الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُسَاقَاةُ
عياض: هي مشتقة من سقي الثمرة؛ إذ هو معظم عملها، وهي إجارة على عمل في حائط وشبهه بجزء من غلته، والمزارعة قريب منها، ولعل المصنف ترك رسمها؛ لأنه يؤخذ من رسم القراض، وهي جائزة عندنا وعند الجمهور خلافاً للحنفية، ودليلنا ما في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهي رخصة مستثناة من المخابرة، وهي كراء الأرض بما يخرج منها، ومن بيع الثمرة والإجارة فيها قبل طيبها وقبل وجوبها، ومن الإجارة بالمجهول، ولصحتها وجوازها وجوه:
الأول: أن يكون في الأصول من النخل والأشجار مما له ثمر، أو ما في معناه من ذوات الأزهار والأوراق المنتفع بها؛ كالورد والياسمين احترازاً من الزرع والمقاثي فإن فيها خلافاً سيأتي.
والثاني: أن يكون قبل طيبها وقبل جواز بيعها؛ لأنها إذا جاز بيعها لا ضرورة حينئذ إلى المساقاة.
الثالث: أن تكون المدة معلوم ما لم تطل جداً.
الرابع: أن يكون بجزء مشاع مقدر.
الخامس: أن يكون العمل كله على العامل.
السادس: ألا يشترط على العامل أشياء خارجة عن الثمار أو متعلقة بالثمرة ولكن يبقى بعد الثمرة مما له قدر.
السابع: ألا يشترط أحدهما من الثمرة [606/ ب] ولا من غيرها شيئاً خالصاً له.
الثامن: أن تكون بلفظ المساقاة عند ابن القاسم، ولا تنعقد بـ (عاملتك) ونحو ذلك خلافاً لسحنون وابن المواز، ذكر هذه الثمانية عياض.
وزاد غيره تاسعاً: وهو أن يكون الشجر مما لا يخلف احترازاً من القصب والموز فإنه لا تجوز مساقاته.
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ: النَّخْلُ، وَالأَشْجَارُ، وَالزَّرْعُ، وَالْمَقَاثِي الظَّاهِرَةُ فِي الأَرْضِ
أي: المعقود عليه من حيث الجملة وإلا فسيقول: إن من شرط الزرع والمقاثي أن يعجز عنها أربابها.
وعطف الأشجار على النخل من باب عطف العام على الخاص، ولعله أفرد النخل لكونه محل النص، ويندرج في الأشجار الورد والياسمين والقطن، وقد نص على هذه الثلاثة في المدونة، وظاهرها جواز مساقاتها وإن لم يعجز عنها أربابها، وعلى هذا الظاهر تأوله أبو عمران وابن القطان.
عياض: وهو ظاهر قول اللخمي. واحتج هؤلاء بقوله في المدونة، ولا بأس بمساقاة الورد والياسمين والقطن، وأطلق وعطف على قوله في المدونة تجوز المساقاة في كل ذي أصل من الشجر، وهو قول محمد ابن المواز في الورد والياسمين، وتأول بعضهم المدونة على أنه لا فرق بين القطن والزرع والمقاثي، وأشار ابن يونس إلى أن الخلاف هنا راجع إلى خلاف في حال؛ لأنه لما نقل عن ابن الماجشون جواز مساقاة هذه الثلاثة وإن لم يعجز عنها ربها، قال: يريد لأن القطن عندهم شجر يجنى سنين فهو كالأصول الثابتة، وأما بلدنا فلا تجوز مساقاته إلا أن يعجز عنه أربابه كالزرع؛ لأن أصله غير ثابت.
وفي المقدمات: لا ينبغي أن يختلف في جواز مساقاة الورد والياسمين على مذهب مالك؛ لأن لها أصولاً تجنى، ولو قال قائل في المقاثي والقطن بالجواز وإن لم يعجز عنها أربابها دون الزرع، فلا يجوز على مذهب مالك إلا بالعجز لما بعده إلا أنه لم يقله.
خليل: وقول من حمل المدونة على الجواز مطلقاً أظهر؛ لأن فيها بعد هذه الثلاثة: وأما المقاثي والبصل وقصب السكر فكالزرع يساقي إن عجز عنه ربه، فتفرقته بين هذه وبين تلك، تدل على أن حكمها مختلف، والله أعلم.
وقوله: (الظَّاهِرَةُ) صفة للمقاثي على معنى الشرط، ولو قال: الظاهرين ليعود على (الزَّرْعُ) أيضاً لكان أولى؛ لأنه كما يشترط الظهور في المقاثي كذلك يشترط في الزرع، وقد يقال:(الظَّاهِرَةُ) صفة للمقاثي والزرع باعتبار المذكورات أو يقال: حذف وصف الزرع لدلالة وصف المقاثي عليه، وفيهما تعسف.
وأجاب ابن عبد السلام بأن مراده تمييز ما تجوز فيه المساقاة لا تمييز شخصه، فكأنه يقول: ما شأنه الظهور كالمقاثي تجوز مساقاته بخلاف ما شأنه أن لا يظهر كاللفت والجزر على مذهب المدونة فيما يخرج منه، ونص عليه محمد، ورد بأن ما شأنه أن يظهر أعم من أن يظهر أم لا، فلا يفيد أن الظهور شرط في المقاثي، وكلام المؤلف يقتضي أن الظهور شرط في المقاثي.
وقوله: (فِي الأَرْضِ) مستغنى عنه، وقد يتلفظ له بأنه قيد بقوله:(في الأرض) ليتناول أصولها؛ لأنها التي في الأرض حقيقة، إذ لا يشترط ظهور القثاء المأكول بل ظهور ذلك يمنع من المساقاة.
وَهِيَ لازِمَةُ مُؤَقَّتَةُ وتُسْتَحَقُّ الثِّمَارُ فِيهَا بِالظُّهُورِ اتَّفَاقاً بِخِلافِ الْقِرَاضِ
يعني: (لازِمَةُ) بالعقد وهذا مذهب المدونة، وقد تقدم في القراض الفرق بينها وبينه.
ابن رشد: وقيل: إنها لا تنعقد ولا تلزم إلا بالعمل، وقيل: إنها تنعقد وتلزم بالشروع في العمل كل واحد.
قوله: (مُؤَقَّتَةُ) أي: محدودة بالجذاذ لا بالأهلة، كما سيأتي، ولهذا يكون من شرط صحتها التأجيل، إلا أن بعض الشيوخ حكى فيها قولاً آخر: إنها إذا وقعت مطلقة حملت
على سنة واحدة، ولا تكون فاسدة تستحق الثمار فيها بظهور الثمرة فيها اتفاقاً، كما قال المصنف فالاتفاق عائد على المسألة الأخيرة.
خليل: ولا يعود على الجميع لوجود الخلاف في الأولى، واختلف في القراض، فالمشهور أن العامل لا يملك الربح بمجرد ظهوره، والفرق بينها وبين القراض أن الربح تجبر به الخسارة في القراض، ولو ملكه لما جبرت الخسارة به، وقيل: يملكه في القراض ملكاً غير مستقر لكون الخسران يجبر به، فإذا وقعت القسمة استقر ملكه عليه.
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ، فَلا يَجُوزُ فِي الْمَوْزِ وَالْقَصَبِ وَالْبَقْلِ
أي: وشرط المعقود عليه ولم يجز مساقاة ما لا يخلف لبعد شبهه عن محل النص وهو النخل، ولأن بعض هذا النوع إذا استقي بدا صلاحه فيعود هذا الشرط إلى الذي بعده، فقال في المدونة: ولا تجوز مساقاة القصب؛ لأنه يساقى بعد جواوز بيعه، وكذلك القرط والبقل والموز، وإن عجز عن ذلك ربه، لأن ذلك كله بطن بعد بطن، وجزة بعد جزة. وقوله في المدونة: لأنه يساقى بعد جواز بيعه، يعني: لأنه إنما يساقى بعد استقلاله، وهو بعد استقلاله يجوز بيعه. ونقل ابن القاسم في مجالس أبي زيد إجازة مساقاة ما يخلف، وليس بشيء، وعلى المشهور هو مقيد بما إذا كان مقصوداً، إلا أن سحنون أجاز في العتبية مساقاة الحائط وفيه شيء من الموز: الثلث فأقل. قال في البيان: وهو تفسير لمذهب مالك. سحنون: وإذا كان يسيراً فيكون بينهما ولا يجوز أن يشترطه أحدهما، أما مساقاة البقول فما كان منها ظاهراً؛ كالقصب والكزبرة والكرنب فلا تجوز مساقاته عند مالك وابن القاسم، وقال عبد الرحمن بن دينار: يجوز ذلك إذا نبت وعجز ربه عن عمله قبل أن يحل بيعه، وأما الأصول المغيبة في الأرض كالجزر واللفت والبصل، ففي الموازية منع مساقاتها، وفيها أيضاً عن ابن القاسم الجواز إذا ظهرت من الأرض، وعجز عنها ربها، وكذلك
أجاز في المدونة المساقاة على البصل وقصب السكر إذا عجز عنه ربه، ونقل عن ابن القاسم منع مساقاة القصب وإن عجز عنه ربه.
