا رويت. وعلى مذهب ابن الماجشون فالأرض بالنسبة إلى جواز النقد فيها على أربعة أقسام: أرض النيل المأمونة فيجوز فيها الكراء بالأعوام الكثيرة بالنقد أو غير النقد قرب إبان شربها أو ريها أم لا.

وأرض السقي بالعيون لا يجوز عنده كراؤها إلا لثلاثة أعوام أو أربعة، ولا ينقد إلا سنة؛ يريد أنهي نقد السنة الثانية قبل تمام الأولى بيسير إن لم ترو الأرض. قاله في الواضحة. وأما أرض المطر فلا يجيز الكراء فيها حتى تروى رياً مبلغاً له أو لأكثره مع رجاء مطر غيره. انتهى باختصار.

وَتَصِحُّ إِجَارَةُ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُسْتَاجَرَةُ أَوْ مُسْتَثْنًى مَنْفَعَتُهَا مُدَّةً تَبْقَى فِيهَا غَالِباً

يعني: ليس من شرط الإجارة قبض المنفعة في الحال، بل يجوز لربها إذا كانت الرقبة مستأجرة أن يؤاجرها من آخر بعد مدة الأول وكذلك يجوز له أن يؤاجرها إذا كان مستثنى منفعتها وصورتها أن يشتري إنسان شيئاً، فيستثني بائعه منفعته مدة معينة تبقى فيها الرقبة غالباً فللمشتري أن يؤاجرها ليقبضها المستأجر بعد المدة التي استثناها البائع والمشهور جواز النقد على منفعة عبد أو دابة تقبض بعد شهر، وإنما يمنع شرط النقد خاصة.

وقال غير ابن القاسم: يمنع عقد الكراء على مثل هذا.

وقيد محمد الأول بما إذا لم تكن الدابة في سفر.

ففي المدونة: ومن اكترى داراً على أن لا يقبضها إلى سنة جاز ذلك وجاز النقد فيها لا منها، فإن بعد الأجل جاز الكراء ولا يجب النقد فيه.

ص: 167

وَالنَّقْدُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِهَا، وَاسْتُخِفَّ فِي الْعَقَارِ سِنينَ، وَاسْتُكْثِرَ فِي الْحَيَوَانِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ..

(فِيهَا) أي في الرقبة المستأجرة.

(يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِهَا) فإن كانت الرقبة يؤمن بقاؤها وعدم تغييرها جاز النقد فيها وإلا فلا، ولهذا (وَاسْتُخِفَّ فِي الْعَقَارِ سِنينَ) أي: أنهم أجازوا النقد شرطاً في العقار على أن يقبض إلى سنين ولم يجيزوا ذلك في الحيوان إلا القصيرة كعشرة أيام.

فإنقلت: هلا حملت كلامه على مقدار أمد الإجارة الذي يكون قبض الشيء المستأجر بعده، قيل: لو حملناه على ذلك لأقصرنا أمد الإجارة على عشرة أيام في الحيوان إلا عشرة أشهر، بل يجوز أكثر من ذلك.

نعم المختار عند المتأخرين التفرقة بين الحيوان والرباع والثياب ويفرق أيضاً في الرباع بينا لقديم والحادث منهما وإن كان المتقدمون لم يفصلوا في ذلك ولكن لم يذهب أحد منهم إلى استكثار عشرة أيام في الحيوان.

وذكر اللخمي في أمد إجارة العبد ثلاثة أقوال: أجاز في الموازية العشر سنين بالنقد، وفي المدونة خمس عشرة سنة، ومنعه ابن القاسم في العشر.

اللخمي: وأرى أن ينظر إلى العقد فقد يكون شاباً وقد يكون شيخاً.

وَيَصِحُّ بَيْعُهَا إِلَى مَا يُنْقَدُ فِيهِ

يعني: ويصح بيع الرقبة على أن تبقى بيد بائعها إلى ما يجوز النقد فيه في الإجارة، إما لكونه آجرها أو لينتفع بها، فيستكثر في الحيوان عشرة أيام ويستحب في العقار السنون.

ابن راشد: وأجاز ابن القاسم استثناء منفعة الأرض عشرة أعوام وأجاز المغيرة السنين الكثيرة وأجاز ابن القاسم سكنى الدار بينه وبين العام ولم يجز أكثر من ذلك لما يخشى من تغييرها وأجاز ابن حبيب السنين وقيل: تجوز السنة ونصف السنة [618/ أ].

ص: 168

وروى سحنون: ثلاثة أعوام، وروي عن ابن القاسم في الموازية جواز استثناء سكنى عشرة أعوام والخلاف خلاف في حال ولا نفقة فإن كانت المدة لا تتغير فيها غالباً جاز.

وَلا يَجُوزُ اسِتِئْجَارُ حَائِضٍ عَلَى كَنْسِ مَسْجِدٍ

هذا يتعلق بقوله غير حرام وكلامه مقيد بما إذا كانت هي تكنس وأما لو كانت الإجارة متعلقة بذمتها فيجوز، وكذلك أيضاً عكس هذه المسألة: لو آجر المسلم نفسه لكنس كنيسة ونحو ذلك، أو آجر نفسه ليرعى له الخنازير أو ليعصر له خمراً.

مالك: ويؤدب المسلم إلا أن يعذر بجهالة واختلف قول مالك هل تؤخذ الأجرة من الكافر ويتصدق منها أو لا؟

ابن القاسم: والتصدق بها أحب إلينا وللشيوخ خلاف فيمن باع داره أو آجرها لمن يتخذها كنيسة، هل يتصدق بالثمن كله أو الكراء أو إنما يتصدق بفضلة الكراء، أو يفرق فيتصدق في البيع بالفضل، وفي الكراء يتصدق بالجميع؟

ابن يونس: وبالثالث أقول.

وَلا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ عَلَى عِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَيْهِ كَالصَّلاةِ والصِّيَامِ وتَقَدَّمَ الْحَجُّ

وهذا يتعلق بقوله: (وَاجِبَةٍ) واحترز بقوله: (مُعَيَّنَةٍ) مما على الكفاية كغسل الميت ونحوه.

واعلم أن العبادة المعينة قد لا تكون واجبة كالوتر وركعتي الفجر، فلا يصح الاستئجار عليها.

فكلامه هذا أحسن من قوله أولاً: (وَلا وَاجِبَةٍ) ولم تجز الإجارة هنا لأن من شرط العقد على المنفعة، أن تحصل المنفعة للمستأجر وإذا استأجره على أن يصلي ما وجب عليه أو يصوم عنه لم تحصل المنفعة للمستأجر.

ص: 169

وقوله: (وتَقَدَّمَ الْحَجُّ) أي: في الحج.

بِخِلافِ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَحَفْرِ الْقَبْرِ

فإن الإجارة عليهما جائزة.

وَفِي الإِمَامَةِ ثَلاثَةُ: لابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ حَبِيبِ وَغَيْرِهِمَا- ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَلَى انْفِرَادِهَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ أَذَانٍ وَالْقِيَامُ بِالْمَسْجِدِ جَازَ. وَفِيهَا: وَتَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الأَذَانِ وَالصَّلاِة مَعاً ..

الجواز لابن عبد الحكم ورأى أن الإجارة على ملازمة الموضع لا على نفس الصلاة.

ابن يونس: وهو القياس.

والمنع لابن حبيب قال: لا تجوز الإجارة على أذان ولا صلاة.

والثالث تصوره من كلام المصنف ظاهر وهو مذهب المدونة وبه العمل ولو قال المصنف إن كانت مع غيرها جاز لكان أحرى على قاعدته لأنه خالف هنا الغالب من عادته إذ لم يجعل صدر الثالث هو القول الأول.

ابن راشد: وروى ابن زياد عن مالك الجواز في الفرض دون النفل.

المتيطي: ذكر الطلمنكي في كتابه وروى ابن الماجشون عن مالك إجازة الأجرة في قيام رمضان وقال: هو مثل المؤذن ومعلم القرآن قال فيها في الصلاة: وتجوز الإجارة على الأذان؛ يعني بخلاف الصلاة يفردها.

وفيها في آخر الصيام: ولا يؤم أحد بإجارة في رمضان ولا في الفرائض.

وفي الجعل: وكره مالك الإجارة في الحج وعلى الإمامة في الفرض وفي قيام رمضان.

ابن عبد السلام: وحيث نسب إلى المدونة المنع فهل هو على الكراهة كما في هذا المواضع، أو على التحريم؟ وحمل الكراهة فيه تردد.

ص: 170

خليل: الراجح الحمل على الكراهة، وهو الذي نص عليه صاحب النكت وابن يونس، ولو كانت ممنوعة عنده لما جاز الإجارة على الأذان والصلاة لاشتمال الصفقة حينئذ على حلال وحرام.

ابن يونس: واختلف شيوخنا إذا اوجر على الأذان والصلاة ثم تعطل عن الصلاة لأمر عرض له، هل تسقط حصة ذلك من الإجارة بناء على أن الاتباع حصة من الثمن أم لا؟ والظاهر الإسقاط وهو اختلاف اللخمي وصاحب النكت.

تنبيهات:

الخلاف الذي ذكره المصنف، إنما نقله المتقدمون في الذي يأخذ الأجرة من الناس الذين يستأجرونه على ذلك من أموالهم، والظاهر أن ما يؤخذ من بيت المال والأحباس أخف وأن قصارى أمره الكراهة ولا ينتهي إلى التحريم وذكر القرافي أن ما يؤخذ من بيت المال متفق على جوازه، قاله ابن عبد السلام.

الثاني: المتيطي: ويحسب على الإمام الكثير من مرضه أو مغيبه دون القليل، وأما إن غاب الجمعة ونحوها فلا بأس بذلك ولا يحط من أجرته شيء، قاله غير واحد من القرويين.

الثالث: وليس لأهل المسجد ولا لبعضهم بعد الاتفاق على الرضا بالإمام أن يخرجوه ولا يتأخروا عن الصلاة خلفه، إلا أن يثبتوا عند الحاكم ما يجرحه، لكن يكره للإمام إذا كره الأكثر من الجيران الصلاة خلفه أن يصلي بهم وهم يكرهونه ولكن لا يقضي عليه.

ابن مغيث في وثائقه: وذلك إذا استأجره صاحب الأحباس، وأما إن استأجره الجماعة فلهم تأخيره من غير إثبات جرحة.

ص: 171

الباجي: ونزلت بإشبيلية سنة ثمانين وثلاثمائة في إمام اختلف الجيران عليه وكره بعضهم الصلاة خلفه وقال أحمد بن عبد الله: إن قام من الجيران النفر اليسير فلا يؤخر الإمام عن الصلاة إلا أن يثبتوا عليه جرحة وإن قام الجيران يجمعون أو جلهم فإنه يمنع من الصلاة بهم لما جاء: "لا يصلي الإمام بقوم وهم له كارهون".

وهكذا [618/ ب] ذكر ابن حبيب فيها؛ وشاور قاضي قرطبة الفقهاء فقال عمر بن أحمد بن عبد الملك وتابعه عليه غيره كذلك فحكم به وإن كان غير القائمين القليل من الجيران وهم أهل العدالة والخير والقائمون ليسوا كذلك فلا يلتفت إليهم.

وَكُرِهَ إِجَارَةُ قُسَّامِ الْقَاضِي

هذا إن كان لهم رزق في بيت المال وتقدمت هذه المسألة ولعل الكراهة أن معظم القسمة علم لا عمل ولأنه وكيل على الناس فكان كالقاضي.

وَلا بَاسَ بِمَا يَاخُذُهُ الْمُعَلِّمُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَإِنْ اشْتَرَطَ شَيْئاً مَعْلُوماً جَازَ ..

لما في الصحيح: "إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله".

وقوله: (وَإِنْ اشْتَرَطَ) مبالغة.

وقوله: (وَإِنْ اشْتَرَطَ شَيْئاً مَعْلُوماً جَازَ) يعني: سواء كان ذلك المعلوم كل شهر ونحوه بكذا أو على الحذاق.

ابن الجلاب: وقيل: لا يجوز إلا مشاهرة ونحوها ولا يقضى للمعلم بهدايا الأعياد والجمع، وهل يقضى بالحذقة؟ وهي الإصرافة إذا جرى به العرف؟ وهو قول سحنون أولا وهو قول أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم وليس فيها شيء معلوم وهي على قدر حال الأب.

وإذا بلغ الصبي ثلاثة أرباع القرآن لم يكن لأبيه إخراجه ووجبت الحذقة للمعلم ووقف في الثلثين.

ص: 172

فرع:

قال في المدونة: وأكره الإجارة على تعليم الفقه والفرائض كما يكره بيع كتبها، وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنحو أو على كتابة ذلك أو إجارة كتب فيها ذلك، وبيعها وكره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف بالغناء.

عياض: معنى نوح المتصوفة: أناشيدهم ورواه بعضهم نحو وهو غلط. واختلف في الاستئجار على تعليم الفقه كالاختلاف في بيع كتبه، ومنع ابن القاسم الاستئجار على تعليم النحو والشعر.

وأجاز أصبغ وابن حبيب الإجارة على تعليم الفقه والنحو وتعليم الرسائل وأيام العرب، وأما تعليم الغناء والهجو فلا يختلف في منعه.

وَلابُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَنْفَعَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا تَقَعُ الْمُشَاحَّةُ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عُرْفُ وَتُقَيَّدُ

هذا شروع منه فيما يتعلق بالقيد الآخر وهو قوله: (مَعْلُومَةُ) أي: لا بد من بيان جنس المنفعة لينتفي الغرر كما إذا أكرى دابة ليحمل عليها أو ليركبها ما لم يكن عرف كحمير المكارية عندنا بمصر فإنه جاز في ركوبها.

(وَتُقَيَّدُ) هو بالتاء من فوق وفتح القاف لما لم يسم فاعله؛ أي: وتقيد المنفعة بزمان أو مكان، وهو يرجع إلى بيان قدرها. وفي بعض النسخ:(ويقيد) - بالياء- فيكون صفة للعرف؛ ليحترز بذلك من عرف ليس بمنضبط. وفي بعضها: (وتقيد) مصدر من قيد.

فَإِنْ كَانَ اسْتِصْنَاعاً فَبِالزَّمَانِ أَوْ بِمَحَلِّ الْعَمَلِ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فَسَدَ ..

هذا بيان كيفية تقييد المنفعة وذكر أنه إذا كان العمل المستأجر عليه صنعة فإنها تقيد بالزمان أو بالمحل، فخياطة ثوب مثال لما يقيد بمحل العمل، واليوم مثال لما يقيد بالزمان.

ص: 173

وإن جمع بينهما- بأن قال: خط هذا الثوب في هذا اليوم بدرهم- فسد. وهذا في الجواهر، وعلله فقال: لأنه ربما تمم العمل في اليوم أو بعده.

وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين أن يمكن أن ينقضي الأجل قبل تمام العمل أم لا، فأما إن كان محتملاً فقال التونسي وابن رشد: لا خلاف أن ذلك لا يجوز.

وقال في البيان: واختلف إذا كان الإشكال في أن العمل يمكن إتمامه قبل انقضاء الأجل، فالمشهور أنه لا يجوز وهو موافق لإطلاق المصنف.

وقيل: يجوز. وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى، وقول ابن حبيب. وظاهر ما في العتبية دليل قوله في المدونة فيمن استأجر ثوراً على أن يطحن له كل يوم إردبين فوجده لا يطحن إلا إردباً، أن له أن يرده ويعطي في الإردب ما ينوبه ولم تنفسخ الإجارة.

وقال اللخمي: إن لم يدر هل يفرغ العمل في تلك المدة لم يجز. واختلف إذا كان الغالب أنه يعمله فيه فقيل: ذلك جائز. وقيل: لا يجوز.

وقال ابن عبد السلام: الذي قاله من أرضى من الشيوخ في تعيين المشهور فمنهم من عينه في المنع ومنهم من أشار إلى أنه الإباحة واحتج بمسألة الثور.

فرع:

فإن وقعت الإجارة على الوجه الفاسد فقال ابن القاسم: له إجارة المثل ولا ينظر إلى المسمى لأنه فاسد، واختار اللخمي الصحة، قال: لأن الغرض أن يسرع بالعمل تلك المدة وإن تأخر وخاطه بعد المدة نظر إلى خياطته على أن يسرع في ذلك الأجل وعلى أن يخيطه في الوقت الذي خاطه فيه فيحط من المسمى بقدره.

اللخمي: وإن يضرب أجلاً في أصل العقد ثم قال: عجله لي اليوم وأزيدك نصف درهم، فقال ابن القاسم: لا بأس به، ولم يره مثل الرسول يزاد لسرعة السير وقال محمد: لا بأس به في الرسول.

ص: 174

وَفِي التَّعْلِيمِ بِالزَّمَانِ أَوْ بِحَصْرِ مَا يُعَلَّمُ

وتضبط المنفعة في التعليم، تعليم قرآن أو غيره بالزمان لكل شهر كذا أو بحصر ما يعلم كربع القرآن وقد تقدم أن هذا هو المشهور. وفي الجلاب قول: أنه لا يجوز إلا على مدة معلومة.

ابن عبد السلام: ولابد من اختبار حال المعلم إن كانت الإجارة على تعليمه جزءاً من القرآن أو مقدار الصنعة [619/ أ] لسرعة الحاذق وبطء تعليم البليد.

وَيَلْزَمُ تَعْيينُ الرَّضِيعِ وَالْمُتَعَلِّمِ بِخِلافِ غَنَمٍ وَنَحْوِهَا

يحتمل ويلزم تعينها عند عقد الإجارة لاختلاف الصغير في الرضاعة وفي التعليم بحسب الذكاء والبلادة وقد تقدم أن اللخمي قال: لو وصفوا سنه من غير اختبار رضاعة وصناعة جاز عقد الإجارة، وعلى هذا الوجه لا يكون في كلامه التصريح بأن هذين الصبيين إذا ماتا لا يزلم آباؤهما الخلف نعم يؤخذ منه بطريق اللزوم لأنه يلزم من التعيين الفسخ ويحتمل أن يريد بتعيينهما أنهما لو ماتا قبل انقضاء مدة الإجارة انفسخت الإجارة ولا يلزم آباؤهما خلفهما بل نص الباجي على أنه لا يجوز العقد فيهما على مضمون وهذا هو المشهور عن سحنون أنه يلزم الأب خلف الرضيع وأجراه على القاعدة: أن ما تستوفي به المنفعة لا تنفسخ الإجارة بهلاكه.

