الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: التنبيه بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية:
لقد جاءت عدة آيات في هذه السورة منبهةً على ذلك، ففي قوله تعالى:{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1) حيث جاء بصيغة العموم (ما) ليدل على إفراده تعالى بكل ما في السماوات والأرض (أي ملكًا وعبيدًا واختراعًا وخلقًا)(2) وهذا مثل قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) وهو (استفهام معناه الإنكار)(4) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (5) وفيه التنبيه على أن هذا الخلق ليس خلق عابثٍ ولا لاعب تعالى الله عن ذلك، ولكن (ليستدل بها على قدرته) (6) وقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ
(1) سورة إبراهيم - آية 2
(2)
الجامع لأحكام القرآن - القرطبي - 289 / 9
(3)
سورة إبراهيم - آية 10
(4)
الجامع لأحكام القرآن - القرطبي - 289 / 9
(5)
سورة إبراهيم - آية 19
(6)
الجامع لأحكام القرآن - القرطبي - 289 / 9
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1) يث فصلت هذه الآية في مظاهر ربوبية الله تعالى من حيث الخلق والتدبير، وحذار أن تتوهم التكرار المحض في هذه الآيات، بل كل آية منها تأتي في موضعها لتنبه على أمر أو مسألة مستقلة ولا يمنع استعمال نفس الشاهد من تعدد المشهود عليه، فالآية الأولى استدل بها على انفراده تعالى بالملك، والآية الثانية دلت على انفراده تعالى بالخلق، والآية الثالثة دلت على انتفاء العبثية في أفعال الله تعالى، والآية الرابعة دلت على انفراده تعالى بالأمر والتدبير؛ فإذا جمعت ما تقدم وصلت إلى تقرير توحيد الربوبية الذي هو (إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة؛ في الخلق والملك والتدبير) . (2) وهذا التقرير من الأساليب القرآنية المعهودة التي تستثمر البدهية المطلقة المستقرة في قلوب وعقول الناس وهي أن الله تعالى هو وحده الخالق والصانع فتنطلق من هذه البدهية إلى تقرير لازمها وهو إفراد من تفرد بالربوبية بالألوهية، تأمل مرةً أخرى قوله تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) تجد
(1) سورة إبراهيم - آية 32-33 ح
(2)
شرح العقيدة الواسطية - محمد صالح العثيمين - 14
(3)
سورة إبراهيم - آية 10
أن الآية وجهت إلى توحيد الألوهية - بعد تقرير إفراده تعالى بالخلق والربوبية - ببيان أن الله تعالى وحده هو الذي يغفر الذنوب - وهذا من خصائص الألوهية بلا ريب كما جاء في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم» (1) فهذا صريح في كون المغفرة متعلقة بالألوهية. (2)
(1) صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - تحريم الظلم وهذا جزء من حديث طويل
(2)
ووجه ذلك أن الخطاب جاء إلى «العباد» وهي صيغة أخص من العبيد، فالعبيد هم المقهورون قدرًا وكونًا والعباد هم المنقادون شرعًا وتألهًا، كما أن وصف هؤلاء بالخطأ دليل على مخالفة الالتزام الناشيئ عن الخطاب الشرعي فكل قرائن العبارة تدل على أنها متعلقة بالألوهية لا بالربوبية والله أعلم
ومن جهة أخرى فلقد جاءت إحدى الآيات في هذا المقام - مقام التذكير بربوبية الله تعالى وحده - لتنبه على قضية عقدية أساسية هي قضية البعث، وذلك في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (1) فهذا إخبار من الله تعالى بقدرته على معاد الأبدان (بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس)(2) وهذا من قبيل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وهذا من الأساليب القرآنية المعهودة كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (3)
(1) سورة إبراهيم - آية 19-20
(2)
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 609 / 4
(3)
سورة الأحقاف - آية 33