ابن المواز: بناء على الأول، ولا يجوز أن يشترط خلفه القصب في المساقاة، كما لا تجوز مساقاته إذا لم يظهر من الأرض، وجوز ابن نافع مساقاة [607/ أ] الأصول المغيبة والمقاثي وإن لم يعجز عنها ربها.
ابن يونس: واختلف في الريحان، فقيل: تجوز مساقاته، وقيل: لا، فوجه المنع؛ لأنه كالبقل يجز ويخلف، ووجه الجواز أنه إذا جزه لم ينتفع به، واحتاج إلى السقي، فيجوز أن تساقى منه الجزة الأولى دون الخلفة، وقيل: القياس أن تجوز المساقاة عليه وعلى خلفته أما إن كانت النخلة تطعم في السنة مرتين فلا بأس بمساقاتها.
وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَإِنْ حَلَّ فَإِجَارَةُ
هذا معطوف على قوله: (أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ) وكذلك قوله بعد ذلك: (وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي ..) والظاهر أن كلامه مشتمل على ثلاثة شروط في قوله (أَنْ يَكُونَ مِمَّا لا يُخْلَفُ) قائماً مقام شروط؛ لأنه اسم جنس مضاف، فيفيد العموم، ويحتمل أن يريد بقوله:(وَشَرْطُهُ) شرطاً واحداً، ويكون قوله:(وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ) و (وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي) أجزاء الشرط، وقولنا الأول هو الظاهر؛ لأنه في الجواهر. كذلك قوله:(فَإِنْ حَلَّ فَإِجَارَةُ) مرفوع على خبر ابتداء مضمر أي فهو إجارة، قال في الجواهر: إذا حل بيع الثمار وغيرها والمقاثي لم تجز المساقاة عليها وإن عجز عنها ربها، قال سحنون: تجوز مساقاة ما جاز بيعه وهي إجارة بنصفه.
ابن عبد السلام: وكأن المصنف حمل كلام سحنون على الموافقة لابن القاسم في المعنى، وأن هذه الصورة إذا وقعت مضت على مذهبهما معاً بإجارة.
خليل: وفيه نظر؛ لأن هذا الحمل على خلاف ما فهمه أهل المذهب من حمل مذهبه على المخالفة، وذلك أن الباجي وابن رشد وغيرهما نصوا على أن مالكاً منع ذلك، وقال: يفسخ العقد ولا يكون إجارة فاسدة، وأن سحنون أجازها كما قاله مالك وابن القاسم، وفي المقدمات عن ابن القاسم مثل قول مالك، وعلى هذا فقول المصنف إجارة ليس كما ينبغي؛ إذ لم يبين هل هي إجارة فاسدة كما قاله مالك وابن القاسم أو إجارة صحيحة كما قاله سحنون؛ نعم ظاهره موافقة سحنون؛ لأنه إنما يحمل في الإطلاق على الصحيح، وعلى هذا فيكون المصنف لم يذكر المشهور.
فإن قيل: لم لا يقرأ قوله: (فَإِجَارَةُ) بالنصب على المصدر الموضوع موضع فعل الأمر أي فليؤاجره إجارة؟
قيل: فيه بعد؛ لأنه حينئذ يكون صريحاً في مخالفة المشهور وموافقة قول سحنون، ولأنه حينئذ لا يكون في كلامه ذكر حكمها إذا وقعت بلفظ المساقاة وهو المقصود، فإن قيل: فما وجه قول مالك؟ قيل: علله الباجي بأن المساقاة تتضمن أن على العامل النفقة على رقيق الحائط، وجميع المؤن وإن لم يكن ذلك معلوماً، ولا يجوز ذلك في الإجارة، وعلله صاحب البيان وابن مرزوق بأن الثمرة إذا أجيحت في المساقاة لم يكن له قيام في الجائحة، وخير بين أن يتمادى أو يترك، وفي الإجارة له القيام بالجائحة، والله أعلم، وعلله بعضهم بأن العالم في المساقاة لا يستحق شيئاً إلا بظهور الثمرة، والأجير قد يستحق الأجرة بمجرد العقد وقد يستحقها بمقدار العمل، فاشتمل العقد على متناف، وأخذ صاحب المقدمات وعياض من هذه المسألة أن الإجارة لا تنعقد بلفظ المساقاة.
ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون منع المساقاة في هذه المسالة لتنافي الأحكام، وأجاز في الموازية أن يدفع إليه نخلاً مساقاة بتمر من نخل آخر قد أزهى، ولم يلتفت إلى لفظ المساقاة.
وَلِذَلِكَ لَوْ جَمَعَهُ مَعَ سَنَةٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ
ولا أجد أن ما حل بيعه مع سنة أخرى؛ لأن الصفقة حينئذ جمعت حلالاً وحراماً، وهذه الصورة لا تجوز على قول سحنون، لاشتمال هذا العقد على المساقاة والإجارة، وإنما يجيزه سحنون إذا انفرد، قاله الباجي.
وَيُغْتَفَرُ طِيبُ نَوْعٍ يَسِيرٍ مِنْهُ
هذا الفرع ذكره في الموازية، أي إذا كان في الحائط أنواع من الثمر، فطاب منه نوع يسير، أنه تجوز مساقاته، وإن كان كثيراً فلا تجوز المساقاة فيه ولا في غيره، هكذا نقل الباجي عن الموازية، وحكى عنها اللخمي المنع، ولعل معناه أن يكون كل واحد من النوعين ما طاب وما لم يطب كثيراً، أما لو كان الحائط كله نوعاً واحداً وطاب بعضه، فإنه لا تجوز المساقاة فيه؛ لأن بطيب البعض يجوز البيع، قاله ابن يونس وغيره، وهو يؤخذ من كلام المصنف، لأن قوله:(نَوْعٍ) يخرج هذه الصورة، واعلم أنه إنما يشترط في الثمرة ألا تبلغ إلى حد يجوز بيعها في الحائط الذي يعمل فيه، وأما لو ساقى حائطاً لم تطب ثمرته بنصف أخرى مثلاًن فقال مالك: إذا كان بعد أن طابت ثمرة الحائط الذي يعطي منه فلا بأس إذا كان السقي معروفاً وهو بمنزلة الأجرة.
اللخمي: وإذا طاب بعض الحائط ولم يكن باكوراً لم تجز مساقاته على قوله في المدونة: يجوز بيعه حينئذ، وإن كان الذي طاب باكورا وكانت المساقاة على أن يسقي جميع الحائط، ويأخذ الجزء مما طاب خاصة جاز ذلك، وتكون أجرة بمنزلة من أعطى حائطين قد طابا أحدهما على أن يأخذ الجزء مما طاب، وإن كانت المساقاة على أن يسقي ما لم يطب ومنه يأخذ جزأه أو مما طاب ولم يطب لم يجز، وإن كانت المساقاة على أن يسقي ما طاب وحده ومنه يأخذ جزأه قولاً واحداً.
خليل: انظر هنا فإنه يقتضي جواز المساقاة على ما حل بيعه، ولعله يذهب إلى حمل قول سحنون على الموافقة، والله أعلم.
اللخمي: وإنما لم يجز أن يسقي الحائط على أن يأخذ الجزء من الثمر ما طاب وما لم يطب؛ لأنها صفقة جمعت مساقاة وبيعاً، وهو أيضاً جعل وبيع، ويدخله مساقاة ما لم يطب بجزء من غيره؛ لأن خدمة ما طاب أقل وخدمة ما لم يطب أكثر، وكل هذا إذا كان كل واحد منهما [607/ ب] كثيراً؛ لأنه مقصود في نفسه، قال غير واحد: ومحمل قول مالك في جواز مساقاة ما قد طاب إذا لم يكن في الحائط رقيق ولا دواب أو كانوا فيه وشرط إطعامهم على رب الحائط، وأما لو اشترط إطعامهم على العامل لم يجز؛ لأنه طعام بطعام غير يد بيد؛ أي: لأنه يأخذ في نصيبه طعاماً، وقد كان أخرج للرقيق والدواب طعاماً، وهذا الشرط أيضاً يأتي على قول سحنون الذي يجيز المساقاة فيما حل بيعه، وقاله ابن عبد السلام.
وَأَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ وَالْمَقَاثِي مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ رَبُّهُ عَلَى الأَشْهَرِ
الأشهر مذهب المدونة، ومقابله لابن نافع بإجازة المساقاة على ذلك وإن لم يعجز عنه ربه.
