الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«أبجد العلوم»
(1)
لصدِّيق حسن القنوجي ت (1307
هـ)
الشيخ العلامة الحافظ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن القيّم الجوزي
(2)
الزُّرَعي الدمشقي الحنبلي.
ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة.
وسمع على الشيخ تقي الدين سليمان القاضي، وأبي بكر بن عبد الدائم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشهاب النابلسي العابر، وفاطمة بنت جوهر، وعيسى المطعِّم وجماعة.
وقرأ في الأصول على الصفيِّ الهندي.
وتفقه في المذهب، وأفتى وتفنن، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى؛ وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام وغير ذلك، من كلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم. له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى والمعرفة الشاملة.
وكان عالمًا بالملل والنحل ومذاهب أهل الدنيا علمًا أتقن وأشمل من أصحابها.
وكان جريء الجنان واسع العلم والبيان، عارفًا بالخلاف ومذاهب
(1)
(3/ 138 - 143) وزارة الثقافة، دمشق 1398، عناية عبد الجبار زكّار.
(2)
كذا، والصواب:«ابن قيم الجوزية» و «الجوزي» ليست نسبة لابن القيم.
السلف، غلب عليه حب ابن تيميّة رحمه الله حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع شيخه ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروباً بالدرة، فلما مات أفرج عنه.
وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه، وكان نيله حقًّا ونيلهم باطلًا.
قال الذهبي في «المختص» : حبس مرة لإنكاره شد الرحال لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم، ولكنه معجب برأيه، جريء على الأمور، وكانت مدة ملازمته لابن تيمية منذ عاد من مصر اثنتي عشرة سنة إلى أن مات.
وقال الحافظ ابن كثير: كان ملازمًا للاشتغال ليلًا ونهارًا، كثير الصلاة والتلاوة، حسن الخلق، كثير التودد، لا يحسد ولا يحقد.
ثم قال: لا أعرف في زماننا من أهل العلم أكثر عبادة منه، وكان يطيل الصلاة جدًّا، ويمد ركوعها وسجودها، وكان يُقصَد للإفتاء بمسألة الطلاق حتى جرت له بسببها أمور يطول بسطها مع التقي
(1)
السبكي وغيره.
وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول: هذه غدوتي، لو لم أعتدها سقطت قواي
(2)
.
(1)
في المطبوع: «ابن» والصحيح ما أثبت، كما في «البداية والنهاية» .
(2)
هذا نقله ابن القيم عن شيخ الإسلام، ونقله عنه ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» كما سبق هنا، ووهم في نسبتها إليه ابنُ حجر، وتبعه من بعده.
وكان مغرًى بجمع الكتب فحصل له منها ما لا ينحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم منها.
وله من التصنيفات: «زاد المعاد في هدي خير العباد» أربع مجلدات كتاب عظيم جدًّا، و «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ثلاثة مجلدات، و «بدائع الفوائد» مجلدان، و «جلاء الأفهام» مجلد، و «إغاثة اللهفان» مجلد، و «مفتاح دار السعادة» مجلد ضخم، وكتاب «الروح» ، و «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» ، و «الصواعق المنزلة على الجهميّة والمعطلة» مجلدات، وتصانيف أخرى.
ومن نظمه قصيدة تبلغ سبعة آلاف
(1)
بيت سماها «الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» مجلد.
ومن كلامه: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين. وكان يقول: لابد للسالك من همة يسيرة ترقيه وعلم يبصره ويهديه
(2)
.
وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النَّفَس فيها قصدًا للإيضاح، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف في ذلك، وله في ذلك ملَكَة قوية وهمة علوية، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها.
مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثالث عشر رجب وكانت جنازته المقدسة حافلة جدًّا، ورئيت له بعد الموت منامات حسنة، وكان هو قبل موته بمدة أنه رأى شيخه ابن تيمية في المنام وأنه سأله عن منزلته فقال: إنه
(1)
يبدو هذا العدّ على التقريب، وهي في 5842 بيتًا كما في نشرتنا من «النونية» .
(2)
هذه الكلمات لابن تيمية، كما تقدم التعليق عليها في «الدرر الكامنة» و «البدر الطالع» .
أنزل منزلًا فوق فلان وسمى بعض الأكابر، ثم قال: وأنت كدت تلحق بنا ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة.
قال الشيخ العلامة ابن رجب الحنبلي في «طبقاته» : وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والافتقار إلى الله تعالى والانكسار له والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشهد مثله في ذلك ولا رأيت أوسع منه علمًا ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع شيخه في المرة الأخيرة بالقلعة منفردًا عنه، وكان مدة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك.
