المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: إن لم يقروا برسالته إلى العرب] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: إِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَشَّرْ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ اسْتِدْلَالِ النَّصَارَى عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ بِمَا جَاءَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ] [

- ‌طُرُقُ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ هِيَ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[إِبْطَالُ دَعْوَى النَّصَارَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: الْمُسْلِمُونَ لَمْ يُصَدِّقُوا نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَعَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى خُصُوصِيَّةَ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِ كِتَابِهِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: دَفْعُ مَا يُوهِمُ الْخُصُوصِيَّةَ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِ النَّصَارَى عِصْمَةَ الْحَوَارِيِّينَ الْمُتَرْجِمِينَ لِلْإِنْجِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِرُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ عَنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِهِمْ بِأَنَّ عَدْلَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُطَالَبُوا بِاتِّبَاعِ إِنْسَانٍ لَمْ يَأْتِ إِلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا. . . تَقْتَضِي الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ: تَوَسُّطُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ تَقْصِيرِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّ النَّصَارَى]

- ‌[فَصْلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ دَعْوَاهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمُ الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَدَفْعُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أُلُوهِيَّتَهُ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِآيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى مَدْحِ الرَّهْبَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَهُمْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَعْظِيمَ الْإِسْلَامِ لِمَعَابِدِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ وُجُوبَ التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ الْحَوَارِيِّينَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ إِنْجِيلَهُمُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرُّسُلِ]

- ‌[فَصْلٌ: أَسْبَابُ ضَلَالِ النَّصَارَى وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: الْخَوَارِقُ الَّتِي يُضِلُّ بِهَا الشَّيَاطِينُ أَبْنَاءَ آدَمَ]

- ‌[فَصْلٌ: مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُثْبِتُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ صَدَّقَ كُتُبَهُمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: وُقُوعُ التَّبْدِيلِ فِي أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَانْقِطَاعِ سَنَدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَنَّ التَّحْرِيفَ وَقَعَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ]

- ‌[فَصْلٌ: دَعْوَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْحُكْمِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّحِيحَةِ]

الفصل: ‌[فصل: إن لم يقروا برسالته إلى العرب]

[فَصْلٌ: إِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ]

وَإِمَّا أَنْ لَا يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ بَلْ قَالُوا فِيهِ مَا كَانَ يَقُولُهُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ سَاحِرٌ أَوْ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيُقَالُ: لَهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَدَلِيلُكُمْ أَيْضًا بَاطِلٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْتَجُّوا بِتَقْدِيرِ تَكْذِيبِكُمْ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ سَوَاءً صَدَّقْتُمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ مَا يَقُولُهُ: أَوْ فِي بَعْضِهِ أَوْ كَذَّبْتُمُوهُ فَدَلِيلُكُمْ بَاطِلٌ فَيَلْزَمُ بُطْلَانُ دِينِكُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَمَا ثَبَتَ بُطْلَانُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ أَنَّكُمْ إِذَا كَذَّبْتُمْ مُحَمَّدًا لَمْ يَبْقَ لَكُمْ طَرِيقٌ تَعْلَمُونَ بِهِ صِدْقَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَمْتَنِعُ مَعَ تَكْذِيبِهِ الْقَوْلُ بِصِدْقِ غَيْرِهِ بَلْ مَنِ اعْتَقَدَ كَذِبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصِدْقِ غَيْرِهِ بَلْ يَكُونُ مُصَدِّقًا لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصِدْقِهِمْ لَمْ يَجُزِ احْتِجَاجُهُ قَطُّ بِأَقْوَالِهِمْ بَلْ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْهُ بِلَا عِلْمٍ وَمُحَاجَّةٍ فِيمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُعْجِزَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُعْجِزَاتِ غَيْرِهِ وَالْكِتَابَ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ أَشْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ غَيْرُهُ وَالشَّرِيعَةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا

ص: 5

أَكْمَلُ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام وَأُمَّتَهُ أَكْمَلُ فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ مِنْ أُمَّةِ هَذَا وَهَذَا وَلَا يُوجَدُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عِلْمٌ نَافِعٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ إِلَّا وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ مِنْهُ وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَمَا مِنْ مَطْعَنٍ مِنْ مَطَاعِنِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ يُطْعَنُ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ الطَّعْنِ وَأَعْظَمَ مِنْهُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى.