اللخمي: ولم يفرق في ذلك بين أن يبرأ أو لا، وزاد اللخمي في الزرع قولين آخرين:
أحدهما: الكراهة، ونسبه للموازية، والثاني: لابن عبدوس قال: القياس عندي ألا تجوز مساقاة الزرع أي: لأن المساقاة إنما وردت في الزرع؛ إذ كان زرع خيبر تبعاً لثمارها، والتبع لا حكم له فوجب أن يقتصر بالرخصة على ما ورد، ووجه قول مالك أن العلة في جواز المساقاة الضرورة، ومع العجز تتحقق الضرورة.
الباجي: ومعنى العجز عن الزرع: أن يعجز عن عمله الذي يتم به أو ينمو أو يبقى وإن كان له ماء فقد يكون عاجزاً.
تنبيه:
لمساقاة الزرع ونحوه شروط: أولها: ما ذكره المصنف. الثاني: أن تكون فيه مؤنة، ولو تركت لمات. الثالث: أن يستقل من الأرض ويبرز. الرابع: أن لا يبدو صلاحه.
فرع:
قال مالك في المدونة وغيره: وتجوز المساقاة على شجر البعل، وكذلك ما كان يشرب بالسيح؛ لأنه قد يعجز عن الدواب والأجراء، قيل لمالك: فزرع البعل كزرع إفريقية ومصر وهو لا يسقى، قال: إن احتاج من المؤنة ما يحتاج إليه شجر البعل ويخاف هلاكه إن ترك، جازت مساقاته، وإن كانت لا مؤنة فيه إلا حفظه وحصاده ودرسه لم يجز وتصير إجارة فاسدة وليس زرع البعل كشجره، وإنما تجوز مساقاة زرعه على الضرورة والخوف، وقد يقال: الأظهر هو المشهور؛ لأن الأشهر يؤدي إلى زيادة الفرع على الأصل.
وَلا يُسَاقَى الْبَيَاضُ إِلا تَبَعاً ثُلُثاً فَمَا دُونَهُ بِقِيمَةِ الْجَمِيعِ
البياض عبارة عن الأرض الخالية من الشجر؛ أي: لا يجوز إدخال البياض في المساقاة إلا بشرط أن يكون تبعاً للشجر، وسواء كان بين أضعاف السواد أو مفرداً عن الشجر، قاله ابن المواز.
وقوله: (ثُلُثاً) بدل أو عطف بيان من (تَبَعاً) وذكر المصنف التبعية لينبه على علة الجواز.
مالك: وكان بياض خيبر يسيراً بين أضعاف السواد.
مالك: وبذلك قضى أهل العلم.
وقوله: (بِقِيمَةِ الْجَمِيعِ) بيان لنسبة الثلث يعني أن التبعية منسوبة إلى جميع الثمرة، كما لو كان كراء الأرض على انفرادها خمسة دنانير، وكانت الثمرة المعتاد منها بعد إسقاط
ما أنفق عليها تساوي عشرة، هكذا نص عليه في المدونة، وقال ابن عبدوس: إنما يراعى أن يكون البياض تبعاً للثمرة كلها إذا كان بينهما، فأما إذا ألغي فإنما يراعى فيه أن يكون تبعاً لحصة العامل فقط.
اللخمي: وما ذكره ابن القاسم من الإسقاط غلط؛ لأن السقي والعلاج ثمن للثمرة فكيف يصح أن يحط ثمن أحدهما من الآخر، وإنما باع العامل منافعه من عمل وسقي بالجزء الذي يأخذه بعد الطيب، وإنما يطيب ذلك الجزء على رب الحائط، ولهذا وجبت الزكاة فيه إن كان مجموع غلة الحائط خمسة أوسق، وإن كان العامل عبداً أو نصرانياً.
فَإِنْ سَكَتَا فَقَالَ مَالِكُ: يُلْغَى لِلْعَامِلِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ: إِنْ كَانَ ثُلُثَ نَصِيبِهِ فَمَا دُونَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لِرَبِّهِ ..
تبع في نسبة هذا القول لمحمد صاحب النكت، ونسبه ابن أبي زيد والباجي واللخمي وابن يونس إلى ابن عبدوس، ونسبه ابن شاس إليهما، واعلم أن البياض إن كان أكثر من الثلث لم يجز أن يدخلاه في المساقاة، ولا يلغى للعامل بل يبقى لربه، وإن كان يسيراً فأربعة أوجه: إما أن يسكتا عنه، وإما أن يدخلاه، وإما أن يشترطه ربه، وإما أن يشترطه العامل، تكلم المصنف على الوجه الأول بقوله:(فَإِنْ سَكَتَا) والرواية الأولى لمالك في الموازية وبها قال محمد، ولم يحقق محمد نسبتها لمالك، واحتج لها محمد بأن ذلك هو السنة منه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَرُوِيَ أَنَّهُ لِرَبِّهِ) هو في كتاب ابن سحنون، قال: وإن زرعه العامل بغير إذن رب الحائط فعليه كراء المثل. وهو أحسن؛ لأن مفهوم المساقاة أن يسقى ما يحتاج إلى السقي، وهو النخل والبياض خارج عن هذا، وهو الذي في الجلاب.
ابن عبد السلام: لعل محمد لا يريد بقوله: وتلك السنة أن الحكم عند الإطلاق إلغاؤه للعامل بالسنة، ولعله يريد أن الواقع في قصة خيبر إلغاء البياض لليهود، وهو أحسن ما
يحمل عليه، ومع ذلك فلا يصح لما في الصحيح أنه عليه السلام: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.
فَإِنْ أَدْخَلاهُ فِي الْمُسَاقَاةِ فَبِجُزْئِهَا، وَبَذْرُهُ عَلَى الْعَامِلِ وَإِلا فَسَدَ
هذا هو الوجه الثاني أعني إذا اشترط إدخاله، فإن قلت: هو تكرار مع قوله في صدر المسألة (وَلا يُسَاقَى الْبَيَاضُ
…
إلى آخره) قيل: كلامه أولاً إنما هو إعطاء قاعدة، ثم تكلم على وجه المسألة، والله عز وجل أعلم.
وقوله: (فَبِجُزْئِهَا) أي فيجوز على مثل جزء المساقاة، فحذف العامل والمضاف والباء بمعنى على كقوله تعالى:(مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ)[آل عمران: 75]، أي: على قنطار.
وقوله: (وَبَذْرُهُ) أي: البياض، وفي بعض النسخ:(بَذْرُهَا)، ويعود على الأرض الخالية المفهومة من السياق.
وقوله: (وَإِلا) أي: وإن لم يكن بجزئها بل بجزء مخالف أو كان بجزئها لكن والبذر ليس من عند العامل فسد [608/ أ] العقد، وهو أولى من تخصيص ابن عبد السلام.
وقوله: (وَإِلا فَسَدَ) يعني: أنه يشترط في جميع مسائل هذا الفصل أن يكون بذر البياض على العامل؛ لأنه لم يرو أنه عليه الصلاة والسلام دفع لأهل خيبر شيئاً. وخالف أصبغ في اشتراط مساواة جزء البياض للحائط ونص ما نقله الباجي: ولو كان البياض تبعاً فاشترط العامل ثلاثة أرباعه، فقد أبى ذلك ابن القاسم وكرهه أصبغ ثم أجازه.
فوجه الأول أنه لما اشترط البعض، كان ذلك زيادة في المساقاة، ولم يكن إلغاء؛ لأن الإلغاء إنما يكون في جميعه، ووجه الثاني: أنه اشترط أرضاً هي تبع؛ كما لو اشترط جميعها.
وَلَوِ اشْتَرَطَ رَبُّهُ أَنْ يَعْمَلَهُ لِنَفْسِهِ فَفِي الْمُوْطَأِ: لا يَصْلُحُ؛ لِنَيْلِهِ سَقْيَ الْعَامِلِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ ..
هذا هو الوجه الثالث: وقوله: (لِنَيْلِهِ سَقْيَ الْعَامِلِ) أي: لأن سقي العامل ينال البياض، وذلك زيادة اشترطها رب المال على العامل.
ابن عبد السلام: وروي في القول الثاني: إن العامل لا يتكلف لذلك زيادة في العمل؛ لأنه إنما سقى شجرة، وإنما ينتفع به البياض بعد ذلك كالذي ينتفع به الجار ونحوه.
ابن راشد: ولم أر أن هذا القول معزو.
ابن حبيب: ويجوز لربه الاشتراط إذا كان العامل لا يسقيه، كما إذا كان يعالج وهذا ينبغي أن يكون تقييداً لما في الموطأ.
تنبيه:
سكت المصنف على الوجه الرابع، وهو أن يشترطه العامل ولا خلاف في جوزاه، والمشهور جواز إلغائه للعامل إذا كان ثلثاً لجميع الثمرة. وقال ابن عبدوس: لا يجوز إلا أن يكون تبعاً لنصيب العامل، ونص مالك في المدونة وغيرها على أن إلغاءه هو المطلوب هنا، ولفظه في المدونة: مالك: وأحب إلينا أن يلغى البياض، فيكون للعامل وهو أصله.