وحجَّ مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يتعجب منه. ولازمتُ مجالسه قبل موته أزيد من سنة، وسمعتُ عليه «قصيدته النونية» الطويلة في السنة وأشياء من تصانيفه وغيرها.
وأخذ عنه العلم خلق كثير في حياة شيخه وإلى أن مات وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه ويتلمذون له كابن عبد الهادي وغيره.
قال القاضي برهان الزُّرَعي: ما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه.
درَّس بالصدرية، وأمّ بالجوزية مدة طويلة، وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة، وصنف تصانيف كثيرة جدًّا في أنواع العلم، وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء كتبه، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.
من تصانيفه: كتاب «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، [والكلام] على ما فيه من الأحاديث المعلولة» مجلد، كتاب «سفر الهجرتين وباب السعادتين» مجلد ضخم، كتاب «شرح منازل السائرين» كتاب جليل القدر، كتاب «شرح أسماء الكتاب العزيز» مجلد، كتاب «زاد المسافرين إلى منازل السعداء في هدي خاتم الأنبياء» ، كتاب «نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول» ، وكتاب «نزهة المشتاقين وروضة المحبين» مجلد، وكتاب «الداء والدواء» مجلد، وكتاب «تحفة المودود في أحكام المولود» مجلد لطيف، كتاب «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» مجلد، كتاب «رفع اليدين في الصلاة» مجلد، كتاب «تفضيل مكة على المدينة» مجلد، وكتاب «فضل العلم» مجلد، «عدة الصابرين» مجلد، وكتاب «الكبائر» مجلد، «حكم تارك الصلاة» مجلد، كتاب «نور المؤمن وحياته» مجلد، كتاب «التحرير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير» ، وكتاب «جوابات عابدي الصلبان، وأن ما هم عليه دين الشيطان» ، وكتاب «بطلان الكيمياء من أربعين وجهًا» مجلد، وكتاب «الفرق بين الخلة والمحبة» ، وكتاب «الكلم الطيب والعمل الصالح» ، وكتاب «الفتح القدسي» ، وكتاب «أمثال القرآن» وكتاب «أيمان القرآن» ، وكتاب «المسائل الطرابلسية» ثلاث مجلدات، «الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم» ، وكتاب «الطاعون» .
انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى مع الاختصار.
قلت: وعندي من هذه الكتب أكثرها، وقد انتفعتُ به بتوفيق الله تعالى انتفاعًا لا أستطيع أن أؤدي شكره، ووقفتُ على بعض هذه الكتب في سفر الحجاز والتقطت منه بعض الفوائد.
وله رحمه الله تصانيف غير ما ذكرنا لا تحصَى كثرة، ولكن عزَّ وجودُها في هذا الزمان، ونسجت عليها عناكب النسيان، وغابت عن العيان، ودرجت في خبر كان، لمفاسد وتعصبات من أبناء الزمان، وقلة مبالاةٍ بها من أُسَراء التقليد.
وظنِّي أن من كان عنده تصانيف هذا الحبر العظيم الشأن الرفيع المكان، أو تصنيف شيخه العلامة الإمام ناصر الإسلام ابن تيمية درة معدن الحران
(1)
، أو تصنيف شيخنا وبركتنا القاضي محمد بن علي الشوكاني شمس فلك الإيمان، أو تصانيف السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليماني غرة جبهة الزمان، شملهم رحمة ربنا الرحمن في الآخرة وخصهم الله تعالى بنعيم الرضوان والجنان= لكفى لسعادة دنياه وآخرته، ولم يحتج بعد ذلك إلى تصنيف أحدٍ من المتقدمين والمتأخرين في درك الحقائق الإيمانية إن شاء الله تعالى، والتوفيق من الله المنان وبيده الهداية وهو المستعان.
* * *
وكان أبو ابن القيم أبو بكر بن أيوب متعبدًا قليل التكلف. سمع على الرشيد العامري وحدث عنه، توفي في ذي الحجة سنة 723.
وأما ولد الحافظ ابن القيم إبراهيم بن محمد فمولده سنة 716، أحضر
(1)
يقصد: مدينة حران.
على أيوب الكحال، وسمع من جماعة كابن الشحنة ومن بعده، واشتهر وتقدم وأفتى ودرس، ذكره الذهبي في «معجمه» فقال: تفقه بأبيه وشاركه في العربية، وسمع وقرأ واشتغل بالعلم.
ومن نوادره: أنه وقع بينه وبين الحافظ عماد الدين ابن كثير منازعة في تدريس فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأني أشعري. فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعرًا ما صدقك الناس في قولك إنك أشعري وشيخُك ابن تيمية رحمه الله!