والاحتمال الأول أولى، لأنه أقرب إلى لفظه؛ لأنه سيتكلم على الانفساخ فعورضت مسألة الرضيع ها هنا بما ذكره في المدونة في البيوع الفاسدة إذا باع أمة ولها ولد رضيع وشرط عليهم رضاعه ونفقته سنة، قال: إن مات الصبي أرضعوا له آخر.

وفرق ابن يونس بأن مسألة البيع الغرر فيها تبع بخلاف الإجارة كقول مالك في بيع لبن شاة جزافاً فإنه لا يجوز، وأجاز كراء ناقة شهراً واستثنى حلابها وأصل ذلك من بيع

ص: 175

الثمرة قبل بدو صلاحها إذا انفردت وكان يغمز مسألة البيع وقال: لا يجوز هذا البيع إلا على وجه الضرورة لأن المبتاع ربما يحتاج إلى أن يظعن بها فيكلف الصبي المؤونة لا يدري قدرها وذلك غرر.

وقيل: إنما يجوز بيع هذه الأمة إذا كان الرضاع مضموناً على مشترى الأمة لا في هذا الصبي بعينه، لأنه في هلاكه يسقط فلذلك يحتاج أن يكون مضموناً ليكون ما في المدونة ثابتاً في كل حال، وأما الرضاع في غير الأمة فلا يجوز أيضاً لأن المشتري يصير غير قادر على التصرف فيها فيكون كمن اشتراها على ألا يبيعها إلا إلى سنة.

ابن يونس: وقد يقال: وقد يقال علي بيعها ويشترط على المبتاع الرضاع أيضاً.

ولمالك في العتبية فيمن باع جارية وشرط أن ترضع ابنا له سنة: أنه لا خير فيه وقيل له: فإن اشترط أن يأتي بغيرها قال: لا يعجبني.

قوله: (بِخِلافِ غَنَمٍ وَنَحْوِهَا) أي: فلا يلزم تعيينها ويلزم خلفها إن هلكت.

فَلَوْ عَيَّنَهَا وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْبَدَلَ فَفِي تَعْيينِهَا قَوْلانِ

ظاهره صحة العقد مع عدم شرط الخلف، وإنما يختلف في تعيينها ففي التعيين لا يجب خلف الماشية إذا هلكت وعلى ضده العكس.

وقد ذكر اللخمي هذين القولين فقال: قيل: الأجرة جائزة ويخلف غيرها إن أصيبت ولا تتعين وقيل جائزة وتتعين لئلا يتكلف رب الماشية البدل.

والقول الأول لأشهب وابن الماجشون وسحنون وأصبغ وابن حبيب ومذهب المدونة خلاف القولين وهو أنه لا يصح العقد إلا باشتراط الخلف فإن لم يشترط الخلف فسد العقد وعلى هذا فكلام المصنف في هذه المسألة ليس بظاهر، إما أولاً: فلتركه مذهب المدونة.

ص: 176

وإما ثانياً: فلأن كلامه يوهم صحة العقد باتفاق. وإنما الخلاف في تعيينها خاصة.

وفي المسألة قول رابع: يجوز العقد من غير اشتراط الخلف إن قرب الزمان لا إن بعد؛ حكاه اللخمي واختار قولاً خامساً بالجواز فيما قرب، بعد التحجير على رب الماشية في البيع.

تنبيه:

الأكثرون فهموا المدونة على ما ذكرنا، ورجحوا قول ابن الماجشون ومن وافقه.

وفهم الباجي أن المذهب على ما قاله ابن الماجشون وأن شرط الخلف الذي ذكره في المدونة إنما أراد به رفع اللبس عند العقد لأن العقد يفسد عند عدم الشرط وهو بعيد من لفظ المدونة لأن فيها: فإن كانت بأعيانها فلا تجوز الإجارة حتى يشترط أنه إن ماتت أو باعها أخلف غيرها.

وَتُحْمَلُ فِي الدَّهَانِ وَغَسْلِ الْخِرَقِ وَغَيْرِهِ عَلَى الْعُرْفِ، وَقِيلَ: عَلَى الظَّئْرِ

قوله: (وَتُحْمَلُ) أي الظئر ويحتمل الإجارة هذا إن كان تحمل بالتاء المثناة من فوق وإن كان بالياء المثناة من تحت فيحتمل عوده على الأب وعلى العقد.

وقوله: (وَغَيْرِهِ) يعني: تحميمه ودق ريحانه ونحو ذلك على العرف، فإن اقتضى أنه على الظئر فعليها وإن اقتضى أنه على الأب فعليه هذا مذهب المدونة ولم يصرح فيها بالحكم إذا لم يكن عرف.

نعم، نص ابن حبيب على أنه مع عدم العرف على الأب.

وقوله: (وَقِيلَ: عَلَى الظَّئْرِ) أي: مع عدم العرف؛ لأن العرف محل اتفاق وهذا القول لابن عبد الحكم ولعل المصنف حمل المدونة على قول ابن حبيب، فلهذا ذكر هذا القول مقابلاً له لأن كلامه يوهم أن هذا القول مخالف مع ثبوت العرف.

ص: 177

و (الدَّهَانِ) بفتح الدال مصدر؛ أي: فعل الدهان؛ لأنه محل للقولين، وهكذا ضبط عياض "دهنه" الواقع بفتح الدال؛ لأنه إنما أراد هنا الفعل، يعني: وأما "الدهان" بالكسر فهو اسم لما يدهن به، نص عليه الجوهري، وهو على الأب باتفاق.

ابن عبد الحكم: فأما ما ترقد فيه الظئر من لحاف [619/ ب] وفراش فذلك على ما تعارفه الناس فإن لم يكن عرف فذلك عليها ويكون على الأب لحاف الصبي ودثاره وما يرقد فيه.

وَتُعَيَّنُ الدَّارُ وَالْحَانُوتُ وَالْحَمَّامُ وَشِبْهُهُ

لما تكلم على استئجار الآدمي شرع في ذكر العقار ولابد من تعيينه ولا يصح أن يكون في الذمة إذ لابد من ذكر موضعه وحدوده وهذا بخلاف الدواب والسفن فإن الإجارة تكون فيها معينة وفي الذمة وسيأتي الكلام على الدواب.

وَتُقَيَّدُ بِمُدَّةٍ تَبْقَى فِيهَا غَالِباً، وَيَنْقُدُ إِنْ كَانَ لا يَتَغَيَّرُ غَالِباً.

يعني: في تقييد مدة الإجارة في العقار بمدة تبقى فيها العقار غالباً، فالأرض آمن من الديار وكذلك الجديد آمن من القديم والضابط في الجميع ما ذكره المصنف.

المتيطي: الذي جرى به العمل من الحكم كراء الرباع لعشر سنين وخمسة عشر وعشرين وأزيد ولا بأس بتعجيل الوجيبة كلها، ومذهب ابن حبيب أن الكراء في الرباع جائز إلى سنين كالبيع وإن بعد فلا بأس به دون النقد.

قوله: (وَيَنْقُدُ .. إلخ) ظاهر التصور، لكنه مقيد بما إذا كانت ملكاً للمكري أو ملك منافعها حياته، ففي النوادر عن مالك: لا بأس أن يكريها مدة قريبة وينتقد ولا يكريها كثيراً.

ابن القاسم: والقليل السنة ونحوها.

وقال ابن ميسر: لو أكراها ثلاث سنين أو أربعاً لم أر به بأساً.

ص: 178

ابن يونس: وأما إن لم ينقد فجائز، لأنه كلما عمل أخذ بحسابه وذكر ذلك في العبد ولا فرق، وصرح بذلك المتيطي في الدور.

وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ سَنَةٍ جَازَ كَالأَشْهُرِ مِنَ السَّنَةِ

يعني: ويجوز عقد الكراء على سنين بكذا وإن لم يسم لكل سنة شيئاً، كما يجوز أن يستأجر منه سنة بكذا وإن لم يعين لكل شهر شيئاً وكان المقصود من شهور السنة: بعضها، كما أشار إليه في المدونة في دور مكة ويرجع إلى التقويم عند حصول مانع كما يجوز جمع سلع مختلفة في البيع.

وقوله: (جَازَ) يفهم منه أيضاً الجواز مع التسمية من باب أولى، فهو مفهوم موافقة.

فرع:

ثم إن شرط الرجوع- إن طرأ مانع- إلى القيمة دون التسمية لحل اتفاقاً وإن شرط الرجوع بالتسمية امتنع اتفاقاً وإن دخلا على المكث فمذهب ابن القاسم وروايته في المدونة أن التسمية لغو ويقتضي بالقيمة وهو قول سحنون وأصبغ ولمالك في العتبية أن الكراء فاسد وذكر ذلك في البيان.

وزعم ابن عبد السلام أن في كلام المصنف ما يوهم أنهما إذا سميا لزمته التسمية عند استحقاق ورد بأنه ليس مفهوم موافقة ولا مخالفة.

أَوْ تُقَيَّدُ كُلَّ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ بِكَذَا فَتَصِحُّ وَلا يَلْزَمُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ فِي الْمَذْكُورِ

لما قدم الكلام على كراء الوجيبة شرع في الكلام على كراء المسابقة والمشاهرة، قوله:(أَوْ تُقَيَّدُ) معطوف على قوله: (وَتُقَيَّدُ بِمُدَّةِ)

قوله: (فَتَصِحُّ) أي الإجارة ولا يلزم كل واحد من المتعاقدين في المذكور سواء سكن بعضه أم لا، وهذا مذهب ابن القاسم، وروي عن مالك في المدونة.

ص: 179

وروى مطرف وابن الماجشون: أنه يلزمه أقل ما سميا، فإن قالا: كل شهر بكذا لزم في شهر، وإن قالا، كل سنة بكذا لزم في السنة.

وبه قال ابن حبيب واختاره اللخمي، قال: لأنهما أوجبا بينهما عقداً ولم يجعلا فيه خياراً، فوجب أن يحملا على أقل ما تقتضي التسمية.

واختار ابن يونس المشهور قال: لأنه كأنه قال: أكريتك من حساب الشهر والسنة بكذا.

وفي المسألة قول ثالث: لا يلزمه شيء كالقول الأول حتى يشرع في السكنى فيلزمه أقل ما سميا كالقول الثاني وهو أيضاً مروي عن مالك.

ولكراء الوجيبة ألفاظ؛ الأول أن يقول: أكريتك هذه الدار أو الحانوت شهر كذا أو سنة كذا.

والثاني: أن يقول: أكريتك هذا الشهر وهذه السنة.

والثالث: أن يسمي العدد فيما زاد على الواحد فيقول سنتين أو ثلاثاً.

والرابع: أن يقول: أكري منك إلى وقت كذا واختلف إذا قال: أكري منك سنة بكذا أو شهراً بدرهم فحمل أكثرهم كابن لبابة وغيره المدونة على أنه وجيبة وذهب أبو محمد إلى حمل المدونة على أنه غير لازم، كما إذا قال: اكتري كل سنة بكذا أو السنة بكذا.

ابن سهل: ورأيت في حاشية كتاب بعض شيوخنا: إن قال: أكريتك السنة بكذا- بالنصب- لزمته السنة، وإن قال أكريتك السنة بكذا- بالرفع- كان مثل قوله: أكريك كل سنة بكذا على رواية ابن القاسم قال: وهذا إن شاء الله حسن.

ابن رشد: ولا وجه لاستحسانه عندي، لأنه لما نصب احتمل لزوم السنة واحتمل بحسابه السنة فيجب الحمل على عدم اللزوم، لأن الأصل براءة الذمة فأما إذا رفع فلا إشكال ولم يتكلم عليه ابن القاسم.

ص: 180

فَلَوْ نَقَدَه مَبْلَغاً لِزَمَتْ فِيمَا يُقَابِلُهُ اتِّفَاقاً

هكذا حكى اللخمي الاتفاق أيضاً وعلى هذا فلو قال: كل شهر بكذا ونقد كراء كل شهر لزمه في النصف ثم على المشهور لزمه أن ينحلا عن الكراء وعلى قول عبد الملك يلزمه النصف الآخر.

فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ ابْتِدَاءً الْمُدَّةَ حُمِلَ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ

يعني إذا قال: اكتر شهراً أو سنة ولم [620/ أ] يبين أولها حمل على أن ذلك أولها من حين العقد لأنه لو لم يحمل على ذلك لزم فساد العقد لأن الكراء لا يجوز على غير سنة معينة وإذا وقع العقد على شهر فإن كان في أوله لزمهما الكراء في ذلك الشهر على ما كان من نقص أو تمام وإن كان ذلك في بعض شهر لزمهما الكراء في ثلاثين يوماً من يوم عقداه، وكذلك السنة إن كان في أول شهر فاثنى عشر شهراً بالأهلة.

مالك في أكرية الدور من المدونة: وإن وقع بعد أن مضى من الشهر عشرة أيام حسباً أحد عشر بالأهلة وشهرا على ثلاثين يوماً كالعدة والأيمان ولا يقع الكراء على ما بقي من السنة إذا قال: أكري منك هذه السنة إلا ببيان.

قال في المقدمات: بين ذلك رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الصيام فيمن قال: لله عليَّ صيام هذه السنة لسنة ست وثمانين وقد مضى بعضها أن عليه صيام اثني عشر شهرا وكذلك روايته عنه في كتاب الأيمان، في من قال لامرأته: أنت طالق إن فعلت كذا هذه السنة أنه إن كان نوى ما بقي فله نيته، وإن لم ينو شيئاً استقبل اثني عشر شهراً.

قال في المدونة: ومن اكترى داراً سنة أو سنتين ولم يسم متى يسكن جاز، ويسكن أو يسكن غيره ما لم يأت من ذلك ضرر بين على الدار.

ابن يونس: يريد ضرراً في السكنى.

ص: 181

ابن عبد السلام: ويحتمل عندي خلاف ما نص عليه مالك في المختصر: إن غلقها المكري وخرج فذلك له وليس لصاحبها أن يقول تخربها عليَّ.

وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الأَرْضِ بِنَاءً وَلا زِرَاعَةً وَلا غَرْساً وَلا غَيْرَهُ وَبَعْضُهُ أَضَرُّ فَلَهُ مَا يُشْبِهُ فَإِنْ أَشْبَهَ الْجَمِيعُ فَسَدَ ..

سكت عن التعيين لظهور الحكم فيه ووقع في بعض النسخ بعد قوله: (وَلا غَيْرَهُ)(وَلا خَيَّرَهُ) وهو يقتضي: أنه لو خيره جاز ونحوه في الجواهر، فإنه قال: ولو قال: انتفع بالأرض كيف شئت، جاز وتردد فيه التونسي قال: انظر لو رضي رب الأرض بذلك هل يجوز إذا كان الأمران مختلفين أو لا يجوز؟ كمن اكترى إلى طريق فأراد أن ينتقل إلى ما يخالفها.

وقوله: (وَبَعْضُهُ أَضَرُّ): جملة حالية.

(فَلَهُ مَا يُشْبِهُ) أي ما دل العرف عليه (فَإِنْ أَشْبَهَ الْجَمِيعُ) أما إن كان العرف يقتضي الجميع أو لم يكن هناك عرف (فَسَدَ) أي: العقد وهذا أشبه بمذهب غير ابن القاسم في المدونة قال في أكرية الدور: وإذا كانت الأعمال يتفاوت ضررها وأكريتها لم يجز كراؤها إلا على شيء معروف يعمل فيه وإن لم يختلف فلا بأس وهو مخالف لظاهر مذهب ابن القاسم فيها، قال: ومن اكترى داراً فله أن يدخل متى شاء فيها من الدواب والأمتعة وينصب فيها الحدادين والقصارين والأرحية ما لم يكن ضرر فيمتنع.

ولم يقل يفسد العقد وقال في الأرضين: من اكترى أرضاً ليزرعها عشر سنين فأراد أن يغرس فيها شجراً، فإغن كان ذلك أضر بها منع، وإلا فله ذلك.

وفي اللخمي: أجاز- يعني ابن القاسم- كراء الحوانيت والديار على الإطلاق من غير مراعاة لصنعة مكتري الحوانيت ولا لعيال من يسكن الدار. وعلى قول غيره لا يجوز

ص: 182

إلا بعد المعرفة بذلك. وصرح بأن قول الغير خلاف. وقال ابن القاسم: والدواب؛ يريد إلا ان يكون العرف جارياً بعدم دخول الدواب الدور، وقاله بعضهم.

وَلَوْ سَمَّى صِنْفاً يَزْرَعُهُ جَازَ مِثْلُهُ وَدُونَهُ

يعني: ولا يجوز أن يزرع ما هو أضر. وتصور كلامه ظاهر.

وفي الموازية: من اكترى أرضاً على ألا يزرع فيها إلا قطناً لم يجز، فإن نزل فعليه قيمة الكراء. وقال محمد: ذلك جائز عندي.

وَلا يَلْزَمُ تَعْرِيفُ قَدْرِ الْبِنَاءِ وَصِفَتِهِ بِخِلافِ الْبِنَاءِ عَلَى الْجِدَارِ

وإذا اكترى أرضاً ليبني فيها لم يلزمه أن يذكر قدر البناء؛ لأن الأرض لا ضرر عليها في بقاء البناء بخلاف الجدار إذا أكراه ليبني عليه.

وَفِي الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ بِتَعْيينِهَا، وَفِي الذِّمَّةِ بِتَبْيينِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ.

لما فرغ من كراء العقار شرع في كراء الدواب؛ وكراؤها لأربعة أوجه: للركوب، وللحمل، وللحراثة، وللاستسقاء.

فأما الركوب فهو على وجهين: أحدهما: أن يقول: أكريتك هذه الدابة.

والثاني: أن يكري منه دابة في ذمته.

وقوله: (بِتَبْيينِ) يتعلق بالذمة. وإنما اشترط ذكر الجنس والنوع والذكورة والأنوثة لاختلاف الأغراض والمنافع في ذلك.

وظاهر كلامه الاكتفاء بالتعيين في الوجه الأول وينبغي أن يختبرها الراكب لينظر سيرها في سرعته وبطئه، فرب دابة كما قال مالك: المشي خير من ركوبها.

محمد: وإن وقع الكراء على الإطلاق حمل على المضمون حتى يدل دليل على التعيين.

ص: 183

قال: ولو اكترى منه أن يحمله إلى بلد كذا على دابة أو سفينة قد أحضرها ولم يعلم له غيرهأن ولم يقل تحملني على دابتك هذه أو سفينتك. فهلكت بعد أن ركب فعلى المكري أن يأتيه بدابة أو سفينة غيرها وهو مضمون حتى يشترط أنه أكرى منه هذه بعينها.

