الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: توجيه التأمل في الآيات الشرعية:
وهي السنن التي رتب الله تعالى على مقدماتها آثارًا شرعية من عقوبة أو ثواب، تمكين أو استخلاف، نجاة أو هلاك ونحو ذلك. ولما كان الخطاب الدعوي خطابًا شرعيًا قوامه تبليغ أمر الله تعالى ونهيه ناسب أن توجه السورة الكريمة إلى ما يترتب على الأخذ بمقدمات الانقياد لشرع الله والتزام أمره ونهيه، كما ناسب أن يبين ما يترتب على هجر هذه المقدمات والأخذ بمقدمات التمرد على أمره ونهيه سبحانه وتعالى. ولقد وجهت السورة الكريمة إلى جملة من هذه المشاهد منها:
1-
مشاهد الأمم الهالكة: وهذا الهلاك سنة شرعية توجه الآية النظر إليها ترهيبًا للمخاطبين بالدعوة من الأخذ بمثل ما أخذت به تلك الأمم من مقدمات الهلاك كتكذيب الرسل وبث الشكوك والشبهات كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (1) بل جاءت الآية الأخرى بأشد من ذلك حينما وجهت القوم إلى النظر في الديار التي ورثوها من تلك الأمم الهالكة فهو أدعى للعظة والاعتبار قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (2) فلم يغن مكر القوم عنهم شيئًا لأن سنة الله الشرعية قد قضت بأن يهلك هؤلاء
(1) سورة إبراهيم - 9
(2)
سورة إبراهيم - 45-46
ويكونوا أول ضحيةِ مكرهم فيكون تدبيرهم تدميرهم بإذن الله، وإلا فأين هم الآن وأنتم تسكنون في مساكنهم وتقطنون في ديارهم.
2-
مشاهد خصومة أهل النار: فسنة الله الشرعية تقضي بأن ينال العبد الآبق عقابه في نار جهنم، وأن يتجرع - مع العذاب والألم - كأس الحسرة والندامة جراء اتباع دعاة جهنم، وإنما ذكرت هذا المشهد ضمن الآيات الشرعية لأنه مترتب على مخالفة الأمر الشرعي من جهة ولأنه لا طريق لمعرفته إلا طريق الشرع من جهة أخرى، تأمل هذا المشهد:{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} (1) ولا شك أن العاقل من اتعظ بهذا المشهد لا من عاينه وكان من أهله.
(1) سورة إبراهيم - آية 21
3-
خطبة إبليس: ولعل مشهد الحسرة والندامة والمخاصمة يزداد ألمًا عندما يتقدم رئيس دعاة جهنم ليخطب أتباعه تأمل قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) فها هو رأس الكفر ورئيس دعاة جهنم يقول: (إني جحدت أن أكون شريكًا لله عز وجل (2) واعترف بكذبه فيما وعد به وأنه لا يملك لأتباعه ضرًا ولا نفعًا، فيا للحسرة والندامة، ويا شقاء من نسي نفسه وانساق وراء إبليس حتى صار من شهود هذه الخطبة، ويا لسعادة ونعيم من انتبه من غفوته وقدم لنفسه ففاز بالغياب عن هذه الخطبة التي يظهر من سياقها أنها (تكون من إبليس بعد دخولهم النار)(3) والعياذ بالله.
(1) سورة إبراهيم - آية 22
(2)
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 612 / 4
(3)
السابق
4-
مشاهد نعيم أهل الجنة: ففي مقابلة المشهدين السابقين لا بد من تمام المشهد بالتوجيه إلى النظر في مآل السعداء حيث قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (1) فكما قضت سنة الله الشرعية أن يعاقب المتمرد على أمر ربه فقد قضت السنة الشرعية أن يكافأ المحسن على إحسانه بفضل وكرمٍ من الله تعالى، وكان من تمام التوجيه أن يستكمل عرض مشهد الجزاء ببيان عاقبة المحسن والمسيء لئلا يبقى لأحد على الله تعالى حجة.
(1) سورة إبراهيم - آية 23
5-
مشهد يومٍ لا بيعٌ فيه ولا خلال: فمن جمع مالًا في الدنيا فليس ماله ذاك بالذي يغنيه يوم الحساب، ومن جاء معوِّلًا على نسبه وحسبه فليعد غير هذه العدة فإنها لا تغني عنه شيئًا، كما نبهت الآية الكريمة:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (1) فالآية تشير إلى أنه (لا ينفع أحدًا بيع ولا فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا لو وجده، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرًا)(2) قلت: ومن جميل توجيه هذه الآية أنها قدمت بالإشارة إلى ما ينفع من صلاة وصدقة يُبتغى بها وجه الله اشتغالًا بتحصيله عما لا ينفع من مال وخِلَّة، فتأمل هذا فإنه لطيف جدًا. وفي موضعٍ آخر من السورة جاء مشهد الظلمة في حالة مهينة ذليلة كان الله تعالى قد أعده لهم وحذرهم منه، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
(1) سورة إبراهيم - آية 31
(2)
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 636 / 4
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (1) فيا له من مشهد ذلك الذي يسرع فيه هؤلاء إسراع الذليل المدفوع يرفع رأسه مذهولًا لا تطرف له عين لهول ما يرى قد طار فؤاده منه، وتأمل مزيد هوان في قوله تعالى:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (2) وما هذا العرض والتوجيه إلا للنذارة كما في الآية التالية: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} (3) فالسنة الشرعية تقضي أن من أقسم على هذا الباطل يجازيه الله تعالى بأن يجعله من أصحاب المشهد السابق، فكما زعموا (أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذاك) (4) قلت: وهذا مقتضى عدله سبحانه تعالى، والعدل سنة شرعية ماضية، قال تعالى:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (5)
(1) سورة إبراهيم - آية 42-43
(2)
سورة إبراهيم - آية 49-50
(3)
سورة إبراهيم - آية 44
(4)
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير- 643 / 4
(5)
سورة إبراهيم - آية 51
هذه جملة التوجيهات الواردة في هذه السورة المباركة، وأقر أني لم أفيها حقها من العرض والتفصيل ولكن المقام مقام إيجاز ومرور سريع استطعنا من خلاله - بفضل الله تعالى - أن نتعرف على ملامح هذا المنهج القرآني وطريقة القرآن في عرض المشاهد والتوجيه إلى حسن تدبرها وتحقق مآلاتها، والحق أن أثر هذا العرض فيمن كان محلًا قابلًا لهو أثرٌ عظيم نرجو أن نكون ممن وفقه الله تعالى للانتفاع به.