الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمثلة من الحكمة في السنة النبوية
تجري الحكمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالماء الزلال، وأفعاله صلى الله عليه وسلم كلها عين الحكمة، فهو المعصوم من الزلل والخطأ.
وسأختار بعض الأمثلة، لبيان الحكمة في السنة، مكتفيا من القلادة بما أحاط بالعنق:
1-
فنجد حكمته صلى الله عليه وسلم في حسن تعامله مع أصحابه ومراعاته لأحوالهم، وهذا أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يؤتى له بمثال.
2-
إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم للسائلين، حيث قد يبدو الخلاف والتعارض -أحيانا- بينها، بينما هي من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وذلك لحكمة عظيمة، وهي مراعاة حال السائلين، ولنأخذ هذا المثال:
(أ)" سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، فسكت عن رسول الله، ولو استزدته لزادني» رواه البخاري (1) .
(ب) وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور» رواه البخاري (2) .
(1) رواه البخاري (2782) .
(2)
رواه البخاري (2784) .
(جـ) وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه " أن رجلا قال: «يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» رواه أحمد والترمذي (1) .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي سأل أصحابها عن أفضل العمل، فاختلفت إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة لحال السائلين، وإدراكا منه صلى الله عليه وسلم أن ما يستطيعه هذا قد لا يستطيعه ذاك، إلى غير ذلك من الأسباب التي يراعى فيها حال الفرد وحاجة الأمة وقواعد الشرع.
ولو أن الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه (2) ويبتعد عما لا يستطيع، لحققت الأمة اكتفاء ذاتيا في أغلب مجالاتها.
ولكن واقع أغلب الناس، كما قال الشاعر:
ومكلف الأشياء ضدّ طباعها
…
متطلب في الماء جذوة نار
3-
وانظر إلى هذا الأسلوب الحكيم من لدنه صلى الله عليه وسلم لمعالجة قضية مهمة تحتاج إلى الحكمة، وبعد النظر.
(1) أحمد (4 / 194)، صحيح الترمذي للألباني (3 / 139) وانظر: الحكمة في الدعوة إلى الله ص 47.
(2)
عدا الواجبات وفروض العين.
أرأيتم مثل هذا الأسلوب، كيف جاء هذا الشاب وقد هاجت شهوته، ورغب في الحرام، وعاد عفيفا محصنا بعيدا عن الشهوة والشبهة.
(1) مسند الإمام أحمد 5 / 256، وقد صححه الألباني.
4-
ولعل من أهم الأمثلة في هذا المجال، قصة الحديبية، وما وقع فيها من أحداث كانت تقتضي الحكمة في أسمى معانيها، وإلا لحدثت أمور لا تحمد عقباها.
ويصعب التفصيل في ذلك، حيث لا يتسع المجال له -حسب المنهج الذي رسمته- ولكن سأقتصر على قضية واحدة لتكون لنا عبرة ونبراسا، وتلك القضية هي كتابة الصلح، ولنقرأ كما في صحيح البخاري، وفيه:
«فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي- صلى الله عليه وسلم: اكتب: باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله
…
» الحديث (1) ".
(1) صحيح البخاري 3 / 100.
إن التأمل في هذه الحادثة العظيمة، يبين لنا مقدار حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم استجابته للاستفزاز، أو الوقوف عند أمر فيه سعة مع أنه يحقق، للمسلمين مكاسب باهرة، وهذا من باب النظر في المصلحتين والسعي لتحصيل أعلاهما، ولذلك جاءت النتيجة بتسمية الله لهذا الصلح فتحا، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (الفتح: 1) .
وقادة الدعوة بحاجة إلى وعي هذه الدروس، وعدم الاستجابة لضغط القاعدة إذا كان خلاف الحق، أو أن هناك ما هو أولى مما يريده هؤلاء. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: من الآية 269) .
ولئلا يتوهم متوهم أن الحكمة تقتضي التنازل دائما إذا كان الأمر في مصلحة الإسلام والمسلمين، كما هو واقع بعض العاملين للإسلام، والمتحمسين للدعوة، ممن ينقصهم العلم الشرعي، وهذا خلل في المنهج، وخطأ في التصرف، وبخاصة أن هؤلاء يحتجون دائما بقصة الحديبية، عند كل تنازل يقدمونه.
من أجل هذا أبين أن هناك قضايا لا تقبل التنازل أبدا، وهذه هي الحكمة، وهذا كثير جدا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء الراشدين، ومن ذلك سبب نزول سورة (الكافرون) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1، 2) .
وكذلك قصة قريش مع رسول الله، عندما طلبوا أن يخصص لهم مجلسا دون الضعفة من المسلمين، فنزل قوله -تعالى-:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: من الآية 52) . وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28) .
