المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: إِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَشَّرْ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ اسْتِدْلَالِ النَّصَارَى عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ بِمَا جَاءَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ] [

- ‌طُرُقُ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ هِيَ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[إِبْطَالُ دَعْوَى النَّصَارَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: الْمُسْلِمُونَ لَمْ يُصَدِّقُوا نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَعَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى خُصُوصِيَّةَ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِ كِتَابِهِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: دَفْعُ مَا يُوهِمُ الْخُصُوصِيَّةَ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِ النَّصَارَى عِصْمَةَ الْحَوَارِيِّينَ الْمُتَرْجِمِينَ لِلْإِنْجِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِرُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ عَنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِهِمْ بِأَنَّ عَدْلَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُطَالَبُوا بِاتِّبَاعِ إِنْسَانٍ لَمْ يَأْتِ إِلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا. . . تَقْتَضِي الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ: تَوَسُّطُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ تَقْصِيرِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّ النَّصَارَى]

- ‌[فَصْلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ دَعْوَاهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمُ الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَدَفْعُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أُلُوهِيَّتَهُ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِآيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى مَدْحِ الرَّهْبَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَهُمْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَعْظِيمَ الْإِسْلَامِ لِمَعَابِدِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ وُجُوبَ التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ الْحَوَارِيِّينَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ إِنْجِيلَهُمُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرُّسُلِ]

- ‌[فَصْلٌ: أَسْبَابُ ضَلَالِ النَّصَارَى وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: الْخَوَارِقُ الَّتِي يُضِلُّ بِهَا الشَّيَاطِينُ أَبْنَاءَ آدَمَ]

- ‌[فَصْلٌ: مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُثْبِتُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ صَدَّقَ كُتُبَهُمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: وُقُوعُ التَّبْدِيلِ فِي أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَانْقِطَاعِ سَنَدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَنَّ التَّحْرِيفَ وَقَعَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ]

- ‌[فَصْلٌ: دَعْوَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْحُكْمِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّحِيحَةِ]

الفصل: ‌[فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي]

[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى خُصُوصِيَّةَ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِ كِتَابِهِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ]

وَأَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَحْدَهُ فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ وَالتَّوْرَاةُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ بِاللِّسَانِ الْعِبْرِيِّ وَحْدَهُ وَمُوسَى عليه السلام لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالْعِبْرِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا إِلَّا بِالْعِبْرِيَّةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكُتُبِ لَا يُنَزِّلُهَا اللَّهُ إِلَّا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ بِلِسَانِ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَلِسَانِ قَوْمِهِ الَّذِينَ يُخَاطِبُهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُبَلَّغُ الْكُتُبُ وَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ إِمَّا بِأَنْ يُتَرْجَمَ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِمَّا بِأَنْ يَتَعَلَّمَ النَّاسُ لِسَانَ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَيَعْرِفُونَ مَعَانِيَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يُبَيَّنَ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ مَعَانِيَ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَائِرَ مَا أُرْسِلَ بِهِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَتْهُ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ وَمَا قَالُوا: لَهُمْ

ص: 52

- وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَرَبًا - وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَحِينَئِذٍ، فَإِنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ تَمَكُّنُ الْعِبَادَ مِنْ فَهْمِ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُرْسَلَ بِلِسَانٍ يُعْرَفُ بِهِ مُرَادُهُ ثُمَّ جَمِيعُ النَّاسِ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ مُرَادِهِ بِأَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ اللِّسَانَ أَوْ يَعْرِفُوا مَعْنَى الْكِتَابِ بِتَرْجَمَةِ مَنْ يُتَرْجِمُ مَعْنَاهُ وَهَذَا مَقْدُورٌ لِلْعِبَادِ وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَهْمُ كَلَامِ الرَّسُولِ إِلَّا بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ مَا لَا يَتِمُّ الْوُجُوبُ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَا فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي التَّمَامِ فَلَا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ - وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ - فَهُوَ وَاجِبٌ، فَإِنَّ مَا لَيْسَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ الْعِبَادُ بَلْ وَقَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَلَا يُكَلَّفُونَ بِهِ.

فَلَمَّا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ لَمْ يَجِبْ تَحْصِيلُ الِاسْتِطَاعَةِ بِخِلَافِ قَطْعِ الْمَسَافَاتِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ فَلِهَذَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ إِذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا.

وَجُمْهُورُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إِلَّا بِمَنْ يُبَيِّنُهَا وَيُفَسِّرُهَا لَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ فَهَؤُلَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَلَبُ عِلْمِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَهَذَا

ص: 53

هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ طَلَبُ عِلْمِ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ إِذَا كَانَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ.

كَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تبارك وتعالى فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ.

وَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] لَمْ يَقُلْ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ لَكِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا، لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ فَإِذَا بَيَّنَ لِقَوْمِهِ مَا أَرَادَهُ حَصَلَ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ بَلَّغَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا يُمْكِنُهُمْ أَنْ

ص: 54

يُبَلِّغُوا عَنْهُ اللَّفْظَ وَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْقُلُوا عَنْهُ الْمَعْنَى لِمَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ وَيُمْكِنُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ لِسَانَهُ فَيَعْرِفَ مُرَادَهُ فَالْحُجَّةِ تَقُومُ عَلَى الْخَلْقِ وَيَحْصُلُ لَهُمُ الْهُدَى بِمَنْ يَنْقُلُ عَنِ الرَّسُولِ: تَارَةً الْمَعْنَى وَتَارَةً اللَّفْظَ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ نَقْلُ حَدِيثِهِ بِالْمَعْنَى، وَالْقُرْآنُ يَجُوزُ تَرْجَمَةُ مَعَانِيهِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.

ص: 55

وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقْرَأُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قِرَاءَتِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَنَعُوا أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُتَرْجَمَ لِلتَّفَهُّمِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ وَبَيَانُ مَعَانِيهِ وَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ لَيْسَ قُرْآنًا مَتْلُوًّا وَكَذَلِكَ التَّرْجَمَةُ وَقَدْ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .

ص: 56

وَقَالَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ فَزَرَعُوا وَسَقَوْا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .

فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يُبَلِّغْ حَدِيثَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِيهِ وَقَالَ: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .

وَقَدْ كَانَ الْعَارِفُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يُوجَدُونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا وَالَاهَا كَأَرْضِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَبَعْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ثُمَّ انْتَشَرَ فَصَارَ أَكْثَرُ السَّاكِنِينَ فِي وَسَطِ الْمَعْمُورَةِ الْعَرَبِيَّةِ، حَتَّى الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الْمَوْجُودُونَ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَتَكَلَّمُ بِهَا أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ

ص: 57

كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَجْوَدَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدِ انْتَشَرَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ أَكْثَرَ مِمَّا انْتَشَرَتْ سَائِرُ اللُّغَاتِ حَتَّى أَنَّ الْكُتُبَ الْقَدِيمَةَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ كُتُبِ الْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالْيُونَانِ وَالْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ عُرِّبَتْ بِهَذِهِ اللُّغَةِ.

وَمَعْرِفَةُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَيْسَرُ عَلَى جُمْهُورِ النَّاسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّ اللِّسَانَ الْعِبْرِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْقِبْطِيَّ وَغَيْرَهَا وَإِنْ عَرَفَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ فَالَّذِينَ يَعْرِفُونَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْرِفُ لِسَانًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْسِنَةِ.

وَأَيْضًا فَمَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَمْرًا عَامًّا هُوَ مِمَّا نَقَلَهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ الْأَمْرِ

ص: 58

بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ أُمِّيِّهِمْ وَغَيْرِ أُمِّيِّهِمْ، وَإِقَامِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَإِيجَابِ الصِّدْقِ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مَعْرِفَةً عَامَّةً وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَحْفَظَ الْقُرْآنَ بَلْ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ وَيَكْفِيهِ أَنْ يَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُوَرًا مَعَهَا يُصَلِّي بِهِنَّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالْحَبَشَةِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْعَرَبِيَّةِ الْكَلَامَ الْمُعْتَادَ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَإِذَا كَلَّمَ النَّاسَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ إِلَّا بِلِسَانِهِ لَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِذَا خُوطِبَ بِالْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَفْقَهْ مَا قِيلَ لَهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام كَانَ لِسَانُهُ عِبْرِيًّا وَكَذَلِكَ أَلْسِنَةُ الْحَوَارِيِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَوَّلًا ثُمَّ أَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْأُمَمِ يُخَاطِبُونَهُمْ وَيُتَرْجِمُونَ لَهُمْ مَا قَالَهُ الْمَسِيحُ عليه السلام فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ رُسُلَ الْمَسِيحِ حُوِّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ إِلَى أَلْسِنَةِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ.

