المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: رفض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بين أيديهم] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: إِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَشَّرْ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ اسْتِدْلَالِ النَّصَارَى عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمْ بِمَا جَاءَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ] [

- ‌طُرُقُ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ هِيَ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[إِبْطَالُ دَعْوَى النَّصَارَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: الْمُسْلِمُونَ لَمْ يُصَدِّقُوا نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَعَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى خُصُوصِيَّةَ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِ كِتَابِهِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ: دَفْعُ مَا يُوهِمُ الْخُصُوصِيَّةَ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِ النَّصَارَى عِصْمَةَ الْحَوَارِيِّينَ الْمُتَرْجِمِينَ لِلْإِنْجِيلِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِرُسُلِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ عَنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ زَعْمِهِمْ بِأَنَّ عَدْلَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُطَالَبُوا بِاتِّبَاعِ إِنْسَانٍ لَمْ يَأْتِ إِلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ عَقِيدَةِ النَّصَارَى فِي الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا. . . تَقْتَضِي الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ: تَوَسُّطُ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ تَقْصِيرِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّ النَّصَارَى]

- ‌[فَصْلٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِبْطَالُ دَعْوَاهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمُ الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَدَفْعُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أُلُوهِيَّتَهُ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِآيَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ عَلَى مَدْحِ الرَّهْبَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي احْتِجَاجِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَهُمْ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَعْظِيمَ الْإِسْلَامِ لِمَعَابِدِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ وُجُوبَ التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ الْحَوَارِيِّينَ]

- ‌[فَصْلٌ: بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَنْصَارُ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَظَّمَ إِنْجِيلَهُمُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرُّسُلِ]

- ‌[فَصْلٌ: أَسْبَابُ ضَلَالِ النَّصَارَى وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: الْخَوَارِقُ الَّتِي يُضِلُّ بِهَا الشَّيَاطِينُ أَبْنَاءَ آدَمَ]

- ‌[فَصْلٌ: مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ: إِثْبَاتُ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا يُثْبِتُ صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ صَدَّقَ كُتُبَهُمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ: وُقُوعُ التَّبْدِيلِ فِي أَلْفَاظِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَانْقِطَاعِ سَنَدِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ أَنَّ التَّحْرِيفَ وَقَعَ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ]

- ‌[فَصْلٌ: دَعْوَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْحُكْمِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّحِيحَةِ]

الفصل: ‌[فصل: رفض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بين أيديهم]

[فَصْلٌ: رَفْضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ صَدَّقَ كُتُبَهُمُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ]

قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذَا مَا مَعَنَا نَعَمْ، وَنَفَى عَنْ إِنْجِيلِنَا وَكُتُبِنَا الَّتِي فِي أَيْدِينَا التُّهَمَ وَالتَّبْدِيلَ لَهَا وَالتَّغْيِيرَ لِمَا فِيهَا بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهَا.

فَيُقَالُ: كَلَامُكُمُ الَّذِي تَحْتَجُّونَ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا مَحْضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَبَّسْتُمْ فِيهِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ قَوْلَكُمْ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهَا إِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ صَدَّقَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ، فَإِنَّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ وَكُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذِهِ الْكُتُبَ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.

وَقَالَ - تَعَالَى -: {الم - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 1 - 4] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]

ص: 368

وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وَقَالَ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101] وَقَالَ - تَعَالَى -: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَحَكَمَ بِكُفْرِ

ص: 369

مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، فَقَالَ تَعَالَى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136 - 137] وَقَالَ - تَعَالَى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَقَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا - وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152] فَذَمَّ الْمُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]

ص: 370

فَبَيَّنَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَبِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُتُبِ فَمَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ وَاحِدٍ تُعْلَمُ نُبُوَّتُهُ مِثْلُ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَيُونُسَ وَعِيسَى فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا اسْتُتِيبَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَمَنْ سَبَّ نَبِيًّا وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قُتِلَ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَخْبَرَ بِهِ فَعَلَيْهِمُ التَّصْدِيقُ بِهِ ; كَمَا يُصَدِّقُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تَتَنَاقَضُ وَلَا تَخْتَلِفُ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ كَمَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَكِنْ لَا يُكَذِّبُونَ إِلَّا بِمَا عَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ ; كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقُوا إِلَّا بِمَا عَلِمُوا أَنَّهُ صِدْقٌ وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ وَلَا صِدْقٌ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبُوا بِهِ ; كَمَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَبِهَذَا أَمَرَهُمْ

ص: 371

الْمَسِيحُ عليه السلام فَقَالَ: الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَأَمْرٌ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ.

