المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْجِعَالَةُ أَرْكَانٌ هي الإجارة على عمل مجهول النهاية. والأصل فيه قوله - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٧

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الْجِعَالَةُ أَرْكَانٌ هي الإجارة على عمل مجهول النهاية. والأصل فيه قوله

‌الْجِعَالَةُ

أَرْكَانٌ

هي الإجارة على عمل مجهول النهاية. والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وحديث الرُّقية.

وقوله: (أَرْكَانٌ) أي: لها أركان:

العَاقِدَانِ: أَهْلِيَّةُ الاسْتِئْجَارِ، وَالْعَمَلُ

أي: الأول (العَاقِدَانِ) و (أَهْلِيَّةُ) خبر ابتداء محذوف؛ أي: شرطها أهلية الاستئجار، (وَالْعَمَلُ) أي: من صح له أن يجاعل ومن صح له أن يكون أجيراً صح له أن يكون مجعولاً، فلا يصح أن يكون الذمي مجعولاً على طلب مصحف. ولم يصرح المصنف بشروط العاقدين في الإجارة وإنما أحال ذلك على البيع فقال:(الْعَاقِدَانِ كَالْمُتَبَايعَيْنِ). وعلى هذا فالأحسن أن يشبه المصنف هنا بالمتبايعين، ولعله أحال على الإجارة لينبه على أن الإجارة أصل وأن الجعالة مستثناة من الممنوع للضرورة.

وَلا يُشْتَرَطُ فِي الْمَجْعُولِ لَهُ التَّعْيِينُ وَلا الْعِلْمُ بِالْجِعَالَةِ فَلَوْ قَالَ: مِنْ رَدَّ عَليَّ عَبْدِيَ الآبِقَ فَلَهُ دِينَارٌ فَمَنْ أَحْضَرَهُ اسْتَحَقَّهُ؛ عَلِمَ بِالْجُعْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، تَكَلَّفَ طَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّفْ ....

يعني: لا يشترط في المجعول له وهو العام أن يكون معيناً بخلاف الإجارة فإنه لا يجوز أن يكون الأجير إلا معيناً، ولا يشترط في المجعول له التعيين.

وقوله: (عَلِمَ بِالْجُعْلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) بيان؛ لأنه لا يشترط علم المجعول له بالجعالة وهو قول ابن الماجشون وأصبغ وغيرهما، وذكره [628/ب] ابن حبيب عن مالك. وقال ابن القاسم في العتبية: إذا قال من جاءني بعبدي الآبق فله عشرة دنانير فجاء به من سمعه فله العشرة، وسواء كان شأنه أو لا، وإن جاء من لم يسمعه لم يكن له ذلك إلا أن يكون ذلك شأنه. فاشترط ابن القاسم سماع الجعالة فيمن لم تجرِ عادته بذلك.

ص: 236

قال في البيان: وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الجاعل لما أراد بقوله: من جاء بعبده فله عشرة، تحريض من سمع قوله فلا تجب إلا لمن سمع، واستحسن اللخمي قول ابن حبيب إذا قال: علمت على الجعل ولم أتطوع، إلا أنه قال: كان له الأقل من جعل مثله أو ما جعل له سيده.

وقال المازري: إن قال في ملأ من الناس: من جاء به فله عشرة، فأتى به من لم يسمع وهو ممن يطلب الإباق فله جعل مثله، وإن كان ممن لا يطلب الإباق فههنا قولان: قال ابن القاسم: يدخل في الخطاب لسماعه، وقال ابن حبيب: لا يدخل إذا كان ممن لا يطلب الإباق. انتهى باختصاره.

قوله: "وقال بعض الشيوخ" لعله اللخمي فإنه قال: من جاء به من ذلك شأنه، وقال: لم أعلم تلك التسمية لأن لي طلب مثل ذلك من غير قول السيد، وإنما أفادني قول سيده المعرفة أن قد ذهب له عبد حلف على ذلك وكان له جعل مثله إذا كان أكثر من المسمى.

وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ

يعني: وعلى المجعول له نفقة الآبق والشارد في مدة الإتيان به إلى سيده، وهذا قول ابن القاسم في العتبية. وفي الموازية: ووجهه أن الجعل إنما هو على أن يأتيه به ويوصله إليه فلا يلزم الجاعل عن الجعل.

ابن عبد السلام: وفيه نظر؛ لأن العوض جزء من المعوض وذلك بيع مقترن بالجعالة، إلا أن يقال: إن ذلك من ضروريات هذا العقد، ولا يتصور الانفكاك عنه إلا أن يجعل سلفاً من المجعول له يؤديه عنه الجاعل إلى أن يصل إلى سيده الجعل يرد به إلى قاضي الموضع لينظر لسيده بما رآه من سجنه أو بيعه ويحكم له بجعله، فإن لم يفعله وأرسله بعد أن أخذه ضمن؛ لأنه أتلفه عليه.

ص: 237

فَلَوْ أَحْضَرَهُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَعَادَتُهُ التَّكَسُّبُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بِقَدْرِ تَعَبِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّهُ تَرَكَهُ لَهُ وَلا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَادَتَهُ فَلَهُ نَفَقَتُهُ فَقَطْ

لما تكلم على ما إذا أتى به بعد التزام رب الجعل تكلم على ما إذا أتى به قبل التزام رب الجعل. وقوله: (فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) يريد إذا كان ربه ممن لا يتولى ذلك بنفسه كما تقدم وكان لربه تركه؛ لأن أجرته قد تزيد على قيمة ربه فلو تكلف دفع الأجرة هنا لتضرر بذلك، وسقطت الأجرة إذا لم تكن عادته طلب الإباق؛ لأن الغالب ممن يفعل ذلك الاحتساب بالله تعالى.

وخرَّج بعضهم فيها خلافاً من الخلاف المتقدم في الإجارة إذا كان ربه لا يتولى ذلك بنفسه، وإنما يستأجر عليه، ولم يحكموا بالاحتساب بالنفقة؛ لأن النفوس لا تخف عليها النفقة بخلاف من المنافع.

فإن قيل: فما الفرق بين النفقة هنا وبين النفقة على اللقيط فإنهم قالوا: لا يرجع بها إذا ظهر له أب؟

قيل: لأن اللقيط لما كان حراً ولا يعلم له أب فالمنفق عليه لا يدخل على العوض غالباً، وأما الآبق فهو مملوك وسيده مليء ولو لم يكن إلا به. وقال ابن الماجشون فيمن ليس شأنه: لا شيء له؛ لا نفقة ولا أجرة.

وَلَوِ اسْتُحِقَّ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ فَالْجُعْلُ عَلَى الْجَاعِلِ لا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ

بعد أن وجده يعني قبل أن يقبضه الجاعل فالجعل على الجاعل؛ لأنه هو الذي أدخله في العمل.

ابن القاسم في العتبية والموازية: ولا شيء به على المستحق. وقال ابن المواز: الجعل على الجاعل ويرجع على المستحق بالأقل من ذلك أو من جعل مثله، قال: وقاله من أرضى.

ص: 238

اللخمي: وهو أبين إلا أن يكون المستحق ممن يطلب بنفسه أو بشخص عنده بلا أجرة. وقيد صاحب البيان هذا الخلاف بما إذا أخذ المستحق العبد، قال: وأما إن أجاز البيع وأخذ الثمن فالجعل على الجاعل قولاً واحداً.

وَفِي سُقُوطِهِ بِحُرِّيَّةٍ قَوْلانِ

أي: سقوط الجعل، وفي بعض النسخ (سُقُوطُهَا) فيعود الضمير على الجعالة، ومعناه إذا جعل سيد العبد جعلاً على الإتيان به فجاء به شخص فظهر أنه حر؛ فقال أصبغ: يسقط ولا جعل على أحد، وقال ابن القاسم: لا يسقط ويكون على الجاعل، ورأى أن الجاعل هو الذي أدخله في ذلك.