محمد: ويكون نصف السفينة أو ربعها كشرط التعيين.

وَلا يَتَعَيَّنُ الرَّاكِبُ، [620/ ب] وَلَوْ عُيِّنَ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيينُهُ، وَجَعَلَ مِثْلَهُ فَأَدْنَى. وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكُ فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً إِلا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَبْدُوَ لَهُ ..

هكذا وقع في بعض النسخ على أنه ابتداء مسألة، وفي بعضها (وَلا يَتَعَيَّنُ الرَّاكِبُ) عطفاً على قوله:(وَفِي الدَّوَابِّ لِلرُّكُوبِ بِتَعْيينِهَا، لا بِتَعْيينِ الرَّاكِبِ، بَلْ لَوْ عَيَّنَ لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْيينُهُ) ولهذا لو مات الراكب لم تنفسخ الإجارة؛ لأن به تستوفي المنفعة.

قوله: (وَجَعَلَ مِثْلَهُ) وفي بعض النسخ: (وَحَمَلَ) وكل منهما يحتمل أن يكون مبيناً للفاعل على تقديره (وَجَعَلَ) الراكب المعين (مِثْلَهُ فَأَدْنَى) ويحتمل أن يبنى للمفعول، وهذا لمالك في كتاب الرواحل والكراء.

قال: وأكثر قول مالك له في حياته أن يكريها من مثله في حاله أو أمانته وخفته.

وقوله: (وَاسْتَثْقَلَهُ) أي: واستثقل مالك رحمه الله حمل المثل على الدواب خاصة، وهو قوله في الجعل والإجارة.

قال: وكره مالك لمكتري الدابة لركوبه كراؤها من غيره وإن كان أخف منه أو مثله، فإن أكراها لم أفسخه، وإن تلف لم يضمن إذا أكراها فيما اكتراها فيه من مثله وحالته وأمانته وخفته.

وعلى هذا فيحتمل أن يكون المصنف ذكر قولي مالك، ويحتمل أن يكون إنما ذكر قولاً واحداً ويكون قوله:(وَجَعَلَ مِثْلَهُ فَأَدْنَى) مقيدا بعد: (وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكُ).

ص: 184

وقوله: (فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً) أي: للركوب أي: وأما غير الدابة أو في الدابة لغير الركوب فلم يستثقله.

محمد: ولم يختلف من أدركت من العلماء في إجازته في الكراء في الدور والسفن والمتاع والصناعات في مثل ما اكترى، وقد استثقله مالك في الركوب إلا أن يقيم أو يموت ولم يختلف قوله في الإحمال.

قوله: (إِلا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَبْدُوَ لَهُ) هو كما حكيناه عن الموازية.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالثَّوْبِ لِلُبْسِ مِثْلِهِ

أي: مثل الركوب. ونسبه لابن القاسم لأنه هو الذي قاله في المدونة.

قال بعد أن ذكر مالك الحكم في الدواب وكذلك الثياب في الحياة والممات: وظاهره أنه لا يضمن في الثوب إذا أكراه من مثله كالدابة. والذي في المدونة عن ابن القاسم أنه يضمن إذا هلك بيد الغير لاختلاف الناس في اللبس ولا يضمن إن هلك بيده.

لكن قال سحنون: هذا حرف سوء فلا يضمن.

قال: ومسألة الفسطاط هي الأصل، وهي قول ابن القاسم: وإن اكتريت فسطاطاً إلى مكة فأكريته من مثلك في حالك وأمانتك، وصنيعه فيه مثل صنيعك، وحاجتك إليه مثل حاجته جاز.

وقد يقال: في استدلال سحنون نظر؛ لأن الاختلاف في اللبس أكثر من الاختلاف في الفسطاط.

ويُعَيَّنُ الْمَحْمِلُ أَوْ يُوصَفُ وَالْمَعَالِقُ مِثْلُهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَةً لَمْ يُحْتَجْ فِي الْجَمِيعِ

إذا أكرى ليركب في محمل فلابد من تعيينه أو وصفه بما لا يختلف، فإنه مما يختلف بالكبر والصغر.

ص: 185

و (الْمَحْمِلُ) بفتح الميم وسكون الحاء وكسر الميم الثانية.

الجوهري: واحد المحامل وهي الأوعياء، وأما (الْمَحْمِلُ) بكسر الميم الأولى وفتح الثانية فهو علاقة السيف.

وقوله: (وَالْمَعَالِقُ مِثْلُهَا) أي: فلابد من وصفها وتعيينها.

(وَالْمَعَالِقُ) ما يزيده المكتري على حمل الدابة.

فإن قيل: في المدونة: وقد عرفت للحاج زيادة من السفر والأطعمة لا ينظر فيها المكاري ولا يعرف ما حمل فلا ضمان عليه في ذلك.

وظاهره أنه لا يحتاج إلى تعيينها ولا إلى وصفها خلاف ما قاله المصنف. فالجواب أنه قد عرفت فصار هذا مدخولاً عليه بالعرف، فدخل تحت قول المصنف: فإن كانت عادة لم يحتج في الجميع إلا في المحمل والمعاليق.

قال في المدونة: وإن أكريت دابة بعينها، فليس لربها أن يحمل تحتك متاعاً ولا يردف رديفاً، وكأنك ملكت ظهرها وإن جعل في متاعك على الدابة متاعاً بكراء أو بغير كراء فلك كراؤها إلا أن تكون أكريت منه على حمل أرطال مسماة كالزيادة له.

أشهب: وإن أكراه ليحمله وحده أو مع متاعه فكراء الزيادة للمكتري ولو كان المكتري منعه من الزيادة عليها إذا أكراه دابة.

قيل: وقول أشهب وفاق.

وَأَمَّا السَّيْرُ وَالْمَنَازِلُ فَالْعُرْفُ كَافٍ

أي: في تفصيل السير ومقداره في الليل والنهار، وهو ظاهر. ثم أخذ يتكلم على الوجه الثاني:

ص: 186

وَالْحَمْلِ بِرُؤْيَةِ الْمَحْمُولِ أَوْ بِكَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ أَوْ عَدَدِهِ فِيمَا لا تَفَاوُتَ فِيهِ

(وَالْحَمْلِ): مجرور معطوف على (الرُّكُوبِ) أي: وفي إجارة الدواب للحمل. (وَالْحَمْلِ) بالفتح مصدر حمل.

ابن السكيت: وهو بفتح الحاء لما كان في بطن أو شجر، وبالكسر لما كان على ظهر أو رأس.

وقوله: (بِرُؤْيَةِ .. إلخ) هو ظاهر، ولم يتعرض المصنف للجنس ولابد من بيانه، واستغنى المصنف عن اشتراطه؛ لأن رؤية المحمول تغني عنه؛ ولأن قوله: فيما لا تفاوت فيه يؤخذ منه اشتراط ذكر الجنس.

قال في المدونة: ومن اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها لم يجز إلا من قوم قد عرف حملهم.

وقال غيره: لو سمى حمل الطعام أو بر أو عطر جاز. وحملها قدر حمل مثلها. ولو قال: أحمل عليها حمل مثلها ما شئت؛ لم يجز لاختلاف الأشياء في الحمل.

عياض: واختلف الشيوخ فحمل بعض القرويين قول الغير على الخلاف وأن معنى قوله: "قد عرف حملهم" أي: قدره، وحمله الأندلسيون على الوفاق؛ أي: عرفوا نوع ما يحملون من التجارة فلا يضرهم جهل [621/ أ] مقداره. وإليه ذهب فضل، وهو ظاهر الكتاب أنه متى كان الجنس عرف لا تبال عن التقدير وحملت الدابة حمل مثلها.

فحاصله أن القرويين يقولون: لا يجوز على قول ابن القاسم ولو سمى الجنس حتى يكون القدر معروفاً إما نصاً أو عرفاً.

والأندلسيون يقولون: إنما لم يجز لكونه لم يسم الجنس، ولو سمى الجنس لجاز، ويصرف القدر على الاجتهاد. وممن حمله على الخلاف اللخمي، فإنه قال: إن سمى القدر دون الجنس لم يجز، فقد يتفق الجنس ويختلف الكراء لاختلاف المضرة، وكراء الكتان

ص: 187

والرصاص مختلف وإن استوى الوزن. واختلف إذا سمى الجنس دون القدر، فمنعه ابن القاسم، وأجازه غيره فيحمل عليها حمل مثلها؛ والأول أحسن وليس كل واحد من المكترين يعرف قدر ما تحمل دابة غيره.

وَلا تُوصَفُ الدَّابَّةُ إِلا مِثْلَ زُجَاجٍ وَنَحْوِهِ.

يعني: أن الدابة في الحمل لا يحتاج إلى وصفها لعدم اختلاف الأغراض في ذلك إلا أن يكون مما يفسد- أي: المحمول- بسقوط الدابة كالزجاج والدهن ونحوه كالفخار؛ فيحتاج إلى تعيينها ووصفها لتعلق الأغراض بذلك. ثم انتقل المصنف إلى الوجه الثالث، وهو الحرث فقال:

وَلِلْحِرَاثَةِ بِتَعْرِيفِ صَلابَتِهَا وبُعْدِهَا

الضمير في (صَلابَتِهَا وبُعْدِهَا) عائد على الأرض المفهومة من الكلام. واستغنى المصنف بالضد عن الضد الآخر، وتقدير كلامه: بتعريف صلابة الأرض ورخوها وقرب الأرض وبعدها.

ودل قوله (وبُعْدِهَا) على جواز الكراء في أرض غائبة على الصفة كالبيع، وقد نص عليه في المدونة في الدار ولا فرق.

تنبيه:

لم يتكلم المصنف على الوجه الرابع وهو إجارة الدواب للسقي.

قال في الجواهر: ولابد من معرفة قدر الدلاء والعدد وموضع البئر وبعد الرشاء إذا كان مبايناً للمعارف مباينة بينة إلا أن يكون جميع ذلك أو بعضه معلوماً بالعرف فيكتفى به.

ص: 188

وَعَلَى مُكْرِي الدَّابَّةِ الْبَرْذَعَةُ وَشِبْهُهَا والإِعَانَةُ فِي الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ ورَفْعِ الْحِمْلِ، وحَطَّهَا بِالْعُرْفِ ..

(الْبَرْذَعَةُ) - بالذال المعجمة- وشبهها السرج والحزام واللجام ونحو ذلك. ومفهوم قوله: (بِالْعُرْفِ) أنه لو لم يكن عرفاً فإن ذلك على المكتري.

وهكذا نقل ابن عبد السلام عن بعض الشيوخ لكن مفهوم المدونة خلافه، ففيها: ولا بأس أن تكتري من رجال إبلاً على أن عليك رحلتها، وظاهره لولا الشرط لكان ذلك على رب البعير.

وَإِذَا فَنِي الطَّعَامُ الْمَحْمُولُ رُجِعَ فِي بَدَلِهِ إِلَى الْعُرْفِ

يعني: إذا أكرى على حمل وزن معلوم أو كيل من طعام فكان يأكل منه ويعلف فأراد بدل ما نقص وأشكل الحال رجع إلى العرف.

وهكذا قال ابن القاسم في المدونة، وسكت عن الحكم إذا لم يكن عرف.

وقال غيره: فإن لم تكن لهم سنة فلهم حمل الوزن الأول إلى غاية الكراء، وعكس هذا إذا اكترى منه على حمل خمسمائة رطل فحملها وأصابها مطر فزاد وزنها.

قال سحنون: فكأنه ليس هو بعينه، فلا يلزم إلا حمل خمسمائة رطل، فإن نقل منه حتى صار إلى الوزن الأول لزمه وإلا فلا.

ويُوَفِّرُ الْمُسْتَاجِرُ عَلَى الْعُرْفِ كَنَزْعِ الثَّوْبِ لَيْلاً وفِي الْقَائِلَةِ

يعين: وإن كان اللفظ يقتضي خلافه؛ لأن استئجار الثوب شهراً يقتضي بحسب الظاهر استغراق جميع الشهر لكن ترك ذلك للعرف، وكذلك الطيلسان، وينبغي أن يترك لباسه داخل المنزل.

ص: 189

قال ابن عات: قال بعض الشيوخ: الفتوى إذا اكترى دواب على حمل متاع وبالطريق نهر لا يجاز إلا بالمركب وقد عرف ذلك كالنيل فأجرة المتاع على ربه وأجرة الدواب على ربها، وإن كان يخاض بالمخائض فاعترضه حملان لم يعلموا به فحمل المتاع على صاحب الدواب وتلك جائحة نزلت به وكذلك إن كان النهر شتوياً يحمل بالأمطار إلا أن يكون وقت الكراء قد علموا جريه فيكون كالنهر الدائم.

وَلَيْسَ الْخَيْطُ عَلَى الأَجِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ عُرْفُ

أي: بل على رب الثوب إلا أن يكون العرف أن ذلك على الأجير، وهكذا قال ابن شاس، وفي بعض النسخ:(والْخَيْطُ عَلَى الأَجِيرِ) أي: الخياط. والجاري عندنا بمصر أن الخيط من الخياط، ولا يطالب رب الثوب أصلاً إلا أن يكون جرى فإنه تختلف فيه العادة، فقد يطلبه وقد لا يطلبه. نعم إذا أطلق عقد الإجارة حمل على أنه على الخياط.

قال في المدونة: ومن واجرته على بناء دار فالأداة والفؤوس والقفاف والدلاء والماء على ما تعارف الناس أنه عليه، وكذلك حيتان التراب على حافر القبر ونقش الرحا على ربه.

وَالاسْتِرْضَاعُ لا يَسْتَتْبِعُ الْحَضَانَةَ وَلا الْعَكْسَ

نحوه في الجواهر وهو ظاهر، وقوله:(وَلا الْعَكْسَ) أي: والاستئجار على الحضانة لا يستلزم الإرضاع؛ لأن لكل واحد منهما حقيقة مغايرة للآخر، فإن عقد عليهما معاً فانقطع اللبن جرى ذلك على مسائل الاستحقاق فإن كان اللبن وجه الصفقة فسخ الجميع.

وَإِذَا كَانَ بِالدَّارِ وَشِبْهِهَا مَا يَضُرُّ كَالْهَطْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُجْبَرِ الْمَالِكُ، وَخُيِّرَ الْمُسْتَاجِرُ، وَقِيلَ: يُجْبَرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى إِلا بِإِزَالَتِهِ أُجْبِرَ ..

شبه الدار الحانوت والحمام، (مَا يَضُرُّ) مما هو في حيز القليل (كَالْهَطْلِ) بسكون الطاء؛ وهو تتابع المطر قاله الجوهري.

ص: 190

وشبهه: أي كالصدع وضعف الأساس والهدم اليسير، و (لَمْ يُجْبَرِ) أي: المالك على الإصلاح، وهذا قول ابن القاسم، (وَخُيِّرَ الْمُسْتَاجِرُ) بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج.

قوله: (وَقِيلَ: يُجْبَرُ) هذا لغير ابن القاسم في المدونة.

ابن عبد السلام: والعمل عليه في زماننا.

وقوله: (وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى .. إلى آخره) وهو خلاف فرض المسألة؛ لأن الكلام في الهطل وشبهه، لكن المصنف قد تكلم على ما هو أعم من فرض المسألة.

قال صاحب المقدمات: والهدم في الدار على قسمين: يسير وكثير، فاليسير على ثلاثة أوجه؛ الأول: لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من كراء الدار شيئاً كالشرفات ونحوها، فالاتفاق على أن الكراء لازم ولا يحط عن المكتري منه شيء.

الثاني: أن يكون لا مضرة فيه على الساكن، إلا أن ينقص من قيمة كراء الدار فهذا يلزمه السكنى ويحط عنه ما نقص من قيمة الكراء إن لم يصلحه رب الدار ولا يلزمه إصلاحه، فإن سكت وسكن لم يكن له شيء.

الثالث: أن تكون مضرة على الساكن من غير أن يبطل من منافع الدار شيئاً كالهطل وشبهه، فهذا فيه قولان، فذكر القولين على نحو ما قدمناه، وعلى هذا فكلام المصنف خاص بهذا الحكم الثالث؛ لأن الحكم في الأولين على خلاف ما ذكره.

وذكر اللخمي أنه إذا كان ذهاب الشرفات ينقص من جمال الدار، أنه ينقص من الكراء بقدر ذلك.

قال في المقدمات: وإن كان الهدم كثيراً لم يلزم رب الدار إصلاح بإجماع، وهو أيضاً على ثلاثة أوجه:

ص: 191

الأول: أن يعيب السكنى وينقص من قيمة الكراء ولا يبطل شيئاً من المنافع؛ مثل أن تكون الدار مبلطة مجصصة، فيبطل تبليطها وتجصيصها فيكون المكتري بالخيار بين السكنى بجميع الكراء أو يخرج إلا أن يصلح ذلك رب الدار، فإن سكت وسكن لزمه جميع الكراء على مذهب المدونة، بخلاف رواية عيسى، وقد قيل: إن الحكم في هذا الوجه كالبيت ينهدم من الدار وهو بعيد.

والثاني: أن ينهدم بيت من بيوتها، فهذا يلزمه السكنى ويسقط عنه ما ناب المنهدم.

والثالث: أن يبطل أكثر منافع الدار أو منفعة البيت التي هي وجهها ويكشفها بانهدام حائطها، وما أشبه ذلك فهذا يخير المكتري بين السكنى والخروج، فإن أراد أن يسكن على أن يحط من الكراء ما ينوب المنهدم لم يكن له ذلك إلا برضا ربها، فإن رضي بذلك جرى على جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وإن بنى المكري الدار قبل أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء، ولم يكن له أن يخرج، وإن بناها بعد أن خرج لم يكن له الرجوع إليها إلا أن يشاء، وإن سكت وسكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء على مذهب ابن القاسم في المدونة خلاف رواية عيسى عنه في العتبية.

فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أُصْلِحُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَاجِرِ ضَرَرُ بِطْولِ الْمُدَّةِ أَوْ لا يَحْتَمِلُ مِنَ الضَّرَرِ خُيِّرَ أَيْضاً.

فإن طلب رب الدار الإصلاح والتمادي على عقد الكراء وكان على المكتري ضرر في ذلك إما بسبب طول المدة وإما لكثرة ما انهدم كالتكشيف على أهله، فإن ذلك لا يسقط حق المكتري فيما وجب له من الكراء، بل يجر، كما إذا قال المالك: أنا لا أصلح وهو معنى قوله: (خُيِّرَ أَيْضاً).

