الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْهِبَةُ
أرْكَانُها ثَلاثَةٌ
الهبة مصدر وهبت له شيئاً وهباً ووهباناً بالتحريك وهبة، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء فيهما، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة، وتواهب القوم إذا وهب بعضهم لبعض، ورجل وهاب ووهابة كثير الهبة؛ لأن الهاء للمبالغة.
صاحب المحكم: ولا يقال وهبك، هذا قول سيبويه. وحكى السيرافي عن أبي عمرو أنه سمع أرعابياً يقول للآخر: انطلق معي أهبك نفلاً.
اللخمي وغيره: وهو نقل الملك بغير عوض. وأحكام الهبة والصدقة متفقة إلا في أمرين: أولهما: منع الاعتصار في الصدقات، وثانيهما: كراهة اشترائها بخلاف الهبة فيهما.
قال في المقدمات: إلا أن تكون الصدقة على الابن فعن مالك في ذلك ثالث روايات: أولهما: أن الرجوع فيها لا يجوز إلا من ضرورة مثل أن تكون أمة فيتبعها نفسه أو يحتاج فيأخذ الحاجة، وهو ظاهر ما في المدونة.
ثانيها: أن الرجوع فيها بالبيع والهبة يجوز وأن الاعتصار يكون له، وهو قول مالك في سماع عيسى؛ لأنه أجاز أن يأكل ما تصدق به على ابنه الصغير، وذلك لا يكون إلا بمعنى الاعتصار وهو لا إذن له، ولا خلاف في شرعيتها.
الصِّيغَةُ وَشِبْهُهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِي الإِيجَابِ وَالْقَبُولِ
الركن الأول: (الصِّيغَةُ) وهو لفظ الهبة وما تصرف منها وشبهها. (قَوْلٍ) كأعطيتك، أو بذلت لك، (أَوْ فِعْلٍ) به كالبيع.
وقوله: (فِي الإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) أي: التمليك من قبل الواهب والقبول من جهة الآخر.
ابن عبد السلام: ولا ينتقض ما قاله المصنف في الفعل بها، في كتاب ابن مزين في رجل قال لولده: اجعل في هذا الموضع كرماً أو حيواناً أو ابْنِ فيه داراً، ففعل الابن ذلك في حياة أبيه، والأب يقول: كرم ابني وجنان ابني، أن القاعة لا تستحق بذلك وهي موروثة وليس للابن إلا قيمة عمله منقوضاً، قال: وقول الرجل في شيء يعرف له: هذا كرم ولدي أو دابة ولدي، ليس له شيء ولا يستحق منه الابن شيئاً إلا بالإشهاد بهبة أو صدقة أو بيع صغيراً كان أو كثيراً، وكذلك المرأة فإنا نقول: ليس كل فعل يدل على نقل الملك، فلا يلزم من كون الفعل غير دال في هذا الموضع على نقل ملك الرقبة إلا أن يكون دالاً في غيره، وأيضاً فإنه دل على نقل تلك المنفعة زماناً حتى إن الأب لو طلب كراء أرضه في المدة التي انتفع بها الابن لم يكن له ذلك.
وَمِثْلُهَا: الْعُمْرَى كَقَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَ دَارِي أَوْ ضَيْعَتِي وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ لِلْوَاهِبِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ كَوَقْفٍ غَيْرِ مُؤَبَّدٍ
…
هي بضم العين وسكون الميم مقصور. الجوهري: أعمرته داراً أو أرضاً أو إبلاً إذا أعطيته إياها، وقلت: هي لك عمري أو عمرك فإذا مت رجعت إلي، قال لبيد:
وما المال إلا معمرات ودائع
والاسم العمرى.
وقوله: (وَمِثْلُهَا) أي: في أن أركانها [642/أ] ثلاثة وأنها تنعقد بالصيغة كـ (أَعْمَرْتُكَ) وشبهها من قول كـ "أسكنتك داري مدة حياتك"، أو فعل يدك على ذلك.
وقوله: (وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ) استدلال على ما ذكره من المماثلة كأنه يقول: العمرى كحقيقة الهبة فوجب استواؤهما في الحكم؛ لأن العمرى هبة المنافع، والهبة هبة الذوات وذلك وصف طردي.
ثم في قوله: (وَهِيَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاتَهُ) فائدة أخرى وذلك؛ لأنه لما قال: (كَقَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَ دَارِي أَوْ ضَيْعَتِي) خاف أن يتوهم قصرها على العقار فعرَّفها بما يعم العقار وغيره. فقد روى ابن القاسم عنمالك في باب العارية جواز العمرى في الرقيق والحيوان، قال: ولم أسمع من مالك في الثياب شيئاً، وهي عندي على ما أعارها من الشرط، وكذلك نص على أن الحلي عنده كذلك في باب الهبة.
قوله: (حَيَاتَهُ) أي: حياة الآخذ؛ فإذا مات المعمَر بفتح الميم اسم مفعول رجعت إلى ربها أو لورثته إن مات، ولا فرق في المذهب بين أن تكون معقبة كـ (أَعْمَرْتُكَ) أم لا.
وقال أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما: لا تعود لربها وهي للمعمر أعقبها أم لا. وقال ابن شهاب: مذهبنا: إن لم يعقبها، وبالثاني إن أعقبها لما رواه وغيره عنه عليه السلام أنه قال:"أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها". هذا لأنه أعطاها إعطاء أوقعت فيه للمواريث، وجوابه ما قال مالك بإثره: أن العمل ليس عليه وأن المسلمين عند شروطهم. على أن بعض أصحابنا أوَّل الحديث وقال: المراد به أنه أعطى المنافع لرجل وعقبه فإنه لا تكون له ولعقبه، ولا يبطل حق عقبه بموته بل حتى ينقرض العقب.
خليل: وقول مالك في الموطأ: "ليس العمل على هذا" يقتضي أنه فهمه على خلاف هذا التأويل.
صاحب الاستذكار: وسواء عند مالك وأصحابه ذكر ذلك بلفظ العمرى أو السكنى أو الاستغلال أو الإفقار أو الإخبال ونحو ذلك من العطايا.
والرُّقْبَى غَيْرُ جَائِزَةٍ مِثْلُ: إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَدَارِي لَكَ، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَدَارُكَ لِي
هو بضم الراء وسكون القاف مقصور، وهي: إعطاء المنفعة لمدة أقصرهما عمراً وهي المراقبة والانتظار؛ لأن كلاًّ منهما يرقب موت صاحبه.
وقوله: (غَيْرُ جَائِزَةٍ) هو قول ابن القاسم؛ لأنه قال في رجلين حبَّسا داراً بينهما على أن من مات منهما أولاً فنصيبه حبس على الآخر: لا خير فيه؛ لأنه غرر لأنهما خرجا عن وجه المعروف إلى المخاطرة.
اللخمي: ويختلف في ذلك إذا نزل فعلى القول أن مرجع الحبس إذا كان على معين يعود ملكاً فيبطل هذا الحبس ويصنعان بالدار ما أحبا، وعلى القول بأنه يرجع حبساً يبطل السكنى خاصة وتكون ملكاً لهما حتى يموت آخرهما فتكون على مراجع الأحباس في المدونة بإثر ما تقدم، وسألته عن العبد بينهما يحبسانه على أن من مات منهما أولاً فنصيبه يخدم آخرهما موتاً مدة حياته، ثم يكون العبد حراً بعده فلم يجزه مالك، إلا أنه ألزمهما العتق بعد موتهما.
وإن مات منهما يحرم ورثته دون صاحبه ويبطل ما أوصى به في الخدمة؛ لأنه خطر، وإذا مات أحدهما كان نصيب كل واحد حراً من ثلثه كمن قال: إذا مت فعبدي يخدم فلاناً حياته ثم هو حر. واستشكل جمعه بين إلزامه العتق وخروجه من الثلث؛ لأنه إن كان معتقاً إلى أجل يخرج من رأس المال، وإن كان موصى به فلا يلزمه العتق لكونه له الرجوع عنه. وأجيب بأنه كالمدبر وفيه نظر، فإن أصله في مثل هذا أنه لا يكون مدبراً حتى يقصد به التدبير، وإن لم يقصد به ذلك فهو موصى بعتقه على ما قاله في أول كتاب المحجور، قالوا: على وجه التتميم، فإن مات الأول نظر فإن حمل الثلث نصيبه خدم الورثة بقيمة الأجل، وإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يجيزوا أو يعتقوا منهم محمل الثلث بتلاً.
الثَّانِي: الْمَوْهُوبُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ يَقْبَلُ النَّقْلَ
أي الركن الثاني، واحترز بقبول النقل من أم الولد والاستمتاع بالزوجة، فإن ذلك لا يقبل النقل شرعاً، واعترض بأنه تجوز هبة ما لا يجوز نقل الملك فيه كجلد الأضحية
وكلب الصيد. وجوابه أن جلد الأضحية قابل النقل وإنما الممتنع نقله على وجه خاص أعني بالبيع. وظاهر قول ابن شعبان بطلان هبة جلد الأضحية ونحوها؛ لأنه قال: من وهب ما لا يحل بيعه بطلت الهبة كانتل ثواب أو غير ثواب.
فَتَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ وَالآبِقِ وَالْكَلْبِ وَالْمَرْهُونِ
هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها بالواو وبالفاء أحسن.
وقوله: (الْمَجْهُولِ) هو المعروف من المذهب وهو ظاهر المدونة وغيرها. وفي النوادر: أعرف لابن القاسم في غير موضع أن هبة المجهول جائز. نقل المتيطي عن جماعة من الموثقين: الآبق من معرفة المتصدق به وقمدره. واستحب اللخمي ألا يفعل إلا بعد المعرفة بقوله وهبته خوف الندم بعد معرفته به. قال: واختلف إن فعل ثم تبين أنه على خلاف ما كان يظن، فقال ابن القاسم في العتبية فيمن تصدق بميراثه من رجل ثم تبين أنه خلاف ذلك أن له أن يرد عطيته، وكذلك في الواضحة.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا رجوع له وأرى له مقالاً بردِّ الجميع تارة من غير شركة، وتارة يكون شريكاً، فإن كان الوارث يرى أن للموروث داراً يعرفها في ملكه وبدلها الميت في غيبته بأفضل [642/ب] كان له أن يرد جميع العطية إذا قال: كان قصده تلك الدار، وإن خلف مالاً حاضراً ثم طرأ مال لم يعلم به مضت العطية فيما علم خاصة، وإن كان جميع ماله حاضراً أو كان يرى أن قدره كذا ثم تبين أنه أكثر كان شريكاً بالزائد.
ابن عبد السلام: ولا خلاف في جواز هبة الكلب؛ لأنه يورث.
