الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ:
الأَرْضُ الْمُنْفَكَّةُ عَنِ الاخْتِصَاصِ
الأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْمَرَ أَرْضاً مَيْتَةً لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" رواه البخاري. وفي الترمذي والنسائي عنه عليه السلام: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعرقِ ظَالِم حَقٌّ" وهو حسن المسند، وبدأ المصنف بتعريف الموات إما لأنه السابق في الوجود فلتقدمه طبعاً قدمه وضعاً، وإما لأن حقيقة الموات متحدة. والإحياء يكون بأمور كل منها مضاد للموات فاحتاج إلى ذكره أولاً ليذكر أضداده، والتعريف الذي ذكره تبع فيه صاحب الجواهر، وصاحب الجواهر تبع فيه الغزالي، قال: السالم عن الاختصاصات بالجمع.
واستغنى المصنف عن الجمع بالاسم المحلى بأل المفيدة للعموم وهو قريب مما قاله الجوهري: الأرض الميتة هي التي لا مالك لها من آدميين ولا ينتفع بها أحد، ومعنى (الْمُنْفَكَّةُ) المخلصة والمنفصلة، وفي بعض النسخ عِوَض (الْمُنْفَكَّةُ)(السَّالِمَةُ)، ولما قال (السَّالِمَةُ عَنِ الاخْتِصَاصِ) شرع في وجوه الاختصاص فقال:
وَالاخْتِصَاصُ عَلَى وُجُوهٍ؛ الأَوَّلُ: الْعِمَارَةُ وَلَوِ انْدَرَسَتْ، فَإن كَانَتْ عِمَارَةَ إِحْيَاءٍ فَانْدَرَسَتْ فَقَوْلانِ
…
العمارة عمارة ملك كما لو ملك أرضاً بإرث أو هبة أو شراء. قال في المدونة: أو خطة، والخطة هي الإقطاع من الإمام وهو أعم من أن يكون إقطاع تمليك أو إقطاع إحياء، وقلنا مراده عمارة ملك لمقابلتها بقوله (فَإن كَانَتْ عِمَارَةَ إِحْيَاءٍ فَانْدَرَسَتْ فَقَوْلانِ) أحدهما أن اندراسها يخرجها عن ملك محييها ويجوز لغيره أن يحييها وهو قول ابن القاسم. والثاني لسحنون أنها للأول وإن أعمرها غيره، حكاه صاحب البيان وغيره. وحكى عنه ثالثاً إن كان قريباً من العمران فالأولى أولى به، وإن كان بعيداً فالثاني أولى بها. قال: وقوله
عندي صحيح على معنى ما في المدونة: أما ما قرب لا يحييها إلا بقطيعة من الإمام؛ فكأنه صار ملكاً.
وسأل ابن عبدوس سحنون هل تشبه هذه المسألة الصيد إذا نَدَّ؟ قال لا والفرق بين الصيد لو ابتاعه ثم ندَّ واستوحش كان لمن اصطاده، ولا خلاف أن من اشترى أرضاً فاندرست فأحياها غيره أنها لمن اشتراها. قال في البيان: ولا أعلم نص خلاف أن من اشترى مواتاً واختطه لا يزال ملكه عنه بتركه إياه حتى تعود حالته الأولى إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك من مسألة الصيد يند من صاحبه. وقال ابن المواز فيه: إن الثاني أحق به، ولم يفرق بين أن يكون الثاني صاده أو ابتاعه فيلزم مثله في إحياء الموات، ثم حصل في مسألة الصيد يباع والأرض الموات تباع ثم يعود إلى حالهما أقوال:
أحدها أن الأول أحق بها، الثاني عكسه، الثالث أن الأول أحق بالصيد والموات إن كان اشتراه وأن الثاني أحق بهما إن كان الأول صاد الصيد وأحيا الموات، الرابع الفرق بين الصيد والموات فالثاني أحق بالصيد والأول أحق بالموات وهو الذي يأتي على ما قاله ابن عبدوس، الخامس أن الثاني أحق بالموات والأول أحق بالصيد، قال: وإنما يكون الثاني أحق بالموات من الأول على من رآه أحق به منه حسبما بيناه إذا كانت المدة قد طالت بعد عودها إلى حالتها، وأما إن أحياها الثاني بحدثان عوده إلى الحالة الأولى فإن كان عن جهل منه بالأول فله قيمة عمارته قائمة للشبهة، وإن كان عن معرفة منه به فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول أن تركه إياه لم يكن إسلاماً له وأنه كان على نية إعادته. واعترض على المصنف بأن قوله:(أَوَّلاً الْعِمَارَةُ) مستغنى عنه؛ لأن مجرد الملك كاف في الاختصاص ولا يفتقر إلى العمارة، وأجيب لعله إنما ذكر العمارة ليقسمها.
الثَّانِي: حَرِيمُ عِمَارَةٍ، وَحَرِيمُ الْبَلَدِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ وَمُحْتَطَيهِمْ مِمَّا تَلْحَقُهُ غُدُوَّاً وَرَوَاحاً ....
أي: حد العمارة التي يمنع أن يحدث فيها أحد ما يضر بها.
عياض: والتحريم والحرام والحريم والحرمة المنع، والمحارم من النساء الممنوع نكاحهن فحريم البئر ما يتصل به من الأرض [631/أ] التي من حقها ألا يحدث فيها ما يضر بها لا باطناً من حفر بئر ينشف ماؤها أو يذهبه أو مطمر تطرح النجاسة فيه فيصل غليها وسخها ولا ظاهراً كالبناء والغرس.
قوله: (وَحَرِيمُ الْبَلَدِ
…
إلخ) يعني: ما يحتاج إليه عامر الأرض من النواحي الخارجة عن الأرض التي يلحقه الخارج بمواشيه غدواً ورواحاً.
سحنون: وما كان من العمارة على يوم وما لا تدركه المواشي في غدوها ورواحها فأراه من البعيد، وأما ما تدركه المواشي غدوها ورواحها وأبعد من ذلك قليلاً مما فيه الرفق للعمارة فهو من القريب، ونحوه لابن القاسم. وعن سحنون: يجتهد ويشاور أهل الرأي.
وَحَرِيمُ الدَّارِ الْمَحْفُوفَةِ بالْمَوَاتِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ مِنْ مَطْرَحِ تُرَابٍ، وَمَصَبِّ مِيزَابٍ، وَالْمَحْفُوفَةِ بِالأَمْلاكِ لا تَخْتَصُّ، وَلِكُلٍّ الانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ وَحَرِيمِهِ بِمَا لا يَضُرُّ الآخَرَ
…
يعني: أن الدار على ضربين: فإن كانت محفوفة بالموات؛ أي: المحوطة بالموات فحريمها ما يرتفق به فيما ذكره المصنف، وإن كانت محفوفة بالأملاك فليس لربها حريم تختص به، لكن لكل واحد أن ينتفع بملكه وحريمه بما لا يضر بالآخر. ولا يقال قوله:(لا تَخْتَصُّ) يقتضي أنه لا حريم لها وهو منافٍ لقوله: (وَلِكُلٍّ الانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ وَحَرِيمِهِ) لأنه إنما نفى عنها أولاً الاختصاص بالحريم لا الحريم، فيكون لكل دار حريم لكن لا تختص به.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَأَمَّا حَمَّامٌ، وَفُرْنٌ، وَكِيرٌ لِلْحَدِيدِ، وَرَحىً تَضُرُّ بِالْجِدَارِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ، قَالَهُ مَالِكٌ
…
لقوله عليه السلام: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ". واستخف في المدونة وغيرها التنور. وقوله: (فُرْنٌ) يعني كان للخبز أو لسبك الذهب والفضة، قاله في المدونة وغيرها. وضرر الحمام والفرن والكير بيّن، وأما الرحى فكلام المصنف وظاهر الرواية يدل على أنها إنما تمنع لضرر الجدار ولو تضرر الجار بصورتها فقط لم تمنع، وهو قول كثير من الشيوخ.