ص: 192

وَلَوْ فَسَدَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ فَالأُجْرَةُ لازِمَةً

يعني: لو فسد الزرع ببرد أو طير أو جراد أو غير ذلك من الجوائح لزم المكتري جميع الكراء؛ لأنه قد تسلم جميع المنفعة، وذلك بمنزلة ما لو غصبه غاصب.

فَلَوْ كَانَ لِكَثْرَةِ دُودِهَا أَوْ فَارِهَا أَوْ عَطَشِهَا سَقَطَ الْكِرَاءُ

أي: فلو كان فساد الزرع من جهة الأرض إما لكثرة دودها أو فأرها أو عطشها سقط الكراء عن المكتري، وألحقوا العطش بالموانع الأرضية وكذلك الغرق إذا تمادى حتى خرج وقت الزراعة، أما إن حدث بعد إبانها أو انقطع قبل الإبان فالكراء لازم، وفي معنى فساد الزرع بسبب العطش أن يحصل ما لا بال له، واختلف في تحديد هذا القليل، فقيل: خمسة فدادين أو ستة من مائة.

وقيل: قدر الذريعة مرة. وقيل: قدرها مرتين.

وقيل: ينظر إلى الإصابة المتوسطة فما نقص عنها سقط من الكراء بنسبته.

وَلَوْ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَاقٍ، وَالأَمَدُ بَعِيدُ، وَكَانَ رَبُّهُ قَدْ عَلِمَ فَلِرَبِّهَا قَلْعُهُ أَوْ إِبْقَاؤُهُ بِالأَكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ كِرَاءِ الْمِثْلِ ..

القول الذي صدر به لابن حبيب والقول بكراء المثل هو مذهب المدونة على ما فهمه، فنذكر أولاً قول ابن حبيب، ثم نذكر ما في المدونة ليتبين لك ذلك.

ابن حبيب: وإن اكترى أرضاً سنة أو سنتين فنفدت ولم يبق منها إلا شهران أو شهر، وما لا ينتفع به في الزرع فليس للمكتري أن يحدث به زرعاً إلا بكراء مؤتنف ولا يحط عنه لما تقدم شيء ولربها حرثها لنفسه وليس للمكتري منعه؛ لأنه مضار فإ، زرعها المكتري وهو يعلم أن الوجيبة تنقضي قبل تمام الزرع بالأمد البعيد، فربها مخير إن شاء حرث أرضه وأفسد زرعه أو أقره وأخذ بالأكثر من قيمة الكراء أو كراء الوجيبة، وإن كان ظن أن

ص: 193

الزرع ينقضي عند تمام الوجيبة فزاد عليها الأيام والشهر ونحوه، فليس لربها قلعه ولربها [622/ أ] زيادة المدة على حسب كراء الوجيبة، فقول ابن حبيب: أو أقره وأخذ بالأكثر إلى آخره، هو قول المصنف:(بِالأَكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى أَوْ كِرَاءِ الْمِثْلِ) ونص ابن حبيب على أنه لا فرق في هذا بين أرض الزرع والمباقل.

وقال في المدونة: ومن اكترى أرضاً سنة فحصد زرعه قبل تمام السنة، فأما أرض النهر فمحمل السنة فيها الحصاد وينقضي بذلك فيها، وأما ذات السقي التي تكرى على أمد الشهور والسنين فللمكتري العمل إلى تمام السنة، فإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل فليس لرب الأرض قلعه وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء المثل على حساب ما أكراها منه، وهكذا اختصرها البراذعي وابن أبي زمنين.

وطرح سحنون قوله: على حساب ما أكرى، قيل: لأنه تناقض؛ إذ لا يصح كراء المثل على حساب ما أكرى، وإليه ذهب الشيخ أبو محمد، واختصرها فقال: وله فيما بقي كراء المثل على ما أكراه.

ورجح ما قاله الشيخ بأن المسألة وقعت في العتبية من سماع أبي زيد على ما اختصر الشيخ، هكذا في الرواحل في المدونة في التعدي في المسافة.

ورأى ابن لبابة أنه في المدونة ذكر القولين فاختلط ذلك على السامع وظنهما قولاً واحداً.

ودفع عبد الحق وابن يونس ما أشاروا إليه من التناقض على الرواية الأولى وقالا: بل معناها صحيح بأن يقوم كراء الزيادة، فإن قيل: دينار، قيل: وما قيمة السنة كلها، فإن قيل: خمسة، فقد علمت أنه وقع للزيادة مثل خمس كراء السنة فيكون كراء الأول ومثل خمسه.

ص: 194

وعلى هذا فقول المصنف: (وقيل: كِرَاءِ الْمِثْلِ) هو مذهب المدونة على تأويل سحنون والشيخ أبي محمد وغيرهما.

ولعل المصنف ممن ذهب إلى هذا المذهب لرجحانه برواية أبي زيد وبما في الرواحل؛ فلذلك اقتصر عليه، لكن لو أراد هذا لقدم هذا القول على الأول.

قال في المدونة بإثر الكلام السابق: وقال غير ابن القاسم: فإن بقي من السنة بعد حصاده ما لا يتم فيه زرعه فلا ينبغي أن يزرع، فإن فعل فعليه في زيادة المدة الأكثر من كراء المثل؛ إذ كأنه رضي به، أو كراء المثل وهو قول ثالث في المسألة، وقيده ابن يونس بأن لا يكون ربها عالماً به، فإن علم فتركه فله، على حساب الكراء الأول، كما قال الغير في الدابة يكتريها مدة فيتجاوزها.

وَإِنْ كَانَ ظَنَّ تَمَامَهُ فَزَادَ الشَّهْرَ وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ نِسْبَةُ الْمُسَمَّى، وَقِيلَ: كِرَاءُ الْمِثْلِ

(وَإِنْ كَانَ ظَنَّ) تأكيد؛ أي وإن لم يكن متعمداً، بل ظن الزرع يطيب عند انقضاء الأجل.

وَلَوْ زَرَعَ مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ لَهُ فَلِلْمَالِكِ قَلْعُهُ، أَوْ أَخْذُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مَعَ الْكِرَاءِ ..

قد تقدم أنه إذا عين صنفاً جاز أن يزرع مثله أو دونه، وتكلم هنا على ما إذا زرع الأكثر ولا شك أنه متعد فلذلك كان للمالك قلعه أو أخذ ما بين القيمتين مع الكراء الأول، وكيفية التقويم ظاهرة لا تخفى عليك، والقلع مقيد بما إذا كانت مدة الزراعة باقية، وأما إن مضت فليس إلا كراء الزيادة مع الكراء الأول، وهكذا قال صاحب الجواهر وغيره.

ابن عبد السلام: وإنما له التخيير إذا لم يطب الزرع، ولو كان بعد طيبه لم يكن له إلا ما بين القيمتين، وهذا إذا كان بعد الزراعة، وإن كان قبلها فأراد أن يزرع ما ضرره أكثر وأذن له

ص: 195

في ذلك رب الأرض فظاهر المدونة جوازه؛ لأن ذلك يعيب الأرض، فهو حق آدمي يسقط بالإذن.

وتردد بعض القرويين في جوازه؛ لأنه كمن نقل الصانع من صنعة إلى صنعة وكمن أراد أن ينقل الحمل من طريق إلى طريق يخالفها، اختلف إذا استأجر شخصاً في شيء ثم أراد أن يستعمله في غيره فإن كان من جنسه ومثل مشقته جاز وأجرته عليه، وإن كان من غير جنسه ورضيا بذلك فأجازه ابن القاسم في اليسير وابن حبيب في الكثير ومنعه سحنون فيهما.

واختلف أيضاً إذا أكراه ناحية: هل يجوز أن ينقله إلى مثلها؟ فأجازه ابن القاسم في المدونة بالتراضي، ومنعه القرويون ولو تراضيا.

وقال أشهب: للمكتري ذلك إن تساوى الطريقان، وإن لم يرض ربها فيمكن أن يخرج هذا الخلاف في مسألتهما.

وَلَوْ اسْتَاجَرَ لِلْغَرْسِ أَوْ لِلْبِنَاءِ سِنِينَ فَانْقَضَتْ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعاً بَعْدَ إِسْقَاطِ مَا يَغْرَمُ عَلَى الْقَلْعِ وَالإِخْلاءِ ..

يعني: فله أن يأمره بقلع بنائه كما في بناء الغاصب والمعار إذا انقضت مدة الإعارة.

وقيد عبد الحق وغيره هذا بما إذا لم يكن في الشجر ثمر أو كان فيها ثمر غير مأبور وهذا هو الذي له أن يأمره بقلع الزرع.

قال: وإن كان الثمر مأبوراً عند تمام الأمد أجبر رب الأرض على بقائه وعليه قيمة الكراء؛ لأنه إذا تكلف المكتري القلع أضر به في فساد ثمرته عليه. واحترز المصنف بقوله: (لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) مما لو استأجرها للزرع ولم يبد صلاحه، فليس رب الأرض قلعة ولا شراؤه قاله في المدونة، وقال التونسي: الأشبه جواز شرائه للزرع؛ لأنه قابض له بقبضه

ص: 196

الأرض المحتوية عليه، وحديث النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يتناول هذه الصورة؛ لأنه تجاوز من البائع، ومسألتنا الضمان فيها من المبتاع للقبض الذي قلناه.

وقوله: (عَلَى الْقَلْعِ وَالإِخْلاءِ) يعني: إلا أن يتولاه بنفسه أو عبده.

وَلَوْ حَمَلَ عَلَى دَابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا شَرَطَ فَعَطِبَتْ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ خُيِّرَ رَبُّهَا فِي قِيمَةِ كِرَاءِ مَا زَادَهُ مَعَ كِرَائِهِ أَوْ قِيمَتِهَا يَوْمَ التَّعَدِّي، كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمَكَانَ وَإِنْ لَمْ تَعْطَبْ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ فَلَهُ كِرَاءُ مَا زَادَهُ كَمَا لَوْ لَمْ [622/ ب] تَعْطَبْ ..

لزيادة المكتري صورتان؛ إحداهما: أن يزيد في الحمل، الثانية: أن يزيد في المسافة.

وتكلم المصنف عليهما فذكر أنه إذا زاد في الحمل؛ فإما أن يزيد زيادة تعطب بمثلها، أم لا، ولا فرق في الأول بين أن يزيد في الوزن أو فيتفاوت الضرر كما لو حمل مكان حنطة قنطار رصاص.

فقال المصنف: (إِذَا عَطِبَتْ) أي: هلكت (خُيِّرَ رَبُّهَا) في أخذ كراء ما زاد على الكراء الأول او أخذ (قِيمَتِهَا).

قال في المدونة: ولا كراء له.

ابن يونس: يريد إذا زاد ذلك في أول الحمل. يعني: وأما إن زاد بعد أن صار نصف المسافة، فله نصف الكراء الأول وقيمتها يوم التعدي.

وقول المصنف: (يَوْمَ التَّعَدِّي) يشمل الصورتين.

قوله: (كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الْمَكَانَ) أي: فعطبت، والتشبيه في مطلق التجاوز؛ إذ لا فرق هنا- أعني: إذا عطبت- بين أن يزيد في المسافة ما تعطب الدابة في مثلها أم لا، ولهذا قال:(وَإِنْ لَمْ تَعْطَبْ) أي: بمثل هذا التجاوز.

ص: 197

قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) أي: المشهور الفرق بين الزيادة في المسافة والقدر، وأنه لا يفصل في الزيادة في المسافة.

(وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ) أي: وعلى المشهور، وأشار بالعمل إلى ما عليه الفقهاء السبعة من تضمينه في زيادة المسافة ولم يفصلوا.

ونقل ابن يونس عن بعض القرويين أنه يضمن في زيادة الحمل إذا عطبت، وإن كانت لا تعطلب بمثلها كزيادة المسافة، وهذا هو الشاذ في كلام المصنف.

ابن عبد السلام: وقال المؤلف: إنه يضمن بالزيادة في المسافة عطبت الدابة أو لم تعطب وذكر أنه المشهور وعليه العمل. انتهى.

وما ذكره المصنف من الضمان بالزيادة في المسافة هو كما ذكرناه إذا عطبت، أما إن لم تعطف فقال ابن القاسم في المدونة: إذا ردها بحالها بعد زيادة الميل أو الأميال أو بعد حبسها اليوم ونحوه لمالك في الواضحة: وأياماً يسيرة، لم يضمن إلا كراء الزيادة.

ابن القاسم: وأما إن كثرت الزيادة أو حبسها أياماً أو شهراً.

ابن حبيب: وأياماً كثيرة كالشهر ونحوه وردها بحالها، فلربها كراؤها الأول، والخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي أو كرائها فيما حبسها فيه من عمل، أو حبسها أياماً بغير عمل ما بلغ ذلك، وإن لم تتغير.

وقال غيره: إن كان ربها حاضراً معه فإنما له فيما حبسها بحساب الكراء الأول، وكأنه رضي به؛ لأنه قادر على أخذها، وتمادى المكتري منه بالمسمى، وإن كان غائباص عنه ورد الدابة بحالها فله في الزيادة الأكثر من قيمة كراء الزيادة ونسبة كراء الأول، عمل عليها شيئاً أم لا، وإن شاء فله الزيادة يوم حبسها، والكراء الأول لازم في كل حال.

وبما قررناه- أعني: حمل كلامه في زيادة المسافة على ما إذا عطبت- يندفع قول ابن عبد السلام، وما ذكره صحيح لكن بشرط أن تكون تلك الزيادة كثيرة أو طال زمان

ص: 198

حبسها وانضم إلى ذلك تغيير سوق وشبهه. ثم استشهد بما في المدونة؛ لأنه يقول: إنما اشترط هذا في المدونة إذا سلمت، ولم يتكلم عليه المصنف.

وقوله في المدونة: "أياماً" يحتمل أن يكون قول ابن حبيب تفسيراً لما قال في كتاب الزكاة: يترك للمفلس كسوته الأيام، وفسرت بشهر، ويحمتل أن يكون خلافاً.

فإن قيل: لا يصح الأول؛ لأنه يلزم منه التكررا؛ لأنه حينئذ يصير التقدير: أو حبسها مثل شهر أو شهر.

قيل: لأنه يؤخذ من قوله: "مثل شهر" أن تكون التسعة والعشرون ونحوها مقتضية للتخيير بخلاف الشهر.

قوله: (وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ) اسم كان عائد على الحمل الزائد.

وقوله: (مِمَّا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ) أي: فعطبت فله كراء الزيادة، وليس له أن يضمنه قيمة الدابة.

وقوله: (كَمَا لَوْ لَمْ تَعْطَبْ) فليس له إلا كراء الزيادة وإن حمل عليها ما تعطب بمثله.

تنبيهات:

الأول: مقتضى كلام المصنف أن الدابة إذا عطبت في زيادة المسافة يضمن مطلقاً، وهو قول نقله ابن المواز: أنه يضمن ولو بزيادة خطوة.

أبو الحسن: وهو خلاف المدونة؛ لأن فيها: يضمن في الميل ونحوه. وأما مثل ما يعدل الناس إليه في الراحلة فلا ضمان. ومثله في كتاب الغصب فيمن استعار دابة.

خليل: وقد يقال: ليس هو خلافاً؛ لأن هذا لما كان الناس يعدلون إليه لم تبق زيادة.

الثاني: قد أشار المصنف إلى الفرق بين الزيادة في الحمل والمسافة في العمل.

ص: 199

وفرق ابن يونس وغيره بينهما بأن مجاوزة المسافة تعد كله، فلذلك يضمن إذا عطبت في قليله وكثيره، بخلاف زيادة الحمل، فإنه اجتمع فيه تعد ومأذون فيه، وفيه نظر؛ لأن الدابة إنما هلكت بمجموع التعب الحاصل بسبب التصرف المأذون فيه السابق مع عدم المأذون فيه.

الثالث: اللخمي وابن يونس: صفة كراء الزيادة في الحمل إذا وجبت لربها أو اختارها أن يقال: كم يساوي كراء هذه الدابة المحملة حسبما تعدى؟ فيكون ذلك لربها مع الكراء الأول.

ابن يونس: قال بعض الأصحاب: يكون له الكراء الأول وفضل الضرر كمن أكراها لحمل معين فحمل أضر منه وأثقل، فإنه يكون له فضل الضرر، وفيه نظر؛ لأن الذي زاد في الحمل حمل ما أذن له فيه وزاد عليه، فإنما عليه كراء الزيادة مع الكراء الأول، والذي حمل غير ما اكتراها له كمن ركبها في غير الطريق الذي أذن له فيه فهذا له فضل الضرر. والله أعلم.

خليل: والكراء على الوجه الأول أكثر منه على الوجه الثاني؛ لأنه في الأول بقدر ذكر الزيادة والدابة محملة بخلاف الثاني، والله أعلم.

الرابع: إذا تعدى في المسافة أو في الحمل، ثم هلكت بعد رجوعه من المكان الزائد وبعد أن زال عنها ما زاده في الحمل. قال سحنون: لا ضمان عليه، كرده ما تسلف من الوديعة، وعليه كراء الزيادة.

وقال ابن الماجشون وأصبغ: إن كانت الزيادة يسيرة فيها فكذلك، وإن زاد كثيراً فهو ضامن.

ابن يونس: وهو أحسن وبه أقول؛ لأن الزيادة اليسيرة يعلم أنها لا تعين [623/ أ] على هلاكها بخلاف الكثيرة، فإنها التي أعانت على هلاكها، والله أعلم.

ص: 200

وَتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَاجَرَةِ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ وَيُحْسَبُ مَا مَضَى ..

لما فرغ من الأحكام المتعلقة بالإجارة شرع في الطوارئ عليها، وهذا كما يقولون: كل عين تستوفي منها المنفعة فهلاكها يفسخ الإجارة.

واحترز بـ (الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ) من المضمونة، ولم يذكر المصنف التعيين في الدار؛ لأن كراء الدور لا يكون إلا معيناً كما تقدم.

(وَيُحْسَبُ مَا مَضَى) أي: فيكون لرب الدار والدابة بحسابه على حسب القيمة.

وَلَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ أَوْ عَفَا مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ انْفَسَخَتْ

هذه المسألة وقعت في بعض النسخ، ومعناها: أن من استؤجر على أن يقلع لرجل سناً أو استؤجر على أن يستوفي القصاص من رجل آخر، فسكن ألم السن أو عفا من له القصاص، فالإجارة تنفسخ، والمعنى فيهما واحد.

