المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: التذكير بنعم الله تعالى: - أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم

[وسيم فتح الله]

الفصل: ‌ثانيا: التذكير بنعم الله تعالى:

‌ثانيًا: التذكير بنعم الله تعالى:

ص: 36

وهذا الأسلوب قريب من الأسلوب السابق لأن نعم الله تعالى وعطاياه ومنحه من آثار ربوبيته سبحانه وتعالى، بل هو أسلوب أقرب إلى الحس والمشاهدة بحيث يصعب إنكاره إلا من جاحد للنعمة كافرٍ بها، ونحن نجد فيضًا من الآيات المذكرة بنعم لله تعالى على اختلاف في هذه النعم في هذه السورة الكريمة، من ذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (1) وأيام الله (أياديه ونعمه عليهم)(2) قلت: ولقد جاء هذا المعنى في حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه بينما موسى عليه السلام في قومه يُذكرهم بأيام الله وأيام الله نعماؤه وبلاؤه» .."الحديث (3) وقد فسرته بذلك أيضًا الآية التالية حيث قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (4) فهذه

(1) سورة إبراهيم - 5

(2)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 597 / 4

(3)

صحيح مسلم - كتاب الفضائل

(4)

سورة إبراهيم - آية 6

ص: 37

الآية صريحة في بيان أيام الله وأنها ما امتن الله تعالى به على بني إسرائيل من نعمة النجاة من عذاب فرعون وبأسه ما هو حري بهم أن يذعنوا بالطاعة والانقياد لله تعالى والإخلاص له بالعبادة، ولقد جاء مثل هذا التنبيه في خطاب مشركي قريش حيث قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (1) حيث ذكر ابن كثير عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار أهل مكة (2) جاءتهم نعمة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا النعمة وجحدوا بها وأهلكوا أنفسهم وقومهم في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة حيث ماتوا على الكفر والعياذ بالله. قلت: وأي نعمة أعظم من نعمة الإسلام والهداية إلى التوحيد، وأي خسارة أعظم من الإعراض عن هذه النعمة.

(1) سورة إبراهيم - آية 28-29

(2)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير- 633 / 4

ص: 38

ثم جاءت آية أخرى في هذه السورة وهي عامة غير مختصة بمناسبة حيث قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1) وقد اختتمت الآية بوصف الإنسان بالظلم والكفر بصيغة المبالغة، ولا شك أن وصف الظلم وصف ٌ محتمل - أعني للكفر ولما هو دونه من (وضع الشيء في غير موضعه) - (2) وكذلك لفظ الكفر أيضًا محتمل فيحتمل المعنى الاصطلاحي بمعنى ما يناقض الإيمان كما يحتمل المعنى اللغوي بمعنى الكفران أي (ستر نعمة المُنعِم بالجحود) (3) ويقارن الدكتور عبد الرحمن الميداني بين ختم هذه الآية بما سبق وبين ختم نظيرها في سورة النحل بأن الله غفور رحيم حيث قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) فيقول ما حاصله أن تجاهل الناس عن بعض نعم الله تعالى وعدم مقابلتها بالشكر والعرفان يتسبب في رذيلتين هما استخدام النعمة في غير موضعها وهذا ظلم، وجحود النعم كلها أو بعضها مع تفاوت في نسبة هذا الجحود، فالمؤمنون العصاة من الناس يتصفون بمقدار من هاتين الرذيلتين لا يتعارض مع صحة الإيمان وأما

(1) سورة إبراهيم - 34

(2)

التعريفات - الجرجاني - 119

(3)

التعريفات - الجرجاني - 150

(4)

سورة النحل - آية 18

ص: 39

الكافرون يجاوزون بتلبسهم بهاتين الرذيلتين إلى دركات سفلى تتنافى مع صحة الإيمان والإسلام. فتكون آية النحل قد راعت ظلم عصاة المؤمنين وكفران النعمة فختمت بوصف المغفرة والرحمة ترغيبًا وتكون الآية في إبراهيم قد تناولت ظلم الكافرين وكفرانهم للنعمة كفرًا أعظم حيث يستفاد من صيغة المبالغة تجاوز هذا الظلم والكفران حدود استبقاء وصف الإيمان معها. (1) قلت: ولعل سياق السورة - أعني سورة إبراهيم - يقترب بالوصفين (الظلم والكفران) من معنى الكفر المخرج من الملة وهو المناسب للمقام والله تعالى أعلم، وأيًا ما كان فلا شك أن وضع نعمة الله في غير موضعها وجحود هذه النعمة طريق موصلٌ إلى الكفر والهلاك ويتفاوت الناس في التردي في دركات هذا الطريق فوجب الحذر.

وحاصل هذا الأسلوب أنه يهدف إلى استثمار ما جُبلت عليه الأنفس من العرفان والشكر إلى من أسدى إليها جميلًا فما بال المرء مع ربه ومولاه الذي أورد عليه من النعم ما تتقاصر الأعمار عن تعداده ناهيك عن الوفاء به، فحري بهذا الأسلوب أن يستنقذ من في قلبه بذرة صلاح من مورد الهلاك وطريق الكفر والجحيم.

(1) قواعد التدبر الأمثل - عبد الرحمن الميداني - 431-432 بتصرف

ص: 40