وذهب بعضهم إلى منع ضرر الصوت، وأشار آخرون إلى أنه إنما يمنع منه وقت النوم دون ما عداه، وبالأول قال مطرف وابن الماجشون لأنهما قالا في الغسال والضراب يؤذي جاره رفع صوتها لا يمنع، لكن قيده الباجي بالصوت الضعيف أو ما يستدام وأمَّا مَا كَانَ صوتاً شديداً كصوتِ الكمَّادِين فيمنع منه. وصرح بعضهم بأن المذهب عدم مراعاة ضرر الأصوات وأن القول بمنع ذلك شاذ، وجعله ابن رشد من المتفق على عدم اعتباره إلا على قول ضعيف.
وَقَالَ أَشْهَبُ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى حَفْرِ بِئْرٍ فِي دَارِهِ حَفَرَ وَإِنْ أَضَرَّ بِجَارِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِمَنْعِ جَارِهِ أَنْ يَضُرَّ بِهِ مِنْ مَنْعِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ
…
هذا مقيد بأن يضر ببئر جاره باعتبار تقليل مائها، وأما لو حفر بئراً للنجاسة فأضرت بماءِ بئره لمنع وردمت عليه اتفاقاً، قاله اللخمي قال: وبلوغ النجاسة كبلوغ الدخان وغيره في الظاهر، وكذلك أيضاً يتفق على المنع إذا أضرَّ بجداره، نقله ابن رشد وذكر فيها: يضر بين الجدار أربعة أقوال: الأول قول أشهب هكذا أنه يجوز إن اضطر وإن أضر بجاره، الثاني ظاهر المدونة أنه يمنع إذا أضر بجاره وأطلق، الثالث لابن كنانة أن يحفر في داره بئراً وإن أضر ببئر جاره وأطلق، الرابع في العتبية لا يمنع إلا أن يضر ببئر جاره ضرراً بينا وهو أن يستفرغ ماؤه ماء بئر جاره.
ابن عبد السلام: وترك المصنف مذهب ابن القاسم في المدونة أنه لا يجوز إحداث بئر تضرُّ بالجارِ اضطر محدثها إليها أم لا، قال: وخلاف ابن القاسم وأشهب عام في الأرض التي ملكت بإحياء أو بغيره، والأظهر مذهب أشهب والله أعلم، لأن ضررهما متقابل ويترجح من أراد الإحداث بأنه تصرف في ملكه.
وَلا تُمْنَعُ الأَبْرِجَةُ وَالأَجْبَاحُ إِلا أَنْ تُعْلَمَ الْمَضَرَّةُ للسَّابِقِ
(الأَبْرِجَةُ) للحَمَام (وَالأَجْبَاحُ) للنَّحْل.
ابن عبد السلام: والمضرة بالسابق إن كان لدخول حمام الأول أو نحله في الثاني فظاهر، وإن أُمِن ذلك لكن يقل دخول ذلك في الأول فاختلف المذهب في رعي ضرره على قولين والأقرب مراعاته والله أعلم، أما لو كانوا لغير برج وقالوا إن ذلك يضرهم في زرعهم وشجرهم وطلبوا منعه من ذلك فقولان: أحدهما أنه لا يمنع من ذلك وهو قول ابن كنانة وأصبغ، قال أصبغ: والحمام والدجاج والإوز والماشية لا يمنع من اتخاذه وإن أضرت وعلى أهل القرية حفظ زرعهم وأشجارهم وقاله ابن القاسم، وقال مطرف وابن حبيب: يمنع إلا أن تكون كالماشية، قال لأن هذه طائرة ولا يقدر على الاحتراز مها.
فَإِنْ دَخَلَ حَمَامٌ أَوْ نَحْلٌ لا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ فَهُوَ كَصَيْدٍ نَدَّ
قوله: (لا يُمْكِنُهُ رَدُّهُ) يعني ولو أمكنه رده رد اتفاقاً، قاله اللخمي واستشكل لأن إيواء الحمام إلى ملك الأول لا يوجب ملكه إذا لم يزل عن حالة التوحش إذا ند قبل وضع اليد عليه إن آوى إلى نخل الرجل لا يرد للأول، وأما إن لم يمكن رده فقال في المدونة: يكون للثاني ولا يرد للأول، وإليه أشار بقوله:(كَصَيْدٍ نَدَّ) ولم يقل فهو للثاني ليدخل في كلامه قول ابن حبيب.
وَحَرِيمُ الْبِئْرِ مَا لا يَضُرُّ بِمَائِهَا وَلا يَضِيقُ عَلَى دَوَابِّ وَارِدِيهَا
أي: وليس له حد مخصوص، هذا مذهب مالك وابن القاسم في المدونة وغير مالك، ومن الآبار ما يكون في أرض رخوة وأخرى في أرض صلبة فإنما ذلك على قدر الضرر في البئر، هذا في آبار الماشية وكذلك في آبار الزرع منها بئر كثيرة الماء وأخرى قليلة الماء وإنما جعل لكل واحد ما يكفيها من الأرض [631/ب] وفي الوجهين. قال ابن سحنون: حريم البئر والأرض والوادي في أرض غير مملوكة عشرون ذراعاً، وقيل ستون ذراعاً، وقال ابن نافع: حريم البئر العادية خمسون ذراعاً والذي ابتدئ عملها خمس وعشرون، وعكس ذلك ابن مصعب وزاد وحريم بئر الزرع خمس مائة ذراع وحريم النهر ما لا يضر بمن يرده. وقال ابن المسيب: حريم بئر الزرع ثلاث مائة ذراع من نواحيها كلها.
ابن شهاب: وسمعت الناس يقولون حريم البئر خمسمائة ذراع وحريم الأنهار ألف ذراع.
وروى الدارقطني مرسلاً عن ابن شهاب عنه عليه السلام قال: "حَرِيمُ البئرِ المحدَثةِ خمسٌ وعشرون، وحريمُ البئرِ العادِيَّةِ خمسون ذراعاً، وحريمُ بئرِ الزرع ثلاثُمِائَةِ ذراعٍ، وحريمُ العَيْنِ السَّيحِ ستُمائةُ ذراعٍ".
وسأل ابن غانم مالكاً عن حريم النخلة فقال: قدر ما يرى أن فيه مصلحتها، قال: وسأل عن ذلك أهل العلم به فقالوا اثني عشر ذراعاً من نواحيها كلها إلى عشرة أذرع وذلك حسن، وسئل عن الكرم أيضاً وعن كل شجرة أهل العلم فقالوا يكون لكل شجرة قدر مصلحتها.
الثَّالِثُ: التَّحْجِيرُ وَفيه قَوْلانِ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا يَعْرِفُ مَالِكٌ التَّحْجِيرَ إِحْيَاءً، وَلا تَرْكَهُ ثَلاثَ سِنِينَ، وَقَالَ أَشْهَبُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ يُنْتَظَرُ ثَلاثَ سِنِينَ، وَأَنَا أَرَاهُ حَسَناً، وَقَالَ أَيْضاً: لا يُفِيدُهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ مَا لَمْ يَمْنَعْ عُذْرٌ، أَمَّا مَا لا يَقْوَى عَلَى عَمَلِهِ فَلا يُفِيدُ اتِّفَاقاً ....
ما ذكره من رواية ابن القاسم نحوه في الاستذكار والجواهر والتهذيب، قال ابن القاسم: ما سمعت من مالك في التحجير شيئاً. وقال أشهب: القول الثاني. وقوله: (وَقَالَ أَيْضاً) أي: أشهب هو راجع إلى القول الأول فلذلك لم يذكر في المسألة إلا قولين. والتحجير هو ضرب حدود بإزاء ما يريده من الموات يريد بذلك منع الناس منه. وقوله: (أَمَّا مَا لا يَقْوَى
…
إلخ) يعني: وإنما الخلاف فيما يمكن إحياؤه، ومثال هذا في كونه إحياءً عند أشهب لابن القاسم- رعي كلأ الأرض، وحفر بئر الماشية فيها.
الرَّابِعُ: الإِقْطَاعُ مِنَ الإِمَامِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ وَلا يُطَالَبُ بِالإِحْيَاءِ
أي: الرابع من وجوه الاختصاص، وقوله:(تَمْلِيكٌ) أي: فله أن يهب ويبيع ويتصرف ويورث عنه وليس هو من الإحياء بسبيل وإنما هو تمليك مجرد. قال الأستاذ أبو بكر: هكذا روى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم سواء كانت في المهامه والفيافي أو قريبة من العمران، ولا يطالبه الإمام بعمارتها بخلاف الإحياء، هكذا قال اللخمي أن ظاهر المذهب إن تملكها بشرط العمارة. ولمطرِّف وابن الماجشون أن من أقطعه الإمام أرضاً- أي أعطاه- على عمارتها فله أن يبيع ويتصدق ما لم ينظر في عجزه فيقطعها لغيره.