صاحب النكت: فإن اعترض معترض، وقال: أليس قد ساقى عليه الصلاة والسلام أهل خيبر على شطر ما يخرج من حب أو تمر.
فلم يستحق مالك إلغاء البياض، ولم يستحب ما في الحديث من كونه بينهما، فالجواب أنه جاء في حديث آخر: أنه إنما ساقاهم على النخل خاصة، وترك لهم بياض النخل، فاستحب مالك هذا إذ في كون ذلك بينهما كراء الأرض بما يخرج منها.
وَبَيَاضُ الزَّرْعِ كَبَيَاضِ النَّخْلِ
يعني: إذا ساقى على زرع بشروطه وفيه بياض، فهو كما إذا ساقاه على نخل فيه بياض، فتجري الوجوه المتقدمة.
والشَّجَرُ التَّبَعُ فِي الزَّرْعِ يَلْزَمُ دُخُولُهُ
أي: إذا ساقى على زرع وفيه شجر تبع للزرع لزم دخول الشجر في المساقاة، قال في المدونة: ولا يجوز أن يلغي للعامل كالبياض، ولا أن يكون لرب الأرض بل بينهما، وروى ابن وهب عن مالك جواز إلغاء ذلك للعامل كمكتري الدار والأرض فيها نخل تبع يشترطان ثمرتها، ولا يجوز أن يكون بينهما.
ابن المواز: ولم أعرف أحداً استحسن ما رواه ابن وهب ولا قال به. والمعروف ما قاله ابن القاسم، قال: وإنما لم يجز هنا الإلغاء؛ لأن السنة إنما وردت بإلغاء البياضن وأما بإلغاء الشجر فلمالك في الموازية: ويجوز أن يساقي الحائط وفيه من الموز ما هو تبع قدر الثلث فأقل، ولا يكون لأحدهما ويكون بينهما على سقي واحد مثل الزرع الذي مع النخل.
ابن رشد: وعلى هذا يجوز إذا كان الموز يسيراً أن يشترطه كل واحد منهما على صاحبه.
تنبيه:
لما تكلم في المدونة على مسألة الشجر التبع للزرع، قال: وفيه شجر متفرقة، والظاهر أنه غير شرط، وأنه لا فرق بين الشجر المتفرقة وغيرها.
وَالزَّرْعُ وَالشَّجَرُ تَبَعاً أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ يَجُوزُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ
أي: إذا كان في الأرض زرع وشجر سواء كان أحدهما تبعاً للآخر أو غير تبع يجوز أن يساقي الجميع بجزء متحد كثلث أو ربع، إلا أن الشجر إذا كان تبعاً اشترط في الزرع أن يعجز عنه ربه، وإن كان الزرع تبعاً للشجر لم يشترط فيه ذلك، قاله ابن المواز.
ابن عبد السلام: وقد تقدم قول المصنف أن الشجر إذا كان تبعاً للزرع يلزم دخوله في المساقاة، ولا يصح أن يلغي للعامل ولا لرب المال، فأحرى إذا كان غير تبع، فعلى هذا يكون مراد المصنف بيان شيء ىخر غير الذي قدمه، لئلا يلزم التكرار مع ملاصقة بعضه لبعض، وذلك الشيء هو الذي صرح به في قوله:(يَجُوزُ بِجُزْءٍ وَاحِدٍ) فيكون مراده بيان شرط الجواز لا بيان أصل الجواز.
(وَالزَّرْعُ) مبتدأ (وَالشَّجَرُ) مبتدأ ثان خبره (يَجُوزُ) والجملة خبر الأول، و (تَبَعاً أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ) حال.
الْمَاخُوذُ شَرْطُهُ الْجُزْئِيَّةُ كَرِبْحِ الْقِرَاضِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي نِسْبَتِهَا
فيه حذف مضاف، أي علم الجزئية، ولو أبقيت كلام المصنف على ظاهره لزم ألا تجوز مساقاة الحائط على جميع ثمره، وهي جائزة، ويدل أيضاً على حذف المضاف قوله:(كالْقِرَاضِ) فإنه صرح بالمضاف في القراض.
وقوله (غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِي نِسْبَتِهَا) أي: لا يجوز أن يدفع إليه نصف الحائط بالنصف ونصفه بالثلث، ولا نوعاً منه بالنصف، ونوعاً آخر بالربع، ولا سنة بكذا وسنة بكذا.
وَيَجُوزُ فِي حَوَائِطَ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَّفِقَةٍ فِي صَفْقَةٍ بِشَرْطِ جُزْءٍ وَاحِدٍ
أي: وتجوز مساقاة حوائط مختلفة في النوع أو في الصفقة أو مختلفة فيهما.
(فِي صَفْقَةٍ) أي: في عقد واحد بشرط جزء واحد، أما إن كانت بجزأين فلا يجوز، وعلله في المدونة بأنه قد كان في خيبر الجيد والرديء حين ساقاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنع في سماع عيسى مساقاة حائطين مساقاة واحدة إلا أن يشترط أن يكونا متساويين.
ابن رشد: ولم يختلف أنه لا تجوز مساقاة الحائطين على جزأين سواء كانا متفقين أو مختلفين، واختار اللخمي جواز الاختلاف في الجزء على حسب اختلاف المؤنة بينهما، قال: وليس في الحديث ما يمنع ذلك.
أَمَّا فِي صَفَقَاتٍ فَلا شَرْطَ
أي: يشترط اتحاد الجزئية.
وَاشْتِرَاطُ جُزْءٍ الزَّكَاةِ جَائِزُ كَالْقِرَاضِ
تقدم في ذلك أربعة أقوال.
فرع:
ولو اشترط الزكاة على العامل ونقص الحائط نصاباً [608/ ب] فقال: يقتسمان الثمر نصفين.
وقال سحنون: يقتسمانه أعشاراً لصاحب الحائط ستة، وقيل: يقتسمانها من عشرين لربه منها أحد عشر، وقال ابن عبدوس: يقتسمانها أتساعاً لرب الحائط خمسة، ولهذا الاضطراب يكون القول بعدم جواز اشتراط الزكاة هو الظاهر، وإن كان خلاف المشهور، ولهاذ قال صاحب البيان وابن زرقون: لعله تكلم في المشهور على ما إذا كان الحائط كثيراً أو تكلم في الشاذ، وهو قوله في الأسدية على ما إذا كان الحائط يسيراً لا يؤمن أن يقل عن النصاب فلا يكون خلافاً، وإن سكت عن الزكاة ففي المدونة الشأن أن يخرجا الزكاة ثم يقتسمان ما بقي.
الْعَمَلُ لا يُشْتَرَطُ تَفْصِيلُهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ
نحوه في الجواهر، وكلاهما محمول على ما إذا استقر فيه عرف غير مختلف ألا ترى إلى قولهما:(وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ).
الباجي: في ما كان له عرف قام مقام الوصف، وما لم يكن له عرف فلابد من وصفه من الجذاذ والسقي والحرث وسيأتي العمل.
وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الثَّمَرَةُ مِنَ السَّقْيِ وَالإِبَارِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجَدَادِ وَإِقَامَةِ الأَدَوَاتِ مِنَ الدِّلاءِ والْمَسَاحِي والأُجَرَاءِ والْغِلْمَانِ والدَّوَابِّ ونَفَقَتِهِمْ.
اختلف في الإبار والتلقيح، فجعلهما مالك مرة على صاحب الحائط، وفي المدونة وغيرها هو على العامل، وحمل ذلك بعضهم على الخلاف، وجمع بعضهم بينهما، فقال: معنى قوله: "على صاحب الحائط" أي: الشيء الذي يلقح به، ومعنى قوله:"على العامل" أي: عمل ذلك وتعليق ما يحتاج إلى تعليقه، وكذلك على العامل الحصاد والجداد وتيبيس الثمرة.
ابن القاسم: والدراس؛ لأنهم لا يستطيعون قسمه إلا بعد درسه، وعلى العامل إقامة الأدوات كالدلاء- جمع دلو- والمساحي والأجراء- جمع أجير-، وكلامه ظاهر التصور.
واختلف في عصر الزيتون. فقال ابن القاسم: ذلك على ما شرط منها، هكذا حكي الباجي عن المدونة، والذي في المختصرات عندنا: إن شرط قسمته حباً جاز، وإن شرط عصره على العامل جاز ليسارته.
ابن عبد السلام: وليس عصره عندنا باليسير، وكذلك الحصاد في غالب الأمر ولقط الزيتون وجذاذه.
وقال ابن المواز: إن لم يكن فيه شرط فعصره بينهما، وقال سحنون عن ابن القاسم: على العامل عصره إذا كان ذلك غالب عمل أهل البلد، وإن شرط على العامل إن لم يكن ثم عرف جاز، وإن شرط على رب الحائط عصر حصة العامل لم يجز.