الْجُعْلُ كَالإِجَارَةِ

أي: يشترط فيه نفي الجهالة كالإجارة. وأحال المصنف الجعل على الأجرة مع أنه شبه الأجرة بالثمن، فكل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به وجاز أن يكون جعلاً وما لا فلا، وعلى هذا فيشترط في الجعل أن يكون طاهراً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه معلوماً. واستثنى ابن القاسم على ما نقله صاحب البيان وغيره من هذا مسألتين بجواز في الجعل دون البيع:

الأولى: أن يجعل على أن يغرس له أصولاً حتى تبلغ حد كذا ثم هي والأصل بينهما، فإن نصف هذا لا يجوز بيعه.

والثانية: أن يقول انفض زيتوني، فما لقطت فلك نصفه.

فَلا يَجُوزُ بِعْهُ وَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينَارٍ قِيرَاطٌ، وَلا لَكَ نِصْفُ الآبِقِ

هذا مفرع على ما قبله فلذلك عطفه بالفاء، ولم يجز؛ لأنه لا يعلم بكم دينار [629/أ] يباع فصار الجعل مجهولاً، وكذلك نصف الآبق مجهول.

ص: 239

قال في الموازية: وأجاز مالك في بيع الثياب أن يقول: بعها ولك في كلِّ ثوب درهم، ولم يجز في كل دينار درهم.

فَإِنْ نَزَلَ فَلَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ

أي: فإن وقع الجعل في هاتين الصورتين أو في إحداهما على الوجه الممنوع لم يجز ذلك ورد إلى جعل مثله.

وذكر المصنف هذه المسألة ولم يكتفِ بما سيذكره في حكم الجعل الفاسد؛ لأن في هذه المسألة معنى زائد، وهو أنه قال في المدونة في مسألة الإباق: فإن جاء به فله أجر مثله وإن لم يأت به فلا شيء له، وظاهره أن الواجب له أجر المثل.

لكن المحققون على ما قال المصنف أن مرادَهُ جُعل المثل لقوله: "وإن لم يأت به فلا شيء له" لأن الواجب له أجرة المثل، ولو كان المراد حقيقة الأجرة لوجب له إذا عمل سواء ظهر لعمله فائدة أم لا.

ولعل المصنف ذكر هذا إشارة إلى تأويل مسألة المدونة، واستغنى بتعبيره بالجعل عن قوله في المدونة: وإن لم يأتِ به فلا شيء له. على أن صاحب البيان حمل المدونة على ظاهرها واستشكلها.

فرع:

فإن ملك العبد في قوله: ولك نصفه، قبل أن يدفع إلى ربه، ففي النكت للمجعول له على الجاعل قيمة عنائه في رجوعه إلى وقت هلاكه، وللجاعل على المجعول له قيمة نصف عبده يوم قبضه؛ أي: ويقدر أن المجعول له مشترٍ له يوم قبضه شراء فاسداً.

وَلَوْ قَالَ: لِوَاحِدٍ دِينَارٌ وَلآخَرَ دِينَارَانِ فَرَدَّاهُ مَعاً فَقَوْلانِ: يَنْفَرِدَانِ، وَيَشْتَرِكَانِ

تصوره ظاهر. وقوله: (فَرَدَّاهُ مَعاً)؛ أي فجاءا معاً به.

ص: 240

وقوله: (يَنْفَرِدَانِ) هو القول الأول أن يكون لكل واحد نصف جعله؛ فلصاحب الدينار نصفه ولصاحب الدينارين دينار، وهذا قول ابن نافع ونقله ابن المواز عن ابن عبد الحكم واختاره هو واللخمي وغيرهما.

(وَيَشْتَرِكَانِ) هو القول الثاني؛ أي في أكثر الجعلين وهما الديناران فيكونان بينهما أثلاثاً لصاحب الدينار ثلثهما ولصاحب الدينارين ثلثاهما، وهو قول ابن القاسم في المدونة ورأى أن الجاعل قد رضي بدفع أكثر الجعلين.