وقوله: (وَالْمَرْهُونِ) تصوره ظاهر. ثم فرع على ذلك فقال:
وَيُخَيَّرُ الْمُرْتَهِنُ فِي إِمْضَائِهَا؛ فَإِنْ لَمْ يُمْضِ فَفِي جَبْرِهِ عَلَى افْتِكَاكِهِ مُعَجَّلاً إِنْ كَانَ لا يَجْهَلُ أَنَّ الْهِبَةَ لا تَتِمُّ إِلا بِتَعْجِيلِهِ- قَوْلانِ، وَعَلَى النَّفْيِ يَحْلِفُ مَا قَصَدَ التَّعْجِيلَ، وَيَقْضِي فِي الأَجَلِ إِنْ كَانَ مُوسِراً وَيَاخُذُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ
…
إذا وهب الراهن ما رهنه خير المرتهن في إمضاء الهبة وعدم إمضائها، فإن أمضى فلا كلام ولوضوحه تركه المصنف، وإن لم يمضها ففي إجبار الواهب على افتكاك المرهون معجلاً إن كان الواهب لا يجهل أن الهبة لا تتم إلا بتعجيل الدين قولان، مذهب المدونة الإجبار.
اللخمي: وقد قيل في هذا الأصل: ليس عليه أن يعجل، وهذا هو الذي فرعه المصنف على نفي إجبار حيث قال: وعلى النفي يحلف ما قصد التعجيل. وكلام اللخمي يدل على أن هذا القول ليس نصاً في عين المسألة خلاف المصنف وابن شاس.
ومفهوم قوله: (إِنْ كَانَ لا يَجْهَلُ) أنه إن كان يجهل لم يجبر وهو ظاهر؛ لأنه لا يمين عليه؛ لأنه إنما جعل اليمين على القول بنفي الإجبار.
ويحتمل أن يقدر قوله: (وَعَلَى النَّفْيِ) أي: وعلى الحكم بنفي الجبر، فيدخل في كلامه من يجهل ومن لا يجهل على أحد القولين. وقد نص اللخمي وابن شاس على أنه إن كان ممن يجهل ذلك يحلف على ذلك ولا يجبر على تعجيل اتفاقاً.
وظاهر قوله: (فَفِي جَبْرِ الْوَاهِبِ) أنه إن رضي بالتعجيل وأجبر عليه فلا مقال للمرتهن. وقيده بعض القرويين بما إذا لم يكن الدين عروضاً مؤجلة، وأما إن كان عروضاً مؤجلة فلا يجبر المرتهن على أخذها ويبقى العبد ونحوه رهناً وليس له أن يعطيه رهناً آخر.
وقوله: (وَيَقْضِي فِي الأَجَلِ) هو مفرع على عدم إجباره، وبقي الرهن في يد المرتهن فإنه إذا حل الأجل والواهب موسر قضى الدين وأخذ الموهوب له الرهن، ثم ما ذكره المصنف إنما هو كله إذا كان المرتهن قد قبض الرهن، وأما إن لم يكن قبضه وقبضه الموهوب له فقال ابن المواز: هو أحق به من المرتهن إذا كان الواهب موسراً ولا يعجل للمرتهن حقه؛ لأنه فرط في حيازته، وإن كان معسراً فالمرتهن أولى به إلا أن يكون وهبه لثواب، وإن وهبه ثم مات قبل أن يحوزه واحد منهما فإن كان موسراً جازت الهبة وكان أحق به من المرتهن وحكم للمرتهن بتعجيل حقه، وإن أعسر بعد ذلك أتبعه بحقه.
وقوله: (فَفِي جَبْرِ) صوابه إجبار؛ لأنه من أجبر.
وَتَصِحُّ هِبَةُ الدَّيْنِ، وَقَبْضُهُ كَقَبْضِهِ فِي الرَّهْنِ مَعَ إِعْلامِ الْمِدْيَانِ بِالْهِبَةِ
يعني: وسواء كان الدين أو غيره؛ لأن الدين عام. فإن قيل: قوله: (وَقَبْضُهُ كَقَبْضِهِ فِي الرَّهْنِ
…
إلخ) يدل على أنه لم يرد ذلك إلا إذا كان على غير المديان، قيل: تخصيص الضمير لا يقتضي تخصيص الظاهر على الصحيح، وقد سمع إعلام المديان زيادة بيان؛ لأن قوله:(كَقَبْضِ الرَّهْنِ) يغني عنه، ألا ترى أنه قال في كتاب الرهن:(وَقَبْضُ الدَّيْنِ بِالإِشْهَادِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْغَرِيمَيْنِ إِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ) ثم إن إعلام المديان إنما هو مع حضوره، وأما إن كان غائباً ففي المدونة: ويصح القبض إذا أشهد وقبض ذكر الحق، وهكذا تقبض الديون.
ولم يتعرض المصنف لدفع الوثيقة. وفي المدونة في الهبة: وإن كان دينه على غيرك بوهبه لك فإن أشهد وجمع بينك وبين غريمه ودفع إليك ذكر الحق وأحالك عليه كان ذلك قبضاً. وحمله صاحب النكت على ظاهره من أنه إذا لم يدفع ذكر الحق لا تتم الهبة بموت الواهب كالدار المغلقة إذا لم يعطه مفتاحها حتى مات الواهب أنه لا يصلح للموهوب له شيء، وإن أشهد له وجعل دفع الوثيقة في وثائق ابن العطار من شروط الكمال.
وظاهر قول المصنف: (مَعَ إِعْلامِ الْمِدْيَانِ بِالْهِبَةِ) وقوله في المدونة: "وجمع بينه وبين غريمه" أن ذلك شرط ويجب أن يجعل ذلك على أنه شرط كمال؛ لأنه قد حكى في البيان في الجزء الثاني من الصدقات الاتفاق على عدم اشتراطه، فقال: ولا خلاف في أن الذي عليه الحق حائز لمن تصدق عليه به إن لم يعلم المتصدق عليه غائباً أو حاضراً.
الثَّالِثُ الْوَاهِبُ: مَنْ لَهُ التَّبَرُّعُ
أي الركن الثالث: الواهب. قوله: (مَنْ لَهُ التَّبَرُّعُ) وهي إخراج المال من غير عوض؛ أي من لم يحجر عليه، وقد تقدم بيان المحجور عليهم في باب الحجر.
وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِهِ
ظاهر.
وَشَرْطُ اسْتِقْرَارِهَا لا لُزُومِهَا الْحَوْزُ كَالصَّدَقَةِ
هذا هو المعروف أن الهبة والصدقة يلزمان بالقول ولا يتمان إلا بالقبض.
قوله: (كَالصَّدَقَةِ) تشبيه لإفادة الحكم، وروي عن مالك أنها تلزم بالقول وللواهب الرجوع فيها، وإنما تلزم بالقبض. وحكى أبو تمام أن الصدقة والحبس يتمان بالقول ولا يُفْتَقر إلى حيازة.
وعلى الأول فقال ابن القاسم: يقضى عليه بإخراج الصدقة مطلقاً.
قال أشهب: لا يجبر على إخراجها إلا إذا كانت الصدقة على معين يلي خصومته، ودليل اللزوم بمجرد القول أن هذا عقد هبة حصل بالإيجاب ولاقبول والإشارة يحتمل عودها على قوله:(وَشَرْطُ اسْتِقْرَارِهَا) ويحتمل أن تعود إلى قوله: (إِلا فِي صَدَقَةِ أَبٍ) وكلاهما صحيح على قول ابن القاسم وأشهب في افتقار الهبة إلى القبول وعدمه، فلم يكن
له رده قياساً على البيع ولقوله أو جواباً لعقده، ولما في الصحيح:"العائد في هبته كالكلب يعومد في قيئه"، فشبه الراجع بالكلب والمرجوع عنه بالقيء، وذلك غاية التنفير المقتضي للمنع.
إِلا فِي صَدَقَةِ أَبٍ عَلَى صَغِيرٍ وَعَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ
هذا الاستثناء من شرط [643/أ] الاستقرار؛ أي إلا في صدقة أب على صغير فلا يشترط في استقرار صدقته أو هبته الحوز؛ ولو قال: إلا في عطيته ليشمل الهبة وغيرها لكان أحسن، وتخصيصه الصغير والأب ليس بظاهر؛ لأنَّ السَّفيه في هذا كالصَّغير والوصي ومقدم القاضي سيان كالأب، إلا أن يقال: إنما خصصهما؛ لأنه محل الدليل أعني موافقة علماء المدينة، فمن ذلك قول عثمان:"من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة".
وفي الواضحة نحوه عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
ابن عبد السلام وغيره: واستثناؤه يوهم أن الحيازة تسقط في عطية الأب ابنه الصغير وليس كذلك، وإنما الذي اختص به الأب ومن يتنزل منزلته في حقّ الصَّغير والسَّفيه أن يكون حائزاً لما وهب لهما، فيقال في الإشهاد: رفع يد الملك ووضع يد الحوز، وألحقوا الأب بالأجنبي في سكناه وما يلبسه فشرطوا معاينة الشهود للدار خالية من شواغل الأب ولحوز الملبوس.
ونقل أبو محمد صالح الاتفاق على أنه إذا أشهد الأب على هبته لولده ولم يزيدوا على قوله: اشهدوا أني وهبت له كذا- فهي حيازة، وهذا فيما يعرف بعينه من الأصول والعروض، واختلف فيما لا يعرف بعينه كالذهب والفضة واللؤلؤ والمكيلات والموزونات؛ فروى ابن القاسم عن مالك وبه أخذ المصريون وغيرهم: أنه لا يتم الحوز ولو ختم عليه
بحضرة الشهود إلا أن يجعل على يد غيره، وذهب المدنيون إلى أنه يتم الحوز فيها بوضعها على يديه إذا أحضرها بحضرة الشهود وختم عليها بخاتمه، قالوا: وتصح أيضاً وإن لم يختمها بحضرة الشهود ولو ختموا عليها كان خيراً وأحسن.
وروي أيضاً عن مالك وقريب منه في الموطأ: أنه يجوز إذا أبرزه وإن لم يخرجه من يده، قيل: وبالأول جرى العمل وهو مذهب الرسالة لقوله: وإنما يحوز له ما يعرف بعينه.
وَتُحَازُ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ
الضمير في (تُحَازُ) عائد على الهبة، وفي (بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعود على الواهب. وقوله:(وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ) أي: الواهب على الوز إذا أباه وهذا على أنها لازمة بالقول وهو المشهور من المذهب على ما تقدم.
وفي المدونة والموازية مثل ما ذكره المصنف. وإذا فرَّعنا على المشهور اختلف المذهب في حيازة الرهن هل يشترط فيها إذن الراهن؟ واختلف في اشتراط أمر الأخذ في حيازة الهبة إذا حازها له غيره، فقال مطرف في من تصدق على ابنته وهي ذات زوج بمسكن فخزن الزوج فيه طعاماً حتى مات الأب: أن ذلك حيازة للبنت.