وَأَمَّا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلْزَمُ تَعْيينُهُ كَالرَّضِيعِ وَالْمُتَعَلَّمِ فَكَذَلِكَ، وَإِلا لَمْ تَنْفَسِخْ عَلَى الأَصَحِّ كَثَوْبِ الْخِيَاطَةِ ..

القاعدة هنا أن كل عين تستوفي بها المنفعة، فهلاكها لا يفسخ الإجارة على المشهور، إلا في أربع مسائل؛ وهي صبيان، وفرسان: صبياً للتعليم والرضاعة، وفرساً للنزو والرياضة.

وذكر المازري أن أهل المذهب ألحقوا خامسة، وهي إذا استأجر على أن يحصد أرضه وليس له غيرها، أو يبني له حائطاً كذلك، ثم حل مانع من ذلك.

قال: وزاد الشيخ أيضاً الخياط والحائط إذا دفع إليه ثوباً ليعمله، وكان للباس لا للتجارة وليس عنده غيره، وكذلك أيضاً تنفسخ في المسألتين السابقتين.

ص: 201

وألحق الباجي بها الطبيب يؤاجر على معاناة العليل مدة فيموت قبلها، والحق أيضاً بعضهم بها ما إذا استؤجر على الجواهر النفيسة ليصنع بها شيئاً ثم هلكت، والعلة فيها كلها تعذر الخلف غالباً.

وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) نحوه في الجواهر قال: ولو هلك الثوب المستأجر على خياطته، كان له أن يبدله بغيره على الظاهر من المذهب، قال عبد الوهاب: والظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين بالإجارة، وأنه إن عين فذلك بالوصف.

وفي المقدمات: والمشهور انفساخ الإجارة إذا تلف ثوب الخياطة، ولعل مراده إذا كان اللباس كما تقدم.

وَلَوْ اسْتَاجَرَ دَابَّةً إِلَى مَكَانٍ، وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ حَاجَتَهُ دُونَهَا حَاسَبَهُ جَازَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ كَالْخِيَارِ ..

هكذا قال مالك في العتبية والموازية بشرط أن لا ينقد؛ لأنه إن نقد يؤدي إلى أنه تارة ثمناً وتارة سلفاً.

وهو مثل ما في المدونة في الذي يستأجر الرجل شهراً على أن يبيع له ثوباً، على أن المستأجر متى شاء أن يترك ترك: أن ذلك جائز إذا لم ينقد، ومنعها سحنون للجهل في الكراء والإجارة.

قال في البيان: والجواز هو الأظهر؛ لأنه بمنزلة ما لو قال: أبيعك من صبرتي ما شئت، كل قفيز بدرهم.

ووافق سحنون على الجواز في كراء الدار سنة، على أنه إن خرج قبلها حاسبه.

وقال فضل: إنما منع سحنون مسألة المدونة؛ لأنه كراء بخيار إلى أمد بعيد.

ص: 202

قال: وليس كما قال: لأن الخيار إنما هو الآن، وكلما مضى من الشهر شيء كان الخيار فيما بقي، وليس كالسلعة التي يشتريها على أنه بالخيار فيها مدة طويلة؛ لأنه يحتاج في توفيتها إلى انقضاء أمد الخيار، فلذلك لا يجوز، وليس ذلك في الإجارة والكراء، إلا أن يكتري الدابة على أن يكريها بعد شهر، أو يستأجر الأجير على أن يخدمه بعد شهر، على أنه بالخيار في الإجارة والكراء.

وقوله: (إِلَى مَكَانٍ) فيه حذف صفة؛ أي: معين.

وَتَنْفَسِخُ بِغَصْبِ الدَّارِ وَغَصْبِ مَنْفَعَتِهَا أَوْ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ بِإِغْلاقِ الْحَوَانِيتِ.

الثاني: من الطوارئ الموجبة للفسخ: غصب الدار أو غصب منفعتها، أو بأمر السلطان بإغلاق الحوانيت. ووجهه أن المكتري منع من استيفاء المنفعة، فوجب الفسخ كالنكاح، وكما لو انهدمت الدار، وما ذكره المصنف هو المشهور.

ونقل ابن حارث عن سحنون: أن المصيبة من المكتري، وهو بعيد. ولا يقال: يجري على أن قبض الأوائل كقبض الأواخر لانتقاضه بإجماعهم على الفسخ بالهدم.

ولابن حارث ثالث بالفرق: إن غصبت رقبة الدار فمن المكري، وإن غصبت السكنى فمن المكتري، وهو أيضاً بعيد، وينبغي أن يكون هذا الخلاف مقصوراً على ما إذا غصبت المنفعة أو الرقبة بعد قبض المكتري إياها. وأما لو كان ذلك قبل القبض، فتكون المصيبة من المكري؛ لأن المكتري لم يتمكن من القبض.

تنبيه:

وقع لابن القاسم وعبد الملك في المجموعة: إن اغتصبها منه رجل فالكراء على المكتري، إلا أن يكون سلطان ليس فوقه سلطان لا يمنع منه إلا الله تعالى، وعده في البيان وفاقاً لقدرة المكتري على دفع من دونه.

ص: 203

وَلا تَنْفَسِخُ بإِقْرَارِ الْمَالِكِ

يعني: أن الإجارة بعد انعقادها لا تنفسخ بإقرار المكري لأجنبي في الرقبة أنه باعها له، مثله: إذا أنكر ذلك المكتري ولا بينة؛ لأنها على قصد الكراء، وسماه المصنف مالكاً باعتبار الحكم؛ لكي يقبل إقراره على نفسه، ثم لا يخلو إما أن يكون إقراره بفور الكراء أو لا، فإن أقر بفور الكراء فالمقر له بالبيع يخير بين [623/ب] أربعة أشياء: الفسخ إن كان الثمن أكثر من القيمة، أو أخذ القيمة إن كانت أكثر؛ لأنه حال بينه وبين قبض المبيع، أو أخذ ما أكريت به، أو قيمة الكراء إن كانت أكثر. وإن أقر بذلك بعد انقضاء المدة لم يكن للمشتري مقال في رده البيع، وكان له الأكثر من كراء المثل أو المسمى، هكذا ذكر اللخمي في كراء الرواحل.

وَلَوْ حَبَسَ الثَّوْبَ أَوِ الدَّابَّةَ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ ثَبَتَتِ الأُجْرَةُ إِذِ التَّمْكِينُ كَالاسْتِيفَاءِ

أي: التمكين من الانتفاع كاستيفائها.

فَلَوْ زَادَ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِراً فَنِسْبَةُ الْمُسَمَّى وَإِلا فَالأَكْثَرُ

يعني: فلو زاد المكتري على مدة الكراء، فاختلف فيما يلزم المكتري على ثلاثة أقوال:

الأول: نسبة المسمى، حضر المالك أو غاب.

الثاني: عليه الأكثر من نسبة المسمى وكراء المثل، وهذا القول حكاه ابن المواز هكذا.

والثالث: إن كان المالك حاضراً معه بالمصر، فيكون له كراؤها في هذه المدة بحسب الكراء الأول، ويعد راضياً به لما كان قادراً على أخذها وتركها، وإن لم يكن حاضراً فعليه الأكثر، وهذا لغير ابن القاسم في المدونة.

ولم يذكر المصنف مذهب ابن القاسم فيها أن عليه كراء المثل مطلقاً.

ص: 204

فإن قلت: هلَاّ جعلت هذا هو القول الثاني في كلام المصنف كما قال ابن عبد السلام؟

قيل: لأن ذلك يخالف اصطلاحه؛ إذ قاعدته أنه يجعل عجز القول الثالث هو القول الثاني.

وَفِي إِسْقَاطِ بَعْضِهِ بِتَقْدِيرِ الاسْتِعْمَالِ قَوْلانِ

أي: بعض الأجر. وفي بعض النسخ (نَقْصِهِ) أي: نقص الاستعمال.

ومعنى كلامه: أنه إذا لم يستعمل الثوب أو الدابة في الزائد على المدة المعينة، فاختلف في إسقاط بعض الكراء على تقدير الاستعمال على قولين: مذهب ابن القاسم في المدونة: السقوط، واختلف عليه في كيفية التقويم، فقيل: يقال: كم كراء مثل هذا الثوب شهراً ملبوساً؟ فيقال مثلاً: عشرة. فيقال: وكم ينقصه اللبس؟ فيقال مثلاً: خمسة. فيقال: على الذي حبسه خمسة؛ لأنه كأنه استأجره بعشرة رد عليه في الثوب منها خمسة.

ابن يونس: وفيه نظر؛ إذ قد ينقصه اللبس والركوب في مدة حبسه قدر كرائه، فيؤدي إلى أن لا يغرم شيئاً وهو قد حبس تلك المنافع، وإنما يقال: بكم يكرى هذا الثوب على أن لا يلبس، وهذه الدابة على أن لا تركب؟ فما قيل يساوي كراؤه، وجب عليه غرمه.

وللخمي نحو ما اختار ابن يونس، والقول بعدم الإسقاط لعدم الاستعمال هو ظاهر قول غير ابن القاسم في أكرية الرواحل، أن عليه العمل من كراء المثل ونسبة المسمى، عمل عليها شيئاً أم لا.

وَلَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَحَبَسَهَا فَكَذَلِك وَالْكِرَاءُ الأَوَّلُ بَاقٍ

ولو كانت مدة الإجارة غير معينة، بل اكترى دابة على أن يذهب عليها إلى موضع كذا أو يحمل عليها شيئاً ولم يذكر أياماً بأعيانها، فحبسها المكتري عنده ولم يخرج بها، لزمه في مدة حبسها ما ذكره المصنف فوق هذا على القولين، والكراء الأول باقٍ.

ص: 205

فإن قلت: فقد قال المصنف أولاً، وإذا لم يعين ابتداء المدة حمل من حين العقد، فينبغي أن ينفسخ في غير المعين كالمعين.

قيل: لعل قوله: "من حين العقد" محمول على الحكم؛ أي: لو رفعه إلى الحاكم فحكم عليه بأخذها والانتفاع بها حتى لو ترك حينئذٍ لزمه الكراء ويصير كالمعين.

ولعله في هذه المسألة لم يرفعه، هكذا ظهر لي، فتأمله.

وَلَوْ أَخْلَفَهُ رَبُّ الدَّابَّةِ لَمْ تَنْفَسِخْ وَلَوْ فَاتَ مَا كَانَ يَرُومُهُ إِلا إِنْ كَانَ اكْتَرَى يَوْماً بِعَيْنِهِ، بِخِلافِ الْحَجِّ لأَنَّ الأَيَّامَ فِي الْحَجِّ مُتَعَيِّنَةٌ

(لَمْ تَنْفَسِخْ) هو مذهب المدونة ففيها: قال مالك: في الدابة بعينها يكريها ليركبها إلى غد فيغيب ربها، ثم يأتي بعد اليومين والثلاثة، فليس له إلا ركوبها.

(وَلَوْ فَاتَ مَا كَانَ يَرُومُهُ) أي: يقصده من تشييع شخص أو تلقي رجل أو نحو ذلك.

وعلل ابن المواز ذلك بأنه كاشتراء سلعة بعينها يدفعها من الغد أو مضمونة، فمطله بذلك حتى فاته ما يريد فلا حجة له، وإنما له السلعة. وقاله مالك في الأضاحي: إذا أسلم فيها فيؤتى بها بعد أيام النحر، أنها تلزمه.

قوله: (إِلا إِنْ كَانَ اكْتَرَى يَوْماً بِعَيْنِهِ) يعني: فأخلفه المكتري، فإنه يفسخ.

ابن المواز: ولا يجوز فيه ولا في الحج التمادي، وإن رضيا.

وقوله: (بِخِلافِ الْحَجِّ) راجع إلى قوله: (لَمْ تَنْفَسِخْ).

قوله: (لأَنَّ الأَيَّامَ فِي الْحَجِّ مُتَعَيِّنَةٌ) هو تعليل ابن المواز.

اللخمي: وإذا تغيبت الجمال يوم خروجك إلى الحج فالكراء منفسخ.

وقال في الموازية: لا ينفسخ.

ص: 206

وقال غيره: في غير الحج ينفسخ، قال: والفسخ في كلا الموضعين؛ فإنه لا يختلف أنه لو رفعه إلى الحاكم لفسخه عنه لما عليه من الضرر في الصبر.

وَلَوْ آجَرَ مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ وَمَاتَ قَبْلَ مُدَّتِهَا فَفِي انْفِسَاخِها قَوْلانِ

إذا أكرى مستحق الوقف بالنقد لم يجز إلا السنة والسنتين، ويجوز له أن يكري لما شاء من السنين وإن طالت المدة إذا كان الكراء منجماً، فكلما حل نجم أخذ كراءه وقدم له كراء نجم آخر، فإن مات قبل انقضاء [624/أ] المدة، فقال ابن شاس: إذا مات البطن الأول من أرباب الوقف بعد الإجارة وقبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة في باقي المدة؛ لأنه تناول بالإجارة ما لا حق له فيه. وقيل: إذا أكرى مدة يجوز الكراء إليها لزمه باقيه.

ابن راشد وغيره: والأول أصح.

و (مُسْتَحِقُّ الْوَقْفِ) هو المحبس عليه.

وَلَوْ آجَرَ الْوَلِيُّ الصَّبِيَّ مُدَّةً فَبَلَغَ قَبْلَهَا انْفَسَخَتْ فِي الْبَاقِي

الولي يعم الأب والوصي والمقدم.

(فَبَلَغَ قَبْلَهَا) أي: قبل انقضائها، على حذف مضاف.

(انْفَسَخَتْ) الإجارة (فِي الْبَاقِي) أي: في باقي المدة. وهكذا قال في المدونة، وظاهره أن بنفس البلوغ يخرج من الحجر.

عياض: ولا يختلف أن هذا لا يكون في الوصي، ولا في الأب على المعروف كما تقدم، ولهذا قيد ابن القاسم ويحيى بن عمر المسألة بأن يبلغ رشيداً.

إِلا أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ لا يَبْلُغُ فِيهَا فَيَلْزَمُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي يَسِيراً كَالشَّهْرِ

يعني: أنها لا تنفسخ إلا باجتماع شرطين: أن يظن أن الصبي لا يبلغ قبلها، وأن يبقى من المدة يسير.

ص: 207

قال في المدونة: كالشهر ويسير الأيام.

تنبيه:

أخذ من هذه المسألة جواز مؤاجرة الأب والوصي لليتيم.

عياض: وهو المشهور في الأب والمتفق عليه في الوصي.

وفي المتيطية في باب النفقة: للأب أن يؤاجر الصغير للنفقة عليه، كان الأب غنياً أو فقيراً، وبه قال غير واحد من الموثقين.

وقال بعض الفقهاء: إذا كان الأب أو الابن غنياً، لم يجز أن يؤاجره، ونحوه لمالك في الموازية: ويسلَّم لتعليم القرآن أو تجارة ونحوها مما يليق به. وهل للأب أن ينتفع بفاضل خراجه عن نفقته؟

منعه غير واحد من الموثقين، وأجازه أصبغ في الثمانية، ونحوه لابن لبابة في أحكام ابن بطال.

فَلَوْ كَانَ رَبْعَهُ وَدَوَابَّهُ فَقِيلَ: مِثْلُهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُ وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي كَثِيراً

القولان في المدونة؛ الأول لغير ابن القاسم، والثاني لابن القاسم.

ونصها: وإن أكرى ربعه ودوابه ورقيقه سنين واحتلم بعد مضي سنة، فإن كان يظن أن مثله لا يحتلم في تلك المدة فحصل الاحتلام وأُنس منه الرشد- فلا فسخ له، ويلزمه باقيها؛ لأن الوصي صنع ما يجوز، وقال غيره: لا يلزمه إلا فيما قل.

قال ابن القاسم: وإن عقد عليه إجارة يعلم أنه يبلغ قبله، لم يلزمه في نفسه إلا فيما يملك من ربع أو غيره، وكذلك الأب. والفرق على قول ابن القاسم بين ربعه ونفسه شدة الضرر في النفس.

ص: 208

ابن عبد السلام: واختار بعضهم قول ابن القاسم، إلا أنه قيده بشرط أن لا يكون الوصي فعل ذلك من أجل حاجته إلى الإنفاق عليه في زمان إن لم يفعل باع تلك الأرض والدار، فيلزم حينئذٍ ولو طالت المدة.

وَرَبْعُ السَّفِيهِ الْبَالِغِ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً يَمْضِي وَإِنْ رَشَدَ، وَقِيلَ فِي السَّنَةِ وَنَحْوِهَا فَقَطْ

أي: وفي إجارة ربع السفيه.

وقوله: (وَإِنْ رَشَدَ) أي: قبل انقضائها، وهذا قول ابن القاسم في المدونة، قال: لأن الوصي عقد ما يجوز له، ولأنَّ الرشد لا تعلم له غاية.

وقوله: (وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ) أي: أنه لا يمضي إلا في السنة، وهو قول غيره فيها، قال: لأنه جل كراء الناس.

وَلا تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِعِتْقِ الْعَبْدِ، وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ عَبْدٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ، وَأُجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ الْمُدَّةِ

يعني: لو آجر عبده سنة، وفي معنى ذلك إذا أخدمه سنة ثم أعتقه قبل السنة، لم تنفسخ الإجارة بسبب عتق العبد لتعلق حق المستأجر والمخدم.

وقوله: (وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ عَبْدٍ) يريد: في شهادته والقصاص منه وله، ولا يريد أنه يساوي العبيد في جميع أحكامهم. ألا ترى أنه لا يجوز للسيد وطؤها إن كانت أمة؟

وقوله: (حَتَّى تَنْقَضِيَ) أي: الإجارة، قال في العتق الثاني من المدونة: إلا أن يترك المستأجر أو المخدم للعبد بقية الخدمة، فيعجل عتقه.

اللخمي: وقيل في هذا الأصل: لا يعجل عتقه؛ لأن للسيد حقاً في الجناية عليه قبل السنة.

خليل: وهذا إنما يأتي إذا أراد السيد أنه حر بعد السنة، وأما إن أراد أنه ينجز عتقه، فإن الظاهر أن أرش الجناية للعبد والله أعلم.

ص: 209

قوله: (وَأُجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ

إلى آخره) فقال أشهب: ويحلف على ذلك، فإن نكل كانت الأجرة للعبد.

وَلا تَنْفَسِخُ بِفِسْقِ الْمُسْتَاجِرِ كَشُرْبِهِ وَسَرِقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُفَّ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَبَيْعِهَا لَوْ كَانَتْ مِلْكاً

أي: لا تنفسخ الإجارة بفسق المستأجر.

اللخمي: وأرى أن يخرج إن لم يتيسر كراؤها من يومه أو نحوه، وتخلى حتى يأتي من يكتريها، فإن لم يأتِ مكترٍ حتى خرج الشهر لزمه كراؤها.

وقوله: (كَبَيْعِهَا لَوْ كَانَتْ مِلْكاً) وهو لمالك في الواضحة: أن الفاسق إذا أعلن بفسقه في داره أنه يعاقب على ذلك وإن لم ينته باع الإمام عليه.

اللخمي: وأرى أن يبدأ بعقوبته فإن انزجر وإلا أكريت عليه، وإن لم ينته وكان يؤذي الجيران ويقول: آتي لداري ونحوه، بيعت عليه.

وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمَالِكِ مِنَ الْمُسْتَاجِرِ

يعني: أنه يجوز للمالك أن يستأجر من المستأجر ما كان استأجره منه من ربع أو حيوان، وعلى هذا فـ (اسْتِئْجَارُ) مصدر مضاف إلى الفاعل.

وَيَقُومُ الْوَارِثَانِ مَقَامَ الْمُسْتَاجِرَيْنَ

يعني أن الإجارة لا تنفسخ بموت المالك ولا المستأجر، بل يقوم ورثة كل واحد منهما مقامه؛ [624/ب] لأن من مات عن حق فلورثته.

ابن عبد السلام: وجمع المصنف في تثنية المستأجرين اسم الفاعل واسم المفعول وهو غير جائز؛ إذ ليس ذلك ضم اسم إلى مثله.

ص: 210

ورد بأن كل واحد منهما مستأجر في المعنى؛ لأن الاستئجار طلب الأجر وكل منهما طالب له.

وَإِذَا عَطِبَتِ السُّفُنُ أَوْ عَرَضَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْبَلاغِ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ عَلَى الْبَلاغِ وَلا شَيْءَ لِرَبِّهَا وَلَوْ غَرِقَتْ بِالسَّاحِلِ. ابْنُ نَافِعٍ: حُكْمُهَا حُكْمُ الْبَرِّ مَا سَارَتْ فَلِرَبِّهَا بَحِسَابِهِ، وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنْ أَدْرَك مَامَناً يُمْكِنُ السَّفَرُ مِنْهُ وَحَاذّاهُ فَكَالْبَرِّ، وَإِلا فَعَلَى الْبَلاغِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جِعَالَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ أَوْ تَنْقَسِمُ ....

كلام المصنف في هذه المسألة ظاهر التصور؛ لأنه عزى الأقوال ووجهها؛ يعني أن قول مالك مبني على أنها جعالة فلا يستحق الجعل إلا بتمام العمل كغيره من صور الجعل.

وقول ابن نافع على أنها إجارة فيأخذ بحسابِ ما صار كالدَّوَاب.

وروى أَصْبغُ أنها إجارة إن أدرك مأمناً يمكن السفر منه وجعالة إن لم يمكن.

واستشكل بناء المصنف الأول على الجعالة؛ لأن الجعالة لا تلزم بالعقد وكراء السفن يلزم بالعقد عند مالك وابن القاسم، فأولى أن ينبني على أنها إجارة على البلاغ كما في المدونة، وقول مالك مقيد بقيدين:

أولهما: أن لا ينتفع بحمالته، وقد نقل سحنون عن ابن القاسم في من اكترى سفينة من الإسكندرية إلى الفسطاط فغرقت في الطريق، واستخرج نصف القمح وجعله في غيرها، أنَّ لرب السفينة الأولى كراء ما يخرج من القمح بقدر ما انتفع به ببلوغه إلى الموضع الذي غرقت فيه، وقاله سحنون في كتاب ابنه وشبهها بمسألة حفر البئر يحفر بعضها ثم يترك وتكمل فإنه يعطى الأول بقدر ما انتفع به رب البئر.

القيد الثاني: قيد يحيى بن عمر قوله: (وَغَرِقَتْ بِالسَّاحِلِ) بما إذا لم يكن من أرباب المتاع تفريط في نقل المتاع، وأما إن فرطوا لزمهم الكراء، وكذلك لو أخذوا في التفريغ فركبهم الهول ومنعهم منه حتى غرقت لكان الكراء على من سلم متاعه دون من لم يسلم.

ص: 211

وقوله: (عَرَضَ) بفتح الراء. الجوهري: ومعناه ظاهر؛ أي: من ريح أو قلة ماء أو نحو ذلك وفي المسألة قول رابع: إن كان سيرهم عرضاً فهو البلاغ، وإن كان طولاً فلهم بحساب ما ساروا.

وَإِذَا خِيِفَ عَلَى الْمَرْكَبِ الْغَرَقُ جَازَ طَرْحُ مَا يُرْجَى بِهِ نَجَاتُهَا غَيْرَ الآدَمِيِّ بِإذْنِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَيَبْدَأُ بِمَا ثَقُلَ جِسْمُهُ وَعَظُمَ جِرْمُهُ

(الْمَرْكَبِ) بفتح الميم والكاف ومراده بالجواز الوجوب؛ لأن حفظ النفوس واجب، وعبر المصنف بعبارة الأكثرين هنا؛ وذلك أن إتلاف المال لغير فائدة حرام والجواز هو المقابل للتحريم، فإن أرادوا رفع التحريم رفعوه بالجواز.

قوله: (مَا يُرْجَى بِهِ نَجَاتُهَا) أي من حيوان بهيمي وعرض، ولما كان الطرح واجباً لإحياء نفوسهم لم يحتج إلى إذن المالك.

وقوله: (غَيْرَ الآدَمِيِّ) قد تقدم في باب الجهاد أن اللخمي انفرد بجواز الطرح بالقرعة ويبدأ بما ثقل جسمه وعظم جرمه، وإن لم يثقل كأعدال القطن ونحوه، ويبدأ بهذا؛ لأنه المحتاج إلى طرحه، ولأنه بطرح ذلك يسلم ما هو أرفع.

وَيُوَزَّعُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ مِمَّا يُطْرَحُ أَوْ مِمَّا لَا يُطْرَحُ عَبِيداً أَوْ نَاضَّاً أَوْ جَوْهَراً

أي: يوزع المطروح فيكون من رمي له شريكاً بما يحاسب له في السالم في النماء والنقص.

ابن القاسم: حتى يكون ما يطرح وما يسلم كأنه لجميعهم.

ابن زيد: فإن كانت قيمة ما رمي كقيمة ما سلم، فلمن رمي متاعه نصف السالم، وإن كانت قيمته نصف قيمة السالم فله ثلث السالم، ولا شركة بين من لم يرم لهم بعضهم على بعض.

ص: 212

وقوله: (عَبِيداً أَوْ نَاضَّاً أَوْ جَوْهَراً) يعني: يوزع على جميع مال التجارة وإن كان ذلك المال لا يطرح وهو العبيد أو قليل الجرم، وهكذا قال ابن حبيب إن كان معه دراهم أو دنانير يريد بها التجارة فهي داخلة في الشركة.

وقال ابن عبد الحكم وابن أبي زمنين: من كان معه عين فلا يلزمه شيء من قيمة ما طرح.

وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَرْكَبَ وَعَبِيدَهُ لا يَدْخُلُ

هكذا قال ابن عبد الحكم: أجمع أصحابنا على أن المركب وعبيده لا يدخل في شيء من حكم الطرح، وقوله:(وَالْمَذْهَبُ) إما تبرِّياً منه، إذ بالطرح سلم الجميع، وإما إشارة إلى الخلاف، ويكون بمنزلة قوله: المنصوص، فابن حبيب نقل عن سحنون أن المركب يدخل فأحرى عبيده.

وسئل ابن أبي زيد عن مركب كان مرسىً بالمهدية فأخذه هول فنقر بقاعه قاع البحر، فخيف عليه أن يهلك فرمى منه التجار بعض ما فيه ليخف ولا يصل إلى قاع البحر فذهب الهول وخلص المركب، فأراد أصحاب المتاع أن يدخلوا المركب في قيمة ما طرح وأبى صاحب المركب، فقال: إذا رمي خوفاً على المركب دخل في القيمة.

وَمَا لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَالْعَدَمِ طُرِح أَوْ لَمْ يُطْرَحْ

يعني إن طرح فلا شيء لصاحبه، وإن لم يطرح فلا شيء على ربه، ونقل على ذلك الاتفاق.

ابن عبد السلام: ولا يبعد تخريج الخلاف من الخلاف الذي في المركب وعبيده.

وهو قول أهل العراق وهو الذي مال إليه ابن يونس وقال: إنه القياس؛ إنه لا فرق بين عروض التجارة وعروض القنية في التوزيع.

ص: 213

وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْرُوحِ [625/أ] مَتَاعُهُ فِي مَا يُشْبِهُ

لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته وظاهره أنه يصدق في ثمنه وفي صفته ومقداره، وفي ذلك تفصيل، أما الثمن فقال ابن القاسم: هو مصدق بيمينه في تلف متاعه المطروح والسالم ما لم يأت بما يستنكر ويتبين كذبه فيه.

وقال سحنون: القول قول بغير يمين إذا ظهر صدقه، إلا أن يتهم فيحلف.

وأما الصفة فقال ابن أبيزيد: إذا ادعى صاحب المتاع أن صفته كذا وكذبه الباقون فالقول قولهم مع أيمانهم، فإن جهلوا فالقول قوله مع يمينه.

وأما قدره فإذا ادعى المطروح له الكثير وقال رب المركب: لم يستحق عندي إلا أقل ما ادعى، فقيل: يرجع إلى ما في التنزيل؛ لأن أمر الناس جرى إليه، وما كان داخل المتاع مما يخفى ذكره في التنزيل فالقول قول صاحب المتاع فيه مع يمينه إذا أتى بما يشبه أن يملك مثله.

وخالفه ابن يونس فيما لم يكتبه في التنزيل ورأى أنه مدعٍّ فيه، قال: وقد ظلم نفسه؛ إذ لم يكتبه فيجب أن لا يصدق.

فرع:

فإن زعم رب السفينة أنه رمى بعض ما فيها لهول أصابه وكذبه أصحابه، فقال أبو سعيد ابن أخي هشام: هو مصدق في العروض في قول ابن القاسم، ولا يصدق في الطعام إلا ببينة.

وَفِي صِفَةِ التَّوْزِيعِ أَرْبَعَةٌ: بِقِيمَتِهِ وَقْتَ التَّلَفِ، وَأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ، وَمَكَانِ الْحَمْلِ، وَمَا اشْتُرِيَ بِهِ

القول باعتبار قيمته وقت التلف رواه أشهب؛ أي في موضع طرح فيه في البحر.

ص: 214

والقول باعتبار قيمته في أقرب المواضع ذكره ابن شاش ولم يعزه، وعلله بأنه لا قيمة له في محل التلف.

ابن عبد السلام: ولعل الأول يرد إليه؛ إذ قد لا تكون له قيمة حين التلف.

والقول باعتبار قيمته في (مَكَانِ الْحَمْلِ) أي: مكان حمل منه لمالك في المختصر.

وقال مالك في موضع آخر من المختصر: قيمته في موضع يحمل إليه.

والقول بـ (مَا اشْتُرِيَ بِهِ) لابن القاسم من رواية أصبغ في الواضحة وقيده في الرواية بأن يكون الشراء لا محاباة فيه، قال: وهذا إن اشتروه من مكان واحد، وأما إن كان اشتراؤه من مواضع شتى أو فيهم من اشترى ومن لم يشتر وقد طال مكث شرائه حتى حالت سوقه قوم الذاهب والسالم بالموضع الذي ركبوا منه يوم يركبوا، ثم يكونون بتلك القيمة شركاء في السالم، قال: وقول جميع أصحاب مالك كذلك في العتبية عن ابن القاسم.

ابن عبد السلام: والأقرب هو الأول مقيد بالقول الثاني، وكيف يكونون شركاء بقيمته يوم حملوه، ولو ضاع مال أحدهم قبل هول البحر لم يضمنوه؟ ولم يحسن أيضاً وأن يضمنون بقيمته في الموضع المحمول إليه مع اتفاقهم أنه إن هلك قبله فمن ربه.

وَالْمُسْتَاجِرُ أَمِينٌ عَلَى الأَصَحِّ

أي: فلا ضمان عليه كان المستأجر عليه مما يغاب عليه أم لا.

ومقابل الأصح أثبته اللخمي وغيره كالمصنف، وذكر اللخمي أنه في كتاب ابن سحنون، وقال أشهب في الجفنة يدعي ضياعها: إنه ضامن، وأنكر ابن المواز أن تكون الرواية هكذا وقال: وإنما الرواية في دعواه الكسر؛ لأنه يقدر على تصديق نفسه بإحضار الفلقتان وأما الضياع فيصدق، ولهذا قال مالك في رواية أخرى: وأين الفلقتان؟

ص: 215

ابن المواز: إلا أن يقول سرقت مني الفلقتان أو تلفتا.

وحكى صاحب البيان الاتفاق على نفي الضمان قال: فلا أعلم فيه خلافاً إلا ما لابن القاسم في الدمياطية في مكتري دابة يشترط عليه الضمان قال: لا ضمان عليه، قال: والمناجل وآلة الحديد يضمنها، قال: وهو شذوذ، قال: وظاهر كلامه في الدابة أنه كراء فاسد، وعليه في الفوات كراء المثل، وفسر مسألة الدمياطية بأنها كبيع الثنيا يجبر مع القيام ويكون للمكتري في الفوات الأكثر.

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الأُجْرَةِ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَقِيلَ: تَسْقُطُ بِحِسَابهَا

(وَيَلْزَمُهُ) معطوف على مفعول القول المحذوف؛ أي قال ابن القاسم: المستأجر أمين ويلزمه جميع الأجرة. قال في المدونة: إلا أن يأتي ببينة على وقت الضياع، وكان معه قوم في السفر فيشهدوا أنه أعلمهم بضياع ذلك وطلبه بمحضرهم، فيحلف فيسقط عنه من يومئذٍ ما بقي من المدة.

وعلى هذا فقول المصنف: (مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ) ليس بظاهر؛ لحضرة البينة إلا أن يفهم قوله: (بَيِّنَةٌ) على البينة التي تعرف أنه ذكر الضياع.

قال فيها: وقال غيره: لا يلزمه من الأجرة إلا ما قال أنه انتفع به، وبه أخذ سحنون وقال في قول ابن القاسم أنه يصدقه في الضياع ويغرمه الكراء فيما لم ينتفع به.

ورأى ابن القاسم أن الكراء في ذمته فلا يبرأ منه إلا ببينة بخلاف المستأجر فإنه فيه أمين، وناقض التونسي قول ابن القاسم هنا بقوله في كتاب العارية فيمن استعار دابة وزعم ربها أنه أعارها إلى دون المكان الذي ركبها إليه، وقال ابن القاسم: القول قول المستعير في دفع الضمان.

وأجاب ابن يونس بأن المستأجر مدعٍّ في دفع الأجرة فعليه البيان.

ص: 216

وَفِي ضَمَانِهِ مَا آجَرَهُ لِغَيْرِهِ ثَالِثُهَا الْمَشْهُورُ: إِنْ كَانَ فِي مِثْلِ أَمَانَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ

يعني: واختلف في [625/ب] ضمان المستأجر ما آجره لغيره على ثلاثة أقوال:

الأول: عدم الضمان مطلقاً وهو غير موجود، ولا يقتضيه الفقه؛ إذ لا ينتفي الضمان إذا آجره لمن ليس في مثل أمانته.

الثاني: أنه يضمن مطلقاً وهو معترض أيضاً؛ لأنه إذا آجر لغير من هو في أمانته فالضمان ظاهر، وإن كان لمن هو في أمانته فلا، وإنما وقع في المدونة مقيداً بالثوب قال: لاختلاف الناس في اللباس، مع أن سحنون اختار نفي الضمان واحتج بمسألة الفسطاط.

والثالث: ظاهر التصور.

وَأَمَّا الصَّانِعُ كَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ فَضَامِنٌ، وَحُكْمُهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم؛ عَمِلَ فِي بَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ، بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، تَلِفَ بِصُنْعِهِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، إِذّا انْتَصَبَ لِلصَّنْعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ رَبِّ السِّلْعةِ وَلَمْ يَكُنْ مُلازِمَهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا- فَأَمِينٌ

لما قدم المصنف أن الأجير أمين استثنى الصانع ولهذا أتى بـ (أَمَّا) المقتضية للتفصيل وأشار بـ (الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ) إلى أنه لا فرق في الصانع بين أن يكون التغيير في ذات المصنوع كالخياط أو صفته كالصباغ، ولما كان تضمينهم على خلاف الأصل أشار المصنف إلى الاستدلال عليه بالمنقول عن الخلفاء.

قال في المدونة وغيرها: وقد قضى الخلفاء بالتضمين وظاهر هذا أن عثمان رضي الله عنه منهم، وعلى هذا فسكوت المصنف عنه ليس بظاهر، ثم حكم الخلفاء مستلزم للإجماع؛ إذ لم ينكر حكمهم.

وقد نقل عبد الوهاب وغيره في المسألة الإجماع ولا يقال: قد نقل عن علي رضي الله عنه خلاف ذلك؛ لأن صاحب المقدمات لم يُثبِت ذلك عنه، وضمير (حُكْمُهَا) عائد على المسألة،

ص: 217

وفي بعض النسخ (حُكْمُهُمَا) بالتثنية وليست بشيء لعودها على الخياط والصباغ، والنقل عن الخلفاء غير مخصوص، ووجه تضمينهم من جهة المعنى ما قاله عبد الوهاب وغيره.

ثم نظرنا فرأينا: من قبض مالاً على المنفعة لربه فقط كالوديعة يكون ضمانه من ربه، وإن كان لمنفعة الأخذ كالمسلف يكون ضمانه من آخذه، فجعلنا المشترك بينهما كالرهن والعارية على هذا التفصيل لقوة التهمة فيما يغاب عليه، وأيضاً فإنهم لم يؤتمنوا وإنما الضرورة دعت الناس إلى الدفع إليهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا ذلك. فكان من المصلحة العامة تضمينهم ترجيحاً للمصلحة العامة.

وذكر أبو المعالي أن مالكاً كثيراً ما يبني مذهبه على المصالح، وقد قال أنه يقتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين.