ألَّف شرحًا على ألفية ابن مالك، وكان فاضلًا في النحو والحديث والفقه على طريقة أبيه، ودرس بأماكن عديدة، وكانت وفاته في صفر سنة 767، والله أعلم.
وأما ولده الآخر عبد الله بن محمد فمولده سنة 723 اشتغل على أبيه وغيره، وكان مفرط الذكاء حفظ سورة الأعراف في يومين، ثم درس «المحرر في الفقه» و «المحرر في الحديث» و «الكافية» و «الشاطبية» ، وسمع الحديث، فأكثر على أصحاب ابن عبد الدائم وغيرهم، وسمع الصحيح في الحجاز، ومَهَر في العلم وأفتى ودرس وحج مرارًا. وصفه ابن كثير بالذهن الحاذق والفكر الصائب.
وقال ابن رجب: كان أعجوبة زمانه ووحيد أوانه، توفي رحمه الله سنة 756. وذكر ترجمتهم الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة».
«التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول»
(1)
لصدّيق حسن القنوجي (ت 1307)
محمد بن أبي بكر بنِ أيوبَ، الزُّرَعيُّ، الدمشقيُّ، شمسُ الدين، ابنُ القَيِّم.
قال ابن رجب: الفقيه الأصولي النحوي المفسر العارف، شمس الدين، أبو عبد الله، شيخُنا، سمع من الشهاب النابلسي، وفاطمة بنت جوهر، وأبي بكر بن عبد الدائم، وجماعة، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام، وغير ذلك، وكان عالمًا بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى.
وكان ذا عبادة وتهجُّد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتألُّهٍ ولهج بالذِّكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله تعالى، والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثلَه في ذلك، ولا رأيتُ أوسعَ منه علمًا، ولا أعْرَفَ بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
(1)
(ص 409 - 412) تحقيق عبد الحكيم شرف الدين، طبعة بومبي 1383.
وقد امتُحِن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخِ تقي الدين في المرة الأخيرة منفردًا عنه، ولم يُفرَج عنه إلا بعد موت الشيخ، وكان مدةَ حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكّر، ففُتح عليه من ذلك خيرٌ كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف، والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة.
قال: ولازمتُ مجالسه قبل موته سنة، وسمعتُ عليه «قصيدته النونية» الطويلة في السُّنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها، وأخذ عنه العلمَ خلقٌ كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له؛ كابن عبد الهادي، وغيره.
قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي: ما تحتَ أديم السماء أوسعُ علمًا منه.
صنف في أنواع العلم، وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء كتبه، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.
ثم ذكر تصانيفه زيادة على ثلاثين كتابًا، منها:«شرح منازل السائرين» ، وكتاب «زاد المعاد» ، وكتاب «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ، وكتاب «حادي الأرواح» ، وكتاب «مفتاح دار السعادة» وكتاب «تفضيل مكة على المدينة» ، وكتاب «الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم» ، وكتاب «رفع اليدين في الصلاة» ، وكتاب «نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول» .
قال: توفي ــ رحمه الله ــ ليلة الخميس ثالث عشر رجب سنة 751، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة. قال ابن رجب: قرأ عليَّ شيخُنا الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، وأنا أسمع هذه القصيدة من نظمه في أول كتابه «صفة الجنة»:
وما ذاكَ إلا غيرةً أن ينالَها
…
سوى كُفْوِها والربُّ بالخلقِ أعلمُ
إلى آخرها.
قلت: ولقد لخصت كتابه هذا في صفة الجنة، وفيه هذه القصيدة بتمامها، سميته:«مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام» .
والشيخ العلامة ابن رجب ختم كتابه «الطبقات» على ترجمة شيخه ابن القيم، وعلى هذه القصيدة له رحمه الله تعالى.
قال العلامة الشوكاني في «البدر الطالع» في ترجمة الحافظ ابن القيم ــ رحمه الله تعالى ــ: العلامة الكبير، المجتهد المطلق، ولد سنة 691، قرأ على المجد الحراني، وابن تيمية، ودرَّس بالصدرية، وأمَّ بالجوزية، وأخذ الأصول عن الصفي الهندي، وابن تيمية أيضًا، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي نشر علمه بما صنفه من التصانيف الحسنة المقبولة، واعتُقل مع ابن تيمية، وأُهين، وطيف به على جمل مضروبًا بالدِّرّة.
فلما مات ابن تيمية، أُفرج عنه، وامتُحن محنة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره، وينالون منه.
قال الذهبي في «المعجم المختص» : حُبس مدةً لإنكار شد الرحل لزيارة الخليل، ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم، ولكنه معجب برأيه جريء على الأمور. انتهى.