قال في النكت: ولو جعل لأحدهما عشرة وللآخر عرضاً فأتيا به معاً، فعلى قول ابن نافع: لهذا نصف عشرة ولهذا نصف عرض، وعلى قول ابن القاسم يقدم العرض فإن سمى خمسة فلصاحب العشرة ثلثاها ويخير الآخر بين أن يأخذ ثلث العشرة أو يأخذ ما يقابل ذلك من العرض وهو ثلثا ذلك العرض من الذي جعل له.

الْعَمَلُ: كَعَمَلِ الإِجَارَةِ إِلا أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُوماً، فَإِنَّ مَسَافَةَ رَدِّ الْعَبْدِ وَالضَّالَّةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ

قوله: (كَعَمَلِ الإِجَارَةِ) أي: فيشترط فيه الشروط المتقدمة في الإجارة، واستثنى المصنف كونه معلوماً فلا يشترط هنا، وعلل ذلك بأن مسافة رد الآبق والضالة غير معلومة.

وأورد ابن عبد السلام أن ظاهر كلامه أن المعلومية لا تشترط في جميع أنواع الجعالة وليس كذلك، فإن مذهب المدونة أنه لا يجوز الجعل في حفر بئر إلا أن تختبرا معاً الآخر، وأجيب بأن حفر البئر قد ذكر المؤلف في آخر الباب أنه متردد بين الجعل والإجارة وبين شروطه هناك.

ص: 241

وَلَوْ وَجَدَ آبِقاً أَوْ ضَالاً مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ فَلا جُعْلَ لَهُ عَلَى رَدِّهِ وَلا عَلَى دَلالَتِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ ....

ذكر هذا؛ لأن ما يشترط في الإجارة من كون المنفعة غير واجبة شرط في الجعالة، وهكذا قال ابن حبيب: من وجد آبقاً أو ضالاً أو ثياباً فلا يجوز أخذ الجعل على رده ولا على أن يدله على مكانه، بل ذلك واجب عليه، وعلى هذا فقوله:(لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ) يرد إلى جميع ما تقدم؛ أي لوجوب ما ذكر عليه. ويحتمل أن يكون مشيراً إلى الأكثر فقط، ويكون علة منع أخذ الجعل على الأول عدم تقدم المنفعة، وعلى هذا الأخير اقتصر ابن عبد السلام.

قال المازري: وإن أتى رجل إلى ربه عرف موضع الآبق فقال: اعطني دينار وأنا أطلبه لك وأنا أخبرك مكانه، فإن كان ممن لا يطلب ذلك فلا شيء له باتفاق، وإن كان ممن يطلبهم فقولان: قيل: له الذي سمى، وقيل: لا شيء له، وأوجب عليه أن يخبره به وأن يصدقه عليه إن وجده ويأتيه به، فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك. والصواب لا شيء له إلا أن يكون سافر أن يخبره لذلك لا لشغل غيره، فيكون له أجرة تعبه بقدره وهذا معنى كلامه.

وَمِنْ شَرْطِهِ: أَنْ لا يُقَدَّرَ بِزَمَانٍ وَإِلا فَهُوَ إِجَارَةٌ

الضمائر كلها عائدة على العمل. قال في المدونة: ولا يكون مؤجلاً، ألا ترى أن من قال: بع لي هذا الثوب ولك درهم أنه جائز وقت له في ذلك وقتاً أم لا وهو جعل، فإن قال: اليوم، لم يصح إلا أن يشترط أن يترك متى شاء؛ لأنه إن مضى يوم ولم يبعه ذهب عمله باطلاً، وإن باع في نصفه أخذ الجعل كاملاً ويسقط عنه بقية عمل اليوم فهذا خطر، والجعل لا يكون مؤجلاً إلا أن يكون إذا شاء أن يرده. وقد قال في مثل هذا جائز وهو

ص: 242

جل قوله: (وَإِلا فَهُوَ إِجَارَةٌ)؛ يعني وإن قدر بزمان وكان الأجر بتمام الزمان عمل أم لا؛ لأنه خرج من باب الجعالة ودخل في باب الإجارة.