ابن زرقون: ورأى غير واحد أنه تفسير، وعده الباجي خلافاً والأول أظهر، إذ لا منافاة بينهما لأن الإقطاع في الأول لم يكن للعمارة.
وَلا يُقْطِعُ غَيْرَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكاً وَلَكِنْ إِمْتَاعاً
أي: لا يقطع المعمور وهو مراده بـ (غَيْرَ الْمَوَاتِ تَمْلِيكاً) وفيه نظر، فقد نص في البيان على جواز إقطاع البئر والمعمول من غير أرض العنوة، قال وهو ظاهر ما في كتاب الداودي. ومثله حكى ابن حبيب عن مالك من رواية ابن القاسم قال: قال لا أرى للإمام أن يقطع أحداً من أرض العنوة.
قال في البيان: ورأيت للخمي جواز إقطاع المعمورة من أرض العنوة ليس بصحيح على مذهب مالك، وأما الإحياء في أرض العنوة فقال بعض القرويين يجوز الإحياء في ما بَعُدَ من العمران وأطراف الأرض كانت أرض عنوة أو غيرها أسلم عليها أهلها.
وفي البيان: لا يصح الإحياء إلا في البور والإقطاع يكون في البور والمعمور لا في معمور أرض العنوة.
وقال ابن الهندي: لا يجوز الإحياء في أرض العنوة لأنها موقوفة لنوائب المسلمين وأطلق، ويمكن رده إلى ما قبله.
وفي النكت: الأراضي خمس: أرض عنوة لا توهب ولا تباع، وإنما تبقى لمنافع المسلمين، وأرض صلح فهي لأهلها يصنعون فيها ما يحبون من بيع أو غيره، وأرض أسروا أهلها لهم أيضاً ليس لأحد فيها شيء، وأرض خرجوا عنها أهلها وتركوها فهي للإمام يجتهد فيه ما رأى، وأرض العرب للذين كانوا فيها مثلنا قبل أن يسلموا أو بعد ذلك.
الْخَامِسُ: الْحِمَى، وَللِإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ وَقَلَّ مِمَّا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ أَهْلِهَا، وَحَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَقِيعَ لِخْيلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَحَمَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما الرَّبَذَةَ لِمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ
…
يعني: يجوز للإمام أن يحمي بشرطين؛ الأول: أن يحتاج إليه، والثاني: أن يقل ويفضل عن منافع أهلها، وهكذا قال سحنون الأحمية إنما تكون في بلد الأعراب العفاء التي لا
عمارة فيها غرس ولا بناء وإنما تكون الأحمية منها في الأطراف حيث لا تضيق على ساكن، وكذلك الأودية والعفا التي لا مساكن بها إلا ما فضل عن نافع أهلها من المسارح والمراعي.
ووقع في بعض النسخ عوض (قَالَ)(وَقيلَ فِيهِمَا نَظَرٌ)، أما (قَالَ) فلإيهامها أنَّ مالكاً قاله وإنما هو لسحنون، وأما الثانية فلإيهامها أن الثاني خلافاً للأول وليس كذلك. وزيد شرط ثالث وهو أن يكون للجهاد ونحو ذلك.
وروى أبو [632/أ] داود عن الصعب بن جثامة أنه عليه السلام حمى البقيع وقال: "لا حمى إلا لله ورسوله" انظر ما في الحديث من قوله "حمى" وهو الذي قاله المصنف وذكره الجوهري رباعياً فقال: وأحميت المكان جعلته حمىً.
و (الْبَقِيعَ) قيده عياض في المشارق بالنون، قال: وهو الموضع الذي أحماه النبي عليه السلام والخلفاء بعده وهو صدر وادي العقيق على عشرين فرسخاً ومسافته ميل في بريد، ونحوه للخطابي. وضبطه أبو عبيدة بالباء مثل بقيع الغرقد، وكذلك ذكره البكري.
و (الرَّبَذَةَ) بتحريك الباء والذال المعجمة والنقيع بالنون مستنقع الماء والبقيع موضع القبول بالمدينة. وصح أن عمر رضي الله عنه قال لمن ولاه على الحمى: "أدْخِلْ رَبَّ الصُّريمة والغُنيمة وإيَّاك ونَعَمَ ابنِ عفانَ وابنِ عوفٍ" وقال له فيما أوصاه: "اتَّقِ دعوةَ المظلوم فإنها مجابَةٌ، والذي نفسي بيده لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم في أرضهم شبراً، والله إنهم يزعمون أني قد ظلمتهم" والربذة اسم مكان.
السَّادِسُ: الْقُرْبُ، وَيَفْتَقِرُ فِيهِ إِلَى إِذْنِ الإِمَامِ فَلَوْ لَمْ يَسْتَاذِنْ لَكَانَ لِلإِمَامِ إِمْضَاؤُهُ أَوْ جَعْلُهُ مُتَعَدِّياً، وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَفْتَقِرُ ....
(فِيهِ) أي: في القرب، مفهومه أن البعيد لا يفتقر فيه إلى إذن الإمام.
قال في البيان: وهو المشهور، وعزاه في النوادر لمالك وابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون.
وروى يحيى عن ابن نافع: ليس لأحد أن يفتح البعيد إلا بإذن الإمام، وعلى هذا فثالثها المشهور يفتقر في البعد.
وفي المدونة فيمن أقطع مواتاً بعيداً أو أحياه بغير إذن الإمام: ينظر فيه الإمام. (وَقَالَ أَشْهَبُ: لا يَفْتَقِرُ) أي: إلى الإذن في القريب، والمغيرة يمضي فعله، والمشهور ما قاله المصنف وهو قول مالك وابن القاسم أن للإمام إمضاؤه (أَوْ جَعْلُهُ مُتَعَدِّياً) أي: فيعطى قيمة إحيائه مقلوعاً، ورأى اللخمي أنه يعطى قيمته قائماً للشبهة.
اللخمي: وقال مُطرِّف وابن الماجشون: الإمام مخير في أربعة أوجه: أن يقره له أو يقره للمسلمين أو يعطه قيمته مقلوعاً أوي أمره بقلعه ويقطعه لغيره ويكون للأول قيمته منقوضاً.
ابن رشد: وهو القياس، وقال في موضع آخر: وهو معنى ما في المدونة.
فرع:
ومن أحيا أرضاً في الفيافي فليس لغيره أن يحيي بالقرب منه إلا بإذن الإمام، قاله سحنون في المجموعة قال: لأنه صار بالإحياء عمراناً.
واعترض كلام المصنف بوجهين؛
الأول: أن فيه تداخلاً؛ لأن هذا السادس هو الوجه الثاني وهو حريم العمارة، وقيده هناك بما يرتفقون به مما يلحقونه غدواً ورواحاً، وهذا هو القريب، وقد تقدم أن سحنون حدَّهُ هكذا وحد البعيد باليوم.
الثاني: إذا كان القرب من وجوه الاختصاص فلا يكون القريب مواتاً، إذ الموات ما انفك عن الاختصاص فلا يتصور فيه إحياء؛ لأن الإحياء إنما يكون في الموات.
وَأَمَّا الإِحْيَاءُ فَمَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ عِمَارَةً مِثْلَهَا كَبِنَاءٍ، وغَرْسٍ، وَحَرْثٍ، وَحَفْرِ بِئْرٍ، وَإِجْرَاءِ نَهْرٍ
…
أي: مثل تلك الأرض.
عياض: الإحياء يكون بعشرة أشياء، سبعة متفق فيها وثلاثة مختلف فيها؛
فأما الثلاثة: فالتحجير، وحفر بئر الماشية، ورعي كلأ الأرض ليس هو إحياء عند ابن القاسم خلافاً لأشهب.
وأما السبعة فتفجير الماء فيها بحجر بئر أو فتق عين، الثاني إجراء الماء من عامرها، الثالث البناء، الرابع الغرس، الخامس الحرث وتحريك الأرض بالحفر ونحوه، السادس قطع غياضها ومأشجارها، السابع كسر أحجارها وتسوية أرضها. وقول المصنف:(أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ) يريد: إذا لم تكن لماشية وإلا فحفر بئر الماشية ليس إحياء عند ابن القاسم.