سحنون: منتهى عمله جناه، وقال في كتاب محمد: إن لم يشترط على أحد فهو بينهما. وقال ابن حبيب: العصر على العامل وإن شرط على صاحب الحائط وكان له قدر لم يجز ورد العامل إلى إجارة مثله.
قال في المدونة: وإن شرط العامل على رب النخل صرام النخل لم ينبغ ذلك.
فرع:
فإن قصر العامل على بعض ما شرط عليه ففي العتبية عن سحنون في من شرط عليه حرث الأرض ثلاث حرثات، فحرث حرثين ينظر جميع حمل الحائط، والمشترط عليه من سقي وحرث وقطع، فإن كان ما ترك الثلث حط من نصيبه ثلثه أو الربع حط الربع، أما لو كان ما ترك من العمل وجد له بدل سماوي مثل أن يسقي الزرع بعض السقي فيتسغني عن المطر، ففي الموازية والعتبية: لا يحاسبه رب الحائط، بذلك قال في البيان، ولا خلاف في ذلك، قال: بخلاف الإجارة بالدنانير والدراهم على أن يسقي له حائطه زمان السقي، وهو زمان معلوم عند أهل المعرفة فيسقي المطر الحائط، فيجب أن يحط من إجارته قدر ما أقام المطر من الحائط ويسقط عنه في السقي.
وَمَا كَانَ فِيهِ يَوْمَ السَّقْيِ؛ فَيَجِبُ لِلْعَامِلِ الاسْتِعَانَةُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ
ولا تجوز المساقاة على إخراجه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يخرج شيئاً مما في الحوائط.
اللخمي: قال ابن نافع ويحيى في كتاب ابن مزين: إذا كان في الحائط رقيق لا يدخلون إلا بشرط، وكذلك أيضاً لا يجوز على المشهور اشتراط العامل ما لم يكن في الحائط، وقال ابن نافع: لا بأس أن يشترط من الرقيق ما ليس فيه.
وَالأُجْرَةُ عَلَى رَبِّهِ بِخِلافِ نَفَقَتِهِمْ وكِسْوَتِهِمْ.
لما ذكر أنه يجب للعامل الاستعانة بما في الحائط من أجراء وغيرهم، بين أن الأجرة على ربه، وهكذا في الواضحة، وقيده اللخمي بما إذا كانت الأجرة وجيبة فتكون على رب الحائط إلى المدة التي واجبهم عليها، فإن فضل من مدة المساقاة عن مدة الوجيبة شيء فعلى العامل، وإن كانت مدة الكراء غير وجيبة؛ لأنه قال بعد أن قرر أن الأجرة على ربه: وهكذا إذا كان الأجير مستأجراً لجميع العمل، وإن كان مستأجراً لبعضه فلم أر في ذلك نصاً، وعندي أن عليه أن يقبض من يتم العمل؛ لأنه لو مات للزمه ذلك، فكذلك إذا انقضت مدة أجرته.
قوله: (بِخِلافِ نَفَقَتِهِمْ وكِسْوَتِهِمْ) أي: فإنها على العامل، وفي مختصر ما ليس في المختصر: هي على رب الحائط فقدم في الأول الخبر؛ لأنه عليه السلام لم يتكلف شيئاً من ذلك، وقدم في الثاني القياس؛ لأنهم رقيق رب الحائط ودوابه.
ابن القاسم: وإن جهل العامل فلم يستثن ما في الحائط من رقيق ودواب وقال ربه: إنما ساقيتك بغيرهم، إنهما يتحالفان ويتفاسخان.
الشيخ أبو محمد: انظر هذا وهو لا يجوز إخراجهم عنده فصار مدعيا لما لا يجوز.
الباجي: ومعناه على أصل ابن القاسم أن يجهل العامل، فلم يقرر على صاحب الحائط أنهم في الحائط يوم المساقاة ولا يشهد عليهم بذلك، ويعتقد أنهم في الحائط وأنهم له بمجرد العقد، ثم اختلفا، فقال صاحب الحائط: لم يكونوا في الحائط يوم العقد، وقال العامل: بل كانوا فيه، قال: وقد ذكر ابن مزين رواية عيسى هذه وزاد فيها: إلا أن يستثني رب الحائط الرقيق، فتلزم المساقاة إلى أجلها، وهذا يدل على صحتها على حسب ما قلناه، وأما لو قال رب [609/ أ] الحائط: إنهم كانوا في الحائط يوم العقد، وشرط إخراجهم، وأنكر ذلك على
العامل، وقال: شرطت إبقاءهم وأنكر الشرط، فالقول قوله؛ لأنه يدعي الصحة، ولو قال رب الحائط: لم أشترط شيئاً لكني اعتقدت إخراجهم لم ينظر إلى ذلك وكانوا للعامل.
وَلِلْعَامِلِ خَلَفُ مَنْ مَاتَ أَوْ مَرِضَ، وَلَوْ شَرَطَ أُجْرَتَهُمْ أَوْ خَلَفَهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُزْ
…
يعني: وكذلك لو غاب أو أبق، وهذا معنى ما في المدونة والموطأ، ووجهه الباجي بأن العقد كان على عمل في ذمة صاحب الحائط ولكنه تعين بالتسليم واليد كالذي يكري راحلته مضمونة ثم يسلم إحدى رواحله إلى الراكب، فإنه ليس له أن يبدلها، ولم يكن ذلك بمنزلة العبد المستأجر بعينه؛ لأنه لم يكن في الذمة.
وقوله: (وَلَوْ شَرَطَ أُجْرَتَهُمْ أَوْ خَلَفَهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لَمْ يَجُز) لأنه شرط مخالف لسنة المساقاة.
وَمَا رَثَّ مِمَّا كَانَ فِيهِ فَفِي تَعْيينِ مُخْلِفِهِ قَوْلانِ
يعني: أنه إذا بنينا على ما تقدم أنه يجب للعامل الاستعانة بما فيه من دلاء أو حبال ونحو ذلك، فلو (رَثَّ) ذلك- أي: بلي- فاختلف في (تَعْيينِ مُخْلِفِهِ) هل هو رب الحائط أو العامل؟ والقولان للقرويين.
الباجي: وكونه على العامل أظهر؛ لأنه إنما دخل على أن ينتفع بها حتى تهلك أعيانها وأمد امتهانها معلوم بخلاف العبد والدابة.
فَإِنْ سُرِقَ فَعَلَى رَبِّهِ إِخْلافُهُ، فَإِذَا مَضَى قَدْرُ الانْتِفَاعِ بِالْمَسْرُوقِ جَاءَ الْقَوْلانِ
أي: (فَإِنْ سُرِقَ فَعَلَى رَبِّهِ إِخْلافُهُ) اتفاقاً، فإذا أخلفه ربه وانتفع به العامل قدر ما ينتهي المسروق إليه ثم يختلف حينئذ، فمن قال: الخلف إذا بلي في الفرع السابق على ربه، قال: يستمر العامل على الاستعمال، ومن قال: الخلف على العامل أخذ رب الحائط ذلك،
وهذا معنى قوله: (فَإِذَا مَضَى قَدْرُ الانْتِفَاعِ بِالْمَسْرُوقِ جَاءَ الْقَوْلانِ) في تعيين مخلفه، وإنما يأتي هذا إذا أخلفه جديداً.
ابن عبد السلام: وذلك عندي لا يلزم، وإنما يلزم أن يخلفه بما هو مثل المسروق.
وَلا يَجُوزُ شَرْطُ مَا يَبْقَى بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَحَفْرِ بِئْرٍ وَإِنْشَاءِ غَرْسٍ وَاغْتُفِرَ اشْتِرَاطُ إِصْلاحِ الْجُدُرِ وَكَنْسِ الْعَيْنِ وَرَمِّ الْحَوْضِ ..
الأعمال ثلاثة:
الأول: ما هو في نفس الشجر لأجل الثمرة فهذا جائز اشتراطه على العامل بل هو عليه؛ وإن لم يشترط إذ ذاك عوض عن الثمرة التي يأخذها.
الثاني: ما ليس فيها ويبقى عند انقضاء المساقاة؛ كحفر بئر وإنشاء غرس، فلا يجوز اشتراطه على العامل؛ لأن ذلك زيادة، وإذا امتنع هذا فلأن يمتنع اشراطه عمل شيء خارج عن الحائط؛ كبناء بيت ونحو ذلك أولى.
قال في الموازية: ولا يشترط على العامل، غرس نخل يأتي بها من عنده، فإن كانت من عند رب الحائط في أصل شيء يسير لا تعظم فيه المؤنة فجائز، ولا يجوز في كثير.