وقال أصبغ: لا يكون حيازة إلا أن توكله، ورواه ابن القاسم في الذي يتصدق على رجل غير سفيه بدراهم وجعلها على يد غيره وهو حاضر أنها حيازة إذا لم يشترط على المدفوع إليه ألا يدفعها إلا بأمره، ولا خلاف أنه إذا اشترط ألا يدفعها إلا بأمره أنها لا تمضي كما لا خلاف إذا قال له: خذها له، أو ادفعها له، وقال الموهوب: أمسكها عندك- أنها تمضي.
واختلف إذا لم يقل: ادفعها، ولا: أمسكها، ولو شرط إمساكها حتى يموت الواهب فلا خلاف أنها وصية ماضية من الثلث، وقاله محمد.
وَيُشْتَرَطُ حُصُولُهُ فِي صِحَّةِ جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَقِيَامِ وَجْهِهِ
أي: يشترط في تمام الهبة حصول الحوز في صحة جسم الواهب وعقله وقيام وجهه. واحترز بصحة الجسم من مرض الموت لما في الموطأ أن أبا بكر رضي الله عنه نحل ابنته أحداً وعشرين وسقاً، فلما حضرته الوفاة فقال:"والله يا ابنتي ما من الناس أحب إليَّ غنىً بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقراً منك، وإنه كنتُ نحلتك بواحد وعشرين وسقاً، فلو كنت جردتيه واحتزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هم أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله".
واحترز بصحة عقله مما لو جن الواهب قبل الحوز توقف، فإن صح الواهب لزمت وإن اتصل ذلك بالموت بطلت كما سيأتي من كلام المصنف، والمراد بقيام الوجه: ألا يفلس.
ابن عبد السلام: وظاهر كلامهم في غير هذا الموضع أن قيام الوجه هو السلامة من التفليس بالحكم من قيام الغرماء بدين إن أحاط دينهم بمال الغريم ولو لم يحكم القاضي بفلسه، وأما هذا الموضع فإحاطة الدين بمال الواهب مانعة من الحيازة، فقد نص الباجي على أنها لو حيزت وقد كان تداين ديناً يحيط بماله قبل العطية أنها لا تحاز؛ لأنه ليس له أن يعطي ملك غيره.
أصبغ في العتبية: وإن كانت قيمة الموهوب أكثر من قيمة الدين أن يبيع جميعه وإن بيع بقدر الدين قصر عنه فإنه يباع جميعه فيقضي منه الدين ويعطى ما بقي للواهب ولا شيء للموهوب له، كما لو استحقه مستحق؛ لأن الغرماء استحقوه من يده، وأما إن أداه بعد العطية وقبل الحيازة فقال مطرف وابن الماجشون: الدين أولى وتبطل الصدقة والهبة فاعتبر يوم الحيازة، وقال أصبغ: الصدقة أولى من الدين المستحدث وإن لم تقبض، وإنما يراعى يوم الصدقة لا يوم الحيازة.
الباجي: وإذا قلنا بمراعاة، فقال أصبغ: إذا تقدم الدين وقد كان له وفاء يوم الصدقة أو بعده فالصدقة المقبوضة أولى، وإن كان الأب حازها لولده الصغير حتى يعرف خلاف ذلك، كما لو استغل ما تصدق به عليهم، ولم يدرَ استغل لنفسه أو لهم فالصدقة ماضية حتى يعلم أنه إنما كان استغلها لنفسه دونهم. [643/ب].
وروى أبو زيد عن ابن القاسم في الصدقة المقبوضة لا يدري هل الدين قبلها أو بعدها: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين قبل، ونحوه في المدونة.
وَالْعَارِيَّةُ وَالْقَرْضُ كَالْهِبَةِ فِي الْحَوْزِ
يريد: وكل معروف كالعارية والمنحة والعمرى والسكنى والحبس.
ابن عبد السلام: واختلف في الكفالة، والمشهور أنها لا تفتقر إلى حيازة.
فَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَهُوَ جَادٌّ فِيهِ أَوْ سَاعٍ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الْهِبَةِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حَوْزٌ وَصَحَّتْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: بَطَلَتْ
…
أي: مات الواهب قبل الحوز والموهوب له جاد فيه؛ أي: في القبض، أو في الطلب المفهوم من السياق، والموهوب له ساعٍ في تزكية شهود الهبة لكون الواهب أنكره، فقال ابن القاسم في المدونة والموازية: هي تامة ويقضى بها للموهوب، واستشهد بالمفلس إذا خاطبه الرجل في غير سلعته ثم مات المفلس: أن ربها أحق بها إن ثبت ببينة.
ابن المواز: وليس له إيقافها إلا في البينة القريبة مثل الساعة، وأما ببينة بعيدة فلا يحال بينه وبين ربها إلا بشاهد.
وقوله: (حَوْزٌ وَصَحَّتْ) ويستغنى بأحدهما عن الآخر. وقال ابن الماجشون: وتبطل الهبة، ورأى أن غاية البينة أن يكون كإقرار الواهب، ورأى أن غاية البينة أن يكون كإقرار الواهب، ولو أقر له ومات قبل القبض بطلت.
وقال أشهب: إذا حال القاضي بينه وبينها حتى لا يجوز حكمه فيها فليقضِ بما ثبت عنده فيها، كما كان يقضي في حياته وإن لم يمنع منها المعطى ولم يطلبها فهي باطلة.
ابن راشد: وينبغي إذا لم يعلم بالهبة- فلمَّا مات الواهب دفع له عقد الهبة وعلم ذلك- ألا تبطل، وقد وقعت بتونس ووقع فيها اضطراب، ووجدت في الطراز أنه معذور بعدم علمه وهو الصواب، والله أعلم.
فَإِنْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ بَطَلَ الْقَبْضُ إِنِ اتَّصَلا بِالْمَوْتِ فَإِنْ صَحَّ فَلَهُ الطَّلَبُ الأَوَّلُ
هو ظاهر التصور ولا إشكال في المرض. وأما المجنون فوقع لابن القاسم في العتبية في امرأة تصدقت على رجل بعبد أو دين فلم يحز عنها حتى ذهب عقلها أنه كالموت والتفليس.
الباجي: يريد: فتكون موقوفة فإن برئت فهي على صدقتها، وإن اتصل ذلك بموته بطلت فهذا الحق ما ذكره المصنف.
ابن عبد السلام: وهذا إنما ينبني على الشاذ في أن الهبة لا تلزم بالقول، وأما على المشهور أنها تلزم بالقول بمقتضى القياس كون دفعها للموهوب له، والفرق بين ذهاب العقل وبين المرض والدين أن الحق في ذهاب العقل للواهب، وقد أسقط بالتزامه، والحق في المرض والدين لغير الواهب وهو الوارث والغريم. انتهى. فكأنهم يرون أن الجنون مرض.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ قَبَضَ فِيهِمَا فَثَالِثُهُمَا: وَصِيَّةٌ وَلا أَرَى قَوْلَ مِنْ جَعَلَهَا وَصِيَّةً وَلا قَوْلَ مَنْ أَبْطَلَهَا
…
(فِيهِمَا) أي: في المرض والجنون، وأعاد الضمير عليهما؛ لأنهما يفهمان من (مَرِضَ أَوْ جُنَّ).
قوله: (وَقَالَ أَشْهَبُ) هو معطوف على ما تقدم؛ وذلك لأنه قدم أن المرض يبطل القبض، ثم قال:(وَقَالَ أَشْهَبُ) فكأنه يقول: المشهور أنه إذا مرض بطلت الهبة وإن قبض في المرض؛ وهو صحيح، وقد نقل الباجي أن ابن القاسم روى عن مالك أنه إذا قبض في المرض لا يجوز وإن كانت من غير وارث، قال: واحتج بحديث أبي بكر رضي الله عنه ثم ذكر قول أشهب، وقوله في الموازية قال: يقضي له الآن بثلثها فإن صح قضى له بباقيها، ولا أرى قول من قال: تجوز كلها من الثلث، ولا قول من أبطلها.
ابن المواز: وأظن جوابه يعني أنه لم يراعِ غيرها فلذلك قال: ثلثها، ونقل عن أشهب أيضاً أنه قال: ذهب ربيعة رضي الله عنه إلى أنه إذا لم يجز المعطي عطيته حتى مات المعطي أن له ثلث العطية. وقال ابن شهاب وغيره: هي للمعطى إن حملها الثلث، ولا أقول ما قالاه.
وَلَوْ فَلَّسَ وَلَوْ بِحَادِثٍ بَطَلَتْ
ولو فلس الواهب ولو بدينٍ بعد الهبة بطلت خلافاً لأصبغ، فإنه قال: تبطل بحادث، وقد تقدم.
وَبَقَاؤُهُ فِي الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ بِاكْتِرَاءٍ أَوْ إِعْمَارٍ أَوْ إِرْفَاقٍ حَتَّى مَاتَ مُنَافٍ لِحَوْزِهِ
أي: بقاء الواهب في الدار الموهوبة بأي وجه كان إلى أن يموت لا يصح معه حوز الهبة وتبطل.
وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ هِبَةِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ دَارَ سُكْنَاهُمَا؛ لأَنَّ الْيَدَ فِي السُّكْنَى لِلزَّوْجِ
…
هو كالاستثناء من إبقاء الواهب في دار سكناه مبطل؛ أي: إلا في هبة الزوجة للزوج داراً وهي ساكنة معه فيها فإنها في ذلك تصح الحيازة بخلاف العكس.
وقوله: (لأَنَّ الْيَدَ فِي السُّكْنَى لِلزَّوْجِ) تعليل للفرق، ويعلم به حكم المسألتين وإلا فالمصنف لم يصرح بحكمهما.
(وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ) في العتبية، ونسبة التفرقة له مشعرة أن هناك من يخالفه وهو كذلك؛ لأن ابن القاسم روى عن مالك أنه حوز في الوجهين، وروى أشهب أنه حوز ضعيف لا يصح في الموضعين، هكذا حكاه ابن زرقون عن ابن العطار، وإن كان صاحب البيان قال: لا أحفظ فيه كلاماً.
ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون نسبة هذا الكلام لابن القاسم إشارة إلى أنه كالمناقض لما بعده، وأنه يتخرج في المسألة ثلاثة أقوال من المنصوص في كل واحد منهما.
وَأَمَّا الْخَادِمُ عِنْدَهُمَا وَمَتَاعُ الْبَيْتِ يَهَبُهُ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لازِمٌ، وَرَوَى أَشْهَبُ: أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ ....
ضمير (عِنْدَهُمَا) و (أَحَدُهُمَا) عائد على الزوج والزوجة، فروى ابن القاسم؛ أي: في الموازية والعتبية: أن الهبة جائزة، وروى أشهب في الكتابين أنه ضعيف وما هو بالبيِّن. واعلم أنه لم يذكر في رواية ابن القاسم متاع البيت، وكلام المصنف يوهم ذكره في الرواية، نعم روى محمد [644/أ] عن ابن القاسم وابن عبد الحكم أن متاع البيت كالخادم؛ أي على رواية ابن القاسم. محمد: وبه أقول.
ابن رشد وابن زرقون: والأظهر أن يغلب، فأشارا إلى تفرقة ابن القاسم في السكنى ففرقا واستدلا على ذلك باتفاقهم على أن القول قول الزوج إذا اختلفا في متاع البيت فيما يكون للرجال والنساء، قالا: وقد قيل القول قوله فيما عرف من متاع النساء وأنه لا يد له معه.
وقوله: (عِنْدَهُمَا)؛ أي يكون هذا الموهوب مستعملاً بينهما، وكذلك قال الباجي قال: وأما ما يستعمل منفرداً كعبد الخراج ففي العتبية من سماع أشهب عن مالك في امرأة
نحلت ابناً لها صغيراً عبداً فلم يحزه الأب ولا الولي حتى ماتت الأم أن ذلك مختلف، فأما غلام الخراج فليس بحوز للصبي، وأما غلام الخدمة يخدمه ويختلف معه ويقوم في حوائجه فإنه حوز، وكذلكلو نحله أبوه الغلام وهو مع أبيه لكن اختلافه معه وخدمته للحوز، وإن خدم الأب مع الغلام إلى أن مات الأب.
وَلَوْ حَازَهَا ثُمَّ أَجَّرَهَا أَوْ أَرْفَقَ بِهَا الْوَاهِبُ فَرَجَعَ إِلَيْهَا عَنْ قُرْبٍ بَطَلَتْ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ فَقَوْلانِ
…
أي (لَوْ حَازَهَا) الموهوب الهبة (ثُمَّ أَجَّرَهَا) للواهب (أَوْ أَرْفَقَ بِهَا الْوَاهِبُ) فرجع إلى الهبة عن قرب (بَطَلَتْ) الهبة باتفاق لما دلت عليه القرينة أن ذلك تحيُّل لإسقاط الحيازة، وهكذا صرح الباجي وغيره بالاتفاق. وإن كان عن طول وهو سنة فقولان، وأقربهما أن ذلك لا يضر وهو الذي رواه محمد عن مالك وأصحابه، والقول بأن ذلك يبطلها لمطرف وابن الماجشون.
ووقع في بعض النسخ عوض قول المصنف: (قَوْلانِ)(رِوَايَتَانِ) والأولى أصح؛ لأن الثاني ليس هو رواية.
وقد رجح قول مطرف بالقياس على الرهن، ويجاب أن الرهن على ملك الراهن ولذلك اشترط فيه استدامة الحيازة بخلاف الموهوب، ويدل على هذا اتفاقهم على أنه لو رجع الواهب في الهبة مختفياً أو ضيفاً فمات أن ذلك لا يبطل الهبة وإن كان عن قرب، وهو معنى قوله:
وَلَوْ رَجَعَ مُخْتَفِياً أَوْ ضَيْفاً فَمَرِض فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلْ وَلَوْ كَانَ عَنْ قُرْبٍ
أي: ولو بعد يوم، قاله مطرف وابن الماجشون، وهذا بخلاف الرهن فإنه يبطل بذلك.
قوله في صدر المسألة: (وَلَوْ حَازَهَا ثُمَّ أَجَّرَهَا) يدل على أن الموهوب له يحوز لنفسه، أما إن كان صغيراً فحاز عنه الأب أو غيره ثم رجع الأب إليها قبل أن يكبر ويحوز لنفسه سنة فهي باطلة.
محمد: لا يختلف في ذلك مالك وأصحابه، والفرق بين الصغير والكبير أن الولد الكبير يتصور منه منع الأب من الرجوع في الهبة فلا يعد رجوع الأب إليها رجوعاً في الهبة، والصغير لا يقدر على ذلك فيعد رجوعه رجوعاً في الهبة.
وما ذكره ابن المواز من الاتفاق على بطلانها بذلك إذا سكنها الأب وحده، وأما إن سكن فيها مع الولد فظاهر قول مالك أيضاً البطلان. وحكى أبو محمد مكي في كتاب الاختلاف عن ابن حبيب أنها لا تبطل؛ لأنه إنما سكن بحضانته لهم.
وَلَوْ بَاعَ الْوَاهِبُ فَإِنْ عَلِمَ نَفَذَ وَالثَّمَنُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رُدَّ وَهُوَ عَلَى طَلَبِهِ
يعني: لو باع الواهب الهبة قبل أن يحوزها الموهوب له افترق الحكم بسبب علم الموهوب له وعدم علمه، فإن علم الموهوب له نفذ البيع والثمن للموهوب له، هكذا في المدونة على إحدى الروايتين، وذلك أنه قال في أول كتاب الصدقة: ومن تصدق على رجل بصدقة ولم يقبضها حتى بيعت تم البيع وكان الثمن للمعطي.
وروي بفتح الطاء اسم المفعول وهذا موافق لكلام المصنف، وروي بكسر الطاء اسم فاعل ومقتضى القياس خلاف الروايتين؛ إذ الهبة تلزم بالقول فكان القياس يقتضي أن يجيز الموهوب في إجازة البيع أو رده، إلا أنهم راعوا قول من يقول: إنها لا تلزم إلا بالقبض.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ)؛ أي: الموهوب له بالهبة رُدَّ البيع والموهوب له على طلبه بالحوز.
وقوله: (رُدَّ) إن أراد الموهوب له ذلك، وإن أراد إمضاءه فله ذلك كبيع الفضولي.
ابن يونس: وكذلك يكون له رد البيع إذا علم الموهوب له ولم يفرط حتى جاعله؛ يعني المتصدق بالبيع، ونحوه لأصبغ.
وما ذكره المصنف من التفرقة بين علم الموهوب له وعدم علمه هو مذهب المدونة، ولابن القاسم أن البيع أولى؛ لأن البيع عقد معاوضة فكان أولى، ونحوه لأشهب.
وروى أبو زيد عن ابن القاسم يرد البيع ويأخذ المعطي عطيته فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: ثالثها المشهور: الفرق فإن علم نفذ وإن لم يعلم رد. وزاد المتيطي رابعاً بأن المتصدق عليه أولى إن كان لم يفرط في الحيازة، وإن فرط لم يكن له شيء وهو قوله في العتبية. وخامساً: الفرق بين ألا يمضي من المدة ما لا يمكنه فيه الحوز فيكون أحق وبين أن يمضي ما يمكنه فيه الحوز فلا يكون له إلا الثمن. وسادساً أنه إن مضى ما يمكنه فيه الحوز لم يكن له شيء.
الباجي: وإذا قلنا ينقض فروى محمد عن ابن القاسم إنما ذلك المعطى المعين فيقضى له، وأما إن كان لغير معين مثل أن يجعل داره في السبيل ثم يبيعها فلا يبطل البيع؛ لأنه لا يقضى عليه بها، وإن قلنا بإمضاء البيع فقال أشهب وابن عبد الحكم: تبطل الصدقة ولا شيء للمعطى من الثمن.
وروى ابن حبيب [644/ب] عن مطرف: إن كان المعطى حاضراً فلم يقم حين علم بالبيع مضى وله الثمن، فإن مات المعطي على إثر ذلك ولم يفرط بطل البيع لكون العطية ملكاً.
مطرف وابن القاسم: ولو كان المعطي غائباً فقدم في حياة المعطي خير بين رد البيع وأخذ الثمن.
فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ عِلْمِهِ فَفِي بُطْلانِهَا قَوْلانِ. وَاضْطَرَبَ فِيهَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ بِخِلافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ
…
أي: فإن مات الواهب قبل علم الموهوب بالهبة وقد كان الواهب باعها فقال ابن القاسم في المدونة وغيرها: بطلت.
قال بعض من تكلم هنا: بطلت، والقول بعدم البطلان لا يكاد يوجد؛ لأن الواهب مات قبل حيازة الموهوب له، ولاسيما وقد انضم إلى هذا مبطل آخر وهو بيع الواهب لها وليس وهمه في هذا، والله أعلم أن ابن شاس ذكر مسألة البعي ثم مسألة الموت ثم قال: وقال محمد: اضطرب قول ابن القاسم فظن أن هذا الاضطراب راجع إلى الموت فذكر فيه قولين وليس كذلك، وإنما راجع إلى أول المسألة، وكذلك ذكره الباجي وغيره في مسألة البيع. انتهى.
خليل: ويمكن أن يجعل هذه مستقلة لا مفرعة على التي قبلها ويكون ضمير (مَاتَ) عائداً على الموهوب، ويكون القول بالبطلان معللاً بعدم القبول، والقول بالبطلان معلل بالقبول كما قالوا في من أرسل هدية، والله أعلم.
وقوله: (بِخِلافِ الرَّهْنِ) ابن راشد: يعني لأنه إذا باعه قبل القبض نفذ من غير خلاف. انتهى.
وقد قال بعضهم: معناه بخلاف ما لو رهن العطية فإن الرهن يبطل وتصح العطية، ونحوه للباجي لأنه قال: ولو رهن المعطي العطية قبل القبض فقال ابن القاسم في من حبس على ابنه ثم رهنه فمات: بطل الرهن وثبت الحبس. وفي بعض النسخ بعد قوله: (بِخِلافِ الرَّهْنِ) فإنها تبطل إذا رهنها وهكذا حكى ابن شاس، أما لو رهنها الواهب ثم مات فقال ابن القاسم: ثبت الرهن وتبطل الهبة.
فَلَوْ كَانَ وَهَبَهَا وَحَازَهَا الثَّانِي فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هِيَ لِلأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ وَالْحَائِزُ أَوْلَى
…
يعني: فلو وهب الواهب الهبة بعدما وهبها ولم يكن الأول قد حازها وحازها الثاني، فقال ابن القاسم: هي للأول، وقال أشهب- وهو اختيار محمد: الثاني أولى بحيازته؛ وروي أيضاً عن ابن القاسم.
والأول أقيس؛ لأن الهبة عندنا تلزم بالقول فلم يهب إلا ملك الأول، وظاهر هذين القولين أنه لا فرق بين أن يفرط الموهوب له أو لا، وزاد في البيان في الرابع من الصدقات قولين آخرين؛ أحدهما: أن يعلم فيفرط أو لا يعلم، والثاني: الفرق بين أن يمضي من المدة ما يمنكه فيه القبض أم لا، وعلى قول ابن القاسم فقال أصبغ في العتبية: إن علم الموهوب بالهبة وفرط فلا شيء له، وإن لم يعلم أو علم ولم يفرط وقدم المتصدق فعاجله بأن تصدق بها على غيره، فالأول أولى إن أدركها قائمة فله قيمتها على المتصدق، وهذا الفرق يقوي قول أشهب فوقه؛ إذ لم ينزل الهبة منزل البيع.