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ نَبْسُطْهَا هُنَا ; لِأَنَّ جَوَابَ كَلَامِهِمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام مَعَ التَّكْذِيبِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ أَوْ مِنْ أَعْظَمِهِمْ عِنَادًا وَاتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ احْتَجُّوا بِمَا نَقَلُوهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِهِمْ بَلْ أَخَذُوا ذَلِكَ مُسَلَّمًا وَطَلَبُوا أَنْ يَحْتَجُّوا بِمَا نَقَلُوهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَبِمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ

ص: 6

وَهَذِهِ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ سَوَاءً صَدَّقُوهُ أَوْ كَذَّبُوهُ، فَإِنْ صَدَّقُوهُ بَطَلَ دِينُهُمْ وَإِنْ كَذَّبُوهُ بَطَلَ دِينُهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ صَدَّقُوهُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ كَمَا دَعَا الْمَسِيحُ وَمُوسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ أَبْطَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّحَادِ وَغَيْرِهِ وَكَفَّرَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَوْ إِلَى الْعَرَبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ دِينِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَكُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ دِينَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا لِلَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ دَعَا النَّصَارَى وَالْيَهُودَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ كَمَا دَعَا غَيْرَهُمْ وَأَنَّهُ كَفَّرَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَوَعَدَهُ النَّارَ وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ تَوَاتُرًا تَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكْثُرُ ذِكْرُهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1](1){رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2](2){فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3](3){وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4](4){وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5](5){إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6](6){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7](7){جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]

ص: 7

وَقَالَ - تَعَالَى -: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18](18){إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19](19){فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] .

وَقَدْ ذُكِرَ كُفْرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَنِ النَّصَارَى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] .

ص: 8

وَقَالَ - تَعَالَى -: أَيْضًا {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72](72){لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73](73){أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74](74){مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75](75){قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76](76){قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .

وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171](171){لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172](172){فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173](173){يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174](174){فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175]

ص: 9

وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30](30){اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .

وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116](116){مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] .

فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

وَقَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] .

ص: 10

وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] .

وَالنَّصَارَى قَالَتِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَكِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ.

كَمَا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ تَارَةً يَحْكُونَ عَنِ الْيَعْقُوبِيَّةِ أَنَّ عِيسَى هُوَ اللَّهُ

ص: 11

وَعَنِ النَّسْطُورِيَّةِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَعَنِ الْمَرْيُوسِيَّةِ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَتَارَةً يَحْكُونَ عَنِ النَّسْطُورِيَّةِ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الْمَلَكِيَّةِ أَنَّهُ اللَّهُ وَيُفَسِّرُونَ قَوْلَهُمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِالْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ جَمِيعَهَا قَوْلُ طَوَائِفِ النَّصَارَى الْمَشْهُورَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ كُلَّهَا تَقُولُ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، فَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَتَقُولُ عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ اللَّهُ وَتَقُولُ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ وَأَنَّ الْمُتَّحِدَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَقِيدَةِ إِيمَانِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ أَبٍ ضَابِطِ الْكُلِّ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْآبِ

ص: 12

قَبْلَ كُلِّ الدُّهُورِ نُورٌ مِنْ نُورٍ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ مَوْلُودٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] .

فَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالتَّثْلِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْهُمُ الْمَذْكُورِ فِي أَمَانَتِهِمْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَقَوْلُهُمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُوَ قَوْلُ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا اللَّهَ فِيهَا ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَسَمَّوْا كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِالْإِلَهِ وَالرَّبِّ وَقَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ بِجَعْلِهِمْ عِيسَى وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ يُعْبَدَانِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

ص: 13

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] .

قَالَ: قَالَتِ النَّصَارَى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ وَأُمُّهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] وَقَدْ قِيلَ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] قَالَ: هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَوْلُ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فَجَعَلُوا اللَّهَ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَقَدْ ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْبِطْرِيقِ فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى أَنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يُقَالُ لَهُمُ

ص: 14

الْمَرْيَمِيُّونَ يَقُولُونَ إِنَّ مَرْيَمَ إِلَهٌ وَإِنَّ عِيسَى إِلَهٌ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمُتَوَجَّهٌ، فَإِنَّ النَّصَارَى الْمُتَّفِقِينَ عَلَى الْأَمَانَةِ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَقَالَ - تَعَالَى -:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ وَنَهَاهُمْ عَنْهُمَا وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسِيحَ إِنَّمَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.

وَقَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171] ثُمَّ قَالَ {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]

ص: 15

لَمْ يَذْكُرْ هُنَا أُمَّهُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] قَالَ: مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ هُوَ قَوْلُهُ: كُنْ فَكَانَ.

وَكَذَلِكَ قَالَ: قَتَادَةُ لَيْسَ الْكَلِمَةَ صَارَ عِيسَى، وَلَكِنْ بِالْكَلِمَةِ صَارَ عِيسَى.