قِيلَ هَذَا مَنْقُولٌ فِي رُسُلِ الْمَسِيحِ وَفِي رُسُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْأُمَمِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ رُسُلَ رُسُلِ اللَّهِ

ص: 59

كَرُسُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْمَسِيحِ عليه السلام إِلَى الْأُمَمِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفُوا لِسَانَ مَنْ أَرْسَلَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ أَوْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أُولَئِكَ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُمْ وَلِسَانَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيُتَرْجِمَ لَهُمْ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ أَرْسَلَ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ مَنْ يُعْرَفُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِمْ.

وَكَذَلِكَ رُسُلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْأُمَمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ رُسُلَهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَبَعَثَ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ بِالْيَمَنِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ النَّصَارَى بِالشَّامِ وَمِصْرَ قِبْطِهِمْ وَرُومِهِمْ وَعَرَبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْفُرْسِ الْمَجُوسِ مُلُوكِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ ذِكْرُ بَعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّسُلَ بِكُتُبِهِ إِلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ يَدْعُوهُمْ وَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَاسٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْمَرُ

ص: 60

بْنُ رَاشِدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ

ص: 61

الشِّفَاءِ وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَحَدَّثَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو (بْنِ جَعْفَرِ بْنِ

ص: 62

أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ وَإِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَإِلَى كِسْرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ وَأَرْسَلَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا بِظَاهِرِ دِمَشْقَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّ وَأَرْسَلَ إِلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ.

وَقَالَ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا دَلْهَمُ بْنُ

ص: 64

صَالِحٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِمَارَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " «ائْتُونِي بِأَجْمَعِكُمْ بِالْغَدَاةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَجْلِسُ فِي مُصَلَّاهُ قَلِيلًا يُسَبِّحُ وَيَدْعُو ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَبَعَثَ عِدَّةً إِلَى عِدَّةٍ وَقَالَ:

ص: 65

- صلى الله عليه وسلم انْصَحُوا لِلَّهِ فِي أَمْرِ عِبَادِهِ، فَإِنَّ مَنْ أُخْبِرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْصَحْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ انْطَلِقُوا وَلَا تَصْنَعُوا كَمَا صَنَعَتْ رُسُلُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، فَإِنَّهُمْ أَتَوُا الْقَرِيبَ وَتَرَكُوا الْبَعِيدَ فَأَصْبَحُوا يَعْنِي الرُّسُلَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُعْرَفُ بِلِسَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَذَا أَعْظَمُ مَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عز وجل عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ عِبَادِهِ» .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّصَارَى فِيهِمْ عَرَبٌ كَثِيرٌ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فَهْمُهُ لِلْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لِسَانِهِ فَارِسِيًّا أَوْ رُومِيًّا أَوْ تُرْكِيًّا أَوْ هِنْدِيًّا أَوْ قِبْطِيًّا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلُوا هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى قَدْ قَرَءُوا الْمُصْحَفَ وَفَهِمُوا مِنْهُ مَا فَهِمُوا وَهُمْ يَفْهَمُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَاحْتَجُّوا بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ مَعَ هَذَا أَنْ يَقُولُوا كَيْفَ تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْنَا بِكِتَابٍ لَمْ نَفْهَمْهُ؟ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ عَرَبٌ وَفِيهِمْ عَجَمٌ - تُرْكٌ وَهِنْدٌ وَغَيْرُهُمَا -

ص: 66

فَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ وَفِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِمَّنْ يَعْرِفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عز وجل.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ فَهْمُ كُلِّ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ بِأَيِّ عِبَارَةٍ كَانَتْ وَهَذَا مُمْكِنٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعُ أَصْنَافِ الْعَجَمِ مِنَ الْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْبَرْبَرِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَعْلَمُ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ التَّرْجَمَةَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْبِيرُ كَمَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يُقْرَأُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ تِلَاوَةً كَمَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَرَأَ الْأَعْجَمِيُّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ مَعَهَا

ص: 67

بِالْعَرَبِيَّةِ أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ وَغَيْرُهُ مِنَ الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَذَا أَمْرٌ يَسِيرٌ أَيْسَرُ مِنْ أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تبارك وتعالى عِبَادَهُ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا جُمَلُ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ بِتَعْرِيفِ مَنْ يَعْرِفُهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَإِمَّا بِلِسَانٍ آخَرَ لَا يَتَوَقَّفُ تَعْرِيفُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ.

ص: 68