فَإِنْ أَعْتَقَ الْوَاهِبُ الأَمَةَ أَوِ اسْتَولْدَهَا فَفِي رَدِّهِ وَتَقْوِيمِ الأَمَةِ قَوْلانِ
أي: قبل حوز الموهوب له، والقول بإنفاذ العتق والاستيلاد من غير قيمة لابن القاسم في العتق الثاني من المدونة: وسواء علم المعطي بالهبة أو لم يعلم، وقاله في الموازية والعتبية، والقول برد العتق ولزوم قيمة الأمة في الإيلاد لابن وهب وهو أقيس وله رده- راجع للعتق وتقويم الأمة للإيلاد فهو لف ونشر، وزاد في البيان ثالثاً للمغيرة: أن العتق أولى على كل حال إلا أن يكون بين الصدقة والعتق ما لا يمكن فيه الحوز من المدة.
الباجي: إذا قلنا بقول ابن القاسم فكاتب الواهب العبد أو دبره أو أعتقه إلى أجل فقال أصبغ: يمضي ولا شيء للمعطي في خدمة المدبر ولا كتابة المكاتب ولا رقبته إن عجز.
ابن القاسم: ولو قتله رجل فالقيمة للموهوب له.
الباجي: لأن قتله ليس بمعنى الرجوع.
وَفِي بَيْعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهِبَتِهِ قَوْلانِ، بِخِلافِ الْعِتْقِ
سقطت هذه النسخة من نسخة ابن راشد وابن عبد السلام هي ثابتة عندنا؛ أي: إذا وهب الموهوب له الهبة أو باعها قبل أن يقبضها فهل ذلك حوز ولا يضر بعد ذلك موت الواهب قولان؛ والقول بأنه حوز لمطرف ونحوه لمالك من رواية ابن وهب، لكن قال: إن أشهد المعطي على فعله وأعلن. وقال أصبغ: ليس حوزاً.
وروى ابن الماجشون أن البيع حوز وليست الهبة حوزاً؛ لأنها محتاجة إلى حوز، واتفقوا على أن العتق حوز، وإلى هذا أشار بقوله:(بِخِلافِ الْعِتْقِ).
وَمَنْ حَبَسَ دَاراً أَوْ دُوراً وَهُوَ فِي بَعْضِهَا وَحِيزَ الْبَاقِي فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا حِيزَ لَزِمَ دُونَ الْبَاقِي، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ كَثِيراً لَزِمَ الْجَمِيعُ، وَإِلا فَلا
…
أي: أو وهب أو تصدق، فإن سكن بيتاً صغيراً منها؛ أي من دور كثيرة، أو داراً صغيرة منها؛ أي من دور كثيرة، (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا حِيزَ لَزِمَ) وهذا القول حكاه ابن الجلاب وقال: يبطل ما سكنه قليلاً كان أو كثيراً. واعتبر في هذا القول كل شيء بانفراده، وقيل: إن كان المحاز كثيراً لزم الجميع؛ يعني: ما سكن وما حيز عنه، مثل أن يسكن داراً صغيرة من دور أو بيتاً صغيراً من دار، هكذا حكى ابن شاس هذا القول واعتبر فيه التبعية.
وحكى ابن شاس قولاً ببطلان الجميع بمطلق [645/أ] السكنى.
وفي المدونة: ومن حبس على صغار ولده داراً أو دوراً أو وهبها لهم أو تصدق بها عليهم فذلك جائز وحوزه لهم حوز، إلا أن يكون ساكناً في كلها أو جلها حتى مات فيبطل جميعها أو تورث على فرائ الله، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن سكن أقلها وأكرى لهم باقيها فذلك نافذ فيما سكن وفيما لم يسكن.
مالك: وقد حبس زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وسكنا منزلاً منهما حتى ماتا فنفذ حبسهما في ما سكنا وفي ما لم يسكنا.
وفرق بعضهم بين الحبس والصدقة فلم يجزه في الصدقة.
اللخمي: وإن سكن النصف وحيز النصف بطل ما سكن وصح ما لم يسكن، ونسبه لابن القاسم وأشهب بجعل القليل دون النصف والكثير ما فوقه.
وفي الواضحة: القليل ما دون الثلث. وفي الموازية عن ابن القاسم وأشهب: إن سكن قدر الثلث فأقل جاز الحبس. وفي المتيطية: إن سكن ثلث الحبس أو أقل نفذ الحبس في ما سكن وفي ما لم يسكن، وإن كان أكثر من الثلث لم يجز شيء من الحبس ورد جميعه ميراثاً، هذا مذهب المدونة وبه الحكم. انتهى. ففهم أن الثلث كثير وهو خلاف ما قاله اللخمي.
ولأصبغ قول آخر بالتفصيل بين الدار والدور، فقال في الدور: ما سكن منها من دار فهي باطلة وصح غيرها قل أو كثر، وأما دار واحدة فإن سكن منها يسيراً جازت كلها وإن سكن أكثرها بطلت، ولا يظهر لتخصيص المصنف بالحبس معنى.
وقد نص في المدونة على أن الهبة والصدقة كالحبس كما تقدم ولاسيما والباب إنما هو معقود للهبة. وقيد صاحب البين الإطلاق في سكنى الأب الأكثر من الدور وبما إذا كان هو الحائز، قال: وأما إن سكن الأب الأكثر أو الجل وحاز الكبار بقيتها فيجوز لهم ما حازوه، ولا أعرف فيه نص خلاف.
وَفِي جَعْلِ هِبَةِ الْمَغْصُوبِ كَالدَّيْنِ يَحُوزُهُ بِالإِشْهَادِ قَوْلانِ. وَاخْتَارَهُ سُحْنُونٌ وَأَنْكَرَهُ يَحْيَى
…
يعني: إذا وهب ما تحت يد الغاصب لم يكن الإشهاد حيازة عند ابن القاسم وأصبغ في المدونة. وقال أشهب: هي حيازة كالدين.
قوله: (يَحُوزُهُ بِالإِشْهَادِ) بيان لحكم الدين المشبه به وهي جملة في موضع الحال من الدين، وذلك لأنه لما شبه هبة المغصوب بالدين في أحد القولين- بَيَّن حكم الدين، وهي زيادةُ إيضاحٍ، وإلا فقد قام ذلك.
قوله: (وَاخْتَارَهُ سُحْنُونٌ) اختار جعله كالدين، وضمير (أَنْكَرَهُ) عائد على الجعل أو على الاختيار المفهوم من (اخْتَارَ).
واختار محمد أيضاً قول أشهب إلا أنه خالفه في الحجة؛ لأنها ليس حوزاً، وغير هذا يرد: لا يقدر على أكثر من هذا، وقال: لأن الغاصب ضامن فهو كالدين.
اللخمي: وتعليل أشهب أحسن؛ لأن الواجب رفع يده ولا يقدر على أكثر من هذا وليس كالدين؛ لأنه إنما وهب عين المغصوب ولم يهب قيمته ولما قال في المدونة: وليس قبض الغاصب قبضاً للموهوب له، قيل له: ولِمَ والهبة ليست في يد الواهب؟ قالت: لأن الغاصب لم يقبض للموهوب ولا أمره الواهب بذلك فيجوز إذا كان غائباً.
قال بعضهم: ظاهره لو أمره جاز، وهذا إذا رضي الغاصب أن يحوز.
وَفِي هِبَةِ الْمُودَعِ لَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُهِبَ لَهُ فَقَبَضَ لِيَتَرَوَّى ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ
…
يعني: إذا وهب رب الوديعة للمودع الوديعة بأن قال: قبلت تمت الهبة وإن لم يقل قبلت حتى مات الواهب، وفي معنى ذلك: إذا وهب الدين للمديان ولم يقل قبلت حتى مات الواهب فقولان: الأول لابن القاسم في المدونة والموازية: أنها باطلة لأنها لم تنقل إلى ملك الموهوب له قبل موت الواهب؛ إذ من شرط النقل القبول.
والثاني لأشهب: أنها جائزة؛ لأن كونها بيده أحذر للحوز، قال في الموازية: إلا أن يقول: لا أقبل، واستحسنه محمد.
ومفهوم قوله: (حَتَّى مَاتَ) أنه لو قال: قبلت قبل موت الواهب وبعد مفارقة المجلس أنها تصح، واعترضه التونسي وقال: كان يجب على أصل ابن القاسم: إذا افترقا ألا تصح؛ لأنه كلام يقتضي جوابه على رهنه، كما لو قال: بعتك بكذا، ولم يقل له المبتاع شيئاً فليس له بعد افتراقه أن يقول رضيتها، قال: وإنما اختلفوا في التمليك بعد المجلس؛ لأنه لم يحتج إلى نظر.
قوله: (وَكَذَلِكَ مَنْ وُهِبَ لَهُ .. إلخ) هو ظاهر التصور، ومقتضى كلامه أن القولين جاريان أيضاً، لكن قال ابن راشد: جعل محمد هذه المسألة حجة لقول أشهب في الوديعة، وذلك يقتضي أنها نافذة له وإن لم يقل قبلت بغير خلاف وإلا لما صح الاحتجاج بها. انتها.
وهو كلام ظاهر، والفرق ظاهر؛ لأن إنشاء القبض من الموهوب قوي في الدلالة على الرضا بخلاف الوديعة، فإنه ليس فيها ذلك.
قوله: (لِيَتَرَوَّى) أي: ليرى رأيه.
وَلَوْ تَصَدَّقَتْ بِصَدَاقِهَا فَقَبِلَهُ ثُمَّ مَنَّتْ عَلَيْهِ فَرَدَّ كِتَابَهَا أَوْ أَشْهَدَ لَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ؛ لأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ
…
هو ظاهر؛ لأن صداقها عليه دين فإذا قبل سقطت فإذا رده إليها أو أشهد على نفسه كان هبة منه لها، فإذا مات لم يكن لها شيء؛ لأنها عطية لم تقبض قبل موت الواهب.
وَإِذَا وَهَبَهُ مَا تَحْتَ يَدِ الْمُودَعِ وَمَاتَ وَعَلِمَ الْمُودَعُ صَحَّتْ، بِخِلافِ مَا لَوْ وَهَبَهُ مِمَّا تَحْتَ يَدِ وَكِيلِهِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ إِلا مَا قَبَضَ
…
صوابه على مذهب سيبويه [645/ب] وهب له كما تقدم؛ يعني إذا وهب الوديعة لغير من هي تحت يده (وَمَاتَ) أي: الواهب.
(وَعَلِمَ) جملة في موضع الحال، زاد ابن القاسم في فرض المسألة رواية سحنون: ولم يأمر الواهب الموهوب بقبض الهبة، ولم يذكر ابن المواز هذه الزيادة، بل ذكر إذا جمع بينهما واشترط العلم ليكون حائزاً للموهوب له ولو دفعها الواهب كان رضا بخلاف ما وهب له ما تحت وكيله فإنه لا شيء له إلا ما قبضه، فلو وهبه مائة فقبض خمسين ثم مات الواهب لم يكن له إلا الخمسون؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، ومسألة الوكيل رواها عيسى عن ابن القاسم في العتبية، ورواها أبو حنيفة عن مطرف وأصبغ.