ص: 372

فَصْلٌ

وَإِنْ أَرَادُوا بِتَصْدِيقِهِ كُتُبَهُمْ أَنَّهُ صَدَّقَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَخَالَفُوا بِهَا مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ شَرَائِعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ خَالَفُوا بِهَا الشَّرْعَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مِثْلَ الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ وَالْأَقَانِيمِ وَالْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بَيْنَ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ وَقَوْلَهُمْ: أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمِنْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرُسُلُهُ كَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ بِدِينِ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ بَلْ بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ ابْتَدَعَهُ لَهُمْ أَكَابِرُهُمْ ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]

ص: 373

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا لَمَّا جَاءَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ وَقَدْ آمَنَ بِهِ عَدِيٌّ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] قَالَ: عَدِيٌّ قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ.

قَالَ «أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ» .

ص: 374

فَإِنْ أَرَادُوا بِتَصْدِيقِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم صَدَّقَ مَا عِنْدَهُمْ مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَذِبًا ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ وَإِنَّمَا صَدَّقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ.

وَأَمَّا مَا أَحْدَثُوهُ وَابْتَدَعُوهُ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ ; كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لَهُمْ أَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَوَّلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُبَدِّلًا بَلْ دَعَاهُمْ وَجَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَاتِّبَاعِ مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَحَكَمَ بِكُفْرِ كُلِّ مَنْ لَمْ يَتْبَعْ كِتَابَهُ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ مَعَ خُلُودِهِمْ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ جِهَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.

وَقَدْ دَعَا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عُمُومًا، ثُمَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ خُصُوصًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَعَ دُعَائِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:

ص: 375

{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 156 - 158] وَقَالَ - تَعَالَى -: يُخَاطِبُ النَّصَارَى {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا - لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 171 - 173]

ص: 376

وَقَالَ - تَعَالَى -: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّصَارَى تَرَكُوا حَظًّا مِمَّا ذَكَّرَهُمْ بِهِ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ أَغْرَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَاسْتَحَقُّوا لِذَلِكَ أَنْ يُغْرِيَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] فَنَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ وَعَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا غَيَّرُوا بِهَا شَرْعَ الْمَسِيحِ فَضَلُّوا مِنْ قِبَلِ هَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعِ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعِ وَغَيْرِهِمْ وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُوَ وَسَطُ السَّبِيلِ بَيْنَ الضَّلَالِ وَقَيَّدَهُ بَعْدَ أَنْ أَطْلَقَهُ وَأَجْمَلَهُ.

ص: 377

وَقَالَ - تَعَالَى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِقِتَالِهِمْ بِنَفْسِهِ عَامَ تَبُوكَ وَاسْتَنْفَرَ لِقِتَالِهِمْ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْغَزْوِ فِي التَّخَلُّفِ وَمَنْ تَخَلَّفَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قِتَالَهُمْ وَاجِبًا كَانَ كَافِرًا وَإِنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ كَانَ مُنَافِقًا مَلْعُونًا بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَنَهَى نَبِيَّهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ حَتَّى بَيَّنَ كُفْرَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ مَعَهُ لِقِتَالِ النَّصَارَى.

قَالَ - تَعَالَى -:

ص: 378

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ - لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ - وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ - لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ - لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 38 - 48] .

ص: 379

فَصْلٌ

فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: فَثَبَتَ بِهَذَا مَا مَعَنَا نَعَمْ، وَنُفِيَ عَنْ إِنْجِيلِنَا وَكُتُبِنَا الَّتِي فِي أَيْدِينَا التُّهَمُ وَالتَّبْدِيلُ لَهَا وَالتَّغْيِيرُ لِمَا فِيهَا بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهَا.

إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَا جَاءَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ عَنِ اللَّهِ فَهَذَا حَقٌّ.

وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ مِنَ الشَّرْعِ الَّذِي خَالَفَ شَرْعَهُ أَوْ مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام قَبْلَهُ فَهَذَا بَاطِلٌ.

وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ صَدَّقَ أَلْفَاظَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِينَا أَيِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهَذَا مِمَّا يُسَلِّمُهُ لَهُمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِمَّا يُسَلِّمُهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ.

فَأَمَّا تَحْرِيفُ مَعَانِي الْكُتُبِ بِالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَتَبْدِيلِ أَحْكَامِهَا

ص: 380

فَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيفِهَا وَتَبْدِيلِهَا ; كَمَا يَشْهَدُونَ هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الْيَهُودِ بِتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلِ أَحْكَامِهَا وَإِنْ كَانُوا هُمْ وَالْيَهُودُ يَقُولُونَ إِنَّ التَّوْرَاةَ لَمْ تُحَرَّفْ أَلْفَاظُهَا.