وَكَذَلِكَ قَالَ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْخَلَّالُ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَالَ: أَحْمَدُ

ص: 16

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمَ ادَّعَى أَمْرًا فَقَالَ: إِنَّا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ قُلْنَا: أَيَّ آيَةٍ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171] فَقُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَكُمُ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ عِيسَى عليه السلام تَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ لَا تَجْرِي عَلَى الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ عِيسَى يَجْرِي عَلَيْهِ نَسَمَةٌ وَمَوْلُودٌ وَطِفْلٌ وَصَبِيٌّ وَغُلَامٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَهُوَ يُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَجْرِي عَلَيْهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَقُولُ فِي عِيسَى هَلْ سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَ عِيسَى؟ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ حِينَ قَالَ: لَهُ كُنْ فَكَانَ عِيسَى بِـ كُنْ وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكُنْ، وَلَكِنْ بِالْكُنْ كَانَ فَالْكُنْ مِنَ اللَّهِ قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الْكُنْ مَخْلُوقًا وَكَذَبَتِ النَّصَارَى وَالْجَهْمِيَّةُ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ قَالُوا: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ; لِأَنَّ الْكَلِمَةَ مَخْلُوقَةٌ.

ص: 17

وَقَالَتِ النَّصَارَى رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَةُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ الْخِرْقَةُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ وَقُلْنَا نَحْنُ إِنَّ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةَ.

قَالَ أَحْمَدُ وَأَمَّا قَوْلُهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ فِيهِ كَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] يَقُولُ مِنْ أَمْرِهِ، وَتَفْسِيرُ رُوحِ اللَّهِ إِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّهَا رُوحٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ خَلَقَهُمُ اللَّهُ كَمَا يُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ، وَفِي نُسْخَةٍ رُوحٌ يَمْلِكُهَا اللَّهُ خَلَقَهَا اللَّهُ.

وَقَالَ: الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:

ص: 18

{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] الْكَلِمَةُ حِينَ قَالَ: لَهُ كُنْ فَكَانَ عِيسَى بِـ " كُنْ " وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكُنْ، وَلَكِنْ بِالْكُنْ كَانَ.

وَقَالَ: لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ رُوحٌ مِنْهُ قَالَ: رَسُولٌ مِنْهُ يُرِيدُ مُجَاهِدٌ قَوْلَهُ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17](17){قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18](18){قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19]

ص: 19

وَالْمَعْنَى أَنَّ عِيسَى خُلِقَ مِنَ الرُّوحِ وَهُوَ جِبْرِيلُ رُوحُ الْقُدُسِ سُمِّيَ رُوحًا كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةً ; لِأَنَّهُ خُلِقَ بِالْكَلِمَةِ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ فِي أَمَانَتِهِمْ تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ رُوحِ الْقُدُسِ ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَكِنْ ظَنُّوا أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ صِفَةٌ لِلَّهِ وَجَعَلُوهَا حَيَاتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَهُوَ رَبٌّ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ حَيَاةَ اللَّهِ وَلَا قُدْرَتَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ رُوحَ الْقُدُسِ، بَلْ رُوحُ الْقُدُسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام يُرَادُ بِهَا مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالْوَحْيِ وَالْهُدَى وَالتَّأْيِيدِ وَيُرَادُ بِهَا الْمَلَكُ وَهَكَذَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اسْتَقْبَلَ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ ابْنُ السَّاحِرَةِ وَالْفَاعِلُ ابْنُ الْفَاعِلَةِ فَقَذَفُوهُ وَأُمَّهُ فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ

ص: 20

قَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا مِنْ رُوحِكَ خَرَجْتُ وَبِكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي وَلَمْ آتِهِمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.

وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] فَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17](17){قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18](18){قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] .

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ صَدَّقُوا مُحَمَّدًا أَوْ كَذَّبُوهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بُطْلَانُ دِينِهِمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا صَادِقًا فَقَدْ بَلَّغَ عَنِ اللَّهِ

ص: 21

فِي هَذَا الْكِتَابِ كُفْرَ النَّصَارَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَأَمَرَ بِجِهَادِهِمْ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَوْ إِلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِكُفْرِ النَّصَارَى وَضَلَالِهِمْ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمَعْقُولِ، بَلْ يُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَسَادُ حُجَجِهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَقُولُونَ إِلَّا حَقًّا كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام لَمَّا حَكَمَ بِكُفْرِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ كُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْيَهُودُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بَاطِلًا فَكُلُّ مَا عَارَضَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَعْصُومِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا تَكْذِيبًا عَامًّا مُطْلَقًا وَقَالُوا لَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ أَصْلًا وَلَا أُرْسِلَ إِلَى أَحَدٍ لَا إِلَى الْعَرَبِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِمْ بَلْ كَانَ كَذَّابًا امْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يُصَدِّقُوا بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ نُبُوَّةُ مُوسَى وَعِيسَى يُعْلَمُ بِهِ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِذَا قَالُوا: عُلِمَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى وَالْمَسِيحِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَعُرِفَتِ الْمُعْجِزَاتُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ إِلَيْنَا قِيلَ لَهُمْ مُعْجِزَاتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ وَتَوَاتُرُهَا أَبْلَغُ وَالْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَكْمَلُ وَأُمَّتُهُ أَفْضَلُ وَشَرَائِعُ دِينِهِ أَحْسَنُ وَمُوسَى جَاءَ بِالْعَدْلِ وَعِيسَى جَاءَ بِتَكْمِيلِهَا بِالْفَضْلِ وَهُوَ

ص: 22

- صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ فِي شَرِيعَتِهِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ.