وَمَا تَحْتَ يَدِ الْمُخْدَمِ وَالْمُسْتَعِيرِ كَالْمُودِعِ. وَلَمْ يَشْتَرِطِ ابْنُ الْقَاسِمِ عِلْمَهُمَا بِخِلافِ الْمُودَعِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ لا يَحُوزَ لِلْمَوْهُوبِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الإِخْدَامُ وَالْهِبَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَهُوَ حَوْزٌ لَهُ، وَإِلا فَلا
…
(كَالْمُودِعِ) فيه حذف مضاف؛ أي كوديعة المودع فيكتفي بعلم من هما بيده إذا أشهد الواهب، وكذلك قال ابن شاس، وحيازة المخدم والمستعير حيازة للموهوب له إذا أشهد. ونقل في النكت عن بعض شيوخه أنه اعتبر علم المخدم ورضاه كما في فضلة الرهن.
اللخمي: ويشترط أن يبتل له الرقبة الآن وتكون المنفعة على المخدم على الواهب ولا على الموهوب له، قال: وإن وهب إليه المرجع بعد انقضاء الخدمة ليس الآن لم يكن له حوز. انتهى.
وعلى هذا فلا تشبيه بين المخدم والمستعار وبين المودع في حصول الحيازة بالعلم.
قوله: (وَلَمْ يَشْتَرِطِ ابْنُ الْقَاسِمِ عِلْمَهُمَا) هكذا قال في المدونة. وقوله: (لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ لا يَحُوزَ لَهُ) أي: المودع لما كان قادراً على رد ما تحت يده إلى من دفعه له صار كالوكيل لمن استحفظه على ذلك، والموهوب له هو المالك الآن فلابد من علم المودع بمن هو حافظ، والمخدم والمستعير غير قادرين على رد ما قبلاه من المعطي فليسا بوكيلين لأحد فلا يشترط عملهما، وهذا القول للتونسي.
وقوله: (وَقِيلَ .. إلخ) نص في الجواهر. وقال عبد الملك: إذا تقدم الخدمة لم يكن المخدم حائزاً للموهوب، وإن أخدم ووهب في مرة واحدة كان ذلك حيازة للموهوب.
عبد الملك: ولو كانت الهبة والإخدام في عبد فقتل بعد ذلك كان قيمته لمن وهبت له الرقبة.
وَمَا تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَاجِرِ لَيْسَ بِحَوْزٍ، إِلا أَنْ يَهَبَ الإِجَارَةَ، فَقَالَ أَشْهَبُ: الْمُسْتَاجِرُ كَالْمُودَعِ
…
الأول مذهب ابن القاسم: أن المرهون لا يتم حوزه إلا بافتكاكه كما تقدم في بابه، وأما المستأجر فلا يتم إلا أن يهب الإجارة. وقيده ابن زرقون وغيره بأن تكون الإجارة غير مقبوضة ليكون اقتضاء الموهوب منه الإجارة حيازة، وأما قبض الواهب الأجرة فلا. والفرق بين المخدم والمرتهن والمستأجر أن المخدم محوز عن ربه والمستأجر والمرهون محوز له.
قوله: (فَقَالَ أَشْهَبُ: الْمُسْتَاجِرُ كَالْمُودَعِ) ظاهره أنه لا يفتقر إلى علم المستأجر وفيه نظر؛ لأن الذي له في الموازية أن ذلك نافذ إذا أشهد وإن لم يسلم الإجارة معه، هكذا نقل اللخمي وغيره.
ابن عبد السلام: والأحسن لو زاد المؤلف فيما حكاه عن أشهب التشبيه بالمستعير فيقول كالمودع والمستعير، هكذا في الرواية عن أشهب؛ لأن اقتصاره على التشبيه بالمودع يوهم موافقة لابن القاسم في تفريقه بين المودع والمستعير من غير حاجة لذلك.
وَالْمُرْسِلُ هَدِيَّةً يَمُوتُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وُصُولِهِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَرْجِعُ إلى الْمُهْدِي أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَعُلِّلَ بِفَوَاتِ الْحَوْزِ أَوْ بِعَدَمِ الْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ بَطَلَتْ بِخِلافِ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِنْ كَانَ لِمَنْ حَوْزُهُ حَوْزٌ لَهُمْ كَصِغَارِ بَنِيِه وَأَبْكَارِ بَنَاتِهِ مَضَتْ إِنْ أَشْهَدْ
…
أي: إذا أرسل هدية لغائب عنه ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل وصول الهدية ففي المدونة ترجع إلى المهدي أو إلى ورثته. وتبع المصنف في التعليل بفوات الحوز راجع إلى موت الواهب، وبعدم القبول راجع إلى موت الموهوب.
وفي المدونة: مقيد بما إذا لم يشهد، وأما إذا أشهد فهي للمعطى أو لورثته، وتبع المصنف في التعليل الذي ذكره ابن شاس ونسبه المؤلف للمدونة لإشكالها، أما أولاً: فلأنه أبطلها بموت الموهوب والمؤثر في بطلان الهبة إنما هو موت الواهب.
وقد نص في المدونة في باب الهبة على خلاف هذا فقال: وإن وهبت هبة لحر أو عبد ولم يقبضها حتى مات فلورثة الحر ولسيد العبد قبضها وليس لك أن تمتنع من ذلك. وإلى هذا الإشكال أشار التونسي وغيره، ولهذا قال عياض: ولعل ما في المدونة أن يقول الباعث: أنا إنما قصدت بها صلة للمبعوث إليه بعينه إن وجد حياً، ويكون مصدقاً؛ إذ لا يلزمه إلا ما أقر به من معروفه إذا لم يشهد على أصله فيلزمه بظاهر فعله وقوله.
وأما ثانياً: فلأنه قد أمضاها بالإشهاد وهو مبطل للتعليل، ولهذا قال ابن عبد السلام: الصواب عندهم في تعليل المسألة أنه مع الإشهاد قد فعل غاية المقدور في الحوز.
قوله: (وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ .. إلخ) هو كما حكيناه عن المدونة في الهبة. قوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ .. إلخ) هذا تأويله [646/أ] عن مالك في رواية يحيى عنه، قال: سألت ابن القاسم عن قول مالك في الرجل يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت قبل أن يبلغهم ذلك المتاع أنهم لهم، قال: وإنما أراد أن يكون اشتراه لأصاغر ولده، ومثله روى علي بن زياد عن مالك أن الإشهاد لا ينفع في ذلك لمن يحوز عليه من ولده الصغير، وأما الكبير والأجنبي فلا يحوز لهم إلا أن يحوزه غيره. ورده محمد بأن الإشهاد في مثل هذا هو الحوز، ورآه أيضاً عياض بأنه لو لم يحز إلا للصغار لم يختص ذلك إلا بالحج والسفر دون الإقامة، ولا معنى لما قاله بعض الصقليين، إنما يعني ذلك إذا وهب العين ثم اشترى به فعجل الشراء يقوم مقام الحوز؛ لأن مسألة الذي وجه صلته وهبته قد جعلها حوزاً، والعلة في ذلك كله عدم التفريط في الحوز. واعترض كلام المصنف بأن ظاهر كلامه أن تأويل ابن القاسم في المسألة إنما هي في موت المهدي إذا كانت الهدية بيده، ولو أخر تأويل ابن القاسم إلى مسألة الحاج كان أولى؛ وهي قوله:
وَمَا يَسْتَصْحِبُهُ الْحَاجُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْهَدِيَّةِ لأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ كَذَلِكَ
أي: المشهور فيه الاكتفاء بالإشهاد؛ لأن غاية المقدور عليه، وتصور هذا الكلام ظاهر.
فرع:
قال مالك: وإن حلى الأب صبياً بحلي ثم مات فهو للصبي دون الورثة؛ لأنه مظنة الحوز.
فائدة:
لا تعتبر حيازة أخ ولا غيره من غير الموهوب إلا في أربع مسائل: المتصدق بثوب في السفر، والحاج يشتري لأهله شيئاً ويشهد عليه ثم يموت، والحبس الذي لا غلة له كالسلاح إذا أخرجه مرة ثم رجع له، والدار يتصدق بها فتحاز عنه سنة ثم يكريها فيموت فيها.
وَالْهِبَةُ قِسْمَانِ: مُقَيَّدٌ بِنَفْيِ الثَّوَابِ، وَمُطْلَقٌ
وقسم مطلق، وبقي عليه قسم آخر وهو مقيد بالثواب وذكره آخر الباب.
الأَوَّلُ: قِسْمَانِ: لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ فَلا رُجُوعَ إِلا لِلأَبِ والأُمِّ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَحُزْهُ الْمُتَوَلَّى عَلَيْهِ
…
يعني: أن القسم الأول وهو المقيد ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يراد به وجه الموهوب له وهو معنى قوله: (لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ)، والثاني: أن يريد به وجه الله. وما ذكره من أنه لا رجوع للواهب للمودة والمحبة إلا للأب أو للأم هو مذهب مالك، ودليله ما رواه أبو داود عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن
عباس رضي الله عنهم عنه عليه السلام قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يعود في قيئه" ورواه النسائي أيضاً، وقال أبو عمر: وصله حسين المعلم وهو ثقة.
وتقاس الأم على الأب. وقيل: هو لعبد الملك قال: لا تعتصر الأم إذا حاز الهبة عنها له أبوه أو وهبه أو وهو إن كان يلي نفسه، قال: ويعتصر الأب؛ لأن أصل العصرة له، قال: وإنما تعتصر ما وهبت له إذا كانت هي التي تليه ولم تخرج الهبة عن يده.
اللخمي: واختلف في اعتصار الأب إذا كان فقيراً، فقيل: له ذلك، ومنعه سحنون قال: وإنما يعتصر إذا كان الأب في حجره أو بائناً عنه وله مال كثير، وصح اعتصار الأم إذا كان للولد أب سواء كان الأب موسراً أو معسراً أو الابن موسراً، ويختلف إذا كان الابن والأب فقيرين قياساً على اعتصار الأب من الولد الفقير، ويصح اعتصار أم مع عدم الأب إن كان الاب موسراً، قاله أشهب في الموازية.
ولا يصح إذا كان صغيراً فقيراً؛ لأنها حينئذٍ على وجه الصدقة، ويختلف إذا كان كبيراً فقيراً فعلى قول سحنون لا تعتصر، والمعروف من المذهب أنها تعتصر وإن كان صغيراً فقيراً ثم أيسر قبل البلوغ أو بعده لم يعتصر؛ لأن المراعى حين العطية هل كان على وجه الهبة أو الصدقة إن كان له أب يوم العطية، ولم تعتصر الأم حتى مات الأب كان لها أن تعتصر؛ لأنه لم تكن على وجه الصدقة، وفي الموازية: لا تعتصر، والأول أحسن؛ لأن المراعى يوم العطية. انتهى مختصراً.