تنبيه: واختلف في معنى قول سحنون في المدونة: "وقال في مثل هذا أنه جائز" ما هو هذا المثل؟

فقال ابن أبي زيد: هو الجعل المؤجل باليوم واليومين من غير شرط أن يترك متى شاء، وقال ابن القصار: يريد مثل هذا الباب في توقيت الجعل بيوم أو يومين، ويشترط أن يترك متى شاء، ويكون أراد بجل قوله ما في المدونة من [619/ب] الجواز، ويقابله ما رواه عيسى عنه في من قال لرجل: جذنخلي اليوم فما جذذت فلك نصفه ومتى شئت أن تخرج خرجت لك نصف ما عملت؛ لا خير فيه.

وقال ابن لبابة: يريد الإجارة مع اشتراط الترك متى شاء، وأنه اختلف قوله فيها، فمرة رأى أنها إجارة جائزة ومرة رآها إجارة فاسدة.

وقال صاحب المقدمات: أما قول ابن أبي زيد فهو خطأ صراح؛ لأن الجعل إذا سمَّى فيه أجلاً من لم يشترط أن يترك متى شاء- لم يجز باتفاق، فكيف يصح أن يقال: إنه جل قوله الذي يعتمد عليه؟!

وأما تأويل ابن القصار بعيد من لفظ المدونة إلا أن معناه صحيح تصح به المسألة، وأما تأويل ابن لبابة فهو بعيد على ظاهر اللفظ غير صحيح المعنى؛ لأنها إذا كانت إجارة فهي إجارة ولا وجه لفساده، وأما معنى المسألة عندي أن قول ابن القاسم اختلف إذا قال الرجل للرجل: بع لي هذا الثوب ولك درهم، فقال في الكتاب: إنه جُعل ولا يجوز إلا أن يشترط متى شاء أن يترك ترك، وله قول آخر: أن ذلك جائز وهو إجارة لازمة لا جعل، فإن باع في بعض اليوم كان له من الأجرة بحساب ذلك، وهذا القول قائم من المدونة وانظر المقدمات.

ص: 243

وأجاب بعضهم عن الشيخ أبي محمد بأنه لا يلزم من ترك اشتراط أن يترك متى شاء عدم الجواز؛ لأن الترك متى شاء مفهوم من وضع الجعل لا يحتاج إلى اشتراطه.

وَفِي جَوَازِهِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ قَوْلانِ

أي: في جواز الجعل.

عياض: اشترط عبد الوهاب في الجعل أن يكون في الشيء القليل وخالفه غيره.

وقال في المقدمات: الصحيح أنه جائز في كل ما لا يصح للجاعل فيه منفعة إلا بتمامه قليلاً كان أو كثيراً، وبذلك قال ابن المواز أن الجعل على حفر الآبار لا يجوز إلا فيما لا يملك من الأرضين؛ لأن ما يملك من الأرضين إن ترك العامل العمل بعد أن حفر ما ينتفع الجاعل به منها.

لكن أجاز ابن القاسم الجعل في حفرها وإن كانت في ملك الجاعل، فأما ما حكاه المصنف من القولين في طريقة بعضهم في نقل، ومنهم من يقول: ما يقبل القلة والكثرة لا يجوز الجعل على كثيره، وما لا يقبل إلا الكثرة كالمغارسة فإن العمل لا يتم فيها إلا بعد سنين فلا تكون الكثرة ما نقهل منها. انتهى.

ابن المواز: ويكون عند مالك وأصحابه الجعل على الشراء فيما قل أو كثر في الحضر والسفر، لا بأس أن يجعل له على مائة ثوب ليشتريها له ديناراً إذا كان ما اشترى له يلزمه، وأما إن كان يختار عليه ما يشتري فلا خير فيه.

مالك: ولا يضمن المال محمولاً إلا أن تعرف منه محاباة أو اشترى غير ما أمره به. وفي المدونة ما يتمسك به لما قاله عبد الوهاب من المنع ففيها: ولا يجوز الجعل على كثير السلع والدواب والرقيق كالعشرة أثواب ونحوه، ولا على ما فيه مشقة سفر من قليلها، لكن أجاز فيها الجعل على شراء الكثير.