وَفِي إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثَالِثُهَا: يَمْلِكُ إِنْ كَانَ بَعِيداً
يعني أن الذمي إذا أحيا في جزيرة العرب لم يترك، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبقيَنَّ دِينانِ بجزيرة العرب" وإن أحيا بغيرها فثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين القرب والبعد كما تقدم.
ابن عبد السلام: وليس الأول منصوصاً للمتقدمين لكن ركن إليه الباجي، وقيل: بل ينزع ذلك منه كجزيرة العرب، وهو قول ابن القصَّار، ونص قوله عند اللخمي: وقال ابن القصار: ولا يكون للإمام أن يأذن لأهل الذمة في الموات؛ ولم يفرق بين قريب وبعيد.
ابن عبد السلام: والثالث هو المنصوص للمتقدمين، قال في الرواية: لأن ما قرب بمنزلة الفيء، واستشكله الباجي قال: يلزم عليه ألا يصح من المرأة والعبد لأنهما ليسا من أهل الفيء، ولو قيل: إن حكمهم كالمسلمين ما بعد كما كان لهم ذلك فيما بعد، وهذا هو الركن الذي ذكرناه. انتهى.
وذكر ابن يونس وغيره أن ابن القاسم قال في المجموعة: من أحيا من أهل الذمة أرض الإسلام فذلك له لقوله عليه السلام: "من أحيا أرضاً مَيْتاً فهي له" ظاهره أنه لا فرق بين القرب والبعد.
ولا يقال الثالث متحد مع الأول لأنكم قلتم في الأول أن حكمه حكم المسلمين، وحكمهم التفرقة كما في الثالث لأنهم لا حق لهم في القرب على الثالث مطلقاً، وعلى الأول يكون لهم فيه حق إذا أذن لهم الإمام.
مالك: وجزيرة العرب الحجاز ومكة والمدينة واليمن، زاد ابن حبيب والنجود فإنه قال ما معناه أنّ حدها طولاً من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن كلها إلا ريف العراق وحدها عرضاً من جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر وفي المغرب والمشرق ما بين سرف إلى منقطع السماوة.
وَلا تُحَازُ الشَّوَارِعُ بِالْبُنْيَانِ
لأن الطرق محبسة ولا إشكال في منع ما يضر وهدمه [632/ب] وأما ما لا يضر فروي عن مالك الجواز والكراهة، فإن نزل لم يهدم على ظاهر قول ابن القاسم وأصبغ. وذهب مطرف وابن الماجشون وسحنون إلى المنع وأنه يهدم، واختلف فيه قول أشهب فكرهه مرة ومنعه أخرى وقال يهدم.
ابن عبد السلام: قيل والهدم هو المشهور، وهو مقتضى كون الطرق أحباساً.
وَلا تُمْنَعُ الْبَاعَةُ مِنْهَا فِيمَا خَفَّ وَلا غَيْرُهُمْ، فَمَنْ سَبَقَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَسْجِدِ
…
احترز بقوله: (فِيمَا خَفَّ) مما يستدام ويضر بالمار.
خليل: وعلى هذا فلا ينبغي أن يشتري من هؤلاء الذين يغرزون الخشب في الشوارع عندنا لأنهم غُصَّاب للطريق، وقاله سيدي أبو عبد الله بن الحاج رحمه الله. وقوله:(فَمَنْ سَبَقَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَسْجِدِ) تشبيه لإفادة الحكم.
ابن عبد السلام: ويسقط حق الجالس بقيامه لا بنية الرجوع أن يعود، فأشار بعضهم إلى أن في المستألتين قولين قال: ولم أر ذلك له ولا لغيره في المسجد إلا ما وقع لهم في من ارتسم معرفة موضعهل سؤاله وغير ذلك.
وَلا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَسْكَنَاً إِلا مُجَرَّداً لِلْعِبَادَةِ وَلِقِياِم اللَّيْلِ، وَخُفِّفَ فِي الْقَائِلَةِ وَالنَّوْمِ نَهَاراً
…
هكذا ذكر ابن حبيب، والظاهر أن ينبغي هنا للوجوب؛ لأن السكنى في المسجد على غير وجه التجرد للعبادة ممتنع؛ لأنه تغيير له عما وضع له وعلى ولي الأمر وفقه الله تعالى هدم المقاصير التي اتخذوها في بعض الجوامع للسكنى. وقوله:(إِلا مُجَرَّداً) أي: إلا لرجل مجرد للعبادة بقيام الليل وإحيائه فلا بأس أن يكون ذلك منه دائماً.
ابن حبيب: إن قوي على ذلك.
وقوله: (خُفِّفَ) بضم الخاء مبني للمفعول؛ لأن ابن حبيب ذكر عن عبد الملك قال: ولا بأس بالقائلة في المسجد والنوم فيه نهاراً وللمسافر والمقيم، ولا بأس بالمبيت فيه للمسافر.
ابن حبيب: وأرخص أن يطعم الضيف في مساجد البادية، وقال ذلك شأن المساجد وكره أن يوقد فيه نار.
ابن عبد السلام: ومنهم من أجاز المبيت في مساجد المدائن، والمشهور خلافه وهو أقرب إلى ما روي من الأثر.
اللخمي: ولا يجوز حدث الريح فيه وإن كان مخلياً لحرمة المسجد والملائكة، ويجوز قتل العقرب فيه، وأجاز ابن رشد في أجوبته للملتجئ المبيت فيه وخاف أن يخرج لصاً أو سبعاً أن يتخذ معه آنية ليبول فيها. قال في مختصر ما ليس في المختصر: ويجب على من رأى في ثوبه دماً كثيراً في الصَّلاة أن يخرج عن المسجد ولا يخلعه فيه، قال: وقد قيل يخلعه ويتركه بين يديه ويغطي.
وَيُكْرَهُ فِيهِ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، وَسَلُّ السَّيْفِ، وَإِنْشَادُ الضَّالَّةِ، وَالْهَتْفُ بِالْجَنَائِزِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ وَلَوْ لِعِلْمٍ
…
ينبغي أن تكون الكراهة هنا أيضاً على المنع، وقد ثبت عنه عليه السلام قال للأعرابي الذي بال في المسجد:"إن هذا المسجِدَ لا يصلُحُ لشيء من هذا البولِ والقذرِ، وإنما هو لِذِكْرِ الله والصلاةِ والقراءةِ" وفي النسائي أنه عليه السلام قال: "إذا رَأَيْتُم من يبيعُ أو يَبْتاعُ في المسجدِ قولوا: لا أَرْبَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رَأَيْتُمْ من يَنْشُدُ الضالةَ في المسجد فقولوا: لا رَدَّهَا اللهُ عليكَ".
قوله: (وَالْهَتْفُ بِالْجَنَائِزِ) قال سيدي عبد الله بن الحاج: تسامح علماؤنا في الإعلام بالميت بأن يقف الرجل على باب المسجد عند انصراف الناس فيقول: أخوكم فلان قد مات بصوت. يجهر به على سنة الجهر يعني، وأما ما يفعله الناس عندنا من زعقات المؤذنين بذلك فهو من النعي المنهي عنه، فقد روى الترمذي عن حذيفة رضي الله أنه قال لما احتضر: إذا أنا مت فلا تؤذنوا بي أحداً فإني أخاف أن أكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهي، فإذا مت فصلوا علي وسلوني إلى ربي سلاً.
وقوله: (وَرَفْعُ الصَّوْتِ وَلَوْ بِالْعِلْمِ) أتى بـ (لَوْ) للمبالغة وهي إنما تحسن لو كان رفع الصوت بالعلم في غير المسجد غير مكروه كما قال ابن مسلمة، وأما على المشهور من
كراهة ذلك مطلقاً فلا، قال مالك: ما للعلم ورفع الصوت، ووجهه ما قال ابن حبيب: كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل العلم في المجلس فيقول: يا أبا مروان اخفض من صوتك وأمر جلساءك أن يخفضوا أصواتهم. واستخف أهل المذهب قضاء الدين في المسجد أن يخفضوا أصواتهم. واستخف أهل المذهب قضاء الدين في المسجد، ورأوه يسيراً من المعاملة بالبيع والشراء. واستحسن جماعة عقد النكاح فيه ورأوه مخالفاً لعقد البيع.
وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ جَعْلُ عُلْوِ مَسْكَنِهِ مَسْجِداً، وَلا يَجُوزُ جَعْلُ سُفْلِهِ مَسْجِداً وَيُسْكَنُ الْعُلْوُ لأَنَّ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ
…
نحوه في المدونة في باب الصلاة والواضحة في كتاب الجعل من المدونة. وفي المدونة: وكره مالك السكنى بالأهل فوق المسجد، فإن قلت: قد صرح بالكراهة هنا خلاف ما في الواضحة، قيل: الظاهر حملها على المنع توفيقاً بين النقلين.
وَكُرِهَ دُخُولُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عِنْدَ نَقْلِهِا إِلَيْهِ بِخِلافِ الإِبِلِ
وإنما كره مالك عند نقلها شيئاً إلى المسجد لبناء أو غيرها لنجاسة أبوال الخيل والبغال والحمير وطهارة أبوال الإبل، على أن الإجازة إنما هو للضرورة وإلا فالمسجد منزه عن أقل من هذا. وعبر المصنف بالكراهة لأن ابن حبيب نقله عن نمالك كذلك ولذلك يصح أن يقرأ (كَرِهَ) بفتح الكاف مبني للفاعل ويعود الضمير على مالك، وبضم الكاف للمفعول.
وَكُرِهَ أَنْ يَبْصُقَ عَلَى أَرْضِهِ وَيَحُكَّهُ وَأَنْ يُعَلِّمَ فِيهِ الصِّبْيَانَ
هذا ظاهر حكماً وتعليلاً.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ ذَهَباً أَوْ فِضَةً فَإِلَى الإِمَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلِصَاحِبِ الأَرْضِ أَوْ لأَهْلِ الصُّلْحِ ....
[633/أ] لما تكلم على المنافع المشتركة شرع في الأعيان المستفادة كالمعادن والمياه، والثلاثة الأقوال قد تقدمت وتقدم الكلام عليها في باب الزكاة، والأولان مبنيان على أن من ملك ظاهرها هل يملك باطنها أم لا؟ والفرق استحسان. وقوله:(فَلِصَاحِبِ الأَرْضِ) أي: المعين (أَوْ لأَهْلِ الصُّلْحِ) أي: فتحت صلحاً، وحاصله: إن قسم المالك قسمين وهو ظاهر، وإن كان ابن عبد لاسلام قد اعترض أيضاً قال: وعطف المصنف أهل الصلح على صاحب الأرض أنهم بعض أصحاب الأرض.
وَلا يَنْظُرُ الإِمَامُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ العَنْبَرِ وَاللُؤْلُؤِ وَغَيْرِهِ
قد تقدم أيضاً هذا في الزكاة من كلام المصنف ونص على أنه لواجده من غير تخميس. قال في المدونة: وأما التراب يوجد بساحل البحر فيغسل فيخرج منه ذهب أو فضة ففيه الزكاة كالمعدن.
وَأَمَّا الْمَاءُ فِي آنِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ فِي مِلْكِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَنْعُهُ
نبه بقوله: (فِي آنِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ) على أنه لا فرق في ذلك بين ما ينقص بالاغتراف ولا يخلفه غيره كالآنية أوي خلفه غيره كالبئر فيجوز له بيعه ومنعه على المشهور. وقال يحيى بن يحيى: أربع لا أرى أن تمنع: الماء والنار والحطب والكلأ، وقد ورد بمنع هذه الأربعة حديث ضعيف. وقيد ابن رشد هذا بالخلاف بما إذا كان البئر أو العين في أرضه بما لا ضرر عليه في الدخول إلى الاستسقاء منها، وأما البئر التي في دار رجل أو حائطه قد حط عليها فله أن يمنع من الدخول عليه.
وقوله: (وَمَنْعُهُ) مقيد بما إذا لم يؤد ذلك إلى هلاك قوم فيجب عليه حينئذ، وهل له أن يأخذ العوض عنه؟ قولان: قال في المدونة: وكل من وجد في أرضه أو داره بئراً فله منعها وبيع مائها وله منع المارة منها إلا بثمن معهم وإن تركوا من غير ماء هلكوا. وقال أيضاً فيها في الذي انهارت بئره وخاف على زرعه أنَّ له أن يسقي بماء جاره الذي يجوز بيعه بغير ثمن.
ابن يونس: وإحياء النفوس أعظم من إحياء زرعه بغير عوض فلا.
وَمَا يَسِيلُ مِنَ الْجِبَالِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ يُسْقَى بِهِ الأَعْلَى فَالأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ
…
لما في الموطأ أنه عليه السلام قال لسيل مَهْزُورٍ ومُذَيْنِبٍ "يُمْسَكُ حتى الكعبين ثم يُرْسِلُ الأعلى على الأسفل". ومهزور ومذينب واديان بالمدينة يسيلان. وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال للزبير لما أتى مخاصماً لغيره: "اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارِكَ، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلوَّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَمَّ قال: يا زبيرُ اسقِ ثم احبسِ الماءَ حتى يبلغَ الجُدُرَ، قال الزبيرُ: فنزلت {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الآية" ونظرنا في قوله عليه السلام "احبس الماء" حتى بلغ الجدر فكان إلى الكعبين. قال الأئمة: وكأنه صلى الله عليه وسلم ندب الزبير إلى إسقاط حقه رعياً للمجاورة، فلما تكلم بذلك الرجل استوفى للزبير حقه. وقوله:(الأَعْلَى) ظاهر التصور.
ابن نافع: والنيل كذلك، فإن كان الجنانان متقابلين قسم الماء بينهما وإن كان الأسفل مقابلاً لبعض الأعلى حكم لمقابل الأعلى بحكم الأعلى والمقابل الأسفل بحكم مقابله. واختلف هل قوله عليه السلام:"إلى الكعبين" بعد ري الجنان وإليه ذهب ابن الماجشون ومطرف
وابن وهب، أو قبل ريه، وأما إذا روي فيرسل الجميع وهو قول ابن القاسم وابن رشد، والأول أظهر.
قال ابن كنانة: بلغنا أنه إذا سقى الزرع أمسك الماء حتى بلغ إلى شراك النعل، وإذا سقى النخل والشجر وما له أصل حتى يبلغ الكعبين، وأحب إلينا أن يمسك غيره حتى يبلغ الكعبين لأنه أبلغ في الري. وروى زياد عن مالك معنى الحديث أن يجري الأول في الماء بقدر ما يكون في ساقيته إلى الكعبين حتى يروي حائطه ثم يفعل الذي يليه كذلك، واستحسنه ابن مزين. وجوز ابن رشد أن يكون وفاقاً لرواية غيره قال: أما إذا لم يكن فيه فضل عما يسقى فيه واحد بعد واحد فإنه يكون خلافاً، قال: وهو الأظهر.
وعلى المشهور يرسل الأعلى جميع الماء في حائطه ثم ينتهي إلى الكعبين ثم من تحت كذلك هكذا أبداً ما لم يحتج الأول إلى إعادة السقي ثانية فيكون أحق به ثم الذي تحته، فلا يكون في الماء حق لمن لم ينته إليه متى احتاج الأعلى إلى إعادة السقي، وعلى رواية زياد لا يأخذ جميعه بل يأخذ منه في ساقيته بقدر ما يكون إلى الكعبين ثم من تحته كذلك حتى يتم الماء، وأما إن لم يكن في الماء فضل ولا يتأتى به الفضل إلا الواحد فلا حق للأسفل إلا ما فضل عن الأعلى.
وَيُؤْمَرُ بِالتَّسْوِيَّةِ فَإِنْ تَعذَّرَ سَقَى كُلَّ مَوْضِعٍ عَلَى حِدَةٍ
أي: ويؤمر الأعلى بتسوية أرضه إن كان بعض أعلى من بعض.
قال سحنون: فإن تعذرت عليه التسوية سقى كل ما كان مستوياً على حدة وعد كأنه حوائط، قاله الباجي.