وَفِي إِلحَاقِ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ بِهِمَا رِوَايَتَانِ
الإلحاق لمالك في الموازية؛ لأن الجد يطلق عليه أب، وعدم الإلحاق رواه ابن القاسم في المدونة؛ لأن الأصل عدم الرجوع ولا يتحقق دخولها تحت الحديث.
وَلَوْ تَلِفَ الْمَوْهُوبُ أَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ أَوْ تَزَوَّجَتِ الْبِنْتُ أَوِ ادَّانَ الابْنُ لأَجْلِ الْهِبَةِ- وَقِيلَ: مُطْلَقاً- فَاتَ الرُّجُوعُ ....
لما ذكر الاعتصار شرع في موانعه، وامتنع مع تلف الموهوب لفوات محل الاعتصار، وكذلك إن زال ملكه عنه؛ أي ببيع أو هبة أو غير ذلك.
قوله: (أَوْ تَزَوَّجَتِ الْبِنْتُ) لعله خصصه للاتفاق عليها لما تعلق للزوج من الحق في مالها، وظاهر المذهب أن تزويج الابن كذلك، وهو مذهبه في الموطأ وبه قال ابن القاسم في العتبية من رواية عيسى، وهو ظاهر المدونة لقوله: كذلك إن بلغ الصغار ما لم ينكحوا. وقال ابن دينار: نكاح الذكر لا يمنع الاعتصار؛ لأنه دخل في أمر مخرجه بيده بخلاف الأنثى، والأظهر أن الأنثى أيضاً تعلقاً بمال الزوج بسبب النفقة والكسوة والسكنى؛ إذ ذلك كله على قدر ماله.
وقوله: (أَوِ ادَّانَ الابْنُ) لعله خصصه؛ لأنه الذي يتصرف غالباً وإلاف لا فرق بين الابن والبنت في هذا.
وقوله: (لأَجْلِ الْهِبَةِ) مفهومه أنه لو داينوه، لا لأجلها جواز الاعتصار كما لو كان الابن [646/ب] موسراً أو يعلم أنه لم يداين للهبة، وهذا مذهب الموطأ ورواه مطرف وقال به، وبه قال ابن القاسم وأصبغ ومحمد.
وقوله: (وَقِيلَ: مُطْلَقاً) وقيل الدين مطلقاً سواء كان لأجل الهبة أم لا يمنع الاعتصار، ونسبه صاحب البيان لابن الماجشون، والظاهر أن المراد بقوله:(أَوِ ادَّانَ لأَجْلِ الْهِبَةِ) أن يكون رب الدين قد قصد ذلك ولا يكفي قصد الولد، هذا مقتضى كلام اللخمي وغيره لقوله: وإن دويِن أو تزوج أو تزوجت البنت لأجل الهبة امتنع الاعتصار. قال محمد: ويمتنع الاعتصار إذا داينه الناس لأجلها، وإن كان أبو الحسن قال: انظر لو
كانت الهبة كثيرة ولم تعلم الزوجة ولا الذي داينه بها هل يصح الاعتصار إذا لم ينكح لذلك ولا داين له؟
وَلَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا فَكَذَلِكَ وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ مَرِضَ الأَبُ فَلَهُ، وَقَالَ أَيْضاً: فَلَيْسَ لَهُ، وَقَالَ: وَأَمَّا الابْنُ فَلا أَدْرِي
…
أي: الواهب أو الموهوب له (فَكَذَلِكَ) أي: يفوت الاعتصار عند مالك وابن القاسم. قال في البيان: وهو المشهور؛ لأنه لو مرض الواهب فاعتصاره لغيره وهو الوارث، وإن مرض الموهوب له فقد تعلق حق ورثته به. وروى أشهب: إن مرض الأب فله الاعتصار دون العكس؛ لأن الاعتصار له قبل المرض فلا يزول به عملاً بالاستصحاب.
ابن نافع: وللسيد أن ينتزع مال مدبره وأم ولده أقرَّا عنه على مال ولده وإن كان قد وهبه؛ لأن العبد ملك على ترقب والولد ملك حقيقة، وقدرة الأب على الاعتصار لا توجب ضعفاً في ملكه، فانظره.
وَعَلَى إِفَاتَتِهِ لَوْ زَالَ، فَفِي عَوْدِ الرُّجُوعِ قَوْلانِ
الضمير في (إِفَاتَتِهِ) وفي (زَالَ) يعود على المرض، والقول بعود الاعتصار لابن القاسم وأشهب والمغيرة وابن دينار وابن الماجشون.
ابن القاسم: لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه فهو بخلاف النكاح والمداينة، والقول بعدم الاعتصار لمالك في الواضحة وقاله أصبغ. واختار اللخمي الأول، ولسحنون ثالث بعود الاعتصار بزوال ملك الأب دون الابن، أما لو حصل تزويج ثم زال فلا يعود الاعتصار، ولم يحكِ اللخمي في ذلك خلافاً. والفرق ما أشار إليه ابن القاسم كما ذكرناه؛ لأن مانعية النكاح والدين مانعية محققة، ألا ترى كيف اتفق عليها دون المرض.
وَلَوْ وُهِبَ له عَلَى هَذِهِ الأَحْوَالِ فَفِي إِفَاتَتِهَا الرُّجُوعَ قَوْلانِ
أي: لو وهب له وهو مزوج أو مديان أو مريض فقال ابن الماجشون: لا رجوع لها. وقال أصبغ: له الرجوع.
اللخمي: قول ابن الماجشون ليس بحسن، وهكذا قال ابن عبد السلام: الأقرب صحة الاعتصار؛ لأن الموهوب له لم يدخل أحداً في عهدته بسبب الهبة.
وَتَغَيُّرُ الأَسْوَاقِ لا يُفِيتُ
هكذا نقل الباجي عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ.
ابن راشد: ولا يختلف فيه.
وَفِي زِيَادَةِ عَيْنِهَا وَنُقْصَانِهَا قَوْلانِ
أي: وفي تفويت الرجوع في الهبة بزيادة عينها ككبر الصغير وسمن الهزيل وانقضائها بعيب قولان. مطرف وابن الماجشون: لا يفيت، وأصبغ: يفيت.
الباجي: وهو القياس من قول مالك وابن القاسم. واختار اللخمي أنه لا يفيت في النقص، قال: لأن مضرته على الواهب بخلاف الزيادة إلا أن يكون الأب هو المنفق على العبد وبماله نما.
اللخمي: فإن كانت أمة فزوجها كان له أن يعتصرها على أحد القولين؛ لأن التزويج عيب.
مالك وابن القاسم: وإن كانت العطية دنانير فضربها حلياً فليس له اعتصاره، وكذلك قال ابن الجلاب إذا خلط الدنانير بمثلها، واستقرأ من المدونة خلافه.
وَلَوْ وَلدَتِ الأَمَةُ لَمْ يُعْتَصَرِ الْوَلَدُ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِلا بِفَوْرِ الْوِلادَةِ
(لَمْ يُعْتَصَرِ) أي: وتعتصر الأم، وقد تقدم أن اللخمي ذكر أن مجرد التزويج يمنع الاعتصار على أحد القولين، وقال اللخمي:(إِلا بِفَوْرِ الْوِلادَةِ) أي: فيعتصر الولد، وما
ذكره من اعتصار الأم بعد الولادة وقع لمالك في كتاب المدنيين. اللخمي: ولم يبين هل الولد من زوج أو من زنى.
وَالْحَمْلُ مِنْهُ يُفِيتُ، وَفِي مُجَرَّدِ الْوَطْءِ قَوْلانِ
أي: وإذا ولدت من الولد فات الرجوع؛ لأنها صارت أم ولد، وفي معنى ذلك لو كاتبها أو دبرها أو أعتقها إلى أجل. واختلف في مجرد الوطء، فمذهب المدونة وهو قول مالك وابن القاسم وأكثر الأصحاب يفيت وإن كان ثيباً. وقال المغيرة: لا يفيت وبه قال ابن الماجشون، قال: وتوقف حتى تستبرأ فإن حملت بطل الاعتصار، وعلى الأول فلو خلا الابن وادعى الوطء لم يعتصر، قاله يحيى بن عمر.
ابن عبد السلام: والأقرب أن الخلاف مقصور على وطء الثيب وأن وطء البكر يتفق على التفويت به.
الثَّانِي: مَا يَقْصِدُ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ عز وجل مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ لِفَقِيرٍ أَوْ يَتِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلا اعْتِصَارَ فِيهِ لأَبٍ وَلا لأُمٍّ وَلا لِغَيْرِهِمَا لأَنَّهُ صَدَقَةٌ
…
أي: الثاني من قسمي القسم الأول وهو المودة؛ يعني: ما قصد به التقرب إلى الله تعالى من صلة الرحم أو صلة أو صلة لفقير أو يتيم ونحوهما مما يدل على قصد التقرب إلى الله تعالى به، فلا رجوع في ذلك لأب ولا لأم؛ لأنه صدقة، وقد ورد النهي عن العود في الصدقة.
واختلف إذا اشترط الرجوع في الصدقة، فقيل: لا رجوع؛ لأن سنتها عدم الرجوع، والذي قاله الباجي في وثائقه وابن الهندي: أن له ذلك.
ابن الهندي: قال فضل: سنة الصدقة عدم الرجوع، قيل: وسنة الحبس عدم الرجوع وإذا اشترط المحبس بيعه كان له شرطه.
فرع:
ويلحق في الصدقة في عدم الارتجاع ما لو وهب هبة لوجه الله الكريم، قاله ابن الماجشون [647/أ] مثل أن يكون له ابن أو ابنة محتاجاً فقيراً في حجره أو كبيراً بائناً عنه. وقال مطرف: من وهب هبة لله أو لوجه الله فله الاعتصار، وبالأول جرى العمل وبقول مطرف تعلم أن ما حكاه بعضهم من الاتفاق على عدم الرجوع في الهبة إذا أريد بها وجه الله ليس بجيد.
وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِوَجْهٍ إِلا بِمِيرَاثٍ
الضمير في تملكها عائد على الصدقة. وظاهر قوله: (وَلا يَنْبَغِي) الكراهة وهو ظاهر المدونة لقوله في الزكاة: (وأكره للرجل شراء صدقته)، والأصل فيه قوله عليه السلام لعمر في الفرس الذي تصدق به:"لَا تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ".
اللخمي: ومشهور المذهب حمل النهي على الندب، وحمله الداودي على التحريم.
وتخصيصه الصدقة يدل على الجواز في الهبة وهو قول مالك في الموازية، وكره ذلك عبد الوهاب في الصدقة وأنه لا يشتريها ممن حصلت له من المتصدق عليه.