ص: 244

وتأوله ابن يونس وعياض وجماعة من القرويين وغيرهم على معنى أنه لا يأخذ شيئاً معلوماً أو كانت متساوية القيمة أو دخلاً على قصد الإجارة على العدد، ولو كان على القيم لم يجز. قال: وأما لو كان لا يأخذ شيئاً إلا بشراء الجميع فلا يجوز، فالجعل على البيع والشراء سواء.

وقيد ابن يونس الجواز في البيع أيضاً بما إذا كان على أنه إن شاء أن يترك بقية الثياب ولم يسلم الثياب إليه، قال: وكذلك الشراء يجوز إذا كان كل ما اشترى أخذ بحسابه وأن يترك متى شاء، فإن وقع على هذا الشرط جاز في الجميع.

ونحوه في الموازية، ونحوه لابن رشد، فقال: وقوله إن الكثير من السلع تصلح فيه الإجارة ولا يصلح فيه الجعل، فإنما يريد في البيع خاصة؛ لأن كثيراً من السلع إذا جاعله على بيعها ودفعها إليه، كان الجاعل قد انتفع بحفظه لها مدة كونه بيده، ولو لم يدفعها لجاز الجعل إذا جعل في كل ثوب منها جعلاً مسمى، ولزم الجاعل في الجعل في البيع جميعها، ألا ترى أن الجعل في الشراء على الثياب الكثيرة جائز إذا كان لا يتولى حفظها وكلما ابتاع ثوباً أسلمه إلى الجاعل ووجب له فيه جعله، ولو شرط على المجعول له أن يمسك الثياب وتكون في أمانته وقبضه حتى يتم شراء العدد الذي جاعله عليه لم يجز للعلة التي قدمناها.

وَفِيهَا: مَا جَازَ فِيهِ الْجُعْلُ جَازَتْ فِيهِ الإِجَارَةُ وَلا يَنْعَكِسُ

تصوره ظاهر. قال في المقدمات: والأعمال على ثلاثة أقسام: منها ما يصح فيه الجعل والإجارة، ومنها ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة، ومنها ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل. فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين وشراء الثياب القليلة والكثيرة وحفر الآبار واقتضاء الديون والمخاصمة والحقوق على أحد قولي مالك، وروي عنه أن الجعل في الخصومة لا يجوز.

ص: 245

وأما ما لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة فنوعان: أحدهما: ما لا يجوز للمجعول له فعله، والثاني: ما يلزمه فعله.

وأما ما تصح فيه الإجارة ولا يصح فيه الجعل فكثير أيضاً، من ذلك خياطة الثوب وخدمة الشهر وبيع السلع الكثيرة وعلى بيع سلعة ببلد أخرى، وما أشبه ذلك مما يبقى فيه للجاعل فيه حق منفعة، وإن لم يتم المجعول له العمل، وهل يشترط في صحته أن يكون للجاعل فيه منفعة أم لا؟ في ذلك قولان.

وَهِيَ [630/أ] جَائِزَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ شَرَعَ لَزِمَ الْجَاعِلَ، وَقِيلَ: لازِمَةٌ فِيهِمَا بِالْقَوْلِ، وَقِيلَ: فِي الْجَاعِلِ

اختلف في لزوم عقد الجعالة على ثلاثة أقوال:

الأول: ابن عبد السلام: وهو المشهور أنها جائزة من الجانبين ولكل واحد منهما الإحلال إلا أن يشرع المجعول له في العمل فيلزم الجاعل ولا يكون له الانحلال.

الثاني: لازمة بالقول لهما قياساً على الإجارة، وهذا القول حكاه اللخمي وغيره.

ابن راشد: وهو القياس.

والثالث: أنها تلزم الجاعل بالقول دون المجعول، وهو قوله في الواضحة.