الثالث: ليس هو عملاً في نفس الشجر ولا خارجاً عنه، ولا يبقى بعد مدة المساقاة نحو إصلاح الجدار وكنس العين ورم الحوض، قال في الرسالة: من سد الحظيرة وهي: العيدان التي في أعلى الحائط مرتبطة ليمنع من التسور عليه، ورم الضفيرة وهي: موضع يجمع فيه الماء كالصهريج، وكذلك أيضاً رم العين، أي تنقيتها، وسرو الشرب، والسرو: الكنس، والشرب جمع شربة وهي: حياض يستنقع فيها الماء حول الشجر، ورم القف وهو: الحوض الذي يفرغ فيه الدلو فيجري فيه إلى الضفيرة، ويقال له: السلوقية، وإصلاح الغرب وهو: الدلو الكبير، الذي يرفع به الماء، قال في العتبية: رم القف وإصلاح كسر
الزرنوق قيمته الدريهمات والدنانير على رب الحائط إن لم يشترطه، وروي عن أشهب أنه لا يشترط على العامل إصلاح كسر الزرنوق.
وَلا يَجُوزُ مُشَارَكَةُ رَبِّهِ وَلا اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ
أي: لا يجوز لرب الحائط أن يدفع إلى العامل الحائط على أن يكون شريكاً معه بالنصف أو بغيره من الأجزاء، قال في العتبية: وإنما المساقاة أن تسلم الحائط للداخل، وكذلك لا يجوز اشتراط عمل يده؛ لأن في ذلك تحجيراً، وأجاز سحنون أن يشترط عمل ربه معه إذا كان الحائط كبيراً يجوز فيه اشتراط الغلام والدابة. قال في المدونة: ولا ينبغي للعامل أن يشترط إلا ما قل مثل غلام أو دابة، ولا يجوز ذلك في حائط صغير، ورب الحائط تكفيه دابة واحدة، فيصير كأنه اشترط جميع العمل على ربه، فإن قلت: فما الفرق؟ قيل: فرق بينهما صاحب النكت بأنه ليست يد المالك كيد الغلام؛ لأن يد المالك إذا بقيت معه فكأنه لم يسلمه إليه ولا رضي بأمانته، والله أعلم.
فرع:
وإذا اشترط العامل دابة أو غلاماً، فقال مالك في العتبية وسحنون: إن ذلك لا يجوز إلا بشرط الخلف إن هلكا، وقيل: يجوز ذلك وإن لم يشترط الخلف فالحكم يوجبه، قال في البيان: وهو ظاهر ما في الواضحة وما في المدونة محتمل للوجهين، قال: والذي أقول به: إنه تفسير لجميع الروايات، إنه إن عين الغلام والدابة بإشارة إليهما أو تسميته فلا تجوز المساقاة على ذلك إلا بشرط الخلف، وإن لم يعين فالحكم يوجب الخلف وإن لم يشترط.
وَيُشْتَرَطُ تَاقِيتُهَا، وَأَقَلُّهُ إِلَى الْجَدَادِ، فَإِنْ أَطْلَقَ حَمَلَ عَلَيْهِ.
تصوره ظاهر، قال مالك في المدونة: والشأن في المساقاة إلى الجداد، لا تجوز شهر ولا سنة محدودة، وهي إلى الجداد إذا لم تؤجل.
ابن القاسم: وإن كانت تطعم في العام مرتين فهي إلى الجداد الأول حتى يشترط الثاني.
وَتَجُوزُ إِلَى سِنِينَ وَالأَخِيرَةُ بِالْجَدَادِ مَا لَمْ تَكْثُرْ جِدَّاً، قِيلَ: عَشَرَةُ، قَالَ: لا أَدْرِي تَحْدِيدَ عَشَرَةٍ وَلا ثَلاثِينَ وَلا خَمْسِينَ ..
هكذا في المدونة، [609/ ب] وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يثبت عنده في ذلك شيء من السنة، والثاني: أنه رأى أن ذلك يختلف باختلاف الحوائط؛ إذ الجديد ليس كالقديم، فلو حدد لفهم الاقتصار على ذلك الحد.
صاحب المعين: والصواب في المساقاة أن تؤرخ بالشهور العجمية التي فيها الجذاذ، فإن أرخت بالعربية، فإن انقضت قبل الجذاذ تمادى العامل إليه، إلا أنه يستحب أن تكون المساقاة من سنة إلى أربع، فإن طالت السنون جداً فسخت. انتهى.
ولما نقل أبو الحسن يؤرخ هنا بالعجمي، قال هو: وهذا في السنين الكثيرة؛ لأن السنين بالعربي تنتقل.
قوله: (وَالأَخِيرَةُ بِالْجَدَادِ) قال في البيان: ولا خلاف في ذلك، وسواء تقدم الجذاذ أو تأخر عنها، قال مالك في الموازية: وإن ساقى حائطاً في صفر سنة إحدى وسبعين ومائة إلى صفر سنة ثلاثة وسبعين، فإن وفى الأجل قبل طيب الثمرة وقبل جذاذها لم يستكمل من يده استكمل المساقاة فيه حتى يتم جذاذه.
اللخمي: ويحتمل قوله على أن الجذاذ قريب من انقضاء ذلك الأمد، وأنهما يريان أن الثمرة تطيب في تلك المدة فيكونان قد قصدا إلى طيبها، ولو كان الطيب يتأخر عن تلك المدة فالشيء البين لم يصح ذلك؛ لأنه استعمله على بيع منافعه في تلك المدة ليأخذ ثمرة عامين.
ابن عبد السلام: إنما يتم هذا التقييد إذا لم يكن للعامل شيء في الثمرة الثالثة، وأما إن كان له منها نصيبه على نسبة ما تقدم وهو ظاهر الروايات فلا فساد فيها، والله أعلم.
وظاهر قوله: (الْجَدَادِ) جداد جميع الثمرة، وعليه جميع العمل ولو بقي عشرون نخلة. قال في الموازية: وكذلك العوائم وهي: المؤخرة الطيب، وقال مطرف وابن الماجشون: إن كانت العوائم قليلة جداً فعلى رب الحائط سقي جميع حائطه، عوائمه وما جذ منه، ويوفى العامل حقه من ثمن العوائم، وإن كانت العوائم أكثر، فعلى العامل سقي الحائط كله مثل ماإذا جد بعضه وبقي بعضه، وإن كان متناصفاً أو متشابهاً فعلى العامل أن يسقي العوائم وحدها وعلى رب الحائط سقي باقيه.
مالك في رواية ابن وهب: وإن كان في الحائط أصول مختلفة من نخل وكرم ورمان فعليه أن يسقيه كله حتى يفرغ منه.
وقال ابن الماجشون: الحكم فيه كما تقدم في العوائم، وقاله أصبغ. وقال مطرف: كلما قطعت منها ثمرة فقد انقضى سقيها قلت أو كثرت، واختاره ابن حبيب.
وَلِلْعَامِلِ أَنْ يُسَاقِيَ أَمِيناً غَيْرَهُ
هكذا في المدونة، لكن ظاهرها أنه لابد أن يكون في مثل أمانة الأول؛ لقوله: إذا كان في مثل أمانته، وعلى هذا الظاهر فهمها ابن عبد السلام: لكن صرح اللخمي بالجواز، وإن لم يكن في مثل الأمانة، زاد في المدونة: وإن ساقى غير أمين ضمن، وذكر صاحب البيان في باب المساقاة خلافاً هل يلزم أن يكون مثله في الأمانة أم لا؟ لكنه قال: قد ذكرته في باب الشفعة في رسم "إن أمكنتني" ولم يذكره في هذا الرسم نصاً، نعم ذكر ما يمكن أن يخرج منه الخلاف، وهو أن المشتري إذا أخذ الشقص إلى أجل، هل للشفيع أن يأخذ بالشفعة إلى ذلك الأجل وإن كان أقل ملاء من المشتري؟ أو ليس له أن يأخذ إلا أن يكون مليئاً كالأول، والله أعلم.
وقد صرح في موضع آخر من كتاب المساقاة أنه إنما قصد التخريج. قال في البيان: وظاهر قول مالك: له أن يساقي أميناً؛ أن المساقي الثاني محمول على غير الأمانة حتى
يثبت أنه أمين؛ بخلاف ورثته إذا مات فهم محمولون على الأمانة حتى يثبت أنهم غير أمناء، بخلاف القراض فإنهم محمولون على أنهم غير أمناء حتى يثبت أنهم أمناء، هذا ظاهر ما في المدونة في القراض والمساقاة، والفرق بينهما أن مال القراض يغاب عليه بخلاف الحائط في المساقاة.
خليل: وهذا هو الفرق بين المساقاة في إجازة مساقاة العامل غيره، وعدم جواز مقارضة العامل غيره كما قدمته. قال في المدونة: ولا تنتقض المساقاة بموت أحدهما فإن مات العامل، قيل لورثته اعملوا فإن أبوا لزم ذلك في ماله.