فَإِنْ سَاغَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُوَ مَعَ هَذَا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ كَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْبَاطِلِ غَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِيهِ ذَلِكَ. فَيَبْطُلُ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ مَا مَعَهُمْ مِنَ النُّبُوَّاتِ إِذْ حُكْمُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ حُكْمُ مِثْلِهِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ؟ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ هَارُونَ وَيُوشَعَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَمُوسَى لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا أَوْ أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُوشَعَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَالْمَسِيحَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. أَوْ قَالَ مَا تَقُولُهُ السَّامِرَةُ: أَنَّ يُوشَعَ كَانَ نَبِيًّا وَمَنْ بَعْدَهُ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالْمَسِيحَ لَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ. أَوْ قَالَ مَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ: إِنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ

ص: 23

وَأَشْعِيَا وَحَبْقُوقَ وَمَلِيخَا وَعَامُوصَ وَدَانْيَالَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ

ص: 24

وَالْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا كَانَ هَذَا قَوْلًا مُتَنَاقِضًا مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الَّذِينَ نَفَى هَؤُلَاءِ عَنْهُمُ النُّبُوَّةَ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ وَأَكْمَلُ نُبُوَّةً مِمَّنْ أَثْبَتُوهَا لَهُ وَدَلَائِلُ نُبُوَّةِ الْأَكْمَلِ أَفْضَلُ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ لِلنَّبِيِّ الْمَفْضُولِ دُونَ الْفَاضِلِ وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَّ زُفَرَ وَابْنَ الْقَاسِمِ وَالْمُزَنِيَّ

ص: 25

وَالْأَثْرَمَ كَانُوا فُقَهَاءَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ أَوْ قَالَ: إِنَّ الْأَخْفَشَ وَابْنَ الْأَنْبَارِيِّ وَالْمُبَرِّدَ كَانُوا نُحَاةً

ص: 26

وَالْخَلِيلَ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءَ لَمْ يَكُونُوا نُحَاةً أَوْ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَلَكِيِّ وَالْمُسَبَّحِيِّ وَنَحْوَهُمَا مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ كَانُوا أَطِبَّاءً وَبُقْرَاطَ

ص: 27

وَجَالِينُوسَ وَنَحْوَهُمَا لَمْ يَكُونُوا أَطِبَّاءً أَوْ قَالَ: إِنَّ كُوشْيَارَ وَالْخِرَقِيَّ وَنَحْوَهُمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَبَطْلَيْمُوسَ وَنَحْوَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْهَيْئَةِ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَمَلِيخَا وَعَامُوصَ وَدَانْيَالَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فَتَنَاقُضُهُ أَظْهَرُ وَفَسَادُ قَوْلِهِ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا جَمِيعِهِ بَلْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى وَعِيسَى رَسُولَانِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كِتَابَانِ مُنَزَّلَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ وَالْقُرْآنُ

ص: 28

لَمْ يَنْزِلْ مِنَ اللَّهِ فَبُطْلَانُ قَوْلِهِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْبَيَانِ لِمَنْ تَدَبَّرَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ، وَتَدَبَّرَ كِتَابَهُ وَالْكُتُبَ الَّتِي قَبْلَهُ وَآيَاتِ نُبُوَّتِهِ وَآيَاتِ نُبُوَّةِ هَؤُلَاءِ وَشَرَائِعَ دِينِهِ وَشَرَائِعَ دِينِ هَؤُلَاءِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُفَصَّلَةٌ مَشْرُوحَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ جَوَابِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَنِ احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ نَاظَرَهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَلَاحِدَةِ لَمْ يَكُنْ فِيمَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ لَهُمْ وَلَا حُجَّةٌ لَهُمْ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا عَرَفُوا صِدْقَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِإِخْبَارِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُصَدِّقُوا بِالْفَرْعِ مَعَ الْقَدْحِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بِهِ عَلِمُوا صِدْقَهُمْ.

وَأَيْضًا فَالطَّرِيقُ الَّذِي بِهِ عُلِمَتْ نُبُوَّةُ هَؤُلَاءِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ، فَكَذَلِكَ تُعْلَمُ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ بِمَا ثَبَتَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَأَخْبَارِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنُبُوَّةِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ تَكْذِيبِهِ لِمُحَمَّدٍ فِي كَلِمَةٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ.

ص: 29