وَنَقْدُهُ كَالْخِيَارِ

يعني: ونقد الجعل كالثمن في بيع الخيار.

سحنون: جاز التطوع له ولا يجوز اشتراطه، والتعليل فيهما واحد.

ابن عبد السلام: وهذا على القول الأول والثالث. زاد غيره ممن تكلم على هذا الموضع: وأما على القول بأنها لازمة لهما بالعقد فيجوز النقد بشرط كالإجارة.

ص: 246

خليل: والظاهر أنه لا فرق؛ لأنه قد لا يجد الآبق مثلاً فيحتاج إلى رد الجعل.

وَيَسْقُطُ بِالتَّرْكِ إِلا أَنْ يَسْتَاجِرَ الْجَاعِلُ عَلَى الإِتْمَامِ فَيَكُونَ لَهُ مَا بَقِيَ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى نِسْبَةِ عَمَلِهِ

أي: سقط جميع الجعل بترك المجعول له تمام العمل، وقد قال ذلك في الإجارة إذا هرب الصانع، المشهور في الإجارة أنها تكرى عليه، فإن استأجر العامل من أتم العمل فإن له حينئذٍ أن يرجع عليه.

قوله: (إِلا أَنْ يَسْتَاجِرَ الْجَاعِلُ) يريد: أو يجاعل؛ إذ لا فرق بينهما.

وقوله: (فَيَكُونَ لَهُ مَا بَقِيَ .. إلخ) يعني: اختلف إذا اكترى بما يجب للمجعول له؛ فقال مالك في العتبية: يكون له بنسبة ما بقي، فإذا جاعله على الإتيان بخشبة بخمسة فحملها نصف الطريق ثم ترك وجاعل عليها ثانياً بعشرة فإنه يكون للأول خمس نسبة جعل الثاني، واعترضه ابن يونس فقال: الأول قد رضي أن يحملها جميع الطريق بخمسة فكان يجب على هذا أن يعطى نصفها؛ لأنه إنما حملها نصف الطريق والمغابنة جائزة في الجعل وغيره، وإلى هذا الاعتراض أشار التونسيز

ابن عبد السلام: وقد يجاب عنه بأن عقد الجعالة لما كان منحلاً من جانب المجعول له بعد العمل، فإذا ترك بعد حمل نصف المسافة صار تركه لها إبطالاً للعقد من أصله، فإذا اكترى ربها على حملها انتفع بالحمل الأول فتلزمه قيمته، لكن إنما يحسن هذا إذا كانت الإجارة ثانياً بقية العمل فأقل، ولا يحسن إذا كانت بأكثر على الاعتراض المذكور فلا يجب للثاني إلا درهمان ونصف. وحمل ابن راشد القول الثاني في كلام المصنف على اختيار ابن يونس، ويحتمل أن يريد به ما كان لابن القاسم بقوله: إن له قيمة عمله يوم عمل، ويكون معناه ما لم يزد على نسبة قيمة عمله يوم عمل الأول.

ص: 247

قال في العتبية: قال ابن كنانة: بل قيمة ما عمل اليوم؛ أي يوم عمل الثاني كانت القيمة مثل الجعل، أو قال: وأكثر، ودخل ابن القاسم وابن كنانة على مالك فقال: بل يعطى بقدر ما انتفع بحفره؛ يعني القول الأول، وهكذا رأيته في العتبية.

وحكى اللخمي عن مالك مثل قول ابن كنانة وذكر أنه قضى لابن كنانة. فإن قلت: ما حملت عليه القول الأول من أن المراد أن يكون للأول نسبة ما بقي خلاف ظاهر كلامه، وإنما ظاهره أن يكون له ما بقي بعد إجارة الثاني، فلا يكون في المثل المتقدم شيء، قيل: نعم هو ظاهر كلامه لكن لم أر نقلاً يساعده، قاله ابن عبد السلام.

وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ سَقَطَ

أي: بعد أن يجده المجعول له. وقبل أن يوصله لربه وكذلك لو هرب؛ لأن العمل لم يتم.

وَإِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ الْجُعْلِ تَحَالَفَا وَوَجَبَ جُعْلُ الْمِثْلِ

نحوه في الجواهر وفيه نظر، لكنه إن كان تنازعهما قبل العمل فلا شك أن القول قول الجاعل لانحلال العقد، والمجعول له بالخيار بين أن يجعل بما قال له أو يترك، وإن كان بعد العمل فيكون القول قول العامل إذا كان بيده لحيازته، إلا أن يدعي ما لا يشبه فيكون القول قول ربه، فإن ادعى الآخر ما لا يشبه تحالفا كما تقدم في الصانع.

وَفِي الْفَاسِدَةِ ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ كَالْقِرَاض وَلَمْ يُبَيَّنْ

واختلف في الجعل الفاسد هل يجب فيه جعل المثل وهو قول ابن القاسم من رواية أصبغ، أو إجارة المثل وهو قول محمد بناءً على أن المستثنى من أصل إذا بطل هل يرد إلى صحيح أصله أو إلى أصل نفسه؟

والقول الثالث: التفصيل؛ أي فيرد في بعض المسائل لجعل المثل وفي بعضها لإجارة المثل، لكن لم يبين التفصيل هنا كما بين في القراض، هذا معنى كلامه.

ص: 248

ولأن المصنف- والله أعلم- لما رأى ابن شاس ذكره مجملاً ولم يبينه اعتقد أنه وقع كذلك في قوله، وقد بينه في البيان فقال: إن قال: إن وجدته فلك كذا وإن لم تجده فلك نفقتك.

فهذا يرجع إلى إجارة المثل؛ لأنه جعله في الوجهين وليس بحقيقة الجعل، وإن كان لم يسمِّ شيئاً إلا في الإتيان به ولا شيء له إلا أن يأتي به فإنه يرجع إلى جعل المثل، قال: وهو أظهر الأقوال، واختاره ابن حبيب وحكاه عن مالك مطرف وابن الماجشون، وحكى قولين آخرين أحدهما في العتبية: له جعل مثله إذا وجده وأجر مثله إذا لم يجده، والثاني في المدونة: في الذي يقول: إن جئتني بعبدي الآبق فلك نصفه، قال: له إجارة مثله إن أتى به، وإن لم يأتِ به فلا جعل له ولا إجارة، قال: لا حظَّ له في القياس. [630/ب].

وَمُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ وَالْمُعَلِّمِ عَلَى الْقُرآنِ وَالْحَافِرِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَاءِ بِتَعْرِيفِ شِدَّةِ الأَرْضِ وَبُعْدِ الْمَاءِ، وَكِرَاءُ السَّفِينَةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُعْلِ وَالإِجَارَةِ

هكذا ذكر ابن شاس هذه الأربعة وزاد المغارسة وهو أن يعطي الرجل أرضه لمن يغرس عدداً من الأشجار، فإذا بلغت كذا وكذا كانت الأشجار والأرض بينهما، قال: وكل هذه الفروع يختلف فيها وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين.

ابن عبد السلام: وظاهر المذهب أن هذه الفروع كلها من الإجارة على البلاغ إلا مسألة الحافر فإنها من الجعالة، ولا يقال: إن الإجارة على البلاغ مساوية للجعل في أن الأجرة لا تستحق إلا بتمام العمل؛ لأنه لا يلزم من استوائهما في هذا الوجه استواؤهما في غيره، فإن الإجارة على البلاغ لازمة بالعقد بخلاف الجعالة.

ونص سحنون على أن الأصل في هذا الجعالة. ووجه تردد هذه الأمور بين الإجارة والجعالة بأنه لما لم يكن للعامل شيء إلا بتمام العمل شابهت الجعالة، ولما كان إذا ترك الأول العمل ثم كمل غيره يكون للأول بحسابه كما تقدم شابهت الإجارة.

قوله: (بِتَعْرِيفِ شِدَّةِ الأَرْضِ وَبُعْدِ الْمَاءِ) للمصاحبة، وهي تجري مجرى الشرطية.

ص: 249