فرع:
قال في المدونة: قال ابن مسلمة: المساقاة بالذهب والورق كبيع ما لم يبد صلاحه، فلا يجوز أن يربح في المساقاة إلا ثمراً، مثل أن يأخذ على النصف، ويعطي على الثلثين فيربح السدس، أو يربح عليه.
قال بعضهم: وقوله: إن المساقاة بالذهب كبيع الثمرة كلام مشكل.
عياض: ومعناه عندي أنها إذا وقعت بالذهب والورق، فكأن العامل باع نصيبه من الثمر قبل أن يظهر ويحل بيعه.
وقوله: "ألا ترى .. إلى آخره" هو خلاف مذهب مالك، ومالك لا يجيز هذا، قال بعض شيوخنا: لأنه إن كان زاده السدس من الحائط، فقد باع ذلك على ربه بغير إذنه، وباع ما لم يبعه منه، ولو شرط ذلك في ذمته كان بيع الثمرة على جزأين: جزء في الحائط، وجزء في ذمة العامل وذلك فاسد. وقال غيره: معنى ما وقع من إجازة ذلك أن المساقي الثاني لم يعلم أن الأول أخذه على النصف، ولو علم بذلك لم يجز للعلة المذكورة، وكان للعامل أجر مثله. انتهى.
ابن يونس: ولمالك في الموازية: إذا أخذه على النصف ودفعه على الثلثين إلى غيره وربه عالم بذلك، فربه أولى بنصف الثمرة ويرجع الثاني على الأول بما بقي، وكذلك في العتبية عن مالك: ولا بأس أن يدفعه مساقاة لرب الحائط بأقل [610/ أ] مما اخذه إذا لم تطب الثمرة ولا يجوز بمكيلة مسماة ولا بثمر نخلة معروفة، ولا بشيء غير الثمرة، ولا بأكثر مما أخذ منه ويصير العامل يحتاج إلى أن يزيد من ثمر حائط آخر.
ابن يونس: وأجاز دفعه إلى غير رب الحائط بأكثر مما أخذه، فإذا أجاز ذلك مع غير ربه، وهو إنما يدفع أكثر مما بقي من غير الثمرة التي في الحائط، فكذلك يجوز مع ربه لا فرق بينهما، إما أن يجوز فيهما أو يمنع فيهما وهذا أبين، ويحتمل أن يفرق بينهما بأن رب الحائط عالم أنه يعطيه الزيادة من حائط آخر؛ لأنه عالم بمساقاته، والأجنبي غير عالم، فلو علم لم يجز فيها. انتهى.
وقال ابن رشد: لما ذكر مسألة الموازية وقال فيها: إن ربه عالم. هذا عندي على القول بأن السكوت ليس كالإذن وهو أحد قولي ابن القاسم، وأما على القول بأنه كالإذن، فيجب أن يكون أحق بثلثي الثمرة، ويرجع رب الحائط على العامل الأول، قال: بمثل سدس الثمرة، وإن كان الأول أحق بمثل نصف الثمرة فهو مثل ما في المدونة، قال: وهذا كلام خرج على غير تحصيل؛ لأن الواجب أن يرجع عليه بقدر ما لصاحب الحائط من حظه من الثمرة في قيمة عمله، ويلزم على هذا إذا علم العامل الثاني أن الأول على النصف أن تكون المساقاة فاسدة؛ لأنه دخل على أن تكون نصف الثمرة وقيمة ربع عمله، وذلك مما لا يحل وقد رأيته لبعض أهل النظر.
فَإِنْ عَجَزَ وَلَمْ يَجِدْ أَسْلَمَهُ وَلا شَيْءَ لَهُ
أي: فإن عجز العامل عن العمل ولم يجد أميناً يساقيه عليه أسلم الحائط لربه ولا شيء له ولا عليه، وهكذا قال في المدونة.
ابن عبد السلام: وظاهر المدونة وغيرها أن ذلك للعامل، وإن لم يرض رب الحائط، وأخذ منه أن المساقاة لا تلزم بالعقد وقد تقدم، ولأنهم قضوا لرب الحائط إذا غارت عين السقي، إن كان قبل العمل فلا شيء على رب الحائط، وإن كان بعده لزمه أن ينفق بقدر ما يقع من الثمرة، وإن لم يكن عنده شيء فللعامل أن ينفق مثله، ويكون نصيبه من الثمر رهناً بيده.
خليل: وظاهر المدونة أن ذلك للعامل وإن لم يرض رب الحائط أي لقوله فيها: وإذا عجز العامل عن السقي قيل له: ساق إن شئت أميناً، فإن لم تجد أسلم الحائط إلى ربه ثم لا شيء له ولا عليه؛ لأنه لو ساقاه إياه جاز كجواز الأجنبي، وظاهر قوله:"أسلم الحائط إلى ربه" ما ذكر، لكن تأول المدونة أبو الحسن وغيره بأن معناه إذا تراضيا على ذلك، ويدل عليه تعليله بقوله: لأنه لو ساقاه. والمساقاة لا تلزم إلا برضاهما.
خليل: وهذا التأويل متعين، فقد قال قبل ذلك في المدونة: وإن عجز العامل وقد حل بيع الثمرة لم يجز أن يساقي غيره، وليستأجر من يعمل معه، فإن كان فيه فضل فله، وإن نقص كان ذلك في ذمته إلا أن يرضى رب الحائط أخذه ويعفيه من العمل، فذلك له، وقد نص اللخمي وابن يونس على خلاف ما قاله.
ابن عبد السلام: أيضاً لأنهما قالا: لو قال رب الحائط إنما أستأجر من يعمل تمام العمل وأبيع له ما طاب من الثمرة وأستوفي ما أديت فإن فضل فله، وإن نقص أتبعته أن ذلك له.
ابن يونس: لقول ابن القاسم في المتزارعين يعجز أحدهما بعد العمل وقبل طيب الزرع، قال أيضاً: يقال لصاحبه: اعمل فإذا طاب الزرع بع وتستوفي حقك، فما فضل فله، وما عجز أتبعته به؛ لأن العمل كان لازماً له وكذلك هذا.
وفي اللخمي: قال ابن القاسم في المساقي يعجز بعد صلاح الثمرة بأنه يباع نصيبه ويستأجر عليه منه، فإن كان فضل كان له، وإن كان نقصان اتبع به. وقال سحنون: إذا عجز رد إلى ربه بمنزلة ما إذا عجز هو قبل صلاحه، قال: والمساقاة أولها لازم كالإجارة وآخرها إذا عجز كالجعل يسلم لربه ولا شيء له، والقول الأول أبين، وقد خالف هذا الجعل بأنه عقد لازم لا خيار فيه. انتهى.
وظاهر قوله: (لا شَيْءَ لَهُ) ولو انتفع رب الحائط بما عمل العامل فيه وهو ظاهر المدونة أيضاً. وقال اللخمي: له فيه قيمة ما انتفع به من العمل الأول قياساً على قولهم في الجعل على حفر البئر، ثم يترك ذلك اختياراً، وأتم صاحب البئر حفرها، وقد قدمنا نحو هذا من كلام ابن يونس في القراض.
وَلَهُمَا أَنْ يَتَقَايَلا
قال في المدونة: وإن تقايلا على شيء يأخذه أحدهما فليس هذا بيع ثمر لم يبد صلاحه؛ إذ للعامل أن يساقي غيره فرب الحائط كأجنبي إذا تاركه.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامهم أن الإقالة تجوز في جميع أحوال الثمرة قبل الزهو وبعده، وتقدم أن المشهور منع مساقاة ما حل بيعه.
ابن المواز: وإن تقايلا على شيء غير الثمرة أو من الثمرة بمكيلة مسماة أو ثمر نخلة معروفة أو على أكثر مما أخذ، حيث يصير العامل يزيده من ثمر حائط آخر لم يجز، وأما إن كان على جزء مسمى ولم تطب الثمرة، فإن كان قبل العمل، فقال في البيان: لا خلاف في جوازه على مذهب مالك الذي يرى المساقاة من العقود اللازمة، وعلى مذهب من يرى أنها من العقود الجائزة؛ لأن الجزء الذي يعطيه للعامل على هذا القول هبة من الهبات، وأما بعد العمل فأجازه ابن القاسم في رسم الأقضية والأحباس من سماع أصبغ، وقال أصبغ: لا
يجوز، وعلله باتهام رب الحائط على استئجار العامل تلك الأشهر بسدس ثمر الحائط، فصارت المساقاة دلسة بينهما، وصار من بيع الثمار قبيل بدو صلاحها.
وقال ابن حبيب: إن تتاركا بجعل دفعه العامل إلى رب الحائط؛ يعني: من [610/ ب] غير الثمرة، فعثر عليه قبل الجذاذ، رد الجعل ورجع العامل إلى مساقاته، وغرم لرب الحائط أجر ما عمل بعد رده عليه، وكذلك إن كثر عليه بعد الجذاذ فللعامل نصف الثمرة، ويؤدي قيمة ما عمل بعد رده ويأخذ ما كان أراده.