إِنْ حَدَثَ إِحْيَاءُ الأَعْلَى فَالأَقْدَمُ أَحَقُّ
هو كالتقييد لما ذكر من تبدية الأعلى، وهكذا قال سحنون ورأى أن هذه الصورة تخرج من عموم الحديث ضرب من الاستدلال، لكن زاد سحنون على ما ذكره المصنف
في فرض المسألة زيادة فقال: إن أراد أن ينفرد الأعلى بالماء ويسقي قبل الأسفل الذي أحيا قبله وذلك يبطل عمل الثاني ويتلف زرعه، فالقديم أولى بشرط في إخراج هذه الصورة من العموم أن يكون زرع الأقدم يخشى عليه فيحتمل أن يرى أن الأقدم [633/ب] أولى إذا فقد هذا الشرط رعياً لظاهر الحديث ما أمكن.
فَإِنْ كَانَ مَسِيلُهُ فِي مَمْلُوكِهِ فَلَهُ حَبْسُهُ مَتَى شَاءَ وَإِرْسَالُهُ
هكذا قال سحنون، يعني وإن أحب ألا يرسله فذلك له؛ لأن بدخوله في أرضه يصير أحق به من غيره كما لو صدته نيته وهذا مقابل قوله أرض مباحة أي غير مملوكة.
فَإِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فِي إِجْرَاءِ مَاءٍ إِلَى أَرْضِهِمْ لَمْ يُقَدَّمِ الأَعْلَى، وَكَانَ بَيْنَهُمْ يُقَسِّمُونَهُ بِالْقِلْدِ وَشِبْهِهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ
…
تصوره ظاهر، ولم يقدم هنا لأن الماء ملكوه قبل وصوله إلى أرضهم بسبب أعمالهم، ويحسب ذلك العمل ويقسم بينهم عليه، ولما ذكر القلد أخذ يفسره فقال:
وَالْقِلْدُ قِدْرٌ يُثْقَبُ وَيُمْلَأُ مَاءً لأَقَلِّ جُزْءٍ وَيَجْرِي النَّهْرُ لَهُ إِلَى أَنْ يَنْفَدَ ثُمَّ كَذَلِكَ لِغَيْرِهِ
…
القدر لغة الحظ من الماء قاله صاحب المحكم، وإطلاقه على القدر من إطلاق الحالِّ على المحل. وذكر المصنف ثلاث صفات: الأولى أن يثقب القدر بمثقاب ويملأ ماء لأقلهم جزءاً كما لو كان الثمن، ثم يعلق على ثلاثة شعب ولا يزال النهر جميعه يجري إليه حتى ينفد ما في القلد، ثم يجعل لصاحب النصف أربعة أمثاله أربع قدور ثم كذلك، فإن اختلفوا فيمن يبدأ به فالقرعة.
أَوْ يُعْرَفَ مِقْدَارُ مَا يَسِيلُ مِنْهُ يَوْماً وَلَيْلَةً، وَيُقْسَمُ عَلَى أَنْصِبَائِهِمْ، وَيَجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِقْدَارَهُ فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ بِمِثْقَابِ الأَوَّلِ وَيَجْرِي مِنَ النَّهْرِ لَهُ حَتَّى يَنْفَدَ
…
هذه هي الصفة الثانية، وذكر أنه ينقب القدر بثقب فيوضع على يد أمين ثم يعلق القدر مع انصداع الفجر ويجعل تحتها ما ينصب فيه، وكلما هم أن ينضب الماء زاد فيه حتى يكون سيله معتدلاً لأن النهار كله والليل كله إلى انصداع الفجر فينحيانها ويقتسمان ما اجتمع من الماء على أقلِّهم سهماً أو كيلاً أو وزناً ثم يجعل لكل واحدٍ قدرٌ تحمل سهمه من الماء ويثقب كل قدر بمثقاب الأول، فإذا أراد أحدهم السقي غلق قدره بمائه وصرف له الماء كله مدة سيل الماء من القدر، وكلمّا هم أن ينضب الماء من القدر زيد فيه إذا كان له أكثر من قدر واحد ثم كذلك، وإن اختلفوا في البداية اقترعوا؛ هكذا ذكر هذه الصفة ابن حبيب عن عبد الملك وغيره من علماء المدينة، وعلى هذا فقول المصنف:(فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ) ليس بظاهر لأنهم قالوا: يجعل لكل واحد نصيبه في قدر، ولهذا اعترض ابن يونس فإنهم إذا اختلف أنصباؤهم كان صاحب الكثير مغبوناً؛ لأن القدر كلما كبرت ثقل فيها الماء وكثر جريه من الثقب حتى يكون مثلي ما يجري من الصغيرة أو أكثر فيأخذ صاحب القدر الصغيرة أكثر من حقه لخفة جري الماء، قال: والذي أراه لصاحب الكثير في القدر الأول.
وقد يقال لعل المصنف أراد بقوله: (فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ) القولين؛ أي: قول المدنيين وقول ابن يونس وتكون (أَوْ) للتفصيل، لكن هو بعيد من كلامه.
عياض: واعتراض ابن يونس صحيح، وقد غفل عما هو أشد منه وهو قوله:"وكلما هم الماء أن ينضب" فهذا فيه من الاعتراض نحو ما ذكره؛ لأن صاحب القدر من الثقب وهي ممتلئة بخلاف صبها بعد نقصها، ولو قال كلما نقص من الماء شيء زاده ليكون أخلص حتى يكون جري الماء من الثقب على حد واحد، وقد تفطن لها أبو عبد الله بن
العطار وقال: متى نقص الماء من القدر ملأها ولعله مراد ابن حبيب، وإن كان النضوب في لسان العرف إنما هو عدم الماء وذهابه لا نقصه.
ابن العطار: وإن كان ابتداء شركهما في الأرض معلوماً من ميراث أو شراء أو نحوه وماء القدر حينئذ بينهم، ثم تقاسموا فيحسب زمان البعيد منه من وقت أرسل إليه لا من وقت وصوله إلى أرضه؛ لأن الأرض قد ضمت على حالها من القرب والبعد وإن لم يطم في الأرض التي لها ولا قسمته واشتراك قبل ولا كيف كان ملكهم، يريد وكان ملكهم لها تأخر عن قسمة الأرض فلا يحسب على البعيد لا من وقت وصول الماء إلى أرضه. وقال ابن الماجشون في ورثة قسموا أرضاً ولها ماء كثير يكفي البعيد والقريب في السفر فقلَّ ذلك صار لا يكفي البعيد فأراد نقض القسمة، فقال ينقض قسم الأرض ويرد قسم الماء فيزاد من بعد على من قرب بقدر ما يستوي القريب والبعيد في السقي، فيكون البعيد منه أكثر ما للقريب كما لو قسمت الماء قسماً واحداً.
عياض: وهو غير مخالف للأول، قال: وإذا كان هكذا لم تصح قسمته ماء القدر بينهم ولا يقاسمه ولا يجمع ما يخرج من القدر حتى يطلق أول الماء إلى أرضه وماء الثقب من القدر يجري في الأرض مراقاً غير مجموع ولا محبوس، فإذا بلغ أرضه أشهدوا الإناء حينئذ ببلوغه بصوت أو ضرب حتى يبلغهم لحينه فيمتدون حينئذٍ بجميع الماء في الآنية وحسابه على ما تقدم.
أَوْ يُقْسَمُ بِخَشَبَةٍ يُجْعَلُ فِيهَا خُرُوقٌ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ
هذه هي الصفة الثالثة أي ينصب خشبة وتجعل فيها خروق متساوية للأنصباء يجري منها الماء. وقوله (أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي: مما يوصل إلى القسمة كما لو قسم بالسهام. وقد أطال عياض في هذه المسألة فانظره.
وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ الَّتِي حُفِرَتْ فِي الْفَيَافِي فَلا تُبَاعُ وَصَاحِبُهَا أَوْ وَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِكِفَايَتِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لا حَظَّ فِيهَا لِلزَّوْجَيْنِ، وَلا يُمْنَعُ مَا فَضَلَ
قوله: (وَمَاءُ الْبِئْرِ) والماجل [634/أ] لأنه كالبئر على المشهور. وقال المغيرة: له منعه لعظم النفقة فيه وعدم خلف ما أخذ منه فليس كالبئر.
وقوله (الَّتِي حُفِرَتْ) أي: للمواشي، وأما النخل والزرع فقال مالك: له المنع ولا يجبر إلا أن ينهدم بئر جاره ويخاف على زرعه فيقضي له عليه حتىي صلح بئره.
