الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: أَسْبَابُ ضَلَالِ النَّصَارَى وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ]
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ سَبَبَ ضَلَالِ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْغَالِيَةِ كَغَالِيَةِ الْعُبَّادِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ مُجْمَلَةٌ مُشْكِلَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَلُوا عَنِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ وَتَمَسَّكُوا بِهَا وَهُمْ كُلَّمَا سَمِعُوا لَفْظًا لَهُمْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَمَسَّكُوا بِهِ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَلْفَاظُ الصَّرِيحَةُ الْمُخَالِفَةُ لِذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُفَوِّضُوهَا، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهَا كَمَا يَصْنَعُ أَهْلُ الضَّلَالِ، يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَيَعْدِلُونَ عَنِ الْمُحْكَمِ الصَّرِيحِ مِنَ الْقِسْمَيْنِ.
وَالثَّانِي: خَوَارِقُ ظَنُّوهَا آيَاتٍ وَهِيَ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيَاطِينِ وَهَذَا مِمَّا ضَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الضُّلَّالِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِثْلُ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي الْأَصْنَامِ وَتَكْلِيمِهَا لِلنَّاسِ، وَمِثْلُ إِخْبَارِ الشَّيَاطِينِ لِلْكُهَّانِ بِأُمُورٍ غَائِبَةٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَذِبٍ وَمِثْلُ تَصَرُّفَاتٍ تَقَعُ مِنَ الشَّيَاطِينِ.
وَالثَّالِثُ: أَخْبَارٌ مَنْقُولَةٌ إِلَيْهِمْ ظَنُّوهَا صِدْقًا وَهِيَ كَذِبٌ وَإِلَّا فَلَيْسَ مَعَ النَّصَارَى وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ عَلَى بَاطِلِهِمْ لَا مَعْقُولٌ
صَرِيحٌ وَلَا مَنْقُولٌ صَحِيحٌ، وَلَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ إِنْ تَكَلَّمُوا بِمَعْقُولٍ تَكَلَّمُوا بِأَلْفَاظٍ مُتَشَابِهَةٍ مُجْمَلَةٍ. فَإِذَا اسْتَفْسَرُوا عَنْ مَعَانِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَفُرِّقَ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَاطِلِهَا تَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ التَّلْبِيسِ وَالِاشْتِبَاهِ.
وَإِنْ تَكَلَّمُوا بِمَنْقُولٍ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى بَاطِلِهِمْ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ صَحِيحٍ ثَابِتٍ بَلْ مَكْذُوبٍ.
وَكَذَلِكَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا قَدْ ظَهَرَ عَلَى يَدِ نَبِيٍّ كَمُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ وَمَنْ قَبْلَهُ كَإِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكَمُعْجِزَاتِ مُوسَى فَهَذِهِ حَقٌّ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ بَعْضِ الصَّالِحِينَ كَالْحَوَارِيِّينَ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَلَا يَسْتَقِرُّ فِي كَلَامِهِمْ بَاطِلٌ لَا عَمْدًا وَلَا خَطَأً.
وَأَمَّا الصَّالِحُونَ فَقَدْ يَغْلَطُ أَحَدُهُمْ وَيُخْطِئُ مَعَ ظُهُورِ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ رَجُلًا صَالِحًا وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا إِذَا كَانَ هُوَ لَمْ يَدَّعِ الْعِصْمَةَ وَلَمْ يَأْتِ بِالْآيَاتِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ
وَلَوِ ادَّعَى الْعِصْمَةَ وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ لَكَانَ كَاذِبًا لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ وَتَقْتَرِنَ بِهِ الشَّيَاطِينُ فَتُضِلُّهُ وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221] وَالنَّصَارَى عِنْدَهُمْ مَنْقُولٌ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ وَدُفِنَ فِي الْقَبْرِ رَآهُ بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ أَنْ دُفِنَ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ رَأَوْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَأَرَاهُمْ مَوْضِعَ الْمَسَامِيرِ وَقَالَ: لَا تَظُنُّوا أَنِّي شَيْطَانٌ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ صَحِيحًا فَذَاكَ شَيْطَانٌ ادَّعَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ وَالْتَبَسَ عَلَى أُولَئِكَ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ جَرَى لِخَلْقٍ عَظِيمٍ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلَ زَمَانِنَا كَنَاسٍ كَانُوا بِـ " تَدْمُرَ " فَرَأَوْا شَخْصًا عَظِيمًا طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ وَظَهَرَ لَهُمْ مَرَّاتٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ اللِّبَاسِ وَقَالَ: لَهُمْ أَنَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَرَهُمْ بِأُمُورٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا الْمَسِيحُ عليه السلام وَحَضَرُوا إِلَى عِنْدِ النَّاسِ وَبَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُمْ.
وَآخَرُونَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ إِلَى قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُهُ وَيُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ فَتَارَةً يَرَى الْقَبْرَ قَدِ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ إِنْسَانٌ عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَتَارَةً يَرَى ذَلِكَ الْإِنْسَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الْقَبْرِ وَتَارَةً يَرَاهُ إِمَّا رَاكِبًا وَإِمَّا مَاشِيًا دَاخِلًا إِلَى مَكَانِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ كَالْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقَبْرِ وَتَارَةً يَرَاهُ خَارِجًا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْمًا اسْتَغَاثُوا بِهِ فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَهَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُمْ وَتَارَةً يَسْتَغِيثُ
أَقْوَامٌ بِشَخْصٍ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ إِمَّا مَيِّتٌ وَإِمَّا غَائِبٌ فَيَرَوْنَهُ بِعُيُونِهِمْ قَدْ جَاءَ وَقَدْ يُكَلِّمُهُمْ وَقَدْ يَقْضِي بَعْضَ حَاجَاتِهِمْ فَيَظُنُّونَهُ ذَلِكَ الشَّخْصَ الْمَيِّتَ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ زَعَمَ أَنَّهُ هُوَ وَلَيْسَ هُوَ إِيَّاهُ وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الشَّخْصُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي صُورَةِ الْمَيِّتِ فَيُحَدِّثُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونًا وَيَرُدُّ وَدَائِعَ وَيُخْبِرُهُمْ عَنِ الْمَوْتَى وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَيِّتُ نَفْسُهُ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ.
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الشِّرْكِ كَبِلَادِ الْهِنْدِ وَنَحْوِهَا وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ تَرَاهُ أَنْتَ تَحْتَ سَرِيرِهِ آخِذٌ بِيَدِ ابْنِهِ فِي الْجِنَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِذَا مُتُّ فَلَا تَدَعُوا أَحَدًا يُغَسِّلُنِي، فَأَنَا آتِي مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ أُغَسِّلُ نَفْسِي فَيَأْتِي بَعْدَ الْمَوْتِ شَخْصٌ فِي الْهَوَاءِ عَلَى صُورَتِهِ يُغَسِّلُهُ هُوَ وَالَّذِي أَوْصَاهُ وَيَظُنُّ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَتَارَةً يَرَى أَحَدُهُمْ شَخْصًا إِمَّا طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا عَظِيمَ الْخِلْقَةِ وَإِمَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَشْيَاءَ غَائِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولَ لَهُ أَنَا الْخَضِرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا كَذَبَ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ وَقَدْ يَكُونُ
الرَّائِي مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَقَدْ جَرَى هَذَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَتَارَةً يَرَى عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ خَرَجَ إِمَّا مِنْ حُجْرَتِهِ وَإِمَّا مِنْ قَبْرِهِ وَعَانَقَ ذَلِكَ الزَّائِرَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَيَكُونُ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ بِصُورَتِهِ وَتَارَةً يَجِيءُ مَنْ يَجِيءُ إِلَى عِنْدِ قَبْرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَسْتَأْذِنُهُ فِي أَشْيَاءَ وَيَسْأَلُهُ عَنْ أُمُورٍ فَيُخَاطِبُهُ شَخْصٌ يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُ صَوْتًا وَلَا يَرَى
شَخْصًا وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا أَضَلَّهُ.
وَقَدْ يَرَى أَشْخَاصًا فِي الْيَقَظَةِ إِمَّا رُكْبَانًا وَإِمَّا غَيْرَ رُكْبَانٍ وَيَقُولُونَ هَذَا فُلَانٌ النَّبِيُّ إِمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِمَّا الْمَسِيحُ وَإِمَّا مُحَمَّدٌ وَهَذَا فُلَانٌ الصِّدِّيقُ إِمَّا أَبُو بَكْرٍ وَإِمَّا عُمَرُ وَإِمَّا بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ وَهَذَا فُلَانٌ لِبَعْضِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلَاحَ إِمَّا جِرْجِسَ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تُعَظِّمُهُ النَّصَارَى وَإِمَّا بَعْضُ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا ادَّعَى أَنَّهُ ذَلِكَ النَّبِيُّ أَوْ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَوِ الصِّدِّيقُ أَوِ الْقِدِّيسُ.
وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرَى أَحَدُهُمْ شَيْخًا يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ وَيَقُولُ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ وَيَكُونُ شَيْطَانًا وَأَعْرِفُ مِنْ هَذَا شَيْئًا كَثِيرًا وَأَعْرِفُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِبَعْضِ الشُّيُوخِ الْغَائِبِينَ وَالْمَوْتَى يَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ فِي الْيَقَظَةِ وَأَعَانَهُ.
وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِي وَلِغَيْرِي مِمَّنْ أَعْرِفُهُ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ
اسْتَغَاثَ بِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ وَأَنَّهُ رَآنِي قَدْ جِئْتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُكَ رَاكِبًا بِلِبَاسِكَ وَصُورَتِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: رَأَيْتُكَ عَلَى جَبَلٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُمْ أَنِّي لَمْ أُغِثْهُمْ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْطَانٌ تَصَوَّرَ بِصُورَتِي لِيُضِلَّهُمْ لَمَّا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَدَعَوْا غَيْرَ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتَغَاثَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ وَقَضَى حَاجَتَهُ قَالَ صَاحِبِي: وَأَنَا لَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ ذَلِكَ الشَّخْصَ الْمُسْتَغِيثَ بِهِ وَيُجِيبُهُ وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ أَسْمَعَتْهُ صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الشَّيْخِ الْمُسْتَغِيثِ لَهُ فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ بِصَوْتِهِ فَأَسْمَعَتِ الْمُسْتَغِيثَ صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ الشَّيْخِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَوْتُ الشَّيْخِ.
وَهَذَا جَرَى لِمَنْ أَعْرِفُهُ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ: بَقِيَ
الْجِنِّيُّ الَّذِي يُحَدِّثُنِي يُبَلِّغُنِي مِثْلَ صَوْتِ الْمُسْتَغِيثِينَ بِي وَيُبَلِّغُهُمْ مِثْلَ صَوْتِي وَيُرِينِي فِي شَيْءٍ أَبْيَضَ نَظِيرَ مَا أَسْأَلُ عَنْهُ فَأُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ أَنِّي رَأَيْتُهُ وَأَنَّهُ سَيَأْتِي وَلَا أَكُونُ قَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّمَا رَأَيْتُ شَبِيهَهُ.
وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْجِنُّ بِمَنْ يَعْزِمُ عَلَيْهِمْ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ مَا رَآهُ قُسْطَنْطِينُ مِنَ الصَّلِيبِ الَّذِي رَآهُ مِنْ نُجُومٍ، وَالصَّلِيبَ الَّذِي رَآهُ مَرَّةً أُخْرَى هُوَ مِمَّا مَثَّلَهُ الشَّيَاطِينُ وَأَرَاهُمْ ذَلِكَ لِيُضِلَّهُمْ بِهِ ; كَمَا فَعَلَتِ الشَّيَاطِينُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ بِعُبَّادِ الْأَوْثَانِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ وَخَاطَبَهُ بِأُمُورٍ ; كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بُولِسَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ صَادِقًا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَالَ: أَنَّهُ الْمَسِيحُ، شَيْطَانًا مِنَ الشَّيَاطِينِ ; كَمَا جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَالشَّيْطَانُ إِنَّمَا يُضِلُّ النَّاسَ وَيُغْوِيهِمْ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ فِيهِ فَيُخَاطِبُ النَّصَارَى بِمَا يُوَافِقُ دِينَهُمْ وَيُخَاطِبُ مَنْ يُخَاطِبُ مِنْ ضُلَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُوَافِقُ اعْتِقَادَهُ وَيَنْقُلُهُ إِلَى مَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ فِيهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ.