وَلا يَاكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَلا يَرْكَبُهَا
قال في المدونة: ومن تصدق على أجنبي بصدقة لم يجز له أن يأكل من ثمرها ولا يركبها ولا ينتفع بشيء منها، وأما الأب والأم إذا احتاجا فينفق عليهما ما تصدقا على الولد. وفي المدونة أيضاً: ومن تصدق على ابنه الصغير بجارية تبعها نفسه فلا بأس أن يقومها على نفسه ويشهد ويستقصي للابن، وفرض المسألة في العتبية في العبد.
ابن رشد: وهو في الجارية أعذر. وقال ابن المواز: للرجل أن يأكل من لحم غنم تصدق بها على ابنه ويشرب من لبنها ويكتسي من صوفها إذا رضي الولد وكذلك الأم.
محمد: وهذا في الولد الكبير، وأما الصغير فلا يفعل، قاله مالك.
وقوله: (وَلا يَاكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا وَلا يَرْكَبُهَا) ظاهره أنه لا ينتفع مطلقاً. وفي الرسالة: ولا بأس أن يشرب من لبن ما تصدق به.
أبو الحسن: وظاهره خلاف المدونة. وفي المعونة: إلا أن يشرب من ألبان الغنم يسيراً أو يركب الفرس الذي جعله في السبيل وما أشبه ذلك مما يقل خطره.
وقيل: معنى ما في الرسالة إن كان بحيث لا ثمن له، وقيل: يحمل ما في الرسالة على ما ذكره ابن المواز وقد تقدم.
وقال ابن عبد السلام: يعني لا ينتفع بما تصدق برقبته، وأنه إذا تصدق بحائط فلا يأكل من ثمره وإذا تصدق بدابة فلا ينتفع بركوبها، وفي ذلك قولان أشهرهما الجواز لحديث العرايا، وقال عبد الملك: لا ينتفع بذلك.
خليل: وفيه نظر؛ لأن الجواز خلاف ظاهر المدونة.
وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ
هذا هو القسم الثاني منأصل تقسيم الهبة حيث قال: (وَالْهِبَةُ قِسْمَانِ).
وسمي مطلقاً؛ لأنه لم يقيد بنفي ثواب ولا بوجوده فيحمل على ما يتفقان عليه، فإن اتفق الواهب والموهوب له على الثواب أو على عدمه عمل عليه.
وَإِذَا اخْتَلَفَا حُكِمَ بِالْعُرْفِ مَعَ الْيَمِينِ فَإِنْ أَشْكَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ مَعَ يَمِينِهِ
نحوه في الجواهر والجلاب، ولفظ الجلاب: ومن وهب هبة مطلقة وادعى أنه وهبها للثواب نظر في ذلك وحمل على العرف فيه، فإن كان مثله يطلب الثواب على هبته قبل قوله مع يمينه، وإن كان مثله لا يطلب الثواب على هبته فالقول قول الموهوب له مع
يمينه، وإن أشكل ذلك واحتمل الوجهين فالقول قول الواهب مع يمينه وألزمه اليمين سواء شهد العرف أم لا.
عياض: وهكذا في بعض نسخ المدونة ذهب ابن زرب وأبو عمران إلى نفي اليمين إذا شهد له العرف.
وفي المقدمات: وإن لم يتبين أنه أراد بهبته مجرد الثواب دون مكافأة أو قصد الوجهين جميعاً، وذلك مثل هبة النظراء والأكفاء من أهل الوفر والغنى. ففي المدونة: القول قول الواهب. واختلف الشيوخ في تأويلها هل بيمين أو بغيرها، قال: وأرى أنه على ثلاثة أوجه: إن قال الواهب: أردت الثواب ولم أشترط، فعلى الخلاف في يمين التهمة وله الثواب، وأما على القول الذي لا يوجب عليه اليمين في التهمة فلا يحلف بوجه، وإنقال: اشترطت عليك الثواب، وقال الموهوب له: بل بينت ألَّا ثواب، فالقول للواهب مع يمينه بنفي الثواب وذلك راجع إلى الموهوب أو الموهوب له، فالأولى كهبة الدنانير والدراهم فالهبة مردودة.
وقال في المختصر: لا ثواب له إلا أن يكون لذلك وجه كالسبائك والحلي المكسور فإن ابن القاسم نص على نفي الثواب فيهما، وجعل ابن القاسم الحلي الصحيح مما يثاب عليه خلافاً لأشهب، والثاني كهبة أحد الزوجين للآخر فإنه لا ثواب بينهما على مذهب المدونة، ففيها: ولا يقضي بين الزوجين بثواب ولا بين ولد ووالده إلا أن يظهر ابتغاء الثواب بينهم؛ كالزوجة تهب لزوجها جارية فارهة تسألها إياه لما تستجلبه من صلته، أو الزوج يهبها والابن لما يستقر من أبيه، فلذلك حكم بنفي الثواب ولو اشترطا ثواباً لزمهما، وكذلك نص فيه على الهبة في حق الأقارب أنه لا رجوع إذا علم أنه لا يريد الثواب، وأنَّى له الثواب إن علم أنه أراده.
وحكى في المقدمات في الأقارب والزوجين قولين: الأول: أنه لا يصدق في الثواب إلا أن يشترطه، وروي عن مالك أيضاً وبه قال ربيعة والليث، والثاني: أنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه، حكاه صاحب [647/ب] المعونة وكهبة الطعام، ونحوه للقادم في سفر، ففي المدونة: وإذا قدم غني من سفره فأهدى له الفقير الفاكهة والرطب وشبهه ثم قام يطلب الثواب فلا شيء له، ولا له أخذ هبته وإن كانت قائمة بعينها.
وقال ابن عبد الحكم: يجب الثواب في المهدى للمسافر.
اللخمي: وهو أبين والشأن الثواب؛ لأن الناس على ضربين: منهم من لا يتكلم على ذلك وإن لم يطلب فهما إن وقع بينهما بعد ذلك مقابحة على الهبة لم يكن له شيء. ومنهم من يتكلم على الثواب فيقضى له به.
ونص ابن العطار على أنه يقضى بالثواب فيما يهدونه في إعسارهم من الجزاف ونحو ذلك.
الباجي: قضى قضاة بلدنا: فيقضى للمهدي بقيمة الكباش وبوزنها إن علم وزنها ويقاصه بما أكل عنده ومن جاء معه، وكهبة غني لفقير أو فقير لغني فلا يصدق في الثواب إذا لم يشترطه، بخلاف هبة الغني لغني أو فقير لفقير فيصدق في الثواب، قاله في المدونة.
وَلا يَلْزَمُ الْمَوْهُوبَ إِلا قِيمَتُهَا قَائِمَةً أَوْ فَائِتَةً. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: لِلْوَاهِبِ أَنْ يَابَى إِنْ كَانَتْ قَائِمةً
…
يعني: أن هبة الثواب إن فاتت لم يلزم الموهوب إلا قيمتها، وإن كانت قائمة فالمشهور أن الموهوب له إذا دفع قيمتها لزم الواهب قبولها.
وقال مطرف: له أن يمتنع من قبول القيمة وأكثر؛ لأنه لو أراد قيمته أو أكثر لباعها في السوق، وللموهوب له أن يردها إلا أن تفوت.
واختلف بما تفوت في حق الموهوب له حتى تلزمه القيمة على أربعة أقوال: أولها: القبض، رواه ابن الماجشون عن مالك.
ثانيها: حوالة الأسواق، وهو قول ابن القاسم في الموازية.
ثالثهاً: الزيادة أو النقصان، قاله ابن القاسم في المدونة.
الباجي: وهو المشهور.
ورابعها: النقص فقط، رواه عيسى عن ابن القاسم في العتبية. واختلف أيضاً في فواتها بالنسبة إلى الواهب حتى تلزمه القيمة على خمسة أقوال:
أولها: مجرد الهبة على قول محمد الذي يقول: إنه يلزمه دفع الهبة وإن لم يقبض الثواب.
ثانيها: القبض وهو المشهور.
ثالثها: التغيير بالزيادة والنقصان في كتاب الشفعة من المدونة. رابعها: النقصان فقط، قاله أشهب. خامسها: لا تفوت إلا بذهاب عينها أو العتق ونحوه، فإن تلف بعضها فللآخذ الباقي، قاله مطرف.
ومن هذا المعنى اختلافهم متى تكون القيمة؟ فلمالك قولان: يوم القبض، ويوم الهبة، ومذهب محمد واختيار محمد يوم القبض، فعلى أن ضمانها من البائع تكون القيمة في السلعة الموهوب يوم القبض، وعلى القول بأن ضمانها من المبتاع تكون القيمة قيمتها يوم الهبة، وهو اختيار ابن القاسم وابن المواز، وهذا على القول بأن للواهب أن يمسك هبته حتى يأخذ الثواب وعلى القول بأنه ليس له أن يمسكها ويلزمه دفعها بخلاف البيع بضمانها بعقد الهبة من الموهوب له ولا يدخلها ما يدخل الحبوسة بالثمن. انتهى.
والقول بأنه يحبسها حتى يأخذ الثواب هو مذهب المدونة، ومقابله لمحمد وعلل ذلك بأنها مبنية على المكارمة.
وَفِي تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ثَالِثُهَا لابْنِ الْقَاسِمِ: إِلا فِي الْحَطَبِ وَالتِّبْنِ وَشِبْهِهِ
القول بتعيين الدنانير والدراهم لأشهب، والقول بأنها لا تتعين ويلزم الواهب قبول ما دفعه الموهوب له مما فيه وفاء بالقيمة لسحنون.
والثالث لابن القاسم: لا تتعين ولا أن يثيبه ما شاء إلا ما كان كالحطب والتبن والعبد والمخدم ما لم تجر العادة أن يثاب بمثله وهو الأقرب؛ لأن العرف كالشرط. وهل يعتبر فيما بين الهبة وعرضها السلامة من الربا؟ اعتبر ذلك في المدونة فمنع أن يعرض من الحلي دراهم ومن الطعام طعاماً مخالفاً ومن الثياب ثياباً أكثر منها من نوعها، وأجاز في الموازية كثيراً من هذا المعنى.
وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الثَّوَابِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ
لأنه التزمه بعينه.
وَإِذَا صَرَّحَ بِالثَّوَابِ فَإِنْ عَيَّنَهُ فَبَيْعٌ
كما لو قال: أهبها لك بمائة دينار، ولا خفاء فيه. وقال:(بَيْعٌ) ولم يقل بـ "حائز"؛ ليعلم أنه يشترط في ذلك شروط البيع كالرد بالعيب.
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ
أي: وإن وهبه بشرط الثواب ولم يسمِّه فأجازه ابن القاسم في المدونة وقاله أصبغ.
الباجي: وهو أولى؛ لأن العرف كالشرط، ولأنه مبني على المكارمة، فملا أخذ شبهاً من ناحية المعروف لم يحتج إلى حيازة.
وقوله: (وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ) هو ابن الماجشون؛ أي: لأنه كبائع سلعة بقيمتها، وذلك جهل بالثمن.