وَحِينَئِذٍ فَلَا يَنْفَعُهُمْ بَقَاءُ حُرُوفِ الْكُتُبِ عِنْدَهُمْ مَعَ تَحْرِيفِ مَعَانِيهَا إِلَّا ; كَمَا يَنْفَعُ الْيَهُودَ بَقَاءُ حُرُوفِ التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ عِنْدَهُمْ مَعَ تَحْرِيفِ مَعَانِيهَا بَلْ جَمِيعُ النُّبُوَّاتِ الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا هِيَ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مَعَ الْيَهُودِ يَنْفُونَ عَنْهَا التُّهَمَ وَالتَّبْدِيلَ لِأَلْفَاظِهَا مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ كُفْرًا وَاسْتِحْقَاقًا لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ عِنْدَ النَّصَارَى الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَشَرٌّ مِنْهُمْ، فَإِنَّ النَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنَ الْيَهُودِ وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنَ النَّصَارَى بَلْ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَالطَّوَائِفِ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَشَهَادَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا تُقْبَلُ فَصَارَ هَذَا اتِّفَاقُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى تَفْضِيلِ دِينِ الْإِسْلَامِ.

فَعُلِمَ أَنَّ بَقَاءَ حُرُوفِ الْكِتَابِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اتِّبَاعِ مَعَانِيهَا وَتَحْرِيفِهَا لَا يُوجِبُ إِيمَانَ أَصْحَابِهَا وَلَا يَمْنَعُ كُفْرَهُمْ.

وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ شَهَادَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتِهِ لِلْمَسِيحِ عليه السلام وَلِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْجِيلِ فِي تَثْبِيتِ مَا عِنْدَ النَّصَارَى بِأَعْظَمَ مِنْ شَهَادَةِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَالْحَوَارِيِّينَ وَسَائِرِ مَنِ اتَّبَعَهُ لِمُوسَى وَلِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي تَثْبِيتِ مَا عِنْدَ

ص: 381

الْيَهُودِ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ إِلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي نَسَخَهُ مِنْهَا.

وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَبُعِثَ بِكِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ وَشَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ كَامِلٍ تَامٍّ لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إِلَى شَرْعٍ سَابِقٍ تَتَعَلَّمُهُ أُمَّتُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا إِلَى شَرْعٍ لِاحِقٍ يُكْمِلُ شَرْعَهُ وَلِهَذَا قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» .

فَجَزَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ كَانَ فِيهِمْ مُحَدَّثُونَ وَعَلَّقَ الْأَمْرَ فِي أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُعَلَّقُ قَدْ تَحَقَّقَ ; لِأَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى نَبِيٍّ آخَرَ، فَلِأَنْ لَا تَحْتَاجَ مَعَهُ إِلَى مُحَدَّثٍ مُلْهَمٍ أَوْلَى وَأَحْرَى.

ص: 382

وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ فَأَمْكَنَ حَاجَتَهُمْ إِلَى الْمُحَدَّثِينَ الْمُلْهَمِينَ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي أُمَّتِهِ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِمْ إِلَّا بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا فَشَهَادَةُ الْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ لِلتَّوْرَاةِ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَلِمُوسَى بِأَنَّهُ رَسُولٌ لَا يَمْنَعُ كُفْرَ الْيَهُودِ لِكَوْنِهِمْ بَدَّلُوا شَرْعَ التَّوْرَاةِ وَكَذَّبُوا بِالْمَسِيحِ وَالْإِنْجِيلِ.

فَكَيْفَ تَكُونُ شَهَادَةُ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ لِلْإِنْجِيلِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلِلْمَسِيحِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَانِعَةً مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى مَعَ تَبْدِيلِهِمْ شَرْعَ الْإِنْجِيلِ وَتَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَرْعِ الْقُرْآنِ؟ .

وَأَمَّا إِيمَانُ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْعَرَبِ أَوْ بِكَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلَا يَمْنَعُ كُفْرَهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، بَلْ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ آمَنَ بِأَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ; كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151] وَقَالَ - تَعَالَى -:

ص: 383

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] وَقَدْ صَرَّحَ بِكُفْرِ النَّصَارَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَمَرَ بِجِهَادِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَحَكَمَ بِكُفْرِ مَنْ لَا يُوجِبُ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ أَوْ لَا يَرَى ذَلِكَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ ; كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَنْ لَا يَرَى جِهَادَهُمْ عِبَادَةً لِلَّهِ كَافِرًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ حَالُهُمْ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم.

ص: 384