الباجي وغيره: ويشترط في الجبر أربعة شروط:
الأول: أن يكون زرع أو غرس على أصل ماء فانهار وأما إن كان على غير أصل ماء فلا يجبر.
الثاني: أن يخاف على زرعه وإلا فلا.
الثالث: أن يفضل ماء عن صاحب البئر.
الرابع: أن يشرع من انهارت بئره في إصلاحها وإلا فلا.
واحترز بالفيافي مما لو حفرها في ملكه فإن له المنع كما تقدم، والفيافي واحدها فيفاء وهي الصحراء الملساء.
وقوله (فَلا تُبَاعُ) إنما لا تباع؛ لأن العادة جرت فيما حفر على هذا الوجه أن ينتفع ربها بشربها ويبقى ماشيتها ثم يتركها للناس فلذلك كان هو أو ورثته أحق بكفايتهم وما فضل عنه فللناس.
فإن قيل: يباع منها مقدار حق حافرها. قيل: ذلك الحق غير منضبط وإنما يقدر بحسب عوارض الحاجات. وظاهر قول المصنف: (لا تُبَاعُ) أن البيع ممنوع، ونحوه في المجموعة والواضحة ففيها: لا يباع ولا يورث ولا يوهب وصاحبها أو ورثته أحق
بحاجتهم، ومن استغنى منهم فليس له أن يعطيه غيره وهو قول ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب، وهو قول أصحابنا وروايتهم عن مالك. ونقل الباجي عن المجموعة أيضاً أنه قال فيها قال مالك: لا يجوز بيع بئر الماشية.
قال عبد الوهاب: وظاهر قوله عليه السلام "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ".
الباجي: وظاهر المدونة أن المنع على الكراهة، ففي الجعل والإجارة: أراه حراماً أي بيع الماء وبيع أصل البئر.
وصح فيها في موضع آخر بالكراهة قال: وعندي أن الكراهة إذا حفر على معنى الانفراد، وأما إذا حكم له بحكم الإباحة فالتحريم.
ولذلك حمل صاحب البيان ما في المدونة الكراهة أنَّه حفرها لنفسه، وما في المجموعة على أن مالكاً لم يصدّقه في ادعائه أنه حفرها لنفسه، قال: وعلى هذا تتفق الروايات وهو أولى من حملها على التعارض، وصاحبها أو ورثته أي بعد موته أحق بكفايته يحتمل في أنفسهم ويحتمل في أنفسهم ودوابهم، والأول أولى ففي المقدمات: يبدأ أولاً أهل الماء ثم المارة حتى تروى ثم دواب أهل الماء ثم دواب المارة ثم مواشي أهل الماء ثم الفضل لسائر الناس. وقال أشهب: دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء ثم التبدية لجميع ما يروى به إن كان الماء كافياً للجميع، وإن لم يكن في الماء فضل بدئ بأنفس المجهدين ودوابهم وإن استووا عند أشهب بدئ بالمسافرين.
قال ابن لبابة: إذا استووا في الجهد فأهل الماء أحق بالتبدية لأنفسهم ودوابهم وإن قل الماء جداً وخيف على بعضهم بتبدية بعض أخذ الماء بقدر ما يذهب عنهم الخوف ثم المسافرون كذلك ثم دواب أهل الماء، قال: ولا خلاف عندي في هذا الوجه، انتهى.
ابن الماجشون: وإن كان لورثته سنة من تقديم ذي المال الكثير أو قوم على قوم أو كبير على صغير حملوا عليه وإلا استهموا.
قال في المقدمات: وهذا عندي إذا استوى قعددهم من حافرها وأما إن كان بعضهم أقرب فهو أحق بالتبدية قَلَّتْ ماشيته أو كثرت.
قوله (وَلا حَظَّ فِيهَا لِلزَّوْجَيْنِ) هكذا قال ابن الماجشون، وتأوله الباجي وابن رشد وغيرهما على ما إذا لم يكن أحد الزوجين من بطن الآخر، وقيل لا يختص ورثة حافرها بما كان له وإنما ذلك لأنه لا تورث بئر الماشية على معنى الملك.
وَالْمُسَافِرُونَ أَحَقُّ مِنَ الْمُقِيمِينَ، وَلَهُمْ عَارِيَّةُ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ وَالْحَوْضِ
يعني: بعد أهل البئر كما تقدم، ووجهه ظاهر لأنه إذا بدأ بالمسافرين خلصوا لسفرهم وشأنهم.
وقوله (وَلَهُمْ) أي المسافرين على الحاضرين (عَارِيَّةُ) الآلة.
ابن عبد السلام: وهي إطلاقات أهل المذهب أن وجوب عارية الآلة في هذا الباب عامة في حق المليء والفقير، ولعل ذلك لأن مالكاً لم يتخذها للكراء (وَالرِّشَاءِ) ممدودٌ الحبلُ.
فَلَوْ بَيَّنَ حَافِرُهَا وَأَشْهَدَ أَنَّهُ مِلْكٌ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْلِكُ وَلا نَصَّ فِيهِ
أي: لو بين حافر بئر الماشية وأشهد أنه أي المالك، وكلام الباجي ظاهر. ونص في البيان على أن الحكم هنا إنما يملك ولم يذكر خلافه، بل قرره على أنه هو المذهب.
خليل: وهذا مبني على فهمه من المدونة إنما هي أنه حفرها لنفسه وأن ذلك متفق عليه كما تقدم.
وَأَمَّا تَوَابِعُ الْمَاءِ مِنَ الصَّيْدِ وَالْكَلأِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَمْ يُمْنَعُ أَحَدٌ
…
إنما كانت توابع الماء لأنها لا تكون إلا حيث يكون.
وقوله (فَإِنْ كَانَ) أي: في الأصل وهو الماء وهكذا قال في الجواهر، وهذا كالأودية والأنهار والأراضي التي ليست مملوكة وعلة هذه المسألة واضحة، لأنه لما كان الصيد والكلأ غير مملوكين وكان الماء أيضاً غير مملوك كانا كسائر المباحات فمن سبق كان أحق به، (وَالْكَلأِ) مهموز مقصور.
الجوهري: يطلق على الرطب واليابس، وقيل الكلأ بالقصر هو الربيع وبالمد هو الحشيش.
وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْتُ مَالِكاً عَنْ بُحَيْرَاتٍ بِمِصْرَ يَبِيعُ أَهْلُهُا سَمَكَهَا فَقَالَ: لا يُعْجِبُنِي لأَنَّهَا تَقِلُّ وَتَكْثُرُ وَلا أُحِبُّ لَهُ مَنْعَ أَحَدٍ يَصِيدُ. وَقَالَ سُحْنُونٌ: لَهُ مَنْعُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ طَرَحُوهَا فَتَوَالَدَتْ مُنِعَتْ
يعني: وأما إن كان الماء مملوكة، وقوله في رواية ابن القاسم: لا يعجبني هو على المنع بدليل [634/ب] تعليله بقوله (لأَنَّهَا تَقِلُّ وَتَكْثُرُ) إذ الجعل مقتضي المنع، وهذه الرواية رواية في المدونة. ورأى ابن الكاتب أنه إنما منع ذلك لأن الأرض ليست لهم وإنما هم متولون لها إذ أرض مصر أرض خراج، وأما إن كان أرض أنساب وملكه فله منع الناس. وقال غيره من القرويين: إنما لا يمنع الناس منها إذا كان لا يصيد ذلك إذ لا يجوز بيعه لأن بيعه غرر، وإلى هذا ذهب صاحب المقدمات لأنه قال: واختلف في الصيد في الغُدر والبرك التي تكون في ملك الرجل فقال ابن القاسم له المنع، ثم ذكر الثلاثة. وذكر الباجي أن ابن حبيب روى عن أصبغ أن ابن القاسم ساوى بين الناس فيما كان في ملكهم أو غير ملكهم كالكلأ.
قوله: (وَقَالَ سُحْنُونٌ: لَهُمْ مَنْعُهُ) أي: لأهل الأرض منع من يصطاد ورأى أنه يملك الصيد لكونه في أرضه. وفرق أشهب فقال: إن طرحوها فتوالدت فلهم المنع، وإن جره الماء فلا. زاد الباجي في قوله بعد قوله:"وإن لم يطرحوها فلا" إلا أن يضر به الصائدون. مطرف وابن الماجشون: لهم المنع فيما كان ملكاً لأهله في حوزهم قالا: وما كان في الأنهار والخلج التي لا تملك لمن له بها سكنى أن يمنع من طرأ.
اللخمي: وأرى الأرض المملوكة على أربعة أوجه: إن طرحوه فيها أو كان في مزدرع وتركها لذلك فهو أحق وإن كان في مزدرع ولم يأت أبان الزراعة ولو أتى لمسيل الماء عنها فهو كالكلأ والماء وإمساكه هنا أشبه من الكلأ ومن فضل ماء البئر لأن الكلأ يملك وفضل ماء البئر يذهب تحت الأرض فلا يمنع ما ينفع غيره وإن تركه هلك وذهب، والحرث يبقى وينمو ويتوالد فكان له منعه وبه أخذ. انتهى.
وَأَمَّا الْكَلأُ فَسَأَلَ ابْنُ دِينَارٍ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مُطَرِّفاً عَنْ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَمَا يُبَاحُ فَقَالا: لا يَبِيعُ وَيَمْنَعُ مَا فِي مُرُوجِهِ وَحِمَاهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَيُبَاحُ مَا فَضَلَ عَنْهُ مِمَّا فِي فُحُوصِها مِنَ الْبُورِ وَالْعَفَا. قَالا: إِلا أَنْ يَكْتَنِفَهُ زَرْعُهُ فَلَهُ مَنْعُهُمْ لِلضَّرَر، وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي بَيْعِهِ إِلا مَا فَضَلَ عَنْهُ مِنْ الْعَفَا، وَسَوَّى أَشْهَبُ فِي مَنْعِهِ، وَقَالَ: هُوَ كَالْمَاءِ الْجَارِي لا يَحِلُّ مَنْعُ مَا فَضَلَ عَنْهُ وَلا بَيْعُهُ إِلا أَنْ يَجُزَّهُ وَيَحْمِلَهُ فَيَبِيعَهُ
…
أي: سأل عيسى ابن القاسم عن رأي مالك وكذلك ابن حبيب سأل ابن الماجشون عن رأي مالك، هكذا صرح به جماعة.
(وَالْمُرُوجُ) جمع مفرده مرج. الجوهري: وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب يسيل فيه الماء وينبت العشب أي في مروجه وحماه مما قد بوره من أرضه، وأما ما فيه فحوصه وهي الأرض التي لم يبورها للمرعى وإنما ترك زراعتها فنبت فيها الكلأ. وحاصل ما
ذكره المصنف في القسمين ثلاثة أقوال، ومعنى يباع ما فضل عنه من البور والعفا يعني أن له أن يمنعه من الفحوص إن احتاج إليه وإلا فلا منع له.
وقوله (قَالا: إِلا أَنْ يَكْتَنِفَهُ زَرْعُهُ) هكذا نقل عنهما في النوادر لأنه نقل عنهما أنهما قالا إلا أن يكون عليه في وصول الناس بدوابهم مضرة مثل فدان فيه خصب وحواليه خصب وحواليه الزرع فله منعهم للضرر. قوله: (وَسُئِلَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ) هو القول الثاني والسائل له هو ابن حبيب (فَسَوَّى بَيْنَهُمَا) أي: في القسمين أي بين البور والمروج، فقال: له أن يمنع إن احتاج ويبيع إن لم يحتج إلا ما فضل عنه من العفا وهو ما لا يحرث فليس له منعه. وقال في البيان: باتفاق.
وقوله: (وَسَوَّى أَشْهَبُ فِي مَنْعِ كِلاهُمَا وَبَيْعِهِ) أن يبيع إذا احتاج إليه ولا يبيعه إلا أن يجزه ويحمله ويبيعه هو من نسخة أشهب، ورأيت أن أذكر كلامه في البيان ليتبين لك ما ذكرته ولما فيه من الفوائد وإن كان فيه طول، قال: لا يخلو الكلأ أن يكون في أرض غير مملوكة كالبوادي والفيافي فلا خلاف أن الناس كلهم فيه سواء ليس لأحدهم أن يمنعه، لما في الصحيح:"لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ".
واختلف إن سبق أحدهم إليه فنزله فجعل يرعى ما حوله أو حفر بئراً، هل يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع دون الفضل؟ فقيل ليس هو أحق الناس معه أسوة، وهو نص ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. وقال أشهب: هو أحق وإن لم يحفر بئراً فرآه أحق بالسبق، ومعناه إذا انتجع إليه وقصده من بعد وأما إذا مر به فلا يكون أحق بمجرد سبقه أولاً. وأول بعضهم قول أشهب على أنه أحق؛ لأن ذريعته لذلك الجنان إحياء، فيكون أحق بما يحدث فيه من الكلأ مرة أخرى وفي المسألة قول ثالث أنه لا يكون أحق بمجرد النزول إلا أن يحفر بئراً وهو ظاهر قول المغيرة وأعدل الأقوال وأولاها بالصواب، لأنه لا يقدر على المقام على الماء إذا لم يكن له في ذلك الموضع مرعى
فتذهب نفقته في البئر باطلاً، وكذلك لو سبق بالنزول وبنى فيه بنياناً أوجب على قياس هذا أن يكون أحق بقدر حاجته لئلا يذهب نفقته باطلاً، وقد قال عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار".
وأما إن كان في أرض مملوكة فهو على أربعة أقسام: أحدها أن تكون محظرة قد حظر عليها بالحيطان كالجنان والحوائط، والثاني أن تكون غير محظورة إلا أنه حماه من وجه التي قد بورها للمرعى وترك زراعتها من أجل ذلك، والثالث فدادينه وفحوص أرضه التي لم يبورها للمرعى وإنما ترك زراعتها لاستغنائه [635/أ] عن زراعتها وليحبسها للحرث، والرابع العفا والمرج من أرض قريبة فالمحظرة أن ما فيها لصاحبه له أن يبيعه ويمنعه احتاج إليه أو لم يحتج وليس لأحد الدخول عليه إلا بإذنه، وأما العفاء والمرج من أرض قريبة فلا خلاف أنه ليس له أن يبيعه ولم يمنع عما فضل عن حاجته منه إلا أن يكون عليه في تخلص الناس بدوابهم ضرر من زرع يكون له حواليه فيفسد عليه بالإقبال والإدبار، وأما الأرض التي بورها للمرعى ويترك الانتفاع بزرعها مدة لأجل ذلك، فقيل: له أن يمنع إن احتاج إليها ويبيع إن لم يحتج إليه ممن يرعاه أو يحصده وهو مذهب ابن القاسم، فإن لم يحتج إليه ولا وجد من يبيعه منه جبر على أن يخلي بين الناس وبينه ولا يباح له أن يمنع الناس ويترك حتى يبس ويفسد، وقيل: له أن يمنع الناس إن احتاج إليه وليس له أن يبيع وهو قول أشهب، وأما فحوص أرضه وفدادينه التي لم يبورها للمرعى فقال ابن القاسم وأشهب: له أن يمنع إن احتاج وليس له أن يمنع إن لم يحتج إليه، فأشهب رأى أنه ليس له أن يبيع مراعي أرضه كان قد بورها للكلأ أو لم يبورها لذلك، وابن القاسم يفرق بين إجازة البيع إذا استغنى عنه وبين الأرض التي بورها للمرعى وبين الأرض التي لم يبورها للمرعى فتحصل في مجموع الطريقتين ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها على انفرادها قولان.
وقد اختلف فيما وقع في حريم البئر من المدونة من قول مالك: إن كانت له أرض فلا بأس أن يبيع كلأها إذا احتاج إليه وإلا فليخل بين الناس وبينه، ومن قوله فيها: لا بأس أن يبيع الرجل خصب أرضه ممن يرعى عامة ذلك بعد أن ينبت ولا يبيعه عامين ولا ثلاث فقيل إن ذلك اختلاف من قوله، فمرة رأى للرجال أن يبيع خصب أرضه كان قد وقفها للمرعى أو لم يوقفها مثل قول ابن الماجشون، ومرة رأى أنه ليس له أن يبيعه كان قد وقف الأرض للمرعى أو لم يوقفها له مثل قول ابن القاسم، وهو تأويل عيسى ابن دينار له. انتهى.
***