المازري: وهذا الذي حكاه أبو المعالي صحيح.

وقوله: (بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) ظاهر، ولو قيل بعدم الضمان إذا كان بغير أجر ما بعد؛ لما تقدم أن عبد الوهاب وغيره نصوا على أن القابض لمنفعة ربه فقط لا يكون عليه ضمان. وقوله:(بِصُنْعِهِ) كما لو ادعى أن سارقاً سرقه.

ابن رشد: الضمان بسبب الصنعة إنما هو إذا لم يكن فيها تغيير، وأما إذا كان فيها تغيير كثقبل اللؤلؤة ونقش الفصوص وتقويم السيوف وإحراق الخبز عند الفران والغزل في قدر الصباغ، فلا، إلا أن يعلم أنه تعدى فيها وأخذها على غير وجه مأخذها، ونحوه لابن المواز.

وقوله: (إِذّا انْتَصَبَ لِلصَّنْعَةِ) شرط في الضمان ثلاثة شروط أو شرطاً مركباً من ثلاثة أجزاء:

الأول: أن ينصِّب نفسه للصنعة بخلاف الأجير الخاص للرجل والجماعة دون غيرهم، والصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للصنعة فلا ضمان على هؤلاء؛ لأن التضمين إنما كنا للمصلحة العامة وقيده بعضهم إذا عمله بغير أجر وإلا فيضمن.

ص: 218

ابن يونس: وحكى هذا القائل أنه منصوص للمتقدمين، وقد نقل عبد الحق وغيره عن القرويين القولين؛ أعني: هل الضمان على من لم ينصب نفسه للصنعة مطلقاً أو بشرط أن لا يأخذ أجرة؟ ونقل بعضهم الاتفاق على الثاني.

المازري: واختلف إذا كان هذا الصانع الذي لم ينصب نفسه عمل بغير أجر؛ فقال عيسى: لا ضمان عليه، وقيل: يضمن، والصواب أنه يضمن وهي رواية رأيتها للمتقدمين.

الشرط الثاني: أن لا يكون في بيت رب السلعة، وإلا فلا ضمان عليه جلس معه أم لا بأجر أم لا.

ابن حبيب: لأنه هنا أجير خاص.

الشرط الثالث: أن لا يكون رب السلعة ملازمه، وإلا فلا ضمان عليه؛ لأنه بحضوره معه يشبه الصانع الخاص.

وقد حكى اللخمي في هذا خلافاً فقال: اختلف إذا عمله الصانع في حانوته بحضرة صاحبه، فقال محمد: القول قول الصانع في تلفه، وفي الواضحة في مثل ذلك: أنه ضامن، وليس بحسن.

ونوزع اللخمي فيما ذكره عن الواضحة؛ لأن الذي فيها وفي العتبية: إذا جاءه بثوب يكمده له فكمده مع رب الثوب فأصابه خرق، فإن كان مِن فعل ربه لم يضمن وإن كان من فعل الكمَّاد فهو ضامن، وإن جهل بينهما يكون على الكماد نصف ما نقصه، وإن انفرد الصانع بالكمد فعليه الضمان وإن لم يفرط، فقيل: إنما ضمانه هنا بالفساد وتلف مال الغير الذي يستوي في ضمانه العمد والخطأ فلا يكون الصباغ كذلك.

ابن رشد: وقوله: (وَإِنْ جَهِلَ) معناه: أنهما [626/أ] قالا: لا ندري مِن عمل من هو، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه فالحكم أن يحلفا، فإن حلفا أو نكلا ضمن الصانع

ص: 219

النصف، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عمل على قول الحالف. قال: ولابن دحون أن ضمان الكماد بحضرة رب الثوب على ما قال ابن القاسم ولا يستقيم.

قال: وإذا حضر عمل متاعه أينما كان فلا ضمان على الصانع، وإن كان العمل في موضع الصانع.

ابن رشد: وقاسه على حامل الطعام وما أصاب؛ لأن حامل الطعام ضمن للتهمة، فحضور ربه معه رافع لها، وإفساد الثوب قد علم أنه من الكماد.

وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ مُلازِمَهُ) يريد الإفساد مسألة الكماد، وانظر هل يأتي على ما تقدم لأشهب من الضمان مع البينة الضمان هنا، لأن التهمة فيهما منتفية، فإذا ضمنه في إحداهما فكذلك في الأخرى أولى؛ لأن التلف في مسألة الحضور مقطوع به، بخلافه في البينة فإنه مظنون وتردد في ذلك بعض الأشياخ

وقوله: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) إما كون الصانع في بيت رب السلعة، وإما ملازمة ربها.

(فَأَمِينٌ) أي: فالصانع أمين ولا ضمان عليه.

و (كَانَ) تامة، وفي كلامه حذف مضاف تقديره: فإن حصل نقيض أحد الأمرين- بحصول أحدهما، فإن لم يكن في بيت ربها أو لم يكن ربها ملازماً له- مقتضي للضمان، وفي بعض النسخ:(أحدها) فيعود على الثلاثة.

وَالْوَاجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ دَفْعِهِ

لما ذكر الضمان وشرطه تكلم على زمانه. تصور كلامه ظاهر.

قال في المدونة والواضحة: وليس لربه أن يقول أؤدي الأجرة وآخذ قيمته معمولاً.

ص: 220

قال في المقدمات: إلا أني قول الصانع أنه تلف بعد العمل، فيكون لربه أن يؤدي إليه أجرة عمله ويضمنه قيمته معمولاً.

قال: وهذا على القول: إن البينة إذا قامت على تلفه معمولاً أنه يلزمه أداء الأجرة وتكون مصيبته منه، وهذا أحد قولي ابن القاسم في الموازية.

وخرج جماعة قولاً بلزوم القيمة لآخر يوم رئي عنده على القول به في الرهن، واختلف في الخياط يقطع الثوب ثم يغيب عليه، ففي الموازية: عليه قيمته صحيحاً قبل قطعه، ولو كانت شقة فقطع منها ثوبين وادعى ضياع أحدهما كان عليه نصف الشقة صحيحة لا قيمة نصف صحيح.

وقال ابن القاسم في مختصر ما ليس في الختصر: يغرم قيمته مقطوعاً.

اللخمي: ويختلف على هذا إذا أفسد الخياط بالخياطة أو القطع، فعلى ما في المدونة: يغرم قيمته صحيحاً في الوجهين، وقال ابن شعبان: إن كان الفساد في القطع غرم قيمته صحيحاً، وإن كان في الخياطة غرم قيمته مقطوعاً.

اللخمي: وهو فقه حسن؛ يعني: فيغرم قيمته على الوجه الذي أفسده عليه.

قال في المدونة: وإذا فرغ الخياط أو الصانع من عمل ما في يده، ثم دعا صاحب المتاع، فقال: خذ متاعك، فلم يأتِ حتى ضاع المتاع عند الصانع، هو ضامن على حاله.

اللخمي: يريد أنه لم يحضره، ولو كان أحضره ورآه صاحبه مصنوعاً على صفة ما شارطه عليه وكان قد دفع الأجرة ثم تركه عنده فادعى ضياعه لصدق؛ لأنه خارج عن حكم الإجارة إلى حكم الإيداع، ونص أبو الحسن على أنه وفاق للمذهب.

وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَفِي سُقُوطِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ

أي: فإن قامت بينة على تلفه عند الصانع من غير صنعة، ففي سقوط الضمان على الصانع قولان:

ص: 221

مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك: السقوط، ومقابله لأشهب بناءً على أن الضمان للتهمة وهي زالت بقيام البينة أو بالأصالة.

فرع:

قال في المدونة: ويضمن القصار قرض الفأر؛ إذ لا يعرف ولو علم أن الفأر قرضه من غير تضييع وقامت بذلك بينة لم يضمن.

محمد: إذا لم يضيع.

وقال ابن حبيب: إذا ثبت بالبينة أن الذي أصاب الثوب قرض فأر أو لحس سوس وهو بيد صانع أو مرتهن لم يضمن، ولو قال رب الثوب: إنهما ضيعا، وأنكرا ذلك صُدِّقا، فعلى رب الثوب البينة أنهما ضيَّعا؛ لأن قرض الفأر والسوس أمر غالب والتعدي لا يلزم بالدعوى.

ابن يونس: وظاهر المدونة أن عليه البينة أنه ما ضيع؛ لأن الثوب بيده على الضمان فلا يخرجه إلا البينة، وقد تقدم الكلام على إحراقه أو إحراق بعضه إذا احترق منزله في الرهن.

وَعَلَى سُقُوطِهِ: فَفِي سُقُوطِ الأُجْرَةِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَوَّازِ

يعني: ويتفرع على سقوط الضمان إذا قامت البينة بهلاكه مصنوعاً في سقوط الأجرة قولان؛ فابن القاسم يسقطها ومحمد لا يسقطها، وحكاية المصنف الخلاف في الأجرة يستلزم أن تكون البينة قامت على هلاكه مصنوعاً كما قلنا؛ إذ هو المحل الذي يسقط ضمان الصانع، والنقل أيضاً كذلك فرأى ابن القاسم أن الصانع لم يسلم الصنعة لرب السلعة، ولا يستحسن الأجرة إلا بالتسليم.

ورأى محمد أن وضع الصنعة في السلعة كوضعها في يده.

ص: 222

وزاد في البيان ثالثاً: بالفرق بين قيام بينة وعدمه، ورابعاً: أن عليه الأجرة، سواء قامت بينة على ضياعها قبل العمل أو لا، ويؤدي قيمته معمولاً؛ أخذه من قول ابن القاسم في العتبية: إذا نقص الدقيق فعلى الطحان ضمان ما ينقص مثل قيمته من الدقيق.

ابن رشد: وهو خلاف مذهبه في المدونة ولا يجوز على مذهبه فيها أن يأخذ ما نقصه من الدقيق لما يدخله من التفاضل بين القمح والدقيق؛ إذ الواجب عليه ما نقصه من القمح فإن كان القمح مثلاً ثمانية أقفزة ويزيد بالطحن قفيزاً، فلم يجد إلا ثمانية فعليه ثمانية أتساع قفيز من قمح وعليه طحنه ويأخذ جميع أجرته، وإن لم يطحنه أنقصه تسع الأجرة فلو أخذ منه على هذا دقيقاً لكان قد ابتاع منه قفيز دقيق بثمانية أتساع قفيز من قمح وبتسع الأجرة فيدخله التفاضل.

وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَ الضَّمَانِ فَفِي انْتِفَاعِهِ بِهِ رِوَايَتَانِ

ضمير (شَرَطَ) عائد على الصانع، وضمير (انْتِفَاعِهِ) عائد على الضمان، وفي بعض النسخ (وفي انتفائه) فيعود الضمير على الصانع.

(رِوَايَتَانِ) روى ابن القاسم أنه لا ينفعه شرطه وبما قال قال في الجواهر.

وروى أشهب أنه ينفعه ولم يذكر صاحب النوادر والباجي وصاحب المقدمات ذلك على أن أشهب رواه، بل على أنه قاله.

نعم، تقدم في الرهن أن أشهب روى عدم الانتفاع بالشرط فيه والباب واحد ورأيت للخمي وغيره أن هذا الخلاف إنما هو في الصانع الواحد، وأما لو اشترط الصناع كلهم نفي الضمان فيتفق على أنهم لا يوفى لهم بذلك؛ لأن في الوفاء لهم عدم ما تقدم من الدليل.

واعلم أن بعض شيوخنا قال لمن اشترط نقل الضمان من محل إلى محل غيره: فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون المحل استقر فيه الضمان لم يختلف فيه أحد من العلماء أنه

ص: 223

محل له فهذا لا يجوز نقله بلا خلاف، أو يكون فيه خلاف في المذهب كالغائب والمحبوسة بالثمن فهذا لا خلاف في جواز نقل الضمان من أحد المحلين إلى الآخر.

وإما أن يكون متفقاً عليه في المذهب، وفيه خلاف خارجي كالصناع فهذا وشبهه فيه قولان، وعلى هذا فلا يعد أن يختلف في المسألة وإن اشترط الصناع كلهم نفي الضمان، فانظره.

أَمَّا لَوْ بَاعَهُ دَقِيقَ حِنْطَةٍ عَلَى الْكَيْلِ وَعَلَيْهِ طَحْنُهَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ

(فَالضَّمَانُ) أي: على البائع وإن قامت البينة على التلف اتفاقاً، وحاصله: أن ما تقدم من سقوط الضمان إذا قامت البينة على الهلاك إنما هو فيما ليس فيه حق توفية بعد الصنعة وأما ما فيه ذلك فيتفق على أن الضمان منه، ولهذا أتى بـ (أَمَّا) المشعرة بالتفصيل.

ابن عبد السلام: وهذه المسألة إذن لا إشكال فيها وإنما كان ينبغي أن يذكر إذا باع حنطة على أن البائع طحنها، فهذا إذا قلنا بالجواز يمكن أن يقال أنه بيع وإجارة، وهل يضمنه مطلقاً أو يفرق فيه؟ وإن ضاع ببينة سقط الضمان، وإن كان بغير بينة وجب الضمان والمنصوص وجوب الضمان من البائع فهذا هو محل الإشكال والتنصيص عليه أولى.

وَأَمَّا غَيْرُ مَحَلِّهَا بِالْحَاجَةِ كَالْكِتَابِ لْلنَّسْخِ، وَالْجَفْنِ يُصَاغُ عَلَى نَصْلِهِ، وَظَرْفِ الْقَمْحِ- فَقَوْلانِ

ضمير (مَحَلِّهَا) عائد على الصنعة والباء سببية؛ أي بسبب الحاجة، واحترز به مما لا يحتاج الصانع إليه في عمله كدفع زَوْجَي خُفٍّ ليعمل في أحدهما فإنه اتفق على أنه لا يضمن إلا المصنوع.

قال في البيان: اختلف في صفة تقويم المضمون فقيل: يقوم وحده، وقيل: يقومان جميعاً، ثم يقوم الثاني وحده فيغرم ما بين القيمتين ومنشأ القولين اللذين ذكرهما المصنف: هل الحاجة إليه تصيره كالمصنوع أو لا؟

ص: 224

وحكى في البيان ثلاثة أقوال:

الأول: لا يضمن إلا ما فيه عمل وإن كان يحتاج إليه الصانع والمصنوع، وهو قول سحنون.

والثاني: أنه يضمنه فيهما، وهو قول ابن حبيب.

والثالث: أنه لا يضمن ما ليس فيه عمل وإن احتاج إليه الشيء المعمول، إلا أن يحتاج إليه في عمله، وهو قول مالك في سماع أحمد بن خالد، وقول ابن المواز.

وقول المصنف: (يُصَاغُ عَلَى نَصْلِهِ) قيد الصياغة بأن تكون على النصل، فإنها لو كانت على الجفن لكان محلاًّ للصنعة فكان الصانع يضمنه ولا يأتي هذا الاختلاف فيه.

وَالأُجَرَاءُ وَالصُّنَّاعُ تَحْتَ يَدِ الصَّانِعِ أُمَنَاءُ لَهُ

يعني: إذا كان للأجير أجراء أو صناع تحت يده فتلف بأيديهم شيء بغير تعدٍّ فلا ضمان عليهم؛ لأنهم صناع له خاصة. واحترز بقوله: (تَحْتَ يَدِهِ) مما لو غابوا على السلع فإنهم يضمنون.

فقد نص أشهب في العتبية والموازية: أنه لو أكثر الثياب على الغسال، فآجر آخر يبعثه بها إلى البحر فادعى تلفها أنه ضامن.

ابن ميسر: وذلك إذا آجره على غسل أثواب فقاطعه؛ أي كل ثوب بكذا، وأما إن كان في إجارته يوماً أو شهراً فدفع إليه شيئاً يعمله في داره وغاب عليه فلا ضمان عليه.

ابن يونس: وإنما يضمن أجير الصناع هنا؛ لأنه كصانع دفع إلى صانع ما استُعمل عليه. وفي الموازية في الخياط يدفع إلى الصبيان المتاع يمضون به إلى ديارهم ليتموها بالليل فيدعون الضياع أنهم لا ضياع عليهم.

ابن ميسر: معنى ذلك أنهم عملوا جلها في الدكان بحضرة الصانع وبقي اليسير فانسحب عليهم حكم الأكثر في نفي الضمان.

ص: 225

قال في الموازية والعتبية: وإذا دفع ربُّ الثوب إلى الصانع إجارته فلم يدفع الصانع الأول للثاني إجارته فلرب الثوب قبض الثوب من الثاني بغير إجارة، ويتبع الثاني الأول إذا ثبت دفع رب الثوب إليه.

بعض القرويين: والأشبه في القياس ألا يأخذ رب الثوب ثوبه من الثاني إلا أن يدفع إليه إجارته؛ لأنه ليس مستحقاً لعين الصنعة فيأخذها بغير شيء.

ابن ميسر: وإن لم تقم بينة أنه دفع الأجرة للأول فليحلف الثاني أنه ما قبض أجرته ويكون على ربها الأقل من أجرة مثله أو من [627/أ] إجارة الأول، فيتبع هذا الهارب ببينة أجرته.

قال في الموازية: ثم إن قدم الأول فأقر بقبض أجرته فليرجع الغارم على الثاني بما قبض منه.

الشيخ أبو محمد: وهذا غير مستقيم ولا تقبل دعوى القادم على المقيم إذا كان القادم عديماً.

ابن رشد: وقول الشيخ صحيح، ولم ينص ابن المواز على أنه يرجع على الثاني لإقرار القادم إن كان عديماً فينبغي أنيحمل قوله على ما يصح إذا كان مليئاً، قال: وقول محمد: "يحلف الثاني ويأخذ الأقل" صحيح، وكذلك لو أقر صاحب المتاع أنه لم يدفع إلى الأول شيئاً، قال: وهذا إذا علم بما استؤجر له أو أقر بذلك الثاني، وأما إن لم يكن كذلك فلا سبيل إلى أخذ المتاع إلا بعد أن يدفع إليه جميع إجارته إن علمت وإن لم تعلم فيتخرج ذلك على قولين:

أحدهما: أن القول قوله في مبلغها مع يمنيه إذا أتى بما يشبه وإن لم يأت بما يشبه لم يصدقه وله أجرة المثل.

والثاني: أنه لا يكون له إلا أجرة المثل وإن أشبه ما ادعاه.

وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم، قال: وإنما وجب أن يكون للثاني الأقل على صاحب المتاع؛ لأنه غريم غريمه، لا من أجل أن السلعة رهن له؛ إذ ليست برهن فلا

ص: 226

يكون له إمساكها ولا يكون أحق بها من صاحبها إن أفلس عند ابن القاسم، ولذلك لا يكون القول قوله إن ادعى أكثر من إجارة مثله.

قال: وإنما وجب أن يكون لصاحب المتاع أخذه معمولاً، بل يغرم الثاني إذا كان دفع للأول؛ لأن العمل على الأول مضمون، ولو كانت الإجارة على عمل الأول بعينه لما وجب لصاحب المتاع. ولو كان قد دفع الأجر للأول إلا أن يعلم الثاني بتعدي الأول. قال: وهو الذي يأتي على أصولهم ولا أعلم فيها نصاً.

وَأَمَّا أَجِيرُ حَمْلٍ- غَيْرِ الطَّعَامِ- فَإِنْ غَرَّ فِيهِ أَوْ فَرَّطَ ضَمِنَ، وَإِلا فَلا

لمَّا فرغ من الصانع شرع في أجير الحمل وغيره، وما ذكره نحوه في المدونة، ففيها: وإن قال المكتري في حمل عرض أنه إن هلك أو سرق أو عثرت الدابة فانكسرت به القوارير فذهب الدهن صُدِّق، إلا أن يغر من عثار أو ضعف حبل فيضمن حينئذٍ.

وقوله: (غَرّ) صَادَق على الغرور بالقول والفعل.

اللخمي: فإن كان بفعل ضمن، وإن كان بقول ففيه قولان: هل يضمن أم لا؟

اللخمي: فإن عرف الحمال ضعف الحبل وربطه فهو غرور بفعل، وإن سمى الحبل للمكتري فربطه وكان المكتري هو الذي سيرها فهو غرور بقول.

وعلى الضمان فقال ابن حبيب: يلزمه المثل أو القيمة بموضع هلك، وله من الكراء بحساب ما سار.

ابن يونس: وهو قول ابن القاسم وعلى قول غيره يخير في أن يضمنه قيمته يوم تعدى؛ أو يوم هلك، وحمل اللخمي قول ابن القاسم على معنى قول الغير؛ لأنه قال: وقال ابن القاسم فيمن حمل دهناً من مصر إلى فلسطين وانكسر بالعريش وكان قد غر من الدواب أن عليه قيمته بالعريش؛ لأنه قال: قيمته بالعريش ضعف قيمته بالفسطاط والإنسان لا يختار إلا الأكثر.

ص: 227

وَفِي حَمْلِ الطَّعَامِ يَضْمَنُ مُطْلَقاً إِلا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ، وَقَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

قوله: (مُطْلَقاً) أي: لا فرق في الأقوات والإدام، بل يضمن جميعها على المشهور لسرعة الأيدي إليه خلافاً لابن حبيب كما سيأتي، ويحتمل أن يريد بالإطلاق سواء فرط أم لا؛ يعني: ولا تفصيل فيه كما في غير الطعام، وظاهر قوله:(يَضْمَنُ مُطْلَقاً) لأنه لا فرق في ذلك بين السفر والحضر.

اللخمي: وهو المعروف، وقول ابن كنانة: لا ضمان عليه في المدينة؛ لأنه في المدينة قادر على أن يصحبه من غير ضرورة.

(إِلا بِبَيِّنَةٍ) أي: فإن الضمان يسقط بها.

وقوله: (أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ) ثبت في بعض النسخ وسقط من بعضها؛ لأنه يؤخذ الحكم فيه من باب مفهوم الموافقة، فإن هلاكه بحضرة صاحبه أقوى في البراءة من هلاكه بحضرة البينة.

وحكى اللخمي الخلاف في الضمان إذا حمله في البحر ولو صحبه ربه فقال: واختلف إذا حمله في السفر ببحر وصاحبه معه أو لم يكن معه صاحبه، وليس الطعام مما تدعو الحاجة إليه في الغالب.

فالمعروف من المذهب أنه غير مصدق إذا غاب عليه وإذا حمله في البلد، خلافاً لابن كنانة قال: وإن صحبه في البحر ثم نقص أو ذهب بعضه، صدق عند مالك، وفي أكرية السفن أنه غير مصدق.

ابن عبد السلام: قال بعضهم: إلا أن تلجئ قوماً ضرورة إلى من يخاف على الطعام معه فيستأجروه تقاية لشره وليدفع شر قوم آخرين فيضمن، أو تعلن منه الجناية فيضمن.

اللخمي: وأرى أن يضمن الذي يحمل القمح والشعير والقطاني وما أشبه ذلك وإ، صحبه ربه إذا نقص؛ لأنه قد علم منه السرقة، ونص قول ابن حبيب: وإنما يضمنون من الطعام

ص: 228

الإدام ما كان قوتاً خاصة فمن ذلك القمح والشعير والدقيق والسلت والذرة والدخن والعلس والكرسنة، وليس الأرز من ذلك لأنه مما يتفكه به.

أبو محمد: لعل هذا في غير بلد الأرز وإلا فبعض البلدان هو جل قوتهم.

قال: يضمن الفول والحمص والعدس واللوبيا والجلبان، ولا يضمون الترمس؛ لأنه متفكه، ولا يضمنون من الإدام إلا الزيت والعسل والخل والسمن، وأما الرُّب والأشربة الحلال والجبن واللبن والزبد وسائر اللحم والأبزار فلا يضمنونه، ولا يضمنون من خضر الفواكه ورطبها ويابسها إلا التمر والزبيب والزيتون، ويضمنون الملح، ولا يضنمون شيئاً من الأدهان وكل ما لا يضمنوه فهم [627/ب] مصدقون في تلفه كالعروض. وأنكر هذا التفصيل جماعة.

ابن يونس: وهو استحسان قوله (وَقَالَ بِهِ)؛ أي بالضمان في الطعام (الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ).

زاد ابن شاس وربيعة: وذلك لمصلحة العامة لاحتياج الناس إلى حمله وسرعة يد الحامل إليه، فيضمنون كالصناع.

تنبيه:

قوله: (أَوْ يَصْحَبُهُ رَبُّهُ) لا يشترط دوام الصحبة فقد قال أصبغ في الموازية: إذا فارق رب الطعام حامله في بعض الطريق لم يضمن.

وعلله محمد بأن أصل حمله لم يكن على التسليم.

ونقل ابن يونس عن بعضهم أنه فصَّل فقال: إن فارقه على أن يعود فكذلك، وإن كان على أن لا يعود فعليه الضمان.

وَأَمَّا أَجِيرُ الْحِرَاسَةِ فَلا يَضْمَنُ شَيْئاً

أي: ولو كان طعاماً أو مما يغاب عليه هكذا نص عليه ابن المواز وغيره.

ص: 229

ابن المواز: وكذلك لا ضمان عليه إذا أعطاه طعاماً يبيعه فيضيع أو يضيع ثمنه، إلا أن هذا لا أجر له ولا ضمان عليه.

قال: وإن استؤجر ليحرس بيتاً فينام فيسرق ما فيه، فلا يضمن وإن غاب عليه، وله جميع الأجرة وكذلك حارس النخل.

وقال مالك في العتبية فيمن بعثت معها بخادم يبلغها موضع كذا بأجر مسمى فنام في الطريق فأبقت أو ماتت، فإن أبقت حوسب، وإن ماتت فله الأجرة كلها، وقال ابن القاسم: الموت والإباق واحد وله الأجرة كلها، ويستعمل في مثل ذلك حتى يتم أو يبلغ.

وقال ابن وهب: له من الإجارة حيث بلغ فقط.

فرع:

واختلف قول مالك في ضمان السماسرة.

ابن رشد: والذي أفتى به على طريق الاستحسان مراعاة للخلاف تضمينهم، إلا أن يكونوا مشهورين بالخير.

ابن راشد: ورأيت بعض قضاة الإسكندرية ضمن السماسرة، وكأنه ذهب إلى أن ذلك من مصالح الناس العامة لفساد الزمان.

وَالْحَمَّامِيُّ أَمِينٌ عَلَى الثِّيَابِ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ

(الْحَمَّامِيُّ): مكتري الحمام.

ابن راشد: والأول قوله في المدونة، والثاني قوله في الموازية: يضمن إلا أن يأتي بحارس؛ ونحوه في العتبية؛ لأن فيها: وقد أشرت على صاحب السوق أن يضمن أصحاب الحمامات ثياب الناس، أو يأتوا بمن يحرسها.

ابن يونس: ورأيت في بعض الحواشي عن ابن عبد الحكم مثله، وزاد: وألا ضمان على من يحرسها.

ص: 230

وأما حارس الثياب ففي البيان: إن أكراه صاحب الحمام بأجرة في ذمته فلا خلاف في نفي الضمان إلا أن يضيع أو يفرط، وإن كان بأجرة يأخذها من الناس، فقال مالك: لا ضمان عليه.

ابن لبابة: وما سواه خطأ، وضمنه ابن حبيب، واختار اللخمي نفي الضمان عن الحمامي والحارس ولو دفع له أجرة؛ لأنه حينئذٍ كالمودع يدفع له أجرة على أمانته.

ابن القاسم: ولو قال الحارس: جاءني إنسان فشبهته بك فدفعت إليه الثياب، ضمن.

اللخمي: وكذلك يضمن إن رأى إنساناً يأخذ ثيابك فيتركه ظناً منه أنه أنت.

وَكُلُّ مَنْ أَوْصَلَ نَفْعاً عَنْ عَمَل أَوْ مَالٍ بِأَمْرِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مِمَّا لابُدَّ لَهُ مِنْهُ بِغُرْمٍ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ وَمِثْلُ الْمَالِ، بِخِلافِ عَمَلٍ يَلِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَبْدِهِ أَوْ مَالٍ يَسْقُطُ مِثْلُهُ عَنْهُ ..

(أَوْصَلَ) يريد: ولو بغير قصد، كما قالوا في من حرث أرض غيره ظانّاً أنها أرضه. وقوله:(عَنْ عَمَل أَوْ مَالٍ) تبيين للنفع؛ مثال العمل: لو حرث لرجل كرمه أو سقى حرثه أو أرضه أو حصد زرعه أو قطع ثوبه وخاطه أو طحن قمحه بغير أمره، ومثال المال: لو أنفق على زوجته أو ولده أو عبده، وسواء كان ذلك (بِأَمْرِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) بشرط أن يكون ذلك الواصل مما لابد منه للمنتفع به.

وقوله: (بِغُرْمٍ) شرط فيما يرجع به، واحترز به من أن يعمل له عملاً لا يحتاج إليه أو يتولاه صاحبه بنفسه، فلا غرم، أو ينفق على من لا يلزمه الإنفاق عليه، أو ينفق أكثر من القدر المحتاج إليه.

المازري: ولا خلاف فيه إذا كان ربه ممن يتولاه بنفسه، وإلا فقد ذكروا خلافاً فيمن خاط ثوب غيره بغير إذنه.

ص: 231

فقال سحنون: يأخذه ربه ولا شيء عليه لخياطة هذا الفضولي.

وقيل: لا يأخذه حتى يغرم لهذا الأقل من قيمة خياطته أو ما يخيط به هو.

وقوله: (فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْعَمَلِ) أي: قيمة المنفعة، ومثال المال هو ظاهر إن كان من ذوات الأمثال.

ابن عبد السلام: وإن كان من ذوات القيم، فيحتمل أن يقال عليه القيمة.

وقوله: (بِخِلافِ عَمَلٍ يَلِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَبْدِهِ) راجع إلى قوله: (بِغُرْمٍ) أي: بخلاف ما إذا كان المنتفع لا يغرم عليه شيئاً، بل يليه بنفسه أو بعبده، فإنه لا يغرم على ذلك شيئاً.

مسألة:

قوله تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] إلى قوله: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] دليل على جواز الغرم على القبيلة في دفع ضرر يعمهم واستخدامهم في ذلك، وكذلك مصالحهم أجمع.

التَّنَازُعُ: لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: سُرِقَ، وَقَالَ: اسْتَصْنَعْتَنِي، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَالَفَانِ وَيُقَالُ لِلْمَاِلكِ: ادْفَعْ قِيمَةَ الْعَمَلِ، فَإِنْ أَبَي قِيلَ لِلصَّانِعِ: ادْفَعْ قِيمَةَ الْمَتَاعِ بِغَيْرِ عَمَلٍ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ بِالْقِيمَةِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ مُدَّعٍ

لما فرغ من أركان الإجارة وأحكامها شرع في الاختلاف، وتصور المسألة من كلامه ظاهر فرأى ابن القاسم في المدونة: ألا مزية لأحدهما على الآخر، فأوجب التحالف؛ لأن كل واحد مدعٍّ على صاحبه، ورأى غيره أن صاحب المال أقوى؛ لأن المال ماله والأصل عدم الغرم.

قال في المدونة في قول الغير: ولا يكونان شريكين.

ص: 232

صاحب النكت: وعلى قول الغير يحلف رب الثوب أنه ما دفعه إليه ثم يلزم الصانع غرم قيمة الثوب جبراً على ما أحب أو كره.

واعلم أن صاحب النكت والتونسي واللخمي قيدوا [628/أ] قول ابن القاسم بما إذا أراد رب المال تضمين الصانع ولم يرد أخذ ثوبه؛ لأنهم قالوا: إن قال رب الثوب: أريد أن أضمن الصانع فإن أطاع الصانع فدفع قيمة الثوب أبيض فلا يمين على واحد منهما، وإن أبى عن ذلك تحالفاً على ما سيأتي، وأما إن اختار رب الثوب أخذه ويعطي قيمة الصبغ، فإنك تنظر فإنْ كانت قيمة الصبغ مثل ما ادعى الصانع، أو كان ما ادعى أقل أدى ذلك رب الثوب ولا يمين عليه، وإن كانت قيمة الصبغ أقل مما ادعى الصانع حلف رب الثوب ما دفعه إليه وأدى قيمة الصبغ.

قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَحَالَفَانِ) الشيخ أبو محمد وغيره: ويحلف رب الثوب أولاً أنه ما استعمله ثم يقال للصانع: ادفع إليه قيمة ثوبه وإلا فاحلف أنه استعملك، فإن حلف قيل لربه: ادفع إليه قيمة عمله وحده.

وهذا معنى قوله: (وَيُقَالُ لِلْمَاِلكِ: ادْفَعْ إِلَيْهِ قِيمَةَ الْعَمَلِ) وبقية قول ابن القاسم من كلام المصنف ظاهرة.

فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ: أَوْدَعْتُكَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ وَإِلا ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ لأَنَّهُمْ لا يَشْهَدُونَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ مُدَّعٍ ....

يعني: وقال الصانع: بل استصنعتني، فرأى ابن القاسم أن الصانع لما كان جلوسه للصنعة كان القول قوله؛ لأنه أتى بما يشبه، والفرق على قول ابن القاسم بين هذه والتي قبلها أن المالك هنا معترف بأنه أذن في وضع يد الصانع ورأى أن الصانع مدعٍّ؛ لأنه ادعى ملك شيء متصل بملك غيره وأنه باعه من رب الثوب فعليه البينة، وقاله ابن حبيب

ص: 233

وزاد: وكذلك لو قال ربه: سرق مني، ويحلف ويأخذ ثوبه مصبوغاً أو مغسولاً بغير غرم إلا أن ينقصه الصبغ أو يفسده، فربه مخير في أخذه أو تركه وأخذ قيمته، وإن زاده الصبغ فله أخذه بلا غرم هكذا ذكر ابن يونس.

وذكر في البيان أنه اختلف في تفسير قول الغير، فقيل: كما ذكره ابن يونس، وقيل: إنه مدعٍّ في الأجرة فإن ادعى أكثر من أجرة المثل وحلف على ما ادعى عليه لم يستحق بيمينه ما حلف عليه، ويحلف رب الثوب على ما ادعى فيسقط عنه بيمينه ما زاد على أجرة المثل، وإن نكل عن اليمين أخذ العامل ما حلف عليه، وإن نكل العامل عن اليمين وحلف رب الثوب أخذ ثوبه مصبوغاً ولا شيء عليه.

ونحوه لصاحب النكت وزاد: وليس له أن يضمنه؛ لأنه أقر بوضع يده عليه بخلاف قوله: سرق مني.

وَلَوْ صَاغَ سِوَارَيْنِ فَقَالَ: أَمَرْتُكَ بِخَلْخَالَيْنِ، صُدِّقَ الصَّانِعُ

الخلخالين بفتح الخاء: الجوهري: وخلخل لغة فيه.

(صُدِّقَ الصَّانِعُ) يعني: مع يمينه وكلام المصنف وهو ظاهر الدونة أنَّ الصانع إذا حلف أخذ المسمى.

وقال سحنون في رواية أخرى: القول قول الصنَّاع مع أيمانهم ولهم الأقل من أجرة مثلهم أو مما سموا.

اللخمي: وعلى مذهب سحنون يكون القول قول صاحب الفضة، أنه لم يستأجره ليعمله، والقول قول الصانع أنه لم يتعدَّ، ويكونان شريكين؛ هذا له قدر الفضة والآخر له قدر الصنعة، إلا أن يحب صاحب الفضة أن يعطيه إجارة المثل إذا كانت أقل.

ص: 234

فَلَوْ قَالَ الْمَالِكُ بِثَلاثَةٍ وَالصَّانِعُ بِأَرْبَعَةٍ صُدِّقَ الصَّانِعُ فِيمَا يُشْبِهُ بِخِلافِ الْبِنَاءِ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ حَائِزٍ لِذَلِكَ ....

يعني: وإن اختلفا في قدر الأجرة، فإن كان المصنوع تحت يد الصانع صدق الصانع مع يمينه إذا ادعى ما يشبه لبقاء شبهه تحت يده، فكان بمنزلة من باع سلعة ولم يخرجها فالقول قوله.

وإن لم يأتِ بما يشبه حلف المالك إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه فللصانع أجرة مثله، وإن لم يكن المصنوع تحت يده فالقول قول المالك كالبناء؛ لأنه لم يبق المصنوع بيده بل لم يكن بيده أصلاً وهو تحت يد مشتري الصنعة وقد فات، فلذلك كان القول قول المشتري.

وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي رَدِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ- قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ- وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ

(الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ) لأن الصانع اعترف بقبضه وادَّعى رده، وسواء كان قبضه الصانع ببينة أو بغير بينة، وكذلك الرهن والعارية والمبيع على خيار فيما يغاب عليه؛ لأن هذه كلها مقبوضة على الضمان، ورأى ابن الماجشون أن المصنوع كالوديعة والقراض.

***

ص: 235