وكذلك عندما جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام، اشترطوا أن يدع لهم اللات ثلاث سنين -لا يهدمها- فأبى رسول الله -صلى اله عليه وسلم- ذلك، حتى إنهم تنازلوا شيئا فشيئا إلى أن طلبوا إمهال هدمها شهرا واحدا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكنهم عندما طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، وافقهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للفرق بين الطلبين، وهنا يتميز الحكيم عن غيره، وهو الذي يتنازل عن الكل أو يرفض الكل مع الفرق بينهما (1) .
أما أبو بكر وقصته في حرب الردة، وعدم تنازله عن شعيرة من شعائر الإسلام، وقوله كلمته الخالدة:" والله لو منعوني عناقا -أو عقالا- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها".
وحيث يبين أنه سيسوي بين من ترك الصلاة، ومنع الزكاة، ولن يقبل التفريق بينهما، والقصة مفصلة في كتب الحديث والسيرة (2) .
وهذه هي الحكمة كما عرفناها، هذا ما شهد به عمر -الفاروق- حيث كان مخالفا لأبي بكر في أول الأمر، ثم عرف أنه الحق لما شرح الله صدر أبي بكر وثبت عليه.
(1) انظر: سيرة ابن هشام 4 / 197 وتخريج العلماء للأثر في كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله ص 74 وقد ضعفه الألباني في فقه السيرة وحسنه غيره.
(2)
انظر: فتح الباري 3 / 362 كتاب الزكاة.
5-
أما أعظم أمر رأيت الحكمة متمثلة فيه من خلال منهج القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو معالجة قضية المنافقين، وهو العلاج الذي استمر منذ هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وحتى غزوة تبوك، بل إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.
وكما شغل حيزا كبيرا من وقته صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقد نزلت فيها آيات كثيرة جدا في كتاب الله، حتى نزلت سورة كاملة في هذا الموضوع.
وقد اتسم علاج هذه المشكلة بعدة سمات، من أبرزها:
1-
طول المدة، وهي ما بين هجرته إلى قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على الصبر العظيم، الذي تحلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج هذه المشكلة العويصة بتؤدة وروية.
2-
الآيات الكثيرة التي نزلت في القضية، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين، وقضية أهل الكتاب. والله -سبحانه- قادر على حسمها في آية واحدة، ولكن القرآن جاء ليرسم منهجا للبشر فيه صفة الشمول والديمومة، لأنه دين عالمي.
3-
الحرص على وحدة الصف، مع عدم السكوت عن الباطل، وإقراره، أو هذه مسألة يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد تحقق الأمران، فبقي الصف المسلم موحدا، وتم القضاء على فتنة المنافقين بأساليب عدة.
4-
أخذ الناس بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله، وهو منهج فريد تميز به الإسلام عن سائر النظم والأديان، ومع أن المنافقين أشد كفرا من المشركين فلم يؤاخذوا إلا بما ظهر منهم، مع علم الرسول صلى الله عليه وسلم بما هم عليه من النفاق والكفر.
ولكن القضية قضية منهج، وليست قضية أفراد يتم القضاء عليهم، ثم ينتهي الأمر، لأن المسألة أعمق من ذلك وأبعد، فجاء العلاج متوازيا مع حجم المشكلة وأبعادها وآثارها.
5-
المحافظة على هيبة المجتمع المسلم في نظر الأعداء والخصوم، «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» (1) وبخاصة مع كثرة الأعداء، واستغلالهم لكل فرصة تسنح لهم داخل الصف.
6-
تركيز القرآن على الصفات وعدم ذكر الأفراد، حيث لم يرد في القرآن اسم منافق واحد.
(1) رواه البخاري 4 / 160.
وهذا المنهج حقق آثارا إيجابية ضخمة، وكان كفيلا بالقضاء على هذه الحركة مع تجاوز السلبيات المتوقعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في نهاية المطاف ردا على عمر -الفاروق- الذي طالما طالب بقتل المنافقين حمية لدين الله:«أين عمر؟ لو قتلنا هؤلاء يوم طلب عمر لأرعدت لهم أنوف تريد اليوم قتلهم» (1) . وهذا المنهج هو الذي أدى إلى قتلهم معنويا، دون الحاجة إلى قتل أي فرد منهم حسيا.
وهذه -والله- هي الحكمة في أسمى معانيها.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر الأول، ومن ذلك دراسة الآيات التي نزلت في هذه القضية، وبخاصة في سور (البقرة -التوبة -الأحزاب -المنافقون) .
وبهذا نستطيع أن نحقق ما يلي:
1-
معرفة الوسائل الموصلة إلى الكشف عن هوية المنافقين في مجتمعنا، ومدى تأثيرهم في المجتمع.
2-
رسم منهج شرعي لمواجهة هذه الحركة، وأسلوب التعامل معها.
3-
شل فاعليتها، ثم القضاء عليها دون إحداث فتن داخل الصف المسلم.
ولن يتحقق هذا الأمر إلا بالالتزام بالحكمة التي رأينا بعض مظاهرها، وسماتها في منهج القرآن، والسنة، عند معالجة هذه القضية الكبرى.
(1) انظر: تفسير الطبري 28 / 76، وسيرة ابن هشام 3 / 327.