قلت: بل كان يتقيد بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غيرَ معوِّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا، ونعمَتْ تلك الجرأة.
وكان مغرًى بجمع الكتب، فحصل منها ما لا يحصى، وله من التصانيف:«الهدي» ، و «أعلام الموقعين» ، و «بدائع الفوائد» ، و «جلاء الأفهام» ، و «مصايد الشيطان» ، و «الداء والدواء» ، و «كتاب الصلاة» ، وكتاب «تحفة النازلين بجوار رب العالمين» ، و «الصواعق المرسَلَة على الجهمية والمعطلة» في مجلدات، وكتاب «نزهة المشتاقين وروضة المحبين» ، وكتاب «اجتماع الجيوش الإسلامية على غزوة الفرقة الجهمية» ، و «عدة الصابرين» ، و «الفتح القدسي» ، و «أقسام القرآن» ، و «أيمان القرآن» ، وكتاب «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» .
ذكر له نعمان ترجمته في «الروضة الغناء» ، وقال: الأصولي النحوي المفسر، المفنن في علوم كثيرة، دفن تجاه المدرسة الصابونية، وبني على قبره قبة. انتهى.
وقال السخاوي: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان، ورئيس أصحاب ابن تيمية الإمام، بل هو حسنة من حسناته، والمجمع عليه بين المخالف والموافق، وصاحب التصانيف السائرة، والمحاسن الجمة، انتفع به الأئمة، ودرَّس بأماكن. ثم سرد تصانيفه، فذكر منها اثنين وخمسين كتابًا، قال: وله نظم كثير، ثم ذكر منه
شيئًا، قال: ورئيت له منامات صالحة كثيرة، انتهى.
وغالب هذه الكتب عندي موجود، وله تصانيف كثيرة سوى ذلك، مثل:«قضاء وقدر»
(1)
، و «طرق السعادتين» ، و «مولد النبي صلى الله عليه وسلم» ، و «نونية» (2)، وغير ذلك.
قال الشوكاني: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف في الكلام، مع العذوبة الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معوَّل في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى مذهبه الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة؛ كما يفعله غيره من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميلُ مع الدليل حيث مال، وعدمُ التعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحث، وطوّل ذيوله، أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما تنشرح له صدور الراغبين في أخذ مذاهبهم عن الدليل، وأظنه سرت بركة ملازمته لشيخه ابن تيمية في السراء والضراء، والقيام معه في محنه ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه، فإنه ما زال ملازمًا له من سنة 712 إلى تاريخ وفاته.
وبالجملة: فهو واحدُ مَنْ قام بنشر السنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظمَ جُنة، فرحمه الله، وجزاه عن المسلمين خيرًا.
(1)
(، 2) كذا سماهما المؤلف على طريقة الأعاجم، وهما كتاب «القضاء والقدر» و «النونية» .
وحكي عنه قبل موته بمدة: أنه رأى شيخه ابن تيمية في المنام، وأنه سأله عن منزلته ــ أي منزلة ــ؟ فقال: إنه أنزل فوق فلان ــ وسمى بعض الأكابر ــ، وقال له: أنت [كدت] تلحق بنا، ولكن أنت في طبقة ابن خزيمة، ومات في ثالث عشر شهر رجب سنة 751، انتهى ــ رحمه الله تعالى ــ.
* * *
«روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات»
(1)
لمحمد باقر الموسوي الخوانساري (ت 1313)
الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعي
(2)
.
وقد ذكره الحافظ السيوطي في كتاب «بغيته» الذي هو في طبقات اللغويين والنحاة، فقال بعد الترجمة له، بعنوان: محمد بن أبي بكر الشمس ابن قيم الجوزية، ولد في سابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة. وقرأ العربية على المجد التونسي، وابن أبي الفتح البعلي، والفقه والفرائض على ابن تيمية، والأصلين عليه، وعلى الصفي الهندي، إلى أن قال: وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية.
وله من التصانيف: «زاد المعاد» ، «مفتاح دار السعادة» ، «تهذيب سنن أبي داود» ، «الكافية الشافية» ، «نظم الرسالة الحلبية في الطريقة المحمدية» ، «تفسير الفاتحة» ، «تفسير أسماء القرآن» ، «جلاء الأفهام في حكمة الصلاة والسلام على خير الأنام» «معاني الأدوات والحروف» ، «بدائع الفوائد» مجلدان، وهو كثير الفوائد أكثره مسائل نحوية.
مات في رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. انتهى.
* * *
(1)
(8/ 94 - 95). تحقيق أسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان بإيران.
(2)
اختلطت على المؤلف (أو الناشر) هنا ترجمة ابن القيم بالعلائي، فحذفنا ما يتعلق بالعلائي.