وعلى هذا فالمصنف أطلق في محل التقييد؛ إذ لم يفرق بين أن يكون قبل العمل أو بعده ولا شيء أو بغير شيء.
وَلا يَنْفَسِخُ بِفَلَسِ رَبِّهِ ويُبَاعُ مُسَاقًي، وَقِيلَ: لا يُبَاعُ حَتَّى تَنْقَضِي أَوْ يَتْرُكَهَا
يعني: سواء فلس ربه قبل أن يعمل العامل أو بعده، هكذا صرح في المدونة.
وقوله: (وَلا يَنْفَسِخُ بِفَلَسِ رَبِّهِ) يعني: إذا تقدم عقد المساقاة على الفلس، فأما إن تأخر فللغرماء فسخها وتباع، أي: إذا قلنا: إن المساقاة لا تنفسخ. فقال ابن القاسم في المدونة: للغرماء أن يبيعوا الحائط على أنه مساقي منه كما هو، فقيل له: لم أجزته؟ قال: هذا وجه الشأن فيه، وليس هذا عندي باستثناء ثمره، وقال غيره: لا يجوز بيع الحائط حينئذ، ويوقف الشقص إلى أن تنقضي المساقاة أو يرضى العامل فيتركه، فيحل بيعه، وطرحه سحنون: وقال: بيعه جائز للضرورة، وقال في كتاب ابنه: إنما يجوز بيعه إذا كانت المساقاة سنة واحدة لجواز بيع الربع والحوائط على أن تنقضي بعد سنة، وإن كانت المساقاة إلى سنين لم يجز.
ابن يونس: وهذا خلاف قوله الأول وهو أصح، وقد تقدم أن ابن المواز قال: إنما يجوز بيعه إذا أبرت؛ لأنه قال: إن أبرت فطابت فذلك جائز علم المبتاع أو لم يعلم، وإن لم تؤبر لم يجز البيع علم المشتري بالسقي أو لم يعلم شيئاً أو أبى إذ لا يجوز للبائع حينئذ استثناء شيء من
الثمرة إذا لم تؤبر، وقال في المشتري يخرج العامل بشيء يعطيه من غير الثمرة فلا يجوز، وأما بجزء منها أو بغير شيء فجائز.
الرَّابِعُ الصِّيغَةُ مِثْلُ: سَاقَيْتُكَ وَعَامَلْتُكَ عَلَى كَذَا، فَيَقُولُ: قَبِلْتُ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلٍ أَو فِعْلٍ
هكذا قال ابن شاس، والواو في قوله:(وَمَا فِي مَعْنَاهَا) بمعنى (أو).
وقوله: (وَمَا فِي مَعْنَاهَا) عائد على (قَبِلْتُ) ولا يعود على (الصِّيغَةُ) لأن قوله: (مِنْ قَوْلٍ أَو فِعْلٍ) لا يصح أن يكون تفسيراً للصيغة إلا بتجوز، وقد تقدم أن المساقاة لا تنعقد عند ابن القاسم إلا بلفظ ساقيتك، وحكى صاحب المقدمات وغيره أن المساقاة تنعقد عند سحنون بـ (آجرتك) فـ (عَامَلْتُكَ) مثلها، ولم أر من صرح بأن سحنون يرى الانعقاد بالفعل، والله أعلم.
ولِلْفَاسِدَةِ ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ: قَبْلَ الْعَمَلِ فَتَنْفَسِخُ
لما ذكر أركان الصحيحة وشروطها، علم أن الفاسدة ما اختل منها ركن أو شرط ولا خلاف فيما ذكره.
الثَّانِيَةُ: بَعْدَ الْفَرَاغِ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ مُطْلَقاً، وَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُسَاقِي، أَوْ أَقَلَّ إِنْ كَانَ لِلْمُسَاقَي، والرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ خَرَجَا عَنْ مَعْنَاهَا كَاشْتِرَاطِ زِيَادَةٍ مِنْ عَيْنٍ أَوْ عَرْضٍ فَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا كَمُسَاقَاتِهِ مَعَ ثَمَرٍ أَطْعَمَ، أَوِ اشْترَاطِ عَمَلِ رَبِّهِ مَعَهُ، أَوْ مُسَاقَاةِ مَعَ بَيْعٍ فِي صَفْقَةٍ، أَوْ سَنَةَ كَذَا، فَمُسَاقَاةُ الْمِثْلِ ..
(بَعْدَ الْفَرَاغِ) أي: من العمل، (فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ): أي القول بأجرة المثل قال في البيان والمقدمات: يأتي على قول عبد العزيز ابن أبي سلمة في القراض أنه يرد فيه إلى أجرة المثل،
ومساقاة المثل هو القول الثاني، قال في المقدمات: وعليه يأتي قول أصبغ في العتبية في الذي يساقي الرجل في الحائط على ألا يحمل أحدهما نصيب صاحبه من الثمرة إلى منزله وهو بعيد، وهما مبنيان على أن المستثنى من أصل هل يرد إذا فسد إلى صحيح أصله أو صحيح نفسه؟
قوله: (ومُسَاقَاةُ الْمِثْلِ
…
إلى آخره) هذا هو القول الثالث، وذكره في المقدمات، وهو أن الفاسد يرد إلى مساقاة مثله.
(مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الْجُزْءِ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْمُسَاقِي)
بكسر القاف وهو رب الحائط؛ لأن العامل قد رضي أن يأخذ الجزء مع زيادة شرط عليه فأولى أن يأخذ مع عدم الشرط، ويرد إلى مساقاة المثل ما لم يكن أقل من الجزء الذي دخلا عليه إن كان الشرط للعامل وهو المساقي بفتح القاف، وحاصله إن كان رب الحائط هو المشترط للزيادة فللعامل أقل الأمرين من مساقاة المثل أو الجزء الذي دخل عليه، وإن كان المشترط هو العامل فله أكثرهما، وتصور القول الرابع بين، وذكر فيه أربعة أمثلة يرد فيها إلى مساقاة المثل، والمثالان الأولان في المدونة والأخيران في العتبية.
قال في المقدمات: ويتخرج على المثال الرابع ما إذا ساقاه حائطاً بكراء وآبقى صاحب المقدمات قول ابن القاسم على إطلاقه من التفرقة المذكورة، قال: ويأتي على مسائل كثيرة مسطرة لابن حبيب وغيره، قال: وكان ينبغي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما يرد فيه إلى مساقاة المثل على مذهب ابن القاسم هذه الأربعة فقط وما عداها فأجرة المثل، فعلى تأويلهم عن ابن القاسم.
ابن راشد: وحفظت عن الشيخ القرافي صورة خامسة يرد فيها إلى مساقاة المثل، وهي: إذا ادعى كل منهما ما لا يشبه وتحالفا، وقد نظمت فيها هذه الأبيات:
وأجرة مثل في المساقاة عينت
…
سوى خمسة قد خالف الشرع حكمها
مساقاة إبان بدو صلاحها
…
وجزأين في عامين شرط يعمها
وإن شرط الثاني على عامل له
…
مساعدة والبيع فافهمها كلها
وما قد مضاه الحكم بعد تحالف
…
فدونك أبياتا حساناً فلمها
ولما ذكر عياض صورتي المدونة وصورتي العتبية، قال في سماع عيسى مسألة خامسة وهي مساقاة حائط على أن يكفيه مؤنة آخر، قال: وكذلك يلزم في مساقاة [611/ أ] حائطين على اختلاف الأجزاء، وكذلك إذا اشترط العامل دابة أو غلاماً ليس في الحائط، وهو صغير تكفيه الدابة، ولذلك إن اشترط عليه أن يحمله إلى منزله في كل هذا يرد إلى مساقاة المثل الأربعة التي ذكرها عياض والصورة التي ذكرها القرافي، والله أعلم.
الثالثة: في أثناء العمل، فتفسخ المساقاة إن كان الواجب أجرة المثل كما في الإجارة الفاسدة؛ لأنه يكون له بحساب ما عمل، وإن حكمنا بمساقاة المثل فالضرورة داعية إلى إتمام العمل؛ لأن التقدير إنما يدفع للعامل من الثمر، ولأنا لو فسخناها لزم أن لا يكون للعامل شيء لما تقدم أنها كالجعل لا شيء للعاملإلا بتمام العمل، وعلى هذا القول فلابد أن يكون شرع في العمل بما له بال، أشار إليه عياض.
ابن عبد السلام: وقد ظهر أن أجرة المثل متعلقة بالذمة، ومساقاة المثل متعلقة بالحائط، وقد تقدم في القراض خلاف في هذا.
وَحُكْمُهَا بَعْدَ سَنَةٍ مِنَ سِنِينَ كَحُكْمِهَا فِي أَثْنَاءِ سَنَةٍ
أي: فتفسخ إن كان الواجب أجرة المثل، وتمضي إن كان الواجب مساقاة المثل.