وَلِهَذَا يَتَمَثَّلُ لِمَنْ يَسْتَغِيثُ مِنَ النَّصَارَى بِجِرْجِسَ فِي صُورَةِ جِرْجِسَ أَوْ بِصُورَةِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ النَّصَارَى مِنْ أَكَابِرِ دِينِهِمْ، إِمَّا بَعْضُ الْبَطَارِكَةِ، وَإِمَّا بَعْضُ الْمَطَارِنَةِ، وَإِمَّا بَعْضُ الرُّهْبَانِ، وَيَتَمَثَّلُ لِمَنْ يَسْتَغِيثُ بِهِ مِنْ ضُلَّالِ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْخٍ مِنَ الشُّيُوخِ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الشَّيْخِ ; كَمَا تَمَثَّلَ لِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ أَعْرِفُهُمْ فِي صُورَتِي وَفِي صُورَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ ذَكَرُوا فِيَّ ذَلِكَ وَيَتَمَثَّلُ كَثِيرًا فِي صُورَةِ
بَعْضِ الْمَوْتَى تَارَةً يَقُولُ أَنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَتَارَةً يَقُولُ أَنَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَقْصُرِيُّ وَتَارَةً يَقُولُ أَنَا الشَّيْخُ عَدِيٌّ وَتَارَةً يَقُولُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الرِّفَاعِيِّ وَتَارَةً يَقُولُ أَنَا أَبُو مَدْيَنَ
الْمَغْرِبِيُّ وَإِذَا كَانَ يَقُولُ أَنَا الْمَسِيحُ أَوْ إِبْرَاهِيمُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» وَفِي رِوَايَةٍ «فِي صُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ» .
فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْمَيِّتِ فِي الْيَقَظَةِ فَهَذَا جِنِّيٌّ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي هَذَا رُوحَانِيَّةَ الشَّيْخِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هِيَ رَفِيقُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُرَى يَقُومُ مِنْ مَكَانِهِ وَيَدَعُ فِي مَكَانِهِ صُورَةً
مِثْلَ صُورَتِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ يُرَى فِي مَكَانَيْنِ وَيُرَى وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ لَمْ يَذْهَبْ فَيَبْقَى النَّاسُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَائِرِينَ.
فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يَعْلَمُ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ.
وَالصَّادِقُونَ قَدْ رَأَوْا ذَلِكَ عِيَانًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ وَلِهَذَا يَقَعُ النِّزَاعُ كَثِيرًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ; كَمَا قَدْ جَرَى ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَهَذَا صَادِقٌ فِيمَا رَأَى وَشَاهَدَ وَهَذَا صَادِقٌ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ.
لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ كَانَ جِنِّيًّا تَمَثَّلَ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ.
وَالْحِسِّيَاتُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا عَقْلِيَّاتٌ تَكْشِفُ حَقَائِقَهَا وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا غَلَطٌ كَبِيرٌ.
وَهَذَا الْقِسْمُ الْمَشْهُودُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مَا يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ هَذَا يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُصَوِّبُهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ يَتَخَيَّلُونَ أَشْيَاءَ فِي أَنْفُسِهِمْ ; كَمَا يَتَخَيَّلُهُ النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ الصُّورَةُ مَوْجُودَةً فِي الْخَيَالِ لَا فِي الْخَارِجِ.
وَالْفَلَاسِفَةُ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ يَظُنُّ أَنَّ مَا رَأَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا سَمِعَتْهُ مِنَ الْكَلَامِ كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُرَى مِنَ الْجِنِّ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ غَالِطُونَ فِي هَذَا، كَمَا جَهِلُوا وَغَلِطُوا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ سَبَبُهَا قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ أَوْ طَبِيعِيَّةٌ أَوْ قُوًى فَلَكِيَّةٌ وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالسَّاحِرِ إِنَّمَا هُوَ حُسْنُ قَصْدِ هَذَا، وَفَسَادُ قَصْدِ الْآخَرِ وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا خَوَارِقُ سَبَبُهَا قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ أَوْ فَلَكِيَّةٌ، وَهَذَا النَّفْيُ بَاطِلٌ ; كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا جَهْلَ هَؤُلَاءِ وَضَلَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالَّذِينَ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَظْهَرُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ ; كَمَا ظَهَرَتْ لِإِبْرَاهِيمَ
وَلُوطٍ وَمَرْيَمَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ وَكَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَظْهَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَارَةً فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَتَارَةً فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَيَرَاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عِيَانًا وَمَا فِي خَيَالِ الْإِنْسَانِ لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كَمَا ظَهَرَ إِبْلِيسُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ وَظَهَرَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَلَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ هَرَبَ.
قَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: تَبَدَّى إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمَعَهُ رَايَةٌ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ وَوَلَّى مُدْبِرًا هُوَ وَشِيعَتُهُ فَقَالَ: الرَّجُلُ يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ فَقَالَ: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى الْمَلَائِكَةَ قَالَ الضَّحَّاكُ: سَارَ الشَّيْطَانُ مَعَهُمْ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَحْمِلُهُ الْجِنُّ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ فَتَحْمِلُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ إِلَى عَرَفَاتٍ وَغَيْرِ عَرَفَاتٍ وَإِذَا رُئِيَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ يَكُونُ تَارَةً مَحْمُولًا قَدْ حَمَلَتْهُ الْجِنُّ وَتَارَةً تَصَوَّرَتْ عَلَى صُورَتِهِ
وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ لَهُمْ كَرَامَاتٌ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوِ الْفَاسِقِينَ وَأَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ قَضَايَا كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا.
وَعِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ يَظُنُّونَهُ مِنْ جِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي لِلْأَنْبِيَاءِ.
إِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَبَيْنَ خَوَارِقِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَمَنْ تَقْتَرِنُ بِهِمُ الشَّيَاطِينُ وَإِلَّا الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الصَّادِقُونَ وَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَقُولُهُ: الْكَاذِبُونَ وَالْغَالِطُونَ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى يُسَلِّمُونَ هَذَا وَعِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حِكَايَاتِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ عَارَضَهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَبْطَلُوا أَحْوَالَهُمْ كَمَا أَبْطَلَ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - مَا عَارَضَتْهُ بِهِ
السَّحَرَةُ مِنَ الْخَوَارِقِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَكَمَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، مِثْلِ حِكَايَةِ سِيمُونَ السَّاحِرِ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا كَانَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ الثَّابِتَةَ عَنْهُمْ بَلْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الدَّجَّالِ الْكَبِيرِ الَّذِي أَنْذَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ حَتَّى نُوحٌ أَنْذَرَ قَوْمَهُ وَقَالَ: خَاتَمُ الرُّسُلِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ حَتَّى نُوحٌ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ وَسَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِأُمَّتِهِ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ (ك ف ر) يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ وَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَسِيحُ الْهُدَى يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنْتَظِرُهُ الْيَهُودُ وَيَجْحَدُونَ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَتْبَعُهُ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا مُطَيْلَسِينَ وَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ شَرَّ قِتْلَةٍ حَتَّى يَقُولَ الشَّجَرُ وَالْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي تَعَالَ
اقْتُلْهُ. وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا أَمَرَ أُمَّتَهُ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَتِهِ فَقَالَ: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» .
وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ أَنْذَرُوا بِالْكَذَّابِينَ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَتَعَمَّدُ بَلْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ فَيَغْلَطُ فَيُخْبِرُ بِمَا يَظُنُّهُ حَقًّا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ مَا يَظُنُّهُ فُلَانًا الْوَلِيَّ أَوِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْخَضِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَالْغَلَطُ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام، فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، لَا يُقِرُّونَ عَلَى خَطَأٍ، فَمَنْ لَمْ يَزِنْ عُلُومَهُ وَأَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ بِالْمَعْلُومِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِلَّا كَانَ ضَالًّا فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِثْبَاتِ مَسِيحَيْنِ: مَسِيحِ هُدًى مِنْ وَلَدِ دَاوُدَ وَمَسِيحِ ضَلَالٍ. يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ يُوسُفَ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَسِيحَ الْهُدَى سَوْفَ يَأْتِي كَمَا يَأْتِي مَسِيحُ الضَّلَالَةِ. لَكِنِ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: مَسِيحُ الْهُدَى هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، ثُمَّ يَأْتِي مَرَّةً ثَانِيَةً لَكِنِ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ أَنَّهُ يَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَلَا يَبْقَى دِينٌ إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُؤْمِنُ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَسِيحِ وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] وَأَمَّا النَّصَارَى فَتَظُنُّ أَنَّهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحِسَابِ الْخَلَائِقِ وَجَزَائِهِمْ وَهَذَا مِمَّا ضَلُّوا فِيهِ وَالْيَهُودُ تَعْتَرِفُ بِمَجِيءِ مَسِيحِ هُدًى يَأْتِي لَكِنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يَكُنْ مَسِيحَ هُدًى لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ جَاءَ بِدِينِ النَّصَارَى الْمُبْدَلِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْمَسِيحَيْنِ.